الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقوق الإنسان الثقافية:
1-
لا بد لنا إذا أردنا فهم أبعاد الحقوق الثقافية للإنسان في الإسلام من أن نلفت النظر إلى أن نظرة الإسلام إلى "الحقوق الثقافية للإنسان" إنما هي نظرة جزئية من أصل "نظرة كلية" هي نظرة الإسلام إلى "الله والكون والإنسان".
2-
ونحن لسنا في مقام شرح النظرة الكلية للإسلام، ولكن ارتباط "النظرة الجزئية" بتلك "النظرة الكلية" حول الله والكون والإنسان يوجب علينا الإشارة إليها بالقدر الذي لا بد منه، وذلك من أجل تحديد "خصائص الحقوق الثقافية في الإسلام"، والكشف عن أبعادها في حياة الإنسان.
3-
فالإنسان في إطار هذه النظرة الكلية واجب عليه باسم الدين النظر في السموات والأرض وفي نفسه، وذلك من أجل هدف سامٍ مفروض عليه، ألا وهو الإيمان بالله إيمانا علميا مؤسسا على اليقين المنطقي.
ويلي الإيمان بهذه الحقيقة الأولية الإيمان بعظمة هذا الخلق وبديع صنعه، فالاعتراف بهذا إقرار بحكمة إيجاد هذا الكون ونظامه، ودلالته على خالق قادر عليم حكيم، مستحق للعبادة وحده.
ومن ثم تأتي معرفة ثالثة، هي أن الإنسان جزء من هذا الكون الواسع، ولكنه يشغل مكانا متقدما بفضل ما أنعم الله به عليه من عقل، وتكريم، وتسخير ما في السموات والأرض له، ولم يعد مسخرا لها. ومن هنا يأتي الأمر الإلهي للإنسان بالتعمير، والنهي عن الإفساد، والذي يترافق مع السماح بالتمتع بالطيبات، ولكن بنظام يحافظ على هيبة الإنسان وتعلقه بالله، ويحفظ الكرامة والعدل والمساواة والسلام.
4-
وبذلك نرى أن النظرة الكلية للإسلام بصدد الكون1 تفرض على الإنسان العلم، وتجعله حتما موجبا مثابا عليه المرء؛ لأنه إذن مرتبط بحقيقة عليا وحكمة سماوية.
5-
هذا المفهوم الإسلامي للعلم اعتبره فريضة، وعده أساسا لكرامة الإنسان، وذلك أن القرآن الكريم رفع شأن العلم بقوله تعالى:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقوله أيضا:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .
6-
وعلى أساس من هذه النظرة الكلية لله والكون والإنسان تكون الحقوق الثقافية؛ فالإسلام يوسع من آفاق العيش ويجعله متصلا بحكمة علوية، ويجرده من المادية البحتة تنزيها للإنسان. ولذلك نجد رسولنا -صلوات الله وسلامه عليه- يقول:"العالم والمتعلم شريكان في الخير، ولا خير في سائر الناس" أي: لا خير فيمن عداهما.
7-
ولما كان العرب في معظمهم عند ظهور الإسلام أميين لا يقرءون ولا يكتبون، بدأ الإسلام بمعالجة مشكلة الأمية وفرض العلم على كل مسلم ومسلمة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"طلب العلم فريضة على كل مسلم" 2، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] ، من أجل تفتح إنساني واعٍ على الكون وحقائقه، والوجود وأبعاده.
8-
ولذلك لما وقع في أيدي المسلمين بعض الأسرى القرشيين الوثنيين إبان موقعة بدر، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدية الكثير منهم تعليم الأميين من المسلمين، وجعل شرط إطلاق أحدهم من الأسر تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، مع ملاحظة حاجة المسلمين للمال في هذا الوقت.
1 خصائص التصور الإسلامي ومقوماته "فكرة الإسلام عن الله والإنسان والكون والحياة"، سيد قطب، 1387هـ-1967م.
2 الوارد في الحديث: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وقد أضيفت كلمة "مسلمة" في بعض المراجع عملا بالمعنى.
9-
ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوعد تارة، ويعد تارة أخرى، ويقول:"العالم والمتعلم شريكان في الخير، ولا خير في سائر الناس"1. ويقول مفضلا الزيادة في العلم على الزيادة في العبادة، ويؤكد أن: "ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى، وما استقام دينه حتى يستقيم عقله".
أو في رواية أخرى: "حتى يستقيم عمله". وتشجيعا للاجتهاد والبحث العلمي يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"2.
وفي هذا إقرار بالحرية العلمية في أوسع نطاق. ثم أحاط هذه الحرية بسياج يصونها بالقول النبوي الشريف: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت"3.
10-
هذا من جانب الإسلام. أما من ناحية المواثيق الدولية الصادرة لحماية الحقوق الإنسانية، فنجد:
أ- "الميثاق الدولي لحقوق الإنسان" الصادر عن الهيئة العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م.
ب- "الاتفاقية الدولية في شأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" الصادرة عن حكومات المجموعة الأوروبية بروما بتاريخ 4 نوفمبر 1990م، ثم البروتوكول رقم "1" المضاف إلى هذه الاتفاقية والموقع في باريس بتاريخ 3 مارس 1953م.
جـ- "تصريح عن حقوق الطفل" الصادر في هيئة الأمم المتحدة، الجمعية العامة في 10 نوفمبر 1959.
1 البخاري "30".
2 رواه البخاري، فتح الباري: 13/ 318، دار المعرفة، لبنان.
3 رواه البخاري، فتح الباري.
د- "اتفاقية حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية" الصادرة في 16 ديسمبر 1966م.
11-
وتنص هذه الاتفاقيات الدولية الخاصة بالحقوق الثقافية للإنسان على ما يلي:
أولا: ما جاء في الفقرة الأولى من المادة "26" من الميثاق الدولي لحقوق الإنسان، ونصها:"كل شخص له حق في التربية".
ثانيا: ما جاء في الفقرة الثالثة من هذه المادة، ونصها:"إن الآباء لهم الحق في المقام الأول في اختيار نوع التربية لأولادهم".
ثالثا: ما جاء في الفقرة الثانية من هذه المادة أيضا، ونصها:"إن التربية يجب أن تهدف إلى التفتح الكامل لشخصية الإنسان، وإلى دعم الاحترام لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية".
رابعا: ما جاء في الفقرة الأولى من المادة "13" من الاتفاقية الدولية في شأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونصها:"إن الدول المشتركة في هذه الاتفاقية تعترف بحق كل إنسان في التربية، وتتفق على أن التربية يجب أن تهدف إلى التفتح الكامل لشخصية الإنسان والشعور بكرامته، وإلى دعم احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، كما تتفق أيضا على أن التربية يجب أن تجعل كل إنسان أهلا للقيام بدور نافع في مجتمع حر".
خامسا: ما جاء في الفقرة "3" من المادة السابقة، ونصها:"إن الحكومات المشتركة في هذه الاتفاقية تتعهد بأن تحترم حرية الآباء والأوصياء الشرعيين في الاختيار لأولادهم المدارس الحكومية، وفي ضمان التربية الدينية والأدبية لأولادهم، وفقا لعقائدهم الخاصة".
سادسا: ما جاء في الفقرة "2" من البروتوكول رقم "1" المضاف إلى اتفاقية حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية الصادرة عن الجماعة الأوروبية، ونصها: "لا يجوز أن يرفض حق أحد في التعليم، وإن الدولة ستحترم في ميدان
التربية والتعليم حق الآباء في ضمان التربية والتعليم، وفقا لعقائدهم الدينية والثقافية".
سابعا وأخيرا: ما جاء في الفقرة الثانية من المبدأ السابع من "تصريح حقوق الطفل"، ونصها:"إن المصلحة العليا للطفل هي المرشد لأولئك الذين يحملون مسئولية تربيته وتوجيهه، وخصوصا أهله".
ومن الملاحظ أن هذه البنود تحوي "حقوقا خاصة" ليست "فروضا عامة" كما أن هذه الحقوق الخاصة معبر عنها بصيغة سلبية، كمثل قوله:"لا يجوز....".
وبالتالي يحق لأي إنسان في ظل هذه المواثيق أن يتنازل عن حقه "الخاص" -لأنه خاص- وتنازله هذا لا يشكل جرما؛ لأنه لا يمس إلا شخصه.
وفي هذا إضعاف لهذا الحق الذي هو ضرورة حياتية مهمة.
وهذه النزعة الشخصية لا تلتفت إلى ما تتميز به علوم الحياة من شمول، وما يتميز به العلم -خصوصا في الحاضر- من اجتماعية، كما أن هذه النظرة "الفردية" لا توصل العلم بمتعلقاته العلوية، وتجرده من حكمته، وتحرمه من امتداده التعبدي.
وهذا الامتداد الروحي بعد مهم في النزوع العلمي؛ إذ هو الكفيل بإنقاذه من أمراض "المجتمعات العلمية" كالأنانية والمادية والسيطرة. هذه العلل التي قد تحول العلم من أداة لخدمة الإنسان وعمارة الكون إلى وسيلة من وسائل الدمار، وسببا لشقاء الإنسان وتعاسته وضياعه.
وقد رأينا الأمثلة على ذلك كثيرة عبر التاريخ، إذ شاهدنا كيف حول حاكم مستبد التكنولوجيا العسكرية التي كدسها في ترساناته إلى وسيلة إرهاب للآخرين، فجرّ الوبال على الآخرين وعلى العالم وعلى شعبه.
وهذا كان أثرا ومثالا على النهوض العلمي المجرد من روحه الإلهية، والتي ينبغي أن تكون منطلقا لكل تحديث وتقدم، ولكل تفكير في حقوق الإنسان، فما بالك بمن افتقد الاثنين: الحكمة السماوية، والحقوق الإنسانية:
والفرق واضح بين الإسلام والمواثيق الدولية، ففي حين تجعلها المواثيق حقوقا خاصة، يجعل الإسلام حقوق المرء الثقافية فروضا، وبالتالي لا يجب التنازل عنها1.
وكذلك يجعل الإسلام هذه الفريضة على عاتق الفرد والجماعة، فكلاهما مسئول عن تنفيذها.
كما تتمتع هذه الحقوق في الإسلام بضمانات جزائية، فهي ليست مجرد توصيات لا ضامن لها، ومن ثم يصبح من حق ولي الأمر المسلم إنفاذ هذه الحقوق.
ولذلك انتبهت المجموعة الأوروبية لهذا النقص في حماية الحقوق الإنسانية، فأحدثت محكمة لحماية حقوق الإنسان، كما اعتمدت الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في وقت لاحق محكمة على نفس المنوال.
أما من ناحية "اختبار النظام المعرفي التربوي" للأبناء، فقد جعل في أيدي أولياء أمور الطفل؛ ليختاروا له المناسب من القيم والمناهج بخلاف الأنظمة الأخرى الاجتماعية، حتى الديمقراطية الغربية التي تفرض على الدارسين نظما مناسبة للسياسة القائمة، وتتفق -أو على الأقل لا تختلف- مع أمزجة القائمين على الأمر، ففي هذا مصادرة للعقول؛ لأنها تخضع الجميع لقيمها الخاصة.
1 حقوق الإنسان الشرعية الإسلامية، وقائع ندوات، السعودية، رابطة العالم الإسلامي سنة 1977م.