المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عاشرا: الإسلام والتعاون العالمي - حقوق الإنسان والقضايا الكبرى

[كامل الشريف]

الفصل: ‌عاشرا: الإسلام والتعاون العالمي

الحقوق يثاب من يؤديها، ويعاقب من يفتات عليها، وقد قال الرسول الكريم محذرا:"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة" وقال: "إن أحدهم رجل استأجر أجيرا، فلم يوفه أجره" وقال أيضا: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه""أبو يعلى"1.

1 اقتباس عز الدين بليق: منهاج الصالحين في أحاديث وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين.

ص: 19

‌عاشرا: الإسلام والتعاون العالمي

الإسلام دين عالمي: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 80، الحاقة: 43] ويخاطب القرآن الرسول الكريم قائلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . ومن هذا المنطلق ينظر الإسلام للناس جميعا على أنهم إخوة لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] ، وهذه النظرة العالمية تختصر الطريق في اتجاه بناء علاقات إنسانية متوازنة، لا محل فيها لسلالية بغيضة، أو قومية عنصرية تدعي لنفسها حقا أو أفضلية على سائر الناس.

وترتكز العلاقات الدولية في نظر الإسلام على دعامتين أساسيتين: العدل، والحرية، ومنطق العدل أن تعطي حق الآخر، وأن تحافظ على حقك، فالحق أحق أن يتبع كما يقول القرآن الكريم، والله عز وجل لا يرضى لعباده العدوان وإنقاص الحقوق وهو القائل:{وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] . أما الحرية فهي تشمل حرية التنقل، وحرية التجارة، وحرية انتقال البضائع، بحيث تكون حرية متبادلة، يحكمها الحرص على السلام، وتحقيق الأمن للجميع، أو ما يسمى بمنطق الدبلوماسية الحديثة "rec-iprocity" أو التبادل والمعاملة بالمثل، وفي ذلك يقول القرآن الكريم:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] ويقول: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] . والإسلام يدعو الشعوب لأن تتكاتف على منع الظلم وردع العدوان قبل أن يستفحل ويصطلي بنيرانه القريب والبعيد، ويقول القرآن الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا

ص: 19

عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، ولقد تناولت الشريعة الإسلامية بكثير من التفصيل العلاقات الدولية، وبيَّنت القواعد التي تحكمها في حالتي السلم والحرب، وحقوق المواطنين المسلمين وغير المسلمين، وصور التعامل التجاري المختلفة، ومعاملة الأسرى، وغير ذلك. وقد سبق الإسلام غيره بقرون في وضع قواعد إنسانية تحكم هذه الحالات كلها، وكان الإطار الذي تدور فيه النظرة الإسلامية هو تفادي الحروب كلما أمكن ذلك، والوفاء بالعهود تحت كل الظروف؛ التزاما بالتوجيه الرباني:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] .

وحين أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرض العقيدة الجديدة على حكام الدول المجاورة كان أسلوبه هو الدعوة السلمية، وقد اختار أن أرسل لهم رسلا يحملون كتبا منه، ولولا أن بعض هؤلاء الحكام تجاهل القواعد المرعية وقتل الرسل المسالمين لما وقعت الغزوات العسكرية الأولى كمؤتة وتبوك، التي كانت أقرب للمناورات المسلحة التي ترمي لإرهاب العدو وردعه عن العدوان. ولكن الإمعان في الكيد للإسلام، وتحريض القبائل عليه أدى في النهاية لأن تشمل الحرب منطقة الشرق العربي برمته، وتتطور لتصل إلى قلب أوروبا.

لقد أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم تقليدا لم يكن مألوفا قبله في إرسال المبعوثين، والدخول في حوار سلمي يحول دون اشتعال الحروب. فقد أرسل عمر بن عميش الضمري بكتاب إلى الحبشة في السنة الثانية للهجرة -رغم أنه لم يكن مسلما- مما وضع سابقة بجواز تعيين غير المسلم لمنصب السفارة1، وكان الرسول يستقبل مبعوثي القوى السياسية في الجزيرة أو الدول المجاورة، ويعاملهم معاملة كريمة حتى إنه خصص بيوتا في المدينة المنورة لإنزال المبعوثين "الأجانب" كان أحدها منزل رملة بنت الحارث بن

1 محمد حميد الله MUSLIM CONDUCT OF STATE.

ص: 20

سعد، وقد يتصادف أن يكون المبعوث ذا تاريخ سيئ في التعامل مع المسلمين، فلم يكن ذلك يمنع من استقباله بالحفاوة والاستماع إليه، ومن ذلك أن مبعوث مسيلمة الكذاب جاء يحقر الإسلام ويتطاول على شخص النبي الكريم، فلم يكن منه صلى الله عليه وسلم سوى أن قال:"لولا أن الرسل لا تُقْتَل لقتلتك"1. ولعل من المفيد أن نذكر أن كل هذه الأعراف الدبلوماسية قد أكدها الإسلام قبل اتفاقية فيينا للحصانات الدبلوماسية التي لم تعقد سوى في عام 1961 للميلاد.

ومن ذلك يتضح أن المسلمين مأمورون بنصوص القرآن الكريم: أَلَّا يهاجموا أي دولة أجنبية إذا لم تبادرهم بالعدوان، وألا يكون عدم إسلامها سببا لقيام حروب تسفك فيها دماء بريئة، وخير دليل على ذلك الموقف من الحبشة، فقد ورد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"اتركوا الحبشة ما تركتكم"، وقد بقي المسلمون أمناء على هذه الوصية، فبقيت الحبشة في مأمن من الحرب التي شملت منطقة الشرق الأدنى، حين أصرت بيزنطة وفارس على أن تهاجما الدولة الوليدة في المدينة المنورة، سواء بتحريض القبائل الموالية لهما على تخوم الجزيرة، أو في الهجمات المباشرة بعد ذلك. ويمكن أن يقال: إن سياسة عدم البدء بالعدوان التي انتهجها المسلمون تتفق مع ميثاق الأمم المتحدة الراهن، ولا سيما المادة الثانية من الميثاق.

1 سيرة ابن هشام.

ص: 21