الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: حقوق الأقليات
كانت الشريعة الإسلامية أول من ضمن حقوقا واضحة للأقليات الدينية والعرقية في المجتمع المسلم، لقد أكدت لهم حقوق التملك والعمل، وأصبح ولي الأمر المسلم مسئولا عن حماية أموالهم وأعراضهم أسوة ببقية المواطنين. وهذه التشريعات -أيضا- متصلة بجذور العقيدة الإسلامية، التي تعترف بكل الأديان السماوية وتحترم أنبياءها وكتبها المقدسة، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] .
وجاء أيضا في قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:"إلا من ظلم معاهدا، أو كلفه فوق طاقته، أو انتقصه حقه، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه، فأنا حجته يوم القيامة". ولا يجب أن يكون الخلاف حول العقائد سببا في العداوة، أو إنكار الحقوق، وقطع الصلات، فبعد غزوة تبوك في السنة الثامنة للهجرة، استقبل وفدا من نصارى خليج العقبة وعقد مع مندوبهم يوحنا بن رؤبة أمير "العقبة" معاهدة تضمن حرية التجارة، وأمن الملاحة برا وبحرا، هذا نصها كما أوردها ابن هشام:"هذا أمان من الله ومن محمد رسول الله إلى يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة وأهلها: سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، وأنه لا يحل أن يمنعوا ما يريدونه أو طريقا يريدونه في البر والبحر".
ويذكر في هذا المقام -أيضا- المعاهدة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران بعد أن حاورهم أياما في مسجده بالمدينة حول الدين والعقائد، فبقي كل على دينه لا يغيره، ولكن قبل النصارى سيادة الدولة الإسلامية، وقد جاء في تلك المعاهدة: "إن جوار الله، وذمة محمد رسول الله لأهل نجران، وحاشيتها على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير
أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهنته، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا، فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين". وفي ختام هذه المحاورات طلب وفد النصارى من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل معهم قاضيا من أصحابه، فأرسل معهم معاذ بن جبل -رضي الله عنه1.
وقد بقي خلفاء الإسلام أمناء على هذا العهد حتى إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أكده في خلافته، وكتب إليهم:"إنكم أتيتموني بكتاب من نبي الله صلى الله عليه وسلم فيه شرط لكم على أنفسكم وأموالكم، وإني وفيت لكم بما كتب لكم محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما فمن أتى عليهم من المسلمين فليوف، ولا يضاموا، ولا يظلموا، ولا ينتقص حق من حقوقهم"2، وقد أصبح ذلك تقليدا ثابتا عند المسلمين في مجال العلاقات الدولية حتى بعد أن اتسعت تخوم الدولة، وباتت تجاور شعوبا وقوميات مختلفة، فبعد استيلاء السلطان محمد الفاتح على القسطنطينية أبلغ جينماديوس سكولاريوس بطرك الطائفة المسيحية بكتاب قال فيه:"اعمل في الإسلام وليكن الله معك، وثق في صداقتنا في كل الظروف، وتمتع بكل الحقوق التي تمتع بها أسلافك".
وقد كتب المبشر الإنجليزي توماس أرنولد الذي عمل في الهند في كتابه القيم: "إننا لم نسمع بمحاولات منظمة لإرغام أحد على اعتناق الإسلام، أو عن أعمال مدبرة لسحق الدين المسيحي، ولو أن الخلفاء المسلمين قد حرصوا على تبني إحدى هذه الوسائل، فقد كان بوسعهم التغطية على المسيحية بنفس السهولة التي صادفها الملك فرديناد وإيزابيلا، في حملتهما ضد الإسلام في إسبانيا، أو سياسة لويس الرابع عشر ضد البروتستانت في فرنسا. لقد كانت الكنائس الشرقية معزولة تماما عن الدولة المسيحية، وكانت تعتبر -في ذلك الحين- مذاهب منحرفة لدرجة أن أحدا لن يهب
1 تاريخ الطبري.
2 الخراج لأبي يوسف.