المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ قضية الشيشان: - حقوق الإنسان والقضايا الكبرى

[كامل الشريف]

الفصل: ‌ قضية الشيشان:

منطقها وإرادتها، وأصبح بوسعها أن تقول: إن القدس قبلة المسلمين الأولى هي عاصمة إسرائيل الأبدية، وإن فلسطين كلها لأبناء صهيون، ولا تعطي منها إلا الفتات للشعب الفلسطيني صاحب الأرض، وحتى هذا القدر التافه تعطيه لأهداف إستراتيجية واقتصادية أوسع تشمل الشرق الإسلامي كله، وتظهر بوادرها بوضوح فيما نرى من تحركات واتصالات.

وفي انتظار اكتمال فصول الرواية "المؤامرة" وإلى أن تتنبه الشعوب العربية والإسلامية لواجبها المفروض، وتتضامن لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فإن شعب فلسطين سيظل يعاني عسف الاحتلال الإسرائيلي، وآلام الهجرة الطويلة.

ص: 27

2-

‌ قضية الشيشان:

شهد العالم المعاصر حملتين عسكريتين من قِبَل روسيا على الشعب الشيشاني الصغير في أقل من خمس سنوات، وفي المرتين كان العدوان تحديا فاضحا لحقوق الإنسان والقانون الدولي، واعتداء صارخا على سيادة شعب ذاق مرارة الأنظمة الروسية المختلفة خلال مائة سنة كاملة، ومنذ عدوان روسيا القيصرية في عام 1895 وفي كل مراحل العدوان لم يكن هناك أي قدر من التكافؤ بين الشيشان الذين لا يزيد عددهم عن نصف مليون، أما الإمبراطورية الروسية التي يتجاوز عددها مائتي مليون، ناهيك عن التفوق التكنولوجي والعسكري الكاسح لروسيا الذي جعل منها قوة نووية تصارع الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف الناتو.

إن شعب الشيشان لم يكن قبل العدوان القيصري الأول جزءا من الشعب الروسي، ولا يتكلم نفس اللغة، ولا ينتمي للسلالة التي ينتمي إليها شعوب روسيا، وهي أهم العناصر التي تشكل طبيعة الأمة ووحدتها الجغرافية والسياسية. وكان الوجود الروسي هو مجرد استعمار واحتلال عسكري، لا يستند إلى أي قيمة أخلاقية أو قانونية.

لقد وقعت تغيرات جذرية في أنظمة الحكم في موسكو، وجاء كل تغيير

ص: 27

يتحدث عن حق الإنسان، ويحمل تبشيرات للشعوب المقهورة، إلا أن النتيجة كانت دائما الحفاظ على مكتسبات العدوان من فوق المبادئ، فالثورة البلشيفية في عام 1917 جاءت في أمواج من الدم على أنقاض النظام القيصري، وكان من بين مبررات قيامها أن ذلك النظام الدموي قد فرض على الشعوب المجاورة -بالقوة المسلحة- نوعا من الاستعمار الذي فرضته الدول الغربية على دول آسيا وإفريقيا. ولنستمع إلى فقرة من الإعلان الذي أصدرته الحكومة السوفيتية "الشيوعية" بعد أن استقر لها الأمر:"إذا جرى الاحتفاظ بأية أمة بالقوة كجزء من دولة ما، وإذا حرمت قسرا ضد رغبتها المعلنة ضد هذا الظلم، أو حرمت من الاختيار الحر للشكل الدستوري لوجودها القومي، فإن دمجها في تلك الدولة يعتبر نوعا من الضم القسري"1.

وقد جاءت هذه التأكيدات في بيان وقعه أبو الثورة الشيوعية لينين، ونائبه في ذلك الحين جوزيف ستالين، كما كتب لينين قائلا:"إننا نريد دولة على أكبر مساحة، وتحالفا وثيقا مع أكبر عدد من الدول المجاورة لصالح الديمقراطية والاشتراكية، ولكن نريد التوحيد الحر؛ ولذلك فنحن ملزمون بالاعتراف بحرية الانفصال، وبدون ذلك لا يمكن نعت الوحدة بأنها اختيار حر". وجاء في المادة "70" من دستور الاتحاد السوفيتي الصادر عام 1977 ما يلي: "اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية هو دولة اتحادية واحدة متعددة القوميات قامت على أساس مبدأ الاتحادية الاشتراكية؛ نتيجة لتقرير مصير الأمم البحرية، وإقرار مبدأ الاتحاد الطوعي بين الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية المتكافئة في الحقوق"2. ولم يقبل الشيشان هذا التنكر الصارخ للوعود والعهود، فرفضوا الاستعمار الروسي من اليوم الأول، ولم تتوقف المقاومة حتى بعد انهيار ثورة الشيخ شامل، وبقي نهر "تيربك" خط التصادم بين الجيش الروسي ومقاتلي الشيشان، وقد ألهم هذا الصراع

1 اقتباس المهند سعيد بينو "الشيشان والاستعمار الروسي".

2 الموسوعة البريطانية.

ص: 28

الطويل الكاتب الروسي تولستوي في وضع كتابه المشهور "الكوساك" حيث شارك شخصيا في بعض مراحل الصراع.

إن التركة الوحيدة التي بقيت الأنظمة الروسية تحافظ عليها من القياصرة إلى الشيوعيين، إلى النظام الديمقراطي الحر، هي مكاسب الاستعمار القيصري، ليس لسبب سوى أن جمهورية الشيشان تضم مخزونا هائلا من البترول الذي يزود روسيا بحوالي ثلث مواردها من الوقود، إلى جانب اكتشاف الغاز الطبيعي وغيره من المواد الإستراتيجية1. وفي سبيل هذه الغنائم تدوس روسيا استقلال هذا الشعب الأنوف، ضاربة بعرض الحائط حقوق الإنسان والقانون الدولي، بل تمزق دستورها وتعهداتها عبر عصور متوالية.

وبعد الحرب العالمية الثانية 1944 قام ستالين بجريمة غير مسبوقة؛ إذ أصدر الطاغية قرارا بتهجير شعب الشيشان والأنجوش بكامله إلى جزيرة القرم وغيرها من أقاليم الاتحاد السوفيتي، وتبع ذلك إلغاء جمهورية أنجوشيا والشيشان، وكان تبرير السلطات السوفيتية لهذا العمل اللاإنساني أن شعب الشيشان لم يظهر حماسا لمقاومة الهجوم الألماني! ولكن التاريخ يعيد نفسه الآن حين برر يلتسين هجومه على الشيشان بحجة أنه يقاوم الإرهابيين!

على أنه من الضروري القول: إن الرأي العالمي -وخصوصا في الدول الغربية- يحيط مأساة شعب الشيشان بصمت مريب، ولا يكاد يتحدث عنها إلا لذر الرماد في العيون، وإذا قُورن هذا الموقف بما أبدته تلك الدول من حماس منقطع النظير إزاء قضية تيمور الشرقية مثلا، يتضح أن الغيرة المدعاة على حقوق الإنسان ليست إلا سلاحا يجرد لخدمة الأغراض السياسية، وأن العداوة للإسلام والمسلمين لا تزال تشكل محورا أساسيا في سياسة بعض الدول الغربية، كما كان الحال في زمان القيصر إيفان الرهيب، والإمبراطورة كاترين.

إن قضية الشيشان تشكل تحديا للعالم الإسلامي، وامتحانا لمدى إخلاصه وولائه للأخوة الإسلامية، وواجب المسلمين حكاما وشعوبا أن يهبوا لنصرة إخوانهم بكل ما يستطيعون ليحبطوا الاستعمار الروسي الجديد، وعليهم أن يبينوا للدول الغربية أنهم يدركون الدوافع الحقيقية لتنكرهم لحقوق الإنسان.

1 المصدر السابق.

ص: 29