الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
مسلمو البلقان:
تقع تحت هذا العنوان العريض عدة قضايا منها -باستثناء ألبانيا- البوسنة والهرسك، وكوسوفا، والسنجق، ومع وجود فوارق واختلافات بين هذه القضايا تبعا للموقع الجغرافي، والعوامل التاريخية، وتركيب السكان، إلا أنها تكاد تتشابه من حيث الموضوع الذي نتناوله في هذه الورقة، وهو حقوق الإنسان.
ولسنا بصدد التوسع بالحديث عن أي من هذه القضايا وتطوراتها في السنين الأخيرة، ولكن يمكن تحديد بعض النقاط المشتركة بين هذه القضايا.
هناك زيف كبير تروِّجه أبواق الدعاية الصربية وحلفاؤها لتبرير المجازر البشعة في كل هذه المقاطعات تحت تأثير الخوف والتخويف من الوجود الإسلامي في أوروبا، ويمكن أن نعتبر مجرم الحرب الصربي RADOVAN KA-RADZIC ناطقا بلسان المتعصبين الصرب في البلقان، حين قال في مؤتمر صحفي في أكتوبر 1992:"إنه لا يفعل شيئا سوى أنه يحاول عدم قيام دولة إسلامية في أوروبا"، ثم قال:"إنه يفعل ما يجب أن يفعله الأوروبيون جميعا". وهذه المزاعم تنطلق من أساس خاطئ آخر هو القول بأن المسلمين في البلقان هم بقايا الأتراك، مع أن الحقيقة أنهم مواطنون أصليون اعتنق أجدادهم الإسلام قبل الفتح العثماني، ولم يعرف عن الدولة العثمانية أنها كانت تأبه للدعوة الإسلامية المنظمة، وكانت من أكثر الدول تسامحا مع الأقليات الدينية، لكن هم كارادزش وأقرانه هو إثارة المخاوف الوهمية من الإسلام. ولا شك أن دعوته لاقت رواجا لفترة طويلة، مما يفسر الصمت الذي التزمته الدول الأوروبية إزاء حملات التطهير العرقي ضد المسلمين.
وحين انهارت الشيوعية في يوغوسلافيا كان أول من أعلن الاستقلال
هي جمهورية سلوفينيا ثم أوكرانيا في عام 1991م، ورغم اعتراض الصرب إلا أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية بادرت للاعتراف بالكيانات الجديدة، لكن هذه الدول ترددت لفترة طويلة في الاعتراف بجمهورية البوسنة والهرسك حين أعلنت استقلالها؛ مما شجع الصرب وأعطاهم نوعا من الاطمئنان للبدء بجرائمهم. وإلى جانب تحريك العواطف العدائية التاريخية ضد المسلمين، فقد كانت هناك الاعتبارات الإستراتيجية، فقد كشفت الصحف البريطانية أن بريطانيا لم ترد إضعاف الصرب؛ لأن خطتها كانت إيجاد كيانات قوية حول ألمانيا لمواجهة "طفل أوروبا المرعب" حين يبدأ التحرك!
وأمام هذه الخلفية من التعصب العرقي والحق الديني والانتهاز السياسي، اندفع الصرب في حملتهم للتطهير العرقي؛ فقاموا بقتل الرجال والنساء والأطفال بمئات الألوف، ودفنوا ضحاياهم في مقابر جماعية أو قذفوهم في مياة الأنهار. ولما كانوا يعرفون غيرة المسلمين، وحماسهم للعرض والشرف فقد اغتصبوا عشرات الألوف من الفتيات، ومنعوهن من الإجهاض بهدف إذلال المسلمين وكسر أنوفهم تحت وطأة العار. ولم يقف الأمر عند حد "تطهير الأرض من المسلمين، ولكن محو أثرهم الثقافي والديني؛ فقاموا بهدم المساجد والمكتبات والمراكز العلمية، وإحراق الكتب والمؤلفات النفيسة. كانت نتائج هذه الحرب غير العادلة احتلال "70%" من أراضي البوسنة في الأشهر الأولى من المجابهة، وإحراق مئات المدن، وقتل أكثر من مائتي ألف مدني، وطرد مليون إنسان، أي: ربع سكان البوسنة، ولا يمكن وصف المجابهة بأنها حرب كلاسيكية بين جنسين، فقد كانت حربا يعتدي فيها جيش مُدَجَّج بالأسلحة على المدنيين العزل"1.
وما دمنا بصدد الحديث عن حقوق الإنسان المهدورة في قلب أوروبا، التي تدعي الغيرة على حقوق الإنسان، وفي أواخر القرن العشرين الذي يوصف بعصر الإنسانية والنور، فقد تضمن تقرير للسيد مازوسكي مندوب لجنة حقوق الإنسان الدولية الذي قدمه للجنته في تشرين الثاني 1992م
1 من خطاب الرئيس البوسني عزت بيجوفيتش أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة "أكتوبر 1994م".
تنفيذا لقرار مجلس الأمن في آب "أغسطس" 1992، وقد جاء في التقرير وقائع مذهلة عن حجم الانتهاكات التي ارتكبها الصرب، وقد تضمن تقريره كذلك ملاحظات للدكتور كلايدسنو الذي صحب بعثة الأمم المتحدة عن مشاهداته في منطقة فوكوفار، حيث رأى في بقعة تبلغ مساحتها نحو 300 متر مربع بقايا أجسام لشباب من الذكور، وجماجم مهشمة، وقال: إنها مبعثرة من مقبرة جماعية، وأعاد التذكير بما يؤيده شهود عيان عن اختفاء 175 مريضا من مستشفى فوكوفار، وتعرض التقرير بشيء من التفصيل للمساجد ودور العبادة والمستشفيات والمكتبات التي دمرت عن عمد وسبق إصرار. وقد أيد البطرك نيكولاي رئيس الكنيسة الأرثوذكسية للصرب هذه الوقائع، وقال: إن نحو "150.000" من المسلمين قد قُتلوا بمجرد إعلان الاستقلال، وإن "50.000" من الفتيات المسلمات تعرضن للاغتصاب الجماعي، وإن مائتي مسجد على الأقل قد هدمت، ولا شك أن هذه الأرقام قد تضاعفت مع استمرار حملة التطهير1.
إن أحدث قضايا مسلمي البلقان وأقربها للذاكرة الآن هي قضية مسلمي كوسوفا، غير أن هناك قضايا أخرى لا تزال تتشكل في المنطقة مثل: قضية مقدونيا، وقضية السنجق، حيث تجتمع كل عناصر الأزمات التي فجرت الصراع الدموي في البوسنة والهرسك، ولا ينقص الانفجار سوى شعلة أو حادث صغير.
إن إصرار الصرب على اجترار العداوة التاريخية ضد الإسلام، واندفاعهم الأرعن للتنكر لأبسط حقوق الإنسان، ومحاولة تأكيد سيادة العنصر الصربي من خلال الإرهاب، والتطهير العرقي، والتهجير الجماعي، هو المسئول عن حالة التوتر التي تشهدها منطقة البلقان، وما لم تظهر الأسرة الدولية تضامنا حقيقيا للدفاع عن حقوق الإنسان من البداية؛ فإن ما حدث في البوسنة والهرسك، وكوسوفا سوف يتكرر حتما. لقد كتب السيد جيمس ستينبرج james b.steingerg مساعد الرئيس الأمريكي لشئون الأمن
1 دراسة أعدتها منظمة إذاعات الدول الإسلامية، ونشرتها على حلقات جريدة الدستور الأردنية.
القومي في عدد ديسمبر 1999، حول التعليقات الدائرة حول تدخل حلف الأطلسي في كوسوفا، فقال: لم يكن من الممكن الانتظار أكثر لمعرفة نوايا الرئيس اليوغسلافي ميلوسيفتش أو وسائله؛ لأن حملاته الوحشية ضد كرواتيا والبوسنة قد انطلقت قبل أن تقع قنبلة واحدة على قواته. إن نفس "لوردات" الحرب الذين قاموا بالعمل الدنيء في تلك الحملات هم الذين قادوا الهجوم على كوسوفا، ومنهم سيئ الذكر "أركان" وقواته التي يطلق عليها "النمور" وكذلك الأسود البيضاء التي تتبع نائب رئيس الوزراء الصربي فوجيسلاف سيسيلج. وبديهي أن هؤلاء لم يرسلوا إلى كوسوفا ليفاوضوا قادتها وهم يحتسون القهوة! وهل يمكن أن ننسى الأعمال البشعة التي قاموا بها قبل تدخل الناتو، بما في ذلك مجزرة يناير التي وقعت في مدينة "راساك"؟ وهل يمكن أن ننسى أن الرئيس اليوغسلافي قد حشد 40.000 جندي و300 دبابة حول كوسوفا حين كان يحاول التظاهر بأنه مستعد للتفاوض، كما أنه دفع عشرات الألوف من السكان للهجرة خلال خمسة أيام، لقد كان هدف ميلوسيفتش واضحا من البداية وهو التطهير العرقي1.
أما السيد جافيار سولانا javiar solana السكرتير العام السابق لحلف شمال الأطلسي، فقد كتب عن الموضوع في نفس العدد من مجلة الشئون الخارجية، مبينا عدد جرائم الصرب، وقال: إنه منذ ألغى الرئيس اليوغوسلافي الاستقلال الذاتي لكوسوفا في أواخر عام 1980، فقد وضح أن الأغلبية المسلمة لن تقبل ذلك، وفي تلك الفترة زادت المصادمات المسلحة بين الجيش اليوغوسلافي ومواطني كوسوفا، وعندها استخدم الصرب أساليب التطهير العرقي التي استخدموها قبل ذلك في البوسنة.
ويلفت النظر في كل هذه القضايا الحرص على تجاهل حقوق الإنسان، ولا سيما حقوق الأغلبية الإسلامية في أن تعيش وفقا لدينها وتقاليدها كسائر شعوب الأرض، وأن يوضع المسلمون في ظروف قاسية بين مخالب الهجرة القسرية، والتطهير العرقي، حتى يضطروا في النهاية لقبول أي حل هزيل يفرض عليهم، لكنه يحقق الهدف الأساسي وهو عدم قيام كيانات إسلامية في أوروبا. وعند التأمل الدقيق في مجريات الحوادث، نجد أن المؤامرة التي عبر عنها radovan karadzic "كرادزك" فقد نفذت، ولكن بأسلوب ذكي في ظاهره رحمة وإنسانية.
1 مجلة الشئون الخارجية، عدد ديسمبر 1999م.