الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس: فن المقال الصحفي
مدخل
…
الباب السادس: فن المقال الصحفي
"سارية الربيع والعمود" عنوان كتاب إنجليزي شهير كتبه موريس هويليت1 عن فن المقال، وفيه يعقد المؤلف مقارنة شيقة بين فن المقال الأدبي وفن المقال الصحفي. فقد شبه الأول بسارية الربيع، وهي ذلك العمود الكبير الذي يتخذه الإنجليز رمزا لعيد الربيع، يزينونه بالزهور البديعة من كل صبغ. والورود الجميلة من كل لون، فتبدو السارية وكأنها العروس في جلوتها. ثم شبه المقال الصحفي بالعمود العاري من جميع هذه الزينة. وقد استعار الكاتب كلمة "العمود" هنا للتورية، فلهذا اللفظ معنيان: أولهما العمود بالمعنى المادي المعروف، والآخر "العمود" بمعنى النهر الذي يكتب في صحيفة من الصحف. وينعى الكاتب على الصحافة نبذها لتلك الزخارف الأدبية الجميلة، ويتهم أسلوبها بالجدب والإمحال، ويحن حنينا شديدا إلى تلك الأيام الخوالي التي كان الإنسان ينعم فيها بالفراغ وقراءة المقالات الأدبية الطويلة الزاهية، لا تلك الأعمدة الجافة السريعة في أنهر الصحف.
ونجد في كتاب "الأدب البريطاني المعاصر"2 نفس هذا المعنى؛ إذ يقول المؤلفون: "لقد أصبحت المشكلات التي يواجهها الأدباء خطيرة معقدة، بحيث
1 W. F. WILLIAM، A BOOK OF ENGLISH ESSAYS "1952" P.235.
2 FRED B. MILLET، JOHN M. MARLY، EDITH RICHARD، CONTEMPORARY BRITISH LITERATURE P.84.
لا تترك مجالا، ولا متسعا من الوقت أو الجهد لكي ينتجوا أدبا متعدد الألوان كالذي يتاح للأديب الذي يجد كثيرا من الفراغ. من الثابت أن الأديب أمامه متسع من الوقت ليكتب ما يشاء، وينشره متى يشاء. أما الصحفي فإنه مقيد بالمطبعة ومرتبط بمواعيدها، فهي تلهبه بسوطها، وتوقظه من سباته وكسله، فالأديب قد ينتظر الإلهام، أما الصحفي فعليه أن يكتب بمنتهى السرعة، وفي مواعيد منتظمة انتظاما دقيقا.
ويقول الدكتور طه حسين في نفس المعنى: "ولا بد للأديب أن يروض نفسه، ويسوسها حتى تألف الجهد والعناء والمشقة. ونرى أنها أيسر ما يجب لإنتاج الأدب الرفيع الذي يستحق أن يسمى أدبا. ولا على الأديب أن يغضب أصحاب المطبعة إن أبطأ به الإنتاج عما ضربوا له من موعد، فذلك كله خير له من أنه يتعجل، فيرضي الصحيفة والمطبعة، ويسخط الفن ويفسد معه ذوق كثير من القراء. وهنا تفكر الصحف وتثور فهي لا تستطيع أن تنتظر الأديب حتى يتقن إنتاجه، ويصبح نشره شيئا لا حرج فيه. فمن أراد أن يكتب لها على شرطها فليعمل، ومن أبى إلا أن يكتب إلا على شرط الأديب فليلتمس لنفسه مذهبا آخر من مذاهب النشر"1.
وتتردد هذه المعاني أيضا في قول باحث مصري حديث إذ يقول: "وذهبت الصحافة بالفن الكتابي حتى أحالته إلى فن باهت اللون، لا حظ له من جمال الأصباغ التي تفتن العين. والسبب في ذلك أن الأديب يتاح له من الفراغ ما يجد له من أسباب التأنق والتحذق والتصنع والتفنن على حين أن الصحفي وراءه مطبعة تطالبه بغذائها كل يوم"2.
فهل هناك حقا ما يدعو إلى هذا التحسر على بساطة فن المقال الصحفي ونبذه للألوان المزخرفة والمحسنات المبرقشة؟ أم أن فن المقال الصحفي هو في
1 جريدة الجمهورية، عدد 5 فبراير سنة 1954.
2 الدكتور عبد اللطيف حمزة، أدب المقالة الصحفية في مصر، جزء 2، ص225.