الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيئة المقال الصحفي في مصر:
وفي مصر، كان ازدهار فن المقال معاصرا للنشاط الفكري والسياسي والعلمي والأدبي جميعا ولا شك أن اليقظة المصرية بدأت مع الحملة الفرنسية التي قادها بونابرت إلى الديار المصرية، كما أن ظهور محمد علي ومحاولته إنشاء الدولة الحديثة، وانفصاله عن الدولة العثمانية، وشعور المصريين بحاجتهم القصوى إلى تأييد اللغة العربية، وانتصار هذا التأييد في مواجهة اللغة التركية، قد كان له أبلغ الأثر في التمهيد لنشأة فن المقال.
لقد كانت الحملة الفرنسية عامل إيقاظ للمجتمع الشرقي من سباته، ولا ننسى أن تلك الحملة هي التي أتت إلى مصر بالمطبعة العربية، كما أنها هي التي جندت العلماء والباحثين لإصدار الكتاب الضخم المشهور "وصف مصر" في تسع مجلدات، معها صور وخرائط ولوحات تقع في أربعة عشر مجلدا أخرى. لقد كانت هذه الحملة بمثابة قرع شديد على أبواب المعرفة، أو هزة قوية شرع المصريون بعدها يعملون ويفكرون. وكما ارتبط فن المقال الصحفي الأوروبي بظهور القوميات المنسلخة عن العالم المسيحي الموحد، فقد كان فن المقال المصري مرتبطا -هو الآخر- بحركة انفصال القومية عن العالم الإسلامي المنضوي تحت راية الخلافة الإسلامية العثمانية.
وعندما بدأ محمد علي يرسل البعثات إلى الخارج سنة 1826، وينشئ المدارس الحديثة، ويعتمد على حركة الترجمة، ويهتم بالعلوم الهندسية والطبية ويفتتح لها المدارس العليا، أخذت نسائم الثقافية الأوروبية تهب على مصر. من أجل ذلك نعمت مصر في أيام محمد علي بنهضة علمية مباركة التقى فيها التياران الشرقي والغربي، ومن التقائهما معا نشأ الأدب المصري الحديث والصحافة المصرية الحديثة في القرن التاسع عشر. وكان التيار الشرقي يتمثل في العلوم النقلية، وفي تعليم اللغة العربية، وفي بعض الكتب الأدبية القديمة، مثل مقامات الحريري، وبديع الزمان، ودواوين الشعراء الفحول كالفرزدق وجرير والمتنبي وأبي العلاء. ومثل ديوان الحماسة لأبي تمام
…
إلخ.
"وكان التيار الأوروبي يتمثل في ترجمة كثير من الكتب التي احتاج إليها التعليم الحديث، وقام بتصحيحها الأزهريون كما ظهر التيار الأوروبي كذلك في ترجمة بعض الكتب الأوروبية إلى اللغة العربية. وكانت هذه الترجمات
ذات صبغة علمية في أكثرها أيام محمد علي، لحاجة المدارس الحديثة إلى ذلك، ثم أصبحت ذات صبغة أدبية في أكثرها أيام إسماعيل".
وقد لعب السوريون النازحون إلى مصر دورا لا يستهان به في نقل الثقافة الأدبية عن طريق المبشرين الأمريكيين والفرنسيين الذين اتخذوا من سوريا وجبل لبنان مراكز للتبشير والدراسات العلمية والأدبية. وقد كان جبرائيل وبشارة تقلا، وأديب إسحاق وسليم النقاش ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس وفارس نمر وغيرهم ذوي فضل في نقل الحضارة الحديثة وخاصة بالنسبة للعلم والقصة والمسرح والمقال.
وبين مارس سنة 1871 وأغسطس سنة 1879 ظهر في مصر فيلسوف الشرق جمال الدين الأفغاني، وقضى بها ثمان سنين، كانت من خير السنين بركة على مصر وعلى العالم الشرقي؛ "لأنه كان يغرس في الأرض بذورا تتهيأ في الخفاء للنماء، وتستعد للظهور ثم الازدهار. فكل الذي أتى بعدها من تعشق للحرية، وجهاد في سبيلها فهذا أصلها، وإن وجدت بجانبها عوامل أخرى ساعدت عليها وزادت في نموها"1.
وفي هذه الفترة بالذات، يمكن القول بأن الرأي العام المصري قد تكون، ولا شك أن إنشاء صندوق الدين سنة 1876، وكذلك الرقابة الإنجليزية الفرنسية في نفس العام، وتأليف الوزارة المختلطة برئاسة نوبار باشا، ثم محاضرات جمال الدين الأفغاني في داخل الأزهر وخارجه، وكذلك التقاء التيار الأوروبي بالتيار الشرقي بالتيار السوري، بالتيار الذي أتى به جمال الدين الأفغاني، كل هذه العوامل قد هيأت الجو لظهور الرأي العام المصري، وتكوين العقل المصري الحديث. وفي رأينا أن هذه هي البيئة الفكرية والسياسية والاجتماعية الصالحة لظهور فن المقال بوجه عام، وفن المقال الصحفي بوجه خاص.
1 أحمد أمين، زعماء الإصلاح، ص60، 61.