الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يضاف إلى ذلك أن الصحافة الشعبية الحقيقية قد بدأت في تلك الحقبة بالذات لأنه مما لا شك فيه أن جريدة وادي النيل الصادرة سنة 1866 -في نفس السنة التي أنشأ فيها إسماعيل مجلس شورى النواب- كانت شعبية من حيث الشكل فقط، ولعل إسماعيل قد أوحى بإصدارها إلى عبد الله أبي السعود لكي يحارب بها التدخل الأجنبي والدولة العثمانية، ولكي يظهر بالمظهر الأوروبي الذي كان يفتخر به ويرنو إليه. وأبلغ دليل على ذلك أنه لم يطق جريدة نزهة الأفكار لعثمان جلال وإبراهيم المويلحي فأغلقها بعد صدورها مباشرة سنة 1869. وأما جريدة الأهرام الصادرة سنة 1875، وجريدة مصر لأديب إسحاق الصادرة بوحي من جمال الدين الأفغاني سنة 1877، وجريدة التجارة لأديب إسحاق وسليم نقاش الصادرة في سنة 1878، وجريدة التنكيت والتبكيت الصادرة سنة 1881 بقلم الصحفي الثائر عبد الله النديم -فهذه هي الصحف الشعبية الحقيقية التي فتحت صدرها لفن المقال الصحفي.
وفي أحضان تلك الصحافة الشعبية، وفي بيئة النهضة الفكرية والاجتماعية، ظهرت جرائد مصباح الشرق لإبراهيم المويلحي، والمؤيد للسيد علي يوسف، واللواء لمصطفى كامل، والجريدة لأحمد لطفي السيد، والأخبار لأمين الرافعي، كما ظهرت السياسة لمحمد حسين هيكل والبلاغ لعبد القادر حمزة، وفي هذه الصحف بلغ فن المقال الصحفي شأوا بعيد من الرقي والتقدم.
المقال في عصر النهضة والتنوير:
"لا بد أن تتغير بلادنا" هذه هي الصيحة التي ترددت في عصر التنوير المصري في القرن التاسع عشر. وكانت هذه الصيحة معاصرة تماما لظهور فن المقال الصحفي. ولعل منشئ هذا الفن في بلادنا وهو رفاعة الطهطاوي "1801-1873" -صاحب تخليص الإبريز في تلخيص باريز- قد شغف بالعلوم الحديثة التي تعلمها في باريس على يد شومار وشواليه، وشهد ثورة الشعب الفرنسي ضد الملك شارل العاشر ووزيره بولنياك، فكره الحكم الاستبدادي، وعاد إلى مصر زعيما فكريا وثقافيا، ومعلما رائدا، وصاحب فضل في إنشاء فن المقال في جريدة الوقائع المصرية ومجلة روضة المدارس.
وفي عصر التنوير المصري، ترجم عبد الله أبو السعود صاحب جريدة وادي النيل أوبرا عايدة إلى اللغة العربية سنة 1861، وترجم ابنه محمد أنسي قصة جول بلاز1 وترجم محمد عثمان جلال صاحب نزهة الأفكار قصة يول وفرجيني وجعل لها عنوانا غريبا -وإن كان يتمشى مع لغة العصر- وهو "الأماني والمنه في حديث قبول وورد جنه". وترجم أديب إسحاق صاحب جريدة مصر وجريدة التجارة رواية أندرماك ورواية شارلمان وغيرهما.
ثم كان ظهور فن المجلة وخاصة مجلة الجنان لبطرس البستاني ثم المقتطف -التي انتقلت إلى مصر- ليعقوب صروف، واللطائف لشاهين مكاريوس، والهلال لجورجي زيدان والمشرق للأباء اليسوعيين وغيرهما من المجلات الأخرى التي أعطت لفن المقال الصحفي مجالا واسما للتطور والازدهار.
ولكن كيف تتغير بلادنا؟ هذا هو السؤال الملح الذي حاول المفكرون والمصلحون أن يجيبوا عنه في عصر التنوير. ولا شك أن "حديث عيسى بن هشام" التي نشرها المويلحي في شكل قصصي بجريدة مصباح الشرق كانت نقدا اجتماعيا غاص في أعماق المجتمع المصري، وجاء كتاب محمد فريد وجدي بعنوان "تطبيق الديانة الإسلامية على النواميس المدنية" وهو الكتاب الذي أعيد طبعه فيما بعد بعنوان "المدينة الإسلامية" دفاعا عن الإسلام، وتطهيرا له من البدع والخرفات. كما أن مقالات قاسم أمين ردا على دوق داركور الذي تعرض لذم الدين الإسلامي، وكذلك مقالات الشيخ محمد عبده ردا على هانوتو الذي هاجم الدين أيضا -كانت كلها في نفس الاتجاه الاجتماعي الإصلاحي.
ولا شك أن ترجمة أحمد فتحي زغلول لكتاب أدمون ديمولاند بعنوان: "بم تقوم أفضلية الإنجليز السكسونيين" سنة 1899 -والذي نشر بشكل مقالات في جريدة المؤيد- على النحو الذي نشر به قاسم أمين كتابه تحرير
1 LE SAGE - JULES BLAS.
المرأة- قد أثر تأثيرا بالغا في نفوس المصريين. نحن نقرأ في مقدمة الكتاب: "نحن ضعاف أمام الغرب، ضعاف في الزراعة، ضعاف في الصناعة، ضعاف في التجارة، ضعاف في العلم، ضعاف في العزيمة، ضعاف في الألفة والمودة، ضعاف في النخوة والشعور الملي "يريد الديني"، ضعاف في الجامعة القومية، ضعاف في الخيرات، ضعاف في طلب الحقوق وأداء الواجبات، ضعاف في حفظ ما ترك الآباء، ضعاف في التحصيل، ضعاف حتى نرجو كل شيء من الحكومة.." ثم يختم كلامه قائلا "ودواؤنا في التربية وسلامتنا في نشر العلوم والمعارف".
وثمة كتاب آخر لفت نظر المستشرق هنري بيريس1، وهو كتاب "حاضر المصريين وسر تأخرهم" للكاتب المصري محمد عمر وقد صدر سنة 1902، وكتب مقدمته أحمد فتحي زغلول نفسه، وفيه يقسم المؤلف المجتمع المصري إلى طبقات ثلاث: الطبقة الغنية، والطبقة المتوسطة، والطبقة الفقيرة، وذهب إلى أن لكل واحدة عيوبا تختص بها، وأخذ يذكر ما يره علاجا حاسما لكل عيب منها على حدة. ويتجه الكاتب اتجاها تحليليا فكريا مستعينا بالإحصاءات فيقول مثلا:"في القاهرة وحدها زاد عدد دور القمار في ثمان سنوات فقط إلى 7475 دار للعب، وكانت قبل ذلك 316 دارا فقط، أي أن الزيادة بلغت 5169 دارا بالقاهرة". وقد أزعجت هذه الظاهرة جريدة المؤيد، فانبرى الشيخ علي يوسف يهاجمها، وطبع خطابات خاصة ملحقة بالجريدة، وطلب من القارئ أن ينزع الخطاب ويملأ البيانات المكتوبة ويوقعها باسمه، ويبعث بها إلى جريدة المؤيد أو إلى نظارة الداخلية، وكثرت الأصوات المطالبة بإغلاق دور القمار فاضطرت الحكومة إلى السعي حثيثا في ذلك.
وقد حركت تقارير اللورد كرومر واتهامه المصريين بالجهل والتعصب همم المصريين، وحفزتهم إلى العمل، وانبرى الكتاب يدافعون ويعلقون ويحللون، فكان ذلك نعمة على فن المقال الصحفي. فالشيخ علي يوسف مثلا يعارض اللورد كرومر في قوله إن الجامعة الإسلامية دعوة تعصب وإثارة للحروب الصليبية
1 مجلة المكشوف، العدد 392، سنة 1945.