الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النحاة والقياس
كان على أئمة اللغة أن يعوا اللغة المحكية عن العرب ممن يحتج بهم من الفصحاء ويوثق بهم من الرواة فيستوعبوها في لوح محفوظ ليؤدوها كما وعوْها، لا يفوتهم منها ذكر، أو يضيق عن ضبطها حفظ.
في من يحتج لكل منهم:
وقد اجتمعت كلمتهم على الاحتجاج بأشعار الجاهليين، وتلاقت آراؤهم وتضافرت على الاستشهاد بأشعار المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وقد أسموا الجاهليين أصحاب الطبقة الأولى، والمخضرمين أصحاب الطبقة الثانية.
أما الإسلاميون المتقدمون كجرير والفرزدق فالأكثرون على صحة الاستدلال بأشعارهم أيضاً، وقد أسموهم أصحاب الطبقة الثالثة. ولو أن من الأئمة من لحَّن الفرزدق وخطَّأ الكُميت وذا الرمة كأبي عمرو بن العلاء وابن أبي اسحاق الحضرمي والحسن البصري.
وأما المولدون والمحدثون كبشار وأبي نواس، وهم أصحاب الطبقة الرابعة فقد أخذ الأكثرون بعدم الاعتداد بأشعارهم. قالوا إنما استشهد سيبويه والأخفش بشعر بشار اتقاء لهجوه. واتسع جار الله الزمخشري فرأى الاستشهاد بكلام من يوثق بعربيته كأبي تمام، قال:"وهذا وإن كان محدثاً لا يُستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه". وترخَّص الرضي فحذا حذوه واستن بسنته، على ما فصَّله البغدادي في خزانته (1/6-7) . ونهج نهجهما أحمد شهاب الدين الخفاجي في شرح درّة الغوّاص إذ قال:"اجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه". ويمم هذا السمت ابن السيد البطليوسي في الاقتضاب إذ أورد في الاستشهاد على صحة إضافة (آل) إلى الضمير قول المتنبي:
والله يُسعد كلَّ يوم جدَّه ويزيد من أعدائه في آله
وقال: "أبو الطيب وإن كان ممن لا يحتج به في اللغة، فإن في بيته هذا حجَّة من جهة أخرى، وذلك أن الناس عًنوا بانتقاد شعره، كان في عصره جماعة من اللغويين كابن خالويه وابن جني وغيرهما، وما رأيت منهم أحداً أنكر عليه إضافة آل إلى المضمر.
وكذلك جميع من تكلم في شعره من الكتَّاب والشعراء. كالواحدي وابن عبَّاد الحاتمي وابن وكيع، ولا أعلم لأحدٍ منهم اعتراضاً على هذا البيت".
وليس غرضنا ها هنا أن نبسط الرأي من يحتج بأقوالهم، وإنما وطأنا بهذا لنقول انه كان على أئمة اللغة أن يجمعوا المحكية عن العرب من هؤلاء الفصحاء حرصاً على الإحاطة بها، وخوفاً على سلامتها من أن تعبث بها الأهواء ويتسرب إليها الفساد فتبعد عن نقاوتها وتنأى عن صفائها.
استحكام بنيان اللغة:
وأئمة اللغة لم يعوا اللغة المحكية حتى كان قد استحكم بنيانها واستوت كأكمل ما تكون اللغة، وأدق ما يكون نسجها في ملابسة اللفظ للمعنى. وقد أصبح الثلاثي وحدة الكلمة وجرت عليه صنوف من الاشتقاق والتصريف والتقليب دارت حول جامع معنوي، فاغتنت المادة اللغوية ثم اكتمل نماؤها بتولُّد الرباعي من الثلاثي وهكذا. وأضحت العربية ذات فقه خاص واضح واشتقاق ثابت مطَّرد. وقد سادت لغة قريش ما أسموه باللهجات الشمالية فكانت اللسان المبين الذي نزل به القرآن. بل كان القرآن حين اعتمد لغة قريش سبباً إلى الأخذ بالوضع اللغوي الأرقى فمهَّد السبيل للانتهاء باللغة إلى مستقرها الكامل. وقد اعتدّ القرآن آية البيان العربي فكان النبراس الذي يُستضاء به والإمام الذي يُنحى نحوه ويُتلى تلوه، فجروا على منهاجه واستنوا بسنته وطبعوا على غراره.
تدوين اللغة المحكية:
ولا يظن ظان أن أئمة اللغة قد عمدوا إلى وعي اللغة المحكية وحفظها ساذجة وقمشها محطوبة، على حد تعبير ابن جني في الخصائص (2 /125) فهم قد تأتوا لهذه اللغة وتلطفوا في جمعها وضمها وملاءمة ذات بينها، كما هو خاص اللغة وسرها. فكان ثمة منهج الخليل في معجم العين، وقد أخذ أخذه ابن سيده في المحكم وابن دريد في الجمهرة. وكان منهج ابن فارس في كتابه مقاييس اللغة، وكان أسبق الأئمة إليه غير مدافع. وقد بدت اللغة بمنهجه هذا في أكمل صورة من التهذيب والتلاؤم والتصنيف، وقد ائتم بهديه الصاحب ابن عباد في المحيط فكان تلميذ ابن فارس، وجرى في محاكاته الزمخشري في أساسه. وثمة منهج الجوهري في صحاحه وقد تجلى فيه حذقه اللغوي وبراعته الصرفية، وحذا حذوه الصغاني في العباب وابن منظور في اللسان والفيروزابادي في القاموس..
استقراء اللغة والكشف عن نظمها:
ثم أتى النحاة فاطلعوا على ما انتهى إليهم من كلام العرب. وقد كان عليهم أن يأخذوا بتأمله وتدبُّره، ويعمدوا إلى تقسيمه وتصنيفه، ويمضوا في تتبعه واستقرائه ذلك ليستشفوا النظم التي صيغت بها اللغة المحكية ويكشفوا عن سنن ما جرت به ألسنة العرب على السليقة وطاعت به قرائحهم على السجية.
وهكذا عكف النحاة على اللغة ينعمون فيها النظر، يسبرون غورها ويعجمون عودها فاستبطنوا دخائلها واستجلوا غوامضها. أحصوا مسائلها واستقروا دقائقها. فما جرى من كلام العرب على سنن استنبطوا حكمه وحملوا غير المنقول على المنقول منه وجعلوه قياساً لنظائره. ومضوا يعللون هذا القياس ويسببونه. فإذا سُمع شيء يأباه قياسهم هذا اتسعوا له، وأخذوا به إذا اشتهر وشاع. فإذا ندر أغفلوه وأوجبوا فيه القياس، حملاً له على أمثاله، وتأصيلاً لما استنوه من حدود وقوانين. وقد عقب البغدادي فيما حكاه المزهر (1/37) على هذا فقال:"اعلم أن اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه. وأما النحوي فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه".
ما يتدارك من اللغة بالقياس:
قال ابن جني في الخصائص (2/42) : "لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه على ضربين: أحدهما ما لا بد من تقبله كهيئته، لا بوصية فيه ولا تنبيه عليه، نحو صحراء ودار وما تقدم، ومنه ما وجدوه يُتدارك بالقياس وتخف الكلفة في علمه على الناس فقننوه وفصَّلوه إذ قدروا على تداركه من هذا الوجه القريب، المغني عن المذهب الحزن البعيد". وأوضح ذلك فقال: كأن يسمع سامع ضؤل ولا يسمع مضارعه فإنه يقول فيه يضؤل، وإن لم يُسمع ذلك، ولا يحتاج إلى أن يتوقف إلى أن يسمعه. لأنه لو كان محتاجاً إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التي وضعها المتقدمون وعمل بها المتأخرون معنى يفاد ولا غرض ينتحيه الاعتماد، ولكان القوم قد جاؤوا بجميع المواضي والمضارعات وأسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة".
البصرية وأصولهم
الأصل الذي جرى عليه النحاة في استنباط أحكامهم أخذهم بالأكثر والأغلب، وترك ما عداه. ففي طبقات النحويين لأبي بكر الزبيدي (ت 379هـ) أن ابن نوفل روى عن أبيه أنه سأل أبا عمرو ابن العلاء (ت 154هـ)"أخبرني عما وضعت مما سميته عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا. فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ فقال: أحمل على الأكثر، وأسمي ما خالفني لغات".
رأس البصرية وأول من وضع أصول النحو:
ويبدو عند التحقيق أن أول من وضع أصول النحو وقياسه هو عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي (ت 117هـ) . ذلك أن سيبويه قد سمى في كتابه من روى عنهم أصول النحو من الأئمة ولم يتجاوز الحضرمي إلى إمام قبله، فالحضرمي على هذا هو رأس البصرية.
وقد حكى السيوطي في المزهر (2/246) : "وأبو الأسود الدؤلي أول من نقط المصحف.. قال أبو حاتم.. وأما فيما روينا عن الخليل فإنه ذكر أن أبرع أصحاب أبي الأسود عنبسة الفيل، وأن ميموناً الأقرن أخذ عنه" وأردف: ".. ثم توفي وليس في أصحابه أحد مثل عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي. وكان يقال عبد الله أعلم أهل البصرة وأنقلهم، ففرع النحو وقاسه وتكلم في الهمز حتى عمل كتاباً مما أملاه. وكان رئيس الناس وواحدهم".
وهكذا كان الحضرمي أقدم من انتهج القياس وارتاح إليه وأخذ بالأكثر والأغلب. ففي طبقات الزبيدي (25) : (قال ابن سلاّم: عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي كان أول من بعج النحو ومدّ القياس وشرح العلل) . ونحو من ذلك ما جاء في نزهة الألباء (23) لأبي البركات كمال الدين بن الأنباري، إذ قال:(انه أول من علل النحو) .
أما أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو (69هـ) فلم تكن خطته تعدو (نقط المصحف) ، أي الاهتداء إلى ما اتخذ رمزاً للشكل في الرفع والنصب والجر صوناً للسان من اللحن. وليس هذا بالأمر اليسير الذي يُستهان بجدواه فيما عاد منه على اللغة من جزيل الفائدة وموفور العائدة فقد كان (الشكل) أرفق على العربية نفعاً وأرجى عاقبة من أي شيء آخر. وقد وفق الأستاذ أحمد أمين، رحمه الله، حين أشار في (ضحى الإسلام) إلى ذلك، وأيده فيه الأستاذ سعيد الأفغاني في كتابه (أصول النحو) حين قال:"والشكل أعود على حفظ النصوص من حدود النحو: ولعله أعظم خدمة قدمت للعربية حتى الآن".
شكل المصحف وإعجامه:
وقد أجمل الأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاوي في كتابه (مناهل العرفان) الحديث عن ذلك من بعض كتب السلف كمراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي وتاريخ ابن عساكر، فقال: "واتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول لم يكونوا يعرفون شكل الحروف والكلمات فضلاً عن أن يشكلوها
…
ولكن حين دخلت الإسلام أمم جديدة.. بدأت العجمة تحيف على لغة القرآن. بل قيل ان أبا الأسود الدؤلي سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: (واعلموا أن الله بريء من المشركين ورسوله (فقرأها بجرّ اللام من كلمة رسوله، فأفزع هذا اللحن الشنيع أبا الأسود وقال: عز وجل الله أن يبرأ من رسوله. ثم ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث. وهنا جدّ جدّه وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين
…
ودامت الحال على هذا حتى جاء عبد الملك بن مروان فرأى بنافذ بصيرته أن يميِّز ذوات الحروف من بعضها وأن يتخذ سبيله إلى ذلك التمييز بالإعجام والنقط
…
وهنالك اضطر أن يستبدل بالشكل الأول الذي هو النقط، شكلاً جديداً هو ما نعرفه اليوم من علامات الفتحة والكسرة والضمة والسكون
…
".
وهكذا فقد تم نقط الحروف لتمييز بعضها من بعض، وهو ما يسمى بالإعجام، على ما هو المشهور، في عهد عبد الملك بن مروان، ونُدب له إمامان هما نصر بن عاصم الليثي (ت 90هـ) ويحيى بن يعمر العدواني (ت 129هـ) وقد تلمذا لأبي الأسود الدؤلي وتلقيا عنه وأحاطا بالأمر خُبراً ووسعاه علماً، فأعجما المصحف الشريف أول مرة ونقطا الحروف فكان لهذه الخطة في إزالة الإشكال واللبس في قراءة القرآن، أثر أي أثر.
وقيل إن نصراً قرأ القرآن على أبي الأسود، كما في نزهة الألباء لابن الأنباري ومعجم ياقوت، وكان أبو الأسود من القراء، وتلقى عن نصر أبو عمرو بن العلاء فُوفِّق في رسم النحو لما لم يوفق له أستاذه، وتلقى عن يحيى بن يعمر أبو اسحاق الحضرمي فأصاب في تأصيل النحو ما لم يصب شيخه.
ومهما يكن من أمر فإن الدؤلي لم يعمد إلى تأصيل الأصول النحوية وتقعيد قواعدها ولو تعلق اسمه بالنحو شكلاً وموضوعاً على ما ذكر ابن الأنباري في نزهة الألباء والقفطي في إنباه الرواة، وكذلك تلميذاه نصر الليثي ويحيى العدواني ولم يكونا أوفر منه حظاً في هذا المضمار. فقد روى سيبويه في كتابه هذه الأصول عن الخليل والأخفش الأكبر وعن عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب وعن عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي لكنه لم يتجاوز الحضرمي إلى إمام قبله فلم يروِ عن أبي الأسود الدؤلي، أو عاصم الليثي أو يحيى العدواني.
أئمة البصرية:
خلف الحضرمي أئمة أخذوا بالأكثر والأغلب وعوَّلوا على القياس كعيسى بن عمر الثقفي (149هـ) فقد أسس أصول كتابه (الجامع) على الأكثر، وأسمى ما شذ عن الأكثر لغات، وكذا فعل في كتابه (الإكمال) وهما من مراجع كتاب سيبويه.
وهكذا فعل أبو عمرو زبَّان بن العلاء (154هـ) كما تقدم، وهو أحد القراء السبعة، ويونس بن حبيب (182هـ) ، وقد أخذ عنه سيبويه خاصة أصول النحو، كما أخذ عنه الكسائي والفراء، وغيرهم، وكان إماماً في نقد الشعر وفي النحو واللغة.
وخلف هذين الخليل بن أحمد الفراهيدي (175هـ) وهو بحق عميد النحاة، قال الزُّبيدي الإشبيلي الأندلسي في كتابه (مختصر كتاب العين) :"فهو الذي بسط النحو ومدّ أطنابه وسبَّب علله وفتق معانيه وأوضح الحِجاج فيه حتى بلغ أقصى حدوده. ثم لم يرض أن يؤلف فيه حرفاً أو يرسم فيه رسماً. واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقَّنه من دقائق نظره ونتائج فكره ولطائف حكمته، فحمل ذلك عنه وتقلده، وألَّف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم وامتنع على من تأخر بعده". وقال ابن الأنباري في نزهة الألباء: "وهو الذي بلغ الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله". وقد شفَّت أعمال الخليل حقاً عن عبقرية نادرة إذ اختط للنحو نهجاً سليماً فكان فيه بعيد الغور فسيح الخطوة، وألَّف أول معجم في العربية وهو (كتاب العين) فكان معجماً فريداً رتب فيه المواد على الحروف بحسب مخارجها، وقد التزم نهجه الأزهري في تهذيبه وابن عباد في محيطه والقالي في بارعه.
ورصد الخليل الأصوات اللغوية وصفاتها فكان له فيها رأي متقدم حصيف. وتعلق بموسيقا الشعر فانفرد بوضع العروض واتخذ لأوزان القصيد ستة عشر بحراً كشف فيها عن حذقٍ في الفن ولطافة في الحس. وقال السكاكي في (مفتاحه) في سبق الخليل هذا: "لا يظن أحد الفضول عندهم في هذا الباب من ضمّ زيادة.. فضلاً عن الإمام الخليل بن أحمد، ذلك البحر الزاخر مخترع هذا النوع، وعلى الأئمة المغترفين منه من العلماء المتقدمين/ 275". فلم يشارك الخليل في ميدان من ميادين العلم إلا كانت له القدم الفارعة فبدا فيه أسبق العلماء غير مدافع وأفضلهم غير معارض. وكان أبو محمد التوجي يقول: (اجتمعنا بمكة- أدباء كل أفق- فتذاكرنا أمر العلماء حتى جرى ذكر الخليل، فلم يبق أحد إلا قال: الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم)(المزهر- 2/249) .
وجاء الأخفش الأكبر أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد (177هـ) وقد روى عنه سيبويه ولم يذكر أحد أنه كان صاحب قياس أو تعليل، فإذا جاء باستدلال ذهني كان أدنى إلى خصوص اللغة، واتخذ وجهاً من وجوه الاعراب كان ألصق بسلامة المعنى.
وجاء سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان (180هـ) فطلع على الملأ بكتابٍ فذ سديد المنهج، مطَّرد التنسيق، جامع، غزير المادة، يعوّل فيه على الأكثر والأغلب. ينهج طريق القياس والتعليل ويعلِّّم البحث فيهما كما يعلِّم النحو. وقد اختلف سيبويه إلى مجلس أستاذه الخليل في البصرة، وطلاب العلم فيه كثُر يزحم بعضهم بعضاً، وقد أقبل على أستاذه يطيل الاستماع إليه والتلقي عنه ويتلطف لما يعي فيتضلَّع منه ويستجلي غوامضه فيقلِّب فيه الرأي ويصرف الفكر، وقد لفت سيبويه نظر أستاذه بذكائه وفطنته فكان محل عنايته وموضع اختصاصه، وقد قال له يوماً (مرحباً بزائر لا يملّ) وما كان يقوله لسواه.
استوفى سيبويه ما أملى عليه أستاذه رواية ورأياً وتعليقاً وشرحاً ففاضل ووازن وأحكم الرأي فأدى فأحسن التأدية. كان صادقاً فيما أداه. تلقى سيبويه أصول النحو عن (يونس بن حبيب) خاصة كما استوعبه عن الخليل. قال يونس حين قرأ كتابه سيبويه: "يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل في جميع ما حكاه، كما صدق فيما حكاه عني".
أخذ سيبويه بالأكثر والأغلب، فقاس عليه، دون القليل أو الشاذ، وقال في باب (أيّ) من كتابه (1/398) :"فلا ينبغي لك أن تقيس على الشاذ المنكر في القياس". وقال في باب (بناء الأفعال المتعدية- 2/214) : "فإنما هذا الأقل نوادر تحفظ عن العرب ولا يقاس عليها ولكن الأكثر يقاس عليه". وقال في باب (ما لحقته الزوائد من الأفعال المتعلة- 2/362) : "ولا ينكر أن يجعلوها معتلة في هذا الذي استثنينا لأن الاعتلال هو الكثير المطرد"، ونظير ذلك كثير في الكتاب.
وجاء الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (215هـ) ، وقد ارتحل إلى بغداد فأدناه الكسائي من مجلسه وعهد إليه بتأديب أولاده. وقد اختلفت آراء الأئمة في الأخفش الأوسط وتفرقت كلمتهم بل تضاربت مذاهبهم، لكن من الثابت أنه خالف البصرية في مسائل كثيرة ووافق الكوفية في شيء من الأصول كالاعتداد بالقراءات الشاذة والقياس على القليل فامتدحه الكوفية حتى اعتده بعضهم سيد علماء العربية. ولا شك أنه كان من كبار الحفاظ النقلة، ولو كان يتكسَّب بعلمه.
وجاء قطرب محمد بن أحمد (206هـ) فاشتهر بكتابه (العلل في النحو) كما اشتهر بكتبه (الاشتقاق والأضداد ومعاني القرآن)، وقد أخذ النحو عن سيبويه. ثم جاء المازني أبو عثمان (248هـ) واشتهر بكتابيه (علل النحو والتصريف) وكان يتخذ المذهب البصري وفتي به. قال:"دخلت بغداد فأُلقِيَت علي مسائل فكنت أجيب فيها على مذهبي ويخطئوني على مذاهبهم" أي الكوفيون.
واستمر منهج النحو قائماً على النظر العقلي والاستدلال الذهني في المذهب البصري، على يد الإمام المبرد أبي العباس بن أبي يزيد (285هـ) لكنه غلا في التعليل والقياس بل نحا بهما نحو المنطق والفلسفة، على أنه لم يغادر ما كان عليه الأوائل من مراعاة المعنى. وقد أكثر الانتقال إلى بغداد، قاعدة الخلافة، من البصرة، فازدحم فيها مجلسه وعقدت بينه وبين ثعلب الإمام الكوفي مناظرات بدا فيها صاحب منطق وجدل، إلى بيان وإحاطة بكتاب سيبويه، ولو خالفه في مسائل كثيرة، وإلى حذق في فنون الأدب. وقد ألف (المقتضب والكامل) واعتد كتاب (الكامل) أحد كتب الأدب الرئيسة إلى جانب أدب الكاتب لابن قتيبة والبيان والتبيين للجاحظ والنوادر لأبي علي القالي البغدادي.
وتلمذ للمبرد الزجَّاج أبو اسحاق (311هـ) صاحب الاشتقاق والأمالي، وقد حاول أن يناظر أستاذه المبرد مرة فردت عليه حججه. قال الزجَّاج:"لما قدم المبرِّد بغداد جئت لأناظره وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب، فعزمت على اعناته. فلما فاتحتُه ألجمني بالحجة، وطالبني بالعلة، وألزمني إلزامات لم أهتد إليها" كما جاء في (نزهة الألباء/ 290) . وهكذا كان أستاذه الأول ثعلب إمام الكوفيين وأستاذه الثاني المبرّد. وقد أعجب الزجَّاج بالمبرّد فترك ثعلب إليه، وانتقلت إليه رياسة البصرية بعد المبرد. لكنه انفرد من المذهبين بآراء خاصة عُد بها مؤسس المذهب البغدادي.
وتلمذ للمبرد ابن السراج أبو بكر (316هـ) وقد ألف (الأصول) . وانتهت إليه رياسة النحو بعد الزجَّاج وخالف البصريين في مسائل كثيرة. وقد صادق الفيلسوف الفارابي فكان قويّ الصلة به فتلمذ له في المنطق، كما تلمذ الفارابي لصاحبه في النحو.
وأخذ عن هؤلاء أبو سعيد السيرافي (368هـ) وله شرح الكتاب. وقد أحاط بالمذهب البصري كما أحاط بالمذهب الكوفي، واستعان بالمنطق والحجاج، على دعم أصول النحو ولكن لم يتجاوز ذلك إلى الأخذ بأساليب المتكلمين والمناطقة فتصدى لمناظرة متى بن يونس القنائي، في مجلس الوزير أبي الفتح بن الفرات، ومن حوله أعلام الفكر كالخالدي وابن الإخشيد والكندي.. تصدى لابن يونس يدفع حججه ويدحض أدلته حين حاول هذا إخضاع هذه الأصول النحوية للحجاج العقلي. وقد نبَّه السيرافي على استبعاد المنطق وعلته النظرية، كما نبه على وجوب تعلق النحو باللفظ والمعنى جميعاً.
وأخذ عن هؤلاء أبو الحسن بن عيسى الرماني (384هـ) وقد عرف بإلمامه بكثير من العلوم، فقد كان علَماً في علم الكلام، إذ كان متكلماً على طريقة المعتزلة، وكان علماً في النحو، وعلماً في الأدب، وفي علوم القرآن. فله شرح (معاني القرآن) للزجاج، وله (تفسير القرآن) وقد امتدحه الصاحب بن عباد وأثنى عليه. نحا الرماني نحو المنطق في التعليل فمزج النحو بالمنطق حتى قال أبو علي الفارسي:"إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله فليس معه منه شيء"، فكان للرماني النحو المفلسف. وقد تلمذ له أبو حيَّان التوحيدي، في علم الكلام خاصة، فأشاد به فقال انه لم ير مثله قط علماً بالنحو وغزارة في الكلام وبصراً بالمقالات واستخراجاً للعويص وإيضاحاً للمشكل، مع تألُّه وتنزه ودين ويقين وفصاحة وفقاهة وعفافة ونظافة، كما ذكر ياقوت في معجمه.
ثم تألق نجم أبي علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي (377هـ) وذاع صيته، وقد قصد بغداد حاضرة الخلافة ولم يناهز العشرين من عمره، فلقي بها من أعلام البصرية الزجَّاج أبا اسحاق والسرّاج أبا بكر تلميذي المبرّد، فاختلف إلى حلقتيهما وقرأ الكتاب عليهما. وقد نزع الفارسي إلى الزجاج خاصة فسلك طريقته في منهجه العلمي ووطئ مواقع قدمه.
كان أبو علي شديد العناية بدراسة الأصوات، وما يتصل بفقه اللغة من تصريف واشتقاق، وقد أفصح عن ذلك جلياً تلميذه أبو الفتح عثمان بن جني، وكان شديد الاهتمام بالقياس، فقد ابتغى له كل سبب والتمس إليه كل مساغ وقلَّب فيه وجوه الرأي. وقد حبسه ذلك أن يمهر في الرواية اللغوية ويتمكن فيتوفر حظه منها، كما فعل أصحابه منذ عهد المبرد. فقد كان السيرافي أروى منه. قال أبو علي:"لأن أخطئ في مائة مسألة لغوية ولا أخطئ في واحدة قياسية" وقال: "لأن أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية أهون علي من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية". وكان كصاحبه الرماني علَماً في علم الكلام على طريقة المعتزلة. وعلت شهرته حتى قيل انه فاق المبرد. قال أبو طالب العبدي: "لم يكن بين أبي علي وبين سيبويه أحد أبصر بالنحو من أبي علي". واشتهر من مؤلفاته (الإيضاح في النحو) و (التكملة) و (مختصر عوامل الإعراب) . ومن أنبغ تلاميذ أبي علي أبو الفتح عثمان بن جني، وقد لقيه حين مرّ بجامع الموصل، فأعجب ابن جنّي بأستاذه وأكبره ولزمه بعد ذلك، وكان يقول:"أنا غلام أبي علي الفارسي في النحو" وقال في أبي علي: "وقد انتزع من علل النحو ثلث ما وقع منه لسائر النحويين".
وخلف الفارسي أبو الفتح عثمان بن جني (392هـ) . وقد استفاضت شهرته فسبق أقرانه وشآهم فبلغ الذروة في الأصالة وبعد الغور.
كان ابن جني يختلف إلى مسجد الموصل فيتلقى فيه مبادئ علوم العربية وقد تلمذ فيه لأحمد بن محمد الموصلي. ولم يكد يبلغ الخامسة عشرة حتى شوهد يتصدر حلقة المسجد، وكان يختلف إليه صغار طلبة العلم. وبينما هو كذلك إذا بأبي علي يلقاه في المسجد فيستوقفه نبوغ الصبي وحديثه وما انطوى عليه من فصاحة لسان وقوة منطق فيقول له:"تزببت يا بني وأنت حصرم". وقد قاد هذا ابن جني إلى أن يتلمذ لأبي علي ويستمر اتصاله به في صحبة علمية امتدت نحو أربعين عاماً.
يخلف ابن جني أستاذه فيتصدر للتدريس في بغداد ويزدحم مجلسه بطلاب العلم فيصبح مرجعهم بعد أبي علي.
أدرك ابن جني الشأو في البراعة والعمق في كل ما ألف من كتبه لا سيما سر صناعة الإعراب والخصائص والمحتسب وكان إماماً مقدماً في القياس يحث عليه ويرغب فيه ويرهف العزم على الأخذ به وبالتلطف والحجة.
سلك ابن جني مسلك أستاذه أبي علي الفارسي وكان أعلق بأصول المنطق والفقه، وقد أداه النظر الثاقب والرأي النضيج إلى فرائد وطرائف في اللغة وفقهها. ماز العلة النحوية من الفقهية والكلامية وجعل اتكاء النحوية على رهافة الحس وبداهة الطبع، ورأى أنها ليست في سمت الكلامية لكنها أقرب إليها من الفقهية (الخصائص- علل العربية- ج1) .
دافع ابن جني عن علل النحويين ورد على من اعتقد فسادها وادّعى ضعفها، وقد وفق في إنكار العلل الثواني وعلة العلل فارتضى منها ما جاء تتميماً للعلة الأولى وشرحاً لها..
وفي الجملة تناول ابن جني لغة العرب أصواتاً وحروفاً وبحث كيانها نشوءاً واستواء، بالحدس تارة والاستدلال الذهني تارة أخرى، وعالج أصول نحوها بالتلطف والحجة جميعاً متعمقاً متبسطاً (فلن تجد شيئاً مما علَّل به القوم وجوه الإعراب إلا والنفس تقبله والحس منطو على الاعتراف به.. وأن علل النحو إنما يفزع في التحاكم بها إلى بديهة الطبع) . وراز بنية ألفاظها صرفاً واشتقاقاً، وبحث قياسها وأوغل في البحث واتسع فيه. وكان له في كل ذلك القول المحكم والرأي النجيح.
ثم عُرف من أئمة القياس بعد أبي علي الفارسي وأبي الفتح ابن جني، جار الله أبو القاسم محمد بن عمر الزمخشري صاحب الكشاف والمفصَّل (538هـ) . وقد كان من كبار المعتزلة وبدا ذلك جلياً في اتخاذه المنطق أداة لتعليل أحكامه وسلماً لتسبيب قياسه، سواء في كشافه أو مفصَّله. وابن الشجري هبة الله أبو السعادات العلوي صاحب الأمالي (542هـ) وأبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن الأنباري (577هـ) وهو صاحب المصنفات النفيسة، لا سيما الإغراب في جدل الإعراب، والإنصاف في مسائل الخلاف (بين البصريين والكوفيين) ، ولمع الأدلة في أصول النحو، وأسرار العربية. وقد اقتاس في تأليفه بأصول الفقه كما اقتاس بأصول الجدل وعلم الكلام فأحكم النسب بين النحو وعلوم الفقه والكلام فيما نهج، ثم العكبري محب الدين أبو البقاء عبد الله بن الحسين (616هـ) صاحب اللباب وإعراب القرآن. وتفسيره. وقد ألَّف (مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين) ، وقد جاءت نتف منه في كتب الخلف ككتاب الأشباه والنظائر في النحو للإمام جلال الدين السيوطي (911هـ) .
الكوفية وأصولهم
إذا كان البصريون قد عنوا بالقياس كما قدمنا وفصَّلنا ومضوا في ذلك وأوغلوا حتى تجاوزوا طبيعة اللغة وخصوصها، فقد كان للكوفيين أصولهم وقياسهم وعللهم، فهم لم يقتصروا على الوصف دون الاستدلال والاعتلال كما سيأتي تفصيله.
رأس الكوفية:
ولكن إذا كان الحضرمي (117هـ) هو رأس البصرية فمن هو رأس الكوفية؟ أقول اختلف في هذا فقيل ان بعض أئمة البصرة قد هجروها إلى الكوفة وأقاموا بها، وكان أشهر هؤلاء جعفر الرؤاسي محمد بن أبي سارة (190هـ) . عاش في البصرة وأخذ أصول النحو عن الإمام البصري عيسى بن عمر الثقفي ثم انتقل إلى الكوفة فكان أول من وضع كتاباً في النحو من أهل الكوفة. وإذا قال سيبويه في كتابه (قال الكوفي) فقد عنى الرؤاسي. وهكذا يمكن أن يعدّ الرؤاسي رأس الكوفية، ويكون المذهب الكوفي قد عرف بعد نحو قرن من المذهب البصري. وقد يضم إلى الرؤاسي عمه معاذ بن مسلم الهراء مبدع علم التصريف، وشيخ الكسائي والفراء، وقد عُمر طويلاً (189هـ)، قال الفيروزابادي في البلغة:"أبو جعفر الرؤاسي أستاذ أهل الكوفة في العربية".
أعلام الكوفية:
وقد أخذ عن جعفر الرؤاسي وتلمذ له الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة (189هـ) وهو إمام الكوفية كما كان الخليل إمام البصرية. وقد أخذ عن الرؤاسي وتلمذ له الفراء أبو زكريا يحيى بن زياد (207هـ) وتلمذ للكسائي بعده بل احتذاه ونهج نهجه وغدا علم الكوفية. وقد كان الكسائي والفراء قطبا الكوفية، قد أخذا أصول النحو عن الإمام البصري يونس بن حبيب، وهكذا نهل الرؤاسي والكسائي والفراء جميعاً من معين البصرة.
نهج الكسائي حدود المذهب الكوفي في التعويل على النقل خلافاً للبصرية في اعتمادها على النظر العقلي لكنه لم يهمل القياس على كل حال. وشايع الفراء الكسائي فيما استن من أصول فاستمسك بالرواية وأبى للنحوي أن ينهج نهج المتكلمين والمناطقة المتفلسفين. وكان القرآن مادته الأولى في روايته فبدا في تفسيره ألصق ما يكون بواقع اللغة أميناً على خصوصها وطبيعتها، وقد تجلى ذلك في كتابه الأول (معاني القرآن) إذ نهج فيه نهجاً جديداً نأى به عن الغيبيات ونكَّب عن اعتماد أي تقدير أو تأويل يضيق النص عن احتماله. ولا يعني هذا أن الفراء لم يُعن بتعليل أو قياس، فالذي أباه هو القياس على الشاهد الواحد، ونكب عن الأخذ بالقراءات الشاذة مخالفاً في ذلك من تقدمه من الكوفيين ووافق في ذلك البصريين.
وجاء ثعلب أبو العباس أحمد بن يحيى (200-291هـ) فأقبل على كتب الفراء يقف على أغراضها ويحصي مسائلها ويوغل في بحثها. وما لبث أن يمم نهج الفراء مردداً لأقواله محتجاً بآرائه مخلصاً لنهجه، غير عابئ بالتعليل. وكان يقول (طلبتُ العربية واللغة في سنة ست عشرة ومائتين، وابتدأت بالنظر في حدود الفراء وسني ثماني عشرة سنة وبلغت خمساً وعشرين ولم يبق شيء من كتب الفراء في هذا الوقت إلا قد حفظته) . وقد تلمذ ثعلب لسلمة بن عاصم الضبي وكان هذا قد حضر مجلس الفراء وأعجب به أيما إعجاب فأغرى به ثعلباً، وكان سلمة يقول:"لولا الفراء لما كانت اللغة لأنه حصلها وضبطها، ولولا الفراء لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع، ويدّعيها كل من أراد، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب" ولم يعرف عن ثعلب أنه حاول فلسفة اللغة أو منطقة النحو، كما حاول البصريون وخصمه منهم، وهو المبرد. ويعزى إلى ثعلب الفضل في إشاعة المذهب الكوفي والتبشير به، كما يُعزى إلى المبرد دعوته إلى البصرية وبراعته في الإغراء بها.
الآخذون بما رجح لديهم من أصول البصرية والكوفية ومسائلهما
وهناك أئمة لم ينهجوا نهج البصرية ويسلكوا طريقتها فيقتاسوا بها، أو ينهجوا سبل الكوفية ويأتموا بهديها فيتسموا بسمتها، وإنما أداهم البحث والتأمل والفحص إلى مواقاة كل منهما في بعض الأصول والمسائل ومخالفتهما لها في أخرى، ومن هؤلاء أبو القاسم عبد الرحمن بن اسحاق الزجاجي (337هـ) وقد أخذ أصول النحو عن الزجاج أبي اسحاق، والطبري أبي جعفر، وابن كيسان أبي الحسن، وابن الخياط أبي بكر، وأبي موسى الحامض، وابن السراج أبي بكر، وابن الأنباري أبي بكر وسواهم، ومنهم البصري ومنهم الكوفي، ومنهم من هو بينَ بين، فتلقى الزجاجي علم البصرة كما تلقى علم الكوفة وأعجب بالزجاج كما أعجب بأستاذه المبرد فكان إلى البصرية أميل، لكنه لم يتعصب لأحد المذهبين فيحاكي بغير دليل أو يتابع بغير حجة، فقد كان يقول بما يملي عليه علمه ويشهد به يقينه فيكون منه على بينة. وهكذا مزج الزجاجي نحو البصريين بنحو الكوفيين واستعار مصطلحات الجانبين، فبدا بغدادي النزعة. فجماعة البغداديين هؤلاء هم الأئمة الذين اتخذوا طريقتهم في اختيار الأجود من مسائل المذهبين على ما رأوه، كما فعل الزجاج في كتابه (إعراب القرآن ومعانيه) ولا يزال مخطوطاً، والزجاجي في كتابه (الإيضاح) . ولم يستنوا نهجاً فرداً دون نهج البصريين أو الكوفيين.
عمد الزجاجي إلى التأليف فكان محكم الحدود، وعلى ذلك كتابه (الجُمل) وقد اتسم بالبيان والوضوح فجاء قريب المنال سهل الأسلوب متسني التحصيل. وقد اشتهر الكتاب وتعددت شروحه وشاعت. وثمة كتاب (الإيضاح في علل النحو) ، وقد بحث فيه القياس والعلل والخلاف بين البصريين والكوفيين، وجعل العلة تعليمية وقياسية وجدلية نظرية، وقصد بالتعليمية ما أريد به تعليم النحو كقولك رفع الفاعل لأنه فاعل ونصب المفعول لأنه مفعول، وقصد بالقياسية تعليل الحكم في حمل المقيس على المقيس عليه كقولك في (إن وأخواتها) انها نصبت الفعل لمشابهتها الفعل المتعدي ذا المفعول الواحد، فأشبه اسمها المنصوب المفعول به لفظاً، وأشبه خبرها المرفوع الفاعل لفظاً. أما العلة الجدلية النظرية فقد ذهب بها إلى ما وراء ذلك كسؤالك لِم رُفع الفاعل ونُصب المفعول؟ وجوابك رُفع الفاعل لأن الضم ثقيل ونُصب المفعول لأن الفتح خفيف، والمفعول كثير في كلام العرب فكان أولى بالخفة فاستحق الفتح، والفاعل قليل فهو أجدر بالضم، وإذا كان الزجاجي قد عني ببحث العلل فقد اهتم فيها غالباً بما أفاد أصول النحو واللغة كالعلة التعليمية والقياسية، ولم يُعن بالعلل الجدلية فيغلو فيها غلوّ الأنباري أبي البركات، ويمزج النحو بالمنطق. وإذا كان كتاب (الإيضاح) هذا نموذجاً بيناً لاتصال هذين العلمين، فقد كان اتصالاً لم تختلط فيه الحدود أو تلتبس فيه السمات. وقد كان ابن كيسان (299هـ) بصرياً كوفياً، وهو بالبصرية أعلق، وكان أبو موسى الحامض (305هـ) كوفياً بصرياً وهو إلى الكوفية أدنى..
القياس حدوده والحاجة إليه
القياس هو حمل الفرع على الأصل لعلة جامعة بينهما بإعطاء المقيس حكم المقيس عليه. وقد تشعبت آراء الأئمة عامة في الأخذ به في مسائل كثيرة. فمنهم من اشتد فنهج له حدوداً ضيقة لا يعدوها، ومنهم من تعلق به وتخوّض فيه، فجرى فيه بغير عنان.
وإذا كان لا بد من التوجه إلى القياس ما سمحت به طرائق العربية فذلك أنه المعول عليه في نماء اللغة وارتقائها والسبيل إلى تسني ما تعسَّر فعزّ مناله من نادّها وشاردها لتكفي اللغة ما تُستكفى وتؤدي ما تُستأدى، مسايرة لشؤون العصر ومستحدثاته. وقد عبَّر عن ذلك الأستاذ محمد الخضر حسين، رحمه الله، في كتابه (دراسات في اللغة العربية) فقال:"والعلوم تتدفق تدفق السيل، ومقتضيات المدنية تتجدد تجدد النهار والليل. وكل من المعاني العلمية والمرافق الحيوية يحتاج إلى أسماء تلتئم مع سائر الألفاظ العربية التئام الدرر النقية في أسلاكها"، وقال:"فالقياس طريق يسهل به القيام على اللغة، ووسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل، أو يحتاج في الوثوق من صحة عربيتها إلى كتب اللغة أو الدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها".
لكن ما نعنيه بالقياس هنا هو قياس التصريف والاشتقاق، وقياس النقل والمجاز وما يستتبع ذلك من تدرج المعاني.
أما قياس النحو الذي يراد به الاستدلال الذهني لاستنباط القواعد وتعليلها، وهو مدار علم النحو عند الأئمة، فلا بد من التنكب عن الغلو فيه. ذلك أن في تحكيم المقاييس العقلية في كثير من مسائل ما يضيِّق واسعاً ويمنع سائغاً، بل يحظر صحيحاً فصيحاً. فطرائق العربية لا تقاس بمقاييس عقلية كما تقاس مسائل المنطق وقضايا الفلسفة وعلم الكلام. وليس الوجه أن يقال:"النحو كله قياس" كما قال أبو البركات ابن الأنباري في كتابه (لمع الأدلة/ 95) ، في الرد على من أنكر القياس، وأضاف:"إذا بطل أن يكون النحو رواية ونقلاً وجب أن يكون قياساً وعقلاً". فاعتقاد ما للقياس من شأن في نشأة النحو واستنباط أحكامه ورسم حدوده وتقعيد قواعده، لا يمنع من التنبيه على أن النحو ليس كله قياساً، وإنما هو قياس من جهة ورواية ونقل قد يستعصيان على القياس وينكبان عنه من جهة أخرى.
ولا شك أن المستحب من القياس هو الذي اعتمد لوضع القاعدة واستنباط الحكم فأفاد في تهذيب اللغة وتشذيبها، والذي اتخذ لتعليل الظاهرة اللغوية فكان وسيلة إلى وعي نظم اللغة وتعليمها فاعتمد على ما أسموه (العلة التعليمية) و (العلة القياسية) .
تصنيف العلل:
فالعلة التعليمية، كما أسلفنا قبل، أن تقول هذا مرفوع لأنه فاعل، وذاك منصوب لأنه مفعول به. والعلة القياسية هي التي تقوم على اشتراك المقيس والمقيس عليه فيما تصوروا أنه علة موجبة للحكم فيهما. وقد تشعبت الآراء في تحديد العلة القياسية باختلاف وجهات النظر والاعتبار. فقد تتجاذب الحكم الواحد علتان أو أكثر فيبنى على قياسين أو أكثر كما يتأتى حكمان متضادان في المسألة الواحدة فتقتضيهما علتان مختلفتان فيبنى كل منهما على قياس. فمثال الأول (المبتدأ) فقد يعتل لرفعه بالابتداء، أو يعتل له بالخبر أو بما يعود عليه من ذكره. ومثال الثاني (ما) التميمية والحجازية، فقد اعتلوا لـ (ما) التميمية العاطلة بشبهها بـ (هل) في عدم اختصاصها بالدخول على الاسم أو الفعل، وإفادة كل منهما معنى في الكلام هو النفي في (ما) والاستفهام في (هل) ، فجرت (ما) في الإهمال مجرى (هل) . واعتلُّوا لـ (ما) الحجازية العاملة بشبهها بليس في نفي الحال والدخول على الجملة الاسمية فعملت عملها. وهكذا اعتل للإعمال والإهمال في مسألة واحدة، فكان كل منهما على قياس. ومن ثم ذهب كثير من المجددين في النحو إلى إنعام النظر في هذه العلل والعمل على الاهتداء إلى الأشمل منها في الحكم، والأظهر في التعليل والألصق بالعربية.
والقياس الذي استند فيه إلى إحدى العلتين التعليمية والقياسية إنما يجانس طبيعة اللغة وخصوصها، دون القياس الذي اعتمد فيه على ما أسموه (العلة الجدلية النظرية) فنحا نحو الفلسفة واتسم بسمتها وغدا صناعة بل رياضة عقلية ونشاطاً ذهنياً فجعل التعليل أصلاً وغاية، لا وسيلة وحاجة، وبين القياسين من التفاوت والتباين، ما لا خفاء به ولا لبس.
فإذا قلت (إنّ) تشبه الفعل لفظاً لأنها ثلاثية، ومعنى لأنها تفيد التأكيد، فإذا خففت ذهب شبه اللفظ فقل عملها، فقولك هذا تعليل جدلي نظري، ليس وراءه محصول.
العناية بالمعنى:
ولا شك أن المعوّل عليه من التعليل ما قرن فيه صحة الحكم النحوي بسلامة المعنى، وتحقيق المراد منه، دون التعلق بما تقتاد إليه براعة الصناعة ويؤدي إليه الافتنان بها، من الإغراب في الجدل والتأويل. فلا جرم أن النحو يتجاوز البحث في أواخر الكلم وعلامات الإعراب.
ذلك أن فضيلة الكلام في الأصل إنما ترجع إلى معناه قبل ألفاظه. قال ابن جني في الخصائص: (فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسَّنوها وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه وتشريف، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته) وإذا عدنا إلى الإمام عبد القاهر الجرجاني (471هـ) في كتابه (دلائل الإعجاز) ألفينا أنه يؤمن بأن نظم الحروف من الكلمة لا يتم بمراعاة معنى في النفس وإنما يجري بمجرد تواليها في النطق وضم بعضها إلى بعض، أما نظم الكلام في التعبير فإنه لا يتم بتواليه كيفما اتفق، وإنما يتم، باقتفاء آثار المعاني فيترتب على حسب ترتيبها في النفس. فالأصل إذاً أن تعمل الفكر فتتوخى الترتيب في المعاني، فإذا كان لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. ومتى فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف الفكر في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك فتتساوق بحكم أنها خدم للمعاني وتبع لها. وقد أكد الجرجاني هذا المعنى فقال:"فلا نرى كلاماً قد وصف بصحة نظام أو فساده، أو وصف بمزية أو فضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد، وتلك المزية، وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه". ومن ثم كان خطأ كثير من الأئمة في الغلو بالعناية اللفظية وقصر اهتمامهم على ضبط أواخر الكلم.
ولا ريب أن صواب الرأي أن يُنهج في النحو نهج الجرجاني، وأن ينأى به إلى ذلك عن أي تعقيد ينبو عن روح اللغة، وأي تعليل يباعد بينه وبين غرضه.
البصرية والكوفية والقياس
قلنا إن البصريين قد عُنوا بالقياس ومضوا فيه وأوغلوا حتى تجاوز متأخروهم طبيعة اللغة وخصوصها، وان للكوفيين أصولهم وعللهم وقياسهم، وانهم لم يقتصروا على الوصف دون الاستدلال والاعتلال، فقد أخذ الكسائي بالقياس فقال:
إنما النحو قياس يُتبع وبه في كل أمر يُنتفع
وأشيد بمنزلة الفراء في التعليل والقياس، وقد خالف الكسائي في كثير مما ذهب إليه ووافق البصرية في إنكار القياس على الشاهد الواحد وإنكار القراءات الشاذة. وكان يحتج بقراءة الكسائي وحمزة وابن مسعود، ولا يصد عن قراءة الأمصار الأخرى كقراءة أهل البصرة والمدينة ومكة والشام.
نهج الكوفية:
وهكذا اعتمد الكوفيون على السماع والقياس، كما فعل البصريون. وكان أوائلهم أعنى بالسماع منهم بالقياس وأشد حرصاً على الوصف منهم على التعليل، كما كان أوائل البصريين أنفسهم. وإذا كان الكوفيون لم يدركوا شأو البصريين في الأخذ بالقياس، وكانوا أدنى إلى القصد منهم إلى الإيغال في هذا المضمار فليس صحيحاً أنهم عولوا على كل مسموع كما يُفهم مما جاء في (الإنصاف في شرح مسائل الخلاف) وصاحبه أبو البركات وهو من أئمة البصرية. ولو صح أن الكوفيين يعملون بكل شاذ ويقيسون عليه، لما استقام لهم أصل أو حكم أو قياس. ولست أشايع أو أجاري الأستاذ أحمد أمين، رحمه الله، فيما جاء به في كتابه ضحى الإسلام (2/259) حين قال:"أما الكوفيون فلم يروا هذا المسلك ورأوا أن يحترموا كل ما جاء عن العرب ويجيزوا للناس أن يستعملوا استعمالهم، ولو كان الاستعمال لا ينطبق على القواعد العامة. بل يجعلون الشذوذ أساساً لوضع قاعدة عامة". أقول إني لأستكثر هذا القول ولو شد منه ما قال بعض الأئمة في الكسائي خاصة في هذا الصدد. قال ابن درستويه (347هـ) في (بغية الوعاة.. 2/164) : "كان الكسائي يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً ويقيس عليه فأفسد بذلك النحو". وقصارى ما في الأمر أن الكوفيين إذا اعتمدوا مسموعاً وقاسوا عليه فقد اعتدّوه لغة يحسن الأخذ بها لأنها لغة قوم من العرب لا يرقى الشك إلى فصاحتها ولو قلَّت، لكنهم لا يعوّلون على كل مسموع فقد تخيَّر الكسائي والفراء من فصيح الشعر شواهد ليست أدنى منزلة من شواهد
سيبويه، ولها من طابع الفصاحة وميسم البداوة ما لا خفاء به، وقد شاعت فيما ألَّفه المتأخرون من النحاة.
قال الدكتور مهدي المخزومي في كلامه على الكوفيين: "إذا سمعوا لفظاً في شعر أو نادر كلام جعلوه أصلاً وبوَّبوا عليه كأنهم يشعرون بأن ما يقوله الأعرابي أو الأعرابية إنما يمثل بيئة لغوية لا يصح إغفالها، حرصاً منهم على أن تكون الأصول خاضعة في شكلها النهائي للأمثلة المستعملة المسموعة، بإمعانهم في التتبع اللغوي، واستبعادهم أساليب المنطق ومجافاتهم التأويلات التي يخالفها الظاهر"(ص/450-451) . وقوله مستقيم، لكن الكوفيين إذا اعتمدوا مسموعاً فقد وثقوا بفصاحته، فهم أغنى بالاستعمال منهم بالقياس.
والكوفية قد تجيز استعمالاً يند عن قواعد البصرية ويشرد عليها، ولكنها لا تقر استعمالاً يخرج عن قواعدها هي. وقد يكون في ضوابط البصرية ما يمنع مسموعاً، وفي ضوابط الكوفية ما لا يعافه أو يضيق عنه. ومثال هذا أن البصريين قد منعوا العطف على الضمير المجرور إلا أن يعاد الجار، لأن اتصال الجار بالضمير أشد من اتصال الفعل بالفاعل، فيقال مررت بك وبزيد ولا يقال مررت بك وزيد. وخالفهم في ذلك الكوفيون فأجازوا العطف ها هنا، أعيد الجار أو لم يعد، وأوردوا على ذلك النصوص القاطعة. ومنها قوله تعالى:(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ((النساء/1) بعطف (الأرحام، على الضمير المجرور في (به) ، كما جاء في بعض القراءات السبع، وقد جاء في الأصل بالنصب معطوفاً على اسم الله. وردّ البصريون حجة الكوفيين في جر الأرحام عطفاً على الضمير وقالوا إنما جُر بواو القسم لا بواو العطف، أو جُر بباء القسم مقدرة، وحجة البصريين في الوجهين متكلفة ضعيفة، وقد ورد النهي عن الحلف بالأرحام. وقد جاء العطف على الضمير المجرور كثيراً في الشعر، قال الشاعر:
اليومَ قُرّبت تهجونا وتشتمنا فاذهب وما بك والأيام من عجب
وجاء في التنزيل: (وصدٌّ عن سبيل الله وكُفْرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله ((البقرة/ 217) بجر المسجد، فقيل إنه جُر لأنه معطوف على الضمير المجرور، وردَّه البصريون، وقدروا الآية: (وكفرٌ به وصدٌّ عن المسجد الحرام (وعلقوا المجرور بعامل محذوف دل عليه الصد.
الموازنة بين المذهبين:
فمذهب الكوفية أكثر تشعباً وأوسع رواية، ومذهب البصرية أوسع قياساً وأضيق رواية على أن اتساع القياس البصري المبني على العلل العقلية قد يمنع السائغ ويضيق عن المسموع، كما رأينا. وهذا ما دعا المتأخرين من النحاة ألا يجروا على منهاجهم أو يأخذوا أخذهم. فقد حكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه رد بعض القراءات القرآنية لخروجها عن قراءة الجمهور، وكذلك فعل المازني أبو عثمان والمبرد أبو العباس والزجاج أبو اسحاق. وقد نزع المتأخرون إلى مخالفتهم فارتضوا القراءات جميعاً واقتاسوا بها، واتخذوا منها موضعاً لاستقرائهم واستنباط أصولهم، شاعت لغتها أم لم تشع ولا ريب أن في صحة القياس على ما ترد به الآيات الكريمة ثراء لأساليب القول في اللغة فوق ثرائها، وإغناء لمذاهب الكلام فوق اتساعها وتشعبها واستيعابها. وآي القرآن، بأي قراءة قرئت محصنة من نظر الناقد والمعترض، مرتفعة عن مقام المتعقب والمستدرك. أما اعتذارهم بأن العرب لم تقصد إلى القياس على الشاذ منها بحسب مذهبهم النحوي، فليس بشيء.
وما دامت القراءات كلها على اختلافها كلام الله فمن قرأ حرفاً من هذه الحروف فقد أصاب شاكلة الصواب أياً كان ذلك الحرف، ولا يجوز منع أحد من القراءة بأي حرف، ذلك أن الوجوه التي أنزل الله بها القرآن تنتظم كل وجه قرأ به النبي (وأقرأه أصحابه.
قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (2/363) : "والقراءات لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه" وقال (4/271) : "هؤلاء النحاة يسيئون الظن بالقراءة ولا يجوز لهم ذلك" وقال (4/271) : "ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة وإنما نتبع الدليل".
وقال أبو عمرو الداني في جامع البيان: "وأئمة القراء لا تعتمد في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقبس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت لا يردها قياس عربية ولا فشوّ لغة".
وقال الشيخ عبد العظيم الزرقاني في كتابه (مناهل العرفان/ 415) : "فإذا ثبتت قرآنية القرآن بالرواية المقبولة، كان القرآن هو الحكم على علماء النحو وما قعَّدوا من قواعد، ووجب أن يرجعوا هم بقواعدهم إليه، لا أن نرجع نحن بالقرآن إلى قواعدهم المخالفة نحكِّمها فيه، وإلا كان ذلك عكساً للآية، وإهمالاً للأصل في وجوب الرعاية".
وهكذا تحلل ابن مالك وابن هشام فيما اجتهدا فيه، من حدود البصرية في كثير من الأحيان، ولو تهيأ للنحو من الأئمة من استنوا بهذه السنة ونهجوا هذا السبيل فتمنعوا على المتابعة والمشابهة، وفازوا من التعبد بمذهب مخصوص، ونجوا مما لا تحتمله طبيعة اللغة أو يأباه خصوصها من الجدل، وعنوا بنحو الكوفية كلما أوغلت البصرية في التعليل فتنكبت الجادة، وعولوا على القرآن وآثروا ما جاء فيه على كل مروي، أقول لو تهيأ للنحو أمثال هؤلاء لكان خطة سديدة سوية في التجديد والإحياء.
القياس والسماع
القاعدة عند النحاة أنه إذا ورد السماع بطل القياس. قال ابن جني في الخصائص (1/103- ط/1913م) : "واعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس، فلا بد من اتباع السماع الوارد به فيه نفسه". وقال (1/131) : "واعلم أنك إذا أداك القياس إلى شيء، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدع ما كنت عليه، إلى ما هم عليه..". فما مرد التعويل على السماع في الأصل؟ أقول لا شك أن مرد التعويل على السماع في الأصل هو الحرص على ضبط اللغة وضمان سلامتها، مذ كان يعمل الأئمة على حصرها وتدوينها. ولكن مهما اشتد الداعي إلى العناية بالسماع وتعلقه والكلف به والتمكن منه، فينبغي ألا يكون الحرص عليه حائلاً دون ما يمكن أن يلتمس فيه علة جامعة فيبنى عليه قياس، في كل ما تدعو إليه حاجة التعبير والاصطلاح فتأذن به طرائق النقل والمجاز وسبل التصريف والاشتقاق. وهذا ما أخذ به مجمع اللغة العربية القاهري وإذا كان ابن فارس لم يجز قياساً لم يقسه الأوائل ولا قولاً لم يقله العرب، رعاية للأصل وتعلقاً به وحياطة له، فقد يتفق أن يقتاد الاستقراء إلى قياس لم ينبه عليه الأئمة، أو يتفق أن تتجاوز ملكة الأدباء المتمكنين هذا الحد بعفو الخاطر إذا ألجأت إلى ذلك حاجة في الاستعمال، أو دفعت إليه قوة الأداء فتصطفي اللفظ الذي يقع موقعه المرتجى ويصير إلى مستقره المطمئن. والقريحة المطبوعة إنما تتدفق بمثله قصد إحكام الأداء، ولو خالف الأصل المعروف. فانظر إلى ما قال أبو محمد عبد الله بن سنان الخفاجي المتوفى (466هـ)، في كتابه (سر الفصاحة/ 62) :"وقد يكون التأليف المختار في اللفظة على جهة الاشتقاق، فيحسن أيضاً كل ذلك". وأوضح مذهبه فقال: "ومثال لذلك مما يختار قول أبي القاسم الحسين بن علي المغربي في بعض رسائله: ورعوا هشيماً تأنفت روضه، فإن تأنفت، كلمة لاخفاء بحسنها لوقوعها الموقع الذي ذكرته". وليس في اللغة: تأنفت، ولعل المغربي قد تصور تنزه
فأتى بتأنَّف، طبعاً وسلاسة. قال ابن القوطية في كتابه (الأفعال) :"وأنفت من الشيء أنفاً وأنفة: غضبت، وأيضاً تنزهت عنه".
وأورد الخفاجي مثالاً آخر فقال: "وكذلك قول أبي الطيب المتنبي:
إذا سارت الأحداج فوق نباته تفاوح مسك الغانيات ورنده
فإن تفاوح كلمة في نهاية الحسن. وقد قيل ان أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال، وأن وزير كافور الأخشيدي سمع شاعراً نظمها بعد أبي الطيب، فقال: أخذتموها".
وهكذا حُكي عن المغربي قوله (تأنف) وعن المتنبي قوله (تفاوح) ، ولم يسمعا أو يكونا على قياس معروف لكنهما وقعا موقعهما المختار في الأداء، ولم يخرجا في الاشتقاق عما ألف عن العرب قوله في أفعال أخرى. أفليس يتأتى أن يدخل هذان اللفظان في قياس لو ابتغينا لصيغتيهما مثل هذا القياس، ببحث وتلطف واستقراء. فالسماعي قد يصير قياساً إذا استخرجت له بالاستقراء قاعدة يعرف بها. وإلا كان قيداً يحجر اللغة عن التوالد والانبساط ويقصر خطاها عن الاستجابة والمؤاتاة. ولا خفاء بأن سبل التصريف وضوابط الاشتقاق لا يشوبها من سرف التعليل في ذكر الأسباب ومسبباتها ما يشوب القياس في قواعد النحو. ومن ثم لم يفضِ التعويل عليها إلى شيء مما آل إليه الانحراف في قياس النحو وتعليله، من النأي باللغة عن خصوصها وتحيف طبيعتها والانزواء بها عن سبيل المعاني إلى الافتنان بصناعة الإعراب، حتى انقبض الأعراب عن أن يكون دليل المعاني وسبيل الإبانة والإفصاح.
ولكن ما الحكم عند النحاة إذا اجتمع في اللفظة أو المسألة سماع وقياس؟
ما الحكم إذا سمع في اللفظة أو المسألة استعمال على غير قياس فهل يمتنع الأخذ فيه بالقياس إلى جانب السماع؟.
أقول لا يكاد الأئمة يجمعون في ذلك على رأي، وقد تباينت مذاهبهم فكان لكل جماعة منهم وجهة في كل مسألة. مثال ذلك ما اتخذه الأئمة من أقيسة لمصادر الثلاثي، بناء على الأكثر والأغلب.
قال الأشمولي في شرحه على الألفية (3/122) : "فَعل بفتح الفاء وإسكان العين هو قياس مصدر المتعدي من ذي ثلاثة سواء كان مفتوح العين كردّ رداً وأكل أكلاً وضرب ضرباً، أو مكسورها كفهم فهماً وأمن أمناً وشرب شرباً ولقم لقماً" وأردف: "والمراد بالقياس هنا أنه إذا ورد شيء ولم يعلم كيف تكلموا بمصدره فإنك تقيسه على هذا، لا أنك تقيس مع وجود السماع، قال ذلك سيبويه والأخفش" وعقَّب على ذلك الإمام الصبان فقال: "ومذهب الفراء إلى أنه يجوز القياس عليه، وإن سُمع غيره".
وحكى السيوطي في الهمع فقال: "لا تدرك مصادر الأفعال الثلاثية إلا بالسماع، فلا يقاس على فعل ولو عدم السماع".
وهكذا تشعبت آراء الأئمة في مصدر الثلاثي إلى مذاهب ثلاثة مذهب يمنع القياس ولو لم يكن سماع، وآخر يأخذ بالقياس ولو كان سماع، وعليه الإمام الزمخشري، وثالث لا يأخذ بالقياس حتى يمتنع السماع. وقد أجازوا للشاعر غالباً أن يقيس، ولكن في ضرورة.
ومثال آخر هو جمع التكسير فإذا سمع لمفرد جمع على غير قياس امتنع النطق بقياسه، إلا أن يأتي به شاعر في ضرورة، هذا هو الأكثر.. قال ابن جني (1/132) :"وأعددت ما كان قياسك أدّاك إليه لشاعر مولد أو لساجع أو لضرورة لأنه على قياس كلامهم، بذلك وصَّى أبو الحسن".
وقد سُمع عن العرب (استصوب واستحوذ) والقياس أن يأتيا بالإعلال على (استصاب واستحاذ) فهل أخذ الأئمة بهذا القياس إلى جانب السماع. أقول ذهب جماعة إلى صحة (استحاذ واستصاب) لأن العرب لم تأت باستفعل بغير إعلال من فعل ثلاثي إلا نطقت به معتلاً، أو لأن الأكثر كذلك، ومن هؤلاء سيبويه، وهكذا فعلوا في مسائل كثيرة، لكن ذلك لم يطرد عنهم.
وقد جاء في اللسان (مادة بدا) : (إذا أمكن في الشيء المنسوب أن يكون قياساً وشاذاً، كان حمله على القياس أولى، لأن القياس أشيع وأوسع) . وجاء عن بعض العلماء قولهم: إذا عارض في النسب القياس السماع، جاز القياس والسماع، فلك على هذا أن تقول ثقفي وثقيفي.
القياس والظاهرية
الظاهرية مذهب فقهي دعا إليه في القرن الثالث الهجري أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني (202-270هـ) . وهو إمام أهل الظاهر في المشرق. وقد جاء مذهبه رداً على أصحاب القياس الذين جعلوا (القياس) رابع الأصول المعروفة في الفقه، وهي الكتاب والسنة والإجماع.
أنكر داود القياس جملة، وجعل أصول الأحكام الكتاب والسنة والإجماع وحدها دون القياس والاجتهاد فخالف بذلك ما مضى عليه عمل الصحابة. وقد اشتد في الأخذ بحرفية النصوص ومنع التقليد وجعل لكل فاهم للعربية أن يتكلم في الدين بظاهر القرآن والسنة. وقد شاع مذهبه هذا في الأندلس، وتولى الدعوة إليه والاحتجاج له والمنافحة عنه في القرن الخامس الهجري الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (384-456هـ) ، وقد تلقى أصول الفقه الظاهري على أستاذه أبي الخيار مسعود بن سليمان بن مفلت (426هـ) فرأى الاعتماد على الكتاب والسنة والإجماع وخالف مدرسة الرأي في رفضه القياس وإنكاره التقليد، معتقداً أن القرآن إنما يجب أن يُحمل على ظاهره، ولا يحال عن ظاهره البتة، اللهم إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حس على أن شيئاً منه ليس على ظاهره، وأنه نقل من ظاهره إلى معنى آخر. فالانقياد حينئذ واجب لما يوحيه ذلك النص والإجماع والضرورة. وقد جاء تفصيل ذلك في كتب ابن حزم الأندلسي لا سيما كتاب (ابطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل) وكتاب (مسائل أصول الفقه) وكتاب (كشف الالتباس ما بين الظاهرية وأصحاب القياس) .
القياس وابن مضاء
عاش ابن مضاء أحمد بن عبد الرحمن في القرن السادس الهجري (512-592هـ) فبدا أنه اتخذ مذهبه في أصول النحو على مثال مذهبه الظاهري في أصول الفقه، فأنكر القياس كما أنكرته الظاهرية وعوّل على النص كما عولت، ذلك في كتابه الشهير (الرد على النحاة) . وليس هذا بدعاً إذا عرفنا أن ابن مضاء كان قاضي القضاة في دولة الموحدين، وقد كان هؤلاء أصحاب رسالة تدعو إلى العودة إلى أصول الدين في الكتاب والسنة، قبل أن يكونوا أصحاب سياسة، وكان مؤسس دولتهم أبا عبد الله بن تومرت الملقب بالمهدي. وأن يعقوب بن يوسف خليفة الموحدين يومئذ، وهو علم من أعلام الفقه، قد أمر بحرق كتب المذاهب الأربعة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث، كما أمر سلطان المرابطين علي بن تاشفين يوماً بإحراق كتاب الإمام الغزالي (إحياء علوم الدين) . قال الدكتور شوقي ضيف في كتابه (المدخل إلى الرد على النحاة) :(إن العصر الذي ألف فيه كتاب الرد على النحاة كان عصر ثورة على المشرق وأوضاعه، في الفقه وفروعه. وقد كانت دولة الموحدين، منذ أول الأمر، تدعو إلى هذه الثورة، حتى إذا كان يعقوب رأيناه يأمر بحرق كتب المذاهب الأربعة، يريد أن يرد فقه المشرق على المشرق. وقد تبعه ابن مضاء القرطبي قاضي القضاة في دولته فألف كتاب- الرد على النحاة- يريد أن يرد به نحو المشرق. أو بعبارة أدق يريد أن يرد بعض أصول النحو، وأن يخلصه من كثرة الفروع فيه وكثرة التأويل، مستناً في ذلك بسنة أميره يعقوب، إذ كان يُعجب مثله، على ما يظهر، بمذهب الظاهرية، فذهب يحاول تطبيقه على النحو) .
ولا بد لنا حين نذكر يعقوب بن يوسف هذا، الذي لقب بالمنصور، من أن ننعى عليه أمراً أتى فيه سوأة ليست بأيسر السوآت، وأن نحمد له أمراً جليلاً ركب مراقيه واضطلع بأعبائه فكان فيه بعيد الهمة نافذ العزم. أما أمره المنعي عليه فهو موقفه من السلطان الأيوبي صلاح الدين يوم بعث إليه هذا، وقد فاز ببيت المقدس ودانت له مصر وبلاد الشام جميعاً وشمالي العراق (ت 589هـ) ، بعث إليه ينشد محالفته لمحاربة ملوك أوربة، فاكرم يعقوب وفادة الرسول لكنه لم يجبه إلى ما سأل أو ينزل على مقترحه فيلبي مبتغاه، قالوا كان ذلك لإنكار يعقوب أن يلقبه صلاح الدين في خطابه بسلطان الموحدين ولا يدعوه بأمير المؤمنين (رواية ابن خلكان- 2/432) .
وأما أمره المحمود له فهو نصره المبين بعد ذلك في موقعة الأرك (591هـ) في الأندلس، فقد كان ذلك نصراً للعرب ضعضعوا به أركان أعدائهم وزلزلوا أقدامهم وكادوا فيه يقضون على مملكة قشتالة.
ولكن هل أنكر ابن مضاء العلة والقياس جملة؟
أقول ليس ثمة إمام قد عاف العلة والقياس جملة، بصرياً كان أم كوفياً، وإنما اختلف نصيب كل إمام من الاقتباس بهما وفوراً أو نزوراً، إذ يتسنى من ذلك في أصول النحو ما لا يتسنى في أصول الفقه. ذلك أن في علل النحو من فسحة النظر ما لا تتسع له علل الفقه أحياناً كثيرة، كأن يكون البحث في علة مناسك الحج وترتيبها، وفرائض الصلاة وعدد ركعاتها فنجد مرد وجوبها إلى ثبوت الأمر بها بحكم الشريعة، أي بالنص، ولا نظير لذلك في النحو. قال ابن جني في الخصائص (/52-ط/1913م) :"فأول ذلك أنا لسنا ندّعي أن علل العربية في سمت العلل الكلامية البتة. بل ندعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية" وهو يفرق بين الإجماع في اللغة والإجماع في الفقه، فيرى الإجماع في اللغة غير ملزم للمعارض، على حين يلزمه الإجماع في الفقه البتة. لكن على الإمام في اللغة إذا شاء مخالفة الجماعة والخروج عما اتفقت عليه كلمة اللغويين واتحدت أن (يناهض هؤلاء إتقاناً ويثابتهم عرفاناً ولا يخلد إلى سانح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره، فإذا فعل ذلك سُدد رأيه وشُيع خاطره- الخصائص: 1/197) .
ثار ابن مضاء على النحاة وعاف مذهبهم في (العامل) لغلوهم في التعليل واستبعد الجدل النظري والحجاج الفلسفي وكل ما ينأى باللغة عن طبيعتها وينحرف عن خصوصها، وليس هو أول من انتهج هذا النهج وذهب هذا المذهب. ذلك أنه قد عوّل على النص وأغفل القياس من هذه الجهة، لكنه قد أخذ ولا شك بنمط من القياس. فهو قد أقر (العلة) وأبى (علَّة العلَّة) أو العلل الثواني والثوالث، كما أنكرها ابن جني وعافها الزجاجي نفسه. وإقرار (العلة) يدعو إلى البحث عن العلة الجامعة والتماس القياس الذي لا بد منه، وإلا فكيف يمكن أن تنهض لغة لا يعمل قياس في رسم ضوابطها وشرح حدودها، ويمهد لها سبيل التوليد والنماء ومذاهب الاتساع والارتقاء.
ذهب الدكتور طه حسين، رحمه الله، إلى أن ابن مضاء (لم يفكر بالإصلاح بمقدار ما فكر في هدم النحو) كما جاء في مجلة المجمع القاهري (ج/4)، وخالفه الدكتور مازن المبارك في كتابه (النحو العربي) فقال:"أما رأي الدكتور طه حسين فهو مجحف في حق ابن مضاء، وبعيد عن جادة العدل. ثم هو قبل ذلك كله حكم غريب. أو لم يناد ابن مضاء بما ينادي به- إحياء النحو- اليوم من إلغاء نظرية العامل واعتبار حركات الإعراب دلائل على المعاني، فكيف يكون هداماً أكثر منه مصلحاً في رأي من يرى في محاولة الأستاذ إبراهيم مصطفى إحياء للنحو ويصر على أن تحمل هذا الاسم؟ ".
أقول عاب ابن مضاء ما كان للنحاة من أصول، ولم يقم أصولاً جديدة تحل محلها وتغني مُغناها.. والذي فعله أنه نهج السبيل لاتخاذ هذه الأصول ووجه الفكر لبلوغ القصد وتحقيق الغاية، بل شرع في اعتماد هذه الأصول فقال (107) :"فإن قيل أنت قد أبطلت أن يكون في الكلام عامل ومعمول، فأرنا كيف يتأتى ذلك مع الوصول إلى غاية النحو؟ قلت أورد هذا في أبواب تدل على ما سواها.. وقد شرعت في كتاب يشتمل على أبواب النحو كلها فإن قضى الله بإكماله.. وإلا فيستدل بهذه الأبواب على غيرها". ولكن أين كتابه الذي حاول به اعتماد هذه الأصول كما يقول الدكتور محمد خير الحلواني في كتابه (أصول النحو العربي) ؟
النحو عند المتأخرين
تألق النحو أول ما تألق في البصرة قبل أكثر من اثني عشر قرناً ثم تبعتها الكوفة بعد أن تلمذت لها فكان لها سماتها ورواسمها. وقد مدتا بغداد بمعينها فبزغ في النحو نجم بغداد وهبت رياحها. ثم حذت مصر هذا الحذو فتلمذت للعراق وبعثت بوافديها إليها منذ أواخر القرن الثاني للهجرة، ومن هؤلاء آل المصادري وأولهم الوليد بن محمد التميمي المصادري الذي لقي الخليل في البصرة وأخذ عنه، وابنه أبو الحسن محمد بن الوليد الذي انتسخ كتاب سيبويه في بغداد، وقابل ما انتسخ بما احتفظ به المبرد من الكتاب، وعاد بالنسخة إلى مصر ليقرئها طلابه.
ووفد أبو العباس المصادري ابن أبي الحسن إلى بغداد ليلقى بها أبا اسحاق الزجاج في أواخر القرن الثالث الهجري وأخذ عنه، وخلفه أخوه أبو القاسم في إقراء كتاب سيبويه وكان دون أخيه في العلم.
وتبع هؤلاء أبو علي الدنيوري (ت 289) وقد أقام بمصر زمناً ثم قصد البصرة فلقي بها المازني وأخذ عنه كتاب سيبويه، ثم قصد بغداد وتلمذ لثعلب فأخذ عنه نحو الكوفية ثم مال إلى المبرد فسحر ببيانه، وعاد بعد هذه الرحلة إلى مصر ليذيع فيها نحو البصريين ويشيعه..
ابن هشام:
وقد استمر المصريون يتلمذون لشيوخهم في العراق ويشرحون كتبهم حتى ظهر فيهم ابن هشام أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف، وكان مصري المولد والنشأة (708-761هـ) وقد قرع صيته الأسماع وفشا ذكره على الألسنة حتى قيل انه كان أنحى علماء عصره. عرف ابن هشام بكتابه الشهير (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) وهو كتاب جليل جامع غزير المادة، انتحى المؤلف في تأليفه نهجاً جديداً، قال ابن خلدون في مقدمته:"وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة، وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها، وسمَّاه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها، فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها". أقول إذا قيس نهج ابن هشام في ترتيب الكلام على الأدوات إلى ما عرف في عصره من ذلك عُدّ ذلك نهجاً فريداً. لكنه لو قرن منها ما تشابه في الدلالة والعمل بدل أن يضم ما تدانى أوائله منها في اللفظ لكان ذلك أولى بعصرنا.
كان ابن هشام عالماً في النحو واللغة والأدب، كما كان عالماً في الفقه، ولم يعرف أنه مال في النحو إلى مذهب خاص، فقد أخذ بالقياس والعلة النحوية وكان يختار في كل مسألة ما رجح لديه فيها. ولم يخضع النحو لأصول الفقه كما اعتاد بعض النحويين في عصره. ولم يلزم الإجماع النحوي كما فعل الفقهاء في أصولهم، وتمسك به المتأخرون من النحاة كالسيوطي وأبي البقاء العكبري. وله جملة من الكتب منها الاعراب عن قواعد الأعراب وشذور الذهب وشرحه وقطر الندى وشرحه
…
السيوطي:
واشتهر من متأخري المصريين الإمام جلال الدين السيوطي (489-911) . ولد بأسيوط وتولى التدريس والفتيا وتفرغ للتأليف فأغنى المكتبة العربية وبلغت مؤلفاته المئات في علوم القرآن والحديث والفقه والعربية. ومن كتبه في العربية (الاقتراح في أصول النحو) وقد جمع فيه ما تفرق في مصادر كثيرة ورتبه في الأبواب والفصول والتراجم ترتيب أصول الفقه، كما قال ونهج في تأليفه نهج الفقيه فوقف عند الإجماع، ولم يفته، على كل حال أن يخص العلل النحوية ببحث مشبع وشرح مسهب. ثم كتاب (الأشباه والنظائر) وهو كتاب غزير المادة جزيل المباحث، وقد قال في خطبته:"قصدت أن أسلك بالعربية سبيل الفقه فيما صنفه المتأخرون فيه وألَّفوه من كتب الأشباه والنظائر". وقد اهتم فيه ببسط الآراء النظرية والعلل الجدلية. ثم كتاب (همع الهوامع في جمع الجوامع) وقد عُني فيه بالشواهد وأكثر من النقول وأجمل فيه ما تناثر في أمهات الكتب النحوية. وأظهر ما في كتب الإمام السيوطي على ضخامتها الجمع والترتيب والتبويب مع استيعاب للأصول وإحاطة بالفروع واستقصاء للمسائل، وقد دل بذلك على سعة اطلاعه ودقة إحصائه مع أمانة في النقل ورد للرأي إلى أصحابه.
نحاة الأندلس
كان نحاة الأندلس يقتفون في الغالب أثر نحاة المشرق ويأتمون بهديهم ويتعلقون بهم تعلق الفرع بالأصل ويتطلعون إليهم تطلع التلميذ إلى أستاذه. وكثيراً ما كان يرتحل علماء الأندلس إلى المشرق لينهلوا من موارده ويعودوا إلى موطنهم ليقرئوا ما قرؤوه. ومن هؤلاء عبد الملك بن حبيب ومنذر بن سعيد البلوطي وابن الفرضي وأبو الوليد الباجي. وقد كان يحدث العكس فقد دأب حكام الأندلس على استقدام كبار علماء المشرق في اللغة والأدب. ومن أظهر من وفد إلى الأندلس من هؤلاء أبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي (288-356هـ) . فقد ولد بأرمينية ونشأ فيها وقصد بغداد ينهل فيها اللغة والأدب ثم يمم شطر الغرب أقصى الغرب ليتولى التدريس في الأندلس. وقد أفاد المغرب من موقعه بين المشرق والأندلس فكان محط العلماء الوافدين إلى الأندلس والآيبين إلى المشرق، وكثيرون هم الذين تعلقوا بالمغرب فجعلوها وطناً لهم.
وقد شهدت الأندلس كثيراً من أهل اللغة كأبي موسى الهروي وقد كان لغوياً فقيهاً، ارتحل إلى المشرق فلقي مالكاً من الفقهاء والأصمعي وأبا زيد الأنصاري من علماء اللغة. كما ارتحل جودي بن عثمان الموزوري فعاد بنحو الكوفيين، ولقي من أعلامهم الكسائي والفراء. وقام ثابت بن عبد العزيز السرقسطي وابنه قاسم بزيارة المشرق فحملا إلى الأندلس معجم العين للخليل بن أحمد، وقد قام باختصاره من علماء الأندلس أبو بكر الزبيدي (379هـ) .
وقد تجلت محاكاة الأندلسيين للمشرقيين في كثير مما ألفوا. وهذا العقد الفريد ومؤلفه الأندلسي ابن عبد ربه، فقد قال الصاحب بن عباد حين ظفر بالكتاب:(هذه بضاعتنا ردت إليها) .
وقد أخذ ابن بسام على جماعته هذه المحاكاة فقال: "إن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتاده، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنماً وتلوا ذلك كتاباً محكماً فغاظني منهم ذلك- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 1 /2"
وقد استمرت الحال على هذا المنوال حتى القرن الخامس الهجري، حين شاع في الأندلس مذهب الظاهرية في أصول الفقه، وكان قد نشأ في المشرق خلال القرن الثالث الهجري وإمامه أبو سليمان الأصفهاني. قام المذهب على رفض القياس وإنكار التقليد، وتولى الدعوة إليه والاحتجاج له في الأندلس الإمام أبو محمد علي بن سعيد بن حزم الأندلسي (348-456) . وكان ابن حزم هذا يتمنى لو كان مشرقياً حين يقول:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
وتلا ذلك نبوغ ابن مضاء في القرن السادس الهجري، وقد اتخذ مذهبه في أصول النحو على مثال مذهبه الظاهري في أصول الفقه، فأنكر القياس وعوّل على النص في كتابه (الرد على النحاة) كما تقدم تفصيل ذلك، وكان عصره عصر الثورة على المشرق ومذاهبه.
ابن مالك:
ومن أشهر نحاة الأندلس المبتكرين في القرن السابع الهجري الإمام محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني ولد في بلدة جيان بالأندلس وقرأ العربية على ثابت بن محمد جيان الكلاعي، كما قرأها على ابن يعيش شارح (المفصل) . وقد انتقل إلى دمشق وتوفي فيها. (601-672هـ) وابن مالك هذا هو صاحب الألفية المشهورة باسمه، وقد كثر شرّاحها وكان من أبرز هؤلاء ابنه بدر الدين محمد بن مالك (686هـ) ، وقد عُرف بحذقه للمنطق فجاء شرحه مشوباً بالنهج المنطقي، فاختط ذلك لسائر شراح الألفية وحملهم على جادته. وإذا كان نحاة الأندلس قد نادوا بصحة استنباط القواعد اعتماداً على الحديث النبوي منذ دعا إلى ذلك الإمام ابن حزم الأندلسي في القرن السادس وتبعه في ذلك السهيلي وابن خروف، فقد كان ابن مالك أكثرهم حماسة لهذا الرأي وأشدهم استمساكاً به، وقد جرى على الاستشهاد بالحديث في كثير من الأحكام التي خالف فيها الجمهور وقد كان من أنصار هذا المذهب الجوهري وابن جني وابن فارس وابن سيده وابن بري. وهو لم يمل إلى بصرية أو كوفية وإنما اختار في كل مسألة ما هداه إليه اجتهاده بالحجة.
أبو حيان:
وقد تألق بعد ذلك نجم أبي حيان الأندلسي الغرناطي المولد والمنشأ (654-754هـ) وله من الكتب سفره الضخم في التفسير وهو (البحر المحيط) ، وله (شرح التسهيل) ومختصره (ارتشاف الضراب) وإذا كان أبو حيان قد بدا ذا أسلوب منطقي في تعريفه للحدود وتحليلها فقد ابتعد عن الغلو في التعليل. وإذا كان قد استمسك بالنص وعاف من التأويل ما كان متكلفاً فإنه لم يدع القياس بل عول عليه في أحكامه. وقد حمله استمساكه بالنص على اهتمامه بالقراءات القرآنية جميعاً واشتغاله بها، وعاب على النحاة ترددهم في التعويل عليها وقال:"ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة- البحر المحيط- 4/271"، كما عاب عليهم المفاضلة فيما بينها (2/265) وقال:"القراءات لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه- 2/263".
ولا يمكن الحديث، على كل حال، عن نحو أندلسي بسمات خاصة ورواسم فريدة، على إحاطة النحاة الأندلسيين وجدوى ما رفدوا به النحو من جدة في البحث والاجتهاد فإنهم لم يتفردوا فيه بخط عام يميزه من نحو المشرق عامة بعد ابن مضاء.
***
يتبين بهذا كله أنه لا بد من التعويل على القياس، والأخذ بالعلة والاقتصار منها على ما دعوه بالعلة التعليمية والعلة القياسية، فلا نغلو في التعليل ونمضي فيه حتى نخضع اللغة لأصول المنطق والفلسفة ونهج الجدل والحجاج، فننأى بها عن خصوصها وطبيعتها. قال الزجاجي في (إيضاح علل النحو) :"قد عرّفناك أن الأشياء تستحق المرتبة والتقديم والتأخير على ضروب فنحكم لكل واحد بما يستحقه، وإن كانت لم توجد إلا مجتمعة. فنقول ان الجسم الأسود قبل السواد، ونحن لم نر الجسم خالياً من السواد الذي هو فيه، ولا رأينا السواد قط عارياً عن الجسم، بل لا يجوز رؤيته لأن المرئيات إنما هي الأجسام الملونة، ولا ندرك الألوان خالية من الأجسام..". فما حاجة النحو إلى جدل لفظي لا درك فيه، وبحث فلسفي لا غناء له في صنعة نحو أو بيان. وقال نحوي في تعليل أن (هل) إما أن تباشر الفعل كقولك:(هل قدم زيد) أو تباشر اسماً لا يقع في تعليل حيِّزه فعل. تقول: (هل زيد قادم) ولا تقول: (هل زيد قدم)، قال:(إن هل إذا لم تر الفعل في حيِّزها حنت إليه لسابق الألفة فلم ترض حينئذ إلا بمعانقته) فما حاجة النحو إلى مثل هذا العبث والتخييل وهل يجديه ذلك نفعاً أو يسوق إليه بياناً أو يوجب له حسناً؟
ولا مناص من أن يفسح للسماع ويوسع له، ولو خالف القياس، فقد يستدعيه الاستعمال وتقتضيه حاجة التعبير. ذلك أن كثيراً من الشاذ المتأول إنما يثبت الأصل الذي انزوى عنه وينبه على أن مجانبته لهذا الأصل وانفراده عنه بالحكم، إنما كان لداع في التعبير أوجبه الاستعمال، على ألا يعتمد هذا الشاذ لترسى فيه قدم قياس يبطل الأصل الثابت.
مثال ذلك مجيء السماع بجمع المصيبة على المصائب والقياس المصيبات، فقد كان ذلك لعلة رعوها. ذلك أنهم أنزلوا (المصيبة) وهي صفة في الأصل منزلة الأسماء، فحملهم ذلك أن يجمعوها جمع الأسماء على (مصائب) . وهكذا جاء السماع بجمع (المسن) على صيغة اسم الفاعل، من الآدميين أو غيرهم، على (المسان) بفتح الميم وتشديد النون. وذلك لعلة موجبة، فقد اشتهر استعمال (المُسِن) منقطعاً عن موصوفه فأنزل منزلة الأسماء فكان من شأن ذلك تكسيره تكسيرها. ونحو ذلك جمعهم مخزية على مخاز ومدينة على مداين ومدائن ومطيحة على مطاوح والمصحف على المصاحف والموسى على المواسي.
وهكذا (الخضراء) فهي في الأصل صفة للبقلة لكنها استعملت استعمال الأسماء، فقيل (ليس في الخضراوات صدقة) أي في البقول فجمعت جمع الأسماء دون الصفات. وكذلك القول في (نكباء ونكباوات) وهي الريح التي تنكبت عن الرياح الأربع، وفي (دكاء ودكاوات) للأرض إذا انبسطت فأشبهت الرابية.
والقياس في استفعل) إذا اعتلت عينه أن يُعل أي يقلب حرف علته (واواً أو ياء) ألفاً. نقول استجاب واستمات واستكان، وشذ قولهم:(استجوب) لأنهم أرادوا أن ينبهوا على اشتقاقه من (الجواب) كما اشتق (استتيس واستفيل) من التيس والفيل. وقالوا: (أغيم) من الغيم و (أعوه) من العاهة.
وقالوا في (مفعلة) المشتقة من الاسم: شراب مطيبة بفتح الياء ودواء مبولة بفتح الواو، أي يدعو إلى الطيب والبول، وأرض مفيأة ومثورة يكثر بها الثور والفيء. ولو اشتقت (مفعلة) من الفعل لجاءت بالإعلال أي قلب حرف علتها (الواو أو الياء) ألفاً كالمقالة والمقامة والمنامة والمنارة والمثابة، وهو الأصل والقياس، ذلك فرقاً بين مفعلة الاسمية ومفعلة الفعلية.
ولا معدل عن أن ننأى بالنحو أن يكون علماً يعرف به أحوال الكلم أعراباً وبناء فيقتصر البحث فيه على أواخر الكلمات ويشوبه من جفاف القواعد ما لا يترقرق فيه ماء بيان أو تشرق به ديباجة كلام. فالقريب المختار أن يكون علم النحو قسم علم المعاني فيغدو كل تتمة الآخر. قال ابن كمال باشا في رسالته: (ويشارك النحوي صاحب المعاني في البحث عن المركبات إلا أن النحوي يبحث عنها من جهة هيئتها التركيبية صحة وفساداً، ودلالة تلك الهيئات على معانيها الوضعية على وجه السداد، وصاحب المعاني يبحث عنها من جهة حسن النظم المعبر عنه بالفصاحة في التركيب وقبحه.. فما يبحث عنه في علم النحو من جهة الصحة والفساد، يبحث عنه في علم المعاني من جهة الحسن والقبح، وهذا معنى كون علم المعاني تمام علم النحو) .
ونختتم فصلنا هذا بما جاء به الإمام السيد في شرح المفتاح، إذ قال:"البحث في اللغة اما عن المفردات من حيث جواهرها وموادها وهيأتها، فعلم اللغة، أو من حيث صورها وهيأتها فقط فعلم الصرف، أو من حيث انتساب بعضها إلى بعض بالأصالة والفرعية فعلم الاشتقاق، وأما عن المركبات فباعتبار هيأتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية فعلم النحو، وأما باعتبار تأديتها لمعان مغايرة لأصل المعنى فعلم المعاني، وأما باعتبار كيفية تلك الإفادة في مراتب الوضوح فعلم البيان".