الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسائل صرفيّة
ومَا يَعترض الكتّابَ فيها من اللَبس والإشكال
1 ـ فيما جاء من الأفعال مبنياً للمجهول:
كثيراً ما يعمد الكتّاب إلى بناء أفعال للمعلوم، للتعبير عما أرادوه من المعاني، وهي لا تُبنى إلا للمجهول.
يقولون توفى خالد، بفتح التاء وفتح الفاء المشددة، والمشهور عن العرب قولهم (تُوفِّي فلان) ، بالبناء للمجهول، بضم التاء وكسر الفاء المشددة و (توفاه الله ففلان مُتوفّى) ، بضم الميم وفتح الفاء.
وقد بحث هذا مؤتمر مجامع اللغة العربية بالقاهرة عام (1980م) ، وعُرض على اللجنة المختصة قول القائل (فلان المتوفّي) بكسر الفاء المشددة فردَّه الأكثرون واقتصروا على قول القائل (فلان المُتوفَّى) بفتح الفاء المشددة دون كسرها. وقد قلت المشهور عن العرب بناء الفعل للمجهول، ذلك أنه جاء قوله تعالى: ?والذين يتوفَّوْن منكم ويذرون أزواجاً?. [البقرة ـ 234] ". فقُرئ ?يُتَوفَّون? بالبناء للمجهول بضم الياء، لكن ثمة قراءة له بالبناء للمعلوم بفتح الياء، وهي قراءة سيدنا علي (رض) فيكون معناه: والذين يستوفون آجالهم منكم، والأجل مدة الحياة.
وهكذا تقول: احتضر فلان، بضم التاء، إذا حضرته الوفاة فهو محتضر، بفتح الضاد. ومثله: حُضِرَ فلان بضم الحاء وكسر الضاد
…
وتقول: استشهد فلان بضم التاء وكسر الهاء إذا مات شهيداً
…
وكذا: شُفِيَ فلان بضم الشين وكسر الفاء إذا شفاه الله
…
وتقول: نُكِسَ فلان بضم النون وكسر الكاف إذا عاوده المرض فنكسه، ونُزف فلان بضم النون وكسر الزاي، ونزف الجرح بضم فكسر إذا نزفه الدم
…
ونُزِفَ صبره، بضم فكسر
…
وهُزل فلان بضم الهاء وكسر الزاي، وقد هزله السفر والجدب، فهو هزيل ومهزول، وقد وقع في هُزال بضم الهاء
…
وقد نهك فلان بضم النون وكسر الهاء إذا نهكته العلَّة فهو منهوك
…
وجُدر فلان بضم فكسر، وجُدّر بالتشديد، إذا أصابه الجَدري بفتح الجيم أو ضمها وفتح الدال، فهو مجدور ومجدَّر بفتح الدال المشددة.
وحُصِبَ فلان بضم فكسر، على المجهول، وحصب بفتح فكسر على المعلوم، إذا ثارت به الحَصبة بفتح الحاء، وفتح الصاد أو كسرها أو سكونها، فهو محصوب..
وامتُقع لونه بضم التاء وكسر القاف، وانتقع بإبدال الميم نوناً، وزُعق فلان بضم فكسر على المجهول، وزَعِقَ بفتح فكسر على المعلوم، وانزعق إذا خاف ليلاً.. واعتقل لسانه من الخجل بضم التاء وكسر القاف على المجهول.
ونقول اضطر فلان إلى كذا بضم الطاء المشددة دون فتحها، إذا اضطره أمر بفتح الطاء المشددة، وعليه قوله تعالى: ?إلَاّ إذا اضطُررتم إليه? [الأنعام ـ 119] . بضم الطاء المشددة، وقوله تعالى: ?فمن اضطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فإن ربك غفور رحيم? [الأنعام ـ 145] . بضم الطاء المشددة أيضاً، فإذا أردت بناءه للمعلوم قلت:(اضطرَّه ماهو فيه من ضيق إلى كذا) بفتح الطاء، وعليه قوله تعالى: ?نمتّعهم قليلاً ثم نضطرَّهم إلى عذاب غليظ? [لقمان ـ 24] . بفتح الطاء.
ويقول الكتاب (استهتر فلان بالقانون) إذا استخفَّ به ولم يبال، وهم يلفظون (استهتر) بفتح التاءين، فيخطئون في قولهم مرتين: الأولى أن (الاستهتار) يعني الولوع بالشيء بلا حد، لا إغفاله والاستهانة به، والثانية: أن الفعل يُبنى للمجهول فيقال (استُهتِر فلان بالقراءة) إذا أولع بها بلا حد، بضم التاء الأولى وكسر الثانية. ففي الأساس:"ومن المجاز هو مهتر به: بضم الميم وفتح التاء ومُستَهتَر به، بضم الميم وفتح التاءين: مفتون ذاهب العقل، وقد أهتر بفلانة واستهتر بها" ببناء الفعلين للمجهول. وقد جاء في كتاب البصائر والذخائر لأبي حيَّان التوحيدي: "قيل لرجل استهتر بجمع المال، بضم التاء الأولى وكسر الثانية، ما تصنع بهذا كله؟.. قال لرَوْعة الزمان وجَفْوة السلطان وبخل الأخوان ودفع الأحزان"، فالاستهتار بجمع المال هو الانصراف إليه والولوع به بلا حدّ.
وثمة (شغف) تقول شُغِفْتُ به بضم الشين مبنياً للمجهول، بمعنى علقت به وكلفت. على أنك تقول كذلك (شَغِفْت به) بفتح أوله مبنياً للمعلوم أيضاً ـ وتقول من الأول: فهو مَشْغوف، ومن الثاني: فهو شَغِفٌ بفتح فكسر، كما في القاموس، وهو القياس فيه، ذلك أن ماكان لازماً من الأفعال على (فَعِلَ) بفتح فكسر فالصفة المشبهة منه، كما جاء في (همع الهوامع- 2 /199 وسواه، على (فَعِل) بفتح فكسر،، إذا كان للأعراض كفرِحَ فهو فَرِحّ بفتح فكسر. وعلى (أفعل) إذا كان للعاهات والألوان كأحمر وأسود وأعور وأجهر. وعلى (فعلان) إذا كان للامتلاء وضدَّه كشبعان وريَّان وصَدْيَان وعَطْشان.
ولك أن تقول (هو شغوف به) على (فعول) للمبالغة، وقد قال بعض الأئمة بقياس بعض صيغ المبالغة، من المتعدي دون اللازم ومنها (فعول) . ولكن أطلق مؤتمر مجامع اللغة العربية بالقاهرة عام (1986)، القول بقياس هذه الصيغ إذ أقرَّ (إجازة القول بقياسية صَوْغَ أمثلة المبالغة من الأفعال اللازمة والمتعدّية. وقد جاء في قرار مؤتمر المجامع القاهري المتضمن إطلاق القياس في (فعول) :
"الشائع من أقوال النحاة منع مجيء فعول من الفعل اللازم للمبالغة بناء على أن أمثلة المبالغة إنما تجيء من المتعدّي، وأن صيغ الصفة المشبهة ليس من القياس فيها صيغة فعول. ونظراً لما استظهرته اللجنة من ورود أمثلة تزيد على المئة لفعول من الأفعال اللازمة فهي ترى قياسية صوغ فعول للدلالة على المبالغة أو الصفة المشبهة
…
وبعد المناقشة أقرَّ المؤتمرون جواز استعمال صيغة فعول من اللازم على أنها للمبالغة أو صفة مشبهة
…
حين الحاجة ـ 1975م"، وهكذا تقول (هو شغوف به) من (شَغِفَ) بفتح فكسر، كما تقول غضوب ولعوب ورؤوم وفروق من غضب ولعب ورئم وفرق، بفتح فكسر فيها جميعاً.
2 ـ في صيغ المزيد من الفعل الثلاثي:
آـ افتعل:
افتعل صيغة من صيغ الفعل الثلاثي المزيد. ولا خلاف في أنه سماعي. فليس لك أن تصوغ (افتعل) من فعل مجرد وتأتي به على ما يوافق أصل الفعل تعدية أو لزوماً، مالم يرد بذلك سماع. ومن ثم لحنوا قول القائل (احتار) ، ولو تسمح به بعض المحدثين، إذ لم يسنده سماع أو يسعفه قياس معروف.
وقد اجتهد الشيخ ظاهر خير الله، من المحدثين في كتابه (المنهاج السوي في التخريج اللغوي) في وضع ضابط لما جاء على صيغة (افتعل) ، فاشترط أن يكون الفعل مما يتعمده العاقل عقلاً أو إرادة. فإذا صحَّ هذا ألزمك الضابط أن تمنع (افتعل) من (حار وخشي) ، ومن (سقم ومرض) ، إذ لا يتأتى أن يتعمد العاقل مثل هذه الأفعال عادة فأنت لا تقول احتار واختشى أو استقم أو امترض. ولكن مابالك تقول (اعتلَّ) من (علّ)، ولا يتأتى أن تريد (العلة) لنفسك أو تتعمدها؟ أقول المعوَّل هنا في تقصي دلالة الفعل: الدلالة الأصلية. وأصل معنى (علّ) تابع. ففي الصحاح: "وعلّ الضارب المضروب إذا تابع عليه الضرب"، وأردف:"والعلة المرض وحدثٌ يشغل صاحبه عن وجهه، كأن تلك العلة صارت شغلاً ثانياً منعه من شغله الأول". وتابع قوله: "واعتلّ عليه بعلة إذا اعتاقه عن أمر". ومادام أصل معنى الفعل هو التكرار والمتابعة، لم يتوجه على الضابط الذي أتى به الشيخ عيب أو نقد.
ويكون (افتعل) متعدياً كما يكون لازماً. فإذا كان متعدياً كانت له صور متعددة أظهرها أن يراد به القيام بالفعل عمداً أو قصداً أو تخصيصاً، فأنت تقول شممت الورد ولا يعني هذا أن الشم قد حصل بالعمد أو القصد، فإذا قلت اشتممت الورد فقد أردت العمد، وهكذا قولك استمعت الحديث بدلاً من سمعته، واحتللت البلد بدلاً من حللته، وكذا قولك خصصته واختصصته، وكسبت المال واكتسبته، ففي الاكتساب تخصيص. فإذا قال الرازي في مختار الصحاح:"كسب واكتسب بمعنى"، فأجمل المراد من الفعل وحكى ما جاء في صحاح الجوهري، فقد قال الأصفهاني في مفرداته:"والاكتساب لا يقال إلا فيما استفدته لنفسك، فكل اكتساب كسب، وليس كل كسب اكتساباً"! وعندي أن نحو ذلك (كال واكتال) ، ولو لم أرَهْ في شيء من كلام الأئمة. فكل اكتيال كيل، وليس كل كيل اكتيالاً. ذلك أنه إذا قلت:(اكتلت) فقد كلت لنفسك، وليس كذلك (كلت) . قال تعالى: ?ويلٌ للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون? [المطففين ـ 1 ـ3] . فقد جاء?إذا اكتالوا على الناس?، أي إذا كالوا لأنفسهم على حساب الناس ـ يستوفون. كما جاء ?وإذا كالوهم? أي إذا كالوا للناس ـ يُخسرون. وهكذا: مشط وامتشط وأدم وائتدم وغسل واغتسل. على أن (اكتال وامتشط وائتدم واغتسل)، لم يسمع إلا لازماً. وقوله تعالى: ?فأرسلْ معنا أخانا نكتل? [يوسف ـ 63] . شاهد آخر يؤيِّد ما ذهبنا إليه.
فإذا كان (افتعل) لازماً فأوضح صورة أن يدل على المطاوعة، كقولك أبعدته فابتعد وأسعرت النار وأضرمتها فاستعَرَتْ واضطرمتْ، ومددته فامتد وجمعته فاجتمع وخصصته بالمعونة فاختص بها أي انفرد. وكل فعل مطاوع لازم، ولا عكس.
ومما جاء من (افتعل) لازماً ومتعدياً (اختص) . ومثال المتعدي قوله تعالى: ?والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم? [البقرة ـ 105] . أي يختص من يشاء اختصاصه، برحمته. فحذف المضاف فبقي (من يشاؤه)، ثم حذف الضمير. ويجوز أن يكون (يشاؤه) : يختاره فلا يكون فيه حذف مضاف.
ومثال (اختص) اللازم، ماجاء في اللسان:"اختص فلان بالأمر وتخصص له أي انفرد به".
ونحو ذلك قولك (اختص فلان بخدمة فلان) . وثمة (اختص إليه) بمعنى: انتمى. ففي الكامل للمبرَّد: "يمت إليكم بالعمومة ويختص إليكم بالخؤولة"، وثمة (اختص) بمعنى: افتقر، كما في أساس البلاغة للزمخشري. وغريب على هذا قول ناقد في كلمة يومية:(اختص مطاوع) . وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: ?والله يختص برحمته من يشاء?، فاختص المطاوع فعل لازم، واختص في الآية متعد!..
***
وقد جاء على (افتعل) أفعال أشكل على الكتاب صوغ اسم الفاعل منها. ومن ذلك (اطّرد) بتشديد الطاء ومعناه جرى وتبع بعضه بعضاً. تقول هذا لا يطَّرد أي لا يتتابع فلا يجري على وتيرة أو قياس. والكتَّاب يعرفون ذلك، لكنهم إذا أتوا باسم الفاعل منه قالوا حيناً (مضطرد) بالضاد بين الميم والطاء بدلاً من (مطَّرد) ، بتشديد الطاء. فما سر المسألة؟
أقول جاء في المصباح: "واطّرد الأمر اتبع بعضه بعضاً واطّرد الماء كذلك، واطّردت الأنهار جرت، وعلى هذا فقولهم اطَرد الحدُّ معناه تتابعت أفراده، وجرى مجرى واحداً كجري الأنهار". وهو واضح. ولكن ما صيغة (اطّرد) ؟ اطّرد وزنه افتعل والثلاثي منه (طرد) . فافتعل من (طرد) هو اطترد بالتاء بعد الطاء. والقاعدة أن تقلب التاء هنا طاء فيصبح اطّرد بتشديد الطاء، واسم الفاعل منه مطّرد بتشديد الطاء لا (مضطرد) كما يقول الكتَّاب خطأ.
وهكذا الأمر في كل ما كان أوَّل حرف من ثلاثيه ظاء أو صاداً أو ضاداً. فإذا أتيت بافتعل من (طلع) قلت اطتلع، فإذا قلبت التاء طاء كان (أطّلع) بتشديد الطاء. وتدعى أحرف (الصاد والضاد والطاء والظاء) أحرف الإطباق.
فإذا جئت بافتعل من (ضرب) قلت (اضترب)، فإذا قلبت التاء طاء كان (اضطرب) . ففي الأساس:"ورجل مضطرب الخلق متفاوته، وفي رأيه اضطراب، واضطرب من كذا: ضجر".
وفي المصباح: "ورميته فما اضطرب أي ما تحرَّك، واضطربت الأمور اختلفت". ولا يكاد الكتَّاب يخطئون فيه كما يخطئون حيناً في قولهم (مضطرد) بدلاً من مطّرد بتشديد الطاء.
وإذا جئت بافتعل من (ضرّ)، قلت اضترّ بالتاء فإذا قلبت التاء طاء كان (اضطرّ) واسم الفاعل (مضطر) . ففي المصباح:"وضره إلى كذا واضطره بمعنى ألجأه، وليس له من بُد. والضرورة اسم من الاضطرار".
وإذا جئت بافتعل من (صاد) ، قلت (اصتاد) بالتاء، فإذا قلبت التاء طاء قلت (اصطاد)، وهكذا (صلح) تقول منه (اصطلح) ومن (صبر) :(اصطبر) .
وإذا جئت بافتعل من (ضلع) ، قلت (اضتلع) بالتاء، فإذا قلبت التاء طاء كان (اضطلع) ، واسم الفاعل منه (مضّطلع)، تقول: اضطلع فلان بالمهام إذا نهض بها فهو مضطلع.
وإذا أتيت بافتعل من (ظلم) قلت (اظتلم) بالتاء، فإذا قلبت التاء طاء قلت (اظطلم) . لكنه جاء (أظّلم) . بتشديد الظاء كما جاء (أطّلم) بتشديد الطاء، وهكذا (ضجع) تقول منه اضطجع واضَّجع بتشديد الضاد واطَّجع بتشديد الطاء.
***
وجاء على (افتعل) أفعال لازمة متعدية معاً. تقول اختبأه فاختبأ وانتسخه فانتسخ وازداده فازداد واشتهره فاشتهر، واحتجزه فاحتجز واحتبسه فاحتبس واشتاق فاشتاق وارتبطه فارتبط وانتظمه فانتظم وارتقاه فارتقى وافتتنه فافتتن
…
ب ـ استفعل:
صيغة أخرى من صيغ مزيد الفعل الثلاثي، وهو يدل على معان مختلفة، أهمها الطلب والسؤال، وهو الغالب فيه، وقد ذهب مؤتمر المجامع اللغوية العربية بالقاهرة إلى قياسه. تقول استعان واستغفر إذا طلب العون والمغفرة واستنجد واستغاث، إذا طلب النجدة والغوث. كما تقول استمات إذا جاهد في القتال، واستخرج المعدن إذا اجتهد في إخراجه، وكذا استنبط الماء واستوقد النار، وهو من باب الطلب أيضاً، والاستئمان طلب الأمان.
وقد أقر مؤتمر المجامع اللغوية بالقاهرة، مما خلت منه المعاجم: استعرض القائد جنده واستقطب الأستاذ طلابه واستجمع الرجل قواه. ومن طريف ماجاء من أقوال الأئمة قول ابن المقفع في الأدب الصغير: "وأعمال السلطان كثيرة، وقليل ما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد ـ شرح اسماعيل يوسف/ 157"، فقد بنى الشارح (تستجمع) للمجهول واعتدَّه متعدياً، والأصل أن يبنيه للمعلوم لأنه بمعنى (تجمع) والمراد: وقليل تجمعها. وفي كتاب (حجج النبوَّة) للجاحظ قوله: "وقلت: ولابد من استجماع الأصول ومن استيفاء الفروع
…
ومن حسم كل خاطر وقمع كل ناجم وصرف كل هاجس ودفع كل شاغل/147 ـ للسندوبي". فقد جاء بـ (استجماع) وأعقبه بـ (استيفاء)
…
وحسم
…
وقمع وصرف ودفع) ، وكلها مصادر لأفعال متعدّية فأوحى باحتمال تعدية (استجمع) !..
وفي لغة الكتَّاب قول القائل (استهدف فلان النجاح أو الربح) إذا اتخذه أو جعله هدفاً له، وهو استعمال معاصر حديث أقره مؤتمر مجامع اللغة. واستهدف في المعاجم فعل لازم، فالهدف الغرض، وأهدف لك الشيء واستهدف إذا انتصب، كذا في الصحاح والمصباح وسواهما. وفي اللسان:"يقال لكل شيء دنا منك وانتصب لك واستقبلك قد أهدف لك الشيء واستهدف". وفي المثل: "من ألَّفَ فقد استهدف". أي تعرض للنقد فأصبح هدفاً له. وقد جاء في نهج البلاغة: "دارٌ بالبلاء محفوفة ـ أي الدنيا
…
وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها وتفنيهم بحمامها ـ 2/246". والحمام الموت، وقد جعل الشارح (مستهدفة) مبنية للمفعول بفتح الدال والصواب فيها (مستهدفة) بكسر الدال مبنية للفاعل، أي أصبح أهلها أغراضاً منتصبة تُرمى بالسهام. لأن الفعل لازم كما رأيت. فإذا أخذنا بما أخذ به مؤتمر المجامع كان لنا أن نقول:(استهدفت النجاح أو الربح فاستهدف لي) ، أي فأصبح هدفاً لي و (استجمعت الأصول فاستجمعت لي) أي تجمعت لي، كما قال العرب:(استنسبني فاستنسبت له) أي طالبني بذكر نسبي فذكرته له، على ما سيمر بك بعد حين.
ومن معاني (استفعل) الحينونة تقول استحصد الزرع إذا حان حصاده واستجزَّ الصوف إذا حان جزّه واسترم الحائط إذا حان أن يرم ويصلح. وفي أساس البلاغة: "رممت من البنيان ما استرم منه"، بضم التاء في (استُرِمَ) ، وكسر الراء بالبناء للمجهول، وهو خطأ في النسخ، والصواب (ما استرَمَّ منه) بفتح التاء والراء، بالبناء للمعلوم، أي ما حان أن يُرمَّ منه، وهو الجانب المتهدم، ويؤيد ذلك نص الصحاح ومختاره واللسان، كما تقول استهدم الجدار بفتح التاء والدال إذا مال إلى السقوط فحان هدمه. وقد حمل الدكتور مصطفى جواد في كتابه (المباحث اللغوية بالعراق) ، حمل باب (الحينونة) هذا على (الطلب) ، لأن الحائط إذا استرَمَ مثلاً فكأنما يطلب أو يُريد أن يُرم، إذا أضفت الحياة إلى (الحائط) كما أضيفت إلى (الجدار)، في قوله تعالى: ?فوجد فيها جداراً يريد أن ينقضَّ? ـ الكهف/77". وقد نسبت الإرادة إلى الجماد، وهي من صفات من يعقل مجازاً بطريق المشابهة، لأن الجدار إذا شارف الانقضاض والسقوط شابه من يعقل ويريد، إذا همَّ بذلك، وكذلك قول الشاعر:
ويعدل عن دماء بني عقيل
يريد الرمح صدرَ أبي براء
ومن معاني (استفعل) الصيرورة والتحول، تقول استحجر الطين، إذا صار حجراً، وفي حكم ذلك قولك استنوق الجمل إذا صار كالناقة، وهكذا استأسد واستنسر واستفيل إذا صار كالأسد والنسر والفيل. وقد ذهب مؤتمر المجامع اللغوية بالقاهرة إلى قياسه حين الحاجة إلى مدلولاته.
ومن معاني (استفعل) : الاتخاذ والجعل كقولك استعبد زيد الناس واستأجر الغلام واستخلف فلاناً. وهكذا استقضاه إذا ولاه قاضياً واستسفره إذا جعله سفيراً. وقد جاء في نهج البلاغة (2/ 84) : "وقد استسفروني بيني وبينكم"، أي اتخذوني وسيطاً وسفيراً. وقد جعله مؤتمر المجامع اللغوية قياساً كلما احتيج إليه في التعبير.
ومن معانيه الاعتقاد والرأي كقولك استحسنته إذا رأيته حسناً، وكذا استقبحته واستهجنته واستشبعته، واستنصحته إذا عددته نصيحاً، وهكذا استعظمته إذا أصبته عظيماً واستكرمته إذا أصبته كريماً.
وقد يأتي (استفعل) بمعنى (فعل)، وقد قال بذلك كثير من الأئمة كابن قتيبة والفارابي والزمخشري وابن يعيش وابن الحاجب والرضي. ومثال ذلك استمر بمعنى مرّ. ففي مختار الصحاح "ومرَّ مروراً أيضاً بمعنى ذهب واستمرَّ مثله". وهكذا قرَّ واستقر. وقد ذهب الرضي في شرح الشافية إلى أن (استفعل) هنا يدل على مبالغة الفعل إذ قال:"قوله استفعل بمعنى فعل نحو قرَّ واستقرَّ، لابد في استقر من مبالغة". ومن هذا القبيل عجب منه واستعجب وصعب عليه واستصعب ونفر القوم واستنفروا ونقع الماء واستنقع وعجم الكلام واستعجم.
وقد يأتي استفعل بمعنى تفعل كاستثبت وتثبت واستيقن وتيقن واستنجز وتنجز واستخفى وتخفى.
وقد يأتي استفعل لدلالتين معاً كقولك (استنسبني فاستنسبت له) أي سألني أن أذكر نسبي فذكرت له، وهكذا قولك (استعجلته فاستعجل) ، أي سألته العجلة فاستجاب. وقيل في تعليل هذا أن المراد بقولك (فاستعجل) طلب العجلة من نفسه، كما جاء في المخصص لابن سيده (ج/14)، قال سيبويه:"فإذا قلت استعجلتُ غير متعدٍ إلى مفعول فقد طلبت ذلك من نفسك وكلفتها إياه"، وذكر الزمخشري نحو ذلك. وتقول استعرفت الشيء إذا عرفته واستعرفت إلى فلان إذا انتسبت له ليعرفك.
***
ومما يخطئ به الكتَّاب صوغ (استفعل) إذا كانت عينه ولامه حرفاً مشدداً مدغماً، نحو (استبدَّ) ، فالدال المشددة المدغمة هي عين الفعل ولامه، فإذا أرادوا إلحاق تاء الفاعل بالفعل قالوا (استبديْت) بإضافة الياء الساكنة بعد الدال المشددة تخفيفاً، كما قالوا في (استقلَّ) و (استغلَّ) :(استقّليت واستغّليت. والقاعدة في ذلك فك الإدغام في الحرف المشدد وهو الدال في (استبدَّ) . واللام في (استقلَّ واستغلَّ) . فتقول: (استبددتُ واستقللتُ واستغللت)، كما تقول: استكتبت، ولا وجه لإدخال الياء الساكنة البتة.
وقد يلجأ العرب إلى التخفيف أحياناً إذا تكرر الحرف فيبدلون الأخير منه ياء ساكنة. قال ابن جني في الخصائص (ج2، ص 91 و92) : "ومنه قصَّيت أظفاري وهو من لفظ قصص، وقد آل بالصنعة إلى لفظ قصى. وجاء تقضّضّ فأحالوه إلى تقضّى استثقالاً لتكرر الحرف، وقالوا: تقضَّى البازي إذا هوى ليقع، بإبدال الضاد الثانية ياء كما قالوا تظنّى بدلاً من تظنن، وتمطى بدلاً من تمطط، وتقصّى بدلاً من تقصص وتسرَّى بدلاً من تسرر"، وأردف: "على أن هذه الأمثلة المسموعة تحفظ ولا يقاس عليها.
وقد عقد سيبويه في كتابه (2 /401)، فصلاً في ذلك قال فيه:"هذا باب ما شذَّ فأبدل مكان اللام ياء لكراهية التضعيف". وفعل نحو ذلك ابن السكّيت في كتابه (القلب والإبدال)، وأبو الطيب اللغوي في كتابه (الإبدال) : كما ذكره ابن سيده في المخصص (ج13) . وآخرون. ونحا نحو ذلك كثير من المحدثين لاسيما الدكتور إبراهيم أنيس في (الأصوات اللغوية/126) ، والدكتور عبد العزيز مطر في كتابه (لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة) ، وسواهما.
ج ـ تفعّل:
تفعّل بتشديد العين صيغة أخرى من الثلاثي المزيد. وما كان على هذه الصيغة يدل غالباً على مطاوعة، تقول حذَّرْتَه فتحذَّر ونبهته فتنبَّه وعزَّيته فتعزَّى. فتحذر وتنبه وتعزى أفعال لازمة مطاوعة.
أو يدل على تكلّف كتشجّع وتحلّم وتجبّر، وهي أفعال لازمة، وتحرَّى وتدبَّر وتوخَّى، وهي أفعال متعدية.
أو يدل على تكلف معاناة أو احتمال مشقة كتجشَّم وتحمّل وتكلَّف وهي أفعال متعدية، وتجلّد وتعسَّر وتصبَّر وهي أفعال لازمة.
وفي اللغة (تنزَّل) بتشديد الزاي، وهو بوزن (تفعل) ، فما معناه وما دلالته؟
…
أقول تنزَّل معناه نزل، وهو فعل لازم. ففي مفردات الراغب الأصبهاني: "وأما التنزل بالشيء فهو كالنزول به. يقال: نزل الملَك بكذا وتنزَّل.. قال تعالى: ?تنزَّلُ الملائكةُ والروح فيها بإذن ربِّهم من كل أمر?. [القدر ـ 4] . وقال تعالى: ?وما تنزلت به الشياطين? ـ[الشعراء ـ 210] . وأصل تنزَّل في الآية الأولى: تتنزَّل، وقد جاء بحذف إحدى التائين. ومن، في قوله: من كل أمر، للسبب، أي من أجل كل أمر. وقوله تعالى: ?وما تنزَّلت به الشياطين? أي ما نزلت به، وهو القرآن، وبعد هذه الآية: ?وما ينبغي لهم وما يستطيعون?.
أما دلالة (التنزل) فهي النزول في مهلة مع امتداد الزمن، ونحو ذلك تروَّى وتفكَّر. ففي الصحاح:"والتنزل بتشديد الزاي: النزول في مهلة". فالتنزل بالشيء وتنزيله بمعنى النزول به أو إنزاله في مهلة، على دفعات مقسَّطاً. أما النزول به وإنزاله فعلى دفعة واحدة، في غير مهلة) . كما في مفردات الراغب. وفي كلمة يومية لناقد قوله:(ومن على هذا المرقى تنزلت عليك المشيئة كلمتها) . وفي هذا القول خطآن: الأول مجيء الفعل متعدياً وهو لازم، والثاني أن التنزل هو النزول في مهلة مع امتداد الزمن كتفكّر وتأنّي وتروّي، وليس المراد كذلك.
وثمة (تكرّم) بتشديد الراء، وهو بوزن (تفعّل) فما معناه وما دلالته؟ أقول (تكرَّم فلان) يعني أنه تكلَّف أن يكون كريماً. ففي الصحاح: "والتكرَّم تكلَّف الكرم وقال:
أخا كرمٍ إلَاّ بأن يتكرما"
"تكرَّم لتعتاد الجميل ولن ترى
والكتَّاب يفهمون من قولهم (تكرَّم فلان علينا) يعني أكرمنا، وأفضل علينا، وأندى وأجدى، وليس الأمر كذلك، فتكرَّم عليه لا يعني أكرمه بحال من الأحوال. وجاء (تكرَّم عنه) بمعنى تنزَّه. ففي أساس البلاغة للزمخشري: "وهو يتكرَّم عن الشوائن
…
وكرمه عن كذا بتشديد الراء: نزهه".
ولكن ما القول في (تفضل) ؟ أقول جاء (تفضل عليه) بمعنى أفضل عليه، كما جاء بمعنى ادعى الفضل. ففي الصحاح: "وأفضل عليه وتفضل بمعنى، والمتفضل أيضاً الذي يدعي الفضل على أقرانه، ومنه قوله تعالى: ?ما هذا إلَاّ بشر يريد أن يتفضَّل عليكم? [المؤمنون ـ 24] . أي يريد أن يكون له الفضل عليكم. فتفضل بمعنى أفضل وأنعم وهو بمعنى ادَّعى الفضل أيضاً.
وثمة (تكتم) على تفعل أيضاً فما القول فيه؟..
أقول في اللغة (كتم) الثلاثي، تقول (كتم الخبر) ، فينصب مفعولاً، و (كتمته الخبر) فينصب مفعولين، وشاهد الأول قوله تعالى: ?وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه? [غافر ـ 28] . وشاهد الثاني قوله تعالى: ?ولا يكتمون الله حديثاً? [النساء ـ 42] . وهكذا جاء كتم منه أو عنه السر والخبر، وكتمه إياه.
وهناك (كتّم) بتشديد التاء و (كاتم) و (استكتم) ، تقول كتَّمْته الخبر بالتشديد وكاتمته الخبر، كما تقول استكتمته إياه إذا سألته أن يكتمه، فتنصب به مفعولين، كما جاء في اللسان.
وهناك (اكتتم) بتاءين يتعدى ولا يتعدى. ومثال الأول اكتتمته، كما في الصحاح، ومثال الثاني: فلان لا يكتتم، كما في الأساس، أي لا يكتم أمره.
أما (تكتم) ، فهو لازم لا يتعدى، كما في التهذيب للأزهري، وفي القاموس والتاج (التدلس: التكتم) ، ومعنى التدلس باللام المشددة الاختفاء، فقول بعضهم تكتمت الخبر لا وجه له لأن الفعل لازم، ولا وجه لإنكار مجيء الفعل كما فعل الأستاذ سليم الجندي في كتابه (الفاسد في لغة الجرائد) والأستاذ إسعاف النشاشيبي في مجلة الرسالة، فتكتم كتستر وتحجب.
وثمة (تجوّل) فقد أجمع النقاد على منعه، إذا لم يرد في المعاجم قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) :"قل المجوّل لا المتجوّل". وقال الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأخطاء اللغوية الشائعة) : "يقولون تجوَّل في البلاد، والصواب جال في البلاد يجول جولاناً
…
وجوَّل في البلاد تجوالاً
…
ولم أعثر في المعجمات كلها على فعل تجوَّل".
وقد منعوا كذلك (تطوّر)، فقد قال الأستاذ أسعد داغر في كتابه (تذكرة الكاتب) : ويبنون فعلاً من الطور بمعنى الحال على تفعّل بالتشديد، فيقولون: تطوَّرت الأمور وهي آخذة في تطوّر سريع، وهم في غنى عن مخالفة المنقول والمسموع، بما في اللغة من الأفعال التي تفيد هذا المعنى
…
ومنها تحوّل وتغيّر وتبدَّل
…
".
أقول في الجواب عن منع (تجول وتطور)، بتشديد الواو فيهما: "إن نصوص اللغة ليست في المعاجم وحدها، بل هي في دواوين الشعر والأحاديث والأمثال وكتب الأدب وسواها أيضاً.
وقد تبين بالبحث أن (تجوّل) بتشديد الواو جاء في كلام الفصحاء. من ذلك قول المرزوقي في شرح ديوان الحماسة: "وتستغني عن السعي والتجول معه فتريح نفسك من الحل والترحال في طلبه/ 1733". وإذا ثبت (التجوُّل) ، مصدراً فقد ثبت (تجوّل) فعلاً، واسم الفاعل منه (المتجوّل) .
وقولك (تجول) يدل على تكرار الفعل وامتداد زمن حدوثه نحو تعلَّم وتربَّى وتأدَّب وتمشَّى وتنقَّل وترقَّب وتمهَّل
…
وهو معنى لا يعبر عنه (جال) ، ولا (جوَّل) ، بتشديد الواو، فهذا يدل على التكثير. فقولك:(جوَّال أو جوَّالة)، لا يغني عن قولك (المتجول) . فالمتجول هو الذي يطوف متحركاً متنقلاً ساعة بعد ساعة. أما الجوَّال أو الجوَّالة فهو الكثير الجولان. وفي الأساس:"وجول في البلاد وطوف وهو جوالة وجوابة". أي كثير التجوال والتطواف، فقولك (البائع المتجول) أدل على المعنى المقصود من قولك (البائع الجوَّال) ، وقد انتهى الأستاذ صبحي البصَّام إلى نحوٍ مما انتهينا إليه في كتابه الاستدراك على كتاب قل ولا تقل للدكتور مصطفى جواد) .
أما (تطور) الذي منع منه النقاد لأنه لم يرد في معجم وقالوا إن تحول أو تغير أو تبدل يغني عنه، فيقال فيه ما قيل في (تجول) . ذلك أن (التطور) وإن كان تحولاً وتغيراً وتبدلاً فإنه لا يطابق في دلالته فعلاً من هذه الأفعال. فالمقصود بالتطور انتقال الشيء أو الكائن من طورٍ إلى طور آخر هو أقرب إلى الكمال وأدنى إلى الغاية من وجوده. فهو تحول وتدرج في ارتقاء مع امتداد الزمن. ومن هنا مسَّت الحاجة إلى استعماله في التعبير عن هذه الدلالة. وإذا كان التطور لم يرد في المعاجم فقد جاء في كلام الأئمة قديماً ومنهم الشعراني في طبقاته وابن خلدون في مقدمته وابن حجر القسطلاني وابن عرفة والزبيدي صاحب التاج وأبو البقاء صاحب الكليات والسبكي في طبقاته الكبرى. وقد أقرَّه المجمع القاهري وأثبته في المعجم الوسيط، بعد الوثوق من صحته.
ومما يصيب الكتَّابُ في استعماله (تغلب) حين يقولون (تغلَّب فريق على فريق) . وقد عاب بعض النقاد ذلك وأوجبوا أن يستعمل (تغلَّب) كما جاء في الصحاح. قال الجوهري: "وتغلب على بَلَد كذا استولى عليه قهراً". والأصل أن يؤتى بالمثال ليُنسج على منواله ويقاس على ما يرد من أشباهه بعد تدبره وإعمال الفكر فيه، و (تغلَّب) على (تفعّل) ، وتدل هذه الصيغة فيما تدل عليه، كما مرَّ بنا، على تكلف معاناة ومشقة. فانظر إلى قول ابن المقفع في (كليلة ودمنة) :"زعموا أن قرداً كان ملك القردة فوثب عليه قرد شاب فتغلب عليه"، فقد عبَّر ابن المقفع عمَّا لاقاه القرد الشاب في الانتصار على القرد الملك، ومثله (تصبّر)، قال الجاحظ في كتابه في النساء:"وإن تصبر وأمكنة الصبر لم يزل معذباً"، فدلَّ على شدة المعاناة في الصبر. فقول الكتاب (تغلب فريق على فريق) ، يعني حصول الغلبة بالجهد والمشقة.
ومما يصيب به الكتَّاب، ولو عمد بعضهم إلى التخطئة فيه، قولهم:(فلان يتحرَّش بالمارَّة)، إذا تعرض لهم. قال الأستاذ أسعد داغر في كتابه (تذكرة الكاتب) : "ويقولون: وجعل يتحرَّش بي أي يتعرض ويتحكك
…
وفي كتب اللغة حرش الضبَّ واحترشه صاده.. وحرش بين القوم أغرى بعضهم ببعض. أما تحرَّش فلم يُسمع إلا في ديوان ابن الفارض
…
"، أقول تحرَّش به صحيح فصحيح، وهو من (حرش) ، ومعنى حرش في الأصل أثار. تقول حرشت البعير إذا حككت غاربه، أي مابين ظهره وعنقه، بعصا معطوفة الرأس ليزيد في مشيه، كما جاء في كتاب (الاشتقاق) لابن دريد. وقد تدرج هذا المعنى فضم إلى الإثارة الخداع. فقد جاء في أمالي المرتضى "الاحتراش أن يقصد الرجل إلى حجر الضب فيضرب بكفه ليحسبه الضب أفعى فيخرج إليه فيأخذه. يقال حرشت الضب واحترشته". فالحرش والاحتراش للضب محاولة اصطياده بعد إثارة وخداع. ومن هنا جاء (التحرش) فدل على الإثارة والمراوغة. ففي كتاب فقه اللغة للثعالبي: "الحرد بفتح الراء وتسكينها هو أن يغتاظ الإنسان فيتحرش بالذي غاظه ويهم به". ومن ثم كان قول ابن الفارض:
عرَّضت نفسك للبلى فاستهدف
ولقد أقول لمن تحرَّش بالهوى
صحيحاً مستقيماً. أي أقول لمن تحرش بالهوى وتحكك به قد عرضت نفسك للبلى فكن هدفاً له. وفي اللسان: "تحدد بهم أي تحرش بهم". ومعنى تحدد بهم فعل ما يثير الحدة، ويستوجب الغضب. وتقول العامة في هذا المعنى (تحركش) بزيادة (الكاف) والتحريف واضح.
ويصيب الكتَّاب في قولهم (وقد كان القاضي متحيزاً في حكمه)، تقول تحيز فلان إلى هذه الفئة إذا انحرف إليها. ففي كتاب (الإبدال لأبي الطيب اللغوي) :"تحوزت إلى فئة وتحيزت أي انحرفت"، وعليه قوله تعالى: ?ومن يولِّهم يومئذٍ دبرهُ إلَاّ منحرفاً لقتالٍ أو متحيِّزاً إلى فئةٍ فقد باءَ بغضبِ مِنَ الله? [الأنفال ـ 16] .
وكذلك قول الكتاب (فعلت ذلك تحفظاً من كل طارئ) أي احترازاً وتوقياً، ولو أنكر ذلك بعضهم فزعم أن استعمال التحفظ بمعنى الاحتراز معروف في الألسن الدارجة في عصرنا، غير معروف في أصل اللغة، ففي الصحاح:"التحفُّظ التيقُّظ" وفي الأساس "وعليك بالتحفظ من الناس، وهو التوقي". وفي رسالة ابن القارح إلى المعرّي: "ويتحفظون من سهو أو تصحيف أو غلط". وفي المقامة الكوفية للحريري: "ولا يُتحفظ منه"، قال الشارح: أي يُحرس. فثبت بذلك قولك تحفظ من كذا إذا احترز منه.
وليس كذلك قول الكتاب (فعلت ذلك تحسباً من كل طارئ) ، أي فعلته حذراً من كل طارئ أو احترازاً منه أو توقياً وتحفظاً، فليس (التحسب) في اللغة بهذا المعنى، وإنما جاء لمعنيين متقاربين. أولهما (التعرّف) . تقول تحسَّبت الأمر أو الخبر بمعنى تطلبته وتعرفته. وعلى ذلك ماجاء في الأساس:"خرجا يتحسَّبان الأخبار: يتعرَّفانها"، ومنه حديث بعض الغزوات:"إنهم كانوا يتحسبون الأخبار أي يطلبونها"، كما في النهاية لابن الأثير، والمعنى الثاني للتحسب: توقع الأمر وتحيُّنه، أي تطلب وقته وحينه. ومنه حديث الأذان: "إنهم يجتمعون فيتحسَّبون الصلاة أي يتعرَّفون ويتطلبون وقتها ويتوقعون. كما جاء في النهاية. وليس في هذه المعاني ما يريده الكتاب من معنى الاحتراز أو التحفظ والتوقي. ولو قالوا: (فعلت ذلك تحسباً لكل طارئ) ، أي توقعاً واستعداداً لصحَّ ذلك.
وفي كلام الكتَّاب قولهم (حذرت من الفتنة) وهو صحيح، ولك أن تقول (حذرت الفتنة) فتعدي الفعل. فإذا شددت الذال قلت (حذَّرته من الفتنة)، ولك أن تقول (حذَّرته الفتنة) فتعدّيه إلى اثنين. وعليه قوله تعالى: ?ويحذِّركُمُ الله نفسه? [آل عمران ـ 28 و30] . أي يحذِّركم غضبه.
وثمة (تحذّر) بتشديد الذال على تفعّل، ولا تكاد تذكره المعاجم، قال ابن المقفع في (كليلة ودمنة) : أن الأسد سيتحذَّر الثور"، فجاء متعدياً. وفيه: "وأما المضطر ففي بعض الأحوال يسترسل إليه، وفي بعضها يتحذَّر منه"، فبدا لازماً. والتحذُّر شدة الحذر كالتبصر لشدة الصبر ومعاناته.
وكما تقول تحذَّرته وتحذَّرت منه تقول اتَّقيت شره واتَّقيت من شره. ففي التنزيل: ?إلَاّ أن تتقوا منهم تُقَاةْ? [آل عمران ـ 28] . قال البيضاوي: "والفعل مُعدَّى بمن لأنه في معنى تحذروا وتخافوا".
وهكذا تقول (توقَّى) بتشديد القاف على (تفعَّل) . تقول (توقَّيت أذاه) فتعدي الفعل، وتقول كذلك (توقيت منه) فتأتي به لازماً. وقد أنكر لزوم الفعل بعضهم كالأستاذ محمد العدناني في معجمه (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة) ؛ فلم يعثر عليه لازماً إلا في معجم (مدّ القاموس)، ولم يطمئن إلى صحته. أقول جاء في كلام الأئمة لازماً فانظر إلى ماقاله الجاحظ في كتاب (الحجاب) :
"فالواجب على من ساسهم التوقي على نفسه من سوء ظنونهم"، فثبت بذلك صحة مجيء الفعل لازماً. وهكذا تقول توقيت السوء ومن السوء، كما تقول وقاه الله السوء ومن السوء وقاية.
ويخطئ الكتَّاب في استعمال (تحرَّى) فيقولون: (لا يزال التحرّي مستمراً عن المجرمين) ، ويحسبون أن الفعل في معنى الطلب والبحث والتقصّي عامة، وليس الأمر كذلك. فالتحرّي هو طلب الأحرى، أي طلب الأول والأحق. ففي اللسان:"ومن أحرِ به اشتقَّ التحرّي في أشياء ونحوها. وهو طلب ماهو أحرى"، وقال:"والتحري قصد الأولى والأحق مأخوذ من الحريّ وهو الخليق". وعلى هذا فالتحرّي هو طلب الأحرى على وجه الخصوص، ولذا كان قول الكتاب (تحرى عن الشيء) بمعنى بحث عنه لا وجه له، وقد جاء في الحديث:"تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر"، قال ابن الأثير في النهاية:"أي تعمَّدوا طلبها فيها، والتحرِّي القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول". فإذا قلت (تحرَّيت هذا الأمر) فمعناه أنك توخيته وخصصته بالطلب وتعمدت التماسه لأنه الأحرى، والفعل يتعدَّى بنفسه. وليس قولك (فتَّشَ أو بحث) بهذا المعنى.
وثمة (تعرض) ، ويستعمله الكتَّاب للتعبير عن أحد معنيين. ويبدو المعنى الأول في قولهم (تعرضت لفلان) إذا ابتغيته واعترضته وتصديت له فجعلته هدفاً لك. ويبدو الثاني في قولهم (تعرض البيت للخطر) ، إذا ابتغاه الخطر وتصدى له. فأصبح هو أي البيت هدفاً له. ونحو ذلك قولهم أيضاً (تعرضت المدينة للهجوم) إذا ابتغاها الهجوم وتصدى لها، فأصبحت هي، أي المدينة، هدفاً له، فأي الاستعمالين هو الصحيح؟..
أقول بحث هذا الدكتور مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) فصوَّب الاستعمال الأول دون الثاني. وحجته أن قولك (تعرضت له) ينم على رغبة الفاعل في الفعل، والمفعول إن وجد، فيمتنع على هذا أن تقول (تعرض فلان للتعذيب) ، أو نحو ذلك، إذ لا يستقيم أن يكون المتعرض راغباً في (التعذيب)، أو ما يشاكله من معاناة ومقاساة. وصواب التعبير أن تقول:(عُرِّضَ فلان للتعذيب) . بالبناء للمجهول. فما الرأي في هذا كله؟
…
أقول لم يصب الدكتور جواد فيما ذهب إليه، فقولك (تعرض فلان للتعذيب) إذا عرض له فكان هدفاً له صحيح فصيح نصاً واستعمالاً. أما النص فقول صاحب الصحاح:"وعرض فلاناً لكذا، بالتشديد، فتعرض له"، أي غدا هدفاً له. ويعني هذا أن لك أن تقول:(عرَّضت فلاناً للتعذيب فتعرض له) أي عُرِّضَ له بالبناء للمجهول. كما يصح لك أن تقول (تعرض فلان للتلف أو للخزي أو للهلاك) ، إذا أصبح هدفاً لذلك، وقد جاء نص الصحاح الذي تقدم ذكره في مختار الصحاح أيضاً.
والغريب في الأمر أن يُقدم الدكتور جواد على إنكار هذا النص بلا حجة ولا سلطان. قال الدكتور جواد: "وقد تركت نصاً واحداً ورد في الصحاح ومختاره يخالف واقع اللغة وإني ذاكره بعد إيراد واقع اللغة.."، ثم ذكر من واقع اللغة شواهد تثبت صحة الاستعمال الأول وشيوعه، وهو (تعرضت لفلان) ، ولم يأتِ بشاهد واحد يقطع بفساد الاستعمال الثاني وهو (تعرضت للتعذيب) !..
ومن الغريب أيضاً أن يأتي جواد بنص يحسب أنه حجة له، وهو حجة عليه، وهو من معجم اللسان. قال جواد:"قال ابن منظور والعرب تقول عَرَضَ لي شيء وأعرض وتعرض واعترض بمعنى واحد". فإذا كان (تعرض له) بمعنى (أعرض له) ، فما الذي يعنيه قولك (أعرض فلان لمكروه) ؟ إنه يعني أنه أبدى (عُرضه) بالضم للمكروه أي أبدى جانبه فأمكنه منه. فالمُعرض بضم الميم بصيغة اسم الفاعل من (أعرض) هو الذي أمكن شيئاً من عُرضه أي جانبه فغدا هدفاً له.
وعلى ذلك قول صاحب الأساس: "أعرض لك الصيد فارمه وهو مُعرض لك"، أي انتصب لك الصيد فأصبح هدفاً لك فارمه. وعلى هذا تقول على سبيل المجاز (أعرض فلان للمكروه) ، أي انتصب فجعل نفسه هدفاً فأمكن المكروه منه.
أقول هذا من حيث النص، أما من حيث الاستعمال فهذا نهج البلاغة (2/ 151)، فقد جاء فيه:"وتعرضتم لأخذه فأمهلكم"، قال الشارح:(أي أن يأخذكم بالعقاب) . والمعنى تعرضتم لأن يأخذكم بالعقاب، أي تعرضتم لعقابه فأمهلكم. وقال ابن المقفع في (كليلة ودمنة ـ باب الأسد وابن آوى) :"فإذا اجتمع عليه هذان الصنفان فقد تعرض للهلاك". وقد تكرر ذلك منه، وقال أبو حيان التوحيدي في كتابه (أخلاق الوزيرين) :"والله لَلْخروج من الطارف والتليد أسهل من التعرض لهذا القول والصبر عليه وقلة الاكتراث به". أي أسهل من أن يتعرض لهذا القول الموجه إليه ثم يصبر على ذلك ولا يكترث. وفي ديوان الحماسة للمرزوقي (ص789) : "ويتعرض من أجله للتلف"، وقد تكرر ذلك منه. وفي الخصائص قال ابن جني (1/ 470) ، "كرهتِ الواو هنا لما تتعرض له من الكسرة والياء"، كما قال في المحتسب (1/179) : والواحد معرض للتثنية والجمع"، فثبت بهذا أنه قد جعل قوله (تتعرض له) كقوله:(معرض له) على المفعول، وهو ما أنكره جواد.
وخلاصة القول أن (تعرَّض له) و (عُرض له) بالبناء للمجهول، سيَّان، ويكون (تعرض) هذا من قبيل (تفعل) الدال على المطاوعة، وهو ينمّ على هذا المعنى كلما ابتغاكَ أمر فجعلك هدفاً له كقولك (لا تكثر من السفر فتتعرض للخطر) . فإذا أردت العكس وقصدت التصدي كان ذلك من (تفعل) ، الدال على التكلف والمعاناة، فقلت (على المرء أن يتعرض لأسباب الخطر والمرض ويحاول أن يعالجها ليتَّقيها.
***
بقي الكلام على خطأ استعمال الكتاب لِـ (تكبّد) على تفعل بالتشديد. يقولون (تكبَّدت في هذه الرحلة عناءً شديداً) ، فيخطئون. كما يقولون (كبدني الأمر عناءً وصبراً) ، بتشديد الباء فيخطئون أيضاً. ففي اللغة (كَبَد كبداً) ، كقتل قتلا. تقول كبدهم البرد إذا شق عليهم، والكبد بفتح الكاف والباء المشقة. ومنه قوله تعالى: ?لقد خلقنا الإنسان في كَبَد? ـ[البلد ـ 4] . أي في نصب وشدة. ففي الأساس: "ووقع في كبد بفتح الكاف والباء: في مشقة".
وفي اللغة كذلك (كابده مكابدة وكباداً) إذا عاناه. ففي الصحاح: "وكابدت الأمر قاسيت شدته". وفي الأساس: "وبعضهم يكابد بعضاً، والمسافر يكابد الليل إذا ركب هوله وصعوبته". لذلك قل (قد كلفه الأمر عناء أو حمله) بالتشديد، ولا تقل (كبَّده) . وقل (تكلفت في الأمر شدة) ، أو تحملت أو تجشمت، بالتشديد فيهما، ولا تقل (تكبدت) .
ولكن أليس في اللغة (كبد) و (تكبد) بتشديد الباء فيهما؟ أقول جاء في الصحاح: "كبَد النجم السماء أي توسطها"، فالفعل متعد. فقد جاء لازماً ومتعدياً. ففي الصحاح:"تكبدت الشمس: صارت في كَبِدِ السماء أي في وسطها"، فأتى بالفعل لازماً. وفي الأساس:"تكبدت الشمس: توسطت السماء"، و (تكبدت الفلاة: توسطتها) ، فأتى بالفعل لازماً ومتعدياً، فتأمل.
د ـ تفاعل:
"يرد التفاعل للمشاركة فلا يصح مجيء الفعل منه إلا من اثنين فأكثر، تقول تجاور خالد وعلي وتخاصم سعيد وصالح وتشارك الأخوة وتصاحب الأصدقاء في السفر. فلا يصح الاكتفاء بقولك تجاور خالد وتخاصم سعيد
…
ويرد التفاعل لغير المشاركة فيأتي من واحد فيكون له أكثر من دلالة. فهو يفيد المطاوعة حيناً، والمطاوعة قبول أثر الفعل، تقول باعدته فتباعد ونثرته فتناثر..
وقد يظهر التفاعل ماليس واقعاً تقول تجاهل وتغافل أي أظهر الجهل والغفلة من نفسه وهما منتفيان لديه. ومن ذلك تحالمت إذا أظهرت الحِلْم ولست كذلك، على حين تقول تحلَّمت إذا التمست أن تصير حليماً (أدب الكاتب لابن قتيبة / 35) . وقد جاء في كلام الجاحظ (تحاذق) ذكره في رسائله في ذم أخلاق الكتاب، ومعناه: أظهر الحذق. فإذا صح هذا كان ذلك قياساً فيه، إذ خلت المعاجم منه، وصح بذلك قولك (تعالم) إذا أظهر العِلم.
ويفيد التفاعل وقوع الحدث تدريجاً كتفاقم الأمر وتواردت الإبل، وهكذا تزايد وتنامى وتكاثر وتعاظم وترادف وتقادم وتهاوى وتواتر وترامى وتراخى وتسارع وتهافت، وتساقط إذا سقط قطعة قطعة.. وقد قاس عليه المتنبي فقال (تفاوح المسك) أي فاح حيناً بعد حين وشيئاً بعد شيء. قال المتنبي:
تفاوح مسك الغانيات ورنده
إذا سارت الأحداج فوق نباته
والأحداج مراكب النساء والرند نبات طيب الرائحة. وليس في اللغة (تفاوح) ، وإنما تخيَّرها المتنبي فجادت بها قريحته عفو الخاطر حين ألهمته بها الحاجة إلى إحكام الأداء، إذ تمثل المسك تتناثر رائحته حيناً بعد حين. قال ابن سنان الخفاجي (سر الفصاحة /62) :"فإن تفاوح كلمة في غاية الحُسن، وقد قيل أن أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال وإن وزير كافور الأخشيدي سمع شاعراً نظمها بعد أبي الطيب فقال: أخذتموها....".
وقد يفيد مجرد وقوع الحدث كتخاطأ بمعنى أخطأ، وهكذا جاوز الشيء إلى غيرهِ وتجاوزه بمعنى، كما في مختار الصحاح.
وقد يفيد طلب الفعل كقولك تقاضاه الدين إذا طالبه بقضائه وتحاكم القوم إلى فلان إذا طالبوه أن يحكم بينهم
…
***
ويأتي تفاعل لازماً ومتعدياً سواء أكان من أفعال المشاركة أم لم يكن. والأصل في أفعال المشاركة من تفاعل أنه إذا تعدى (فاعَلَ) ، إلى واحد جاء (تفاعل) لازماً لا يتعدى. فأنت تقول نازعت فلاناً، إذا خاصمته، فإذا قلت تنازع القوم جئت به لازماً لا يتعدى. وإذا تعدى (فاعل) إلى اثنين، جاء (تفاعل) متعدياً إلى واحد. تقول نازعته الأمر إذا جاذبته إياه فتعديه إلى اثنين، فإذا قلت تنازعوا الأمر عديته إلى واحد، وهكذا جاذبته الأمر فقد جاء متعدياً إلى اثنين، أما تجاذبوا الأمر فهو متعدٍّ إلى واحد.
وفي اللغة قاسمته الأمر فتقاسموه، ولكن هل في اللغة (شاركتهم الأحزان) كما يقول الكتاب؟ أقول لو كان ثمة (شاركته الأمر) لصح قولك فتشاركوه، وليس في اللغة (فتشاركوه) بل فيها (فتشاركوا فيه) . فالصواب إذا شاركتهم في الأمر فتشاركوا فيه، وقول الكتاب (شاركتهم الأحزان) خطأ، ولم يرد في المعاجم. وقد جاء في المقامة الشيرازية لبديع الزمان الهمذاني:"فقد أرضعتك ثدي حرَّته وشاركتك عنان عصمته"، فعدى (شارك) إلى مفعولين، على غير الأصل، ولا يمكن التعويل عليه لأن للسجع ضرورة كضرورة الشعر، كما يقول ابن برّي في كتابه (اللباب في الرد على ابن الخشاب) ، وقد جرت الأئمة على ذلك.
فإذا كان (تفاعل) لغير المشاركة جاء لازماً أو متعدياً، تقول في اللازم (تفاديت منه) . ففي أساس البلاغة "ومن المجاز تفادى منه: تحاماه". وفي خزانة الأدب لعبد القادر البغدادي "تفادى من كذا إذا تحاماه وانزوى عنه". فقول الكتاب (تفاديت الخطر أو الصعوبة) خطأ صوابه (تفاديت من الخطر أو من الصعوبة) .
ولك أن تقول في نحو معنى (تفاديت منه) : (تحاميت الخطر أو الصعوبة) لأن (تحامى) متعد خلافاً لتفادى. ففي مختار الصحاح: "تحاماه الناس أي توقوه وتجنبوه"، وفي الأساس:"وهو يُتحامى كما يُتَحامى الأجرب"، ببناء الفعل للمجهول، فدل ذلك على تعدي الفعل.
وثمة (تحاشى) وهو فعل لازم كتفادى. والتحاشي في الأصل هو التنحي. ففي اللسان: "إذا قلت حاشى لزيد: هذا من التنحي، والمعنى قد تنحى زيد من هنا وتباعد عنه"، فقولك حاشاه يعني نحَّاه أي عزله في حاشيته، كما كان نحَّاه بمعنى عزله في ناحية. ولذا كانت تعدية (حاشى وتحاشى) ، بالحرف. تقول حاشيت من القوم فلاناً وتحشيت منهم أحداً إذا استثنيت.
قال النابغة: "وما أحاشي من الأقوام من أحد"، وقد استؤدي الفعل هنا معنى الاستثناء مجازاً لأن الاستثناء هو عَزْلُكَ الشيء من الجملة. فإذا استؤدي (تحشى أو تحاشى) ، معنى تباعد، فالقياس أن يُعدَّى بعن. تقول تحشيت عنه أو تحاشيت عنه إذا تنحيت وتباعدت. ولكن هل يُعدى (تحاشى) ، بنفسه، كما جرت به أقلام الكتَّاب في نحو قولهمم (تحاشيت مقابلة فلان اتقاء لغضبه) ؟
…
أقول جاء ذلك في كلام بعض الفصحاء. قال أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني (398هـ)، في بعض رسائله إلى أخيه أبي سعيد:"ويقول المُحال فلا يتحاشاه، والمُحال لا يلطم الخد إنما يتجاوز الحد، ولا يشج الرأس إنما يرفع القياس/197". ونحو ذلك ماجاء في المقامة (القهقرية)، لأبي محمد القاسم الحريري (540هـ) :"وتحاشي الريب يرفع الرتب". قال الشارح: (تحاشي الريب أي التباعد عن التهم) .
وعندي أنه لا بأس بتعدية (تحاشى) بقولك (تحاشاه) ، على سبيل التضمين. والتضمين كما هو معروف اشراب فعل معنى فعل آخر وإعطاؤه حكمه في التعدية واللزوم. وفائدته أن يؤدي الفعل المشرب معنى الفعل الآخر إلى جانب معناه الأصلي. وقد اشترط فيه تحقيق المناسبة بين المعنيين. وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا (مسالك القول في النقد اللغوي) .
والذي أراه أن الشارح قد أوجز حين قال: (تحاشي الريب أي التباعد عن التهم)، وقد كان يحسن أن يقول:(تحاشي الريب أي تجنبها بالتباعد عنها) . فالتحاشي في الأصل هو التنحي أي الاعتزال. كما ذكرناه، فإذا أردت أن تلحظ في هذا معنى التجنب عديت (تحاشى) تعدية، (تجنب) المتعدي بنفسه. والتجنب والاجتناب هو الاعتزال كذلك، في الأصل، لكنك تقول جنبته الشر فتجنبه أي وقيته إياه فتوقاه. ففي الأساس:"وقيل للترس، مجنَب ـ بوزن مبرد ـ لأنه يجنب صاحبه أي يقيه مايكره". فأنت إذا أشربت (التحاشي) أي الابتعاد والتنحي معنى (التجنب) ، فقد لحظت فيه معنى (التوقي) . وأنت تقول (جنبته موارد الزلل فتجنبها) ، أي توقاها وتحاشاها، وليس يسد مسد ذلك أن تقول (فتحاشى عنها) ، إذا حاد وابتعد. فصح بذلك قولك (تحاشيت عنه) إذا تباعدت، (وتحاشيته) إذا تجنبته.
وهكذا تقول (تحاميته) ، كما مرَّ بنا، إذا توقيته فحميت نفسك منه، فالفعل متعد، ولم يرد في نصوص المعاجم لازماً، لكنه جاء في المقامة (البشرية) لأبي الفضل بديع الزمان الهمذاني "قد كانت تحامت عن ذلك الطريق/446"، فما الرأي فيه؟
…
أقول يقال في تصويب هذا، أي تصويب تعدية (تحامى) بالحرف، والأصل فيه التعدي، ما قيل في تصويب (تحاشاه) والأصل فيه اللزوم، فقد قال بعيد الزمان في مقامته (قد كانت تحامت عن ذلك الطريق) فأوجز، والأصل أن يقول (قد كانت تحامت ذلك الطريق ـ أي توقته ـ متباعدة عنه) ، فصح بهذا أن الكاتب قد ضمَّن (تحامى) المتعدي بنفسه، ومعناه توقى، معنى (تباعد) فعدَّاه بالحرف الذي يتعدى به.
ويسدد هذا ماجاء في كتاب (الفروق) لإسماعيل حقي (ص109) : "والتضمين أن يقصد بلفظ معناه الحقيقي، ويلاحظ معنى آخر يناسبه. ويدل عليه بذكر شيء من متعلقات الآخر، كقولك: أحمد إليك فلاناً، فأنك لاحظت مع الحمد معنى الإنهاء ودللت عليه بذكر صلته، أي كلمة ـ إلى ـ أي أحمد منهياً إليك حمدي إياه".
ونحو ذلك قول الزمخشري في كشافه (1/ 89)، حول ماجاء في التنزيل: ?ولتكبِّروا الله على ما هداكم? [البقرة ـ 185] . وعدَّوا معنى التكبير بحرف الاستعلاء ليكون مضمَّناً معنى الحمد، كأنه قيل:"لتكبِّروا الله حامدين على هداكم".
وهكذا شُرع التضمين لغرض تعبيري وفائدة معنوية. قال أبو البقاء الكفوي في الكليات: "وفائدة التضمين هي أن تؤدي كلمته مؤدى كلمتين، فالكلمتان مقصودتان قصداً وتبعاً". وقد بحث المجمع القاهري (التضمين) فأوصى ألَاّ يلجأ إليه إلا لغرض بلاغي. فكل فعل عدَي غير تعديته ولم يستوف هذه الفائدة أو يصب هذا الغرض، امتنع حمله على التضمين، وكان التصرف فيه والعدول عن حاله الأولى تحكّماً لا وجه له.
***
ويكثر في كلام الكتَّاب قولهم (تفانى فلان في خدمة العدالة)، فهل هذا صحيح؟ أقول: تفانى من أفعال المشاركة، فهو لا يأتي إلا من اثنين فأكثر، فإسناد الفعل فيه إلا واحد خطأ. وقد جاء في الصحاح:"وتفانوا أفنى بعضهم بعضاً". وفي اللسان نحو ذلك، ولذا امتنع قولك (تفانى فلان) . وقد ذهب الأستاذ محمد خليفة التونسي إلى جواز ذلك في كتابه (لغتنا السمحة)، فقال:"ويمكن أن يأتي تفانى من واحد"، واستشهد بقول زهير بن أبي سلمى:
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
تداركتما عبساً وذُبيان بعدما
وقول المتنبي:
نتعادى فيه وأن نتفانى
ومراد النفوس أصغر من أن
أقول وقد جاء التونسي بهذين البيتين حجة له، وهما حجة عليه، فقد أسند (تفانوا) في البيت الأول إلى جماعة، وأسند (نتفانى) في البيت الثاني إلى جماعة أيضاً كنتعادى، وهذا من أفعال المشاركة أيضاً، فتفانوا: أفنى بعضهم بعضاً. ونتفانى: يفنى بعضنا بعضاً. فالفعل إذاً من أفعال المشاركة. وإن لك أن تقول فني فلان أو ضني أو أجهد نفسه أو استنفد طاقته في كذا، بدل أن تقول تفانى.
وثمة (تساءل) ، فهو في الأصل من أفعال المشاركة، إذا جاء في الصحاح:"وتساءلوا سأل بعضهم بعضاً"، وفي الأساس:"وساءلته عنه مساءلة وتساءلوا عنه"، فدل النص على أن تساءل من أفعال المشاركة. ولكن ألا يأتي (تساءل) لغير المشاركة فيصح إسناده إلى واحد؟.. أقول جاء في الكشاف للزمخشري في تفسير قوله تعالى: ?عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم? [النبأ ـ 1] .: "يتساءلون يسأل بعضهم بعضاً، أو يتساءلون غيرهم عن رسول الله (?) والمؤمنين نحو يتداعونهم ويتراءونهم". فقوله: يتساءلون يسأل بعضهم بعضاً، يعني أن الفعل للمشاركة، لكن قوله يتساءلون غيره عن رسول الله يعني أن الفعل لغير المشاركة. وذكر ذلك الإمام البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، فقال:"كقولهم يتداعونهم ويتراءونهم، أي يدعونهم ويرونهم".
وبذلك صح أن يكون (يتساءلونه عنه) بمنزلة (يسألونه عنه) . فإذا استقام هذا استقام قول الكتاب (تساءل الرجل عن كذا) ، إذا سأل عنه، بحذف المسؤول، وهو المفعول هنا، وهكذا يكون (تساءل) للمشاركة وسواها.
ونحو ذلك (تعارف) فهو من أفعال المشاركة، على ماهو المشهور. قال تعالى: ?يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا?، [الحجرات ـ 13] . قال: البيضاوي: "لتعارفوا: ليعرف بعضكم بعضاً"، فتأكد بذلك أن الفعل لازم وأنه من أفعال المشاركة. ولكن جاء في كلام الفصحاء (تعارفوا الشيء) إذا عرفوه. ففي الصحاح (مادة وقى) :"وأما اليوم فما يتعارفه الناس ويقدر عليه الأطباء فالأوقية عندهم عشرة دراهم". فقد عدَّى الفعل فقال ليتعارفه الناس) . وجاء في مفردات الراغب الأصبهاني (ضاف) : وصارت الضيافة متعارفة في القرى". فقولهم (متعارفة) كقولهم (متداولة) ، فثبت بهذا أن (تعارف) لازم إذا كان من أفعال المشاركة، ومتعد إذا كان من سواها. كما ثبت أنه لا حجة لقول الكتاب (هذه عادات متعارف عليها) . فالصواب (متعارفة) .
وثمة (تساهل) أهو من أفعال المشاركة أم من سواها؟..
أقول جاء في الصحاح "التساهل التسامح"، فكان النص موجزاً، ولكن جاء فيه كذلك (مادة سمح) :"والمسامحة المساهلة وتسامحوا تساهلوا"، كما جاء في (يسر) : وياسره أي ساهله"، والذي يعنيه هذا أنك تقول ساهل بعضهم بعضاً فتساهلوا فيما بينهم، وسامح بعضهم بعضاً فتسامحوا فيما بينهم، فالفعلان على هذا من أفعال المشاركة.
وقد عاب الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العراقي، رحمه الله، في كتابه (المباحث اللغوية بالعراق ـ ص 46 ـ 48) . عاب قول الكتاب (تساهل معه) ، لأن الفعل ليس من أفعال المشاركة. وذكر أنه لابد في إعمال (تساهل) أن تعمد إلى حرف (على) فتقول (تساهل فلان على فلان)، كما تقول (سهل عليه الأمر) . وقد استشهد بقول ثعلب في تفسير قوله تعالى: ?فأوْفَ لنا الكيل وتصدَّقْ علينا? [يوسف ـ 88] . قال ثعلب: "وتصدق علينا معناه تساهل علينا" يعني تفضل علينا بمسامحتك وتجاوزك عن رداءة البضاعة. كما استشهد جواد بقول الجوهري في معجمه (الصحاح) : "وغمَّضت عن فلان إذا تساهلت عليه في بيع أو شراء". وبقول الشاعر:
فأي نحوٍ بهذا العقل يُحتقب
هب العروض تساهلنا عليك به
والاحتقاب: الادخار، فما الرأي في هذا كله؟
…
أقول إذا ثبت أن (تساهل) من غير أفعال المشاركة، كما مرَّ فيما استشهد به جواد، فلا يمنع ذلك أن يأتي من أفعال المشاركة، فقد جاء في الأساس:"تساهل الأمر عليه ضد تعاسر عليه". ومعنى ذلك أن تساهل الأمر عليه كسهل الأمر عليه، بضم الهاء، أو تسهل عليه بتشديد الهاء. وأن تعاسر الأمر عليه كعسر بضم السين وتعسر بتشديدها. فيكون (تساهل وتعاسر) ، ها هنا من غير أفعال المشاركة. وجاء قول الأئمة (تساهل فلان على فلان) ، إذا استعمل معه السهولة، كما جاء قولهم (تعاسر فلان على فلان) ، إذا استعمل معه الصعوبة، فيكون هذا من قبيل المجاز، كما كان الإغماض عن كذا أو التغميض عنه بمعنى الإغضاء والتسامح والتجاوز من قبيل المجاز أيضاً. ولم يمنع هذا أن يكون (تساهل) من أفعال المشاركة في موضع آخر، ولو كان من أفعال غير المشاركة دوماً، لما صح أن تقول ساهل بعضهم بعضاً فتساهلوا فيما بينهم.
ومن الطريف أن نشير إلى أن (التعاسر) كالتساهل من أفعال المشاركة ومن سواها. فأنت تقول عاسر بعضهم بعضاً فتعاسروا، كما تقول ياسر بعضهم بعضاً فتياسروا، فالتعاسر ضد التياسر، والمعاسرة خلاف المياسرة. قال تعالى: ?ائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى?. [الطلاق ـ 6] . فقد جاء في تفسير الجلالين: "إن تضايقتم في الإرضاع فامتنع الأب من الأجرة والأم من فعله، فسترضع له أخرى"، فجعل التعاسر من جهتي الاب والأم معاً، من الأب بامتناعه من الأجرة، ومن الأم في الحين نفسه بإمساكها عن الإرضاع، فدل بذلك أن التعاسر من أفعال المشاركة.
بقي الكلام على ما يتساءل عنه الكتاب، وهو إمكان استعمال أداة المصاحبة (مع) في أفعال المشاركة بإحلالها محل العاطف، كقولك تبارى فلان مع فلان، بدلاً من قولك تبارى فلان وفلان.
والأصل في (أداة المصاحبة) ، هذه أن تفيد في غير أفعال المشاركة، مالايفيده العاطف، فقولك (جاء زيد وخالد) يعني اشتراكهما في الحدث وحسب، أما قولك (جاء زيد مع خالد) ، فإنه يعني اشتراكهما في الحدث مع المصاحبة، أي جريان الحدث منهما في وقت واحد. وِأنت لا تقول: لا يؤكل الليمون والخل، أو السمك واللبن، أو الزنجبيل والفلفل، على سبيل المثال، لكنك تقول لا يؤكل الليمون مع الخل، أو السمك مع اللبن، أو الزنجبيل مع الفلفل، بإحلال (مع) محل العاطف، إذا أردت ألَاّ يجتمعا في الأكل.
ويختلف الحال في أفعال المشاركة، فأنت تقول (تبارى فلان وفلان) ، فتسند الفعل إلى فاعل ثم تستوفي الآخر بالعطف عليه. ومن خصوص العطف بالواو إشراكهما في الحدث، ولا محل لقولك (تبارى فلان مع فلان) ، لأن المصاحبة التي تفيد/مع) ، قد أفادها اشتراكهما في الحدث. هذا هو الأصل، ولكن جاء على (افتعل) ، من أفعال المشاركة ما أحلَّوا فيه أداة المصاحبة محل الواو كاجتمع واتفق واتحد، فأنت تقول على الأصل اجتمع فلان وفلان، ولكن جاء في الصحاح ـ (اجتمع معه) . كما تقول اتفق فلان وفلان، ولكن جاء في اللسان (اتفق معه) . وتقول اتحد فلان وفلان، على الأصل، ولكن جاء في الكليات لأبي البقاء الكفوي (1/35) :"فقال بعضهم باتحاد النفس مع البدن.."، وهكذا قالوا:(انتظم معه)، فقد جاء في لطائف اللطف للنيسابوري: "وقد انتظمت يا سيدي مع رفقة من سمط الثريا
…
"، والأصل أن تقول انتظم فلان وفلان في رفقة. فلان. وقالوا التقوا معه، فقد جاء في النهاية لابن الأثير:"دخل أبو قارظ مكة فقالت قريش حليفنا وعضدنا وملتقى أكفِّنا وأيدينا، تلتقي مع يدهِ وتجتمع"، والأصل أن تقول أي أيدينا تلتقي هي ويده وتجتمع. كما جاء في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (التقوا معي/324) .
وجاء من تفاعل للمشاركة (تلاقى معه) ، ففي كلام الجاحظ من كتاب الحجاب (يتلاقى مع المعارف والإخوان والجلساء
…
) ، كما جاء (تلاحق معه) . ففي كلام المرزوقي في شرح ديوان الحماسة:"طلباً للتلاحق معها/ 1089". والتلاحق التتابع.
فما رأي الأئمة في هذا كله، وما الذي يعنيه هنا إحلال (مع) محل العاطف؟
…
أقول ذهب بعض النقاد إلى امتناع قول القائل (تفاعل معه) ، أو (افتعل معه) ماداما من أفعال المشاركة مالم تنص المعاجم على استعمال الفعل كذلك فيؤخذ به ولا يقاس عليه. وقد أضاف بعضهم العمل بما جاء في كلام الفصحاء واعتبار ما يكتبونه بمنزلة ما يروونه والوقوف عند هذا وذاك وعدم تجاوزه. على أن من الأئمة من جعل ذلك قياساً كما جاء في كتاب (بحر العوَّام)، لابن الحنبلي الحلبي: "وصوَّب الحريري أن يقال اجتمع فلان وفلان دون أن يقال اجتمع فلان مع فلان
…
وقد تعقبه ابن بري فقال: لا يمتنع في قياس العربية أن يقال اجتمع زيد مع عمرو واختصم جعفر مع بكر، بدليل جواز اختصم زيد وعمراً واستوى الماء والخشبة، بالنصب، وواو المفعول معه بمعنى مع، مقدرة بها". وجاء نحو ذلك في شرح درة الغواص لابن سنان الخفاجي، وقد ختم ذلك بقوله: "وإذا جاء في هذه الأفعال ـ أفعال المشاركة، دخول واو المفعول معه، جاز دخول مع".
وهكذا أجاز ابن بري أن يكون (استوى) في المثل (استوى الماء والخشبة) من أفعال المشاركة، وقد صح أن يؤتى بعده بـ (مع) لأنها بمنزلة واو المصاحبة، وهكذا صح أن يؤتى بـ (مع) بعد أفعال المشاركة عامة، كما صح أن يؤتى بواو المفعول معه، وجاز بذلك قولك اختصم فلان مع فلان وتخاصم زيد مع عمرو وتشاجر خالد مع زيد، وعلى هذا ماجاء في خزانة الأدب للبغدادي (1/122)، إذ قال: "روى المرزباني
…
أن الوليد بن عبد الملك تشاجر مع أخيه مسلمة في شعر امرئ القيس والنابغة...."، وما جاء في المستطرف في كل شيء مستظرف للأبشيهي: "وتخاصم بدوي مع حاج عند منصرف الناس.."، ولكن ما الذي حمل الكتَّاب في عصرنا أن يؤثروا استعمال (مع) في هذا الموضع على (الواو) العاطفة؟ فهل ثمة حاجة استدرجتهم إليه في التعبير فجرت به أقلامهم؟
…
أقول إذا قلت (ضارب زيد خالداً) ، فقد جرت المضاربة بينهما وكان كل منهما ضارباً ومضروباً، ولكن فُهم إلى ذلك شيء آخر وهو أن زيداً هو المعني بالضرب فهو البادئ به. أما إذا قلت (تضارب زيد وخالد) ، فقد فهم منه ما فهم في المثال الأول من حدوث المضاربة ولكن لم يعلم من هو المعني البادئ بالخصومة. فإذا قلت (تضارب زيد مع خالد) ، فهم أن زيداً هو المعني.
وقد يضطر العلماء أن يخصوا أحد المتشاركين في الحدث فيشيروا إلى أنه هو المعني المقصود. فإذا قالوا: (اتحد الكبريت ومادة كذا) ، لم يفهم من كلامهم أن المعني بالموضوع هو الكبريت دون المواد الأخرى، فإذا قالوا (اتحد الكبريت مع كذا) ، فهم أن مدار البحث هو الكبريت، وهكذا شاع على ألسنة الأئمة قولهم اشترك فلان بدلاً من اشترك فلان وفلان قصد الإشارة في كلامهم إلى أن المعني هو الأول.
وقد آثروا استعمال (مع)، في اعمال مصادر أفعال المشاركة في كثير من المواضع كقول ابن سنان الخفاجي في كتابه (سر الفصاحة/222) : "فهذا منتهى ما تقول في الألفاظ بانفرادها واشتراكها مع المعاني
…
"، وقول ابن جني في الخصائص (1/ 453) : "أما تزاحم الرباعي مع الخماسي فقليل، وسبب ذلك كله قلة الأصلين معاً"، كما آثروا استعمال (مع)، في أعمال أسماء الفاعلين كقول أبي اسحق الحصري القيرواني في كتابه (زهر الآداب) : لما كانت فضائل الناس، من حيث هم ناس، لا في طريق ماهم مشتركون فيه مع سائر الحيوان
…
إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة، كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيباً، وما سواها مخطئاً
…
"، وقد أقر مؤتمر مجامع اللغة العربية بالقاهرة في دورته السابعة والثلاثين، عام 1971م، إسناد افتعل وتفاعل إذا دلَاّ على المشاركة، إلى معموليهما باستعمال مع أو الباء في ـ افتعل ـ واستعمال مع في ـ تفاعل ـ كاجتمع معه وبه، وتحارب معه.
***
هذا ما رأيت التنبيه عليه فيما يعترض الكتاب من اللبس والإشكال في المسائل الصرفية المذكورة وما تفرَّع عليها، وأرجو أن أكون قد وفِّقت إلى جلاء الغامض فيما عَرَضت له والإفصاح عن مضمونه، وأدركت القصد في الدلالة على المنهاج والطريقة، ولم أخطئ السبيل إلى ذلك، ومن الله العون