الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسمَاءِ المصَادر
بسطنا القول في الفصل السابق، على المصادر وجمعها، فما القول بعدُ، في أسماء المصادر وجمعها؟ اسم المصدر هو ما دل دلالة المصدر على الحدث وجنسه، ولا يعنينا بعدُ أن تكون الدلالة مباشرة أو غير مباشرة، كما في قولهم: المصدر مدلوله الحدث واسم المصدر مدلوله اللفظ الدال على الحدث ثم لا يعنينا فرق ما بينهما في المعنى من حيث أن المصدر دال على الحدث باعتبار صدوره عن الفاعل المنسوب إليه، وإن اسم المصدر دال على الحدث من حيث هو، دون ملاحظة تعلقه بالمنسوب إليه. قال الرضي:(الحدث إن اعتبر صدوره من الفاعل ووقوعه على المفعول سُمي مصدراً) وإذا لم يعتبر من هذه الحيثية سُمي اسم مصدر) . وجاء شرح ذلك في (بدائع الفنون)، قال ابن القيِّم:(وأما الفرق المعنوي فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله، فإذا قلت تكليم وتسليم وتعليم ونحو ذلك، دل على الحدث ومن قام به، فيدل التسليم على السلام والمسلِّم، بكسر اللام المشدّدة، وكذلك التكليم والتعليم. وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده، فالسلام والكلام لا يدل لفظه على مسلِّم ومُكلِّم، بخلاف التكليم والتسليم. فاسم المصدر جردوه لمجرد الدلالة على الحدث) .
هذا من حيث الدلالة، أما حيث اللفظ فقد قالوا أن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه كالأفعال من أفعل، والتفعيل من فعَّل، والانفعال من انفعل، والتفعل من تفعل. وأما اسم المصدر فإنه يخالف المصدر في عدم جريانه على الفعل الذي يجري عليه المصدر. فالسلام والكلام لا يجريان على فعلهما، ومن هنا احتواء المصدر على أحرف فعله أو أكثر، وخلو اسم المصدر من بعضها لفظاً أو تقديراً دون عوض.
جمع أسماء المصادر
إذا صح ما تقدم في تعريف اسم المصدر فما القول في جمع أسماء المصادر؟
الجواب عن هذا أن اسم المصدر في جمعه كالمصدر، كلاهما في هذا الباب شرع واحد. فاسم المصدر لا يجمع ما دل على حدث الفعل وجنسه. فإذا جمع فقد فارق حدث فعله أو جنسه، وأريد به مجرد الاسمية معنى أو ذاتاً. فانظر إلى ما جاء في شرح ديوان الحماسة (1177)، قال المرزوقي: (وقال آخر:
رأيت اليتامى لا تسدّ فقورهم هدايا لهم في كل قعبٍ مشعب
وجمع الفقور لاختلاف وجوهها) . فقد جمع الشاعر (الفقر) على (الفقور) وعلل المرزوقي جواز جمعه باختلاف وجوهه، كما علل لذلك في جمع المصادر. والفقر اسم مصدر. قال صاحب المصباح (الفقير فعيل بمعنى فاعل، قال ابن السرّاج، لم يقولوا فقُر بالضم، استغنوا عنه بافتقر. والفقر بالفتح والضمّ لغة، اسم منه) فالفقر إذن اسم مصدر من الافتقار، وهو دال على الحدث وجنسه مالم يُجمع. قال الشاعر:
ويعجبني فقري إليك ولم يكن ليعجبني، لولا محبتك الفقرا
وقد استشهد به صاحب المفردات فقال: (الرابع الفقر إلى الله المشار إليه بقوله: (اللهمّ أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك)، وإياه عني بقوله:(إني لما أنزلت إلي من خير، فقير. وبهذا ألمّ الشاعر فقال: ويعجبني فقري إليك....) .
فالفقر حين جمعه الشارع فقال: (لا تسدّ فقورهم) ، قد عنى به الحاجة فأفقده حدثه وجنسه، ولو أراد به قيام الحاجة وحدثها كما جاء في قول الشاعر (فقري إليك) لامتنع من جمعه. قال الجوهري في صحاحه (وأفقره الله من الفقر فافتقر ويقال سد الله مفاقره أي أغناه وشد وجوه فقره، وقولهم فلان ما أفقره وما أغناه شاذ لأنه يقال في فعليهما افتقر واستغنى فلا يصح التعجب منهما) . وفي النهاية (المفاقر جمع فقر على غير قياس، كالمشابه والملامح
…
) ، وقد رأيت أن ثمة من جمع الفقر على فقور.
ومثال آخر (الصلاة) فهي في الأصل اسم مصدر من (صلَّى) . قال صاحب الصحاح: (الصلاة الدعاء
…
والصلاة من الله تعالى الرحمة، والصلاة واحدة الصلوات المفروضة، وهو اسم يوضع موضع المصدر تقول صليته صلاة ولا تقل تصلية) .
وقال صاحب الكليات (223) : (الصلاة هي اسم لمصدر وهو التصلية، أي الثناء الكامل وكلاهما مستعملان، بخلاف الصلاة بمعنى أداء الأركان، فإن مصدرهما لم يستعمل) .
وجاء: (وأما صلَّى صلاة وزكى زكاة ووصى وصاة، وما أشبه ذلك، فإنها أسماء وقعت موقع المصادر واستغنى بها عنها)، وقال ابن سيده في المخصص (13/ 85) :(إذا كانت الصلاة مصدراً، وقع على الجمع والمفرد على لفظ واحد، فإذا اختلف جاز أن يجمع لاختلاف ضربه) .
فيتبين بهذا أن الصلاة في الأصل اسم مصدر يقع على الحدث وجنسه، وقد استغنى به عن المصدر، وحين سُمِّيَ به كانت الصلاة واحدة الصلوات المفروضة.
ومثال ثالث هو (الكلام) ، فإنه اسم مصدر، والمصدر التكليم. قال ابن جني في الخصائص (1/ 23) :(وذلك أن الكلام اسم من كلّم بمنزلة السلام من سلَّم، وهما بمعنى التكليم والتسليم، وهما المصدران الجاريان على كلَّم وسلَّم) . فقد نبه على أن (الكلام) اسم مصدر، وإنه بمنزلة (التكليم) وهو المصدر. وأردف (فلما كان الكلام مصدراً يصلح لما يصلح له الجنس، ولا يختص بالعدد دون غيره، عدل عنه إلى الكلم الذي هو جمع كلمة) . فجعل الكلام والتكليم سواء من حيث اشتمالهما على الجنس الدال على القليل والكثير، لكن الجنس الذي انطوى عليه الكلام هو جنس (الجمل)، لا جنس (الفعل) . قال ابن جني:(فالكلام إذاً إنما هو جنس للجمل التوامّ بمفردها ومثناها ومجموعها) . فذهاب ابن جني إلى أن (الكلام) هنا اسم مصدر وأنه بمنزلة المصدر، إنما جرى اعتباراً بما اعتد أصلاً، لأنه قد عنى بالكلام جنس (الجمل) لا جنس الفعل.
وقال أبو محمد عبد الله الخفاجي في سر الفصاحة (24) : (الكلام اسم عام يقع على القليل والكثير، وذكر السيرافي أنه مصدر، والصحيح أنه اسم مصدر، والمصدر التكليم، قال الله تعالى: (كلم الله موسى تكليماً (. ولعل أبا سعيد تسمَّح في إيراد ذلك وقال مجازاً) . أقول ما قاله الخفاجي في (الكلام) هو ما اعتد أصلاً، لكن الذي عناه، هنا أنه اللفظ المنطوق به. قال الخفاجي (41) :(بينا فيما تقدم أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه)، وهو ما أراده ابن جني حين قال (1/30) :(الكلام في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برؤوسها المستغنية عن غيرها، وهي التي يسميها، أهل هذه الصناعة، الجمل على اختلاف تركيبها) . فإذا أردت ما يدل على جمع الآحاد قلت (الكلم) والواحد الكلمة، وإذا أردت ما يدل على الجنس جنس الجمل التوام، إجمالاً، قليلها وكثيرها، قلت (الكلام) فأغناك هذا عن الجمع، والكلام في الأصل اسم مصدر للفعل (كلَّم) . وليس بين ابن جني والخفاجي في حد الكلام إلا اشتراط الإفادة عند الأول وعدم اشتراطها عند الثاني:
اسم المصدر اسم للحدث واسم للعين
يتبين مما تقدم أن اسم المصدر هو اسم للحدث حيناً، وهو اسم للعين حيناً آخر، كما عناه ابن جني والخفاجي حين عرّفا (الكلام) ، ولا يعنينا أيهما الأصل اسم الحدث أو اسم العين، فقد ذكر الرضي في شرح الكافية اسم المصدر هو اسم العين المنقول إلى الحدث، إذ قال: (اسم المصدر هو اسم العين يستعمل بمعنى المصدر كقوله:
أكفراً بعد ردّ الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
أي إعطائك.... والعطاء في الأصل لما يُعطى) . فذهب الرضي بهذا إلى أنه ليس ثمة اسم مصدر دال على الحدث إلا واسم العين أصل له. وقد أكد صاحب المصباح أن اسم العين في (الكلام) هو الأصل، وأن اسم (الحدث) فيه، هو الفرع، فقال: (كلمته تكليماً والاسم الكلام
…
والكلام في أصل اللغة عبارة عن أصوات متتابعة لمعنى مفهوم، وفي اصطلاح النحاة، هو اسم لما تركب من مسند ومسند إليه، وليس هو فعل المتكلم. وربما حصل ذلك نحو: عجبت من كلامك زيداً) . فالكلام الذي هو فعل المتكلم هو الفرع.
وإذا كان ما ذهب إليه الفيومي من أن (الكلام) في أصل اللغة، هو أصوات متتابعة لمعنى مفهوم، يعني أن اسم المصدر الذي على (الحدث) هو الفرع، والدال على (العين) هو الأصل، فإن في طبيعة نشوء اللغة وتوالد ألفاظها، ما يؤيد هذا المذهب ويدعمه، ولو أن مدار البحث لدى النحاة حيناً أن اسم المصدر في الأصل، هو اسم الجنس المراد به الحدث.
إعمال اسم المصدر
ذهب ابن هشام في شرح شذور الذهب إلى ما ذهب إليه الفيومي، من أن الأصل في اسم المصدر أن يدل على اسم العين ثم يراد به الحدث. قال ابن هشام (410) :(اسم المصدر والمراد به اسم الجنس المنقول عن موضوعه إلى إفادة الحدث، كالكلام والثواب..) . وقال (412) : (كالكلام فإنه في الأصل اسم للملفوظ به من الكلمات، ثم نقل إلى معنى التكليم. والثواب فإنه في الأصل لما يُثاب به العمال، ثم نقل إلى معنى الإثابة) وأردف (وهذا النوع ذهب الكوفيون والبغداديون إلى جواز إعماله تمسكاً بما ورد، نحو قوله:
أكفراً بعد ردّ الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
وقوله:
قالوا كلامك هنداً وهي مصغية يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا
ومنع البصريون فأضمروا لهذه المنصوبات ألفاظاً تعمل فيها) .
وإذا كان البصريون قد أعملوا المصدر ولم يُعملوا اسمه، وهما في الدلالة على الحدث سواء، فذلك أن المصدر دال على الحدث وفاعله المنسوب إليه، واسم المصدر مقصور على مجرد الحدث، كما أوضحناه. قال صاحب الكليات (328) :(وقيل المصدر موضوع للحدث من حيث اعتبار تعلقه بالمنسوب إليه على وجه الإبهام. ولهذا يقتضي الفاعل والمفعول، ويحتاج إلى تعيينهما في استعماله، واسم المصدر موضوع لنفس الحدث من حيث هو، بلا اعتبار تعلقه بالمنسوب إليه في الموضوع له، وإن كان له تعلق في الواقع، ولذلك لا يقتضي الفاعل والمفعول، ولا يحتاج إلى تعيينهما) .
أما الكوفيون فقد ذهبوا إلى جواز قيام اسم المصدر مقام المصدر، وإنزاله منزلته، كما ورد عن العرب، وإن قلَّ فقضَوا باعماله، ولكل وجهة. وقد جاء في شرح الكافية للرضي (2/189) : (ويعمل اسم المصدر عمل المصدر، وهو شيئان، أحدهما ما دلّ على معنى المصدر مزيداً في أوله ميم كالمقتل والمستخرج، والثاني اسم العين مستعملاً بمعنى المصدر كقوله:
أكفراً بعد ردِّ الموت عني وبعد عطائك المائة الرِّتاعا
أي إعطائك، والعطاء في الأصل اسم لما يُعطى) . ومن ذلك قول الشاعر:
إذا صحَّ عون الخالِقِ المرءَ لم يجد عسيراً من الآمالِ إلا ميسَّرا
وقول آخر:
بِعشرتك الكرامَ تُعَدَّ مِنهم فلا تُرَيَنْ لغيرهمُ ألوفا
ومن ذلك الحديث: من قُبلة الرجل امرأته الوضوء.
الاسم المصدري الجاري على أحرف الفعل
الأصل في اسم المصدر، كما تقدم، أن يخالف المصدر بخلوّه لفظاً أو تقديراً) ، دون عوض، من بعض ما في فعله، وأن يطلق على اسم الحدث حيناً، واسم العين حيناً آخر.
وقد أشار الأئمة إلى أسماء مصدرية أخرى قد ساوت المصدر في حروفه ولفظه، أو ساوت المصدر في حروفه وقاربته في لفظه، وقد أُطلقت إما على الحال التي حصل بها الفعل خالية من الحدث، أو على اسم الذات من ذلك.
فـ (الطُهور) بضم الطاء للمصدر، وبفتحها لما يُتطهَّر به.
و (الوضوء) بالضم للفعل، وبالفتح للماء يُتوضأ. على أنهما جاءا بالفتح مصدرين أيضاً. ففي الكامل للمبرّد (2/77) :(ولم يأتِ من المصادر شيء مفتوح الأول إلا أشياء يسيرة، قالوا: توضأت وضوءاً حسناً بالفتح، وتطهَّرت طهوراً بالفتح، وأولعت بالشيء ولوعاً بالفتح. وإن عليه لقبولاً بالفتح، ووقدت النار وَقوداً بالفتح. وأكثرهم يجعل الوقود بالفتح الحطب، والوقود بالضم (المصدر) .
وفي إصلاح المنطق لابن السكيت من باب (فعول) بالفتح: (وتقول توضأت وضوءاً حسناً بالفتح) .
وفي أمالي المرتضى (1/397) : (وقد يجوز أن يكون الوقود بفتح الواو مصدراً، وكذلك الوضوء بفتح الواو، كما قالوا حسن القبول مصدراً وهو مفتوح الأول، ولا يجوز في الوقود والوضوء بالضم إلا معنى المصدر وحده) .
وفي النهاية لابن الأثير: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور بالضم، التطهر، وبالفتح الماء الذي يتطهر به كالوضوء بالضم والوضوء بالفتح، والسحور بالضم والسحور بالفتح. وقال سيبويه: الطهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معاً) . وجاء فيه (ذكر الوَضوء والوضوء، فالوضوء بالفتح الماء الذي يُتوضأ به، كالفَطور بالفتح والسحور بالفتح، لما يفطر عليه ويتسحَّر به. والوضوء بالضم التوضؤ والفعل نفسه. يقال توضأت أتوضأ توضؤاً، وضوءاً وقد أثبت سيبويه الوضوء والطهور والوقود بالفتح في المصادر، فهي تقع على الاسم والمصدر) .
وفي المصباح: (والوضوء بالفتح الماء يُتَوضَّأ به، وبالضم الفعل، وأنكر أبو عبيد الضمّ وقال: المفتوح يقوم مقام المصدر كالقبول يكون اسماً ومصدراً) .
فدلّ هذا أن (الطهور والوضوء) : بالفتح مصدران واسمان كالوقود والولوع والقبول بالفتح. فإذا كانا بالضم فهما المصدران.
***
وجاء (الغسل) بفتح أوله للمصدر، وبضمه لما يُغسل به أو للحال التي يكون بها الشيء مغسولاً، ولكن جاء (الغسل) بالضم اسماً ومصدراً. قال صاحب الصحاح:(غسلت الشيء غسلاً بالفتح، والاسم الغُسل بالضم) . وفصل صاحب المصباح فقال: (غسلته غسلاً من باب ضرب، والاسم الغسل بالضم وجمعه أغسال، مثل قفل وأقفال. وبعضهم يجعل المضموم والمفتوح بمعنى، وعزاه إلى سيبويه. وقيل الغسل بالضمّ هو الماء الذي يُتطهر به. وقال ابن القوطية: والغسل بالضم تمام الطهارة، وهو اسم من الاغتسال) . وتفصيل ما جاء في الأفعال لابن القوطية: (وغَسَل الشيء، غسلاً بالفتح والغسل بالضمّ: ما يُغتسل به، وهو أيضاً تمام الطهارة) . فثبت بهذا أن (الغسل) بالضمّ اسم ومصدر. فإذا كان بالفتح فهو المصدر.
وكذا (الطُهر) بالضم. قال صاحب المصباح: (طهر الشيء من بابي قتل وقرب، والاسم بالضم
…
ومنه قيل للحالة المناقضة للحيض طهراً، بالضم والجمع أطهار، مثل قفل وأقفال) . فتأكد بهذا أن (الطهر) بالضم اسم ومصدر. فإذا كان بالفتح فهو المصدر.
والنقل بالفتح جاء مصدراً واسماً. قال الجوهري في صحاحه: (نَقلُ الشيء تحويله من موضعه إلى موضع، والنقل بالفتح أيضاً الخف الخَلَق والنعل الخَلَق المرقعة)، لكنه أردف:(والنقل بالكسر مثله، يقال جاء في نقلين له بالفتح، وفي نِقلين له بالكسر، والجمع نقال) .
وفي المزهر (1/196 (: (وفي كتاب ليس لابن خالويه: العامة تقول النقل بالضم للذي يتنقل به على الشرب، وإنما هو النقل بالفتح) . واستصوب الشيخ الحنبلي في بحر العوّام (101) النقل بالضم أيضاً.
فثبت بهذا أن النقل بالفتح هو المصدر، أما الاسم فقد يكون بالفتح أو بالكسر أو بالضم.
وجاء (النصرة) بالضم مصدراً واسماً. ففي مفردات الراغب: (ونُصرة الله للعبد ظاهرة، ونُصْرة العبد لله هو نصرته لعباده، والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده، واعتناق أحكامه واجتناب نهيه) . فجاء به مصدراً. وفي أساس البلاغة (نصرة الله تعالى على عدوّه ومن عدوّه نصراً ونُصرة)، فجاء به مصدراً أيضاً. وأكد ذلك صاحب التاج فقال:(نصر المظلوم نصراً ونصوراً ونصرة بالضم، وهذه عن الزمخشري)، وجاء فيه:(ونصره منه نصراً ونصرة بالضم نجَّاه وخلصه. وفي البصائر: ونصرة الله لنا ظاهرة ونصرتنا لله هو نصرتنا لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده وامتثال أوامره واجتناب نواهيه) .
وقد جاء الجوهري بالنصرة بالضم اسماً فقال: (نصره الله على عدوّه ينصره نصراً، والاسم النصرة بالضم) . وكذلك قال ابن سيده في محكمه والفيومي في مصباحه.
***
وأكثر النصوص على أن (الولاية) بالفتح المصدر وبالكسر الاسم. ففي الصحاح: (وقال سيبويه الولاية بالفتح المصدر، والولاية بالكسر الاسم، مثل الامارة والنقابة بالكسر، لأنه اسم لما توليته) .
على أنه جاء في الإصلاح لابن السكيت من باب الفعالة بالفتح والفعالة بالكسر. (يقال دليل بين الدلالة بالكسر والدلالة بالفتح، وهي المهارة والمهَارة بالكسر والفتح من مهرت الشيء، والوِكالة والوَكالة، والجِنازة والجَنازة والوِصاية والوَصاية، والجِراية والجَراية، والوِقاية والوَقاية، والوِلاية والوَلاية في النصرة، يقال هم على ولاية بالكسر ووَلاية بالفتح جميعاً
…
) ، فلم يفرق بين مصدر واسم.
وفي مفردات الراغب: (الوَلاية بالفتح، والوِلاية بالكسر، تولَّي الأمر) فجعلهما سواء.
وفي المصباح (ووليت الأمر إليه بكسرتين، وِلاية بالكسر توليته) ، فجعل المصدر بالكسر، وفيه:(والوَلاية بالفتح والكسر النصرة) فجَعلهما سواء.
وفي الكليات (الولاية بالفتح بمعنى النصرة والتولي، وبالكسر بمعنى السلطان والملك. أو بالكسر في الأمور، وبالفتح في الدين. يقال هو والٍ على الناس أي متمكن الولاية بالكسر. وهو وليّ الله تعالى، أي بيَّن الولاية بالفتح، أَو هما لغتان) .
فالغالب أن الكسر للاسم. أما المصدر فمنهم من خصه بالفتح، ومنهم من جعل الفتح والكسر فيه لغتين.
***
وبعد فما الرأي في هذه الأسماء المصدرية التي ساوت المصادر في حروفها ولفظها، أو ساوته في حروفها وقاربته في لفظها، ولم يُرَد بها الحدث، وإنما أريد اسم الذات أو المعنى؟
…
أقول قد جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي (2/ 185) : (وقد يقولون مصدر واسم مصدر في الشيئين المتغايرين لفظاً، أحدهما للفعل والآخر للآلة التي يستعمل بها الفعل، كالطهور بالضم والطهور بالفتح. والأكل بالفتح والأكل بالضم. فالطهور بالضم المصدر والطهور بالفتح اسم لما يتطهر به. والأكل بالفتح المصدر، والأكل بالضم لما يؤكل) . وقد أورد هذا النص صاحب الكليات (328) : فأبدل من (المتغايرين لفظاً) ، (المتقاربين لفظاً) ، ولعله الوجه والأصل.
والذي يستنبط من كلام السيوطي أن هذه أسماء مصادر أنزلت منزلة الأسماء لفقدها حدَثَها. قال صاحب الجاسوس على القاموس (195) : (والفرق بين المصدر والاسم، أن المصدر يتضمن معنى الفعل فينصب مثله، والاسم هو الحال التي حصلت من الفعل. مثال ذلك الغَسل بالفتح والغسل بالضم، تقول قد بالغت في غسلك هذا الثوب فتنصب الثوب. فإن أردت الحال قلت: لست أرى في هذا الثوب غسلاً بالضم، هذا ما ظهر لي) . وهذا يعني أن (الغسل) بالفتح دال على الحدث، و (الغسل) بالضم خال منه.
وجاء في الفروق لإسماعيل الحقي (132/ 133) : (الفرق بين المصدر والحاصل بالمصدر أن المصدر نفس الإيقاع الذي هو أمر معنوي، والحاصل بالمصدر الأثر الذي يحصل بالإيقاع) .
ومحصول القول في هذا أن المصدر ينطوي على الحدث، والحاصل بالمصدر عار عنه، أما قول الأئمة أن (الوضوء) بالفتح، من توضأ، وهو لما يتوضأ به، وأن الطهور بالفتح من تطهر، وهو لما يتطهر به، فإنه يعني أن كلاً من (الوضوء والطهور) بالفتح، اسم عين، إذا جُذب إلى (الحدث) غدا (اسم مصدر) على حد تعريف اسم المصدر، عند الرضي في شرح الشافية، وابن هشام في شرح شذور الذهب.
ومتى دل المصدر أو اسمه، على اسم عين أو اسم معنى، جاز جمعه، مالم ينص على خلافه مراعاة للمصدرية الدالة في الأصل على الحدث وجنسه، فيستعمل استعمال المصدر، ولو سُمي به. ففي اللسان (والعَصَب ضرب من برود اليمن سُمي عَصَباً لأن غزله يُعصب، أي يدرج ثم يصبغ ثم يُحاك) . فدلّ هذا على أنهم قد سمَّوا (البرد) عَصْباً. والعَصب مصدر عصَب الشيء عصباً إذا شدَّه بالعصابة. وفي اللسان: (عَصَب الناقة يعصِبها عصبا وعصابا شدّ فخذيها أو منخريها بحبل، لتدرّ) . لكنهم لم يثنوا (العَصْب) ولم يجمعوه. قال ابن منظور: (ولا يجمع وإنما يقال بُرْد عَصب وبرود عَصْب، لأنه مضاف إلى الفعل: وربما اكتفوا بأن يقولوا: عليه العَصب، لأن البرد عُرف بذلك الاسم) .
وقال الفيومي في مصباحه: (والعَصب مثل فَلس: برد يُصبغ غزلُهُ ثم ينسج، ولا يثنى ولا يجمع، وإنما يثنى ويجمع ما يضاف إليه، فيقال: بردا عَصبِ وبرود عَصب، والإضافة للتخصيص، ويجوز أن يُجعل وصفاً فيقال شربت ثوباً عَصَباً) .
فتبين بهذا أن (العصب) سُمي به، لكنهم أنزلوه في الاستعمال منزلة المصدر فأضافوا البرد إليه. قال صاحب المصباح:(والبرد معروف وجمعه أبراد وبرود، ويضاف للتخصيص، فيقال: بُرد عَصب وبرد وشي) .
والوشي في الأصل مصدر كالعصب، وقد سمي به أيضاً. قال الفيومي:(وشيت الثوب وشياً من باب وعد رقمته ونقشته فهو مَوْشيّ، والأصل مفعول. والوشي نوع من الثياب المَوْشيَّة تسمية بالمصدر) . وقال الزمخشري في أساسه: (ثوب موْشِيَّ ومُوَشَّى، وهو يلبس الوَشيّ) . على أنهم لم يترددوا مع ذلك في جمع (الوشي) خلافاً لما فعلوه في (العَصب) . قال صاحب الصحاح: (والوشي من الثياب معروف، والجمع وِشاء، على فَعل وفِعال) !..
وإذا كان العرب قد حرصوا على الأصل وأبقوا على الصيغة حيناً فتجنبوا أن يجمعوا ما نقلوه من المصادر إلى الاسمية، وما أرادوا به اسم المعنى أو العين من أسماء المصادر، ولم يزيلوا بالنقل ماكان لهم من الصيغة والحكم، ما أذنت بذلك أساليب تعبيرهم، فإنهم عمدوا كذلك، إلى جمع ما لم يُرَد به الحدث أو الجنس فيها، اعتباراً بالمعنى واعتداداً بالدلالة، واحتذى الأئمة حذوهم واقتاسوا قياسهم، فوجدنا في كلامهم مستفيضاً منه متداولاً. ومن هنا كان الوجه أن يساغ الجمع فيما يعترض من ذلك كله، كلَّما دعت إليه الضرورة في التعبير، ومسَّت إليه الحاجة في الاصطلاح، كما بيناه ودللنا على منهاجه.
التجريب والتجربة
قال الأستاذ الشيخ محيي الدين عبد الحميد، في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، للدورة السابعة والثلاثين:(العرب لا يفرقون بين التجربة والتجريب، ولا فرق في المعنى بينهما أيضاً) . فردّ الأستاذ عباس حسن قائلاً: (هناك فرق في اللغة بين التجربة والتجريب. فقد جاء في المصباح: قال الأزهري جرَّبت الشيء تجريباً اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة والجمع التجارب أ. هـ فالتجريب مصدر، وبهذا يدل على القليل والكثير، والتجربة اسم) .
ويقول الأستاذ محيي الدين عبد الحميد: (في اللغة العربية يدل اسم المصدر على معنى المصدر) . فيجيب الأستاذ عباس حسن (هناك فرق كبير بين المصدر واسم المصدر، وبينهما وبين غيرهما من الأسماء) ، فما الرأي في هذا كله؟
…
الجواب: أن المصدر واسمه سواء في الدلالة على حدث الفعل وجنسه كما ذكرنا، وليس بينهما إلا تعلق الأول بفاعله. قال ابن القيم:(وأما الفرق المعنوي فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله، وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده) ، وأردف (فاسم المصدر جردوه لمجرد الدلالة على الحدث) . وقد بسطنا القول فيه.
أما عن (التجريب والتجربة) فإنهما مصدران. قال صاحب الهمع (2/ 167) : (ولفعَّل) تفعيل وتفعلة ككرّم تكريماً وتكرمة، وهيأ تهييئاً وتهيئة، وتختص تفعلة بالمعتل، فلا يرد فيه التفعيل كزكَّى تزكية) . فكلام صاحب الهمع صريح بأن (التفعيل والتفعلة) مصدران جاريان على (فعَّل) . ولو أن الأول هو المقيس المطرد. قال ابن هشام في شرح شذور الذهب (381) :(المصدر اسم الحدث الجاري على الفعل) . ثم قال: (واحترزت بقولي الجاري على الفعل، وذلك نحو قولك أعطيت عطاء، فإن الذي يجري على أعطيت إنما هو إعطاء لأنه مستوف حروفه) . فـ (التجربة) مصدر جار على (جرَّب) ، وقد استوفى حروفه. وهو وإن خلا من أحد حرفي التضعيف فقد عوَّض منه تاء (التفعلة) فأضحى كالتجريب سواء بسواء. فليست (التجربة) إذاً اسم المصدر الذي قال فيه النحاة هو ما ساوى المصدر في الدلالة على معناه وخالفه بخلوه لفظاً أو تقديراً دون عوض من بعض ما في فعله (الأشموني 105/ 106/ 2) .
وانظر إلى ما جاء في اللسان (وجرَّب الرجل تجربة اختبره، والتجربة من المصادر المجموعة) ، فدل بكلامه على أن (التجربة) مصدر. أما الكلام على جمعه فسيأتي تفصيله.
ستقول وما توجيه ما جاء في المصباح: (جرَّبت الشيء تجريباً اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة والجمع التجارب) ؟.. أقول توجيه هذا أن (التجربة) وهي مصدر كالتجريب، قد عدل بها العرب عن مصدريتها فاستعملت استعمال الأسماء فجمعت. وهي في هذا كـ (العيب) مثلاً حين جمع على عيوب. قال صاحب المصباح:(واستعمل العيب اسماً، وجمع على عيوب) . ونظائره كثيرة بسط القول فيها في الكلام على المصادر، ففي المصباح:(ثم استعمل النسب وهو المصدر في مطلق الوصلة بالقرابة، فيقال بينهما نسب أو قرابة، وجمعه أنساب) . وهكذا (البعث والوقف والفتح والوضع) ، فهي مصادر قد أنزلت منزلة الأسماء فجمعت.
وفي المخصص لابن سيده (12/ 152) : (العون يكون مصدراً واسماً، فإذا كان مصدراً لم يجمع. وأما إذا كان اسماً فقيل يكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث، وقيل جمعه على أعوان وعوين) . والذي عندي أن توجيه هذا هو أن (العون) لا يجمع مصدراً، فإذا وصف به فكان بمعنى الظهير، وصف به الواحد والاثنان والجمع والمؤنث بلفظ واحد، وأما إذا كان اسماً فإنه يجمع.
فـ (التجربة) مصدر جار على فعله، لكنه استعمل استعمال الأسماء كالعيب والنسب واللفظ والبعث والفتح والوضع والعون.. وهو حين جذب إلى الاسمية لم يبق على مصدريته الدالة على الحدث وجنسه، وهذا ما أتاح جمعه. ذلك أن الأصل في (التجربة) ألا يجمع ما دام على حدثه وجنسه، ولو ختم بالتاء وإذا كان العلامة (يس) قد قال في حاشية التصريح أن المصدر لا يثنى ولا يجمع مالم يكن بالتاء، فإن قوله هذا لا ينقض ما قرر من أن ما جمع من المصادر فقد عري من جنسه أو حدثه. فقد رأينا في كلامنا على المصادر، أن ابن الأثير قد اعتل لجمع (التحية) على التحيات باختلاف ضروبه لا باختتامه بالتاء. قال ابن الأثير في النهاية (وإنما جمع التحية لأن ملوك الأرض يحيون تحيات مختلفة) فأخرجه عن جنسه. ثم قال:(التحيات لله أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء هي لله تعالى) . فعدل به عن حدثه. وما دامت (التجربة) ، قد أنزلت منزلة الأسماء فما الذي انتهت إليه من معنى أو أفضت إليه من دلالة؟
…
التجربة ودلالاتها وجمعها واعمالها
قال صاحب الأساس: (ورجل مجرِّب ومجرَّب: ذو تجارب) . أو ليست (التجربة)، في قولك:(فلان ذو تجربة)، فقد فقدت حدثها؟ فقولك:(ذو تجربة)، بمنزلة قولك:(ذو علم أو خبرة أو بصيرة أو دراية) . وهذه على التحقيق أسماء معان قد عريت من حدثها، لا مصادر.
فالتجربة هنا (الأثر الذي حدث بقيام الحدث) فهي على هذا اسم، وكذلك الأمر إذا عنيت بها ما قمت به من فعل لتعالج أمراً، أو شيئاً لاختباره، فإنك تضعها موضع الاسم. أما إذا عنيت بها:(علاجك الأمر لاختباره)، فإنه مصدر باق على مصدريته دال على قيام الحدث نفسه. هذا ونص صاحب المصباح:(والاسم التجربة) وأراد فيه (والجمع التجارب) دليل على خروج (التجربة) ، بالاستعمال إلى مجرد الاسمية بفقدها (الحدث) ، واستحقاقها (الجمع) كسائر الأسماء. وقد كان له أن يعلل باختلاف الأنواع كما اعتل ابن الأثير لجمع التحية، وهو شأن النحاة في توجيه جمع المصادر، إذا آلت إلى الاسمية.
على أن (التجربة) لم تنزل منزلة الأسماء، وتجمع وحسب، وإنما جاءت مصدراً فأعملت بل جاءت مصدراً مجموعاً، فأعملت أيضاً. فقد جاء في اللسان: (قال الأعشى:
كم جرّبوه فما زادت تجاربهم أبا قدامة، إلا المجد والفَنَعا
فإنه مصدر مجموع مُعمل في المفعول به، وهو غريب) .
وقد ضعَّف النحاة هذا، وحاول ابن جني أن يجعل (أبا قدامة) مفعولاً لـ (زادت) لكنه قال:(والوجه أن ينصب تجاربهم لأنها العامل الأقرب) . فما وجه ذلك؟ هذا والفنع زيادة المال، ومسك ذو فنع ذكي الرائحة.
إعمال المصدر المجموع
شرط العمل في المصدر أن يبقى على مصدريته فيدل على حدثه وجنسه، ليستقيم نيابة عن فعله أو يصح حلول الفعل المصحوب بأن أو ما، محله، فهل يستمر المصدر على مصدريته إذا جمع فيمكن إعماله؟ أقول إذا جمع المصدر للعدد أو المرّة فلا يصدق على القليل والكثير، ويفتقد جنسه فيمتنع عمله. ومن ثم اشترط في إعمال المصدر أن يكون غير محدود، أي غير دال على المرّة، قال الأشموني (3/105) :(فالموحد بالتاء، أي تاء الوحدة، لم يعمل) . قيل: لأن صيغته ليست صيغة الفعل، ولو كانت التاء في أصل بناء المصدر كرحمة ورغبة ورهبة، لعمل.
وإذا جمع المصدر لاختلاف ضروبه عُدل به، من الجنس إلى النوع، فبطل عمله أيضاً، فَقَد حدثه أم لم يفقد.
على أن ابن مالك قد ذهب إلى أن المصدر يجمع حيناً فيقصد به مجرد تكرير الفعل، ويبقى على حدثه وجنسه فيعمل. قال صاحب الهمع (2/ 92) :(وجوّزه قوم، أي عمل المصدر، في الجمع المكسَّر، واختاره ابن مالك، قال: لأنه: وإن زالت معه الصيغة الأصلية، فالمعنى معها باق ومتضاعف بالجمعية، لأن جمع الشيء بمنزلة ذكره متكرراً بعطف) .
وهكذا أقر ابن مالك جمع المصدر الذي لم يعر من حدثه وجنسه، وأعمله، والقول بعد هذا أن ابن مالك أقر جمع ما جذب من المصادر إلى الاسمية كالعقول والألباب والحلوم، كما جاء في الهمع (1/ 186) ، تحصيل حاصل، ولكن شأن المصدر الذي لم يعر من حدثه وجنسه شأن المصدر المبهم الذي يساوي معنى عامله فلا يثنى ولا يجمع لأنه بمنزلة تكرير الفعل، كما قال صاحب الهمع، والفعل لا يثنى ولا يجمع.
ولنعد إلى (التجربة) فأنت إذا قلت: (إن تجربتي إياه) ، فلا يعني قولك هذا أن (التجريب) ، قد وقع منك مرة واحدة بالضرورة، ليجمع إذا أريد به التكرير، لأنه يحتمل المرة والمرات بلا حد، فلا يبقى ما يدعو إلى جمعه. قال صاحب المصباح:(جرّبت الشيء تجريباً اختبرته مرة بعد أخرى) ، وكذلك قولك (تجريبك الشيء) فمعناه اختبارك إياه مرة بعد أخرى، قال ابن جني في الخصائص (1/ 25) : (وهذا طريق المصدر، لما كان جنساً لفعله، ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام، وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام، وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام
…
) . وقال أيضاً: (المصدر يتناول الجنس والآحاد تناولاً واحداً) . ومن ثم امتنع جمع المصدر ما بقي على مصدريته، فإذا جمع عُدل به عنها فندر إعماله، ولو ارتضاه جماعة.
قال صاحب المصباح: (وقال الجرجاني: لا يجمع المبهم، إلا إذا أريد به الفرق بين النوع والجنس، وأغلب ما يكون فيما ينجذب إلى الاسمية نحو العلم والظن
…
) ، وهذا ما حمل النحاة على تضعيف أعمال المصدر المجموع. قال صاحب الهمع:(قال أبو حيان: والمختار المنع، وتأويل ما ورد من ذلك) .
***
فثبت بما بسطنا القول أن الدلالة اسم المصدر وجوهاً، فهو إما أن يعني الحدث كما يعنيه المصدر. قال الإمام الصبان (3/ 106) : (ومقتضى عبارته أن موضوع اسم المصدر الحدث كالمصدر
…
وجزم به ابن يعيش وأبو حيان وغيرهما، وصوّبه بعضهم أن موضوعه المصدر نفسه) .
وأما أن يخلو من الحدث فيدل على اسم عين كالعطاء لما يُعطى، أو اسم للمعنى الحاصل بالمصدر، أي الأثر الذي يحصل بإيقاع الفعل كما مثلوا له بالغُسل بالضم في قولك (لا أرى في هذا الثوب غسلاً) ، وكالعذاب الذي هو اسم من التعذيب.
وذهب جماعة إلى أن الوجه الذي يدل به اسم المصدر على الحدث هو الفرع والذي يدل به على غيره كاسم العين هو الأصل.
ومهما يكن من شيء فإن اسم المصدر لا يجمع ما دل على الحدث، فإن خلا منه، ودل على اسم للعين أو اسم للمعنى جمع بشرط خروجه عن جنسه، ما لم ينص على خلاف ذلك. وقد قيل عطاء لما يُعطى وأعطية، وعذاب للأثر الذي يقع بالتعذيب، وأعذبة، كما قيل غُسل بالضم وأغسال، وهذا على التحقيق اسم مصدري، إذا كان من الغَسل بالفتح واسم مصدر إذا كان من الاغتسال.