الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفاعُل والمفَاعَلة عند النحاة
اتفق لنا، في فصل سابق، البحث في المفاعلة من مصادر أفعال المشاركة، فعمدنا إلى تفصيل الكلام في بنيتها اللفظية ومختلف دلالاتها، ووجوه لزومها وتعدّيها، وسنجلو البحث هنا في زنة أخرى، من المصادر، تقترن بها وتمت إليها، وهي التفاعل، فنكشف عما بينهما من نسبة قد تعني التكامل حيناً، لكنها لا توجب ذلك كل حين.
التفاعل والمفاعلة:
يرد التفاعل للمشاركة، كما ترد المفاعلة، فيشترك جانبا التفاعل في إيقاع الفعل كل على الآخر، في مثل قولك (تضارب خالد وصالح) . ولكن إذا كانت المفاعلة، في مثل قولك (ضارب خالد صالحاً) تعني اشتراك الأول، أي خالد، في الفاعلية لفظاً ومعنى، والمفعولية معنى، واشتراك الثاني، أي صالح في المفعولية لفظاً ومعنى، والفاعلية معنى، فإن كلاً من جانبي التفاعل، في قولك (تضارب خالد وصالح) شريك في الفاعلية لفظاً ومعنى، وفي المفعولية معنى، ولا فرق بين التفاعل والمفاعلة بعد، في إفادة كونهما لاثنين فأكثر، ما داما للمشاركة.
وإذا كانت المفاعلة تتعدى إلى واحد، كالمضاربة في قولك (ضارب خالد صالحاً) فإن التفاعل منها لا يتعدى إلى شيء، في مثل قولك (تضارب خالد وصالح) لانتقال المفعول الذي كان للمفاعلة، وهو (صالح) إلى الفاعلية في التفاعل. وإذا كانت المفاعلة تتعدى إلى اثنين، كقولك (نازع خالد صالحاً الأمرَ) فإن التفاعل منها يتعدى إلى ثاني المفعولين وحده، وهو المفعول المزيد في المنازعة، أي (الأمر) فنقول (تنازع خالد وصالح الأمر) ، ويرتفع المفعول الأول، وهو (صالح) داخلاً في الفاعلية.
ما يعنيه التفاعل:
ولا يشترط في (التفاعل) أن يفيد التشارك فقد يفيد المطاوعة في مثل قولك باعدته فتباعد، والمطاوعة هنا قبول أثر الفعل، وقد يفيد إظهار ما ليس واقعاً نحو تجاهل وتغافل أي أظهر الجهل والغفلة من نفسه، وهما منتفيان لديه. ومنه تحالمت. قال ابن قتيبة في أدب الكاتب:"وليس تفعّلت في هذا بمنزلة تفاعلت. ألا ترى أنك تقول تحالمت فالمعنى أنك أظهرت الحلم، ولست كذلك. وتقول تحلّمت فالمعنى أنك التمست أن تصير حليماً/ 350". وكذلك تمارض وتغابى، أي تظاهر بالمرض والغباء. وهكذا تعامى، قال الحريري في مقامته البرقعيدية:
عن الرشد في أنحائه ومقاصده
ولما تعامى الدهر وهو أبو الورى
ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده
تعاميت حتى قيل إني اخو عمي
وأخذ الزمخشري في المفصّل بقياس تفاعل إذا أريد به ما ليس واقعاً لكثرة ما جاء منه بهذا المعنى. وقد استعمل الجاحظ (تحاذق) في رسائله في ذم أخلاق الكتّاب فقال: "فإن أحدهم يتحاذق عند نظرائه بالاستقصاء على مثله". ولم يسمع عن العرب (تحاذق) ، فإذا صح هذا كان قولهم (تعالم) إذا أظهر العلم صحيحاً قياساً على تجاهل.
ومما يفيده التفاعل وقوع الحدث تدريجاً كتفاقم الأمر وتواردت الإبل وهكذا تزايد وتنامى وتكاثر وتعاظم وترافد ونحو ذلك تهافت أي تساقط قطعة قطعة، كما في الصحاح.
وهكذا يصف امرؤ القيس نفسه في نزعه فيقول:
فيالكِ نُعمى قد تحولتِ أبؤسا
وبُدّلت قُرحاً دامياً بعد صحة
ولكنها نفس تساقط أنفسا
فلو أنها نفس تموت سوية
أي تتساقط أنفساً.
وقد يعني التفاعل مجرد وقوع الحدث كتخاطأ بمعنى أخطأ، تقول تخاطأته النبُل أي تجاوزته وتعدته فلم تصبه.
وجاء في أدب الكاتب لابن قتيبة: "وتأتي تفاعلت وتفعّلت بمعنى، تقول تعطيت وتعاطيت وتجوزت عنه وتجاوزت عنه وتذأبت الريح وتذاءبت، أي جاءت مرة من ها هنا ومرة من ها هنا/350".
بناء التفاعل:
تقول تفاعل تفاعلاً، بضم العين في المصدر كتنازع تنازعاً بضم الزاي في المصدر. فإذا كان الفعل ناقصاً كتجافى يتجافى تجافياً، جاء المصدر بكسر العين أي كسر ما قبل الياء ليجانس الياء. وهكذا التحامي والتفاني والتصابي والتواني
…
ومثل ذلك ما جاء على (التفعل) بتشديد العين كالتمني والترجي والتوقي والتجني. قالوا جاءت العين مكسورة لمجانسة الياء في المصدر الناقص، بدلاً من الضم الذي هو الأصل، لأنك لو ضممت عين الناقص قبل الياء لانقلبت الياء واواً وانضمام ما قبلها، فعدلوا عن الضم إلى الكسر ليسلم بناء الياء من القلب.
وقد شذ من مصادر التفاعل (التفاوت) . قال الجوهري في الصحاح: "وتفاوت الشيئان أي تباعد ما بينهما تفاوتاً بضم الواو. وقال ابن السكيت: قال الكلابيون في مصدره تفاوتاً ففتحوا الواو. وقال العنبري: تفاوتاً فكسر الواو. وحكى أبو زيد أيضاً تفاوتاً بفتح الواو وكسرها، وهو على غير قياس
…
" ويبقى التفاوت بالضم هو الأصل، أما التفاوت بالكسر أو الفتح فهو أثر مما خلفته العربية في طور من أطوارها، قبل أن تستقر فتنتهي إلى الضم.
وإذا كان فاء (التفاعل) قريباً في المخرج من تاء (تفاعل) كحرف الثاء مثلاً، جاز أن تقلب التاء ثاء للتخفيف فتدغم فيها فيسكن أول المثلين في المدغم فتجتلب همزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن، فتقول (آثاقل) بتشديد الثاء بوزن (افَّاعل) بتشديد الفاء، مقلوباً من (تثاقل) ، كما كان (افَّاعل) بتشديد الفاء مقلوباً من (تفاعل) .
وقد جاء في التنزيل: "يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض –التوبة /39". قال البيضاوي في تفسيره: "وقرئ تثاقلتم على الأصل". وفي الأساس "واثَّاقل إلى الدنيا أخلد إليها". وتثاقل عنه تباطأ كما في القاموس.
وجاء على ذلك (ادّارأ) بتشديد الدال وأصله (تدارأ) قلب فيه (تفاعل) إلى (افَّاعل) بتشديد الفاء. قال الجوهري في الصحاح: "الدرء الدفع
…
وتدارأتم وادّارأتم بتشديد الدال تدافعتم واختلفتم". وجاء في التنزيل: "وإذا قتلتم نفساً فادّارأتم فيها، والله مُخرج ما كنتم تكتمون –البقرة/72". قال البيضاوي في تفسيره:"فادّارأتم فيها: اختصمتم في شأنها، إذ المتخاصمان يدفع بعضهما بعضاً، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه، وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال، واجتلبت لها همزة الوصل". وقال أبو البقاء العكبري في إعراب القرآن: "فادارأتم، أصل الكلمة تدارأتم، ووزنه تفاعلتم، ثم أرادوا التخفيف فقلبوا التاء دالاً لتصير من جنس الدال التي هي فاء الكلمة فيمكن الإدغام. ثم سكنوا الدال، إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكناً فلم يمكن الابتداء بالساكن فاجتلبت له همزة الوصل، فوزنه الآن افَّاعلتم بتشديد الفاء مقلوب من تفاعلتم..".
وجاء (ادّارك) بتشديد الدال، وأصله (تدارك) . ففي التنزيل:"كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا- الأعراف/37". ومعنى (ادّاركوا فيها) تلاحقوا، كما في الجلالين. قال أبو البقاء العكبري:"يقرأ بتشديد الدال وألف بعدها، وأصلها تداركوا فأبدلت التاء دالاً وأسكنت ليصح إدغامها ثم اجتلبت لهذه همزة الوصل ليصح النطق بالساكن..".
وجاء في التنزيل كذلك: "بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عَمون- النمل/66". وقد جاء في تفسير الجلالين: "
…
ادّارك بتشديد الدال وأصله تدارك، أبدلت التاء دالاً وأدغمت في الدال واجتلبت همزة الوصل، أي بلغ ولحق أو تتابع وتلاحق..".
وقد جاء من ذلك اتّابعوا واصّابروا واضّاربوا واسّاقطوا واشّاجروا واذّاكروا واجّاوروا (شرح الشافية /371) واصّالحوا، كما في الصحاح.
ويجري مثل هذا الإبدال والإدغام في (تفعَّل) أيضاً. ومن ذلك: اطيَّر واسَّمع واصَّدق
…
بتشديد الطاء والسين والصاد وأصله تطيّر وتصدّق وتسمّع. ففي التنزيل: "قالوا اطّيرنا بك ومن معك –النمل/47". وفي الصحاح: "وتطيرت من الشيء وبالشيء، والاسم الطّيرَة مثل العِنَبة وهو ما يُتشاءم به من الفأل الرديء. وفي الحديث أنه كان يحب الفأل ويكره الطّيرة. وقوله تعالى: "قالوا اطّيرنا بك –النمل/47، وأصله تطيّرنا فأدغمت التاء في الطاء واجتلبت الألف ليصحّ الابتداء به". وثمة اشقق بتشديد الشين والقاف وأصله تشقق، ومنه قوله تعالى: "وإن منها لما يشّقق فيخرج منه الماء /البقرة/74".
وجاء في التنزيل أيضاً: "لا يسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى –الصافات/8" بتشديد السين والميم، وهو من التسمع. قال البيضاوي:"وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه. ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد، من التسمع وهو طلب السماع، والملأ الأعلى الملائكة أي أشرافهم". وفي الصحاح: "وتسمّع إليه واسَّمع إليه بالإدغام".
وفي التنزيل: "إن المصّدقين والمصّدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم –الحديد 18". قال الجوهري في الصحاح: "وقوله تعالى: إن المصّدقين والمصّدقات، بتشديد الصاد أصله المتصدقين فقلبت التاء صاداً وأدغمت في مثلها".
وجاء من ذلك اتَّرس واتّبع وادّثر وازّيّن وازّمّل واضّرّع واطّوّق واطّوّع (شرح الشافية/ 371) ، بتشديد الفاء والعين فيها جميعاً، كما هو في اطيّر واسّمع واصّدق، وجاء (اصّلح) بتشديد الفاء فيه، لأن الأصل فيه اصطلح بوزن افتعل.
القول في حَمى وحامى وتحامى
تقول حميت القوم حماية إذا نصرتهم، وحميت المكان من الناس إذا منعته منهم، والمصدر الحمي والاسم الحماية، كما في المصباح، وفي الكامل للمبرّد:"يقال حميت الناحية أحميها حمياً وحماية.. ومعنى ذلك منعت ودفعت، ويقال أحميت الأرض جعلتها حمى لا تقرب –1/259". ونحو ذلك في الأساس قال الزمخشري: "حميت حماية.. حميت المكان: منعته أن يُقرب، فإذا امتنع وعزّ قلت أحميته أي صيّرته حمى، فلا يكون الإحماء إلا بعد الحماية ولفلان حمى لا يقرب.. ومن المجاز حميته أن يفعل كذا إذا منعته"، وحمي فيما تقدم فعل متعد إلى مفعول واحد، فهل يتعدّى إلى اثنين، فنقول (حميته الشر والأذى) إذا حميته منهما؟ أقول جاء لأبي ذؤيب أو لمالك بن خالد الخناعي قوله:
صيدٌ ومستمتعٌ بالليل هجّاسُ
يحمي الصريمة أحدان الرجالِ له
فقرئ أحدان بالرفع على الفاعلية والصريمة بالنصب على المفعولية. لكنه قرئ كذلك بنصب الصريمة ونصب أحدان، والصريمة موضع وأحدان ما انفرد من الرجال، وهجّاس يهجس ويفكر في نفسه. وقد قال الأخفش في معناه: يحمي الصريمة من أحدان الرجال على حد قولك حميت الدار اللصّ. هذا ما جاء في شرح أشعار الهُذَليين لأبي سعيد الحسن بن الحسين السكري (1/227) . وعلى هذا قول ابن جني في الخصائص (1/442) : "فأما هجنه الطبع وكدورة الفكر وخمود النفس وخيس الخاطر وضيق المضطرب فنحمد الله على أن حماناه" بمعنى حمانامنه، فعدّى إلى مفعولين.
وجاء في رسالة ابن القارح علي بن منصور الحلبي إلى المعري، حديث رسول الله ?:"إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا/ 27" أي حماه من شرورها، وكأن قولك حميتك الشر محمول على وقيتك الشر. ففي الأساس:"وقاه الله كل سوء، ومن السوء، وقاية". وهكذا قولك حميتك الشر ومن الشر.
ويتعدى (حمى) إلى مفعولين بمعنى آخر. ففي الأساس "وحميت المريض الطعام حِمية".
ويسألون هل يأتي (حمي) بمعنى الحماية لازماً؟ أقول قال أبو علي المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (1/381) في قول الشاعر حريث بن جابر:
كما كان يحمي عن حقائقها أبي
فكنت أنا الحامي حقيقة وائلٍ
قال: "ويقال حميت الحقيقة وحميت عن الحقيقة، وهو يحمي عليه ويحامي عليه".
فيتبين بذلك كله أن (حَمى) من الحماية يأتي لازماً فيتعدى بعن وعلى، ويأتي متعدياً إلى مفعول وإلى مفعولين.
أما (حامى) ، وليس هو من أفعال المشاركة، فإنه يتعدى بالحرف تقول (يحمي عليه ويحامي عليه) بمعنى كما قال المرزوقي فيما تقدم. وقد تكرر منه ذلك إذ قال في موضع آخر "فدافعت دونه وحاميت عليه 1/133" وقال:"مدحهم بحسن المحاماة على الجار" وقال: "لأن عادتنا تفرض علينا المدافعة عن الكرم والمحاماة على الشرف /1694". وقد جاء هذا في كلام الجاحظ إذ قال في كتاب التربيع والتدوير: "فأما المحامي على الهزل والمفضل للمزح فإنه قال: أول ما أذكر من خصال الهزل ومن فضائل المزح أنه دليل على حسن الحال وفراغ البال..". وفي الأساس: "حماه حماية وحامى عليه".
وجاء في اللسان: "وحاميت عنه محاماة وحماء، يقال: الضروس تحامي عن ولدها". وقالت ريطة بنت عاصم:
بدار المنايا والقنا متشاجر
فوارس حاموا عن حريم وحافظوا
قال المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (1101) : "وقولها فوارس.. وصفتهم بأنهم حفظوا ما وجب عليهم حفظه من حُرَمهم
…
والحرمة ما لا يحل لك انتهاكه، وكذلك المحارم واحدتها مَحرمة.. ومن ذلك قيل حريم الدار.. وقولها وحافظوا بدار المنايا، أي ثبتوا بدار الحفاظ ودافعوا وصبروا ولم ينتقلوا عنها طلباً للسلامة".
ويأتي (حمى عليه وحامى عليه) بمعنى آخر. ففي اللسان: "وحاميت على ضيفي إذا احتفلت له قال الشاعر:
من لحم مُنقيةٍ ومن أكبادِ
حامَوا على أضيافهم فشَووا لهم
وحميت عليه: غضبت". ولم يسمع (حامى) متعدياً.
فتبين بذلك أنك تقول حاميت عنه وحاميت عليه حِماه ومحاماة بمعنى الحماية.
وأما (تحامى)، وليس هو من أفعال المشاركة فإنه يتعدى ولا يتعدى. ومثال المتعدي قول ابن جني في الخصائص:"تحاميت ما تحامت العرب، من ذلك –1/103". وجاء في الأساس: "ويقال احتميت منه وتحاميته" ومنه قول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني في رسائله: "ويتحامى من أخلاق الشيخ تعاطي الشرب ويقتدي به في سائر أخلاق الفضل –ط. الجوائب/199". وقول الحريري في مقامته الرقطاء: "فحييته ثم تحاميته". وفي مختار الصحاح: "وتحاماه الناس أي توقوه واجتنبوه". ومثال (تحامى) المتعدي بالحرف قول ابن جني في الخصائص: "تحامياً من اجتماع الإعلالين –1/397". وقول الهمذاني في المقامة البشرية: "قد كانت تحامت عن ذلك الطريق /446" أي تباعدت.
القول في تعدية التفاعل
مر بنا أن الأصل في مفاعلة المشاركة إذا تعدت إلى مفعولين أن يتعدى (التفاعل) إلى واحد. فأنت تقول (نازعته الأمرَ) إذا جاذبته إياه فتعدّيهِ إلى اثنين فإذا قلت (تنازعوا الأمر) عدّيته إلى واحد. وأنت تقول (جاذبته الأمرَ) فتعدّيه إلى اثنين، فإذا قلت (تجاذبوا الأمر) عدّيته إلى واحد أيضاً. ففي الأساس: "نازعه الكلام
…
وتنازعوا الكأس". وفي الصحاح: "جاذبته الشيء إذا نازعته إياه.. والتجاذب التنازع".
فإذا تعدت مفاعلة المشاركة إلى واحد جاء التفاعل منها لازماً لا يتعدى. فأنت تقول (نازعت فلاناً) إذا خاصمته، فإذا قلت (تنازع القوم) إذا اختلفوا وتخاصموا جئت به لازماً لا يتعدى إلى شيء. ففي المصباح:"نازعته في كذا منازعة ونزاعاً خاصمته وتنازعا فيه وتنازع القوم اختلفوا".
وتقول ساءلته عنه فتعدّيه إلى واحد، وتساءل القوم فتأتي به لازماً. ففي الأساس "وساءلته عنه مساءلة وتساءلوا عنه". وفي مختار الصحاح:"وتساءلوا سأل بعضهم بعضاً".
وما دام (تساءل) من أفعال المشاركة فلابد أن يأتي من اثنين فأكثر. ويقول الكتاب حيناً (تساءل فلان عن كذا) فيجعلون فاعله واحداً، فهل لهذا وجه من العربية؟
أقول الأصل أن يسند (تساءل) إلى اثنين فأكثر، تقول (تساءلا) إذا سأل كل منهما الآخر و (تساءلوا) إذا سأل بعضهم بعضاً، كقولك (تشارك وتشاركوا) . قال الأستاذ محمد العدناني في (معجم الأخطاء الشائعة) :"يقولون تساءل الرجل عن الأمر، والصواب تساءل الرجلان أو الرجال". ولكن ألا يأتي (تساءل) لغير المشاركة فيصح إسناده إلى واحد؟ أقول جاء في الكشاف للزمخشري في تفسير قوله تعالى: "عمّ يتساءلون. عن النبأ العظيم –1/النبأ": "يتساءلون يسأل بعضهم بعضاً أو يتساءلون غيرهم عن رسول الله ? والمؤمنين نحو يتداعونهم ويتراءونهم" فقد فسَّر (تساءلوا) بمعنى (سألوا) أيضاً. وقد ذكر ذلك البيضاوي فقال: "كقولهم يتداعونهم ويتراءونهم أي يدعونهم ويرونهم" أي أن (يتسألون عنه) يصح أن يعني (يسألون عنه) . فإذا ثبت هذا صح قول الكتاب (تساءل الرجل عن كذا) إذا سأل عنه، ويكون (تساءل) هنا فعلاً متعدياً لا يمت إلى أفعال المشاركة.
وثمة (تعارف) وهو من أفعال المشاركة تقول (تعارف القوم) إذا عرف بعضهم بعضاً، كما جاء في الصحاح ومختاره والقاموس واللسان والتاج، فالفعل لازم. وقد جاء في التنزيل:"ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم –يونس/ 45". قال البيضاوي: "يتعارفون بينهم: يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً". كما جاء في التنزيل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير –الحجرات /13". قال البيضاوي: "لتعارفوا. يعرف بعضكم بعضاً" فتأكد بهذا أن (تعارف) فعل لازم. ولكن جاء على ألسنة الفصحاء تعدية (تعارف) كأن تقول (تعارفوا الشيء) إذا عرفوه فيما بينهم. فانظر إلى ما جاء في الصحاح (مادة وقى) : "وأما اليومَ فيما يتعارفه الناس ويقدّر عليه الأطباء فالأوقية عندهم وزن عشرة دراهم.." فقد عدّى الفعل فقال (يتعارفه الناس) . وقد جاء نحو ذلك في مختار الصحاح. وجاء في مفردات الراغب (مادة ضاف) : "وصارت الضيافة متعارفة في القرى". وفي (مادة كبر) : "والكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته". فقوله (متعارفه) من (تعارفوه) كقولك متداولة ومتناقلة من (تداولوه وتناقلوه)، وقد جاء مثل ذلك في رسائل أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني إذ قال:"الكتابة التي يتعاطاها أهل الزمان، المتعارفة بين الناس /37"، وقال في موضع آخر:"ولا خرجت عن متعارف الناس/ 220". وفي كلام الأئمة قولهم (تعورف الأمر) بالبناء للمجهول وهو من تعارفوه أيضاً، كما جاء هذا في كلام الراغب الأصبهاني في (مادة كف) . فثبت بذلك كله أن (تعارف) لازم ومتعد. ويقول الكتاب حيناً (هذا أمر متعارف عليه) و (هذه عادات متعارف عليها) ولا وجه له في العربية، وإنما الصواب (أمر متعارف وعادات متعارفة) .
تفاعل معه
جرى الكتاب في استعمال ما كان من أفعال المشاركة على (تفاعل) أن يسندوه إلى فاعل واحد ثم يتبعوا الفاعل أداة المصاحبة. يقولون (تبارى فلان مع فلان) ، والأصل أن يقولوا (بارى فلان فلاناً) أو (تبارى فلان وفلان) بالعطف.
ذلك أن ما كان من أفعال المشاركة كتفاعل، لابد فيه من تعدد الفاعل، فإذا أسند الفعل إلى أحد فاعليه، فلابد من استيفاء الآخر بالعطف. ومن خصوص العطف بالواو إشراك الفاعلين في الحدث. ولا محل لإحلال أداة المصاحبة فيه محل العاطف، لأن الاشتراك في الحدث ها هنا يقتضي المصاحبة بطبيعة الحال، كما هو ظاهر في قولك (تبارى فلان وفلان) .
فإذا كان الفعل مما يسند إلى واحد، وقد ذكر الفاعل، فإن العطف عليه بالواو يفيد مجرد إشراك المعطوف في الحدث، دون المصاحبة، كقولك (جاء زيد وخالد) فقد عنيت أن كلاً منهما قد جاء، فالعطف فيه قد أغنى عن إعادة العامل وهو الفعل، ولا يلزم من مجيئهما هذا أن يتصاحبا فيه. فإذا أردت المصاحبة فعلاً جئت بأداتها (مع) ليكون تسلط العامل على ما قبلها هو وقت تسلطه على ما بعدها فقلت (جاء زيد مع خالد) فأخبرت بمجيئهما معاً. ولو لم تأت بهذه الأداة لم تثبت المصاحبة، كما رأيت.
وإذا أسند الفعل إلى ضمير كما في قولك (زيد جاء) وأردت العطف على الضمير المرفوع، امتنع ذلك حتى تؤكد الضمير فتقول (زيد جاء هو وخالد) . وكذلك الأمر في (تفاعل)، تقول:(زيد تبارى هو وخالد) لأن عطف الظاهر على المضمر المرفوع ضعيف حتى يؤكد.
وتفيد ما تفيده (مع) ، واو المعيّة، فإذا جاز العطف في الكلام جاز الوجهان: العطف والنصب على المفعول معه. تقول: (جئت أنا وزيد) على العطف، كما تقول:(جئت أنا وزيداً) بالنصب على المفعول معه، وإذا لم يجز العطف تعين النصب كقولك (جئت وزيداً) إذ يضعف العطف هنا لعدم تأكيد ضمير الرفع، فلا تقول (جئت وزيد) . ولا يعني جواز الوجهين هنا تطابق المعنيين فيهما، قال أبو البقاء الكفوي في الكليات (5/187) . "شرط باب المفعول معه أن يكون فعله لازماً، حتى يكون ما بعد الواو على تقدير العطف مرفوعاً فيكون العدول إلى النصب لكونه نصباً على المصاحبة، فإن العطف لا يدل إلا على أن ما بعد الواو شارك ما قبلها في ملابسة معنى العامل لكل منهما. والنصب كما يدل عليه يدل أيضاً على أن ملابسته لهما في زمان واحد" وفي الهمع للسيوطي (1/222) : "والفرق بينهما من جهة المعنى أن المعية يفهم منها الكون في حين واحد، دون العطف لاحتماله مع ذلك التقدم والتأخر".
فإذا لم يسبق الفعل، كما في نحو قولك (كيف أنت وزيد) أو قولك (ما أنت وزيد)، فقد أجاز كثرة النحاة الوجهين: الرفع والنصب، واختاروا الرفع. والتحقيق أنه لا اختيار في المسألة بينهما. فأنت إذا أتيت بالرفع فقلت:(ما أنت وزيد) ، فأنت تسأل عن المخاطب وعن زيد، وإذا أتيت بالنصب فقلت:(ما أنت وزيداً)، فأنت تسأل عن صلة ما بينهما. ففي مثل قولهم:(كيف أنت وقصعةً من ثريد) لا وجه فيه إلا النصب، لأنك إنما تسأل عما بين المخاطب وهذه القصعة، لا عن المخاطب وعن القصعة، خلافاً لمن أجاز فيه الوجهين، بل اختار الرفع. قال الرضي في شرح الكافية:"الأولى أن يقال: إن قصد النص على المصاحبة وجب النصب، وإلا فلا".
أداة المصاحبة وأفعال المشاركة
من أفعال المشاركة ما جاء على (افتعل) كاجتمع واتفق واتحد، والأصل في هذه الأفعال أن تسند إلى اثنين فصاعداً، تقول (اجتمع القوم واستجمعوا بمعنى تجمعوا) كما في المصباح، و (اتفق الشيئان تقارباً وتلاءماً) كما في المقاييس، و (اتحد الرجلان وبينهما اتحاد) كما في الأساس. ولكن سمع قولهم (اجتمع معه) و (اتفق معه) و (اتحد معه) بإسناد فعل المشاركة إلى واحد وإتباعه أداة المصاحبة (مع) ، فكيف أمكن هذا وامتنع قول القائل (تبارى معه وتنازع معه) والحكم في الحالين واحد؟
ففي الصحاح "جامعه على أمر كذا اجتمع معه"، وفي مختار الصحاح والقاموس مثل هذا النص. وفي اللسان:"وجامعه على الأمر مالأه عليه واجتمع معه".
وهكذا (اتفق) ففي اللسان: "قال ابن سيده: وقد وافقه موافقة ووفاقاً واتفق معه" ونحو ذلك في أكثر المعاجم، وكذا (اتحد) فقد جاء في الكليات لأبي البقاء الكفوي (1/35) :"فقال بعضهم باتحاد النفس مع البدن، وذهب بعضهم إلى اتحاد النفس مع العقل الغول، وزعم قوم من المشائين أن النفس إذا عقلت شيئاً اتحدت مع الصورة المعقولة..".
وقالوا (انتظم فلان مع فلان في كذا) والأصل (انتظم فلان وفلان) ، ففي الأساس "انتظم كلامه وأمره" والانتظام الاتساق في الصحاح، بل قال "الاتساق: الانتظام" ففي لطف اللطائف لأبي منصور النيسابوري الثعالبي: "كتب أبو الفتح ذو الكفايتين إلى رجل يستهديه الشراب: قد انتظمت يا سيدي مع رفقة في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المُدام صرنا كبنات نعش، والسلام".
ونحو ذلك (التقى معه) . فقد جاء في النهاية: "دخل أبو قارظ مكة فقالت قريش حليفنا وعضدنا وملتقى أكفنا، أي أيدينا تلتقي مع يده وتجتمع". وحكى ذلك صاحب اللسان فلم ينكر منه شيئاً. وقال المرزوقي في شرح الحماسة: "قالت هذه المرأة لما التقيت معها". قال ذلك في شرح قول الشاعر:
أراك حديثاً ناعم البال أفرعا (ص/321)
ألا قالت العصماء يوم لقيتها
وقال في موضع آخر: "والمعنى تمنيت أن رجالاً فعلوا في معناكِ ما فعلوا من الهمّ بقتلي.. التقوا معي/324". والأصل التقى فلان وفلان إذا تلاقيا، والتقى الرجال إذا تلاقوا. وقال الجاحظ في بعض رسائله (كتاب الحجاب) :"يتلاقى مع المعارف والأخوان والجلساء".
وثمة (تلاحق) وهو من أفعال المشاركة. ففي الأساس: "وتلاحق القوم وتلاحق الركاب: تتابعوا" قال المرزوقي: "أي تسير النهار كله حتى يتصل سيرها بالليل طلباً للتلاحق معها /1089".
فثبت بذلك أن الفصحاء قد نصوا أو قالوا: اجتمع معه واتفق معه واتحد معه وانتظم معه، كما قالوا: التقوا معهم وتلاقوا معهم بل تلاحقوا معه
…
وقد هون هذا على المتأخرين بل استدرجهم إلى أن يقولوا نحواً منه. فقد ذكر الدكتور مصطفى جواد مما جاء على هذا المنوال ما قاله اللغوي البغدادي صاحب خزانة الأدب (1/122) : "روى المرزباني.. أن الوليد بن عبد الملك تشاجر مع أخيه مسلمة"، وما جاء في المستطرف للأبشيهي:"وتخاصم بدوي مع حاج عند منصرف الناس" ذكر جواد ذلك في كتاب (المباحث اللغوية في العراق) . فما الذي قاله النقاد في هذه المسألة؟
ذهب بعض النقاد إلى امتناع قول القائل (تفاعل معه) و (افتعل معه) ما داما من أفعال المشاركة ما لم تنص المعاجم على جواز ذلك فيؤخذ به ولا يقاس عليه كقولهم اتفق معه واجتمع معه
…
وقال بعضهم يؤخذ بما جاء في كلام الفصحاء واعتبار ما يكتبونه بمنزلة ما يروونه، فإذا صح هذا صح قولك التقى معه وتلاقى معه وانتظم معه.. وذهب آخرون إلى أن ما ثبت بحكم لابد من الأخذ بقياسه فلا يقتصر فيه على ما قاله العرب واستجازه الأئمة.
فانظر إلى ما جاء في شرح درة الغواص لأحمد شهاب الدين الخفاجي، وبحر العوّام للشيخ محمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي الحلبي، في الرد على ما ذهب إليه أبو محمد القاسم الحريري في كتابه درّة الغواص.
القول في إسناد أفعال المشاركة إلى فاعل واحد
والاستغناء بالمصاحبة عن العطف
قال الحريري أبو محمد القاسم في كتابه (درة الغواص) : "ويقولون اجتمع فلان مع فلان فيوهمون فيه، والصواب أن يقال اجتمع فلان وفلان، لأن لفظة اجتمع على وزن افتعل، وهذا النوع من وجوه افتعل مثل اختصم واقتتل، وما كان أيضاً على وزن تفاعل مثل تخاصم وتجادل يقتضي وقوع الفعل من أكثر من واحد، فمتى أسند الفعل منه إلى أحد الفاعلين لزم أن يعطف عليه الآخر بالواو لا غير، وإنما اختصت الواو بالدخول في هذا الموطن لأن صيغة هذا الفعل تقتضي وقوعه من اثنين فصاعداً، ومعنى الواو يدل على الاشتراك في الفعل أيضاً، فلما تجانسا من هذا الوجه وتناسب معناهما فيه استعملت الواو خاصة في هذا الموضع ولم يجز استعمال لفظة مع فيه لأن معناها المصاحبة وخاصيتها أن تقع في الموطن الذي يجوز أن يقع فيه من واحد والمراد بذكرها الإبانة عن المصاحبة التي لو لم تذكر لما عرفت. وقد مثل النحويون في الفرق بينهما وبين الواو فقالوا إذا قال القائل جاء زيد وعمرو كان إخباراً عن اشتراكهما في المجيء على احتمال أن يكونا قد جاءا في وقت واحد أو سبق أحدهما، فإن قال جاء زيد مع عمرو كان إخباراً عن مجيئهما متصاحبين، وبطل تجويز الاحتمال الآخر
…
". ويتبين مما تقدم من كلام الحريري أنه قد استمسك بمنطق النحو ولم يتزحزح عن الأصل أو يأبه لاستعمال الفصحاء أو نص المعاجم كقول الجوهري: "وجامعه على أمر كذا اجتمع معه"، وقد توفي الجوهري (393هـ) قبل نحو قرن وربع من وفاة الحريري، وقد كانت نحو (515هـ) . وما أظن الجاحظ وقد توفي (255هـ) قد انفرد بنحو قوله (يتلاقى مع المعارف) والمرزوقي، وقد توفي (421هـ) ، قد ابتكر نحو قوله (التقوا معي) وقد تكرر منه ذلك، فهل ثمة ما يُخرّج عليه استعمال هؤلاء الثقات في إسناد فعل المشاركة إلى واحد والاستغناء عن العطف فيه بأداة المصاحبة؟.
كان الحريري من أشهر علماء العربية في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس، وكان من فحول النقاد، وقد أثار نقده انتقاد الآخرين عليه، فقد تعقبه في مقاماته الإمام أبو محمد المعروف بابن الخشاب البغدادي فعاب كثيراً مما جاء في هذه المقامات. وانبرى لابن الخشاب هذا شيخ المحققين في عصره أبو محمد عبد الله ابن بري المقدسي المصري النحوي اللغوي في كتابه (اللباب في الرد على ابن الخشاب) ، فرد عليه معظم أقواله وفندها وانتصر للحريري بالبينات والبراهين.
ولم يفت ابن بري، وقد انتصر للحريري على ابن الخشاب واستفرغ في ذلك وسعه وبذل طوقه، أن يتعقب الحريري نفسه في كثير مما عاب به كلام الخاصة في (درة الغوّاص) . ومما أخذه ابن بري على الحريري إنكاره (اجتمع فلان مع فلان) . فقد جاء في (بحر العوّام) للشيخ محمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي الحلبي: "ومن ذلك قولهم اجتمع فلان مع فلان، وصوّب الحريري أن يقال اجتمع فلان وفلان، دون أن يقال ذلك
…
وقد تعقبه ابن بري فقال: لا يمتنع في قياس العربية أن يقال اجتمع زيد مع عمرو واختصم جعفر مع بكر، بدليل جواز اختصم زيد وعمراً، واستوى الماء والخشبة، وواو المفعول معه بمعنى مع مقدّرة بها، فكما يجوز استوى الماء والخشبة بنصب الخشبة كذلك يجوز استوى الماء مع الخشبة، هذا كلامه..". وجاء نحو من ذلك في شرح درّة الغواص لأحمد شهاب الدين الخفاجي:"في الحواشي لا يمتنع في قياس العربية أن يقال اجمتع زيد مع عمرو واختصم مع بكر، بدليل جواز اختصم زيد وعمراً واستوى الماء والخشبة.. فكما يجوز استوى الماء والخشبة كذلك يجوز استوى الماء مع الخشبة، واستوى في هذا مثل اختصم فإن المساواة تكون بين اثنين فصاعداً كالاختصام فإذا جاز في هذه الأفعال دخول واو المفعول معه جاز دخول مع كقوله استوى الحر والعبد في هذا الأمر".
فأنت ترى أن ابن برّي قد أجاز أن يكون (استوى) في المثَل من أفعال المشاركة كتساوى، وما دام النحاة قد أتوا بواو المصاحبة بعد (استوى) ، وهو عند ابن برّي من أفعال المشاركة، فقد صح أن يؤتى بمع في هذا الموضع لأنها في منزلة واو المصاحبة، وجاز قولك استوى الماء مع الخشبة بمعنى تساويا في العلو، وجاز قياساً عليه اختصم فلان مع فلان وما كان في حكمه كقولك تخاصمت مع صالح وتشاجرت مع خالد، وهو الدائر على ألسنة الكتاب في هذا العصر.
والغريب أن المرزوقي شارح ديوان الحماسة، وقد تكرر قوله (التقى معه) و (التقوا معهم) كما رأيت، قد أوجب العطف إذا أسند فعل المشاركة إلى واحد، ومنع أن تحل فيه المصاحبة محله، مؤكداً ما ذهب إليه أكثر النحاة، خلافاً لابن برّي، وقطع بأن (استوى) في المثل المشهور إنما أسند إلى واحد فليس هو من أفعال المشاركة بحال من الأحوال. فقد جاء في ديوان الحماسة قول الأعرج المعني:
وما تستوي والوردَ ساعةَ تفزعُ
تلوم على أن أعطي الورد لِقحة
فحكى المرزوقي (ص/350) البيت بنصب الورد والواو قبله للمعية، وقال:"يريد لا تستوي هي مع الورد" فأسند الفعل إلى واحد وجعل معناه (وما تساوي الورد)، وهكذا قولهم: استوى الماء والخشبة فإن معناه (ساوى الماء الخشبة) . وأردف "ولو أراد ما تستوي هي وما يستوي الورد لم يكن يجوز إلا الرفع" أي لو كان الاستواء استواء مشاركة للزم الرفع والعطف وامتنعت المصاحبة والنصب. على أنه أقر رواية (وما تستوي والورد) في البيت بالرفع والعطف، وقال بضعف هذا الوجه لأن عطف الظاهر على الضمير المرفوع ضعيف حتى يؤكد.
على أن من الأئمة من أثبت الرأيين في أمثلة المصاحبة، الرأي السائد في امتناع أن تكون أفعالها من أفعال المشاركة، والرأي الآخر في إمكان ذلك وهو مذهب ابن بري. فقد جاء شرح الإظهار والمسمى بنتائج الأفكار للشيخ مصطفى حمزة ببعض أمثلة المصاحبة وحاول بيان معنى المصاحبة هل تحتمل المشاركة، فقال:"والمشاركة فيه، أي في الفعل، ليست بشرط لقولهم استوى الماء والخشبة، أي ارتفع، وسرت والنيل، إذ لا ارتفاع في الخشبة ولا سير في العلو، وأردف: "وأجيب بأنه أريد بالأول معنى التساوي أي تساوى الماء والخشبة في العلو، وبالثاني الانتقال فيوجد المشاركة، ويصح العطف". وهكذا جعل (استوى) في مثال المصاحبة من أفعال المشاركة. فصح بذلك أن تقول استوى الماء والخشبة بالنصب، واستوى الماء والخشبة بالرفع على العطف واستوى الماء مع الخشبة بإحلال مع محل واو المصاحبة، على المعية وهكذا تقول اختصم فلان وفلاناً بالنصب على المعية واختصم فلان وفلان بالرفع على العطف، واختصم فلان مع فلان، وهذا ما ذهب إليه ابن بري.
ولكن إذا صح قولك اختصم فلان وفلان واتحد فلان وفلان، وكان هذا هو الأصل في أفعال المشاركة، فما الذي حمل الكتاب أن يؤثروا عليه بالسليقة اختصم فلان مع فلان، واتحد فلان مع فلان. فتجري به أقلامهم بغير عنان؟ فهل ثمة حاجة في التعبير قد استدرجت كتاب العصر إلى استعمال (مع) في هذا الموضع واقتادهم إليه؟
أقول عمد بعض الأئمة إلى بيان الفارق المعنوي بين (المفاعلة) و (التفاعل) إذا كانا للمشاركة فقال: "وقد يقال في الفرق المعنوي أن المبادئ بالفعل أو الغالب فيه معلوم في المفاعلة بخلاف التفاعل، فإن المبادئ فيه أو الغالب غير معلوم" هذا ما جاء في شرح البناء للإمام محمد الكفوي. أي أنك إذا قلت قاتل خالد زيداً فقد أردت أن تخبر بأن البادئ في القتال هو خالد، ولو اشترك فيه زيد وعلى هذا أردت أن تخبر بأن البادئ في القتال هو خالد، ولو اشترك فيه زيد وعلى هذا قوله تعالى:"فإن قاتلوكم فاقتلوهم- البقرة/191" فقوله فإن قاتلوكم معناه إذا بادروا إلى قتالكم فاقتلوهم. وعليه قوله ?: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها..". أما إذا قلت تقاتل خالد وزيد فليس في قولك ما يشير إلى البادئ فيه، وعلى هذا قوله تعالى: "فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه –القصص/15" إذ ليس في قوله يقتتلان ما يشير إلى البادئ بالقتال، ويقتتلان في هذا كيتقاتلان. ونحو ذلك قول الرشيد للكسائي: "إن أعز الناس من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين".
وقد يُعترض على هذا بقول الحسن بن علي رضي الله عنهما لبعض من خاصمه: "سفيه لم يجد مسافهاً" إذ ليس المسافه فيه، لو وجد، هو السابق والبادي وهو ما احتج به الإمام الرضيّ في شرح الشافية لرد قول القائل إن المفاعل بكسر العين هو الغالب أو البادئ دون المفاعل بفتح العين. وعندي أن قول الحسن رضي الله عنه لا يسقط الأصل ولا يلغيه، لأن في كلامه قرينة تدل على أن المسافه بكسر الفاء ليس هو البادئ بالسفه، حين قال "سفيه لم يجد مسافهاً" أي سفيه لم يجد من يقابل سفهه بمثله فيشاركه فيه.
ولكن إذا عدمت القرينة في الكلام كان الأصل أن يكون المخاصم بكسر الصاد هو البادئ أو هو الموصوف بالخصام أولاً والمقصود به، دون المخاصَم بفتح الصاد، فإذا قلت قاتل خالد صالحاً أشرت إلى أن البادئ هو خالد، بدليل أن لمخاطبك أن يجيب بل قاتل صالح خالداً، خلافاً لقولك (تخاصم خالد وزيد) فليس فيه ما يشير إلى البادئ والموصوف بالخصام أولاً، أو المقصود به. فإذا قلت (تخاصم خالد مع زيد) ولم تزد، فهم بقولك هذا أن خالداً هو البادئ بالخصام، وهو المقصود بالحديث أيضاً، ولو تعلق الخصام بسواه. وليس هذا بدعاً في قياس العربية، فالمخاصم، بكسر الصاد، في المخاصمة هو العمدة أما المخاصم بفتحها فهو الفضلة. أما في التخاصم فكل منهما متخاصم بكسر الصاد وهو عمدة كما هو واضح في قولك (تخاصم خالد وزيد) على الأصل.
وقد يضطر المتخصصون كالكيميائيين مثلاً أن يقولوا "يتحد الكبريت مع مادة كذا وكذا" ليعربوا عن أن أحاديثهم إنما هي في الأصل عن الكبريت فهو موضوع بحثهم دون المواد الأخرى. والكبريت في قولهم (يتحد الكبريت مع..) هو المرفوع وهو العمدة دون سواه. وليس يغنيهم إذا أرادوا هذا المعنى، أن يقولوا "يتحد الكبريت ومادة كذا وكذا" إذ ليس معناه بالضرورة أن المقصود بالكلام أولاً هو الكبريت، فليس الكبريت في قولهم (يتحد الكبريت و..) هو العمدة وحده وإن تقدم، وإنما هو وما عطف عليه في ذلك سواء، فالعطف هنا لا يبين عن مراد المتكلم صراحة خلافاً لأداة المصاحبة فإنها تبين عنه وتكشف عن غرضه.
فقد استقر بما ذكرنا أن التصرف في أفعال المشاركة على الوجه المذكور لا ينقض أصلاً ولا تأباه طرائق العربية، فقد جاء اتفق معه واجتمع معه في نصوص المعاجم، وتلاقوا معه والتقوا معه واتحدوا معه وانتظم معه وأمثاله في كلام الفصحاء. وقد صح هذا عند المحققين من الأئمة إذ لم يتعقبوا هذا التصرف على قائله، ولا ردوه إلى الشذوذ، أو قالوا بتوهين ما جاء على مثاله، بل وجدوا فيه وجهاً صالحاً ومذهباً متقبلاً، كما فعل ابن بري وسواه، وقد أدرك به الكتاب حاجتهم في التعبير، ولو خفي عليهم ما حكينا وفسرنا من أمره. وأنت إذا التمست أمثال هذا التصرف في كلام الأئمة المتقدمين وتتبعتها في مصنفاتهم، هدتك إلى نفسها ودلتك على سر استعمالها، وكلها في هذا الباب شرع واحد، وما يتوجه على أحدها يتوجه على الآخر. ومن ذلك شيوع قولهم (اشترك معه) . فانظر إلى ما جاء في سر الفصاحة لأبي محمد بن سنان الخفاجي:"فهذا منتهى ما نقوله في الألفاظ بانفرادها واشتراكها مع المعاني /222"، وما جاء في زهر الآداب لأبي إسحق الحصري القيرواني:"قال أبو الفرج قدامة بن جعفر معنى أبيات زهير الأولى: لما كانت فضائل الناس، من حيث هم ناس، لا في طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان.. إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة، كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيباً، وبما سواها مخطئاً 22/71". وانظر إلى قول ابن جني في الخصائص (1/453) بعد كلامه على تداخل الأصلين الثلاثي والرباعي: "أما تزاحم الرباعي مع الخماسي فقليل، وسبب ذلك قلة الأصلين جميعاً". وأصل الكلام عند النحاة (أما تزاحم الرباعي والخماسي) . وليس من هذا بسبيل قول الجاحظ: "تشاغلت مع الحسن بن وهب أخي سليمان بن وهب بشرب النبيذ أياماً، فطلبني محمد بن عبد الملك لمؤانسته –زهر الآداب- 2/184". إذ ليس (تشاغل) ها هنا من أفعال المشاركة بدليل قولك (تشاغلت) وإسناده إلى واحد كتمارضت وتغابيت وتعاميت وتحامقت. قال الشاعر:
"تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم..".
وجاء في الأدب الكبير لابن المقفع قوله: "أشركونا معهم في ما أدركوا" ويمكن أن يعقد على هذا في المطاوعة فيقال: (فاشتركنا معهم في هذا) .
ولكن هل تقول (القتال مع فلان أمر لابد منه) وأنت تريد (قتالك إياه) ؟ أقول الأصل أن تعني بالقتال مع فلان قتالك إلى جانبه مناصرة له على عدوه، ولكن جاء في (الباب الأول) من كتاب (كليلة ودمنة) ما أريد به خلاف ذلك. قال:"وإنما حدثتك لتعلم أن القتال مع صاحبنا لا أراه لك رأياً. فأجاب: فما أنا بمقاتل صاحبك ولا ناصب له العداوة سرّاً ولا علانية". فقد أريد بقوله (القتال مع صاحبنا) مقاتلته، ولاشك. فما سر ذلك؟
أقول إذا جئت بالفعل فقلت (قاتل مع صاحبنا) لم يتسع معناه إلا لمناصرتك إياه. وعلى هذا قوله تعالى: ?فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً –التوبة/84?، فقوله: لن تقاتلوا معي عدواً يعني لن تشاركوني في قتالي عدواً. لكن في قولك (القتال مع صاحبنا) شيئاً آخر، ذلك أن (مع) ها هنا، وهي ظرف مكان، ليست متعلقة بالقتال تعلقها بالفعل في قولك (قاتلت مع صاحبنا) ، وعلة ذلك أنها ظرف مستقر بفتح القاف، متعلقه فعل عام أو ما يشبهه والتقدير (القتال يحصل مع صاحبنا لا أراه لك..) ، ونحو ذلك قولك (القتال بيني وبين صاحبنا)، فإن الظرف فيه مستقر متعلقه محذوف. ومثل هذا البناء أي (القتال مع صاحبنا) يحتمل الأمرين: مناصرته ومقاتلته، وهو يعني المقاتلة قصراً إذا قامت قرينة على نحو ما سبق، ومتى تعلق الظرف أو الجار والمجرور بمحذوف، انتقل إلى الظرف إعراب هذا المحذوف. فإذا تعلق الجار والمجرور بمذكور كان الظرف لغواً، ليس له حظ من الإعراب ولا يتم الكلام دونه. ومما نحن بسبيله ما جاء في كتاب فضل هاشم على عبد شمس من قول الجاحظ في بني هاشم:"ثم ما كان في أيام تحزبهم وحربهم مع علي ومعاوية" وكأن الكلام على اللف والنشر المرتب وتقديره (أيام تحزبهم مع علي وحربهم مع معاوية) فيكون الأول من النشر للأول من اللف، والثاني للثاني. وقوله (تحزبهم مع علي) معناه تحزبهم له أي تجمعهم وتعصبهم له. أما قوله (حربهم مع معاوية) فتقديره: حربهم الجارية أو القائمة مع معاوية، أي التي جرت بينهم وبينه. ويعزز هذا ما سبق أن قدمناه وبسطنا القول فيه.
وبعد فقد تبين بما شرحناه وأوسعنا الكلام فيه، أن على الباحث في تصريف (المفاعلة والتفاعل) ألاّ يجتزئ بما يقع له من نصوص العلماء في الأمهات اللغوية. إذ لابد أن يلتمس ما يمكن أن يتفق له من كلام الفصحاء فيُعمل الفكر فيه ويدقق النظر إليه ليتعرف مسرى الصيغتين في الوضع والاستعمال جميعاً، فلا يقدم على قول حتى يتبين له الصواب وتتضح الحقيقة في ضوء موازنته ومكايلته، فينتهي من البحث إلى خير ما يرجوه من التمحيص والتلخيص.