المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اسم الفاعل والموازنة بينه وبين الصفة المشبهة - دراسات في النحو

[صلاح الدين الزعبلاوي]

الفصل: ‌اسم الفاعل والموازنة بينه وبين الصفة المشبهة

‌اسم الفاعل والموازنة بينه وبين الصِّفة المشبّهة

وما يعترض الكتّاب فيه من لُبسٍ وإشكال

1-

اسم الفاعل ودلالته:

يقول الأئمة في تعريف الفاعل أنه اللفظ المصوغ من الفعل المعلوم للدلالة على معنى وقع من الموصوف، أو قام به على جهة الحدوث لا الثبوت، على حين يقولون في تعريف الصفة المشبهة أنها اللفظ المصوغ من الفعل اللازم للدلالة على معنى قائم بالموصوف على وجه الثبوت لا الحدوث.

ويتبين بذلك أن الصفة المشبهة تتميز بأنها تدل على الثبوت، وتشتق من اللازم، وأن اسم الفاعل يدل على الحدوث ويصاغ من اللازم والمتعدي.

ويأتي مبنى اسم الفاعل من الثلاثي المجرد على (فاعل) بكسر ما قبل آخره، وهو إما أن يُصاغ من (فعَل) المفتوح العين في الماضي، متعدياً ولازماً، كضارب من ضرب وقاعد من قعد، أو من (فَعِل) المكسور العين فيه متعدياً كشارب من شرب. هذا هو الغالب فيه. وهو يُصاغ من غير الثلاثي على زنة مضارعه بإبدال أوله ميماً مضمومة وكسر ما قبل آخره، كمُسعِفٍ من أسعَفَ ومُجيب من أجاب.

آ-ما جاء من اسم الفاعل على غير الأصل: قد يأتي اسم الفاعل خلافاً للأصل المقيس الذي ذكرناه، كأن يُصاغ من (فَعِلَ) بكسر عين الماضي، ولكن من فعل لازم غير متعد، فيدل على الثبوت كسالم من سَلِم وتاعس من تَعِس وتافه من تفِه وخاطئ من خطِئ، بكسر عين الماضي فيها جميعاً. أو يأتي من (فعِل) بكسر عين الماضي اللازم على صورة المتعدي بحذف الجار، فيدل على الثبوت أيضاً، كساخِط من سِخطه بالكسر، والأصل سخط منه، أو يأتي مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كرجل بالغ وامرأة بالغ، ورجل خادم وامرأة خادم، فيدل كذلك على الثبوت. وقد ذهب المحققون إلى أن ما استوى فيه التذكير والتأنيث من الصفات ليس صفة مشبهة ولا اسم فاعل، بل هو صفة (على النَسَب) كرجل عاشق وامرأة عاشق، أي ذي عشق وذات عشق.

ب-دلالة اسم الفاعل على الحال أو الاستقبال:

خصَّ النحاة دلالة اسم الفاعل بالحدوث حين قرنوه بالصفة المشبهة الدالة على الثبوت. وقد قصدوا بذلك إفادته للحال أو الاستقبال نحو إفادة مضارع فعله. وبُني على ذلك أعمال هذا الفاعل المجرد من (أل) في معموله، وذلك بتنوينه ونصب المفعول إذا كان متعدياً. على أن يستوفي شروط الأعمال كوقوعه خبراً أو صفة أو حالاً، أو وقوعه بعد نفي أو استفهام، ذلك لتستحكم المشابهة بينه وبين الفاعل.

ص: 480

ويستعاض عن أعمال اسم الفاعل المعدّ للعمل، بإضافته إضافة لفظية لا تفيد التعريف. وهذا يعني أن اسم الفاعل ما دام يفيد الحال أو الاستقبال لا يتعرف بالإضافة. والشاهد على ذلك قوله تعالى: ?كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت- آل عمران/ 185?. فقد جاء (ذائقة) لحكاية الحال، وقرئ بالإضافة فكانت إضافته لفظية لا تفيد التعريف، كما أعمل فيما بعده فقرئ بالتنوين ونصب (الموت)، قال العكبري محب الدين أبو البقاء في كتابه (إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن) :"وإضافة ذائقة غير محضة" أي لفظية لا تفيد التعريف. وعلل العكبري ذلك فقال: "لأنها نكرة يُحكى بها الحال" وأردف: "وقرئ شاذاً ذائقةٌ الموت بالتنوين والأعمال". أقول ما دام قد قرئ به فهو جائز على كل حال. قال القرطبي أبو عبد الله في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) : "وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي اسحاق ذائقةٌ الموتَ بالتنوين ونصب الموت، قالوا لأنها لم تذق الموت". وقال الفراء في كتابه (معاني القرآن) : "ولو نوِّنت ذائقة ونصبت كان صواباً". وهكذا إذا جاء اسم الفاعل على الأصل فيدل على الحال أو الاستقبال ونصبت كان صواباً". وهكذا إذا جاء اسم الفاعل على الأصل فدل على الحال أو الاستقبال أمكن إعماله إذا استوفى شروط الإعمال، وأمكن إضافته فكانت الإضافة لفظية لا تفيد التعريف.

جـ-دلالة اسم الفاعل على تجدد الحدث مستمراً:

ص: 481

قد لا يقف اسم الفاعل عند دلالته على الحال أو الاستقبال فيتجاوز ذلك إلى إفادة تجدد الحدث باستمرار، وهو ما اصطلح عليه عند النحاة باستمرار التجدد. فيقوم اسم الفاعل حينئذ بعمله بعد التنوين وينصب المفعول، على الأصل، فإذا أضيف كانت إضافته كذلك لفظية لا تفيد التعريف. ومثال هذا قولك (زيد مكرم الضيفان) على الإضافة، و (زيد مكرم ضيفانه) بتنوين اسم الفاعل ونصب ما بعده. قال الشيخ ناصيف اليازجي في كتابه (نار القرى/ 178) :"وجرى مجرى ما كان على الحال والاستقبال ما أريد به الاستمرار التجددي نحو زيد مكرم ضيفه" بتنوين مكرم ونصب ما بعده.

وقد جعل بعضهم من هذا القبيل قوله تعالى: ?فالق الأصباح وجعل الليل سكناً- الأنعام/ 96? فقد قرئ "وجاعل الليل سكناً" وجاء فيه قولان:

الأول أن اسم الفاعل دال على تجدد الحدث باستمرار، ويمكن حينئذ إضافته، فتكون إضافته لفظية لا تفيد التعريف، وإعماله فيكون "سكناً" منصوباً به. وقد أشار البيضاوي ناصر الدين في تفسيره (أنوار التنزيل) إلى دلالة اسم الفاعل هذه فقال:"على أن المراد منه جعل مستمر". كما أشار العكبري محب الدين أبو البقاء في كتابه (إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب) إلى إعمال اسم الفاعل فقال: "وجاعل الليل مثل فالق الإصباح في الوجهين، وسكناً مفعول جاعل إذا لم تعرّفه".

والثاني أن اسم الفاعل دال على الماضي بدليل قراءته الأولى (وجعل) ، فيجب حينئذ إضافته فتكون إضافته محضة تفيد التعريف، ويمتنع في هذه الحال عمله فيقدّر نصب (سكناً) بفعل محذوف، كما سنذكره بعد. قال العكبري:"وإن عرَّفته كان منصوباً بفعل محذوف أي جعله سكناً".

د-دلالة اسم الفاعل على الماضي:

ص: 482

قد يدل اسم الفاعل على المضي وحده دون الحال أو الاستقبال فيُلغى عمله وتجب فيه الإضافة فتكون إضافته معنوية حقيقية محضة تفيد التعريف كإضافة الاسم غير المشتق. ومثال ذلك قوله تعالى: ?الحمد لله فاطر السموات جاعل الملائكة رسلاً-فاطر/1?، فقد جاء (فاطر وجاعل) مضافين إضافة محضة تفيد التعريف. قال العكبري في كتابه (إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب) :"فاطر السموات: الإضافة محضة لأنه للماضي لا غير. وأما جاعل فكذلك في أجود المذهبين".

هـ-دلالة اسم الفاعل على الاستمرار:

وقد لا يدل اسم الفاعل على زمن معين فيفيد الاستمرار فيعامل معاملة ما يدل منه على الماضي. قال تعالى: ?حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب- غافر/ 1-2?.

**

ويتبين مما تقدم أن دلالة اسم الفاعل على الحدوث تعني مشابهته للمضارع وإفادته للحال أو الاستقبال أو تجاوزه ذلك بالقصد إلى دوام التجدد، وهو يعمل في هذه الحال فينصب المفعول إذا كان متعدياً أو يضاف فتكون إضافته لفظية. وقد يتحول عن مشابهة المضارع فيفيد الماضي بقرينة أو يفيد الاستمرار فيُلغَى عمله في الحالين ويضاف فتكون إضافة حقيقية معنوية. قال عبد الرحمن الجامي في شرح الكافية لابن الحاجب:"فإن كان اسم الفاعل المتعدي للزمان الماضي بالاستقلال أو في ضمن الاستمرار، وأريد ذكر مفعوله وجبت الإضافة، أي إضافة حقيقية معنوية. قال عبد الرحمن الجامي في شرح الكافية لابن الحاجب: "فإن كان اسم الفاعل المتعدي للزمان الماضي بالاستقلال أو في ضمن الاستمرار، وأريد ذكر مفعوله وجبت الإضافة، أي إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله معنى، أي إضافة معنوية".

وإنزال اسم الفاعل منزلة الاسم غير المشتق:

ص: 483

وقد ينزل اسم الفاعل منزلة الاسم غير المشتق كالعالم والمؤمن والكافر فإنها أسماء فاعلين أريد بها الثبوت. و (أل) الداخلة عليها للتعريف وليست موصولة، لأن (أل) الموصولة إنما تدل على ما يراد به الحدوث لا الثبوت. وإذا جُرِّدت أسماء الفاعلين هذه من (أل) التعريف وأضيفت كانت إضافتها معنوية لا لفظية. تقول جاء عالم بلدنا، فعالم في الأصل صفة أضيفت إلى غير معمولها فأنزلها منزلة الاسم. وهكذا قولك جاء مصارع الحلبة. وهكذا الكاتب والقارئ والشاعر والعامل والقاضي إذا أريد بها من يزاول الكتابة والقراءة وقرض الشعر والعمل والقضاء.

2-

كلام الباحثين المحدثين على اسم الفاعل ودلالته:

1-

كلام الدكتور إبراهيم السامرَّائي:

ص: 484

تحدث كثير من الباحثين المحدثين عن دلالة اسم الفاعل ومنهم الدكتور إبراهيم السامرَّائي في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته) ، فأنكر أن يكون الأئمة قد نسبوا دلالة الاستمرار إلى اسم الفاعل، فقال:"والقول بدلالة فاعل على الاستمرار ما انفرد به المخزومي. فقد اقتصر السابقون على دلالة فاعل على المستقبل، وهو اسم الفاعل المنون العامل، نحو أنا صائم يوم الخميس، أي سأصوم. وعلى المضي وهو اسم الفاعل المضاف نحو قاتل أخيه أي قتل/ 42"! قال هذا وكأنه لم يعاين ما جاء في أسفار السَلَف لا سيما ألفيَّة ابن مالك وشرح الأشموني لها، وحاشية الصبان على هذا الشرح، بل كافية ابن الحاجب وشرحها للرضي والجامي، فضلاً عن كتاب (همع الهوامع في جمع الجوامع) للسيوطي.. وقد عبَّر السيوطي عن دلالة اسم الفاعل على الاستمرار بعدم اختصاص هذه الدلالة بزمان دون زمان. فقال:"فإن قصد تعريفها، أي الصفة المضافة إلى معمولها، بأن قصد الوصف بها من غير اختصاص بزمان دون زمان تعرفت. ولذا وصفت بها المعرفة في قوله تعالى: مالك يوم الدين، فالق الحب والنوى، غافر الذنب، إلا الصفة المشبهة..". ولا ننسَ ما ذكرناه من قول أبي البقاء الكفوي في كلياته: "معنى الاستمرار هو الثبوت من غير أن يعتبر معه الحدث في أحد الأزمنة- 5/332".

وليس هذا وحسب فقد جعل أبو البقاء الكفوي دلالة اسم الفاعل على الاستمرار أو الثبوت في أصل وضعه، إذ قال:"اسم الفاعل يستفاد منه مجرد الثبوت صريحاً بأصل وضعه، وقد يستفاد منه غيره بقرينة- 5/173".

ص: 485

ولوجهة النظر هذه في اعتداد الثبوت أو الاستمرار هو الأصل في دلالة اسم الفاعل وجه متقبل. ذلك أن اسم الفاعل (اسم) والاسم على الثبوت والاستمرار، ولكنه يشبه الفعل وشبهه هذا قد تحول به إلى ما يدل عليه الفعل المضارع من حركة وتجدد. وهذا ما كشف عنه الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز 115) ، فأفصح عن الفرق بين قولك (زيد منطلق) و (زيد ينطلق) . فقولك (زيد منطلق) يثبت الانطلاق لزيد دون أن يقتضي تجدداً، أما قولك (ينطلق) فإنه يثبت لزيد انطلاقاً يتجدد فيقع منه شيء بعد شيء. وإذا كان النحاة قد ذكروا أن قولك (خالد دائب في عمله) كقولك (يدأب فيه) ، فإن قولهم هذا على المشابهة لا على المماثلة والمطابقة. ذلك أن في أصل دلالة المضارع من التجدد ما ليس في أصل دلالة اسم الفاعل، وقد أشار الأشموني إلى دلالة المضارع هذه، في شرح ما جاء من قول ابن مالك في ألفيته (أحمد ربي الله خيرَ مالك)، إذ قال: (واختار صيغة المضارع المثبت لما فيه من الإشعار بالاستمرار التجددي، أي كما أن آلاءه تعالى لا تزال تتجدد في حقنا دائماً كذلك نحمده بمحامد لا تزال تتجدد". وهذا يعني أن الأصل في التجدد أن يكون للفعل، فإذا وصف به اسم الفاعل بالفعل فقد استدعت ذلك قرينة تحولت باسميته إلى مشابهة الفعل.

وإذا كنا قد جارينا النحاة ها هنا فجعلنا الأصل في اسم الفاعل الدلالة على الحدث، فإذا دلَّ على الاستمرار فقد تحول عن أصله، فذلك لأننا قرناه بالصفة المشبهة الدالة على الثبوت فوازنّا بينه وبينها فتميز عنها بإفادة الحدث. ولو قرنا اسم الفاعل فوازنا بينهما لكان الفعل صاحب الحدث وكان اسم الفاعل هو الدال على الاستمرار.

2-

كلام الدكتور مهدي المخزومي:

ص: 486

تحدث المخزومي في كتابه (في النحو العربي) عما جاء في (فاعل) اسم فاعل في مذهب الكوفيين فقال: "وأما مثال فاعل فهو أحد أقسام الفعل وهو الفعل الدائم الذي لا دلالة له على زمن معين إذا لم يوصل بصلة من مضاف إليه أو مفعول". وفي كلامه هذا موضع للنظر، ذلك أن الكوفيين لم يسمّوا اسم الفاعل الفعل الدائم لعدم دلالته على زمان معين، بل لدلالته على الماضي تارة والحال والاستقبال تارة أخرى. والمخزومي قد اشترط لدلالة اسم الفاعل على زمن معين أن يضاف أو ينصب مفعولاً. وإضافة اسم الفاعل إلى معموله قد تدل على الحال أو الاستقبال، كما في مثال (ذائقة الموت) أو على الماضي كما في مثال (فاطر السموات) ، لكنها قد لا تدل على زمن معين فتفيد الاستمرار كما في مثال (غافر الذنب قابل التوب) .

3-

كلام الأستاذ محمد العدناني:

بحث الأستاذ محمد العدناني في كتابه (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة) عمل اسم الفاعل فقال: "يعمل اسم الفاعل المشتق من الفعل المتعدي عمل فعله في رفع الفاعل ونصب المفعول به كقولنا -هُدى دارسة جميعَ دروسها، والقانون شامل كل القوانين السابقة، وأرى جيشنا ساحقاً جيش الأعداء". وهكذا أتى بمفعولات أسماء الفاعلين منصوبة، وهي (جميع وكل وجيش) ثم أردف:"ما عدا اسم فاعل واحداً هو –صاحب- فتقول: صحب حسام ياسراً فهو صاحبه، ولا يجوز أن تقول حسام صاحب ياسراً، بتنوين صاحب، بل تقول حسام صاحب ياسر، بالإضافة لأنهم استعملوا اسم الفاعل –صاحب- استعمال الأسماء فجرت عليه أحكامها".

ص: 487

أقول لا شك أن اسم الفاعل لا يعمل عمل فعله ما لم يدل كمضارعه على الحال أو الاستقبال أو يفيد الاستمرار التجددي، فإذا أنزل منزلة الأسماء ألغي عمله. وقد بسطنا القول في ذلك وأتينا بأمثلة من أسماء الفاعلين أنزلت منزلة الأسماء. لكن الغريب حقاً أن يذهب العدناني إلى أن العرب لم تنزل من أسماء الفاعلين منزلة الاسم سوى (صاحب) ، فكيف يمكن أن يُخصَّ (صاحب) بهذا، على اتساع لغة الضاد وتقلّب معاني مفرداتها وتشعب أساليب التعبير فيها وتباينها.

ومما أشرنا إليه من أسماء الفاعلين التي خصت بهذه المنزلة، منزلة الاسم: عالم وقاض وكاتب وعامل وشاعر إذا أريد بها من زاول العلم والقضاء والكتابة والعمل وقرض الشعر، ومثلها كثير.

وقد قرن سيبويه في (الكتاب-2/100) بالصاحب (الوالد) والوالد هو الأب. وقد بحث قياس جمعهما بعد أن كانا صفتين فأصبحا اسمين، فقال:"فأما والد وصاحب فإنهما لا يجمعان ونحوهما كما يجمع قادم الناقة" أي لا يجمعان جمع الأسماء ولو أنزلا منزلة الاسم، فلا تقول في جمع (والد) أوالد، وفي جمع (صاحب) صواحب، كما تقول في جمع (قادم) قوادم. وقادم الإنسان رأسُهُ، وقادم الناقة مقدمتها. قال المرزوقي في شرح الحماسة (ص 71) :"صاحب وفعله صاحب صفة في الأصل استعملت استعمال الأسماء، فلم يجرِ مجرى أسماء الفاعلين، ويجري على طريقته قولهم والد". وقال نحو من ذلك ابن سيده في مخصصه (17/55) .

ص: 488

وفي اللغة (قائم السيف وقائمته) أي مقبضه، والقائمة كذلك واحدة قوائم الدواب، كما جاء في مختار الصحاح. ويدخل في هذا الباب قولهم (قافلة الحاج)، وقد أسميت بها الرفقة. قال ابن قتيبة في (أدب الكاتب) :"سميت الرفقة بالقافلة قبل قفولها تفاؤلاً". وقال الصاغاني في كتابه (الذيل والصلة) : "من قال القافلة للراجعة من السفر فقد غلط، بل ذلك للمبتدئة في السفر تفاؤلاً لها بالرجوع". وهكذا (الآزفة) في قوله تعالى: ?وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر –غافر/ 18" والآزفة يوم القيامة وهي مشتقة من (أزف الرحيل) إذا قرب.

3-

تبع الصفة للموصوف في التعريف والتنكير:

يشترط في الصفة أن تتبع موصوفها في التعريف والتنكير، فإذا كان الموصوف معرفة وجب أن تكون الصفة معرفة، وإذا كان نكرة كانت الصفة كذلك أيضاً. تقول (الحمد لله) وهي جملة اسمية إخبارية لفظاً، إنشائية معنى، وقد رفع فيها (الحمدُ) على الابتداء، وكان الجار والمجرور في محل الرفع خبراً للمبتدأ. فإذا أردت أن تصف اسم الجلالة (الله) قلت مثلاً (الحمد الله المعروف من غير رؤية) كما جاء في نهج البلاغة (1/157) ، إذ جاء (المعروف) صفة وكان معرَّفاً لأن الموصوف معرفة. وهكذا قول القائل (الحمد لله الأول فلا شيء قبلِهِ) كما جاء في نهج البلاغة (1/187) ، فالأول صفة معرَّفة والموصوف عَلَم وهو اسم الجلالة. وفي التنزيل "الحمد لله رب العالمين"، وقد جاء فيه (ربّ) صفةً لله وهو معرفة لإضافته إلى معرفة، وهكذا قوله تعالى:"فتبارك الله أحسنُ الخالقين- المؤمنون/ 84".

ص: 489

أما مثال التنكير فقوله تعالى: ?ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون- البقرة/ 10? فأليم صفة لعذاب وكلاهما نكرة. وقوله تعالى: ?ولهم فيها أزواج مطهَّرة وهم فيها خالدون- البقرة/ 25? فمطهَّرة صفة الأزواج وكلاهما نكرة. وقوله تعالى: ?ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإيّاي فاتَّقون-البقرة/ 41? فقليلاً صفة لقوله (ثمناً) وكلاهما نكرة.

وقلَّما يُشكل على الكتاب تعريف الوصف بـ (أل) أداة التعريف، ولكن يشكل عليهم تعريف الوصف بالإضافة. فالسؤال ها هنا متى يكتسب الوصف التعريف بالإضافة فيصح أن يوصف به الموصوف المعرَّف.

1-

متى يتعرف الوصف بالإضافة:

القاعدة ألَاّ يعرَّف المضاف عامة بالإضافة ما لم تكن إضافته معنوية محضة تفيد التعريف، وضابطها في الوصف، سواء أكان اسم فاعل أو مفعول أو صفة مشبهة، ألَاّ يكون مضافاً إلى معموله فاعلاً أو مفعولاً، وإلا كانت إضافته لفظية لا تفيد التعريف. فليس لك أن تقول مثلاً (على النفس ذائقة الموت أن تهتم بأخراها) ، بل الصواب أن تقول (على النفس الذائقة الموت أن تهتم بأخراها) أي على النفس التي ستذوق الموت أن تهتم بأخراها، والأخرى هي الآخرة، أي دار البقاء. وليس لك أن تقول (على المرء مهضوم الحق ألَاّ يسكت على ظلمه) بل الصواب أن تقول (على المرء المهضوم الحق ألا يسكت على ظلمه) ما دام معناه الذي يهضم حقه، وليس لك أن تقول (المرأة حسنة الوجه تفتن الرجال) بل الصواب أن تقول (المرأة الحسنة الوجه تفتن الرجال) .

ص: 490

وقد استثنوا من ذلك اسم الفاعل أو المفعول إذا دلَّ على الماضي، أو لم يدل على زمن معين، كما فصلنا فيه القول. قال السيوطي في كتابه (همع الهوامع-2/48) :"فإن قُصد تعريفها أي الصفة المضافة إلى معمولها، بأن قصد الوصف بها من غير اختصاص بزمان دون زمان تعرَّفت، لذلك وُصف بها المعرفة". وهو يعني بذلك دلالة الصفة على الاستمرار، فقد جاء في شرح (الأزهرية في علم العربية) لخالد بن عبد الله الأزهري، في إعراب الفاتحة:"رب نعت أول لله، وهو مضاف والعالمين مضاف إليه. والرحمن نعت ثانٍ لله، والرحيم نعت ثالث، ومالك نعت رابع". وأردف "وصح ذلك لدلالته على الدوام والاستمرار وهو مضاف إضافة محضة، ويوم مضاف إليه ومضاف

". وكذلك كلام السيوطي على الصفة إذا دلت على الماضي، فقد سبق منه قوله: "فإن كانت، أي الصفة بمعنى الماضي، فإضافتها محضة.." أي إضافة معرّفة يصح بها وصف المعرفة.

ولكن هل يصح في إضافة الصفة المشبهة ما صح في إضافة اسم الفاعل والمفعول. أقول: قد استثنى السيوطي الصفة المشبهة فأفردها بحكم خاص وقال": "إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف لأن الإضافة بها نقل عن أصل وهو الرفع بخلافها في غيرها فهي عن فرع وهو النصب: ولأنه إذا قصد تعريفها أدخل عليها اللام".

وما جاءها هنا عن إضافة الصفة المشبهة وكونها لفظية، لا تفيد التعريف في كل حال، وأنها إنما تتعرف بـ (أل)، أقول ما جاء ها هنا هو رأي جمهور النحاة. فقد صحح الأشموني في شرحه ما ذهب إليه ابن مالك في ألفيته فقال:"فهي أي الصفة المشبهة ليست بمعنى الحال أو الاستقبال بل للثبات والدوام، وهي وإن كانت كذلك لا تتعرف بالإضافة أصلاً". وقد سبق الرضي إلى ذلك في شرح كافية ابن الحاجب فقطع بأن إضافة الصفة المشبهة لفظية أبداً وبنى ذلك على كونها عاملة في محل المضاف إليه إما رفعاً أو نصباً، فقال:"فهي جائزة العمل دائماً فإضافتها لفظية دائماً".

ص: 491

2-

اختلاف حكم الوصف في التعريف إذا أضيف إلى معموله عامة بين أن يكون اسم فاعل أو مفعول أو يكون صفة مشبهة:

يتبين بما قدمنا أن اسم الفاعل واسم المفعول يتعرفان إذا أضيفا إلى معمولهما بشرط دلالتهما على المضي أو الاستمرار، وأن الصفة المشبهة لا تتعرف بالإضافة إلى معمولها، مهما كان حالها، مع دلالتها على الثبات في الأصل. وقد بني على ذلك أن الصفة المشبهة لا تصح وصفاً لموصوف معرَّف إذا أضيفت إلى معمولها ما لم تتعرَّف باقترانها باللام، خلافاً لاسم الفاعل والمفعول، إذ يصح أن يكونا وصفين لموصوف معرّف إذا أضيفا إلى معمولهما ودلَاّ على الماضي أو الاستمرار.

3-

مجمع اللغة العربية بالقاهرة وتعريف الصفة المشبهة المضافة:

قضى مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مؤتمره (عام 1983) بتعريف الصفة المشبهة المضافة، واعتداد إضافتها معنوية، فأجاز وصفها للمعرفة قياساً إلى اسم الفاعل والمفعول المضافين إذا دلَاّ على الاستمرار فقد اعتد النحاة إضافتهما معنوية وأقروا وصفهما للمعرفة

فما الرأي في ذلك؟

أقول أقرَّ مجمع اللغة القاهري تعريف الصفة المشبهة بعد أن شهد بمخالفة رأيه هذا رأي النحاة لا سيما الخليل ويونس وسيبويه، فقال:"وترى اللجنة أن الصفة المشبهة أقرب إلى أن تكون إضافتها معنوية".

ص: 492

وعندي أن المجمع القاهري لم يُصب فيما ذهب إليه وأن قياسه ليس صحيحاً. ذلك أن الصفات، إذا أضيفت إلى معمولها، إما أن تضاف إلى فاعلها أو إلى مفعولها، فإذا كان الأول كانت إضافتها لفظية لا تفيد التعريف، صفة مشبهة كانت أو اسم فاعل أو مفعول. وإذا عرفنا أن الصفة المشبهة لا تضاف إلا إلى فاعلها أدركنا أن إضافتها لفظية لا سبيل إلى تعريفها. خلافاً لاسم الفاعل والمفعول فإنهما يضافان إلى مفعولهما فتكون إضافتهما معنوية تفيد التعريف إذا دلَاّ على الاستمرار، أو يضافان إلى مرفوعهما فاعلاً لاسم الفاعل ونائب فاعل لاسم المفعول فتكون إضافتهما لفظية كإضافة الصفة المشبهة سواء بسواء.

فالسر إذاً في تعريف اسم الفاعل المضاف هو إضافته إلى مفعوله أولاً ثم دلالته في هذه الإضافة على الاستمرار، فكيف يمكن أن تقاس به الصفة المشبهة، وهي لا تضاف إلا إلى فاعلها؟ قال الرضي:"أما عمل اسم الفاعل والمفعول فهو جائز في المرفوع مطلقاً بإضافتهما، فإضافتهما إلى فاعلهما لفظية دائماً".

4-

إضافة الوصف إلى مرفوعه لا تكون إلا لفظية، صفة مشبهة كان الوصف أو اسم الفاعل أو مفعول:

ص: 493

هذا ما قضى به النحاة. ولكن ما علة ذلك؟ أقول علة ذلك أنك إذا قلت (زيد حسن الوجه) بإضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها مثلاً، فكأنك قلت (زيد حسن وجهه) برفع (وجهه) ، ولا بد من تلازم الوصف وفاعله في القولين وتكاملهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، كما هو شأن الفعل وفاعله، فأي تعريف يمكن أن يفيده الوصف بإضافته إلى ما هو كالجزء منه والإضافة إنما تكون بين متغايرين، كما يقول النحاة. وقد أشار النحاة إلى تعلق الفعل بفاعله فقالوا:"تعلق الفعل بفاعله أشد من تعلق المبتدأ بخبره، لأن الفاعل بمنزلة الجزء من الفعل" جاء ذلك في (الأشباه والنظائر-1/566) للإمام السيوطي. كما قالوا: "الفاعل لا يتقدم على فعله لأنه كالجزء منه" وأردفوا "الصفة لا تتقدم على الموصوف لأنها من حيث أنها مكملة له ومتممة، أشبهت الجزء منه –المصدر- 1/593".

ويجري خلاف ذلك إذا أضفت الوصف إلى مفعوله، لأن المفعول ليس جزءاً من الوصف وهذا شأن الفعل ومفعوله فهما لا يتلازمان ولا يتكاملان. فقد يكون الفعل لازماً لا مفعول له، وقد يكون متعدياً ويستغنى عن مفعوله. فالوصف قد يفيد تعريفاً إذا ما أضيف إلى مفعوله. والذي يضاف إلى مفعوله من الوصف هو اسم الفاعل أو المفعول من الفعل المتعدي دون الصفة المشبهة، وهما يفيدان من هذه الإضافة تعريفاً إذا دلَاّ على الاستمرار. أما الصفة المشبهة فإذا نصبت نصبت لفظاً لا معنى وقد أسموا منصوبها الشبيه بالمفعول، فقد قالوا (الحسن الوجه) تشبيهاً له بـ (الضارب الرجل) بالنصب فيهما.

وانظر إلى ما جاء في (إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب) للعكبري في إعراب قوله تعالى: ?حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب- غافر 1/2?.

ص: 494

قال العكبري: "غافر الذنب وقابل التوب، كلتاهما صفة لما قبله، والإضافة محضة" أي صفة لاسم الجلالة. وقد أشار بقوله هذا إلى أن اسم الفاعل (غافر وقابل) المضافين إلى مفعولهما قد تعرَّفا بالإضافة، فإضافتهما محضة أي معنوية تفيد التعريف، لدلالتهما على الاستمرار. وأردف:"وأما شديد العقاب فنكرة، لأن التقدير: شديد عقابه" أي أن إضافة الصفة المشبهة (شديد) إضافة لفظية لا تفيد التعريف لأنها مضافة أبداً إلى فاعلها. ثم قال: "ويجوز أن يكون شديد بمعنى مشدّد فتكون الإضافة محضة فيتعرف فيكون وصفاً أيضاً". أي إذا كان (شديد) صفة مشبهة فلا سبيل إلى أن يكون صفة لاسم الجلالة، بل يكون بدلاً لجواز أن يكون البدل نكرة والمبدل منه معرفة.

أما إذا كان (شديد) على فعيل بمعنى مُفعِّل بكسر العين المشددة أي بمعنى (مُشدِّد) اسم الفاعل، أمكن أن تكون إضافته إلى مفعوله (العقاب) إضافة محضة فيتعرَّف ويكون صفة لاسم الجلالة، ما دام يدل على الاستمرار.

وإذا كانت الصفة المشبهة في قولك (زيد حسن الوجه) بإضافة الصفة منكرة لإضافتها إلى فاعلها، وكانت الصفة المشبهة في قولك (زيد الحسن الوجه) بإضافة الصفة أيضاً معرفة، فإن تعريفها قد كان باللام دون الإضافة، فالصفة المشبهة لا تتعرَّف بالإضافة مطلقاً.

5-

الصفة المشبهة في كلام الفصحاء:

قضى النحاة بأن تعريف الصفة المشبهة المضافة إنما يكون باللام دون الإضافة لأن الإضافة لا تفيدها تعريفاً. وذهب مجمع اللغة العربية القاهري في مؤتمره إلى جواز تعريف الصفة المشبهة بالإضافة وحدها خلافاً للنحاة، فأين يقع كلام الفصحاء من الرأيين، وهل جاء في مأثورهم من النثر أو الشعر ما يؤيد رأي المجمع القاهري دون النحاة، فكانت الصفة المشبهة فيه معرَّفة بالإضافة!

ص: 495

أقول يجمع الباحثون على صحة قولك (مررت برجل حسن الوجه) بإضافة الصفة إلى معمولها وهو الفاعل، وقد جاء هذا في أمثلة النحاة. ويستدل بذلك أن (حسن الوجه) منكَّر لأنه جاء صفة لنكرة. فإذا صح هذا فكيف يصح قولك (مررت بزيد حسن الوجه) ؟ فلو أفاد (حسن الوجه) تعريفاً لما جاز قولك الأول (مررت برجل حسن الوجه) . فالوصف المعرف لا يوصف به المنكر.

قال الجامي في شرح كافية ابن الحاجب: "ويمتنع تركيب: مررت بزيد حسن الوجه، فلو أفادت تعريفاً –أي الصفة- لم يجز مررت برجل حسن الوجه/ 123". ومثل ذلك ما جاء في (لطائف اللطف/ 31) لأبي منصور الثعالبي: "رأى الاسكندر، رحمه الله، رجلاً حسن الاسم قبيح السيرة فقال له: إما أن تغيِّر اسمك أو سيرتك"، وقد جاء (حسن الاسم) و (قبيح السيرة) صفتين لنكرة فدل على أنهما منكرتان، وأن إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها إضافة لفظية لا تفيد تعريفاً. ونحو ذلك أيضاً ما جاء في الكتاب نفسه:"اشترى بعضهم جارية بديعة الحسن/ 98"، كما جاء:"رأى بعض الفقراء امرأة حسنة الوجه/ 98".

وفي نهج البلاغة وصية علي لابنه الحسن عليهما السلام: من الوالد الفانِ

إلى المولود المؤمل ما لا يُدرَك، السالك سبيل من قد هلك غرضِ الأسقام، ورهينة الأيام ورمية المصائب

وأسير الموت وحليف الهموم

3/42" فهل ثمة وجه لاعتداد (غرض أو رهينة أو رمية أو أسير أو حليف) صفة مشبهة مضافة إلى فاعلها؟

ص: 496

أقول: أما (الغرض) فهو اسم لا صفة ومعناه الهدف ويجمع على أغراض، وأما (الرهينة) هنا فهي صفة غالبة غلبة الأسماء. وتسمى الصفة غالبة إذا استغنت عن موصوفها وأنزلت منزلة الأسماء. وهي في الأصل صفة مشتقة من فعل متعدّ بمعنى اسم المفعول. قال الجوهري في الصحاح:"الرهينة واحدة الرهائن". وكذلك (الرميَّة) واحدة (الرمايا)، وهي بمعنى الصَّيد يُرمى. قال الرازي في مختار الصحاح:"الرميَّة الصيد يرمى، يقال بئس الرميَّة الأرنب، أي بئس الشيء مما يُرمى الأرنب". والرهينة والرمية تلزمهما التاء، والتاء فيهما ليست تاء التأنيث في الصفات، وإنما هي تاء النقل من الوصفية إلى الاسمية، كما جاء في كتاب الفروق لإسماعيل حقي (ص 46) .

ومما يشيع استعماله من الصفات الغالبة (العجيبة) تقول هذه إحدى العجائب، و (الغريبة) تقول هذه من الغرائب، و (الكبيرة) تقول الشِّرك إحدى الكبائر، و (الصنيعة) تقول الإنسان صنيعة الإحسان، و (العزيمة) تقول زيد ماضي العزيمة. و (الخضراء) وتجمع جمع الأسماء على خضراوات، لا جمع الصفات على خضر كحمراء وحُمر، وفي الحديث:"ليس في الخضراوات صدقة" وهي البقول. قال الفيومي في مصباحه: "لكن غلب عليها جانب الاسمية، أي الخضراء، فجمعت جمع الاسم كصحراء وصحراوات".

أما (حليف) فهو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس، وقد اشتق من فعل متعد وهو (حالف)، فليس هو إذاً صفة مشبهة. ففي الصحاح:(الحليف: المحالف) . وما جاء من فعيل بمعنى الفاعل كالنديم بمعنى المنادم والأكيل بمعنى المؤاكل، والحليف بمعنى المحالف صفات ثابتة ثبوت الصفة المشبهة، لكنها لا تعمل باتفاق. وهي إذا أضيفت إلى ما هو بمعنى مفعولها تعرفت.

وأما (أسير) فهو في الأصل فعيل بمعنى مفعول، وقد اشتق من فعل متعد، فليس هو كذلك صفة مشبهة، وإنما هو صفة ثابتة لا تعمل، فإذا أضيف إلى معرفة تعرّف. وهو كرهين الذي يذكر ويؤنث.

ص: 497

قال تعالى: ?كل نفس بما كسبت رهينة- المدَّثَّر/38? فجاءت (رهينة) صفة ثابتة لمؤنث.

وقال تعالى: ?كل امرئ بما كسب رهين- الطور/ 21" فجاء (رهين) مذكراً صفة ثابتة لمذكر. فأنت تقول المرء رهين الموت كما تقول هو أسير الموت، والخلائق رهينة الموت كما تقول هي أسيرة الموت.

6-

ليس في كلام الفصحاء ما عرَّفت فيه الصفة المشبهة بالإضافة:

إذا تتبعنا ما أضيف من الصفة المشبهة، وهي لا تضاف إلا إلى فاعلها، وما أضيف من اسم الفاعل والمفعول إلى مرفوعه، في كلام الفصحاء، لم نعثر على ما جاء من ذلك معرَّفاً بالإضافة.

ومثال الصفة المشبهة المضافة قوله تعالى: ?علَّمه شديد القوى- النجم/ 5?، فهذه صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها فكانت إضافتها لفظية لا تفيد تعريفاً، فلا بد أن يكون موصوفها إذاً منكراً. وهذا ما أشار إليه الإمام البيضاوي في تفسيره حين قال:"مَلَك شديد القوى، وهو جبريل عليه السلام".

وجاء في الحديث عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:"كنت أمشي مع النبي (?) ، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية". وفي الحديث أيضاً: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسنِ الصوت بالقرآن يجهد به".

وجاء في كليلة ودمنة لابن المقفع (باب بَرزوَيه) : "وإن كان الملك حازماً عظيم القدرة رفيع الهمة بليغ الفحص

فإنا قد نرى الزمان مُدبراً في كل مكان".

وجاء في المقامة الحادية عشرة لأبي محمد القاسم الحريري: "ثم حَسَر رُدنه عن ساعد شديد الأسر، وقد شد عليه جبائر المكر لا الكسر". كما جاء في المقامة الثالثة والعشرين: "وشيخ طويل اللسان قصير الطيلسان قد لبَّبه –أي جذبه- فتى جديد الشباب خلق الجلباب".

ص: 498

فإذا جاء الموصوف مُعرَّفاً عُرّفت الصفة المشبهة باللام. ومن ذلك ما جاء في الحديث: "وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشّها يسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم". ونحو ذلك ما جاء في كليلة ودمنة لابن المقفع: (باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند) : "فإني بحمد لله مستغنٍ عن المال بما رزقني الملك السعيد الجد العظيم الملك".

وهكذا اسم الفاعل والمفعول إذا ما أضيفا إلى مرفوعهما، فمثال اسم الفاعل قوله تعالى: ?فهنّ قاصرات الطرف لم يطمثهنَّ إنس قبلهم ولا جانّ-الرحمن/ 56?. فقاصرات اسم فاعل أضيف إلى فاعله فكانت إضافته لفظية لا تفيد التعريف، وهو يدل على الثبوت دلالة الصفة المشبهة، فحكمه في هذه الإضافة كحكمها. قال العكبري في (إعراب القرآن) :"لم يطمثهنَّ: وصف لقاصرات لأن الإضافة غير محضة" أي لفظية لا تفيد تعريفاً.

وفي رسالة الجاحظ (في النساء) قوله: شيخ متخلّع الأسنان مُغضَّن الوجه". فقد جاء (متخلِّع) اسم فاعل مضافاً إلى فاعله. وهو مشتق من (تخلّع) الفعل اللازم، وهذا شرطه.

كما جاء (مُغَضَّن) اسم مفعول مضافاً إلى نائب فاعله. وهو مشتق من (عضّنه) إذا ثنَّاه وجعَّده، وهو فعل متعدّ، وهذا شرطه.

ومما جاء في إضافة اسم الفاعل إلى فاعله قول الحريري في مقامته الرابعة: "وصادفنا أرضاً مُخضلَّة الرُّبا معتلَّة الصَّبا فتخيرناها مُناخاً". والمقصود بالصبَّا الريح الشرقية، وبالمعتلَّة الليِّنة، وبالمُناخ المبرك.

ص: 499

وهكذا تقول في اسم الفاعل المضاف إلى فاعله المشتق من فعل لازم: رأيت رجلاً معتدل القامة قائم الجذع، وأعرف جاراً لي مستقيم الخطة طاهر القلب نافذ الرأي. كما تقول في اسم المفعول المضاف إلى مرفوعه، المصوغ من فعل متعد: صحبت أخاً مرضيّ السيرة محمود الخصال، ومرفوعه هذا في الأصل نائب فاعل، وهو هنا نائب فاعل مجازاً، لأن المرضيّ والمحمود لا يدلَاّن على الحدوث، كما هو شأن اسم المفعول في الأصل، وإنما يدلان على الثبوت. ويسمى اسم المفعول هنا، الدال على الثبوت، اسم مفعول مجازاً، إذ ليس هو على الأصل الذي يصاغ للحدوث..

وهكذا فإن اسم الفاعل والمفعول يجريان مجرى الصفة المشبهة إذا أريد بهما الثبوت دون الحدوث فيكتفي كل بمرفوعه. ويكون هذا إذا كان اسم الفاعل من فعل لازم واسم المفعول من فعل متعد إلى واحد فتكون إضافتهما إلى مرفوعهما لفظية لا تفيد التعريف. فأنت إذا أردت التنكير اكتفيت بالإضافة فقلت: عرفت جاراً لي صادق الوعد محمود السيرة كريم الشيم، فإذا أردت التعريف قلت: جاء الرجل الصادق الوعد المحمود السيرة الكريم الشيم، بإدخال لام التعريف.

وإذا كان ابن السراج أبو بكر قد عدد ما بين اسم الفاعل والصفة المشبهة من فروق، في كتاب (الأصول) فجعل منها أن اسم الفاعل لا يضاف إلى فاعله كما تضاف الصفة المشبهة، فقد قصد بذلك (اسم الفاعل) المصوغ من فعل متعد، إذ قال:"لا يجوز أن تقول عجبت من ضارب زيد، وزيد فاعل، ويجوز في الصفة المشبهة إضافتها إلى الفاعل لأنها إضافة غير حقيقية". أما اسم الفاعل المصوغ من لازم فهو كالصفة المشبهة سواء بسواء. وقد نحا نحو ابن السراج ابن مالك في شرح الكافية فقال: "انفرد اسم المفعول عن اسم الفاعل بجواز إضافته إلى ما هو مرفوع معنى نحو: الورع محمود المقاصد –الأشباه والنظائر للسيوطي- 2/462".

***

ولكن ما الرأي في قول الشاعر:

في حب مصر كثيرة العشاق

كم ذا يكابد عاشق ويلاقي

ص: 500

وقد ذكر البيت في مجلة الرسالة القاهرية (10/477/830)، فقال الأستاذ علي محمد حسن:"كثيرة تعرب حالاً من مصر، والعامل: حب"، وأردف:"وتعرب صفة على أن إضافة الصفة المشبهة محضة، أي إضافة معرفة، وعلى ذلك فكثيرة معرفة". أقول أما إعراب (كثيرة) حالاً من (مصر) والحال نكرة فذلك يعني أن الصفة المشبهة منكرة لا تتعرف بالإضافة، وعلى ذلك جمهور النحاة. وأما إعراب (كثيرة) صفة لمصر ومصر معرفة فإنه يعني أن الصفة المشبهة تتعرف بالإضافة، وهو قول لا سند له فيما أثر من كلام الفصحاء نثراً أو شعراً، وما صح من مذاهب النحاة. وإذا كان الجدل النحوي قد آل ببعض الأئمة من الكوفية إلى القول بجواز تعريف الصفة المشبهة بالإضافة، فقد ظل القول مفتقراً إلى ما يصححه من سماع أو قياس. وقد عقب السيوطي في كتابه (همع الهوامع- 2/48) على ذلك فأصر على تنكير الصفة المشبهة المضافة محتجاً بجواز اقترانها بأل التعريف، فلو صح أنها معرفة لامتنع اقترانها بأل هذه، كما يمتنع ذلك في كل مضاف معرف، منعاً لاجتماع تعريفين.

4-

الرأي في بعض ما شاع استعماله من أسماء الفاعل:

1-

الوافر لا الوفير:

يقول الكتاب (مال وفير) فهل هذا صحيح؟ أقول الصواب أن تقول (مال وفر) بفتح فسكون أو (مال موفور) على زنة اسم المفعول أو (مال وافر) على زنة اسم الفاعل.

أما (الوفر) بفتح فسكون فهو من وفر بضم الفاء يوفر وفارة فهو وفر بسكون الفاء، كضخم يضخم ضخامة فهو ضخم بسكون الخاء، وفخم يفخم فخامة فهو فخم بسكون الخاء، وهو سماع لا قياس فيه.

وأما (الموفور) فهو من وفرت المال وفراً، بالتخفيف، فالمال موفور.

وأما (الوافر) فهو وفر بفتح الفاء كوعد، تقول وفريفر بالكسر وفوراً ووفرة فهو وافر.

ص: 501

أما (الوفير) على فعيل فلم يرد في اللغة، وإنما وردت الصفة على (وَفرْ) بفتح فسكون من (وفر) بالضم، كما جاءت الصفة على (صعب) بسكون العين من (صعب) بالضم، وعلى (سهل) بسكون الهاء من (سُهل) بضم الهاء. وهكذا جاء (فخم) بسكون الخاء من (فخم) بضمها. والغريب أن يعمد الشيخ مصطفى الغلاييني رحمه الله إلى إجازة (الوفير والفخيم) فيقول في كتابه (نظرات في اللغة والأدب) :"فعدم ذكر وفير وفخيم في كتب اللغة وعدم روايتهما في شعر أو نثر قديمين لا يدل على أن ذلك غير جائز ولا مقبول، فهما مقبولان في الذوق". أقول لا محل لتحكيم الذوق في سماع أو قياس، ولا وجه لإقرار (وفير وفخيم) ، وإلا فهل تقول صعيب وسهيل وفخيم وعذيب بدلاً من قولك صعب وسهل وفخم وعذب، بسكون العين والهاء والخاء والذال فيها؟

2-

الوارث لا الوريث:

اعتاد الكتَّاب أن يقولوا (خالد هو الوريث الوحيد) ، يحسبون أن (الوريث) هو الصفة المشبهة من (ورث) بالكسر كعلم، والصواب هو (الوارث) وجمعه (ورثة) بفتحتين ككاتب وكتبة، و (وُرَّاث) بتشديد الراء ككاتب وكتَّاب. ففي مختار الصحاح:"ورث أباه وورث الشيء من أبيه يرثه بكسر الراء فيهما ورثاً وورثة ووراثة بكسر الواو في الثلاثة وإرثاً بكسر الهمزة". وفي المصباح: "والفاعل وارث والجمع وراث وورثة مثل كافر وكفار وكفرة".

والقياس في صيغة (فاعل) أن تأتي باطراد من (فَعَل) بفتح العين لازماً كجلس يجلس فهو جالس، ومتعدياً كنصر ينصر فهو ناصر. كما تأتي من (فَعِلَ) بكسر العين إذا كان متعدياً، تقول ورث المال يرثه بالكسر فيهما فهو وارث والفعل متعد، كما تقول علمه فهو عالم وقبله فهو قابل وكرهه فهو كاره وحذره فهو حاذر وسمعه فهو سامع، والمضارع فيها مفتوح العين.

وفي التنزيل: "وعلى الوارث مثل ذلك- البقرة/ 233". وفي الحديث: "اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني، أي أبقهما صحيحين سالمين إلى أن أموت" كما جاء في النهاية لابن الأثير.

ص: 502

والوارث قد يأتي صفة عامة فيدل على الحدوث ويعتمد على موصوف مذكور أو مقدر، لكنه يأتي، في الغالب، منفرداً بخصوص، فيستعمل منقطعاً عن موصوفه مستغنياً عنه، فيدل حينئذ على الثبوت. فأنت إذا قلت (خالد وارث أبيه) فقد عنيت أنه مستحق لهذه الوراثة. وأنت تقول رأيت وارث فلان أو ورثته، كما تقول رأيت زوجته وزوجاته، فلا يلزمك ذكر موصوفه لفظاً أو تقديراً. ولما جاء من الصفات على هذا الوجه حكم، في الجمع، غير حكم الصفات العامة الدالة على الحدوث.

والقاعدة إذا جاء الوصف عاماً على زنة (فاعل) ودل على الحدوث، كما هو الأصل واعتمد على موصوف مذكور أو مقدر، كان لا مناص من جمعه جمع تصحيح، وهو القياس فيه. فإذا انفرد بخصوص فاشتهر استعماله منقطعاً عن موصوفه مستغنياً عنه، صح فيه التكسير، إلى جانب التصحيح. فقد جاء (الوارث) دالاً على الثبوت وجمع جمع تصحيح، كما في قوله تعالى: ?ونحن الوارثون-الحجر/ 23?. قال الأصبهاني صاحب المفردات: "وصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث، من حيث أن الأشياء كلها صائرة إلى الله تعالى. قال الله تعالى: ?ولله ميراث السموات- آل عمران/ 180? وقال: ونحن الوارثون..". ولا ننسَ أن (الوارث) اسم من أسماء الله الحسنى.

وكما يجمع (الوارث) جمع تصحيح كذلك يجمع جمع تكسير. ففي الحديث "العلماء ورثة الأنبياء". فأنت تقول هؤلاء ورثة الأنبياء كما تقول هؤلاء حملة الأقلام وقادة الفكر، وكلها صفات على الثبوت.

وقد جاء في الأشباه والنظائر للإمام السيوطي (2/ 127) : "قال في البسيط: كل صفة كثر ذكر موصوفها معها ضعف تكسيرها لقوة شبهها بالفعل. وكل صفة كثر استعمالها من غير موصوفها قوي تكسيرها، لالتحاقها بالأسماء كعيد وشيخ وكهل وضعيف"، وجاء في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي مثل ذلك (ص220) .

ص: 503

ولنأت بمثال يكشف عما قصدنا إليه. فإذا نحن تدبرنا ما جاء من (كتب) على فاعل أي (كاتب) وجدنا أن الأصل فيه أن يفيد الحدوث فيجمع جمع الصفات فيقال (كاتبون) ، ويكون معناه القائم بالكتابة، والكتابة في الأصل هي الخط، فكاتب السطر هو الذي يخطه. فإذا أردنا بـ (كاتب) من ينشئ النثر ويزاوله صحَّ تكسيره وجمعه على (كتاب)، ويكون (الكاتب) هنا الذي يزاول صناعة الكتابة أي إنشاء النثر. فتقول جلست إلى كاتب من أشهر الكتاب كقولك حاورت عالماً من أظهر العلماء. قال ابن منظور في معجم اللسان:"كتب الشيء يكتبه كتباً وكتاباً وكتابةً، وكتبه: خطَّه" بتشديد الطاء، هذا هو الأصل. ثم قال:"والكتابة لمن تكون له صناعة مثل الصياغة والخياطة. ورجل كاتب والجمع كتَّاب وكتبة، وحرفته الكتابة. ابن الأعرابي: الكاتب عندهم العالم".

وجاء في كشف الطرَّة (ص 107) : "وفي الدر المصون الصفة لا تقوم مقام الموصوف إلا إذا كانت خاصة نحو: مررت بكاتب، أو دل دليل على تعيين موصوف". فأنت إذا استعملت (الصفة) استعمال الاسم فتحولت بها عن الحدوث قامت مقام الموصوف فكان لها في الجمع شأن الأسماء. قال المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (1/ 426) : لأن الصفة لا تقوم مقام الموصوف حتى تدل عليه دلالة قوية.

فأما إذا كانت عامة في أجناس، فلا يجوز ذلك فيه. فإذا قلت مررت بطويل وأنت تريد رجلاً، لم يحسن، لأن الطويل يكون في غير الرجال، كما يكون في الرجال. ولو قلت مررت بكاتب يحسن إذ كانت الكتابة مختصة". والمهم في (الكاتب) الذي مررت به أن يختص فيكون صاحب صناعة (الكتابة) سواء أكانت هذه الكتابة إنشاء للنثر أم الخط.

وهكذا الحكم في الوارث حين استعملوه استعمال الأسماء فقام مقام الموصوف، فأنت تقول جاء ورثة فلان كما تقول حاورت كتبة المجلة، فتستغني بالصفة عن الموصوف.

3-

مشهد شائق لا شيِّق:

ص: 504

إذا شاقك مشهد أي هاجك فاستهواك حسنه فالمشهد شائق وأنت المشوق، بصيغة اسم المفعول، أو الشيق، بتشديد الياء المكسورة، أو المشتاق. ففي القاموس المحيط "والشيِّق: المشتاق". وفي المصباح: "واشتقت إليه فأنا مشتاق وشيق" بتشديد الياء المكسورة.

ولكن كيف آل معنى (الشيق) بتشديد الياء المكسورة إلى معنى (المشوق) أي المشتاق. أقول (الشيق) بتشديد الياء المكسورة، أصله قبل الإعلال (شيوق) بفتح الشين وكسر الواو، بينهما ياء ساكنة، على (فيعل) بفتح الفاء وكسر العين، بينهما ياء ساكنة. كما كان أصل (الجيد) بالياء المشددة هو (جيود) بفتح الجيم وكسر الواو، بينهما واو ساكنة. وأظهر آراء الأئمة أن صيغة (فيعل) هذه بفتح الفاء وكسر العين، مقلوبة من (فَعيل) بفتح فكسر.. وقد اشتهر مجيء (فعيل) هذا بمعنى مفعول إذا صيغ من فعل متعد، وشاقه فعل متعد، فليس غريباً على هذا أن يكون (الشيق) بتشديد الياء المكسورة بمعنى المشوق، وهو اسم المفعول من (شاقه) . وانظر إلى قول المتنبي:

إلَاّ انثنيت ولي فؤاد شيّق

ما لاح برق أو ترنَّم طائر

قال البرقوقي شارح الديوان: "انثنيت: رجعت. ولي فؤاد جملة حالية، والشيق: المشتاق" وأردف: "ومعلوم أن لمعان البرق يهيج العاشق ويحرك شوقه إلى أحبَّتهِ لأنه يتذكر به ارتحالهم للنجعة وفراقهم

وكذلك ترنّم الطائر" فتأمل.

4-

هذا عمل شائن لا مُشين:

ص: 505

أقول إذا شانك عمل منكر، أي عابك، فالعمل شائن لك. والكتَّاب يقولون (عمل مشين) بضم الميم، وصوابه (عمل شائن) . نقول هذه أعمال شائنة مخزية، كما تقول هذا العمل يشين صاحبه ويضع من قدره ويقدح في سمعته، والياء في أول هذه الأفعال مفتوحة لأنها ثلاثية، واسم الفاعل منها شائن لصاحبه واضع من قدره قادح في سمعته. وقد جاء في أساس البلاغة للزمخشري:"هو فعل شائن، وهذه شائنة من الشوائن. وجهك شَين ووجهي زين" بفتح الشين والزاي فيهما. كما جاء في المصباح المنير: "شانه شيناً من باب باع، والشين خلاف الزين" بفتح الأول فيهما. وأردف: "وفي حديث: ما شانه الله بشيب. والمفعول مشين.." بفتح الميم كمبيع ومدين من باعه ودانه.

ونحو من ذلك قول الكتَّاب (هذا عمل مُحط بالشرف)، وصوابه:(حاط لشرفه، أو حاط في شأنه أو حاط من مكانته) ، لأنه من (حطّ) الثلاثي.

5-

لافت للنظر لا مُلفت:

إذا استوقفك مشهد فلفت نظرك إليه وجعلك تتأمله، فالمشهد لافت للنظر، لا (مُلفت) بضم الميم كما يقوله الكتَّاب. وهم يعلمون حق العلم أنه من (لفت) الثلاثي المجرد، لا من (ألفت) المزيد. فاسم الفاعل منه (لافت) لا (مُلفت) .

وأنت كما تقول (لفتُّه إليه) إذا صرفته إليه، فأنت تقول (لفتُّهُ عنه) إذا صرفته عنه أيضاً. ففي مختار الصحاح "لفت وجهه عني صرفه، ولفته عن رأيه صرفه". وفي التنزيل: "قالوا أجئتنا لتلفتنا عمَّا وجدنا عليه آباءنا- يونس/ 78"، أي لتصرفنا.

وتقول إلى ذلك (لفتُّه عليه) إذا عطفته. ففي أساس البلاغة: "لفتّ ردائي على عنقي عطفته".

6-

هو عادم النفع وعديمه ومعدومه:

ذهب الباحثون المحدثون أن (العديم) هو الفقير وحسب، ومنهم الأستاذ جار الله في كتابه (الكتابة الصحيحة)، وخلصوا إلى أن الصواب أن تقول: إنه عادم الذوق لا عديمه. فما الرأي في المسألة؟

ص: 506

أقول إذا عوَّلنا على ظاهر ما جاء في المعاجم خلصنا إلى ما خلص إليه الأستاذ جار الله. قال الجوهري في الصحاح: "عدمت الشيء بالكسر أعدمه بالفتح عدماً بالتحريك، على غير قياس، أي فقدته، والعدم بفتح العين والدال: الفقر. وكذلك العُدم إذا ضممت أوله وسكَّنت ثانيه.

وأعدمه الله. وأعدم الرجل: افتقر فهو معدم، بضم الميم وكسر الدال وعديم". ونحو ذلك في سائر المعاجم. وقد تبين لي بمراجعة (عدم) في المعاجم وكتب اللغة وتدبّر ما جاء فيها ما يلي:

آ-تقول من الثلاثي المجرَّد: عدمته بالكسر أعدمه بالفتح عُدما بضم العين وسكون الدال، بمعنى فقدته. فالفعل متعدٍّ إلى واحد. واسم الفاعل المقيس منه (عادم) بمعنى فاقد، واسم المفعول المقيس (معدوم) بمعنى مفقود، وتقول في الخبر: لا أعدم كذا بمعنى أنك واجده، وفي الإنشاء: لا عدمت ودَّك وبرَّك، أي لا أفقدني الله إياهما. وفي المعنى الأول يقول الشافعي:

وإذا مت لست أعدم قبراً

أنا إن عشت لست أعدم قوتاً

ب-وتقول من المزيد (أعدم الرجل) بمعنى افتقر فهو (مُعدم) بضم أوله وكسر ما قبل آخره، بمعنى فقير، فيكون الفعل لازماً، ومثل (مُعدم) اسم الفاعل من (أعدم) اللازم مُعوز ومفلس ومُملق ومُدقع، بضم أولها وكسر ما قبل آخرها. جاء ذلك في معظم المعاجم، كما جاء في التلخيص لأبي هلال العسكري، وفي النوادر لأبي مِسحل الأعرابي، قال المتنبي يمدح عمر بن سليمان الشرابي:

وأحسنُ من يُسر تلقَّاه معدِمُ

ألذُّ من الصهباء بالماء ذكرهُ

يقول إن ذكر ممدوحه أفعل في النفس من وقع اليسر أي الغِنى في نفس الفقير المعدِم.

ص: 507

جـ-وتقول من المزيد أيضاً (أعدمته) كعدمته بمعنى فقدته، فتعديه إلى مفعول واحد، كما جاء في الأفعال لابن القوطية. والإشكال في اسم المفعول منه، فالقياس أن يكون (المعدم) بضم أوله وفتح ما قبل آخره، ولم تذكره المعاجم المعتمدة، وذكره معجم المتن للشيخ أحمد رضا وجعله بمعنى الفقير. وأنكر الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأغلاط اللغوية المعاصرة) ما جاء به صاحب المتن محتجاً بالمعاجم المعتمدة التي سكتت عن ذكر ذلك ونصَّت على (المعدم) بضم الأول وكسر ما قبل الآخر بمعنى الفقير من (أعدم) اللازم بمعنى افتقر، كما ذكرناه.

والذي أراه أنك تقول: (المعدم) بفتح الدال بمعنى الفقير، كما تقول:(المعدم) بكسر الدال.

ذلك أن سكوت المعاجم عن القياس لا يعني إغفال العمل به. ولا شك أن صاحب المتن حين أثبت في معجمه (المتن) : المعدم بضم أوله وفتح ما قبل آخره بمعنى الفقير، أثبته وهو يعلم حق العلم أن المعاجم المعتمدة قد أغفلته، فذكر هو القياس لئلا يغيب عن ذهن القارئ جواز العمل به، ما دامت المعاجم قد خلت من النص على إنكاره. وقد تصفحت كثيراً من أقوال الفصحاء أبحث عن (المعدم) بفتح الدال، فظفرت بشاهد في شعر الإمام الشافعي، إذ قال:

ليخفاهم حالي وأني لمُعدَم

وأظهِرُ أسباب الغنى بين رفقتي

فقد أتى في البيت (معدم) بفتح الدال، في سائر النسخ المطبوعة، ويؤكد صحة ذلك أن قافية البيت السابق (يتألَّم) والتالي (أعلَم) !

وهكذا صح قولك (المعدم) بكسر الدال و (المعدم) بفتحها، الأول من (أعدم فلان) اللازم، والثاني من (أعدم فلان) بالبناء للمجهول، من (أعدمه المال) إذا أفقده إياه فجعله (معدماً) بفتح الدال.

د-وتقول من المزيد أيضاً: أعدمه الشيء أفقده إياه. وتقول من ذلك: (لا أعدمني الله فضلك) كما في المصباح، فيتعدى إلى مفعولين ومن ذلك قول أبي تمام:

شكري فَرُحنا مُعدَمَين جميعاً

لمَّا عُدمت نوالَه أعدمته

ص: 508

فجاء (عدمت) مبنياً للمجهول، و (معدمين) مبنياً للمفعول. ومن ثم تقول: أعدم فلان ماله، بالبناء للمجهول، فأصبح معدماً بفتح الدال، تحذف فيه المفعول. وهكذا تقول أعدم فلان بالبناء للفاعل، مفتوح الأول، وأعدم فلان بالبناء للمجهول مضموم الأول بمعنى: ذهب ماله. ونحو ذلك (ألفج)، فقد جاء في الأفعال لابن القوطيَّة:"ألفج الرجل، بالبناء للمجهول، وألفج أيضاً بالبناء للفاعل: ذهب ماله-ص 168". وهكذا (أدنف) . قال ابن القوطية: "وأدنف بضم الهمز مبنياً للمجهول، وأدنف بفتحها مبنياً للفاعل أيضاً: أضناه المرض أو الهوى". وفي مختصر تهذيب الألفاظ لابن السكيت: "ومدنِف ومدنَف/ 69" بكسر النون وفتحها مع ضم الميم فيهما.

هـ-وجاء من المزيد أيضاً قول المصباح: "أعدمته فعُدم وأفقدته ففُقد" ببناء عُدم وفقد للمجهول. ومعنى ذلك أنك تقول: أعدمت الرجل فعدم الرجل بالبناء للمفعول، فيكون الفاعل من (أعدم) المزيد، والمفعول من (عدم) المجرد. قال صاحب المصباح:"ببناء الرباعي للفاعل والثلاثي للمفعول". تقول أعدمته فعُدم بالبناء للمجهول فهو معدوم بمعنى فقير، فيكون (أعدمه) كأفقره فافتقر. وقد جاء كأعدمه فهو معدوم: أزكمه فهو مزكوم وأحبه فهو محبوب وأحمَّه فهو محموم، وتقول من ذلك زُكم فلان وحُبَّ وحُمَّ بالبناء للمجهول، كما تقول عدم بالبناء للمجهول، وهكذا تقول أفقده ففقد بالبناء للمجهول أيضاً فهو مفقود.

وجاء على (فعيل) بمعنى (مفعول) : (عديم) ، فهو كالمعدوم بمعنى الفقير، كما في المعاجم، وقد قصره الباحثون الآخذون بظاهر النص على هذا المعنى. والسؤال أليس للمعدوم والعديم معنى آخير غير الفقير؟

ص: 509

أقول إذا تدبرنا المادة ألفينا أنها تستعمل في المعنيين: العام وهو الفقد والخاص وهو الفقر؛ تدرجاً من أولهما إلى ثانيهما. فقد جاء (المعدوم) بمعنى المفقود من (عدمته) المجرد، تقول عدمت الشيء فهو معدوم كما تقول فقدته فهو مفقود. ويأتي (عديم) كذلك بهذا المعنى، خلافاً لما انتهى إليه المحدثون حين قصروا معنى (العديم) على الفقير. وشاهد استعمال (المعدوم) بمعنى المفقود قول أبي حيان التوحيدي في كتابه (البصائر والذخائر) :"وإنك ترى زمانك معدوم الفضل قليل الناصر". وشاهد استعمال (العديم) بهذا المعنى قول الراغب الأصفهاني في مفرداته (في غرب) : "وقيل لكل متباعد غريب، ولكل شيء فيما بين جنسه عديم النظير، غريب"، فجاء (عديم) بمعنى مفقود.

وهكذا (عادم) من عدمه إذا فقده. فعادم الشيء فاقده، وعليه قول أبي حيان التوحيدي في البصائر والذخائر:"قال فيلسوف: عادم بصر البدن يكون قليل الحياء، وكذلك عادم عين العقل يكون كثير القِحَة". والقحة بكسر الفاء وفتح الحاء: الوقاحة. فأنت تقول إذاً: عادم النفع كما تقول فاقد الوعي، وعديم النفع. كما تقول معدوم الفضل، كل ذلك صحيح.

ووجاء من المزيد قولهم (أعدمني الشيء: لم أجده) كأعوزني، كما في القاموس المحيط. وفي أساس البلاغة:"وأعوزني هذا الأمر وأعجزني إذا اشتد عليك وعَسُر، وهذا شيء مُعوز، بضم أوله وكسر ما قبل آخره، عزيز لا يوجد".

ز-ولكن ما القول في (انعدم) ، ولم تأت به المعاجم المعتمدة كالأفعال لابن القوطية والصحاح والمختار واللسان والمصباح، والمعاجم الحديثة كأقرب الموارد والمنجد والمتن والوسيط، بل أنكرته ولحَّنت قائله كتب اللغة والمعاجم على السواء، كالمفصَّل للزمخشري والقاموس والتاج

واعتلَّ الزمخشري بأن (انفعل) إنما يأتي من فعل ذي علاج وتأثير، وذكر ذلك الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأغلاط اللغوية المعاصرة) ، فأنكر (انعدم) .

ص: 510

وبحث هذا من المحدثين الشيخ ظاهر خير الله، رحمه الله، في كتابه (المنهاج السوي في التخريج اللغوي)، فأنكر قولهم (انعدم) وقال:"وانعدم لحن.. وغاية ما هنالك أنهم قالوا أن انفعل لمطاوعة فَعَل ذي العلاج أي التأثير المحسوس كقسمته فانقسم ص 18". واشترطوا في (انفعل) كذلك أن يأتي مطاوعاً لفعل دون أفعل، فمنعوا قول القائل (انضاف) لأنه من (أضاف) لا من (ضاف) . ذكر ذلك أبو محمد القاسم الحريري في كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص) .

وعندي أن نُجيز من (انفعل) ما جاء استعماله فجرى في كلام الفصحاء، لا لأن الخطأ لا يجري عليهم، بل لأنهم كانوا من أئمة اللغة فمارسوا الكتابة فيها، خلافاً لكثير من كتَّابنا المحدثين، ومن ثم أحاطوا بما انتهى إليه علماء النحو والصرف من قواعد وأصول. فإذا استجازوا ما كان ظاهر كلام العلماء على خلافه فقد التمسوا لذلك وجهاً أو حكوه عن العرب. فقد جاء (انعدم) مثلاً في كلام ابن جني، إذ قال (في الخصائص) :"فلما انعدم من آن المصدر الذي هو أصل الفعل عُلم أنه مقلوب في أنى يأنى اِنىً –1/680". جاء ذلك في نسخة الكتاب المطبوعة بمصر عام (1331هـ، و 1913م) ، أما في نسخته المطبوعة بتدقيق الأستاذ محمد علي النجار فقد جاء "فلما عُدم من آن المصدر

-2/70" فأبدل من (انعدم) عُدم أخذاً بأقوال الأئمة النحاة.

وقد بحث هذا مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مؤتمره خلال دورته السابعة والثلاثين عام (1971م) فأقر جواز استعمال (انعدم) ولو لم يكن ثمة نص صريح على جوازه، ذلك لجريانه في الاستعمال منذ قرون، والحاجة إليه في التعبير في غير مجال من المجالات العصرية، واقترن ذلك باعتراض بعض الأعضاء.

ص: 511

وأما (انضاف) فقد أساغ استعماله الإمام المحقق ابن برّي وذكر كثيراً من أشباهه مما جاء مطاوعاً لأفعل دون فعل. حكى ذلك الإمام أحمد شهاب الدين الخفاجي في (شرح درة الغواص) . كما أساغ ذلك ابن عصفور الأندلسي، إذ حكي عنه أنه صحح قياسية (انفعل) من أفعل الرباعي، وقد بسط القول في ذلك شهاب الدين محمود الألوسي في كتابه (كشف الطرَّة عن الغرَّة) .

وجاء (انضاف) في كلام الإمام عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني. إذ قال في مقدمة كتابه (الألفاظ الكتابية) : "فإذا كانت الألفاظ مشاكلة للمعاني في حُسنها، والمعاني موافقة للألفاظ في جمالها، وانضاف إلى ذلك قوة من الصواب وصفاء من الطبع ومادة من الأدب

كان الكمال وبالله التوفيق". فأورد في كلامه (انضاف) . والهمذاني من أئمة القرن الرابع الهجري. وهكذا جاء في كلام أبي الحسن الجرجاني صاحب الوساطة (بين المتنبي وخصومه) إذ قال: فإذا اجتمعت تلك العادة والطبيعة وانضاف إليهما التعمل والصنعة خرج كما تراه –أي الشعر- فخماً جزلاً قوياً متيناً-ص21" والجرجاني هذا من أئمة القرن الرابع الهجري أيضاً.

7-

الأعزب والعزباء، والعَزَب والعَزَبة، والعازب والعازبة:

أنكر بعض النقاد قولهم (رجل أعزب) إذا لم يكن له زوجة و (امرأة عزباء) إذا لم يكن لها زوج، وجعلوا الصواب (رجل عزب وامرأة عزبة) بفتح العين والزاي.

وإذا عدنا إلى المعاجم ألفينا من الأئمة من ينكر (أعزب) صراحة كما فعل أبو حاتم السجستاني.

ص: 512

قال الأزهري في معجمه (التهذيب) : "قال أبو حاتم ولا يقال رجل أعزب". وهكذا فعل ابن الأثير الشيباني صاحب النهاية، إذ قال: "رجل عَزَب

ولا يقال فيه أعزب". وقد اقتصر بعضهم على (عزب) وأغفل (أعزب) ، كما فعل صاحب الصحاح وصاحب المختار والأصفهاني صاحب المفردات فهل عنوا بذلك إنكار (أعزب) ، هذا ما اختاره صاحب التاج. على أن أكثر الأئمة قد أجازوا (أعزب) لكنهم آثروا عليه (عَزَباً) . قال الأزهري في معجمه (التهذيب) : "قال أبو حاتم: ولا يقال رجل أعزب، وأجاز غيره رجل أعزب". وقال صاحب القاموس: ولا تقل أعزب أو هو قليل". وقال صاحب اللسان: "ولا يقال أعزب وأجازه بعضهم". وبسط القول في ذلك ابن الحنبلي الحلبي فقال: "رجل أعزب، وعن أبي حاتم لا يقال رجل أعزب. وقال الأزهري وأجازه غيره"، وأردف: "ومنه قوله: ما في الجنة أعزب. قال النووي: في جميع نسخ بلادنا بالألف، وهي لغة والمشهور في اللغة: عَزَب"، ثم قال: "وقال صاحب المغرب، وهو المطرَّزي المغربي، رجل عَزَب بالتحريك: لا زوج له، ويقال: أعزب. وقد جاء في حديث النوم في المسجد عن نافع، قال: أخبرني عبد الله أنه كان ينام في مسجد النبي (?) وهو شاب أعزب". وقال صاحب التاج: "ولكن أبا حاتم أجاز أعزب فاستدل بحديث: ما في الجنة أعزب".

وعلى ذلك تقول: (رجل أعزب وامرأة عزباء) . قال صاحب المصباح: "وقياس قول الأزهري أن يقال امرأة عزباء مثل أحمر وحمراء".

***

ص: 513

وتقول رجل عزب وامرأة عزب وعزبة، بفتح العين والزاي. ففي تهذيب الألفاظ لابن اسحاق السكيت:"ورجل عزب وامرأة عزب. قال الفرَّاء: ويقال عزبة، إذا لم يكن لها زوج. قال وأنشد الجرمي: يا من يدل عزباً على عزب". فثبت بذلك أنك تقول رجل عزب وامرأة عزب وعزبة. ويؤيد ذلك ما حكاه السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر-4/227) . فقد حكى عن الإمام ثعلب أنه روى (امرأة عزب) كما حكى عن ابن خالويه أنه قال: "ويقال امرأة عزب وعزبة غير أن ثعلباً اختار الفصحى".

والعزب كما قال ابن خالويه اسم وصفة بمنزلة (العازب) ، وهو يجمع لذلك على (عُزَّاب)، تقول: قوم عزاب بضم العين وتشديد الزاي، كما يجمع (عازب) . وقال صاحب المصباح: "وعزب الرجل من باب قتل فهو بفتحتين وامرأة عزب

وجمع الرجل عزاب، باعتبار بنائه الأصلي، وهو عازب، مثل كافر وكفار".

***

أما (العازب) فهو اسم الفاعل المقيس من (عزب) . قال ابن القوطية في كتابه (الأفعال) : "وعزب الرجل عزبة وعزوبة بضم العين فيهما، لم يكن له أهل". فاسم الفاعل المقيس منه (عازب) . وليس في كتب اللغة ما ينفي ذلك بل فيها ما يؤكده، وقد عللوا جمع (عزب) بفتحتين على (عزاب) بضم أوله وتشديد ثانيه، بأنّ الأصل فيه (عازب) . قال ابن خالويه:"والعزب اسم وصفة بمنزلة العازب". وقال صاحب اللسان: ".. فهو عازب والجمع عُزَّاب".

ولا ننسَ أن (الفعَّال) بضم أوله وتشديد ثانيه، وهو الجمع المطَّرد لفاعل، ككاتب وكتَّاب وعامل وعمال وجاهل وجهال وعالم وعلام وحارس وحراس وكاهن وكهان وحاكم وحكام.. ففي كتاب الهمع للسيوطي:"فُعّال بضم الفاء وتشديد العين يطّرد جمعاً لوصف على فاعل كصائم وصوام". وشرطه أن يكون صحيح اللام.

ص: 514

وإذا قلت (رجل عازب) فالقياس أن تقول (امرأة عازبة) . والأصل في جمع (العازبة) أن يكون (العوازب) ، ولكن جاء قولهم (ونساء عزاب) ، فساووا في الجمع بين عازب وعازبة. وقل جمع (فاعلة) على (فعال) بضم الفاء وتشديد العين كصادة وصداد بضم أوله وتشديد ثانيه، كما في (الهمع) ، وهو من صدَّه عن الأمر إذا صرفه ومنعه، وكذلك صاد وصداد.

على أن ثمة (عازبة) بمعنى آخر. ذلك أن (عزب) فعل لازم أصل معناه بَعُد، كما جاء في (المقاييس) لابن فارس. وقد جاء في شرح الحماسة للمرزوقي "ويقال مال عازب وعزب إذا بَعُد عن أهله، وروض عازب: بعيد الطلب". كما جاء في أساس البلاغة: "ولا يكون الكلأ العازب إلا بفلاة حيث لا زرع" وفيه: (رمل عزب: منفرد) . فأصل معنى (المادة) هو البعد والانفراد، وأسسوا على ذلك قولهم (رجل عازب) إذا بُعد من الأهل فانفرد وبقي بلا زواج. على أن في اللغة (عزبه)

وهو فعل متعد معناه في الأصل (أزال عزوبته) . ويكثر سلب معنى الفعل بزيادة الهمزة في أوله كقوله (أشكيته) إذا أزلت شكواه. ولكن جاء السلب في (عزب) بتعديته، ففي اللسان: (وعزبته تعزبه، أي المرأة

قامت بأموره) . وإذا قامت بأموره فقد أذهبت عزوبته، وكذلك (عزبته) بتشديد الزاي. قال صاحب اللسان:"ليس لفلان امرأة تعزبه –بالتشديد- أي تذهب عزوبته بالنكاح". فثبت بهذا أن (العازبة) كذلك امرأة الرجل لأنها تذهب عزوبته، وكذلك (المعزبة) بضم الميم وتشديد الزاي، فتأمل.

8-

أرض وطيئة لا واطئة:

ص: 515

يعمد بعض الكتَّاب إلى وصف الأرض المنخفضة بـ (الواطئة)، وهو خطأ شائع. فالواطئ اسم فاعل من (وطئه) إذا داسه. ففي المصباح:"وطئته برجلي أطؤه وطأً: علوته". ومن ثم سمي (المار) في الطريق واطئاً لأنه يطأ الطريق. ويجمع (الواطئ) بمعنى (المار) على (الواطئة) ، كما يجمع المار على المارّة، ففي التاج: وطئه بالكسر يطؤه وطأً، داسه برجله.. والواطئة المارّة والسابلة، وسموا بذلك لوطئهم الطريق" والموطوء الشيء الذي تطؤه أي تدوسه.

أما صواب قولك (الأرض الواطئة) فهو (الأرض الواطيئة) . فالوطيء من وطؤ كالكريم من كرم والقريب من قرب. وأما معنى (الوطيء) في الأصل فهو: السهل اللين. ففي التاج: "وطؤ الموضع يوطُؤ، بضم الطاء، وطأً ووطاءة: أي صار وطيئاً سهلاً.. والوطيء من كل شيء ما سهل ولان. وفراش وطيء لا يؤذي جنب النائم". ولكن هل يعني (وطؤ) معنى انخفض، كما هو الشائع؟ قال أبو الفضل جمال الدين الأنصاري اللغوي صاحب لطائف الذخيرة:"هذه أرض مستوية لا رباء فيها ولا وطاء، أي لا صعود فيها ولا انخفاض". فالوطاء هو الانخفاض، ويلزم من هذا أن يكون (وطؤ) بمعنى انخفض، والوطيء بمعنى المنخفض، لأن الوطاء كالوطاءة مصدر (وطؤ)، كما جاء في الأفعال لابن القوطية. فقولك أرض وطاء وصف بالمصدر. وجاء في كلام الأنصاري:"والوطاء ما انخفض من الأرض" وجاء نحو ذلك في التاج.

ولذا قل الأرض الوطيئة بمعنى السهلة أو المنخفضة، لا الواطئة.

9-

دفيء لا دافئ:

أقول: أما الفعل فهو (دفؤ) بالضم دفاءة كظرف ظرافة و (دفئ) بالكسر دفأ بفتح الدال والفاء في المصدر كطرب طرباً، ودفاءة كسلم سلامة، كما في الصحاح ومختاره.

وأما الصفة من (دفؤ) بالضم فهو (دفيء) على فعيل. ومن (دفئ) بالكسر فهو على (دفئ) على فعل بفتح فكسر، ودفآن بالمد وامرأة دفأى.

ص: 516

وأما الموصوف فقد خص الصحاح الفعل المضموم العين وهو (دفؤ) بالشيء فقال دفوء اليوم والبيت والثوب والليلة فهو دفيء وهي دفيئة على فعيل وفعيلة. كما خص الفعل المكسور العين وهو (دفئ) بالرجل فقال دفئ الرجل فهو دفئ كتعب فهو تعب بفتح فكسر، ودفآن كظمآن، وامرأة دفأى كظمأى.

وأخذ الفيومي في المصباح بحكاية الزمخشري فجعل (دفئ) بالكسر كتعب للرجل والمكان، وجعل (دفؤ) لما سوى ذلك من يوم وليلة. فقد قال الزمخشري في كلامه على (الرجل) :"دفئ من البرد بالكسر دفأ ودفاءة وتدفّأ وادَّفأ واستدفأ" وأردف: "ورجل دفآن وامرأة دفأى" فشايع الصحاح. وقال في كلامه على (اليوم والليلة) : "ودفؤ يومنا بالضم ودفؤت ليلتنا" فتكون الصفة منه دفيء ودفيئة على فعيل وفعيلة، كما في الصحاح أيضاً. أما (المكان) فقد خصه بـ (دفئ) بالكسر فقال:(مكان دفئ) على فعل كتعب فهو تعب، فخالف الصحاح.

وأما اللسان فقد انتحى نهجاً آخر، إذ أجاز (دفئ الرجل يدفأ) و (دفؤ الرجل يدفؤ) ومثلهما (تدفأ وادَّفأ واستدفأ) فكان للرجل من الصفات (دفئ) بفتح فكسر و (دفآن) كظمآن و (دفيء) على فعيل، فقال:"ورجل دفئ، بفتح فكسر، ودفآن" وأردف "والدفيء كالدفآن". وجعل (دفوء) بالضم للمكان والزمان، فكانت الصفة (دفيء ودفيئة) على فعيل وفعيلة. ويستنبط من كل ذلك:

آ-تقول في وصف الرجل (دفئ) بفتح فكسر كتعب و (دفآن) كظمآن كما في الصحاح واللسان. وتضيف إلى ذلك (الدفيء) على فعيل كما في اللسان. كما تقول في وصف اليوم والبيت والثوب والليلة (دفيء ودفيئة) على فعيل وفعيلة، كما في الصحاح. ولك أن تضيف إلى وصف المكان (الدفئ) بفتح فكسر، كما في أساس الزمخشري والمصباح، وقد خصوهما به.

ب-ليس لك أن تقول (الدافئ) كما يقول الكتَّاب، لأن ما جاء على فاعل قياساً لا يكون من (فعِلَ) بفتح فكسر ما لم يكن متعدياً، ولا يكون من (فَعُل) بالضم أيضاً. ولم يرد بالدافئ سماع.

ص: 517

جـ- جاء من مصادر المادة الدفأ والدفاء والدفا والدفاءة بفتحتين، وكذلك (الدفء) بفتح فسكون، ففي اللسان عن الأصمعي:"ثوب ذو دفء، بفتح فسكون، ودفاءة" أما الاسم فهو (الدفء) بكسر فسكون، ففي المصباح:"والدفء وزان حمل خلاف البرد". وهكذا تقول أحسست بالدفء بفتح فسكون، إذا أردت المصدر، أي الدفاءة، كما تقول أحسست بالدفء بكسر فسكون، إذا أردت الاسم، أي أحسست بما يدفئك.

د-تقول في تعدية الفعل (أدفأته) بزيادة الهمزة و (دفأته) بتشديد عين الفعل، كما في الأساس، وقد جاء فيه: "ومن المجاز

وأدفأت فلاناً ودفّأته: أجزلت عطاءه وأعطيته دِفأً كثيراً

".

10-

عاطل ومتعطل من العمل:

أخذ الأستاذ عباس أبو السعود في مجلة الأزهر (في عدد تشرين الثاني من عام 1974)، أخذ على الكتَّاب قولهم (عاطل) للرجل إذا خلا من العمل فقال:"العاطل صفة للمرأة التي خلا جيدها من الحلي" وجعل الصواب أن يقال (متعطل) بصيغة اسم الفاعل من تعطل، و (معطل) بصيغة اسم المفعول من عطل المبني للمجهول. فما الرأي في المسألة؟

أقول إذا عدنا إلى المعاجم ألفينا (عطلت المرأة) بكسر الطاء من باب طرب، و (تعطلت) إذا خلا جيدها من القلائد فهي (عاطل) . و (العطل) بفتح العين والطاء هو الخلو من القلادة على أنه جاء في الصحاح ومختاره أنّ " العطل بفتحتين ليس مقصوراً على الخلو من القلادة أو الحلي، بل يتناول الخلو من سواهما أيضاً. ففي الصحاح ومختاره: "عطل الرجل من المال والأدب".

أما (تعطل) فقد قصر معناه على الخلو من العمل إذ جاء في المعجمين: "وتعطل الرجل إذا بقي بلا عمل". وهكذا فقد استغني عن الصلة أي (الجار والمجرور) في تعطل وذكرت الصلة في عطل.

وعندي ألَاّ فرق بينهما ذلك أنه يمكن الاستغناء في (عطل) عن الجار والمجرور أيضاً فتقول (عطل الرجل فهو عاطل) أي خلا من العمل، إذا دلت على ذلك القرينة فتقول (هؤلاء عاطلون) كما تقول (هؤلاء متعطلون) .

ص: 518

وثمة (عطل) كقتل، وأصل استعماله للمرأة أيضاً. ففي المصباح "عطلت المرأة عطلاً من باب قتل إذا لم يكن عليها حلي فهي عاطل" وأردف:"وعَطَل الأجير مثل بطلَ يبطُل بالضم وزناً ومعنى" أي أن قولك (عطل الأجير) كقتل يعني أنه بَطَل أي لم يعمل. ففي الأفعال لابن القوطية: "وبطل الأجير بطالة بكسر الباء في المصدر لم يعمل". فثبت بهذا صحة قولك (عطل الأجير) فهو عاطل، إذا لم يعمل.

والأجير هو العامل، ذلك أن الأجير هو من عاقدته على أن يعمل لك بأجر معلوم، وتقول في هذا المعنى (آجرت الأجير) فالأجير مؤاجر بفتح الجيم، على ما جاء في الأساس للزمخشري، أو هو من عاقدك على ذلك فهو مؤاجر بكسر الجيم، على ما جاء في المصباح. أوَ ليس الأجير إذاً هو العامل؟ فإذا صح هذا جاز لك أن تقول (عطل العامل فهو عاطل) كما تقول (عطل الأجير فهو عاطل) . وقد يقولون في (الإجارة) هذه استأجرت جماعة ليعملوا كذا، كما جاء في الحديث:"قال مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل، على أجر معلوم.." جاء ذلك في كتاب (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للإمام أبي العباس الشهير بالحسين بن المبارك – ص 137-ج1) فالأجير إذاً هو العامل، وقد ثبت بذلك صحة قولك (العاطل والمتعطل) للعامل، كما تقوله للأجير، خلافاً لما ذهب إليه الناقد.

***

وبحث ما نحن بصدده الأستاذ محمد العدناني، في معجمه (الأخطاء الشائعة) فأنكر قول القائل (فلان عاطل عن العمل) وقصر الصواب على قوله (فلان عاطل من العمل) بحرف الجر من دون عن، واستشهد ببعض الشعر ومن ذلك قول أبي تمام:

فالسيل حرب للمكان العالي

لا تنكري عطل الكريم من الغنى

فما الرأي فيما ذهب إليه؟

ص: 519

أقول إن النص على استعمال (عطل) بحرف من حروف الجر لا يمنع من استعماله بحرف آخر إذا اتسع له معناه. وقد عرضنا لذلك في كتابنا (مسالك القول في النقد اللغوي) فقلنا: "ليس شيء أولى بالتدبر وأحق بطول الدربة والدراية من استعمال حروف الجر. إذ لا يكفيك للتثبت في صحة اختيار الحرف لتصريف الفعل في معنى من معانيه أن تعود إلى المعاجم وحدها، بل لا يجزيك حيناً أن تقف، في كتب النحو، على ما يطرد فيه استعمال كل حرف

أو تضرب بسهم من تصفح كتب الأدب نثره وشعره، ذلك أنه لا بد لإحكام استعمال هذه الحروف من أن تعلق من كل ذلك بسبب وتحظى بطائل

فيتحصل بمطالعتك هذه ومدارستك ما يبصرك بتصريف هذه الحروف وإجرائها في مجاريها.. ص 91".

وعندي أن قولك (عطل عن العمل) و (عاطل عن العمل) صحيح لا غبار عليه. فانظر إلى قول الراغب صاحب المفردات: "العطل فقدان الزينة والشغل" وقد دلَّ بقوله هذا على أن (العطل) لا يقتصر على الخلو من (الزينة)، ولو كان هذا هو الأصل في استعماله كما ذكرنا من قبل. وأردف فقال:"وعطلته من الحلي ومن العمل فتعطل" فدل بذلك على صحة ما انتهينا إليه من صحة قول القائل (عطل من العمل فهو عاطل ومتعطل) لثبوت (عطل) اللازم و (عطّلته) المتعدي فتعطل، خلافاً لما ذهب إليه الأستاذ عباس أبو السعود. ثم قال:"وعطل الدار عن ساكنها والإبل عن راعيها" بتشديد الطاء، فاستعمل (عن) للتعبير عن تعطيل الدار عن ساكنها أي إخلائها، خلافاً للأصل، كما استعمل (عن) في تعطيل الإبل عن راعيها أي قطعها عنه بإخلاء زرعها منه. قال صاحب المصباح:"وعطلت الإبل خلت من راع يرعاها، ويتعدى بالتضعيف فيقال: عطلت الأجير والإبل تعطيلاً".

ص: 520

ويتبين عند التحقيق أنك إذا قلت: (عطل الرجل من العمل فهو عاطل منه) فقد أخذت بالأصل الذي هو (عطلت المرأة من الحلي) واعتددت به. وإذا قلت (عطل الرجل عن العمل فهو عاطل عنه) فقد أخذت بما انتهى إليه معناه وعوَّلت عليه. ذلك أن (تعطيل الرجل) حجز له عن العمل الذي به قوامه، وحبس له عن السعي الذي به كيانه. فتعطيل الرجل يعني تنحيته عما فطر عليه، لا مجرد إخلائه أو محض تعريته من صفة محمودة يحوزها كأدب أو مال أو سوى ذلك.

ولا يعد (عطل) فريداً في تعديته بمن وعن. فأنت تقول بعد عنه ومنه وتباعد عنه ومنه.

كما تقول تحول عنه وهو المشهور، وتحول من حال إلى حال كما جاء في (لطائف اللطف/ 64) للنيسابوري.

وهكذا قيل (تنقل من موضع كذا) كما هو الشائع، وقيل (أصبح السلطان متنقلاً عن أهل الفضل إلى أهل النقص) كما جاء في كليلة ودمنة (باب برزويه) لابن المقفع. ونحو ذلك (انصرف عنه) كما هو الجاري و (انصرف من بلاد الهند) كما في المصدر نفسه.

وتقول (تحرَّز منه) كما في الصحاح والقاموس والمصباح، وتقول (تحرَّز عنه) ، كما جاء في الأدب الكبير لابن المقفع، إذ قال:(تحرزاً بذلك عن تقصير فعل/ 85) . وتقول (خرج منه) و (خرج عنه) . قال ابن المقفع في كتابه المذكور: (وكان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد، وخارجاً من سلطان لسانه فلا يقول ما لا يعلم/ 133)، كما جاء في سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي:(وخرج عن حد الاستعمال) وفي مقدمة الكتاب (وخرج عن مقدور البشر) ، أي تجاوز، ونحو ذلك ما جاء في المخصص لابن سيده (تخلَّيت منه وتخلَّيت عنه) .

ولا شك أن لكل حرف من هذين معنى يقتضيه عند التحقيق. فلا بد أن يفضي الفعل مع حرف بعينه إلى معنى لا يفضي إليه مع حرف آخر. وقد بسطنا القول في ذلك بكتابنا (مع النحاة/ 111) .

***

ص: 521

ويتصل بما نحن بصدده ما جاء في معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة. فقد ذهب الأستاذ محمد العدناني في معجمه هذا إلى تخطئة قول القائل (عاضه عن الشيء) وجعل صوابه (عاضه الشيء) و (عاضه منه)، مستشهداً بما جاء في الحديث عن أبي هريرة:"فلما أحلَّ الله ذلك للمسلمين، يعني الجزية، عرفوا أنه قد عاضهم أفضل مما خافوا"، على صحة (عاضه الشيء) ، ومستشهداً بما جاء في الألفاظ الكتابية للهمذاني وفي أساس البلاغة للزمخشري وسواهما، على صحة (عاضه منه) . لكنه أقر بصحة قول القائل (اعتاض عنه) ، كما جاء في المقامة الدمياطية لأبي القاسم الحريري ومحيط المحيط، إلى جانب قول القائل (اعتاض منه) !

والغريب أن يثبت العدناني (اعتاض عنه) ويمنع (عاضه عنه) ، والأصل أن يتفق الحرف في (فعلته فافتعل) كجمعته إلى فلان فاجتمع إليه، ونسبته إلى فلان فانتسب إليه وخصصه بكذا فاختص به. ونحو ذلك (أفعلته فافتعل) كأبعدته عنه فابتعد عنه وهكذا.. و (اعتاض) معناه أخذ العوض. و (عاضه) أعطاه العوض. فصواب المسألة أنك تقول (عضته من كذا) فاعتاض منه، كما تقول (عضته عن كذا) فاعتاض عنه. وتقول إلى ذلك (هذا عوض من ذاك) و (هذا عوض عن ذاك) أيضاً. ودليل ذلك ما جاء في كلام الفصحاء. فإذا عدت إلى (خزانة الأدب) للإمام عبد القادر البغدادي (المطبوع بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد) ، وتصفحته، لا سيما الجزء الثاني منه، ألفيت أن الفعل (عاض) ومشتقاته والاسم منه في الصفحات (94 و 113و 149) خاصة، قد عُديت بالحرفين جميعاً، كقوله (المعوض عنه ومنه، والعوض عنه ومنه) وقد تكرر ذلك.

ص: 522

وإذا تدبرنا الأمر وجدنا أنه كلما عُدّي (عاضه) بمن كان بمعنى (أبدله) وكان (العوض) بكسر ففتح، وهو الاسم، بمعنى (البدل) . والغالب فيما جاء من (عاضه منه) أن يشار فيه إلى أن العوض بمعنى البدل. قال الإمام عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني في كتابه (الألفاظ الكتابية) :"اعتاض هذا الأمر من ذاك اعتياضاً وأعاضه فلان وعوّضه عِوَضاً، وخذ هذا عوضاً من ذاك" وأردف "والعوض.. والبدل والبديل واحد".

على أن للعوض معنى آخر، يفارق به البدل، فقد ذكر ابن جني في الخصائص (1/265) :

أن جماع ما في الأمر أن البدل أشبه بالمبدل منه، من العوض بالمعوض منه. فالبدل يقع في موضع المبدل منه، ولا يلزم من العوض ذلك. فالعوض لا يحل محل المعوض منه أما البدل فيحل محل المبدل منه فلا يجتمعان. وهكذا لا يشترط في (العوض) إلا أن ينوب عن (المعوض عنه) ولا يشترط أن يشابهه أو يحل محله. وبهذا المعنى أمكن أن تقول (هذا عوض عن هذا) أي ينوب منابه ويجزي عنه، أي يقضي، ومن ذلك قوله تعالى: ?ولا تجزي نفس عن نفس شيئاً –البقرة/ 47"، وبذلك يتجلى معنى (عن) . قال أبو البقاء الكفوي في الكليات: "والبدل لا يكون إلا في موضع المبدل منه، والعوض لا يكون في موضع المعوض عنه –1/399" فعدّى (عوض) بعن ليشير به إلى المعنى الذي يفارق به (بدّل) أو (أبدل)

وانظر إلى قول الإمام الشافعي:

وانصب فإن لذيذ العيش في النَصَب

سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقه

ص: 523

وتأمل قوله (عوضاً عمن تفارقه) ، فلماذا اختار الشافعي ذلك عن أن يقول، بل على أن يقول:(بدلاً ممن تفارقه) أو (عوضاً ممن تفارقه) ؟ أقول قد آثر (عوضاً عمن تفارقه) لأن المسافر إنما يكفيه بل يجزيه أن يجد من يأنس به ويطمئن إليه، ويغنيه أن يظفر بمن يثق به ويسكن إليه، فيسلو به عمن يفارقه فتطيب نفسه عن ذكره. وهو لا يطمع أن يلقى (البديل) ممن نزح عنهم (والشبيه) بمن ألف صحبتهم، فكان قوله (عوضاً عما تفارقه) واقعاً موقعه صائراً إلى مستقره. وقد يدق هذا فيخفى على الناظر حتى يتلطف له فيظهر من أكمامه وينشر عن طيه.

***

هذا ما رأيت الكشف عنه، في موضوع دلالة (اسم الفاعل) والموازنة بينه وبين الصفة المشبهة، وما يعترض الكتَّاب فيه من لبس وأشكال أو يتصل باستعماله من خطأ واشتباه. وأرجو أن أكون قد وفّقت، فيما أدليت به من وجوه الرأي، إلى ما يمكن الوثوق بصحته فلم أخطئ القصد فيما ابتغيت، ومن الله العون والتسديد.

ص: 524