الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القيَاس في الجُموع
قد يتفق لك مفرد من الأسماء أو الصفات لا تدري ما جمعه لمجيئه على زنة تتباين جموعها، أو يعرض لك جمع لا تدري ما مفرده إذ يصح أن يكون جمعاً لآحاد مختلفة. وسواء صح ما جرى عليه ابن مالك في ألفيته والسيوطي في همعه، في إيراد صيغ الجموع ثم ذكر الآحاد التي ينقاس جمعها على كل صيغة، أو صح ما نهجه المتقدمون وابن الحاجب في شافيته والرضي في شرحه، من ذكر الآحاد، ثم ما يصدق في كل منها من صيغ الجموع، فإن ثمة من العناء في تحقيق مفرد كل جمع وجمع كل مفرد، ما يحمل على البحث والتدبر. قال ابن جني في سر صناعة الإعراب (وهذا الخلاف بين العلماء في أحد الجموع سائر عنهم مطرد منه مذاهبهم. وإنما سببه وعلة وقوعه بينهم أن أمثال جمع التكسير تفقد فيه صيغة الواحد فيحتمل الأمرين والثلاثة ونحو ذلك. ألا ترى أنك إذا سمعت زيدون وعمرون ومحمدون، لم يعترضك شك في الواحد من هذه الأسماء. وهذا يدل على أنهم بتصحيح هذه الأسماء في الجموع معنيون، ولبناء ألفاظ آحادها فيها لإرادة الإيضاح والبيان مؤثرون، وأنهم بجمع التكسير غير حافلين، ولصحة واحده غير مراعين) . ومن ثم كان لا بد من الأخذ بالقياس والتعويل عليه ما أمكن فيما نص العلماء على قياسه من الجموع، وفيما يمكن الاهتداء إلى قياسه بالاستقراء والتقصي، مهما اشتد إدراكه وتعسر مطلبه. وهذا أمر يتساهم ذوو النظر الأخذ به والرجوع إليه كلما تسنى ذلك، على ألا ترسو قدم قياس في اعتماد شاذ أو نادر، أو تجاوز أصل من أصول العربية أو طريقة من طرائقها.
مفعول ومفاعيل:
اختلفت كلمة المحدثين في جمع مفعول إذا كان وصفاً، هل يباح جمعه على مفاعيل، فمنعه بعضهم ووقفه على السماع ولم يجاوزه، وأجازه بعضهم قياساً. وبحث ذلك مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقالت لجنة الأصول (قاس النحاة جمع مفعول اسماً أو مصدراً على مفاعيل، وترى اللجنة قياسية جمعه كذلك وصفاً لكثرة ما ورد من أمثلته) . وانتهى المجمع من نقاشه إلى إطلاق جمع مفعول على مفاعيل وصفاً أو غير وصف فقال (يجمع مفعول على مفاعيل مطلقاً) .
جمع مفعول على مفاعيل إذا كان وصفاً:
إذا أخذنا بقرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة في إطلاق جمع مفعول على مفاعيل ولو كان وصفاً، جاز أن نقول في وصف غير العاقل (أحداث مشاهيد وأيام معاديد وأشياء مواضيع) بدلاً من قولنا (أحداث مشهودة أو مشهودات، وأيام معدودة أو معدودات، وأشياء موضوعة أو موضوعات) أو ليس (مشهود أو معدود أو موضوع) هاهنا وصفاً لغير العاقل على مفعول؟.
وإذا مضينا في الاقتباس برأي المجمع القاهري فيما كان وصفاً للمذكر العاقل على مفعول، كان لنا أن نقول (هؤلاء مآمين ومدايين) بدلاً من قولنا (مأمونون ومديونون أو مدينون) . بل كان لنا أن نقول (هؤلاء مسارير ومآسير ومشاكير ومآجير) صفة للرجال جمعاً لـ (مسرور ومأسور ومشكور ومأجور) . وهكذا.. أفليس في هذا كسر لأصل قائم على التفريق بين الوصف والاسم في هذا الباب عامة، وفيما كان على هذه الزنة خاصة.
ما قاله النحاة في جمع ما كان وصفاً على مفعول:
إذا عدنا إلى ما نص عليه النحاة في هذا الباب رأينا أن الأصل في جمع ما كان من الوصف على مفعول هو التصحيح. قال سيبويه في الكتاب (2/210) : (والمفعول نحو مضروب، غير أنهم قالوا مكسور ومكاسير وملعون وملاعين.. شبهوها بما يكون من الأسماء على هذا الوزن،.. فأما مجرى الكلام الأكثر فأن يجمع بالواو والنون، والمؤنث بالتاء. وكذلك مُفعَل بفتح العين ومُفعِل بكسرها. إلا أنهم قد قالوا منكر ومناكير ومفطر ومفاطير..) * وهو صريح بأن الباب في جمع ما كان على مفعول من الصفات، هو التصحيح.
-وقال الزمخشري في المفصل (94) : (ومفعول ومفعل بكسر العين ومفعل بفتحها، يستغنى فيها بالتصحيح عن التكسير وقد قيل ملاعين ومشائيم وميامين ومفاطير ومناكير، ومطافل ومشادن) .
-وقال الرضي في شرح الشافية (2/180) : (كل ما جرى على الفعل من اسمي الفاعل والمفعول وأوله ميم فبابه التصحيح لمشابهته الفعل لفظاً ومعنى، وجاء في اسم المفعول من الثلاثي نحو ملعون ومشؤوم وميمون وملاعين وميامين ومشائيم.. وكذا قالوا في مكسور مكاسير وفي مسلوخة مساليخ. وقالوا أيضاً في مفعل المذكر كموسر ومفطر، ومفعل بفتح العين كمنكر مياسير ومفاطير ومناكير. وإنما أوجبوا الياء فيهما على ضعفهما في نحو معاليم جمع معلم مفتح اللام، ليتبين أن تكسيرها خلاف الأصل، والقياس الصحيح) .
-وقال الصبان في حاشيته على الأشموني (3/189) : (لا يجمع جمع تكسير نحو مضروب ومكرم، وشذ ملاعين جمع ملعون..) .
-وقال صاحب الكليات أبو البقاء (426) : جمع المفعول على مفاعيل مقصور على السماع) .
فكلام الأئمة هذا صريح بقياس جمع ما كان وصفاً على مفعول، جمع تصحيح، ومنع جمعه جمع تكسير، إلا ما شذ فنقل فوقف على السماع. وسترى أن كثيراً مما قيل بشذوذه في هذا الباب، إنما كان تكسيره لسبب اقتضاه حاله من حيث مضارعته للاسم وعدم جريانه على الفعل.
القول بإطلاق مفعول على مفاعيل إذا كان وصفاً، عند بعض المحدثين:
بحث الشيخ مصطفى الغلاييني جمع مفعول على مفاعيل في كتابه (نظرات في اللغة والأدب/ 147) ، فقال (وأنت ترى أن سيبويه يقول أن مجرى الأكثر في مفعول ومفعل يضم الميم وكسر العين وفتحها، أن يجمع جمع تصحيح لا جمع تكسير، وجعل مجرى الأكثر في هذه الثلاثة فقط. ولم يعمم الكلام كما عممه المتأخرون. ونرى أنه لم يصرح بمنع تكسيرها. وقد جاء من بعده فوسعوا هذه الدائرة، وأدخلوا في هذا كل ما كان من الصفات أوله ميم زائدة، ثم تجاوزوا ذلك إلى أن حظروا تكسير ما كان كذلك، إلا ألفاظاً قالوا: إن السماع ورد بها ولا يقاس عليها. وسيبويه لا علم له بكل ذلك، وإنما هو توسع منهم في هذا الباب، ضيقوا فيه على الناس الباب) .
والذي يعنيه قول الغلاييني هذا، أن سيبويه لم يذهب إلى منع تكسير ما كان على مفعول ومفعل، بفتح العين وكسرها، من الصفات، وإنما جعله الأكثر. وقد أجاز التكسير فيه. وأنه لم يتجاوز في حكمه هذا الصيغ الثلاث مفعولاً ومفعلاً بفتح العين – ومفعلاً بكسرها. ومن ثم جاز فيما كان مثلاً، على (منفعل) وصفاً، التصحيح والتكسير، سواء بسواء.
كلام صاحب الكتاب في جمع مفعول من الصفات جمع تصحيح:
أقول إن ذهاب الشيخ الغلاييني إلى أن سيبويه قد أجاز التصحيح في جمع (مفعول ومفعل ومفعل) من الصفات، كما أجاز التكسير، وفرق فجعل التصحيح هو الأكثر، مذهبه هذا ليس مستقيماً. وإلا فما وجه قول سيبويه (غير أنهم قد قالوا مكسور ومكاسير وملعون وملاعين..) ، وتعداده ما شذ عن الأصل، وأردافه (شبهوها بما يكون من الأسماء على هذا الوزن) ؟.
وانظر إلى ما قاله ابن سيده أبو الحسن في تعليقه على كلام سيبويه هذا. قال صاحب التاج: (قال أبو الحسن إنما أذكر هذا الجمع – أي جمع مكسور على مكاسير – لأن حكم مثل هذا، أن يجمع بالواو والنون في المذكر، والألف والهاء في المؤنث – لأنهم كسروه تكسيراً تشبيهاً بما جاء من الأسماء على هذا الوزن) . وقد حكى صاحب اللسان هذا أيضاً. فأنت ترى أن ابن سيده قد أفصح بقوله (لأن الحكم في هذا..) عما أراد صاحب الكتاب بقوله (وأما مجرى الكلام الأكثر) . فإذا قال سيبويه (الأقل) فقد عني من الكلام (ما كان نادراً يحفظ ولا يقاس عليه)، وإذا قال (الأكثر) فقد أراد به (الأغلب الذي يقاس عليه) . قال سيبويه في باب بناء الأفعال المتعدية (2/214-216) :(فإنما هذا الأقل نوادر تحفظ عن العرب ولا يقاس عليها، ولكن الأكثر يقاس عليه) ،. وهذا ما ذهب إليه مجمع اللغة العربية بالقاهرة حين أقر أن الباب، والأصل، والغالب، والأغلب، والأكثر، والكثير، والقاعدة) قد جرت في كلام أكثر الأئمة، مجرى ما يقاس عليه.. فالحكم إذاً في جمع ما كان على الوزن المذكور من الصفات، أن يصحح. وأن ما شذ فقد شبه بالأسماء. قال ذلك المتقدمون والمتأخرون على السواء.
وأما أن سيبويه قد قصر حكمه بالتصحيح فيما بدئ من الصفات بالميم على (مفعول ومفعل بفتح العين ومفعل بكسرها) دون سواها كـ (منفعل) مثلاً، وأن المتأخرين هم الذين قالوا بتعميمه دون صاحب الكتاب، فليس وجيهاً أيضاً. فانظر إلى قول سيبويه (1/238) :(اعلم أن ما كان يجمع بغير الواو والنون نحو حسن وحسان، فإن الأجود فيه أن تقول مررت برجال حسان قومه، وما كان يجمع بالواو والنون نحو منطلق ومنطلقين فإن الأجود فيه أن يجعل بمنزلة الفعل المتقدم فتقول: مررت برجل منطلق قومه..) فما الذي أراده سيبويه فارقاً بين (حسن) و (منطلق) من حيث جمعهما؟ الذي قصده سيبويه فارقاً بينهما هو أن حسناً يكسر إلى تصحيحه، وأن منطلقاً لا يعدو التصحيح فلا يكسر. قال سيبويه في الكتاب (2/205) :(وأما ما جاء على فَعَل الذي جمعه فِعال فإذا لحقته الهاء للتأنيث كسر على فعال.. وليس شيء من هذا للآدميين يمتنع من الواو والنون، وذلك قولك حسنون وعزبون) . وأما منطلق فيجمع بالواو والنون ولا يتجاوز هذا الجمع.
فسيبويه لم يقصر حكمه بالتصحيح على (مفعول ومفعل ومفعل) بل عممه فتناول (المنفعل) كما هو مثاله، كما تناول سواه مما بدئ بالميم من الصفات، شأنه في ذلك شأن المتأخرين.
دليل بعض المحدثين على جواز تكسير مفعول من صفات الرجال:
ذهب بعض المحدثين إلى أن تكسير الأئمة ما أوله ميم من اسمي الفاعل والمفعول، في بعض أبواب الصرف، دليل على جواز جمعه جمع تكسير. ذلك أن العلماء قد رأوا أن ما يحذف من المفرد إذا كسر، هو ما يسقط منه إذا صغر. وذلك فيما تجاوزت أحرفه بالزيادة أربعة. فقالوا إذا كسرت (المقدّم) حذفت الدال فقلت (مقادم) . وقد تقول (مقاديم) . وإذا صغرته حذفت الحرف نفسه، فقلت (المقيدم) . وقد تقول (مقيديم) .
ولو كسرت (المختار) حذفت التاء ورددت الألف ياء فقلت (مخاير أو مخايير) . وإذا صغرت حذفت ما حذفته بالتكسير فقلت (مخيِّر) أو (مخيير) . قال سيبويه (2/110) : (وتقول في المقدم والمؤخر مقيدم ومؤيخر، وإن شئت عوضت الياء، كما قالوا مقاديم ومآخير والمقادم والمآخر عربية جيدة) . وقال (2/110)(ومزدان بمنزلة مختار، فإذا حقرته قلت مخير، وإن شئت قلت مخيير، لأنك لو كسّرته للجميع قلت مخاير ومخايير) .
فإذا استقر ما ذكرناه بدا لمعترض أن يسأل كيف يمنع العلماء تكسير هذه الصفات ثم يكسرونها فعلاً في أمثلتهم. أقول إن النحاة لم ينقضوا في تكسير هذه الألفاظ ما قرروه في منع تكسيرها. ذلك أنهم إنما يكسرون هنا (اللفظ) لا (الصفة) . فانظر إلى قول سيبويه (2/110) : (هذا باب ما يحذف في التحقير من بنات الثلاثة من الزيادات لأنك لو كسرتها للجمع لحذفتها، وكذلك تحذف في التصغير) . فقوله (لو كسرتها للجمع لحذفتها) لا يعني جواز تكسيرها أصلاً في كل حال. وما أشبه هذا بقول الرضي في نحو مما نحن فيه (شرح الشافية – 2/192) : (أقول إنما استكره تصغير الخماسي وتكسيره لأنك تحتاج فيهما إلى حذف حرف أصلي منه، ولا شك في كراهته، فلا تصغره العرب ولا تكسره في سعة كلامهم) ، وأردف (لكن إذا سئلوا كيف قياس كلامهم لو صغرتموه أو كسرتموه، قالوا كذا وكذا..) . أقول إذا كان اللفظ، فيما نحن بسبيله، على معنى الوصفية وسبيل الاشتقاق، امتنع تكسيره. وإذا فارق الوصفية وكأنه لم يشتق من الفعل فضارع الأسماء جاز أن يكسر تكسير الأسماء. وقد فعلوا مثل هذا في المصادر فمنعوا جمعها في الأصل، ثم قالوا في جمع (استخراج) :(تخاريج) . قال الصبان (4/142) : (أي في جمع استخراج علماً لأن المصدر لا يجمع) . وإذا قيل هل يكسر (مسلم) مثلاً، جاز تكسيره. قال سيبويه (2/98)(وإن سميت رجلاً بمسلم فأردت أن تكسر ولا تجمع بالواو والنون، قلت: مسالم، لأنه اسم مثل مطرف) . وهكذا الحال في (المقدّم) فإنك
تكسره على (مقادم) و (مقاديم) إذا جرى مجرى الأسماء.
-قال صاحب اللسان (ومقدم العين ما ولي الأنف بكسر الدال كمؤخرها ما يلي الصدغ.. ومقاديم وجهه ما استقبلت منه واحدها مُقِدم مقدِّم الأخيرة عن اللحياني.
قال ابن سيده: فإذا كان مقاديم جمع مقدم فهو شاذ. وإذا كان مقدّم فالياء عوض..) .
فقد رأيت كيف جمع (المقدم) جمع تكسير حين فارق الوصفية إلى الاسمية، وعلى هذا يحمل قوله سيبويه (2/110) :(وتقول في المقدم والمؤخر، مقيدم ومؤيخر، وإن شئت عوضت الياء، كما قالوا مقاديم ومآخير..) أي أنك تكسر هذا اللفظ أو ذاك حين يجوز فيه التكسير.
وهناك (مختار) وقد قالوا في جمعه (مخاير ومخايير) . أقول يصح هذا إذا أجريته مجرى الأسماء فأفردته عن مصوفوفه وجعلته علماً لمن توكل إليه مهمات مخصوصة.
والكتاب يجمعون هذا على (مخاتير) أو (مخاتر) فيبقون فيه صورة مفردة دفعاً للبس. فهل في أقوال النحاة ما يشهد لصحة هذا الجمع. أقول إذا ذكرنا ما قاله ابن مالك في ألفيته:
والسين والتاء من كمستودع أزل
- إذ بينا الجمع بقاهما مخل
علمنا أن الحذف إنما يقع على ما يخل ببناء صيغة الجمع. هذا هو الأصل. وقولك (مخاتير) أو (مخاتر) لا تختل به هذه الصيغة، فهو إذاً لا بأس به، وعليه قول الشراح، وإن استبعده بعضهم. قال الأشموني:(يعني أنه إذا كان في الاسم من الزوائد ما يخل بقاؤه بمثالي الجمع، وهما فعالل وفعاليل، توصل إليهما بحذفه) . والمقصود هنا هاتان الصيغتان وما شابههما في العدة والهيئة، وإن خالفهما في الوزن.
والذي يتحصل بما ذكرنا أنه لا بد من ملاحظة الصفة المبدوءة بالميم من اسمي الفاعل والمفعول، فإذا أتت على أصلها فاعتمدت على موصوف مذكور أو مقدر فبابها التصحيح.
وإذا ضارعت الأسماء أو خرجت إلى بابها فاشتهرت في الاستعمال مفردة عن موصوفها منقطعة عنه، جاز فيها التكسير كما تكسر الأسماء. وهذا توجيه ما قاله الأئمة باستثنائه كمقطوع ومقاطيع؛ ومكفوف ومكافيف وملعون وملاعين..
توجيه ما كسَّر من الصفات، مقطوع ومقاطيع:
مقطوع إذا أتيت به على الأصل باقياً على وصفيته جمعته جمع تصحيح. فإذا خصصته فأسميت به شيئاً صح تكسيرك إياه. ففي اللسان (الأصمعي: القطع بكسر القاف من النصال: القصير العريض.. وربما أسموه مقطوعاً، والمقاطيع جمعه) . وفيه أيضاً (ومقطعات الشعر ومقاطعيه، ما تحلل إليه وتركب عنه من أجزائه التي يسميها عروضيو العرب: الأسباب والأوتاد) . فقد رأيت أنهم خصوا (المقطوع) فسموا به (النصل) القصير العريض، أو سموا به السبب والوتد واحد (الأسباب والأوتاد) في الشعر فجمعوه جمع تكسير.
مكفوف ومكافيف:
مكفوف في الأصل من قولك (كففته كفاً منعته) ومنه كففت يده عن العمل فيده مكفوفة عنه، وكف بصره عن النظر فبصره مكفوف عنه. هذا هو طريقه. قال الهمذاني في ألفاظه الكتابية (مكفوف عن الخير، مغلول اليد عن الخير) . وقال الزمخشري في الأساس (كففته عن الشر فكف عنه، فهو كاف ومكفوف) . فأنت تقول على هذا (هؤلاء مكفوفون عن العمل لأنهم تجاوزوا مارسم لهم)، ولا تقول في هذا المعنى (مكافيف عن العمل) . لكنهم خصوا (المكفوف فأسموا به (الضرير) . تقول:(مررت بمكفوف لا يقوى على المشي فأعنته) وتجمع فتقول (رأيت مكافيف يحاولون الاهتداء إلى الطريق فهديتهم إليه) . قال صاحب المفردات: (وكففته أصبته بالكف ودفعته، وتعورف بالدفع على أي وجه كان، بالكف كان أو غيرها، حتى قيل رجل مكفوف لمن قبض بصره) . وفي الصحاح (المكفوف الضرير والجمع مكافيف) . فثبت بذلك أن المكفوف قد جمع على مكافيف بعد أن خرج عن وصفيته وعمومه، إلى الاسمية والخصوصية، فأصبح علماً لمن قبض بصره.
ملعون وملاعين:
يتبين بالتحقيق أن لملعون وجهين في الاستعمال، فأنت إذا قلت (لعن الله الكافرين والظالمين) ، قلت على هذا (فالكافرون والظالمون ملعونون) ولم تقل بهذا المعنى (فالكافرون ملاعين) . واللعن كما جاء في مفردات الراغب (الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته، ومن الإنسان دعاء على غيره) . وعلى ذلك قوله تعالى: (ملعونين، أين ما ثُقفوا أُخذوا وقتٍِّلوا تقتيلاً ((الأحزاب/ 61) . والكلام على المنافقين والمرجفين. وقبل الآية (لا يجاورونك فيها إلا قليلاً (أي لا يجاورونك إلا ملعونين. ولا يصح أن نقول في معناه (لا يجاورونك إلا ملاعين (! أما إذا قلت (الملعون) على أنه (اللعين) وقد جاءا بمعنى. واللعين الذي لا يزال منتبذاً عن الناس، أو أنه الشيطان، صفة غالبة، لأنه طرد من السماء، كما جاء في اللسان، أو هو الذي استحق اللعن لأنه قد استوجبه بفعله فهو مظنة له وباعث عليه لخبثه وإيذائه الناس، فأنت تجمعه على (ملاعين) ، لإنزاله منزلة الأسماء لخصوص معناه وانفراده عن موصوفه كما انفرد الشيطان.
موضوع ومواضيع:
الأصل في (موضوع) ما دام صفة، أن يجمع جمع تصحيح، وأنت لا تكسره حتى تسمي به. فإذا وضعت الثياب في صندوق، قلت (الثياب موضوعة أو موضوعات في الصندوق)، ولا تقول:(الثياب مواضيع في الصندوق) البتة. فإذا عنيت بـ (الموضوع) الأمر الذي تبحثه، كما اشتهر استعماله، صح تكسيره، فتقول (تلك مواضيع الفلسفة أو موضوعاتها) . قال الجرجاني في تعريفاته (موضوع كل علم ما يبحث فيه عوارضه الذاتية، كبدن الإنسان، لعلم الطب) .
والطريف أنه قد ذكر في صدد المناقشة في هذا الجمع، كما جاء في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ما ذهب إليه الشيخ محمد علي النجار إذ رأى أن مثل (الموضوع) قد التحق بالأسماء لأنه الأمر يعرض للمرء. قال الأستاذ النجار:(والمتكلم به لا يلاحظ جريانه على موصوف، ولا يراعي أن الأصل أمر موضوع، وبذلك يكون تكسيره صحيحاً كالمشاريع والمحاصيل) . والقول ما قاله، على ما انتحيناه ونزعنا إليه فيما فصلناه قبل.
وقد استبعد الأستاذ عباس حسن قول الأستاذ النجار، وقال (ليس هذا متصلاً بما نحن فيه، وليس الموضع موضع الحديث عن الاسمية أو الوصفية، إنني لم أجد في الكتب المتداولة.. من قال وصفية أو اسمية..) أقول الموضع هنا موضع انتقال (مفعول) من الوصفية إلى الاسمية وجمعه جمع الأسماء، وإلا فما الذي يعنيه قول سيبويه فيما شذ وكسر من (مفعول) خلافاً للأصل (شبهوها بما يكون من الأسماء على هذا الوزن) . وقد سأل عضو في هذا النقاش (إذا قلت هذا الكتاب موضوع في أول المائدة، وهذا الكتاب موضوع في وسطها، وهذا الكتاب موضوع في آخرها، فماذا تكون – موضوع – هنا؟)، فقيل له:(تكون حينئذ وصفاً) فسأل (فهل يجوز أن أقول هذه الكتب مواضيع؟)، فقيل له:(لا يجوز) . أقول إذا صح هذا القول، وهو صحيح كما أسلفنا، كان إطلاق المجمع القاهري جمع مفعول على مفاعيل، في كل موضع، محل نقد ومظنة اعتراض بيِّن.
يقول الأستاذ عباس حسن أنه أحصى من أمثلة هذا الجمع عن الثقات نحواً من مائة وثمانية. أقول في الجواب عن هذا: لا بد من التمييز هنا بين الاسم والوصف، والتفريق في الوصف بين ما بقي على وصفيته معتمداً على موصوف مذكور أو مقدر، وما استعمل صفة غالبة مفرداً عن موصوفه منقطعاً عنه، منزلاً منزلة الأسماء. فإذا سمع وصف على (مفعول) قد كسر على (مفاعيل) ، وهو لا يزال على الأصل فهو شاذ نادر. وإلا فهل يسقط ضابط، أو تنسخ قاعدة، أو يبطل أصل يتصل باشتقاق الصفة ودلالتها فيتناول ما لا يحصى من الأوصاف، لشذوذ ألفاظ معدودة؟
بل هل تقول (العلماء معاديد) أي معدودون، وزرت خالداً وصالحاً وباسلاً فهم مزاوير أي مزورون، والأرزاق مباسيط للمستحقين أي مبسوطة أو مبسوطات. وقد جاء في التنزيل (إنهم لهم المنصورون (و (إننا لمردودون (و (الحج أشهر معلومات (و (أكواب موضوعة (أفيصح. أن نقول في معناها:(إنهم لهم المناصير) و (إننا لمراديد) و (الحج أشهر معاليم) و (أكواب مواضيع) ؟.
هذا ومثل (موضوع) في انتقال من الوصفية إلى الاسمية: (المرسوم والمفهوم والمضمون والمولود) وسواها.
مسجون ومساجين:
قد سمع في جمع مسجون: مساجين. وعندي أنهم أنزلوه منزلة الأسماء أيضاً. فأنت تقول (سجن خالد وأديب وسليم) ثم تقول (وسيحاكم هؤلاء المسجونون دون ريث) ولا تقول في مثل هذا الموضوع (وسيحاكم هؤلاء المساجين..) ما دمت تقصد (هؤلاء الذين سجنوا) . لكنك إذا قلت (ثار مساجين القلعة على حراسها) فقد أنزلت (المسجون) منزلة الاسم من حيث اشتهار استعمال منقطعاً عن موصوفه واستغنائه عنه، فأتيت به مجموعاً جمع الأسماء. فإذا قلت مررت بـ (مساجين القلعة) فكأنك قلت (مررت بجنود العدو) .
مشؤوم ومشائيم:
ومما جمع من مفعول على مفاعيل، ما أريد به النسبة إلى شيء، كمشؤوم ومنكود ومرجوع. فقد جمعوا (المشؤوم) على مشائيم، واعتدوه من الجموع الشاذة.
ولو تأملته وبحثت حاله لجزمت أنه ليس اسم المفعول المشتق من فعله، الدال على الحدث. وإنما هو صفة غالبة لصاحب الشؤوم. وقد اشتهر استعماله منقطعاً عن موصوفه مفرداً عنه. ففي شرح الخفاجي على درة الغواص للحريري:(وقوله وشأم أصحاب إذا مسهم شؤوم من قبله، هذا يقتضي أن – مشؤوماً – قد يكون مفعولاً بمعنى فاعل. لأنه يقال: شأمهم وشأم عليهم إذا لحقهم الشؤم من قبله) . وأردف قائلاً: (وقد قال الشريف المرتضى في الدرر والغرر أنه مطعون فيه، فإن العرب لا تعرفه، وإنما هو كلام الأمصار. وإنما تسمي العرب من حفَّه الشؤم مشؤوماً كما في قول علقمة:
ومن تعرض للغربان يزجرها
- على سلامته، لا بد مشؤوم
فقد رأيت أن الإمام المرتضى لم يرتض أن يكون (مشؤوم) قد جرى على الفعل (شآمه أو شأم عليه) ، مفعولاً بمعنى فاعل، وإنما نزع إلى أن العرب قد أسمت الحفوف بالشؤم مشؤوماً. وهذا يعني أنه ليس وصفاً على الأصل، وإنما أنزل منزلة الاسم فصح الاستغناء به عن موصوفه وكسر تكسير الأسماء.
منكود ومرجوح:
ومثل مشؤوم منكود. فالمنكود ذو النكد، وليس هو من (نكد) لأن نكد معناه قل. قال صاحب الأساس (وعطاء منكود ومنكد: قليل غير مهنأ) . وقال ابن القوطية في أفعاله: (ونكد العطاء نكداً: قلله. ونكد بالكسر نكداً: لم يعدم شرأ، وأنكدته: صادفته نكداً، وأنكدت عطاءه: صادفته قليلاً) . فالمنكود هو النكد بكسر الكاف أو الأنكد، وليس هو على شيء من الحدث. قال الجوهري:(ورجل نكد أي عسر، وقوم أنكاد ومناكيد) . وقال الزمخشري: (هو نكد وأنكد) وقال الجوهري (الأنكد: المشؤوم) . وقال بشر بن أبي:
إن الرباط النُكد من آل داحس كبَون فما يفلحن يوم رهان
قال المرزوقي (451) : (النكد جمع أنكد. والرباط مصدر رابطت، ولذلك وقع على الواحد والجمع) . وقال في تفسير البيت: (إن الخيل المربوطة المشائيم من آل داحس، وداحساً، أبت السبق في حلبة وميدان) .
وكذلك (مرجوح)، قال الزمخشري:(ورجل راجح العقل، وفلان في عقله رجاحة.. وقوم مراجيح الحلم) . فالمرجوح إذاً هو راجح العقل، أو ذو الرجاحة، وليس مشتقاً من (رجحت الشيء وزنته بيدي ونظرت ما ثقله) على ما جاء في الأساس.
مشهور ومشاهير:
وقد اختلف في مشهور هل يجمع على مشاهير.. فذهب كثيرون إلى منعه، إذ ليس هو عندهم على قياس أو سماع. ومنهم الإمام الشنقيطي والأستاذ سليم الجندي. وذهب جماعة إلى أنه قياس مطلق كما ذكرنا، ومنهم الأب أنستاس ماري الكرملي والدكتور مصطفى جواد والأستاذ عباس حسن والأستاذ محمد العدناني. وقد أقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة هذا الرأي، وبسطنا القول في رده. والذي عندي أن المشهور يجمع على المشاهير لسببين:
الأول: جريان أقلام الثقات به أو حكايتهم لاستعماله، كأبي زيد البلخي، والأزهري والزمخشري والمرزوقي، والفيومي، والفيروز أبادي، والزبيدي وغيرهم، وهذا يعدل السماع.
ولا وجه لمن زعم خلاف هذا. قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (دراسات في فلسفة اللغة) . وسترى أن الفصحاء قد قالوه وأقروه ولم ينكروه.
الثاني: إن (المشهور) قد أخرج عن الأصل الذي التزموه في منع تكسير اسم المفعول، ذلك أنه شاع استعماله منفرداً عن موصوفه منقطعاً عنه غالباً، فشابه الأسماء وكسر تكسيرها.
أما أن أقلام الفصحاء قد جرت به، فذلك قول أبي زيد البلخي، على ما حكاه الفيروز أبادي، في ديباجة القاموس. قال الفيروز أبادي في ديباجة القاموس. قال صاحب القاموس:(على أني ذاهب إلى ما قاله أبو زيد أحمد بن سهل البلخي: إذا جاوزت المشاهير من الأفعال التي يأتي ماضيها على فعل..) . قال الزبيدي في تعليقه على هذا: (المشاهير جمع مشهور، وهو المعروف المتداول) . فأنت ترى أنه أقر الجمع وشرح معناه، وهو الذي اعتاد أن يستدرك على المؤلف بزيادة أو تنقيح كلما دعت الحاجة. ويجري هذا المجرى قول الراغب في محاضرات الأدباء (2/157) :(مشاهير السيوف) . وفي طريقته قول الأزهري صاحب التهذيب على ما حكاه ابن منظور في اللسان (قال الأزهري: وهذا تصحيف كتصحيف يوم بعث. وهو من مشاهير أيام العرب، فأخرجه في الغبن وصحفه) . وهذا قول الزمخشري في كشافه (2/94) حول تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض، مَثَلَ نوره كمشكاة فيها مصباحٌ، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دريّ ((النور/ 35)، قال الزمخشري:(شبهه في زهرته بأحد الدراري من الكواكب، وهي المشاهير، كالمشتري والزهرة والمريخ وسهيل ونحوها) . وانظر إلى ما جاء في المصباح (ونجس خلاف طهر، ومشاهير الكتب ساكنة عن ذلك) .
والذي يتبين مما ذكر أنه (المشاهير) قد جرى على ألسنة الفصحاء، ولكن لغير الآدميين. وقد اعتمد الأستاذ محمد العدناني مثل هذه النقول في إثبات جمع مشهور على مشاهير للآدميين، فهل نقل هذا أيضاً؟. الصحيح أن الفصحاء قد قالوا المشاهير وصفاً للعقلاء: قال المرزوقي في شرحه الحماسة (1/771) : (وإنما يصفهم بأنهم مشاهير بحسن البلاء، ومتميزون عن الفرسان إذا حضروا الوقعات بعلاماتهم ومعارضهم التي عرفوا بها وفيها.. كأنهم النجوم في المناظر والقلوب) . وقال ابن سيده في المخصص: (وعوران العرب: مشاهير عورهم كالشماخ بن ضرار وغيره – 1/103) .
وأما عن مضارعة (المشهور) للأسماء وتكسيره تكسيرها، فذلك أن الأصل أن تقول:(شهرت الأمر والشيء شهراً: أظهرته ومنه الشهر لاشتهاره) كما قاله ابن القوطية، أو تقول (شهرته بين الناس أبرزته، وشهرت الحديث شهراً وشهرة أفشيته فاشتهر) كما قال صاحب المصباح وتقول من هذا (ورجل مشهور وشهير وأمر مشهور ومشتهر كما قال ابن سيده في مخصصه (13/56) . علماً أن صاحب التاج زاد على هذا فقال: (والشهير والمشهور. المعروف المكان، المذكور)، كما قال:(والمشاهير جمع مشهور، وهو المعروف المتداول) . فلو جاء (المشهور أو المشاهير) هاهنا، صفة خارجة على الأصل، لما احتاج الزبيدي إلى تفسيره أو توجيهه. لكنه ذهب إلى أن اسم المفعول هذا، قد خرج عما يدل عليه من حدث لاستغنائه عن الموصوف غالباً، فغدا وصفاً لا يراد به الفعل.
فـ (المشهور) على هذا الحد، قد أنزل منزلة الأسماء فأشبه (السابق) في قول المرزوقي (1/103) :(ويجوز أن يكون أخرج السابق لانقطاعه عن الموصوف في أكثر الأحوال، ولنيابته عن المجلي، وهو اسم الأول منها، إلى باب الأسماء فجمعه على السوابق) .
هذا، ولا يمنع جمعك (مشهور) على مشاهير أن تجمعه جمع تصحيح على الأصل. ومن ذلك قول الشريف المرتضى في أماليه (1/19) :(ومن كان من مشهوري الشعراء ومتقدميهم، على مذاهب أهل العدل: ذو الرمة) .
مشكلة ومشاكل:
في جمع ما كان صفة للأشياء، على صيغة اسم الفاعل أو المفعول الرباعي، خلاف بين المحدثين. أيطرد فيها جمع التصحيح بالألف والتاء كما هو القياس، أم يصح فيها التكسير حيناً. فـ (المشكلة) اسم فاعل من (أشكل) . والإشكال هو الالتباس والاشتباه والاختلاط. قال الجوهري (وأشكل الأمر أي التبس) . وقال ابن القوطية في أفعاله (وشكل الأمر شكولاً، وأشكل اشتبه) . وفي النهاية (فخرج النبيذ مشكلاً أي مختلطاً بالدم غير صريح، وكل مختلط مشكل) .
فلو قيل هذه مسائل أشكلت لقيل في وصف المسائل: إنها مسائل مشكلة أو مشكلات وليس في جميع (مشكلة) هاهنا إلا التصحيح بالألف والتاء، ولا خلاف في ذلك. لكن كلمة (المشكلة) لم تبق في استعمالها، على الأصل الذي كان لها، إذ غدت تعني (المسألة التي التبس أمرها) واصبح لا يعالج شأنها إلا بمدارسة وتأمل، وتروئة وتدبر. وبذلك أنزل منزلة الأسماء، ولو كان أصلها الوصف، وقد أفردت عن موصوفها واستغنت عنه، شأن الصفات الغالبة، وأصبحت توصف كما توصف الأسماء كقولك (هذه مشكلة معقدة) . فإذا كان الباب في جمعها أصلاً هو التصحيح، فهل يصح تكسيرها تشبيهاً لها بالأسماء فيقال (هذه مشاكل معقدة) .
أقول قد استعمل علماء الأصول (الشكل) وجمعوه جمع تصحيح. قال ابن ملك في الأصول (وأما المشكل فهو الداخل في أشكاله) . قال صاحب المنار (أي الكلام الذي دخل المراد منه في أشكاله، بفتح الهمزة.. وحذف المصنف الكلام هنا.. اختصاراً لدلالة القرينة عليه) . فدل هذا على أن (المشكل) هنا وصف للكلام الذي حذف لدلالة القرينة عليه. ومن ثم كان وصفاً جارياً على أصله، لا صفة غالبة استغني بها عن موصوفها، فكان جمعه جمع تصحيح. أما (المشكلة) كما عرفت وشاع استعمالها فهي صفة غالبة غلبة الأسماء باستغنائها عن موصوفها؛ وكأن أصل الكلام (قضية مشكلة) أو (مسألة مشكلة) فحذف الموصوف ونابت الصفة منابه، فليس هو على نية التقدير. وهكذا تقول (في الأمر مشكلة لا بد من علاجها) كما تقول (في الأمر عقدة لا بد من حلها) . وهي إذ أنزلت منزلة الأسماء صح فيها التكسير إلى جانب التصحيح الذي هو بابها في الأصل، فأنت تقول في جمعها مشاكل ومشكلات. وقد جاء في خزانة الأدب للبغدادي (1/365) قول أبي طالب عم الرسول (في مقاطعة قريش لبني عبد المطلب لأنهم لم يسلموا الرسول إليهم ليقتلوه:
لعمري لقد كُلِّفت وجداً بأحمد
- وإخوته دأب المحب المواصل
فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها
- وزيناً لمن ولاه ذب المشاكل
كلفت بتشديد اللام مبالغة كلف به بمعنى أولع، ومعنى شطر البيت الثاني أنه لا زال زيناً لمن وكل إليه دفع المشاكل.
المخزية والمخازي:
ومما هو في طريقة المشاكل: المخازي. قال صاحب الأساس (خزي خزياً ومخزاة، وأخزاه الله، وهو من أهل المخازي والمخزيات) . وقال المرزوقي في شرح الحماسة (243) : (وإن النخوة التي أبلغتها، والحمية التي حدثتها، باقية في أنوفنا حتى لا نشتم بها مرغمة، وفي أعناقنا ورؤوسنا حتى لا نلويها إلى مخزية ومنقصة) . فقد رأيت أن (المخزية) جاءت في كلامه مجيء الأسماء لا الصفات، كالمنقصة سواء. ولا شك أن المخازي جمع المخزاة بفتح الميم، على القياس. فقد جاء في نهج البلاغة (2/73) :(وكثرة مخازيها ومساويها) فقال الشارح (المخازي جمع مخزاة، وهو الأمر الذي يستحى من ذكره لقبحه، والمساوي العيوب جمع مساءة) . ولكن المخازي جمع المخزية بضم الميم أيضاً.
والمخزية في الأصل اسم فاعل من أخزى، وقد استعمل اسماً لكل ما يخزي، فجمعت تكسيراً على (المخازي) . فانظر إلى قول صاحب المصباح (والمخزية على صيغة اسم الفاعل من أخزى: الخصلة القبيحة والجمع المخزيات والمخازي) .. وقد جاء في معنى المخزية: (الخزية) بفتح الخاء وكسرها. فقد جاء في النهاية (فأصابتنا خزية لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، أي خصلة استحيينا منها) . قال صاحب الأساس (وأصابتنا خزية بفتح الخاء وكسرها: خصلة يستحيا منها) .
المسن والمسان:
وقد ذكروا (المسان) جاؤوا به جمعاً للمسن والمسنة، من الآدميين وغيرهم. وهو من أسن إذا كبر. وقد اشتهر استعماله منقطعاً عن موصوفه فكسر تكسير الأسماء. قال صاحب المصباح:(أسن الإنسان وغيره أسناناً إذا كبر فهو مسن والأنثى مسنة، والجمع المسان) . وفي الكامل للمبرد (2/99) : (وفي الحديث اقتلوا مسان المشركين واستبقوا شرخهم، أي الشباب، لأن الشرخ الحد) . وقال الجوهري (والمسان من الإبل خلاف الإفناء) . وفي النهاية: (قال الأزهري: البقرة والشاة، يقع عليهما اسم المسن إذا أثنيا، ويثنيان في السنة الثالثة. وليس معنى أسنانها كبرها كالرجل المسن، ولكن طلوع سنها في السن الثالثة) .
المصيبة والمصائب:
هذا وقد جمعوا (المصيبة) على (مصيبات) تصحيحاً. لكنهم جمعوها تكسيراً على (مصاوب ومصاويب ومصائب) . وقد بسطوا القول في شذوذ همزة (المصائب) وفصلوه تفصيلاً، لكن أحداً لم يأب تكسيرها أو يستبدع العدول عن تصحيحها. ذلك أنه قد جيء بها من (الوصفية) إلى (الاسمية) فعوملت معاملة الأسماء. أما جمعها على التصحيح ففي الحديث (اللهم أقسم لنا من اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا) . وفي نهج البلاغة (3/157) :(ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات) . وأما جمعها على التكسير، ففي المصباح (والمصيبة الشدة النازلة وجمعها المشهور مصائب، قالوا: والأصل مصاوب. وقال الأصمعي قد جمعت على لفظها بالألف والتاء فقيل مصيبات) .
وقال ابن جني في الخصائص (3/144) ، (ومنه قولهم مصائب، وهذا مما لا ينبغي همزه في وجه من القياس. ذلك أن مصيبة مفعلة وأصلها مصوبة، فعينها كما ترى متحركة في الأصل، فإذا احتيج إلى حركتها في الجمع حملت الحركة، وقياسه مصاوب) . وقال ابن سيده في المخصص (14/20) : (يقال أصابتهم مصيبة ومصاوب ومصايب، فهو على الأصل. وحكى سيبويه أن بعضهم قال في جمع مصيبة مصائب فهمز، وهذا غلط. وإنما هو مفعلة وتوهموها فعيلة. قال ومنهم من يقول مصاوب فجيء به على الأصل والقياس) .
فأنت ترى أن النحاة لم يذكروا وجه العدول بجمع (المصيبة) عن باب الصفات، وهو التصحيح، إلى باب الأسماء، وهو التكسير، لظهوره وجلاء حاله، بل انصرف همهم إلى توجيه مجيء الهمزة. في (مصائب) وانصب على تأويل حلولها محل (الواو) . وعندي أنه يصح في (المصيبة) ما قاله المرزوقي في (الكريهة) . قال المرزوقي (151) :(وقوله في الكريهة للحوق الهاء بها ألحق بباب الأسماء، ويستعمل في نوازل الدهر وشدائد الأمر) . فلحوق (المصيبة) بباب الأسماء قد أتاح جمعها جمع تكسير، كما رأيت. ونحو من ذلك ما قيل في (فروق حقي/ 46) عن الخليقة والحقيقة:(واعلم أن التاء في مثل الخليقة والحقيقة.. على وجهين: إما للنقل من الوصفية إلى الاسمية، وإما للتأنيث بتقدير موصوف مؤنث. ومعنى كون التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية أن اللفظ إذا كان في الأصل وصفاً ثم غلب عليه الاستعمال حتى صار بنفسه اسماً، كان اسميته فرعاً لوصفيته فيشبه المؤنث، لأن المؤنث فرع المذكر فجعل التاء علامة للفرعية..) . وهكذا آلت (المصيبة) من الوصفية إلى الاسمية، شأنها شأن الصفات الغالبة، فصح في جمعها التكسير، كما صح التصحيح. إذ كانت اسميتها فرعاً لوصفيتها، وما لبثت تنم بدلالتها على هذا الأصل.
المدينة والمداين:
ومما جرى مجرى الأسماء معدولاً بـ عن الوصف (المدينة) . فقد جمعوه على (مداين) بالياء، وقالوا في تخريج هذا أن (المدينة) اسم مفعول من قولك (دينت) فهي (مدينة) ، أي ملكت فهي مملوكة.
قال أبو الطيب في الإبدال (2/316) : (وقال آخرون إنما وزنها: مفعولة من قولك دينت أي ملكت، فالمدينة المملوكة، وكل مدينة مملوكة) . فهم قد جمعوا (المدينة) على (مداين) جمع تكسير، كما جمعوا (مصيبة) على (مصاوب) ، وكل منهما معدول به عن الوصف. ولكن لم استكرهوا التصحيح في جمع (مدينة) واستحبوه في جمع (مصيبة) . أقول إن (المدينة) قد نأت بدلالتها المعروفة عن الأصل الذي كان لها في معنى الصفة، على حين ظلت (المصيبة) تنم بدلالتها على هذا الأصل.
المُهمَّة والمهام:
وقد جرى مجرى الأسماء وهو وصف، (المُهمّ) و (المُهمَّة) . وقد استعملا بمعنى الأمر الشديد المحزن، أو الأمر الشاغل العاني إذا وجب إنفاذه، وجمعاً تصحيحاً على (المهمات) . قال تأبط شراً:
قليل التشكي للمهم يصيبه
- كثير الهوى شتى النوى والمسالك
قال أبو علي المرزوقي في شرح الحماسة (94) : (المهم يجوز أن يكون من الهم الذي هو الحزن، ويجوز أن يكون من الهم الذي هو القصد. يقول: هو صبور على النوائب والعلات، لا يكاد يتألم مما يعروه من المهمات) . وقال (576)(كأنها كانت تكرر الرجاء وتجدده مع كل حادثة، وعند كل مهمة) . وقال (وكثير من الناس يظن بنا تباطؤاً في المهمات وتثاقلاً..) . وقال: (984) : (ودوام صبره على جميع ما يكلفه من المهمات الشاقة) . وقوله (والمعتد بفتح العين وكسرها الفرس المعد للمهمات من الطلب والهرب وغيرهما) .
وجاء في نهج البلاغة (1/55) : (مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على أرائهم) .
وجاء في أساس البلاغة للزمخشري: وفلان حلال للعقد كاف للمهمات) . وفيه (ونزل به مهم ومهمات) .
وفي محاضرات الأدباء للراغب (4/514) : (واغتم الحجاج بموت صديق له وعنده شامي أوفده إليه عبد الملك في مهم.. فقال الحجاج: حسبك فمصيبتي بأمير المؤمنين حيث أرسل مثلك بمهم آنستني هذه) .
وجاء في المخصص لابن سيده (12/40) : (المهمات: الشدائد) .
وجاء في كتاب أخلاق الوزيرين (127) لأبي حيان التوحيدي: (وكنت بالري.. وابن عباد مع مؤيد الدولة قد وردا في مهمات وحوائج) .
وفي المصباح المنير (في مادة قوم) : (سموا بذلك لقيامهم بالعظائم والمهمات) .
وفي الأشباه والنظائر (4/226) للسيوطي: (مهمة من مهمات شخناً الكافيجي) .
وفي الكليات لأبي البقاء (343) : (والأمثل للتفضيل، وسمي أفاضل الناس أماثل لقيامهم في كل المهمات) .
فتبين بما ذكر من النقول أن (المُهمّ) أو (المُهمَّة) وصف جاء على صيغة اسم الفاعل، لكنه استعمل منقطعاً عن موصوفه، جارياً مجرى الأسماء، وأن جمعه قد جاء على (المهمات) إذ لا تزال به معنى الصفة، فهل يصح أن تجمع تكسيراً على (مهام) .
أقول قد جرت بهذا أقلام الكتاب وطاعت به ألسنتهم وسلائقهم، وعندي أنه لا بأس به، ما دام قد ثبت اشتهار استعمال الأسماء، كما رأيت، صفة غالبة.
مَهمَّة بفتح الأول:
هذا وقد شاع حديثاً استعمال (المهمة) بفتح الأول، لما يشغلك من الأمر ويعنيك أو يعنوك. والمهمة بفتح الأول وتشديد الميم الثانية من مصادر (هم) . ولهذا الفعل من المعاني النفسية ما يتعلق بالحزن والقلق حيناً، وبالطلب والقصد والإرادة حيناً آخر. على أن معجم الصحاح قد قصر مصدر (المهمة) على (هم به) بمعنى أراد. فقد جاء فيه (وهممت بالشيء أهم هماً إذا أردته، يقال لا مهمة لي بالفتح ولا همام أي لا أهم بذلك ولا أفعله) . ولا همام بفتح أوله وبناء آخره على الكسر أي لا أهم ولا أريد، كما في الأساس.
فإذا صح هذا، والإرادة تعني هنا القصد والطلب، كان معنى قولك (ذهب فلان في مهمة بالفتح) إنه مضى في قصد أو مطلب. أما إذا كان (المهمة) كالهم عامة، فقولك (جعلت مهمتي أن أتعرف أحوال العدو وأتعقب خطواته) يعني أنك جعلت ذلك همك وشغلك. ففي اللسان (همه يهمه هماً ومهمة بالفتح حزنه وأقلقه) وفيه (هم بنفسه وعياله طلب واحتال.. وهمّ هماً بالشيء نواه وعزم عليه ولم يفعله) .
أما المهم والمهمة بضم الأول فهما اسم فاعل من (أهم) وقد استعملا بمعنيين: الأول الأمر الشديد، كقولك (تداعى القوم لمهمة أو مهمة) أي تنادوا لأمر شديد نزل بهم.
والمعنى الثاني: الأمر تضطلع به فيشغلك ويعنيك. فتبين بذلك أن (المهم أو المهمة) بضم الأول يعني ما يريده الكتاب اليوم حين يقصدون به الأمر الذي يفوض إليك فتتولاه وتحمل مؤونته وتبعته، وهو أولى بالاستعمال في هذا المقام، وأولى بالمعنى المراد.
المطيحة والمطارح:
ومن هذا القبيل ما قيل في (الطوائح) جمع (طائحة) في قول الشاعر:
لبيك يزيد ضارع لخصومة
ومختبط مما تطيح الطوائح
فقد اشتهر استعمال (الطوائح) صفة غالبة منقطعة عن موصوفها، والأصل أن تقول (الحادثات الطوائح) . واختلف في تخريجه، فمنهم من قال بصحة الجمع، فالطوائح جمع طائحة من طاح. ومنهم من قال أن الفعل هاهنا رباعي فهو (أطاح) من قولك أطاحه إذا أهلكه وأذهبه، وقياسه أن تقول (مطيحة) وأن تجمع على (المطيحات) تصحيحاً، و (المطاوح) تكسيراً. قال البغدادي في الخزانة (1/307) :(يقال أطاحته الطوائح وطوحته، فقياس الجمع أن يكون المطيحات والمطاوح، فإن تكسير مُفعِل مفاعل بحذف إحدى العينين وإبقاء الميم، وتخريج الجمع على حذف الزوائد هو لأبي علي الفارسي، وتخريجه على النسب هو لأبي عمرو الشيباني، فإن تقديره عنده مما تطيحه الحادثات ذوات الطوائح. وقال الشنتمري في شرحه لشواهد الكتاب (وكان ينبغي أن يقول المطاوح لأنه جمع مطيحة، فجمعه على حذف الزيادة، كما قال عز وجل: (أرسلنا الرياح لواقح)، واحدتها مُلقِحة. وقال المرزوقي في شرح الحماسة (1558) :(وكذلك الطوائح قياسه أن يكون إذا عدل عن الجمع بالتاء: مطاوح) .
وباب الأمر في كل ما ذكرناه، ما الذي ساغ جمع (المطيحة) على (مطاوح) تكسيراً والأصل فيه التصحيح بالألف والتاء. وما الذي أباح أن يعدل به عن هذا الأصل؟ أقول الذي صوب هذا هو استعمال (المطاوح) وصفاً، مفرداً عن موصوفه، وإجراؤه مجرى الأسماء، قال الزمخشري في أساس البلاغة (وأطاحته المطاوح، قال.. ومختبط مما تطيح الطوائح أي المطيحات والمطاوح) . فأنت ترى أنه قد أتى به كما اشتهر، صفة منقطعة من موصوفها، جارية مجرى الأسماء، كذلك جاءت الطوائح، كما بينا. أما الذي أجاز بقاء (المطيحة) على بابه في جمعه على (المطيحات) أنه قد استمر ينم على معنى الصفة التي بني عليها، فصح فيه جمع الصفات.
مُعقِّب ومُعقِّبة، ومعاقب ومعاقيب:
ومما جاء من الوصف على (مُفصِّل) اسم فاعل من (فعَّل) بتشديد العين، مضارعاً للأسماء (معقب ومعقبة) فقد قالوا في الجمع (معاقب ومعاقيب) كما قالوا (معقبات) .
فقد جاء في التنزيل (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ((الرعد/11) . فـ (معقبات) جمع معقب أو معقبة. وقد جاء هذا الوصف مستغنياً عن موصوفه، وأريد به الملائكة. قال الجوهري (والمعقبات ملائكة الليل والنهار، لأنهم يتعاقبون. وإنما أتت لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة) . وقال الزمخشري في الأساس (له معقبات: هم ملائكة الليل والنهار يتعاقبون) . وقال الراغب في مفرداته (له معقبات من بين يديه ومن خلفه: أي ملائكة يتعاقبون عليه، حافظين له) . وقال الإمام البيضاوي: (معقبات ملائكة تعتقب في حفظه جمع معقبة، من عقبة بالتشديد مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه، كان بعضهم يعقب بعضاً، أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها.. أو لأن المراد بالمعقبات جماعات..) .
وقد قرأ عبيد الله بن زياد (له المعاقب) كما جاء في البحر المحيط لأبي حيان، و (له معاقيب) كما جاء في المحتسب لابن جني. ومعاقب ومعاقيب جمع مُعقِّب أو مُعقِّبة. قال ابن جني في المحتسب (1/355) :(ومن ذلك قراءة عبيد الله بن زياد: له معاقيب من بين يديه) . قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا تكسير معقب أو معقبة، إلا أنه لما حذف إحدى القافين عوض منها الياء فقال: معاقيب، كما تقول في تكسير مقدم مقاديم، ويجوز ألا تعوض، فتقول: معاقب كمقادم) . فما الذي أتاح جمع (معقب) أو (معقبة) جمع تكسير، وهو وصف على صيغة اسم الفاعل. أقول قد استعمل (المعقب) صفة غالبة مفردة عن موصوفها، كما رأيت، وقد سمي بها كل ما جاء عقيب ما قبله.
ففي النهاية (والمعقب من كل شيء ما كان عقيب ما قبله) . وجاء (المعقبة) أيضاً اسماً للتسبيحة والتحميدة والتكبيرة، تقال عقب الصلاة. قال ابن الأثير:(معقبات لا يخيب قائلهن، ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وأربعون تكبيرة، سميت معقبات لأنها عادت مرة بعد مرة، أو لأنها تقال عقيب الصلاة) .
المعجم والمعاجم:
لا بد في الحكم بجواز جمع المعجم على المعاجم أو المعجمات من تعرف قولك (المعجم) ما أصله؟. وقد ذهب الأئمة إلى أن الأصل في قولك (المعجم) هو (حروف المعجم)، وإنما صح إضافة الحروف إلى المعجم بتأويلين:
الأول أن تقدير (حروف المعجم) هو (حروف الخط المعجم) . قال أبو محمد الخفاجي في كتابه (سر الفصاحة/17) : (بل يجوز أن يكون التقدير: حروف الخط المعجم لأن الخط العربي فيه أشكال متفقة لحروف مختلفة، عجم بعضها دون بعض ليزول اللبس. وقد يتفق في غيرها من الخطوط أن تختلف أشكال الحروف فلا يحتاج إلى النقط.
فوصف الخط العربي بأنه – معجم – لهذه العلة. وقيل – حروف المعجم – أي: حروف الخط المعجم، كما يقال حروف العربي، أي حروف الخط العربي) . وقال (فإذا قيل أعجمت الكتاب فمعناه أزلت إبهامه، كما يقال: أشكيته إذا أزلت ما يشكوه) . فإذا صح هذا فأي جمع يجمع عليه (المعجم) بهذا التأويل؟ أقول المعجم صفة حذف موصوفها وهو (الخط) ، فإذا كان الموصوف قد حذف وهو على نية التقدير كانت الصفة على أصلها، وجمعها جمع الصفات بالتصحيح على (المعجمات) . وإذا كان الموصوف قد حذف استغناء عنه فنابت الصفة منابه وأفردت عنه، كما هو الحال في قولك (المعجم) هاهنا، صح في جمعه التكسير كما تجمع الأسماء، كما صح في جمعه التصحيح اعتداداً بالأصل، ما دام به معنى الصفة في الأصل. وكلما نأى الوصف بمعناه عن الأصل، قوي فيه التكسير. ذلك إن دلالة (المعجم) في كلام أبي محمد الخفاجي هو (الخط العربي) لأن الأصل هو (حروف الخط المعجم) . فإذا دل (المعجم) اليوم على غير هذا فقد نأى عن الأصل، فقوي فيه التكسير.
وقد جاء في بيت للقطامي:
ونادينا الرسوم وهن صم
- ومنطقها المعاجم والسطار
وجاء في شرح البيت (المعاجم كتب معجمة إجابتها إبانا أن أرتنا علاماتها كأنها سطار كتب، أي منطقها السطار والآثار، وكل ذلك لا يجيب) . فأنت ترى أن القطامي قد جمع (المعجمة) على (معاجم) استغناء بالصفة عن الموصوف تشبيهاً له بالأسماء، وهو لا يزال على معناه الأول في الصفة. فإن كان (المعجم) قد تجاوز هذا في دلالته فاختص بمعنى انزوى به عن الأصل وتنحى وانفرد، فهو بالتكسير أولى وأليق. فدلالة (المعجم) لم تبن على معنى قولك (كتاب الخط المعجم) أو (الكتاب المعجم) أي الذي أعجمت حروفه فأزيل عنها اللبس، وإلا لكان كل كتاب معجماً. وإنما أريد بـ (المعجم) السفر الذي ضم المفردات مقرونة بشرحها وتفسير معانيها مرتبة ترتيب حروف الهجاء، أي ترتيب حروف الخط المعجم. هذا ولا يشترط في (المعجم) بأن يخص بمفردات اللغة، ولو كان الأكثر فيه كذلك. فأول كتاب أطلق عليه اسم (المعجم) هو (معجم الصحابة) لأبي يعلي أحمد بن علي بن المثنى بن يحيى بن عيسى بن هلال التميمي الموصلي محدث الجزيرة (210-207هـ) وعقبة أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي المحدث المعروف بابن بنت منيع (214-315) . وقد ألَّف هذا معجميه بأسماء الصحابة: المعجم الكبير والمعجم الصغير. ثم استعمل لفظ (المعجم) عند من ألفوا في الحديث، ثم عند من صنفوا في اللغة. وقيل قد جاء لفظ (المعجم) فيما رواه أبو ذر، رضي الله عنه، عن الرسول (، كما ذكره صاحب كشف الظنون في مقدمته (25) . وجاء في النهاية (وفي حديث عطاء: وسئل عن رجل لهز رجلاً فقطع بعض لسانه فعجم كلامه، فقال: يعرض كلامه على المعجم، فما نقص كلامه منها قسمت عليه الدية) . قال ابن الأثير: (المعجم حروف: أب ت ث، سميت بذلك من التعجيم، وهو إزالة العجمة بالنقط) .
والثاني من التأويلين أن تقدير (حروف المعجم) هو (حروف الإعجام) . أي أن المعجم هنا مصدر ميمي. تقول أعجمته معجماً أي إعجاماً، كما تقول أكرمته مكرماً أي إكراماً، أو أدخلته مدخلاً أي إدخالاً. قال ابن جني في سر صناعة الإعراب (1/38) :(إن سأل سائل فقال ما معنى حروف المعجم، هل المعجم صفة لحروف هذه.. والصواب في ذلك عندنا ما ذهب إليه أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، رحمه الله تعالى، من أن المعجم مصدر بمعنى الإعجام، كما تقول أدخلته مدخلاً، وأخرجته مخرجاً، أي إدخالاً وإخراجاً. وحكى أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش أن بعضهم قرأ: ومن يهن الله فما له من مُكرَم، بفتح الراء، أي إكرام. فكأنهم قالوا: هذه حروف الإعجام. فهذا أسدّ واصوب من أن يذهب إلى أن قولهم حروف المعجم بمنزلة قولهم: صلاة الأولى ومسجد الجامع. لأن معنى ذلك صلاة الساعة الأولى أو الفريضة الأولى، ومسجد اليوم الجامع، فالأولى غير الصلاة في المعنى، والجامع غير المسجد في المعنى أيضاً. وإنما هما صفتان حذف موصوفاهما وأقيما مقامهما، وليس كذلك حروف المعجم. لأنه ليس معناه حروف الكلام المعجم، ولا حروف اللفظ المعجم، وإنما المعنى أن الحروف هي المعجمة. فصار قولنا حروف المعجم من باب إضافة المفعول إلى المصدر، كقولهم هذه مطية ركوب، أي من شأنها أن تركب، وهذا سهم نضال، أي من شأنه أن يناضل به، وكذا حروف المعجم، أي من شأنها أن تعجم..) .
هذا وقد رد أبو محمد الخفاجي في سر الفصاحة على ابن جني فقال: (وليس يبعد عندي ما أنكره أبو الفتح، بل يجوز أن يكون التقدير: حروف الخط المعجم..) كما أسلفنا. لكنه إذا صح أن القصد بـ (المعجم) هو الإعجام، فقياس المصدر الميمي إذا سمي به أن يكسر فيقال في جمعه (المعاجم) ولا قياس له سواه. ذلك أن علماء اللغة قد استثنوا من التكسير كل صفة جاءت على الفعل نحو (مفعل ومفعل) اسم فاعل أو اسم مفعول من (أفعل)، كما أورده الرضي في شرح الشافية حين قال:(إن كل ما جرى على الفعل من اسمي الفاعل والمفعول، وأوله ميم، فبابه التصحيح لمشابهته الفعل لفظاً ومعنى) ، وما دام المعجم قد اعتد في هذا التأويل مصدراً لا صفة فجمعه على الأصل في تكسير الاسم الرباعي من أمثاله على (مفاعل) .
وقال ابن جني في سر صناعة الإعراب (1/44) : (فإن قيل أن جميع هذه الحروف ليس معجماً، إنما المعجم بعضها، ألا ترى أن الألف والحاء والداء ونحوها ليس معجماً، فكيف استجازوا تسمية جميع هذه الحروف –حروف المعجم – قيل إنما سميت بذلك لأن الشكل الواحد إذا اختلفت أصواته فأعجمت بعضها وتركت بعضها، فقد علم أن هذا المتروك بغير إعجام، هو غير ذلك الذي من عادته أن يعجم. فقد ارتفع إذن بما فعلوه، الإشكال والاستبهام عنها جميعاً.. وهذا كله رأي أبي علي وعنه أخذته) .
حجة من جمع معجم على معاجم:
جمع الأب أنستاس ماري الكرملي (معجماً) على معاجم، فقال في كتابه (أغلاط اللغوين الأقدمين/119) :(أما معجم فهو وزن مصحف ومخدع، وما كان على هذا الميزان، يكسر على مفاعل: معاجم، كما يقال مصاحف ومخادع. هذا من جهة القياس، واللغويون لا يدونون في معاجمهم المقيسات. وأما من جهة السماع فإن المعاجم لم تكن معروفة في الجاهلية حتى نسمع من أبنائها هذه الكلمة. إنما المعاجم وضعها المولدون ونطقوا بها مكسرة على هذا الوجه إذا أرادوا الكثرة. أما إذا أرادوا القلة فإنهم يقولون: المعجمات. وقد يقال في هذا الجمع المعاجيم أيضاً من باب القياس..) وأردف (أما أنه ورد معاجم فهو مما لا يختلف فيه اثنان. قال السيد الزبيدي في كلامه على –أثال- هو تمامة بن أثال بن النعمان من بني حنيفة، كما هو في المعاجم – أهـ. وكذلك ورد المعاجم فقد قال المذكور في –زرير- كزبير: ولعله في معجم آخر من معاجيمه) . أقول في التعقيب على كلام الأب، أما أن (مُفعَل) يطرد على (مفاعل) فغير صحيح، ذلك أن صيغة الجمع تحد بوزن المفرد من جهة، كما تحد بأصل بنيته اسماً أو وصفاً أو صفة غالبة. وأما أن الزبيدي صاحب التاج قد جمع معجماً على معاجم فليس في ذلك ما يلزم الأخذ به، ولو كان فيه ما يبعث على بحثه وتدبره واستبانة وجهه.
حجة من أنكر المعاجم جمعاً وأقر المعاجيم:
قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم/ 160) : (أراد بالمعاجيم جمع المعجم أي المعجمات والمعاجيم. مع أن المعاجم جمع المعجم بفتح أوله على وزن المذهب، وهو موضع العجم، أي العض للاختبار: اختبار الصلابة أو الرخاوة، على حسب الشيء المعجم. ودخلت الكلمة ميدان المجاز. قال العلامة الزمخشري في أساس البلاغة: وفلان صلب المعجم لمن إذا عجمته الأمور وجدته متيناً: وقال في – ص د ق- من الأساس: وفلان صدق وصدق المعاجم أ. هـ. فالمعاجم جمع المعجم بالمعنى المذكور. أما المعجم بضم الميم فالقاعدة في جمعه زيادة الألف والتاء فيكون: المعجمات) وأردف (ويجوز عندي جمعه جمع تكسير بشرط أن تطبق عليه قاعدة الأسماء المضمومة الميم كالمُفطرِ والموسر والمُنكَر والمطفل.. فيكون المعاجيم كالمفاطير والمياسير والمطافيل.. ويجوز حذف يائه لوزن الشعر حسب، أو لخوف الالتباس) .
أقول في الجواب عن ذلك أن جمع المعجم على المعجمات لا يمنع من جمعه على معاجم ما دام صفة غالبة قد استغنت عن موصوفها وأغنت مغناه. ولا تكفي زنة المفرد للقطع بصيغة جمعه، بل لا بد من الكشف عن بنيته اسماً أو صفة، استبانة نوع اسميته وصفته أيضاً. وليس يمتنع معاجم جمعاً لمعجم بضم الأول، ولو صح أنه جمع لمعجم بفتح الأول. فمذاهب جمع لمذهب بضم الميم وفتح الهاء ومذهب بفتح الميم، كما سنراه. ومسان جمع لمسن بكسر الميم اسم آلة من (سن) ، ومسن اسم فاعل من (أسن) صفة غالبة. ومجاسد جمع لمجسد بضم الميم. وهو ما أشبع صيغة من الثياب، ومجسد بكسر الميم للثوب الذي ألصق بالجسد.
أما إنكار جمع معجم على معاجم وإقرار جمعه على المعاجيم، فهو غريب. فالأصل فيما جاز تكسيره من (مفعل) بفتح العين على (مفاعل) ألا يجمع على (مفاعيل) . لأن هذا هو جمع (مفعال ومفعيل) بحرف مد. على أن الكوفيين قد أجازوا فيما جمع على مفاعل أو هيئته كفواعل وفعالل، أن تزاد فيه الياء، وفيما جمع على (مفاعيل) أن تحذف فيه الياء، كما جاء في الهمع للسيوطي (2/182) . وقد أخذ بهذا جماعة وجعلوا إضافة الياء إشباعاً للكسرة أو مطلاً لها، كما نص عليه ابن جني في الخصائص (3/151) والمحتسب (1/357) ورده الأنباري في الإنصاف، إلا في الشعر.
قال السيوطي في الهمع حول جمع مندوحة على منادح (والأصل مناديح لأنه جمع مندوحة، وقوله سوابيغ.. والأصل سوابغ لأنه جمع سابغة. وأجاز الكوفية الأمرين في الاختيار، واستدلوا بقوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب (، والأصل مفاتيح لأنه جمع معذرة. وتأول البصريون ذلك، على أنه جمع مفتح بلا ألف، ومعذار بألف. ووافق ابن مالك الكوفيين، فأجاز في سربال وعصفور: سرابل وعصافر، وفي درهم وصيرف: دراهيم وصياريف) . وقال الزبيدي في التاج (المسند كمكرم جمعه مساند على القياس، ومسانيد بزيادة التحتية إشباعاً، وقد قيل إنه لغة، وحكي في مثله القياس أيضاً) .
ويبدو أن الزبيدي قد جمع معجماً على معاجم ومعاجيم آخذاً بهذا الرأي.
-ولكن كيف عمد الدكتور جواد إلى جمع معجم على معاجيم بالياء، وأبى جمعه على معاجم بلا ياء والمعاجيم في جمع المعجم هو فرع المعاجم؟ أقول حاول جواد الاقتباس بمفطر وموسر ومنكر ومطفل، بضم الميم فيها، وهي تجمع على مفاطير ومياسير ومناكير ومطافيل، ولكن هل هذه نظائر لـ (معجم) حقاً، وهل هي محل قياس له فعلاً؟
قال الرضي في شرح الشافية (2/180)(وقالوا أيضاً في مفعل المذكر كموسر ومفطر، وفي مفعل كمنكر: مياسير ومفاطير ومناكير. وإنما أوجبوا الياء فيهما مع ضعفها في نحو معاليم جمع مُعلَم، ليتبين أن تكسيرهما خلاف الأصل، والقياس التصحيح) . وقال أيضاً: (والأغلب في المفعل المختص بالمؤنث التجرد عن التاء، فلا يصحح، بل يجمع على مفاعل كالمطافل والمشادن والمراضع.. وجوزوا في جمع هذا المؤنث زيادة الياء أيضاً ليكون العوض من الهاء المقدرة، فنقول مطافيل ومراضيع ومشادين، ويجوز تركه، قال تعالى:
(وحرمنا عليه المراضع ((القصص/ 12) .
أقول قاس الأستاذ جواد (المعجم) على المطفل بكسر الفاء، وعلى المنكر بفتح الكاف.
أما (المطفل) على صيغة اسم الفاعل فقد جمع على مفاعيل لكنه جمع على مفاعل أيضاً، فكيف يستظهر به الدكتور جواد على جمع (معجم) على معاجيم دون معاجم. قال الرضي (بل يجمع على مفاعل كالمطافل.. وجوزوا.. زيادة الياء أيضاً.. فنقول مطافيل..) .
هذا وليس (مطفل) كمعجم، لأن الأول مختص بالمؤنث. قال الرضي (وجوزوا في جمع هذا المؤنث زيادة الياء أيضاً ليكون كالعوض من الهاء المقدرة فتقول مطافيل..) فكيف يصح (مطفل) مثالاً في القياس لمعجم؟
أما (منكر) على صيغة اسم المفعول، فقد جمع تكسيراً على مناكير دون مناكر، فقاس عليه جواد (المعجم) فذهب إلى جمعه تكسيراً على معاجيم دون معاجم. ولكن هل يقاس معجم على منكر حقاً؟.
-أما أن (المنكر) قد جمع تكسيراً على مناكير بالياء دون مناكر بحذفها، فصحيح.
وقد جمع تصحيحاً على (المنكرات) أيضاً. قال صاحب الأساس (وهم يركبون المنكرات والمناكير) . ولكن ما سر جمعه على مناكير دون مناكر؟ قال الرضي (وإنما أوجبوا الياء فيهما مع ضعفها في نحو معاليم جمع معلم، ليتبين أن تكسيرهما خلاف الأصل، والقياس التصحيح) . فإذا صح هذا فإنه يعني أنهم أرادوا أن ينبهوا على شذوذ جمع منكر تكسيراً، فضموا إلى شذوذه هذا في الجمع شذوذاً آخر، وهو إضافة الياء! وعندي أن لجمع منكر على مناكير تأويلاً آخر. ذلك أنه جاء منكر ومنكور بمعنى، فاستغنوا بجمع منكور وهو مناكير عن جمع منكر على مناكر واكتفوا بمناكير جمعاً لمنكر ومنكور.
ففي الاشتقاق لابن دريد (329) : (نكرة بضم الأول فعلة من الشيء المنكر والمنكور، نكرته وأنكرته) فنكره كأنكره والمنكور كالمنكر. ففي الأساس (أنكر الشيء ونكره بالكسر واستنكره، وقيل نكر أبلغ من أنكر، وقيل نكر بالقلب وأنكر بالعين) . وليس يصح التعلق بتأويل والتعويل عليه لأنه إذا صدق هذا في جمع منكر على مناكير حار الرأي في تأويل مفطر على مفاطير. وليس بدعاً على كل حال أن تشرد ألفاظ فتنبو على الأصل على أن بيت القصيد هو أن جمع المنكر جمع تكسير ليس شذوذاً في الأصل، ولو ذهب إلى هذا كثيرون فسترى أن كثيراً مما قالوا بشذوذه في هذا الباب. كان تفرده في الحكم لسبب رعوه. فالمنكر إذا جاء وصفاً جارياً على فعله فبابه التصحيح على الأصل.
فأنت تقول (الأمر المنكر معيب عقلاً وشرعاً) وتقول في جمعه (الأمور المنكرة أو المنكرات معيبة عقلاً وشرعاً) . أما قول الزمخشري (وهم يركبون المنكرات) فليس (المنكرات) فيه صفة جارية على فعلها وإنما هي صفة غالبة فارقت موصوفها فقامت مقامه وأغنت مغناه فشابهت الاسم، لكنها لم تغادر الوصف في دلالتها، ولو خصصت.
قال صاحب المفردات (المنكر كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف عن استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم بقبحه الشريعة) . وقال صاحب التعريفات (162) : (المنكر ما ليس فيه رضا الله من قول أو فعل والمعروف ضده) .
أما قول الزمخشري (وهم يركبون المناكير) فالمناكير فيه صفة غالبة أيضاً، أنزلت منزلة الأسماء وانقطع ما بينها وبين الوصف، وقد جاء في الأشباه والنظائر للإمام السيوطي (2/157) :(قال في البسيط: كل صفة كثر استعمالها من غير موصوفها، قوي تكسيرها لالتحاقها بالأسماء) .
والمعجم بمعناها الشائع صفة غالبة قامت مقام الاسم وفارقت موصوفها. ووهى ما بينه وبين (المعجم) الصفة الجارية على موصوفة، فقوي فيه التكسير. ولا يصح منع معاجم جمعاً للمعجم، وإقرار (معاجيم) بالياء، كما ذهب إليه الدكتور جواد، حملاً على (منكر ومناكير) لأن الحمل إنما يكون على أصل ثابت، ومناكير في وجوب زيادة الياء مثال شاذ.
هذا وقد عبروا عن إضافة الياء في نحو (مفاعيل) وما كان على هيئته بأنه إشباع للكسرة، كما جاء في الإنصاف، وأسماه ابن جني في الخصائص (3/121) وفي المحتسب (1/357) إشباعاً للحركة أو مطلها. وذكروا من ذلك جمع (صيرف) في شعر الفرذدق على (صياريف) بدلاً من (صيارف) . وجمع (مرجل) في شعر عبدة بن الطيب على (مراجيل) والأصل (مراجل) . وقال الأنباري في رده على الكوفيين في كتابه الإنصاف (1/31) :(وهذا القول ظاهر الفساد لأن إشباع الحركات إنما يكون في ضرورة الشعر، كما أنشدوه في الأبيات. وأما في حال اختيار الكلام فلا يجوز ذلك بالإجماع) . وقد قال الأنباري فيما تقدم بمذهب البصريين.
فثبت بما أسلفنا أن قولك (معاجيم) محمول على إضافة الياء إلى (معاجم) بإشباع حركة الجيم اختياراً عند الكوفيين ومن أخذ أخذهم، وإن إقرار (معاجيم) ، موقوف على إساغة (معاجم) في الأصل. أما إنكار (معاجم) وإثبات (معاجيم) كما ذهب إليه الأستاذ فما أظن له وجهاً.
الجواب عن استيضاح من استوضح صحة الجمع على معاجم أو معجمات:
عقد الدكتور ناصر الدين الأسد، في الجزء الخامس والعشرين من مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فصلاً حول (معاجم ومعاجيم ومعجمات) . قال الدكتور الأسد:(وسواء أكان المعجم مصدراً بمنزلة الإعجام، كما ذهب إليه المبرد وتابعه غيره، أم صفة لموصوف محذوف، فإن في هاتين الحالتين لا يجمع عندهم على معاجم لأن المصدر لا يجمع، إذ أنه اسم معنى، وليس له ذوات متفرقة حتى يحتاج إلى جمعها، ولأن الوصف من اسمي الفاعل والمفعول وأوله ميم فبابه التصحيح، ولا يكسر لمشابهة الفعل لفظاً ومعنى، وأن نصوا على ألفاظ جاءت مكسرة شذوذاً) .
أقول الجواب عن ذلك من وجوه. أما أن (المعجم) في أحد التأويلين مصدر والمصدر لا يجمع فحقيقة الأمر أن (المعجم) ليس مصدراً، بل هو معدول به عن المصدر إلى الاسم.
فالمصدر جنس لفعله كما يقول ابن جني في الخصائص (1/25) . فهو يدل على الحدث من حيث تعلقه بفاعله، على وجه العموم والإبهام. ومن ثم امتنع جمعه وتثنيته، لا لأنه يتناول الجنس والجنس يدل على القليل والكثير فحسب، بل لدلالته على الحدث المتعلق بفاعله من حيث هو حدث أيضاً. فالمصدر الذي لا يجمع هو المصدر الذي يصدق عليه تعريفه وحدّه هذا. فإذا خرجوا به عن جنسه أو حدثه العام عاد إليه ما كان عليه الاسم في الأصل، من جواز جمعه. قال صاحب المصباح (والجمع يكون في الأعيان كالزيدين، وفي أسماء الأجناس إذا اختلفت مالأرطاب والأعناب واللحوم) وأردف (وفي المعاني المختلفة كالعلوم والظنون) . فأشار بذلك إلى أن (العلم والظن) إذا جمعا فقد عريا من الحدث وجنسه، إذ أصبحا مجرد اسمين للمعنى. وقال في موضع آخر للاعتلال لجمع (العلم) :(إن ضرباً يخالف ضرباً في كثرته، وعلماً يخالف علماً في معلومه ومتعلقه كعلم الفقه وعلم النحو) . والصحيح أن ليس في (العلم) من قولك (علم الفقه وعلم النحو) ما يدل على الحدث المبهم، بل ليس فيه ما يصدق على الجنس أيضاً، ومن ثم جاز جمعه جمعك الأسماء. وكل ما جمعته من ذلك فقد جذبته إلى الاسمية وخرجت به عن المصدرية. قال صاحب المصباح (واستعمل العيب اسماً وجمع على عيوب) وقال (واستعمل المصدر اسماً – أي اللفظ – وجمع على ألفاظ كفرخ وأفراخ) . وقال (والمكس الجباية وهو مصدر.. ثم سمي المأخوذ مكساً تسمية بالمصدر وجمع على مكوس) ، وهكذا.. فأصل (المعجم) مصدر بمعنى الإعجام في الأصل، لكنه استعمل اسماً فصح جمعه جمع الأسماء.
وأما أن (المعجم) في التأويل الآخر صفة أصلية جارية على الفعل، والصفة بابها التصحيح، فليس ذلك هو الوجه. فـ (المعجم) في هذا التأويل صفة غالبة انقطعت عن موصوفها فجرت مجرى الأسماء. وإلا فكيف جمعوا (المخزية والمصيبة والمدينة والمعقبة والمطيحة والمعجمة) على (المخازي والمصائب والمداين والمعاقب والمطاوح والمعاجم) ؟
فيما جمع على المهارق والمصاحف والمواسي والمطارف والمجاسد والمساند والمصاعب والمذاهب والمراسل.
وأورد الدكتور ناصر الدين الأسد (المهرق والمصحف والموسى والمطرف والمجسد والمسند والمصعب والمذهب والمرسلة)، وقال:(ولم نجد نصاً فيما اطلعنا عليه من كتب اللغة يجمع هذه الألفاظ التي أوردناها جمعاً سالماً، فلم نسمع مسندات جمعاً لمسند) !.
أقول الجواب عن هذا أن من هذه الألفاظ ما هو اسم، والأصل في جمع الأسماء هو التكسير فكيف يجمع جمع سلامة؟
فالمُهرق: اسم لا صفة، ولو كان على صيغة اسم المفعول، وهو معرب أصله فارسي ومعناه الصحيفة. قال الجوهري في الصحاح (المهرق الصحيفة فارسي معرب والجمع المهارق) . وقال الجاحظ في الحيوان (1/70) :(والمهارق ليس يراد بها الصحف والكتب. ولا يقال للكتب مهارق حتى تكون كتب دين أو كتب عهود وميثاق وأمان) . وجاء في المعرب للجواليقي (303) : (والمهرق الصحيفة وهي بالفارسية مهره) . فالميم أصلية لا زائدة وقد أبدلت الهاء بالتعريب قافاً. وإذا صح هذا كان قياس جمع المهرق المهارق تكسيراً.
أما (المصحف) فقد اطرد جمعه على (المصاحف) ، لا جمع له سواه. وليس هو اسم مفعول، ولو رد إلى هذا الأصل. ذلك أن النحاة قد ذكروا أسماء حكوها عن العرب، قالوا أنها ليست جارية على الفعل، على حد أحد من المشتقات. ونقلوا من ذلك (المدهن) بضم الميم والهاء لأداة الدهن وقارورته التي يوضع فيها. قال سيبويه في الكتاب (1/248) :(وكل هذه الأبنية تقع اسماً للتي ذكرنا من هذه الفصول، لا لمصدر ولا لموضع العمل) .
وقال الزمخشري في الفصل (وما جاء مضموم الميم والعين من نحو المسعط والمنخل والمدق والمدهن.. فقد قال سيبويه لم يذهب بها مذهب الفعل، ولكنها جعلت أسماء لهذه الأوعية) . وقال أيضاً (ومنخل ومصحف..) بضم الميم والخاء في الأول، وضم الميم وفتح الحاء في الثاني) . فجعل المصحف من هذه الأسماء ولورد إلى أصل مشتق. وقال سيبويه في الكتاب (2/378) :(ويكون الاسم على مفعل نحو مصحف ومخدع وموسى..) فدل هذا على أن (المصحف) قد اعتد في الأسماء. وقد شرح ابن يعيش قول الزمخشري في المفصل فقال (ومنه منخل اسم لآلة النخل.. ومنه المصحف من لفظ الصحيفة، تقول: أصحفته في مصحف أي جعلته صحيفة، وربما كسروا أوله وقالوا: مِصحف يشبهونه بالآلة..) .
وفي مفردات الراغب (والمصحف ما جعل جامعاً للصحف المكتوبة وجمعه مصاحف) .
ويتبين بما تقدم أن (المصحف) اسم أفرد عن المشتقات، وقد جاء مكسور الأول كاسم الآلة، وفارقه بأن أصله الضم. ففي أدب الكاتب لابن قتيبة (وكذلك قالوا مصحف وهو مأخوذ من أصحف أي جمعه فيه الصحف، وكسر أوله بعضهم استثقالاً للضم، وأصله الضم) . هذا وقد ورد في (المصحف) الفتح أيضاً فميمه مثلثة كما في اللسان والتاج.
أما (الموسى) لآلة الحديد ففيه خلاف: إذ ذهب بعضهم إلى أنه من أوسى رأسه إذا حلقه، فرأسه موسى. وهو على هذا اسم مفعول على مفعول بضم الميم وفتح العين، وهو مذكر، لكنه لم يستمر على هذا الأصل، إذ سمي به آلة الحديد فاستعمل لما (يوسى به) أي يحلق به. وقد اعتده سيبويه من الأسماء كما أشرنا إليه قبل (2/378) ، فجمع على (المواسي) كشأن الأسماء. قال صاحب المصباح (وأوجز ابن الأنباري فقال الموسى يذكر ويؤنث، وينصرف ولا ينصرف، ويجمع على قول الصرف: المواسي) . وذهب آخرون أنه مؤنث على (فُعلى) ممنوع من الصرف ميمه أصلية.
فقد جاء في أدب الكاتب لابن قتيبة (286) : (الموسى قال الكسائي هي فعلى، وقال غيره هو مفعل من أوسيت رأسه أي حلقته، وهو مذكر إذا كان مفعلاً، ومؤنث إذا كان فُعلى) . وإذا أن (الموسى) على فعلى عند هؤلاء فهي كحبلى ممنوعة من الصرف، وجمعها على موسيات كحبليات. قال صاحب المصباح (ويجمع على قول الصرف – أي قول من صرف الموسى لأنه على زنة مفعل – المواسي، وعلى قول المنع – أي قول من منع موسى من الصرف لأنه على زنة فعلى – الموسيات كالحبليات) . وقد جاء في معجم الصحاح، وفي المخصص لابن سيده (17/18) وفي النوادر لأبي مسحل الأعرابي (85/86) ما يؤيد ذلك. أما قول العامة (أمواس) على تقدير أن واحدة (موس) فلا وجه له، وقد كان شائعاً عند عامة أهل الأندلس وصقلية، كما أشار إليه الدكتور عبد العزيز مطر في كتاب لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة (ص/272) .
أما (المُطرف) على صيغة اسم المفعول، فهو اسم أيضاً، ولو رد إلى أصل مشتق.
فالمطرف رداء من خزله علمان، اشتق في الأصل، من أطرفه أطرافاً. قال صاحب المصباح (وأطرفته أطرافاً جعلت في طرفيه علمين فهو مطرف) . وأردف:(وربما جعل اسماً برأسه غير جار على فعله، وكسرت الميم تشبيهاً بالآلة والجمع مطارف) ، فدل هذا على انتقاله من الوصفية إلى الاسمية. ولذا كان بابه في الجمع هو التكسير على مطارف. وفصل صاحب التاج فقال (والمطرف كمكرم، هكذا في سائر النسخ، والصواب كمنبر ومكرم، كما في الصحاح والعباب واللسان. فالاقتصار على الضم قصور ظاهر. وهو رداء من خز مربع ذو أعلام، جمعه مطارف. وقال الفراء: ثوب من الثياب جعل في طرفيه علمان. والأصل مطرف بالضم، فكسروا الميم ليكون أخف، كما قالوا: مغزل وأصله: مغزل من أغزل أي أدير، وكذلك المصحف والمجسد. ونقل الجوهري عن الفراء ما نصه: أصله الضم لأنه في المعنى مأخوذ من أطرف أي جعل في طرفيه العلمان، ولكنهم استثقلوا الضم فكسروه. وقد ورد أيضاً بفتح الميم، نقله ابن الأثير في تفسير حديث: رأيت على أبي هريرة مطرف خز، فهو إذاً مثلث الميم) .
أما (المجسد) بضم الميم وفتح السين فهو صفة غالبة فارقت موصوفها (وهو الثوب) فأغنت مغناه، وأنزلت منزلة الأسماء. وقيل أجسد الثوب فهو مجسد: صبغ بالجساد.
قال صاحب المصباح (وأجسدت الثوب من باب أكرمت صبغته بالزعفران أو العصفر، قال ابن فارس: ثوب مجسد صبغ بالجساد) وأردف (وقد تكسر الميم) . وقيل: أجسد الثوب فهو مجسد: ولي الجسد. قال صاحب الأساس (ولبس المجاسد وهي الشُعر جمع مجسد بالكسر ومجسد بالضم) . والشعر جمع شعار ككتب وكتاب. ففي المصباح (والشعار بالكسر ما ولي الجسد من الثياب) . وفي الأساس (وعليهم شعار وعليهم شعر) .
ومهما يكن من شيء فالأصل هو الضم على صيغة اسم المفعول، وأن كسر الميم تصرف اقتضاه الاستعمال، طلباً للخفة في اللفظة، كما جرى في المصحف والمطرف والمغزل ففي اللسان:(قال أبو زيد: تميم تقول المغزل والمطرف.. والمجسد، بكسر الميم، وقيس تقول المغزل والمطرف.. والمجسد، بضم الميم) .
-وأما (المسند) بضم الميم وفتح النون، على صيغة اسم المفعول، فهو صفة غالبة انقطعت عن موصوفها وهو (الحديث) وأغنت مغناه فأنزلت منزلة الأسماء أيضاً. قال الحافظ بن حجر في شرح نخبة الفكر، على ما جاء في كتاب (توجيه النظر إلى أصول الأثر/ 65) للشيخ طاهر بن صالح الجزائري الدمشقي:(والمسند في قول أهل الحديث – هذا حديث مسند – هو مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال) . فالأصل في (المسند) إذاً (الحديث المسند) كما ذكر الحافظ. وقد جاء في تعريفه (هو مرفوع صحابي بسند) أي الحديث الذي يرفعه الصحابي (لا التابعي) بسند ظاهره الاتصال إلى رسول الله (. أي هو الحديث الذي اتصل إسناده إلى الرسول (كما جاء في تعريفات الجرجاني (144) ، إذ قال (المسند من الحديث خلاف المرسل وهو الذي اتصل إسناده إلى الرسول () . وقد جمع على مساند مسانيد. ففي التاج (المسند كمكرم.. جمعه مساند على القياس، ومسانيد بزيادة التحتية إشباعاً) .
وهذا قياسه، ما دام قد أنزل منزلة الأسماء وتميز من الصفة بخصوصه في الدلالة واستغنائه عن موصوفه، فإذا أوردته مورد الصفة بأن تضيفه إلى موصوفه فتقول (هذه مسندات الأحاديث) أو ما يشبه الإضافة لأنه في معناها كقولك (هذه المسندات من الأحادث) جمعته جمع مؤنث سالماً، على الأصل. وخلاف (المسند) : المرسل. قال الجرجاني في تعريفاته (المرسل من الحديث ما لم يتصل إسناده إلى الرسول الأعظم، بل إلى التابعي، وبسند التابعي إلى الرسول فلا يذكر من رواه عنه) . وقد جمع (المرسل) على (المراسل والمراسيل) . لكنه جمع على (المرسلات) حين أوقع موقع الصفة. فقد جاء في المتن (والمرسلات من الأحاديث التي تصل بإسنادها إلى التابعي، ويقول التابعي: قال رسول الله (، ولا يذكر الصاحب الذي تلقاها عنه) . وإنما كشف المراد بـ (المسندات) و (المرسلات) بذكر (الأحاديث) لعموم معنى الوصف وشموله.
وأما (المصعب) فهو صفة على صيغة اسم المفعول، ويقع صفة غالبة في مثل قول الجوهري في الصحاح (والمصعب الفحل، وبه سمي الرجل مصعباً) وقول ابن دريد في الاشتقاق (واشتقاق مصعب من الفحل من الإبل، يترك للضراب ولا يستعمل..) أي اشتقاق (مصعب) اسم الرجل من (مصعب) اسم الفحل من الإبل، يترك للضراب ولا يركب. ونحو ذلك ما جاء في التاج (المصعب كمكرم، قال ابن السكيت: الفحل الذي يودع ويعفى من الركوب) . فأنت ترى أنك متى قلت (المصعب) فهم أنه الفحل المودع للضراب، فالوصف قد فارق موصوفه وأغنى مغناه واختص بدلالة فأنزل منزلة الأسماء. ومن ثم كان جمعه مصاعب ومصاعيب كما ذكره اللسان والتاج. وأصله الصفة الخالصة، كما في قول الجوهري في الصحاح (وأُصعِب الجمل فهو مصعب إذا تركته فلم تركبه.. حتى صار صعباً) . فإذا أجريت الصفة على فعلها قلت في الجمع: وأصعبت الجمال فهي مصعبات، كما تقول هذه المصعبات من الإبل. أما قولك (جمال مصاعب ومصاعيب) بذكر الموصوف قبل الصفة الغالبة، فمجيئه على حد قولك (هذه أراض صحراوات، وهؤلاء أسرى رهائن) والصحراوات والرهائن والمصاعب صفات غالبة.
ومن ذلك المُذهَب وجمعه المذاهب. وقد جاء في شرح ديوان قيس بن الخطيم لابن السكيت أنها جلود فيها خطوط مذهبة بعضهاأثر بعض فكأنها متتابعة.. وهكذا جاء بالمذهب صفة غالبة تقع موقع الاسم. وقال الزمخشري (ولوح مذهب ومذهَّب، واطلب لي المذاهب، وهي السيور المموهة بالذهب، فأتى به وصفاً جارياً على فعله حين قال (لوح مذهب ومذهَّب) فدل على الأصل ثم صفة غالبة حين قال (واطلب لي المذاهب وهي السيور) فأشار بذلك إلى انتقال الوصف إلى الاسم.
وكذلك (المرسلة) . قال الزمخشري في الأساس (وفي عنقها مرسلة، وفي أعناقهن مراسل: قلائد) . فالمرسلة القلادة والمراسل القلائد، هذا على الصفة الغالبة. أما الصفة الأصلية فقد نبه عليها صاحب القاموس حين قال (المرسلة كمكرمة قلادة طويلة تقع على الصدر..) فأصل (المرسلة) : القلادة المرسلة أي المطلقة أو (الطويلة) على حد قول الفيروز أبادي. وقد أفرد الوصف أي (المرسلة) عن الموصوف (أي القلادة) واكتفي به اسماً للقلادة المطلقة.
أيصح فيما أنزل من الصفات منزلة الأسماء أن يجمع جمع الأسماء وجمع الصفات:
ويقول الدكتور ناصر الدين الأسد: (هل نستطيع أن نضيف إلى ذلك أن الصحيح في جمع الألفاظ الأخرى التي على هذا البناء، وهو مفاعل، حين تجري هذه الألفاظ مجرى الأسماء فنقول في جمع (ملحق) ملاحق، وليس ملحقات، كما أصبح حديثاً يحرص نفر من محققينا ومؤلفينا على استعماله) أقول لا يقتصر الأمر فيما أنزل من الصفات منزلة الأسماء على زنة مخصوصة كمفعل بكسر العين أو مفعل بفتحها أو مفعول أو فاعل، وإنما يجري الحكم في ذلك على إطلاقه. فأنت إذا أفردت الصفة عن موصوفها وخصصتها بدلالة نأت بها عما تدل عليه الصفة الجارية على فعلها، عوملت في الجمع معاملة الأسماء.
وإذا بقيت، إلى ذلك، تمت بسبب إلى ما كانت تدل عليه هذه الصفة، صح أن تعامل في الجمع معاملة الصفات. ولنأت بأمثلة تبين عما قصدنا إليه. فـ (الملحق) إذا أردت به مسمى خاصاً بعدت به عن الأصل، فأطلقته على ما يعد ذيلاً (للمعاهدة) من شروح وشروط، قلت في جمعه (الملاحق) لأنه جرى على ما جرت عليه الأسماء من حيث انفرادها غالباً بمعنى يقصر عليها. وإذا عنيت بـ (الملحق) ما يمكن أن يكون ذيلاً يتبع أصلاً من الأصول، جمعته على (الملحقات) كما اعتاد النحاة أن يجمعوه حين يقولون مثلاً (الملحقات بلا سيما) أو (الملحقات بأفعال القلوب) أو سوى ذلك.
وقد جاء في التنزيل (والمرسلات عرفاً ((المرسلات/1) . قال الزمخشري في الكشاف: (أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره..) . وجاء في التاج (والمرسلات في التنزيل: الرياح أرسلت كعرف الفرس، أو الملائكة عن ثعلب، أو الخيل لأنها ترسل أي تطلق في الحلبة) ، وما دام قد صح الاستغناء بـ (المرسلات) عن موصوفها المعين ملائكة كانت أو رياحاً أو خيلاً، فلا شك أنها صفة غالبة. قال أبو حيان في البحر المحيط (8/403) :(ولما كان المقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها، وقع الخلاف في تعيين تلك الموصوفات) . على أنه بقي للصفة الغالبة من عموم الدلالة، ما كان للصفة الجارية على فعلها، أو كاد الأمر أن يكون كذلك، لتعدد ما يمكن أن يكون الموصوف المحذوف، وكان هذا مرجعها جمع الصفات.
وجاء في التنزيل (وأنزلنا من المُعصرات ماء ثجَّاجاً ((النبأ/ 4) . قال الجوهري في الصحاح (والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر، وعُصر القومُ أُمطروا) . وقال الإمام البيضاوي (السحائب إذا أعصرت، أي شارفت أن تعصرها الرياح، كقولك: أحصد الزرع إذا حان أن يحصد.. أو من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب) . وقال أبو حيان في المحيط (.. وجاء هنا من أعصر، أي دخلت في حين العصر، فحان لها أن تعصر، فعل للدخول في الشيء) . فالمعصرات صفة غالبة أنزلت منزلة الأسماء، لكنها بقيت تدل على ما دلت عليه الصفة الجارية على فعلها، سواء أكان موصوفها المحذوف سحائب أو رياحاً. ومن ثم جمعت جمع التصحيح.
وجاء في التنزيل (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشِّرات ((الروم/ 46) فجاء (مبشِّرات) صفة جارية على فعلها، في موضع الحال، لكنها استعملت صفة غالبة. قال الجوهري (والمبشِّرات الرياح التي تبشر بالغيث) . ومثل ذلك ما جاء في الأساس (وهبَّت المبشرات، وهي الرياح التي تبشر بالغيث) . وجاء في فقه اللغة وسر العربية للثعالبي (المبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث، والسوافي التي تسفي التراب) .
فانتقلت (المبشِّرات) بهذا من الصفة الجارية على موصوفها، إلى الصفة الغالبة المفردة عن موصوفها، فأنزلت منزلة الأسماء، وقد بقيت تدل على ما كانت تبين عنه الصفة الأصلية، فجمعت جمع التصحيح.
وكذا (المعجزة) واحدة المعجزة. وهي صفة غالبة ما تزال تدل على ما هي عليه الصفة الأصلية، من قولك أعجزه الشيء إذا فاته فعجز عن الإتيان بمثله. ففي الصحاح (والمعجزة واحدة معجزات الأنبياء) . ونحو من ذلك في اللسان والتاج. وفي التعريفات (المعجزة كل أمر فارق للعادة) ..
ولكن هل تقول في (المرسلات والمعصرات والمبشرات والمعجزات) : مراسل ومعاصر ومباشر ومعاصر، كما تقوله في الصفات الغالبة عامة. أقول الأصل جواز ذلك، ما لم يمنع منه ليس في المعنى، وما يشبه العموم في الدلالة. فقد جاء المراسل والمعاصر صفتين غالبتين بمعنى آخر. فالمراسل والمراسيل جمع للمرسلة وهي القلادة كما مر، والمعاصير جمع معصر من قولك أعصرت المرأة إذا أدركت فهي معصر. أما المبشرات فلا تكاد تختص بدلالة، بل لها من شبه العموم ما قرب أن تتناول به كل ما يبشر. فقد جاء في مفردات الراغب حول قوله تعالى (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات (:(أي تبشر بالمطر، وقال (وهكذا (المرسلات) التي قيل إنها الرياح والملائكة والخيل، ونحو من ذلك المعجزات التي تعني كل ما يعجز.
***
ويستبين بما تقدم أن الذي عليه مدار الكلام ومتصرفه أن الشاذ المتأول يثبت الأصل الذي انزوى عنه، وينبه على أن مفارقته لهذا الأصل وانفراده عنه بالحكم، إنما كان لعلة موجبة أو مجيزة. وأنه لو أُحكمت القاعدة التي بني عليها الأصل وخصصت، ما اعتد الشاذ المتأول شاذاً. أما أن يعتمد الشاذ المتأول فترسى فيه قدم قياس ويبطل به أصل ثابت، فلا يليق أن يتخذ مذهباً بوجه من الوجوه. وإلا فهل تقول (أحداث مشاهيد وأيام معاديد وأشهر معاليم وأشياء مواضيع، وأرزاق مباسيط) أو تقول (وهؤلاء مسارير ومآسير ومشاكير ومناصير) . هذا مقتضى ما أخذ به مجمع اللغة العربية القاهري وجماعة من اللغويين المحدثين، في إطلاق جمع مفعول على مفاعيل، فكيف نسلم صحة هذا المذهب فننحو هذا النحو وننهج هذا السبيل؟