الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاشتقاق
في اللغة فصول تشابكت أواصرها وتوشجت عراها، وكأن بينها رحماً ماسَّة.
فأنت إذا عرضت لمسألة في أحدها أصارتك الحاجة إلى أن تذكي العين على ما يتصل بها من البحث في فصول من دوحتها، فتجعله منك على بال وذكر، ليبرح به خفاء ما عرضت له فينزاح غموضه وتحل رموزه.
من هذه الفصول فصل عقدته في هذه المجلة حول (نشوء اللغات) وآخر عقدته فيها حول (تدرج المعاني) . وهذا فصل في (الاشتقاق) يناط بهما ويُنْمَى إليهما. فإذا انتظم عقد هذه الفصول، وقد اشتبكت أسبابها وتمكنت أواصيها، كان بعضها ذريعة إلى جلاء ما قد يستغلق في بعضها الآخر، وسلّماً إلى فك مشكله، وسبباً إلى إيضاح منهاجه واستبانة وجهه.
وأنت إذا تأملت فصلنا هذا في (الاشتقاق) عرفت قرابة ما بينه وبين الفصلين السابقين. في غير كلفة أو عسر أو عناء.
***ذهب الأئمة إلى أنه لا بد للكلم في كل مادة لغوية أن يشتق بعضها من بعض فترد إلى جنس من المعنى يعد أصلاً لما يشتق منها جميعاً. فالاشتقاق نزع لفظ من لفظ، ولو مجازاً، بشرط مناسبتهما في المعنى، واتفاقهما في الحروف الأصلية وترتيبها، ومغايرتهما في الصيغة حقيقة أو تقديراً. وهكذا تشترك مفردات كل مادة لغوية في حروفها الثلاثة وترتيبها، وتلتقي على معنى يشملها. ثم يفرد كل منها بصيغة ومبنى ودلالة خاصة. وقد أسموا هذا النوع من الاشتقاق، الاشتقاق الصغير. وبحث الاشتقاق كثير من الأئمة المتقدمين كالأصمعي وقطرب وأبي الحسن الأخفش والمبرد وابن خالويه. وبرع فيه أبو بكر بن دريد في كتابه (الاشتقاق) ، وأوغل فيه أحمد ابن فارس في كتابيه (فقه اللغة) المعروف بالصاحبي، و (مقاييس اللغة) .
قال ابن فارس في فقه اللغة: (أجمع أهل اللغة، إلا من شذ عنهم، أن للغة العرب قياساً، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض، وأن اسم الجن مشتق من الاجتنان، وأن الجيم والنون تدلان أبداً على الستر. تقول العرب للدرع جنة.
وأجنه الليل. وهذا جنين، أي هو في بطن أمه أو مقبور. وأن الأنس من الظهور، يقولون: آنست الشيء أبصرته. وعلى هذا سائر كلام العرب، علم ذلك من علم، وجهله من جهل/ 33) .
هذا وقد جعل الأئمة للاشتقاق نوعين آخرين هما الكبير والأكبر. فإذا كان شرط الاشتقاق الصغير، في مشهور التسمية، أن يكون بين اللفظين اتفاق في الحروف الأصول وترتيبها وتناسب في المعنى كضرب وضارب ومضروب من الضرب، فشرط الاشتقاق الكبير أن يكون بين اللفظين أو الألفاظ اتفاق في الحروف دون ترتيبها، ككمل وملك ولكم، أما الاشتقاق الأكبر فحده أن يكون بين اللفظين أو الألفاظ اتفاق في بعض الحروف وتقارب في الباقي.
وقد جعلوا التقارب في مخرج الحروف خاصة وفي صفتها، كجبل وجبر، وحلف وحرف، وحمس وحمش. ومنهم من أسقط ما شرطوه من التقارب فمثلوا له بفلق وفلى، ورصَّ ورصف.
وتردُّ فكرة الاشتقاق الكبير إلى الإمام الخليل بن أحمد وقد بحثه أبو علي الفارسي واتسع فيه تلميذه أبو الفتح ابن جني صاحب الخصائص، وتبعهما في ذلك الحاتمي، والسكاكي صاحب المفتاح، وابن الأثير صاحب المثل السائر، وقد عرض هؤلاء للاشتقاق الأكبر وافتن فيه الحاتمي خاصة.
وقد قصرنا الكلام في فصلنا هذا على الاشتقاق الصغير، وهو ما يراد بالاشتقاق عند الإطلاق. وإليه تنتهي شعاب البحث عامة، وهو أصله وأرومته ومورده. فلا بد إذاً من إحصاء مسائله وجمع أشتاته واستقراء دقائقه في هذا الفصل، والاستصباح بضوء ذلك في خوض عباب الاشتقاق الكبير والاشتقاق الأكبر والغوص على أسرارهما في فصل آت، إن شاء الله.
هذا وأجدر ما ينبغي أن نجري الكلام فيه من مسائل الاشتقاق الصغير، وأحرى أن نستنفد بعض الوسع في بحثه:
1-
ما يطرد اشتقاقه فيكون على قياس، وما لا يطرد فيعول فيه على السماع.
2-
اشتقاق الأفعال من أسماء الأعيان.
3-
الاشتقاق من اسم العين المشتق أيجري على لفظ المشتق أم يبني على أصله.
4-
أوجه القولين وأسلمهما من النقد، في اشتقاق الفعل من المصدر أو المصدر من الفعل.
5-
ما يعترض رد المادة اللغوية إلى أصل واحد أو يحول دون الاهتداء إليه.
6-
الحكم في أصل اللفظ أعربي هو أم دخيل.
7-
اشتقاق العربي من المعرّب.
وقصارانا أن نجمع اليدين على تمحيص كل مسألة من هذه المسائل فنبلو أمرها ونخبر حالها ونخلص من بحثها ونحن أبصر بدخائلها وأعلم بمطاويها.
وحسبنا في ذلك أن نقتصر على قدر ما نري به الطريقة ونقف على المنهاج، وإلا فللقول في ذلك مجال واسع ومذهب فسيح. فإذا سمت بالقارئ همة إلى ما وراء ذلك أو نازعته رغبة، اقتفى فيه هذا الأثر فوجد السبيل مسلوكاً والطريق موطأ فسعى سعيه إلى الاستزادة لتكتمل في ذلك آلته وتجتمع أداته.
1-
ما يطَّرد اشتقاقه وما لا يطَّرد
المشتق قد يطرد اشتقاقه كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعل التفضيل وظرفي الزمان والمكان واسم الآلة. وقد لا يطرد كالقارورة فإنها مشتقة من القرار.
هذا ما جاء في (كشاف اصطلاحات الفنون- 1/845) للتهانوي. وعندي أن ما قصده التهانوي بنصه على إطراد الاشتقاق في الصفة المشبهة، هو غلبة الاشتقاق في بعض صيغها من أفعال لازمة مخصوصة. وإلا فليس لنا أن نأتي بوصف على فَعْل أو فَعَل أو فَعْلان أو أفعل مثلاً، دون أن يكون قد سمع عن العرب.
وكل ما أطلقوا القياس فيه هو العدول بالصفة المشبهة إلى صيغة (فاعل) ، كلما أريد بها التجدد والحدوث كقولك حاسن في حسن وعاف في عفيف ومائت في ميت وضائق في ضيق، ومارض وجائد في مريض وجواد، كما فصله الزمخشري في المفصل، والرضي في شرح الشافية.
وذهب بعضهم إلى قياس (فعيل) صفة مشبهة كما أشار إليه الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه (القياس) وعقب على ذلك فقال: (وينبغي أن يقيد هذا المذهب بالمعاني التي يُراد منها الثبوت ولم يدر كيف تكلم فيها العرب بالاسم الدال على الذات وصفتها. وبهذا المذهب تستوفي الأفعال صفاتها المشبهة) . قلت على أن يشتق فعيل هذا من (فَعُلَ) . فقد استدُلَّ بـ (حبيب) صفة مشبهة على أن فعله (حَبُبَ) فقال ابن يعيش في شرح المفصل (وفعيل بابه فعُل كظريف من ظرف وكريم من كرُم) وقال الرضي (الغالب في فَعُل: فعيل) .
ويعني هذا أنه كلما جاء (فَعُلَ) فالأصل في صفته، ما لم تسمع، (فعيل) .
والأصل في (فعيل) أن يكون فعله، ما لم يسمع، (فعل) ككرم.
وذهب أبو البقاء صاحب الكليات إلى ما وراء ذلك فقال (الصفة المشبهة تجيء أبداً من لازم فإذا أريد اشتقاقها من المتعدي يجعل لازماً بمنزلة فعل الغريزة وذلك بالنقل إلى –فعل، بالضم، ثم يشتق منه، كما في رحيم وفقير ورفيع/220) . وجاء في عدد نيسان (1955) من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (مجلة مجمع اللغة العربية) عما أقره المجمع القاهري في مؤتمره: (كان الأستاذ أنيس المقدسي عضو المجمع من لبنان، طلب إضافة كلمة –الرتابة- إلى المعجم بمعنى الثبات والاستقرار والاستمرار فيما يقابل التعبير العصري: روتين. وقد رأت لجنة الأصول جواز استعمال هذه الصيغة، بناء على جواز تحويل كل فعل لإفادة المدح أو الذم أو الالتحاق بالغرائز. وعلى هذا يكون –الرتابة- مصدراً قياسياً لفَعُل، طوعاً لقرار المجمع في تكملة مادة لغوية. وبعد المناقشة أقر المؤتمر الاقتراح المعروض عليه) . وإذا كان هناك من ذهب إلى قياس فعيل بمعنى فاعل، فقد أقر بعضهم قياس فعيل من متعد بمعنى المفعول.
قال السيوطي في الهمع: (فورد المفعول على فَعَل وعلى فَعْل.. وعلى فعيل كقتيل وصريع. وقاسه بعضهم، أي قاس فعيلاً- فيما ليس له فعيل بمعنى فاعل، نقله في التسهيل.. والقيد المذكور للقياس نبه عليه أبو حيان، ولا بد منه) .
وقد أخذ المجمع القاهري بهذا، والرأي في ذلك وجيه على أن (فعيلاً) هذا ليس صفة مشبهة.
واشتقاق صيغ المبالغة لاسم الفاعل من الفعل المتعدي الثلاثي، لا يطرد في الأصل. على أن من الأئمة من ذهب إلى قياسه في خمسة أوزان هي: فعّال ومفعال وفعول وفعيل وفَعِل. تقول ضراب ومضراب وضروب وضريب وضرِب. أو في الثلاثة الأولى وحدها. جاء ذلك عن الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدنوشري الشافعي في حواشي (يس) على التصريح. وليس هنا موضع تفصيل القول فيه. وكثر القول بصحة القياس في (فعّال) خاصة فأخذ به مجمع اللغة العربية القاهري.
وقد كثر اشتقاق (المفعلة) من أسماء الأعيان للمكان الذي يكثر فيه العين، كقولهم: أرض مأسدة ومسبعة ومثورة إذا كثر فيها الأسد أو السبع أو الثور. وظاهر كلام سيبويه في الكتاب (2/ 249) الأخذ بقياسه. وقال ابن سيدة في المخصص (16/74) : (ومكان موعلة كثير الوعول، ومغدرة كثير الغدر، وهي الوعول المسنة، مطرد عند أبي الحسن) . وقد أخذ المجمع القاهري بقياسه فقال في مجلته (2/35) : (تصاغ مفعلة قياساً من أسماء الأعيان الثلاثية الأصول للمكان الذي تكثر فيه هذه الأعيان سواء أكانت من الحيوان أم من النبات أم من الجماد) .
***
وإذا عرضنا للمزيد من الثلاثي كأفعل وفعّل وفاعل وتفاعل وانفعل وافتعل وتفعل واستفعل فقد خص أئمة الصرف كلاً بدلالات لكنهم كادوا يجمعون على أنها لا تطرد.
وقد استثنى بعضهم (أفعل) فذهب إلى أن دخول الهمزة على (فعل) اللازم ليتعدى إلى مفعول، قياس كسهر وأسهره. فإذا كان متعدياً إلى واحد فدخول الهمزة عليه سماع نحو لبس الثوب وألبسه إياه. ومنهم من جعل هذا قياساً أيضاً. بل ذهب الأخفش إلى قياس دخول الهمزة على المتعدي إلى اثنين لتعديته إلى ثلاثة.
وإذا كان الرضي قد قال في شرح الشافية (1/81) : (فليس لك أن تقول من ظرف أظرف) فقد قال ابن هشام في المغني (2/113) : (وقيل النقل بالهمزة سماعي. وقيل قياسي في القاصر والمتعدي إلى واحد. والحق أنه قياسي في القاصر وسماعي في غيره، وهو ظاهر مذهب سيبويه) . والقاصر هو اللازم. وقد أقر المجمع القاهري تعدية اللازم بالهمزة.
ومن قبيل ما عدّاه الكتاب بهمزة النقل (أضفى) . فأنت تقول (سبغ) و (ضفا) بمعنى تم وطال فعلين لازمين. ومنه ثوب سابغ ضاف. ونعمة سابغة ضافية. وتقول (أسبغه) على التعدي، ولا تقول (أضفاه) كما اشتهر على ألسنة الكتاب إلا أن تقر القياس في إدخال الهمزة للنقل، لأن السماع لم يرد به.
والغريب أن الأستاذ محمد العدناني قد ذهب في معجمه (الأخطاء الشائعة) إلى عيب قول القائل (أضفى عليه جلالاً) وجعل صوابه (أكسبه جلالاً) . والطريف حقاً أن الكثرة على إنكار (أكسبه) في السماع أيضاً. قال الزمخشري في الأساس: (وكسب المال.. وكسبته مالاً فكسبه.. ولا يقال أكسبته) . وقال صاحب المصباح: (كلهم يقول كسبك فلان خيراً إلا ابن الأعرابي فإنه يقول أكسبك بالألف) . وهكذا ينكر العدناني (أضفاه) قياساً، وقد أقر في مقدمة معجمه هذا القياس.
وقد ذهب بعضهم إلى قياس (انفعل) لإفادة المطاوعة فاشترط مجيئه من فعل ثلاثي متعد يتصور فيه العلاج والتأثير نحو فتحته فانفتح وقسته فانقاس. وأخذ بهذا المجمع القاهري، وشرط ألا يكون فاء الفعل واواً أو لاماً أو نوناً أو راء، وإلا كان القياس فيه افتعل.. واعترض الشيخ ظاهر خير الله في (المنهاج السوي) فقال (ولا نجد بني الحصن فانبنى، مع ما فيه من العلاج)، كما اعترض الدكتور مصطفى جواد فأبى (المطاوعة) أصلاً. وقال في كتابه (المباحث اللغوية في العراق) :(أما انفعل وما جرى مجراه من الأفعال المزعوم أنها للمطاوعة فهي في الحقيقة لرغبة الفاعل في الفعل أو ميله الطبيعي أو شبه ميله إليه، من غير تأثير من الخارج) وأردف: (ولذلك لا يقتصر الفعل على المتعدي ولا يكون له صلة بالثلاثي أحياناً، مثل: انكدر. وفي القرآن الكريم في سورة التكوير:
…
وإذا النجوم انكدرت.. ومعنى انكدرت انقضت، ومعنى الانكدار الإسراع والانقضاض، ولا ثلاثي له..) . وهو فيما مثّل به سديد الرأي. فليس كل ما أتى من هذه الزنة كان بالضرورة مطاوعاً لمتعد ثلاثي، بل ليس لكل متعد ثلاثي ذي علاج مطاوع من (انفعل) . فأنت تقول داسه ولا تقول انداس وتقول ضربه وجرحه وذبحه ولا تقول انضرب وانجرح وانذبح. ولا بد للقياس من ضابط جامع مانع كما يقولون.
ولا خلاف في أن (افتعل) سماعي. فليس لك أن تصوغ (افتعل) من فعل مجرد وتأتي به على ما يوافق هذا الفعل تعدية أو لزوماً. ما لم يرد به سماع.
ومن ثم لحنوا قول القائل (احتار) وتسمح به بعض المحدثين كالشيخ مصطفى الغلايني. وأبيناه نحن حين لم يسنده سماع أو يسعفه قياس معروف.
واجتهد الشيخ ظاهر في (المنهاج السوي) في وضع قياس لـ (افتعل) .
وكان مما اشترطه ضابطاً أن يكون الفعل مما يتعمده العاقل عقلاً أو إرادة. فإذا صح هذا ألزمك القياس أن تمنع (افتعل) من (حار وخشي) ، ومن (سقم ومرض) . إذ لا يتأتى أن يتعمد العاقل فعل هذه الأفعال عادة.
ومما ينبغي استدراكه على هذا الضابط التنبيه على أن القصد بمعنى الفعل دلالته الأصلية، لا ما تشعب عنها أو تفرع عليها. فإذا سأل سائل كيف امتنع (افتعل) من (مرض) وجاء من (عل) فقيل (اعتل) ، أجيب بأن لـ (عل) دلالات ثلاثاً هي التكرار والمتابعة، ثم العائق يشغل صاحبه عن أمره، ثم الضعف والمرض، كما فصَّله صاحب المقاييس. ولكن أي هذه الدلالات الجذر والأرومة؟
جعل الجوهري في صحاحه التكرار والمتابعة الأصل، فقال:(التعليل سقي بعد سقي وجني الثمرة مرة بعد أخرى، وعل الضارب المضروب إذا تابع عليه الضرب) . وأردف: (والعلة المرض وحدث يشغل صاحبه عن وجهه، كأن تلك العلة صارت شغلاً ثانياً منعه عن شغله الأول) وتابع قوله: (واعتل عليه بعد إذا اعتاقه عن أمر) . فإذا اطمأن الأمر على هذا، وكان المعنى الأول هو التكرار والمتابعة، لم يتوجه على الضابط الذي أتى به الشيخ عيب أو نقد.
وأورد الشيخ لاشتقاق (افتعل) ضوابط أخرى، لا يتسع المقام لبسطها. ولا مناص من استقصاء البحث فيها ليقطع في المسألة بيقين حازم.
***
غير أن ابن فارس لم يجز في هذا قياساً لم يقسه العرب، ولا قولاً لم يقولوه. وفي ذلك حجر للغة عن التوالد والاتساع، وقصر لخطاها عن المضي في المؤاتاة والنماء. فإذا كان علماء الصرف قد آثروا الاستمساك بالوضع رعاية للأصل وتعلقاً به وحياطة له، كما فعل ابن فارس، فقد يتفق أن يقتاد الاستقرار إلى قياس لم ينبه عليه الأئمة كما أسلفنا، أو يتفق أن تتجاوز ملكة الأدباء المتمكنين هذا الحد بعفو الخاطر كلما ألجأت إلى ذلك حاجة في الاستعمال أو دفعت إليه قوة الأداء فتصطفي اللفظ الذي يقع موقعه المرتجى ويصير إلى مستقره المطمئن. والقريحة المطبوعة إنما تتدفق بمثله قصد إحكام الأداء ولو خالف الأصل المعروف. فانظر إلى ما قاله أبو محمد عبد الله بن سنان الخفاجي المتوفى (466) هـ. في كتابه (سر الفصاحة/ 62) :(وقد يكون التأليف المختار في اللفظة على جهة الاشتقاق، فيحسن أيضاً كل ذلك) . وأوضح مذهبه فقال: (ومثال لذلك مما يختار قول أبي القاسم الحسين بن علي المغربي في بعض رسائله: ورعوا هشيماً تأنفت روضه، فإن: تأنفت، كلمة لا خفاء بحسنها لوقوعها الموقع الذي ذكرته) . وليس في اللغة -تأنفت- ولعل المغربي قد تصور: تنزه، فأتى بتأنف، طبعاً وسلاسة. قال ابن القوطية في كتابه (الأفعال) :(وأنفت من الشيء أنفاً وأنفة: غضبت، وأيضاً تنزهت عنه) .
وأورد الخفاجي مثالاً آخر فقال: (وكذلك قول أبي الطيب المتنبي:
إذا سارت الأحداج فوق نباته تفاوح مسك الغانيات ورنده
فإن تفاوح كلمة في غاية الحسن. وقد قيل إن أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال، وإن وزير كافور الأخشيدي سمع شاعراً نظمها بعد أبي الطيب، فقال:(أخذتموها) .
وهكذا قبل (تأنف) من المغربي، واستحسن (تفاوح) من المتنبي، ولو لم يسمعا أو يكونا على قياس معروف، لوقوع اللفظين موقعهما المختار في الأداء، وأنهما لم يخرجا في الاشتقاق عما ألف وقالته العرب من أمثالهما في أفعال أخرى.
أفليس يتأتى أن يدخل هذان في قياس لو ابتغينا لصيغتيهما مثل هذا القياس، ببحث وتلطف واستقراء. هذا و (الحدج) بالكسر الحمل ومركب من مراكب النساء أيضاً وهو مثل المحفة، والجمع حدوج، وأحداج كما جاء في بيت المتنبي.
2-
اشتقاق الأفعال من أسماء الأعيان
جرى العرب على اشتقاق الأفعال من أسماء الأعيان. فإذا كان اسم العين ثلاثياً مجرداً نزع منه فعل ثلاثي يشاكله في الأحرف وترتيبها، كقولهم: رأسه إذا ضرب رأسه، وكبده ودمغه وأذنه وأنفه ونابه ومعده، إذا أصاب ما سمي بهذه الأحرف من الأعضاء، ومن ذلك رآه إذا أصاب رئته.
وقالوا: حصاه إذا ضربه بالحصى، ودبره تلا دبره، وحنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها. وأسد الرجل إذا أشبه الأسد، وتاس الجدي إذا صار كالتيس.
وقالوا عسله إذا جعل فيه العسل فعلاً أو مجازاً- ففي الحديث: (إذا أراد الله بعبد خيراً عسله) . وقال صاحب النهاية: (العْسُل طيبُ الثناء مأخوذ من العَسَل) .
وفي النهاية أيضاً: (يقال بدرَ وَجْهُ الغلامُ إذا تمَّ واستدارَ تشبيهاً بالبدر في تمامه وكماله) .
وقال الراغب في مفرداته: (.. والأقرب عندي أن يجعل البدر أصلاً في الباب، ثم تعتبر معانيه التي تظهر منه، فيقال تارة بدر كذا أي طلع طلوع البدر) .
وإذا كان الاسم رباعياً مجرداً نزع منه فعل رباعي يماثله في الأحرف وترتيبها أيضاً كقولهم: ثعلب الرجل إذا راغ، وطحلب الماء إذا علاه الطحلب.
وإذا كان الاسم ثلاثياً أو رباعياً مزيداً حذفوا منه الزائد حتى يعود ثلاثياً أو رباعياً في مثل أحرفه الأصلية وترتيبها. فقد قيل من الثلاثي المزيد: حنأ لحيته إذا خضبها بالحناء. لكنهم قالوا: حنأها بالتشديد أيضاً. وقالوا أركت الإبل تأرك إذا لزمت الأراك. والأراك: شجر من الحمض يستاك بقضبانه، الواحدة أراكة.
وقيل من الرباعي المزيد: قرطس الرامي إذا أصاب القرطاس أي الغرض.
على أنهم قالوا اشتقاقاً من الثلاثي أيضاً: تأسد واستأسد (من الأسد) وفي الاشتقاق لابن دريد: (تليث الرجل إذا تشبه بالليث في جرأته وإقدامه) . وفلان يتمزن على قومه أي يتفضل عليهم، من المزنة وهي السحابة.
وقالوا تأبل إذا اتخذ الإبل، وتأرض إذا لصق بالأرض، وتخشب صار كالخشب، وهكذا تحجر من الحجر واحتجر من الحجرة.
وكثر استفعل من الثلاثي كاستفيل واستنوق واستتيس واستنسر واستذأب واستجمل.
وكثر أفعل إذا دخل في الشيء كأهضب وأصحر وأسهل وأبحر وأبرّ وأغرب وأعرق.. وقد اقتاد المجمع القاهري هذه الكثرة من اشتقاق الأفعال من أسماء الأعيان إلى إجازة هذا الاشتقاق حين الحاجة. فجاء في مجلته (1/ 236) : (اشتق العرب كثيراً من أسماء الأعيان، والمجمع يجيز هذا الاشتقاق للضرورة في العلوم) .
3-
الاشتقاق من اسم العين المشتق
قالوا: (المنكب) وزان مجلس لمجمع رأس العضد والكتف، فجاء اسماً للعضو، ثم اشتق منه فقيل (تنكب القوس) إذا ألقاها على منكبه، كما قيل (تأبط الشيء) إذا جعله تحت إبطه. فـ (تنكب) بهذا المعنى دل على المنكب ولم يشتق من لفظه، وهو حين انطوى على هذه الدلالة غاير معناه في الأصل، فتنكبه يعني تجنبه.
وكما قيل من (المنكب) تنكب فدل على معناه ولم يشتق من لفظه، قيل منه (نكب) أيضاً، فجرى هذا المجرى. ففي المصباح:(ونكب على القوم نكابة بالكسر فهو منكب مثل مجلس، وهو عون العريف، مأخوذ من منكب الشخص، وهو مجتمع رأس العضد والكتف لأنه يعتمد عليه. وتنكبت القوس ألقيتها على المنكب) . وجاء (المنطقة) لما يشد على الوسط. واشتق منه فعل فقيل (نطقته فتنطق) كما في الصحاح. كما اشتق منه (تمنطق وانتطق) كما في اللسان. وهكذا اشتق (نطق وتنطق وانتطق) من المنطقة فناسب الفعل معنى المشتق ولم يوافقه لفظاً. واشتق منها (تمنطق) فناسب المشتق معنى ولفظاً.
وجاء (تمدرع وتمندل) من المدرعة والمنديل على تمفعل، كما جاء (تدرع وتندل) على تفعل. فاعتد الصحاح (تمفعل) شاذاً و (تفعل) هو القياس.
فدل هذا على أن الأصل في الاشتقاق من اسم العين المشتق إسقاط الزيادة. وأيد ذلك الرضي في شرح الشافية فاعتد (تمدرع وتمسكن وتمندل وتمغفر) قليل الاستعمال وأنه على توهم أصالة الميم فقال (والمشهور الفصيح تدرع وتسكن وتندل وتغفر) .
ولكن لِم آثر الأئمة (تدرع) على (تمدرع) ؟ أقول قد ورد السماع بإثبات الزيادة وهو الأصل، كما جاء بحذفها، وهو خلافه. فآثروا الأصل والقياس.
ولكن قد تكون ثمة دواع لغوية توجب مخالفة الأصل والأخذ بالاستعمال، لأن العمل بخاصة اللغة أولى من الانقياد لمنطق القياس. ومن ثم قال الباحثون في علم اللغة الحديث: قد يوجب الاستعمال في اللسان ما لا يسعه الوضع. وقد انتحى أئمة النحو هذا السمت ولم يغادروه حين قالوا (السماع يبطل القياس) .
وهو ما قاله ابن جني في (المنصف) . فإذا أجازوهما آثروا السماع على القياس.
وعندي أن قولك (تمدرع) بإثبات الزيادة أدنى إلى التعلق بالمعنى والحياطة له من قولك (تدرع) بحذفها، ولو ورد السماع بهما وكان الثاني هو الأصل.
ذلك أن الاستعمال يقتضي الأخذ بالزيادة ما دامت ذات دلالة، كلما أوقع إغفالها اللبس.
فانظر إلى ما قاله ابن جني في الخصائص (1/236.ط-1913) : (وعليه جاء تمسكن وتمدرع وتمنطق وتمندل وتمخرق، وتمسلم أي صار مسلماً.. فتحملوا ما فيه تبقية الزائد مع الأصل في حال الاشتقاق، كل ذلك توفية للمعنى وحراسة له ودلالة عليه) . وأردف: (ألا تراهم إذا قالوا تدرع وتسكن، وإن كانت أقوى اللغتين عند أصحابنا، فقد عرضوا أنفسهم لئلا يعرف غرضهم، أمن الدرع والسكن، أم من المدرعة والمسكنة، وكذلك بقية الباب) . وإلا فهل نؤثر (تسلم) على (تمسلم) إذا أضحى (مسلماً) ؟
وإذا صح أنهم حرصوا على إبقاء الزيادة رعاية للمعنى وتبييناً له ودرأ للبس كما ذهب إليه ابن جني، فقد بطل القول بأنهم فعلوه على توهم أصالة الميم كما ذكره الرضي وانتحاه كثير من الأئمة.
4-
اشتقاق الفعل من المصدر
تصور الأئمة اشتقاق الأفعال من المصادر كما قدروا انتزاعها من أسماء الأعيان، كما أوضحناه. لكنه إذا أمكن أن يرد الفعل إلى اسم العين والمصدر ردوه إلى المصدر. قال ابن جني في الخصائص (2/433) :(اشتقاق العرب من الجواهر قليل جداً والأكثر من المصدر) . وقال السيوطي في المزهر (1/203-ط. المكتبة الأزهرية) : (والتاسع كون الأصل جوهراً والآخر عرضاً لا يصلح للمصدرية ولا شأنه أن يشتق منه، فإن الرد إلى الجوهر حينئذ أولى لأنه الأسبق، فإن كان مصدراً تعين الرد إليه لأن اشتقاق العرب من الجوهر قليل جداً والأكثر من المصادر) .
ولكن هل يعني ذهاب الأئمة إلى أن العربية قد اشتقت أفعالها من المصادر ما وجدت لأنها الأصل لديهم، والاشتقاق منها كثير، وإلا فمن الجواهر والاشتقاق منها قليل، أقول هل يعني ذلك أنهم قالوا بسبق المصادر، وهي أسماء للمعاني، للجواهر وهي أسماء للأعيان، في الوضع؟
هذا ما بدا للدكتور صبحي الصالح في كتابه (دراسات في فقه اللغة) ، فبيَّن أنه ليس من الطبيعي سبق أسماء المعاني أسماء الأعيان، كما ذهب إليه الأئمة، وأن الصواب هو العكس، وقال:(إن البداهة تقضي بوجود أسماء الأعيان المشاهدة المرئية التي تناولتها الحواس قبل أسماء المعاني. لذلك كانت الأعيان، هي أصل الاشتقاق دون المصادر.. كيف وقد امتلأت معاجمنا وكتبنا اللغوية بما لا يحصى من الجواهر التي تفرعت عنها الصفات والأحوال والمصادر والأفعال/199) .
والذي عندي أن الأئمة لم يقولوا بسبق أسماء المعاني أسماء الأعيان.
فإذا كانوا قد آثروا المصادر على الجواهر في كونها أصلاً للاشتقاق، فلم يسبق إلى اعتقادهم أن المصادر قد وضعت قبل أسماء الجواهر البتة. وهذا حالهم حين قالوا الاسم أسبق من الفعل إذا لم يَدر بخلدهم أو يقع في ظنهم أن الأسماء تقدمت الأفعال في الزمان. فانظر إلى ما قاله ابن جني (1/ 432. ط-1913) :(فكيف يجوز أن يقصد سبق الاسم للفعل في الزمان، وقد رأيت الاسم مشتقاً منه، كاشتقاق قائم من قام، ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه) .
وأردف (وأيضاً فالمصدر مشتق من الجوهر كالنبات من النبت، وكالاستحجار من الحجر، وكلاهما اسم) .
فاتضح بذلك أن المصدر، وهو أصل اشتقاق الفعل عند البصريين، قد اشتق نفسه من الجوهر فالذي أراده الأئمة وعنوه إذاً أنه إذا قام للفعل مصدر وجوهر كان اشتقاقه من المصدر (فالمصدر ألصق به من حيث بناؤه وما يعتريه ويعترضه من الأتباع إبدالاً وقلباً وإعلالاً) . ولا يمنع هذا أن يكون اشتقاق المصدر نفسه من الجوهر في الأصل. ومن عمد من الأئمة إلى التعويل على (الزمان) وكان ملحظه (نشوئياً) نبه على أن (الجواهر) وهي أسماء الأعيان عند المتأخرين، هي المتقدمة، وأن (الأفعال وما يتصل بها من أسماء المعاني) هي المتأخرة. ذلك ما ذهب إليه السكاكي في كتابه (مفتاح العلوم) ، حين جعل الكلم المستقرأة نوعين. الأول ما (يشهد التأمل بتقدّمه في باب الاعتبار والثاني ما جاء (بخلاف ذلك) وهو المتخلف. وقد سلك في المتقدم (الجوامد) وهي الجواهر، وسلك في المتخلف (الأفعال وما يتصل بها من الأسماء) أسماء المعاني والصفات.
وليس هذا حسب بل أكد أن أكثر ما يتصل بالأفعال من الأسماء، إنما هو فرع على الأفعال. وأردف (إلا المصدر عند أصحابنا البصريين رحمهم الله/14) فإنهم يعتدّون الفعل فرعاً عليه. لكنه لم يشايعهم فيما انتحوه وقرروه كما سنراه.
***
والأئمة في صلة الفعل بالمصدر من حيث الاشتقاق، على خلاف. فقد أكد الكوفيون أن الفعل أصل والمصدر فرع. وقطع البصريون بخلاف ذلك لكنهم اختلفوا في الصفات فمنهم من رد اشتقاقها إلى الفعل، كما فعل ابن جني، ومنهم من عزاها إلى المصدر، شأنه شأن الفعل. قال سيبويه في الكتاب (1/1) : (وأما الفعل فأمثلته أخذت من لفظ أحداث الأسماء
…
والأحداث نحو الضرب والقتل والحمد..) وأيد ابن الأنباري في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف) مذهب البصريين.
وقال بقول البصريين كثير من المحدثين منهم الأستاذ عبد الله أمين، على ما جاء في مجلة مجمع اللغة العربية القاهري (1/ 382) ، وقد استند في ذلك إلى أن ابن الأنباري صاحب الأنصاف قد ساق في المسألة آراء كل من الجانبين ووازن بينها فلم يدع مقالاً لقائل، وقد خلص إلى الأخذ بمقالة البصريين.
ومنهم الدكتور صبحي الصالح فاستشهد بما جاء في (أصول النحو) للأستاذ سعيد الأفغاني. قال الأفغاني: (المصدر يدل على حدث، والفعل يدل على حدث وزمن، والأسماء المشتقة تدل على حدث وزمن وزيادة ثالثة كالدلالة على الفاعل والمفعول) .
أقول إن ما حكاه الأفغاني هو مقالة البصريين. ذلك أنهم بنوا رأيهم على أن الفرع ما كان فيه الأصل مع زيادة هي غرض الاشتقاق. فالمصدر يدل على الحدث مطلقاً فهو الأصل، وشأن الأصل أن يكون مطلقاً، والفرع أن يقيد كما قيد الفعل بالزمن المعين. أما الوصف فهو يدل على الحدث والموصوف، فإن ما فيه ما في المصدر من الحدث وزيادة كالدلالة على الفاعل.. فهو فرع عليه أيضاً، وليس فرعاً على الفعل، إذ ليس فيه ما في الفعل من الزمن المعين.
وذهب بعض البصريين أن في الوصف ما في الفعل من الزمن، على كل حال، فهو فرع عليه. فالفعل قد نزع من المصدر والوصف قد نزع من الفعل، وعليه ابن جني.
أقول قد عرّف البصريون (الفرع) المشتق بالنسبة إلى (الأصل) المشتق منه فقالوا: (الفرع ما كان فيه ما في الأصل وزيادة) . فإذا سلمنا صحة هذا التعريف فلا بد من تصديق ما بني عليه. لكن هذا التعريف تعريف اسمي قصد به تحديد مفهوم اعتباري، وليس هو تعريفاً حقيقياً بالضرورة. قال الأستاذ الشيخ حسين والي عضو المجمع القاهري في الجزء الثاني من مجلة المجمع (رجحوا ما رأى أهل البصرة.. بحجة أن شأن الفرع أن يكون فيه ما في الأصل وزيادة، وهي أقوى ما عندهم من الحجج، مع أنه لا يقوم برهان يؤيدها..) وقال: (وأما من ناحية العمل فالفعل أصل بالاتفاق) .
وقد جاء في حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك أن من الأئمة من ناقش قول البصريين في تضمن الفرع الزيادة على الأصل فقالوا: لا برهان يقتضي ذلك (4/250) .
على أننا إذا اعتددنا (الأصل) هو ما سبق تصوره وقيامه في الذهن، فقد عرّفناه تعريفاً أليق بالواقع اللغوي وأكثر مواءمة له. وإذا كان المدرك الحسّي أسبق إلى الذهن من المدرك المعنوي، وأجناس الأعيان أسبق من أجناس المعاني ومنها المصادر، فالمصدر الدال على العموم والجنس والمطلق لا يتصور قبل تصور ما يتناوله من الفعل والمشتقات تناولاً واحداً. وما صح أنه الأسبق هو الأصل.
وقد أشار الكوفيون على نحو من هذا فقالوا إن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل. والفعل وضع له: فعل يفعل، فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلاً للمصدر.
وبحث الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العلمي العراقي المسألة في كتابه (دراسات في فلسفة اللغة والنحو والصرف) . وقد أخذ بمذهب الكوفيين.
واستدل على صحة المذهب بثلاثة عشر دليلاً، ثم قال:(هذه ثلاثة عشر دليلاً تنتقض دعوى سيبويه أن الفعل صادر عن المصدر، وهي أدلة نحن اهتدينا إليها، ولم يقف عليها الكوفيون وغيرهم) .
أقول قد أصاب الدكتور جواد في الأخذ بطريقة الكوفيين والجري على منهاجهم، لكن جل ما جاء به من الأدلة، على سداده واستقامته، اصطلاحي اعتباري. وأظهر هذه الأدلة أن الفعل تجسيد والمصدر تجريد، كما أوضحناه.
والمجسد أسبق إلى الذهن من المجرد. وإني لأستسرف، على كل حال، أن يكون الدكتور جواد قد تفرد بما ساق من الأدلة فأتى بما لم تفتح العين على مثله ونزع إلى ما لم يسبق إلى شيء منه. فقد ذهب في أول أدلته مثلاً إلى أنك تكتب ثم تسمي فعلك الكتابة) وقال الكوفيون أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل. وقال في أحدها أن اشتقاق الوصف من الفعل دون المصدر فكيف يكون هذا هو الأصل. والذي قاله جماعة من البصريين:(الوصف من الفعل، والفعل من المصدر) .
واعتد السكاكي صاحب المفتاح المصدر فرعاً على الفعل كما قال الكوفيون. واعتل لذلك بأن المصدر يتبع الفعل في أعلاله وتصحيحه. ودليل السكاكي هذا في اعتداد الفعل أصلاً في الأعلال، اعتباري أيضاً.
هذا وقد أشار العلماء إلى أن اللغات السامية قد اعتمدت الفعل أصلاً للاشتقاق. قال الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اللغات السامية/ 14) : (وقد رأى بعض علماء اللغة العربية أن المصدر الاسمي هو الأصل الذي يشتق منه أصل كل الكلمات والصيغ. لكن هذا الرأي خطأ في رأينا. لأنه يجعل الاشتقاق مخالفاً لأصله في جميع أخواتها السامية) . وأردف: (وقد تسرب هذا الرأي إلى هؤلاء العلماء من الفرس الذين بحثوا في اللغة العربية بعقليتهم الآرية. والأصل في الاشتقاق عند الآريين أن يكون من مصدر اسمي) . ولم يرتضِ الأفغاني هذا الرأي فقال: (ثم ذكر هذا المستشرق اليهودي أن هذه نظريته الخاصة، إذ لم يشر إليها أحد من علماء الإفرنج. ومع رغبته في أن يعم بنظريته هذه، اللغة العربية ولغته العبرية، يجدر بالمتأمل الوقوف وعدم القطع، ما لم يقم عليه البرهان الساطع، فما أكثر الظواهر التي خالفت فيها العربية أخواتها الساميات) .
والجواب عن ذلك أنه لا بد للغات عامة أن تتغاير. لكن الأصل فيما يُعزى منها إلى فصيلة واحدة، أن يقع التغاير فيها على الأشكال والفروع كالأصوات والمفردات دون القواعد والأصول كالبنية اللغوية وأصول الاشتقاق. فالذي ذكروه أن العربية خالفت بعض أخواتها في أداة التعريف وعلامة الجمع، كما أورده الدكتور عبد الواحد وافي وفي كتابه فقه اللغة.
والأستاذ محمد عطية الأبراشي في كتابه الآداب السامية. ولكنها لم تخالفها في البنية اللغوية وطريقة الاشتقاق كاعتمادها على الحروف الصامتة دون الصوتية، وكون عدد الحروف الأصلية في الكلم ثلاثة، وأن الأصل في بنيتها أو الجذر واحد لا يتعدد كما يتعدد في اللغات الآرية.
فإذا اطمأنَّ هذا واستقرّ، صحّ أن مغايرة العربية لأخواتها إنما هي في الأشكال والفروع لا في القواعد الأولى والأصول. واعتماد اللغات السامية في اشتقاقها على الفعل، من هذه القواعد والأصول.
5-
ما يعترض رد المادة اللغوية إلى أصل
واحد أو يحول دون الاهتداء إليه
لا شك في أن الباب في الاشتقاق أن تردَّ مفردات المادة اللغوية إلى أصل. هذا ما يكشف عن سر اللغة وخصوصها. ولكن قد يحول دون ذلك إلى حائل يغدو به الأصل منيع الدرك عزيز المنال. وهذا ابن فارس فقد عمد، حين حقق مذهبه في الاشتقاق في معجمه الفذ (مقاييس اللغة) ، إلى رد المادة إلى أصل حيناً وإلى أصلين أو أكثر، هذا إذا اتفق له الاهتداء إلى أصل. وليس هذا عجباً فقد يتعدد الأصل أو يتعذر فيكون في التماسه والتلطف له تكلف وعسر، وقد يضل الرائد في طلبه فيطمع في غير مطمع. وأفصح ابن جني عن هذا في الخصائص (1/525) إذ كشف أن الاشتقاق لا ينقاد في كل مادة، صغيراً كان أم كبيراً. قال أبو الفتح: -واعلم أنا لا ندعي أن هذا مستمر في جميع اللغة، كما لا ندعي للاشتقاق الأصغر- أي الصغير وهو ما نحن فيه- أنه في جميع اللغة) .
فقد عرض ابن فارس لـ (رطل) فلم يكشف عما يكون أصله فقال (الراء والطاء واللام كالذي قبله –أي ليس بشيء. إلا أنهم يقولون للشيء يكال به:
رطل. ويقولون غلام رطل: شاب، ورطّل شعره كسره وثناه) . وتكلف ابن جني في الخصائص لهذا فقال (1/513. ط-1913) : (ومثل الأول قولهم غلام رِطل وجارية رِطلة للينها. وهو من قولهم رطّل شعره إذا أطاله فاسترخى.
ومنه عندي الرطل الذي يوزن به. وذلك أن الغرض من الأوزان أن تميل أبداً إلى أن يعادلها الموزون بها، ولهذا قيل مثاقيل فهي من الثقل. فالشيء إذا ثقل استرسل وأرجحن فكان ضد الطائش الخفيف) : وأرجحن الشيء مال وثقل.
***
وقد جاء عن العرب قولهم (كذب عليك الأمر) إذا وجب عليك فعله فأغريت به. قال ابن السكيت في (إصلاح المنطق/ 322) : (وتقول للرجل إذا أمرته بالشيء وأغريته به كذب عليك كذا وكذا، أي عليك به. وهي كلمة نادرة جاءت على غير القياس. قال عمر بن الخطاب، رحمه الله، يا أيها الناس كذب عليكم الحج، أي عليكم بالحج) . قال ابن السكيت هذا ولم يشأ أن يحمل معنى (كذب) في المثل، على معنى (الكذب) بتأويل. كذلك فعل الجوهري في الصحاح حين قال:(وكذب قد يكون بمعنى وجب) ثم حكى ما جاء به ابن السكيت.
وفعل الإمام التبريزي في تهذيبه ما فعل الجوهري، كما جاء في المزهر (1/226) .
وذهب صاحب المفردات مذهباً آخر فحاول أن يجعل (كذب) في المثل مجازاً من (كذب) بمعناه المعروف فقال (كذب لبن الناقة إذا ظن أنه يدوم مدة فلم يدم) أي ذهب عليك أو كاد يفوتك فبادر. ومن هذا كذب عليك إذا وجب فإنه (كقوله قد فات الحج أي كاد يفوت) فبادر. فتكلف في تأويله.
وقد أطنب الزمخشري في الفائق وأطال في تخريجه، كما يقول ابن الأثير في النهاية. فذهب إلى أنه من قول العرب (كذبته نفسه) إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون، وذلك مما يرغب الرجل في الأمور.. ثم جعل تقدير المثل جملتين (كذب الحج) و (عليك الحج) فحذف ما حذف وأصبح المثل (كذب الحج) . وفي هذا من التكلف ما هو باد جلي. وحكى الشيخ طاهر الجزائري يف حاشية خطبة الكافي (23) تأويلاً آخر لم يبرأ من تعسر، فاستقر بهذا تعذر تأويل المثل وفك مشكله على وجه ينجلي به الشك فيخلص إلى ما يشبه اليقين.
***
وقد يذهب الأمر إلى ما وراء ذلك فيدل اللفظ على معنى لا سبيل إلى الكشف عن أصل اشتقاقه والاهتداء إليه بقاعدة أو استنباط. قال ابن جني في الخصائص (1/257. ط –1913)(واحتج أبو بكر عليه- أي علي أبي اسحاق- بأنه يؤمن أن هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها، ولم ندر قاعدتها. ومثل له بقولهم: رفع عقيرته إذا رفع صوته. قال أبو بكر: فلو ذهبنا نشتق لقولهم –عقر- من معنى الصوت لبعد الأمر جداً. وإنما هو أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها موضع الأخرى، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته. فقال الناس: رفع عقيرته، أي رجله المعقورة. وقال أبو بكر: فقال أبو اسحاق فلست أدفع هذا) . وقال الجوهري في الصحاح (.. فقيل بعد لكل رافع صوته قد رفع عقيرته) . وقال الزمخشري في أساسه: (ورفع عقيرته: صوَّت) .
***
وقد يكون قد اعترى اللفظ في استحكام بنيته صنوف من التقليب والإبدال بعدت به عن هيكله
…
أو يكون قد نسب إلى لهجة من اللهجات العربية (أو التي اعتدت عربية) غير لغة قريش التي سادت ما أسموه باللهجات الشمالية فكانت اللسان المبين الذي نزل به القرآن.
قال أبو بكر بن دريد في (الاشتقاق /533) حول أسماء قبائل ذي الكلاع:
(وقد عرَّفتك آنفاً أن هذه الأسماء الحميرية لا نقف لها على اشتقاق، لأنها لغة قد بعدت وقدم العهد بمن كان يعرفها) . وقال ابن جني في الخصائص (1/395. ط-1913) : (وبعد فلسنا نشك في بعد لغة حمير ونحوها عن لغة بني نزار. فقد يمكن أن يقع شيء من تلك اللغة في لغتهم فيساء الظن فيه بمن سمع منه. وإنما هو منقول من تلك اللغة. ودخلت يوماً على أبي علي رحمه الله.. قال ما تقول فيما جاء عنهم من حوْريت. وخضنا معاً فلم نحل بطائل منه، فقال هو من لغة اليمن ومخالف للغة بني نزار، فلا ينكر أن يجيء مخالفاً لأمثلتهم) وحوريت اسم موضع. ولم نَحْلَ بطائل أي لم نظفر.
وقد عنى الأئمة بلغة حمير لغات اليمن جميعاً: وعاش الحميريون أقرب العصور إلى الإسلام فكانوا أعرف شعوب الجنوب لديهم. ومن الثابت الذي لا مرية فيه، والعلماء منه على يقين جازم، أن القرابة بين لغات اليمن القديمة ولغات الحبشة السامية قوية لتشعب هذه من تلك. أما قرابة ما بين كل من هاتين واللغة العربية أي الحجازية، فعلى شيء من البعد.
ونعني بلغات اليمن الجنوبية لهجة المعينيين والسبئيين والحضرميين والحميريين،.
وهي لهجات جاهلية تكلم بها أهلها قبل الإسلام، واندثر بعضها قبل ظهوره، وبقيت منها بقية لا تزال آثارها حتى اليوم، كما فصله الدكتور جواد في كتابه (تاريخ العرب-3/ 13) .
وقد يُنمى اللفظ إلى النبطية، وكان النبط عرباً، وذهب إلى هذا حديثاً المستشرق الألماني (نولدكه) في كتابه (اللغات السامية) . وكانت لغتهم أدنى إلى عربية الحجاز من اللهجات العربية الجنوبية.
وقد يكون اللفظ منسوباً إلى لغة من اللغات السامية كالسريانية أو العبرية.
ويصح القول بذلك إذا كان اللفظ غريباً في مادته العربية، متمكناً في اللغة الأخرى. أو كان اشتقاقه في هذه أظهر وأبين منه في العربية، أو ورد نص تاريخي ثابت بانتمائه إليها، أو كان في زنة عربية نادرة وهو في السامية المعنية شائع متعالم معروف.
ولا ريب في أن القطع بانتماء اللفظ في الأصل إلى لغة سامية غير العربية عسير إذ ليس بين لغات الفصيلة الواحدة لغات بنات وأخرى أمهات. فقد يصدق القول بأنه من (السامي المشترك) أي مما جاء على صور متقاربة لفظاً ومعنى في لغات سامية متعددة، ومنها العربية.
وقد يكون اللفظ معزواً إلى لغة أعجمية غير سامية كالفارسية أو اليونانية أو سواهما. ومن ثم كان لا بد من الحكم على انتماء اللفظ قبل التماس اشتقاقه ورده إلى أرومته.
فـ (الإبريق) من ذلك مثلاً موضع إشكال. قال الشيخ طاهر الجزائري في كتابه (التقريب/ 26) : (وانظر إلى لفظ الإبريق مثلاً فإنه إن كان اسماً للسيف البراق يكون له اشتقاق لأنه يكون عربياً محضاً، واشتقاقه من البريق، والهمزة فيه زائدة، ووزنه إفعيل. وإن كان اسماً للإناء المعروف لا يكون له اشتقاق لأنه يكون معرّباً، والهمزة فيه أصلية، ووزنه فِعليل) .
ونحو من ذلك (الحب) بضم الحاء وتشديد الباء فهو عربي وفارسي. وهو فارسي الأصل إذا كان للخابية أي الوعاء الذي يجعل فيه الماء، فقد جاء في المعرب للجواليقي (120) أن (الحب) فارسي معرب. وقال أبو حاتم: أصله الخنب، فقلبوا الخاء حاء وحذفوا النون، فقالوا: حب. قال الشيخ طاهر الجزائري في (التقريب/ 85) : (فأبدلت فيه الخاء حاء والنون باء، وأدغمت فيما بعدها) .
وجاء في المعجم الذهبي: (خُنبه: جرة كبيرة لوضع الغلال) . وهو معجم فارسي.
6-
الحكم في أصل اللفظ أعربي هو أم دخيل
حاول الأئمة أن يتعرفوا عجمة الأصل بضوابط لفظية فذكروا من ذلك خروج الكلمة عن أوزان العربية، واجتماع حرفين لا يجتمعان في كلمة عربية كالطاء والجيم، والجيم والصاد، والصاد والطاء، والسين والذال، والسين والزاي
…
ومما اتخذوه ضابطاً للأعجمي أن يكون اللفظ رباعياً أو خماسياً ولا يتفق فيه شيء من حروف الذلاقة وهي الباء والراء والفاء واللام والميم والنون.. وهي أخف الحروف. وعلى ما فصلوه في هذا الباب وبسطوا القول فيه فقد اختلفوا فيما نسبوه إلى العجمة أو عزوه إلى لغة بعينها فأصابوا وجه الرأي حيناً وأبصروه، وأخطأهم التوفيق والتبس عليهم في البحث وجه الصواب، حيناً آخر.
ذلك لقصور مقاييسهم التي اتخذوها عياراً من جهة وتعسر الحكم في تنقل الألفاظ بين اللغات، وخفاء أعلامه في دورانها بين لغات من فصيلة واحدة من جهة أخرى. فقد كان لا بد من تمكنهم من اللغات التي عزوا إليها، وإطلاعهم على أصولها اللغوية وتتبع هجراتها التاريخية واشتباك الصلات بين شعوبها وتمازج ثقافاتهم، وأثر ذلك كله في ثراء لغاتهم وتناميها.
قال الأستاذ عبد المجيد عابدين في كتابه (بين الحبشة والعرب/ 98) :
(فقد أورد السيوطي في الإتقان باباً ذكر فيه ما ورد في القرآن من الألفاظ بغير لغة العرب. ذكر منها قرابة ستة وعشرين لفظاً أرجعها إلى اللغة الحبشية ولكن أكثرها لم يثبت اشتقاقه منها) .
ولا يخفى أنه كان بين السامية الحبشية والعربية الجنوبية وشائج شابكة، ولا ننس أن السكان الساميين في الحبشة إنما كانوا من عرب الجنوب. وأول لغة تكلم بها هؤلاء اللغة الجعزية لغة قبائل الأجاعز. وهم أقدم من سكن الحبشة من أهل اليمن. ثم غلب على هذه، اللغة الأمهرية. وقد سميت بلادهم بالحبشة. و (حبشت) اسم قبيلة من قبائل عرب الجنوب وافت البلاد وسكنت أجزاءها الشمالية.
وهذه أمثلة على طريقة الحكم على عجمة اللفظ: فقد ذهب الجواليقي في المعرب (30) إلى أن (الأبيل) ومعناه الراهب، فارسي معرب. لكنه لم يذكر أصله أو يستدل على عجمته بدليل. وحكاه عنه الخفاجي في الشفاء ولم يزد على ما قاله الجواليقي. ويتجه لي أن اللفظ عربي. فابن دريد ذكره في الجمهرة ولم يشر إلى أنه دخيل (1/324)، وكذلك فعل صاحب المقاييس والجوهري في صحاحه. أما الزمخشري فقد ذكر أصله حين قال: (وقد أبل أبالة فهو أبيل، كما تقول فقه فقاهة فهو فقيه، وكذلك فعل صاحب النهاية.
وأكد الأستاذ عبد الوهاب عزام في مقدمة كتاب المعرب أن (الأبيل) ليس فارسياً بل سرياني، ومعناه في الأصل: الحزين، ويقال للراهب. قلت قد رأيت أن الأبيل عربي وقد اتضح اشتقاقه، وليس كل لفظ عربي عرف في السريانية، دخيلاً في العربية.
فالأبيل إذاً من الألفاظ السامية المشتركة فهو عربي مشترك، وليس فارسياً. فقد أتى النيسابوري بالأبيل في كتابه (السامي/44) على أنه عربي وترجمه إلى الفارسية بلفظ لا يمت إليه. على أن ثمة (الأيبل) على (فيعُل) وهو بمعناه، وأراه أعجمياً. إذ ليس في كلام العرب (فيعُل) كما قال سيبويه في الكتاب (2/325) إلا معتلاً. وهو إذا لم يكن على (فيعل) فهو على (أفْعُل) .
ولا يأتي هذا إلا جمعاً (2/316) .
فاستبان بهذا أن (الأبيل) عربي، وأن (الأيبل) هو المعرب، وقد يكون قد عرب من السريانية.
ومثال آخر مشهور هو (الزور) وله في العربية معنيان:
الأول هو القوة، وهو معناه بالفارسية أيضاً. وقد جاء بضم الزاي وفتحها.
والثاني هو الكذب وما يعبد من دون الله تعالى كالصنم.
فالزور بمعناه الثاني عربي محض، وليس الزور في الفارسية بهذا المعنى.
أما الزور بمعناه الأول فقد قيل أنه معرب من الفارسية، وهو فيها بهذا المعنى، لكنه جاء بضمة مشوبة بفتحة فآلت بالتعريب إلى ضمة خالصة. وقد أوجز صاحب التقريب القول في هذه المسألة فقال: (الزور بالضم إن كان بمعنى الكذب كان عربياَ محضاً، وإن كان بمعنى القوة كان معرباً من زور بضمة مشوبة بفتحة.
والإبدال هنا لا مندوحة عنه) والإبدال المقصود إبدال حركة الزاي.
7-
اشتقاق العربي من المعرّب:
ومما يتصل بالاشتقاق عامة، الاشتقاق من المعرب. فقد قضوا ألا يشتق لعربي من أعجمي كما لا يشتق لأعجمي من عربي. فقد جاء في المزهر (1/168-ط. المكتبة الأزهرية) :(سئل بعض العلماء عما عربته العرب من اللغات واستعملته في كلامها، هل يعطى حكم كلامها فيشتق ويشتق منه؟) . وقد أجاب بما نصه (.. فقول السائل يشتق جوابه المنع. ومحال أن يشتق العجمي من العربي أو العربي منه. لأن اللغات لا تشتق الواحدة منها من الأخرى، مواضعة كانت في الأصل أو إلهاماً. وإنما يشتق في اللغة الواحدة بعضها من بعض. لأن الاشتقاق نتاج وتوليد. ومحال أن تنتج النوق إلا حوراناً وتلد المرأة إلا إنساناً) .
فمنع أن يكون اشتقاق بين عربي وعجمي، لكنه أردف مستدركاً فقال:(وقول السائل ويشتق منه، فقد لعمري يجرى على هذا الضرب، المجرى مجرى العربي، كثير من الأحكام الجارية على العربي من تصرف فيه، واشتقاق منه) . فأوضح أن مما عربته العرب ما أخضع لأحكام العربية فتصرف فيه واشتق منه. وهذا موضع أوجبه الاستعمال واقتضاه عرف اللغات. ولا بدع إذا تجاوزت لغتان من فصيلتين أن تقبس كل من الأخرى فتسيغ ما نقل إليها وتؤلفه فتخضعه لأصولها وتدخله في بنيتها فيغيب في نسجها. ويحتفظ كل من اللغتين بقواعد فصيلته الأصلية. وإلا فهل يعقل أن يستملح لفظ أجنبي ويقتنص فيدخل في مفردات لغة فيسلك في بنيتها، ثم يجمد فلا يصقله الاستعمال ويجريه المجرى الذي يقتضيه اشتقاقاً وتصريفاً.
وقد ذهب ابن جني في الخصائص هذا المذهب فقال (1/362-ط- 1913) : (ويؤكد هذا عندك أن ما أعرب من أجناس الأعجمية، قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها. ألا تراهم يصرفون في العلمَ نحو آجرٍ وابريسمٍ وفرندٍ وفيروزجٍ، وجميع ما تدخله لام التعريف، وذلك أنه لما دخلته اللام في نحو الديباج والفرند.. أشبه أصول كلام العرب، أعني النكرات، فجرى في الصرف ومنعه مجراها، قال أبو علي: ويؤكد ذلك أن العرب اشتقت من الأعجمي النكرة، كما اشتق من أصول كلامها. قال رؤبة:
هل يُنجيني حلف سختيت أو فضة أو ذهب كبريت
قال فسختيت من السخت، كزحليل من الزحل..) . فاشتق من (السخت) وهو معرب، (سختيت) كما اشتق من (الزحل) وهو عربي (زحليل) .
وقد جرى الجواليقي في المعرب على هذا المنهاج ويمم سمته فقال إن المعربات أعجمية باعتبار الأصل، عربية باعتبار الحال. وقد أخذ بهذا ابن الجوزي.
ويتبين بالاستقراء أن من المعرب ما قل تصرف العرب فيه، ومنه ما كثر واتسع. من ذلك (الورد) لما يشم. فهو اسم فارسي معرب. وقد اشتقوا منه (ورد، وتورد، وورّد) . و (الدينار) فقد جاء في المعرب أنه فارسي معرب.
وصححه الأستاذ عبد الوهاب عزام في مقدمة الكتاب فجعله رومي الأصل. وهو على حق. وذكر صاحب التقريب (وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن كلاً من الدرهم والدينار معرب من اليونانية) والرومية تعني اليونانية. وقد قالوا منه (ثوب مدنر، ودنر فلان إذا كثرت دنانيره) . و (الديوان) فارسي معرب، وقالوا منه (دوّنه) إذا جعله في الكتاب وأثبته وصنفه. و (الأربون) كالعربون وزناً ومعنى، وهما معربان. وقد قالوا (أربنه) إذا أعطاه العربون. وكذلك (عربنه وعربنت في الشيء وأعربت فيه) إذا أسلفت.
وإذا ضاق التصرف في (الورد والدينار والديوان والأربون والعربون) فقد اتسع في (لجام) فهو معرب أصله فارسي. وقد عومل معاملة العربي فجمع على (لجم) ككتب، وصغّر على (لجيِّم) ككتيّب. واشتق منه فعل فقيل (ألجمه) ومصدر فقيل (الجام) .
وجاء في المزهر (1/169) : (وتكاد هذه الكلمة، أعني لجاماً، لتمكنها في الاستعمال وتصرفها فيه تقضي بأنها موضوعة عربية لا معربة ولا منقولة، لولا ما قضوا به من أنها معربة) . أقول بل جمع على (ألجمةٍ ولجم) وقيل (ملجم) لموضع اللجام، كما قيل تلجمت الحائض إذا شدت اللجام في وسطها.
على أني أكاد أجزم أن (اللجام) عربي لا دخيل، إذ كيف يمكن أن يذهب الظن إلى استعارة العربي اسم هذه الأداة من الفرس، وهي من ألزم أدواتهم فيما عانوا من حياة البداوة. وإذا عدت إلى اتساع العرب في تصرفهم به قوي في نفسك، واستقر في حسبانك، أنه أصيل، فهو المتبادر من الأمر والغالب في الظن.
وإذا كان الأئمة قد قالوا بعجمته لثبوت الشبه بينه وبين مرادفه الفارسي، فليس كل لفظ عربي اتفق له في الفارسية أو سواها، شبيه (في لفظه ومعناه)، هو دخيلاً في العربية. وما أحكم قول الأستاذ عبد الوهاب عزام حول ذلك في مقدمة كتاب (المعرب) حين قال:(فرب لفظ فارسي يظن أصلاً للفظ عربي وهو في الحقيقة لفظ سامي تسرب إلى الفارسية في العصور القديمة. وقد بعد بالباحثين عن الصواب ظنهم أن العربية لم تهب اللغات الأخرى من ألفاظهم إلا في العصور الإسلامية) . وذهب أحمد فارس الشدياق إلى عربية (اللجام) فرده إلى (لجم الثوب) إذا خاطه. أقول يقوي هذا في النفس أن (اللجام) وزان (فعال) ، وهو من أوزان أسماء الآلة، كالنظام والرباط والوكاء والنقاب والقناع والصمام والقياد والشداد والأزار والقرام، والوثاق والجماع، كما جاء في شرح الحماسة للمرزوقي (1115) .
وذهب محقق العرب إلى الشك في عجمة (اللجام) أيضاً كدأبه في التعقيب على المعربات، ولا ننس أن شيوع اللفظ واتساع تصرفه قد أصبحا ذريعة للارتياب في عجمته والحكم بنفيها، في أظهر الوجهين وأسلمهما من القدح، كما أخذ به الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث) ، على حين استدلوا بغربة اللفظ وضيق تصرفه على عجمته، في أمثل القولين وأوجههما وأدناهما من الصواب.
وفي الألفاظ الفارسية لأدي شر أن (اللجام) تعريب (لكام) بكاف فارسية، وأنه كذلك بالآرامية والحبشية. وقال:(وعندي أن اللفظة سامية الأصل وإنما الفارسية أخذتها من الآرامية) . ويعزز هذا ما ذهبنا إليه وانتحيناه. ويؤسس عليه أن (اللجام) مشترك سامي في العربية والآرامية والحبشية.
وقد اتسع التصرف في (الجزاف) مثلثة الجم، من قولك (هذا بيع جزاف) .
وقد أجمع الأئمة أنه معرب (كزاف) الفارسي. وقد قالوا منه جازف، وحامل جزوف إذا تجاوزت حد ولادتها، واجتزفه اشتراه جزافاً، وتجزف فيه تنفذ وتصرف، والجزف أخذ الشيء جزافاً
…
قلت ما أحسب (الجزاف) إلا عربياً أيضاً. فانظر إلى ما جاء في الألفاظ الفارسية لأدشير: (الجزاف والجزافة الحدس والتخمين في البيع والشراء، تعريب كزاف، بكاف فارسية. وأصل معناه الأخذ بكثرة من غير تقدير. وقال فيه العرب: جزف وجازف وتجزف واجتزف إلى غير ذلك. ومنه الآرامي
…
) .
أو ليس مجيء اللفظ في العربية والآرامية دليلاً على ساميته وأنه عربي أصيل.