الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النحاة ومصادر الأفعال
ما عُرّف به المصدر: المصدر هو اللفظ الدال على حدث الفعل المجرد من الزمان، متضمناً أحرف فعله، فهو يدل على الحدث من حيث تعلقه بفاعله ولكن على وجه العموم والإبهام، غير مقيد بزمن. والفعل كذلك موضوع للحدث ولمن يقوم به ذلك الحدث على وجه الإبهام، كما يقول صاحب الكليات أبو البقاء الكفوي، ولكن في زمن معين. فالحدث والزمان كلاهما يفهمان من لفظ الفعل لأن كل واحد منهما جزء مدلوله بخلاف المصدر فإن المفهوم من لفظه الحدث وحده.
قال ابن جني في الخصائص (1/25- ط/1913) : "وهذا طريق المصدر لما كان جنساً لفعله، ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام، وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام، وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام. فالكلام إذاً إنما هو جنس للجمل التوام مفردها ومثناها ومجموعها، كما أن القيام جنس للقومات مفردها ومثناها ومجموعها. فنظير القومة الواحدة من القيام، الجملة الواحدة من الكلام، وهذا جلي".
المصدر واسم المصدر:
فالمصدر من حيث المعنى، يدل على الحدث من حيث تعلقه بفاعله. قال الرضي في شرح الكافية:"الحدث إن اعتبر صدوره عن الفاعل ووقوعه على المفعول سُمي مصدراً، وإذا لم يعتبر من هذه الحيثية سمي اسم مصدر". وقال ابن القيم في بدائع الفنون: "وأما الفرق المعنوي بين المصدر واسم المصدر فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله. فإذا قلت تكليم وتسليم وتعليم ونحو ذلك، دل على الحدث ومن قام به، فيدل التسليم على السلام والمسلِّم، وكذلك التكليم والتعليم. وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده فالسلام والكلام لا يدل لفظهما على مسلّم ومكلّم بخلاف التسليم والتكليم، فاسم المصدر جردوه لمجرد الدلالة على الحدث". وهكذا فإن المصدر يدل على معنى الفعل من حيث تعلقه بفاعل أو مفعول، واسم المصدر يدل على الفعل دون النظر إلى تعلقه بفاعل أو مفعول، قال صاحب الكليات (823) :"وقيل المصدر موضوع للحدث من حيث اعتبار تعلقه بالمنسوب إليه على وجه الإبهام. ولهذا يقتضي الفاعل والمفعول، ويحتاج إلى تعيينهما في استعماله. واسم المصدر موضوع لنفس الحدث من حيث هو، بلا اعتبار تعلقه بالمنسوب إليه في الموضوع له، وإن كان له تعلق في الواقع، ولذلك لا يقتضي الفاعل والمفعول، ولا يحتاج إلى تعيينهما".
خصوص اسم المصدر:
والمصدر من حيث اللفظ، هو الجاري على فعله متضمناً أحرف هذا الفعل. قال ابن القيم في (بدائع الفنون) :"إن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه كالأفعال من أفعل والتفعيل من فعَّل والانفعال من انفعل والتفعل من تفعل. وأما السلام والكلام فليسا بجاريين على فعليهما، ولو جريا عليه لقيل تسليم وتكليم". ويدل هذا على أن المصدر ما ساوت حروفه حروف فعله لفظاً كجرى جرياً، أو تقديراً كجادل جدالاً فقد خلا الجدال من ألف جادل لفظاً لا تقديراً، أو معوضاً مما حذف كوعد عدة فقد خلا (عدة) من واو (وعد) ولكن عوّض منها التاء. أو زادت حروفه كقاتل مقاتلة وأعلم إعلاماً.
أما اسم المصدر من حيث لفظه فهو ما نقصت أحرفه عن أحرف فعله كالصلح اسم مصدر للمصالحة، والوضوء اسم مصدر للتوضؤ، فهما خاليان لفظاً وتقديراً من بعض ما في فعليهما. ويكون (المصدر الميمي) بهذا الاعتبار مصدراً، كقال مقالاً وأكرم مُكرماً، خلافاً لمن اعتدّه من أسماء المصادر. قال ابن هشام في شرح شذور الذهب:"اسم المصدر وهو يطلق على ثلاثة أمور: أحدها ما يعمل اتفاقاً، وهو ما بدئ بميم زائدة لغير المفاعلة كالمضرب والمقتل وذلك لأنه مصدر في الحقيقة، ويسمى المصدر الميمي، وإنما سموه أحياناً اسم مصدر تجوزاً.. والثاني ما لا يعمل اتفاقاً وهو ما كان من أسماء الأحداث علماً كسبحان علَماً للستبيح وفجارِ وحمادِ علَمين للفجرة والمحمدة. والثالث ما اختلف في أعماله، وهو ما كان اسماً لغير الحدث فاستعمل له كالكلام فإنه في الأصل اسم للملفوظ به من الكلمات ثم نقل إلى معنى التكليم والثواب فإنه في الأصل اسم لما يُثاب به العمال ثم نقل إلى معنى الإثابة، وهذا النوع ذهب الكوفيون والبغداديون إلى جواز إعماله.."
ولاسم المصدر خصوص آخر ذكره ابن هشام في شرح شذور الذهب، كما تقدم، ذلك أنه اسم للحدث من جهة واسم للعين من جهة أخرى، ولا يعنينا أيهما الأصل اسم الحدث أو اسم العين. فقد ذكر الرضي في شرح الكافية أن اسم المصدر هو اسم العين المنقول إلى الحدث إذ قال: "اسم المصدر هو اسم العين يستعمل بمعنى المصدر كقوله:
أكفراً بعد ردّ الموت عني
وبعد عطائك المائة الرتاعا
أي إعطائك.. والعطاء في الأصل لما يعطى". فذهب الرضي بهذا إلى أنه ليس ثمة اسم مصدر دال على الحدث إلا واسم العين أصل له. وأكد صاحب المصباح أن (الكلام) ، اسماً للعين، هو الأصل، وأنه، اسماً للحدث، هو الفرع، فقال: "كلَّمته تكليماً والاسم الكلام.. والكلام في أصل اللغة عبارة عن أصوات متتابعة لمعنى مفهوم. وفي اصطلاح النحاة هو اسم لما تركب من مسند ومسند إليه، وليس هو فعل المتكلم. وربما حصل ذلك نحو: عجبت من كلامك زيداً". فالكلام الذي هو فعل التكليم هو الفرع.
وإذا كان ما ذهب إليه صاحب المصباح من أن (الكلام) في أصل اللغة، هو أصوات متتابعة لمعنى مفهوم، يعني أن اسم المصدر الذي هو موضوع (الحدث) هو الفرع، والدال على (العين) هو الأصل، فإن في طبيعة نشوء اللغة وتوالد معانيها، ما يؤيد هذا المذهب ويدعمه، ولو أن مدار البحث لدى النحاة حيناً أن اسم المصدر في الأصل هو اسما لجنس المراد به الحدث.
أقول على ذلك جرى الأوائل من النحاة. فقد أشار ابن جني (ت 392هـ) في الخصائص (1/23) إلى أن الكلام هو موضوع الحدث حين قال: "وذلك أن الكلام اسم من كلَّم بمنزلة السلام من سلَّم، وهما بمعنى التكليم والتسليم، وهما المصدران الجاريان على كلَّم وسلَّم". فما دام الكلام كالتكليم من حيث معناه فإنه اسم للحدث. كما أنه أشار إلى أنه اسم عين حين قال (1/30) : "إن الكلام إنما هو في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برؤوسها المستغنية عن غيرها وهي التي يسميها، أهل هذه الصناعة، الجمل على اختلاف تركيبها". وهكذا فعل أبو محمد عبد الله الخفاجي (ت 466هـ) في سر الفصاحة. فقد نبه أن (الكلام) اسم للحدث حين قال (24) : "الكلام اسم عام يقع على القليل والكثير، وذكر السيرافي أنه مصدر، والصحيح أنه اسم مصدر، والمصدر التكليم، قال الله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً (. فما دام الكلام اسماً للتكليم فهو اسم للحدث، كما نبه على أنه اسم عين حين قال (41) : "الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه".
الأسماء المصدرية:
ويخرج عن المصدر واسمه أسماء مصدرية أشبهت المصادر بجريانها على أحرف الفعل لفظاً، وخالفت المصادر وأسماءها بخلوها من الحدث معنى. وذكروا من ذلك الطهور بفتح أوله وهو اسم لما يُتطهر به، والوضوء بالفتح للماء يُتوضأ به، وكذلك الوقود والولوع والقبول بالفتح، وبالضم المصدر. وقال آخرون الطهور والوضوء بالفتح اسمان ومصدران كالوقود والولوع والقبول بالفتح، فإذا كانا بالضم فهما مصدران البتة (الكامل للمبرد- 2/77، وأمالي المرتضى- 1/397، والنهاية لابن الأثير- مادة طهر، والمصباح- مادة وضؤ) .
وجاء (الغسل) بالضم لما يُغسل به، وهو بالفتح مصدر، قال آخرون الغسل بالضم اسم ومصدر، فإذا كان بالفتح فهو المصدر البتة (الصحاح والأفعال لابن القوطية والمصباح) .
وجاء (النقل) بالفتح مصدراً، وجاء بالفتح والكسر والضم لما يتنقل به على الشراب (الصحاح، وليس لابن خالويه، وبحر العوّام لابن الحنبلي الحلبي) .
فهذه أسماء مصدرية ساوت المصادر في حروفها ولفظها أو ساوتها في حروفها وقاربتها في لفظها، وقد أريد بها اسم الذات ولم يُرد بها الحدث. قال السيوطي في الأشباه والنظائر (2/185) :"وقد يقولون مصدر واسم مصدر في الشيئين المتقاربين لفظاً، أحدهما للفعل والآخر للآلة التي يستعمل بها الفعل، كالطهور بالضم والطهور بالفتح والأكل بالفتح والأكل بالضم. فالطهور بالضم المصدر والطهور بالفتح اسم لما يتطهر به. والأكل بالفتح المصدر والأكل بالضم لما يؤكل".
وقد يراد بالاسم المصدري هذا اسم المعنى دون اسم الذات فيكون اسماً للحال التي تحصل بالمصدر. فقد جاء في الفروق لإسماعيل الحقي (132/133) : "الفرق بين المصدر والحاصل بالمصدر أن المصدر نفس الإيقاع الذي هو أمر معنوي، والحاصل بالمصدر هو الأثر الذي يحصل بالإيقاع".
وقال صاحب الجاسوس على القاموس (195) : "والفرق بين المصدر والاسم أن المصدر يتضمن معنى الفعل فينصب مثله، والاسم هو الحال التي حصلت من الفعل. مثال ذلك الغَسل بالفتح والغُسل بالضم. تقول قد بالغت في غسلك هذا الثوب فتنصب الثوب. فإذا أردت الحال قلت: لست أرى في هذا الثوب غسلاً بالضم، هذا ما ظهر لي". أي أن الغسل بالفتح هو المصدر الدال على حدث الفعل، والغسل بالضم هو الحال أو الأثر الحاصل من حدث الفعل. قال ابن القوطية في الأفعال:"غسَل الشيء غسلاً بالفتح، والغُسل بالضم ما يُغتسل به، وهو أيضاً تمام الطهارة". فقد جاء الغُسل بالضم، وهو اسم مصدري، بمعنيين فهو ما يُغتسل به أي الماء فهو اسم للذات، وهو تمام الطهارة فهو اسم للمعنى. وقد لمح ذلك صاحب المصباح حين قال:"وقيل الغُسل بالضم هو الماء الذي يُتطهر به، وقال ابن القوطية: والغسل بالضم تمام الطهارة"، لكنه أردف "وهو اسم من الاغتسال". أقول الغسل بالضم هو اسم للغسل بالفتح أي اسم للحال الحاصل به، فهو اسم للمعنى، وقوله "اسم من الاغتسال" قد يوهم أنه اسم للحدث.
ومن الأسماء المصدرية المعبرة عن أسماء المعاني الخالية من الحدث (الطُّهر) بالضم قال صاحب المصباح "طهر الشيء من بابي قتل وقرُب والاسم بالضم.. ومنه قيل للحالة المناقضة للحيض طهراً بالضم والجمع أطهار، مثل قفل وأقفال" فالطهرُ بالضم اسم معنى خال من الحدث كالغُسل بالضم، وقد جمع الغُسل كذلك على أغسال كما في المصباح.
ومنها (الولاية) فالغالب أنه بالكسر للاسم دون الحدث، وبالفتح للحدث والمصدر. ومنهم من جعل الكسر والفتح لغتين في المصدر (الصحاح والإصلاح لابن السكيت ومفردات الراغب والمصباح والكليات) .
وثمة (النصرة) بالضم فقد جاءت اسماً، والمصدر (النصر) بالفتح. قال الجوهري في صحاحه "نصره الله على عدوه ينصره نصراً والاسم النُصرة بالضم" وكذلك قال ابن سيده في محكمه والفيومي في مصباحه، ومنهم من جعل (النصرة) مصدراً كالنصر. ففي مفردات الراغب:"ونصرة الله للعبد ظاهرة ونصرة العبد لله هو نصرته لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده واعتناق أحكامه واجتناب نهيه" فجاء به مصدراً. وكذلك فعل الزمخشري، ففي أساس البلاغة:"نصره الله تعالى على عدوه ومن عدوه نصراً ونصرة". وأكد ذلك صاحب التاج فقال: "نصر المظلوم نصراً ونصوراً ونصرة بالضم، وهذه عن الزمخشري". وجاء فيه: "ونصره منه نصراً ونصرة بالضم نجَّاه وخلَّصه. وفي البصائر: ونصرة الله لنا ظاهرة ونصرتنا لله هو نصرتنا لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده وامتثال أوامره واجتناب نواهيه". أقول ما دام (النصرة) بالضم قد حلَّت في كلامهم محل (النصر) فهي اسم للحدث على كل حال، سواء سميت مصدراً أو اسماً. وعندي أن (النصرة) مصدر لانطوائه على الحدث دون الأسماء المصدرية الخالية منها. ويؤكد مصدريته جريانه على فعله وكونه اسماً للحدث دون سواه، وأسماء المصدر غير جارية على أفعالها، وهي للحدث تارة ولغيره أخرى. و (فُعلة) بالضم ليس غريباً في مصادر الثلاثي، ومن ذلك (البُغية) بالضم، ففي القاموس "بغيته أبغيه بُغاء وبُغية بضم الباء فيهما وبغية بالكسر
…
والبغية بالضم والكسر ما ابتغى". وكذلك (القدرة) بالضم ففي الأفعال لابن القوطية: "وقدر الله على كل شيء قدرة ملكه وقهره، وقدر الرزق ضيَّقه.."، وفيه أيضاً: "وكدُر الماء والشيء كدراً وكُدرة وكدورة، وكلف الرجل كلَفاً وكُلفة.."، والغالب في (فُعلة) بالضم أنه مصدر الفعل اللازم، أو اسم بمعنى المفعول كنخبة ونكتة.
جمع المصادر
تقدم أن المصدر جنس لفعله، كما ذكر ابن جني، ذلك أنه يدل على الحدث من حيث تعلقه بفاعله على وجه العموم والإبهام. وما دام الأمر كذلك فالمصدر لا يثنى ولا يجمع لا لأنه يتناول الجنس وحسب، والجنس يدل على القليل والكثير، بل لأنه يدل على الحدث المتعلق بفاعله من حيث هو حدث أيضاً. قال أبو البقاء في الكليات (325) :"وعدم تثنيته وجمعه- أي المصدر- لا لكونه اسم جنس، بل لكونه دالاً على الماهية من حيث هي هي، وإلا كان الأصل في اسم الجنس لا يثنى ولا يجمع، ولم يقل به أحد". أقول ما أظن الأمر كما ذكر أبو البقاء، ذلك أن الأصل في اسم الجنس ألا يجمع لأنه يدل على القليل والكثير، فإذا جمع فقد عُدل به عن دلالته. فالتمر اسم جنس، فإذا جمعته على (تمور) فقد دللت بالتمر الذي هو واحد التمور، على نوع من أنواعه، وبهذا يكون قد جُذب من الجنس ودلالته العامة وشموله، إلى النوع ودلالته المحددة وخصوصه. وانظر إلى قول أبي البقاء نفسه، في الكليات:"اسم الجنس، وإن كان يتناول آحاد مدلوله، إلا أنه لا يدل على اختلاف فاعله ولا على تنوع مدلوله، ولهذا جمع العمل في قوله تعالى: الأخسرين أعمالاً، ليدل على الأمرين" فدلَّ بذلك على أن الذي جمع هو النوع والصنف لا الجنس الجامع. قال صاحب المصباح: "لأن الجنس لا يجمع في الحقيقة، وإنما تجمع أصنافه، والجمع يكون في الأعيان كالزيدين، وفي أسماء الأجناس إذا اختلفت أنواعها كالأرطاب والأعناب والألبان واللحوم، وفي المعاني الحقيقية المختلفة كالعلوم والظنون".
وبحث الشيخ بدر الدين محمد بن عبد الله بن مالك وهو ولد ابن مالك صاحب الألفية، الأسماء الدالة على الجمع فذكر منها الجمع واسم الجمع واسم الجنس. قال الشيخ بدر الدين شارح الألفية:"الاسم الدال على أكثر من اثنين بشهادة التأمل، إما أن يكون موضوعاً للآحاد المجتمعة دالاً عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف، وإما أن يكون موضوعاً لمجموع الآحاد دالاً عليها دلالة المفرد على جملة أجزاء مسمَّاة، وإما أن يكون موضوعاً للحقيقة ملغى فيه اعتبار الفردية، إلا أن الواحد ينتفي بنفيه، فالموضوع للآحاد المجتمعة هو الجمع، سواء كان له من لفظه واحد مستعمل كرجال وأسود أو لم يكن كأبابيل. والموضوع لمجموع الآحاد هو اسم الجمع سواء كان له واحد من لفظه كركب وصحب، أو لم يكن كقوم ورهط، والموضوع للحقيقة بالمعنى المذكور هو اسم الجنس، وهو غالباً فيما يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة، وعكسه كمأة وجبأة" أي أن الكمأة واحدها كمء على غير قياس، وكذلك الجبأة واحدها الجبء.
وقصارى ما هناك أن المصدر إذا حُدّ بما ذكرنا فلا سبيل إلى جمعه سماعاً أو قياساً، فإذا عُدل به عن دلالته الجنسية أو حدثه المتعلق بفاعله جاز جمعه في الأصل قياساً على الأسماء عامة. وكل ما جمعوه من المصادر وتأولوا لجمعه بالسماع واختلاف الأنواع قد خرجوا به عن جنسه أو حدثه العام الصادر عن العامل، فزال بذلك المانع من جمعه وعاد إليه حكم الأسماء في جمعها.
فكلام الأئمة مثلاً على أن (العقول والألباب والعلوم والظنون) مصادر قد جمعت لاختلاف أنواعها، وهي على التحقيق مصادر عُدل بها إلى الاسمية فلم يبق لها من مصدريتها إلا اللفظ، ذلك أنها فقدت دلالة المصدر من حيث كونه جنساً لفعله وحدثه المتعلق بالفاعل. قال صاحب المصباح:"ثم أطلق العقل الذي هو مصدر على الحجا واللب" فغدا بهذا القوة المتهيئة لقبول العلم، كما قال صاحب المفردات، أو هو قوة للنفس الناطقة، أو هو ما يعقل به حقائق الأشياء، كما في التعريفات للجرجاني.
وهكذا (اللب) فهو مصدر في الأصل، تقول:(لبَّ بمعنى عقل) ثم سُلخ عنه، حين جُمع على الألباب، دلالته المصدرية. قال صاحب المفردات:"اللب العقل الخالص من الشوائب"، وكذا (الحلم) بالكسر فهو مصدر بمعنى الأناة وقد أنزل منزلة العقل المجرد من مصدريته فجمع على أحلام وحلوم.
أما (الظن) فقد حكى ابن منظور عن صاحب المحكم أنه يكون اسماً ومصدراً، وأن الذي جمع هو الاسم. وهكذا (العلم) إذا قصد به المعرفة المتصلة بموضوع، كقولك (علم النحو وعلم الفقه) فهو يجمع على علوم، وهو لا يدل على الحدث. قال أبو البقاء في الكليات:"واستعمال العلم بمعنى المعلوم شائع وواقع في الأحاديث كقول (وتعلموا العلم، فإن العلم هنا بمعنى المعلوم". قال الشيخ مصطفى الغلاييني في (جامع دروس اللغة العربية- 2/414) : "فالمصدر الذي يراد به الاسم لا حدوث الفعل كما تقول: العلم نور، فإن لم يرد به الحدث فلا يعمل".
ولما كان الأمر على ما بيناه فليس شيء مما جمع وأصله المصدر باقياً على مصدريته. فكل ما جمع فقد جذب إلى الاسمية وخُرج به عن المصدرية. وإذا كان صاحب المصباح قد حكى عن الجرجاني قوله: "ولا يجمع المبهم إلا إذا أريد به الفرق بين النوع والجنس، وأغلب ما يكون فيما ينجذب إلى الاسمية نحو العلم والظن، ولا يطرد"، فإن الغلبة التي أشير إليها هي قياس لا ينكسر. فإذا قال الأئمة فيما جمع أنه مصدر فقد أرادوا أن ينبهوا على أصله الذي كان له قبل الجمع. وهكذا تصرّف الأئمة في جمع ما كان أصله المصدر ثم دعت حاجة التعبير إلى إنزاله منزلة الاسم فجمعوه.
ما جمعه الأئمة من المصادر حملاً على الاسمية:
جرى الأئمة على جمع مصادر ما فوق الثلاثي فأكثروا منه، وترددوا في جمع مصادر الثلاثي فأقلوا منه. فهم جمعوا استعمالاً واختراعاً واحتمالاً واعتقاداً واحتجاجاً واعتماداً وانتقالاً وإلزاماً واختياراً وابتداء. على استعمالات واختراعات واحتمالات واعتقادات.. كل ذلك بالألف والتاء، كما جمعوا تقريراً وتحديداً وتدقيقاً وتصحيفاً وتنبيهاً وتنزيلاً وتأويلاً وترخيصاً وتعريفاً فقالوا تقريرات وتحديدات وتدقيقات وتصحيفات وتنبيهات
…
بالألف والتاء، وجمعوا إلحاقاً وأشكالاً وإعراباً وإلزاماً على الحاقات واشكالات وإعرابات وإلزامات بالألف والتاء أيضاً، كما جمعوا تصرفاً على تصرفات
…
لكنهم جمعوا تركيباً وتقليباً وتعليلاً وتكبيراً وتصغيراً وتصنيفاً وتأليفاً وتفعيلاً وتقسيماً وتعبيراً وتصريفاً وتفسيراً على تراكيب وتقاليب وتعاليل وتكابير وتصاغير وتصانيف
…
جمع تكسير، شاع ذلك في مؤلفات الأئمة شيوعاً متعالماً، كالإمام ابن جني في خصائصه والقاضي الجرجاني في وساطته والخفاجي في سر الفصاحة والزمخشري في كشافه وأساسه، بل الجاحظ في بعض رسائله، فقد جاء في (التربيع والتدوير/ 217) :"وعادته كطبيعته، وآخره كأوله، تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد".
وهكذا ابن هشام في مغنيه والسيوطي ومن حكى عنهم في مزهره والأشباه والنظائر وفي همعه، والصبان في حاشيته على الأشموني، والأشموني في شرح الألفية..
وإذا كان الأئمة قد استساغوا الجمع في مصادر ما فوق الثلاثي فجمعوه جمع سلامة، فقد ضمنوا بجمع السلامة صيغة مفردة، كما ضمنوا في جمع منتهى الجموع تعرّف واحده، وإذا كانوا قد ترددوا في جمع مصادر الثلاثي فذلك لاختلاف صيغ جمعه، على وفرة ما نقل عن العرب من جمع مصادر الثلاثي. قال ابن منظور في (مادة نزل) :"وقول ابن جني المضاف والمضاف إليه عندهم وفي كثير من تنزيلاتهم كالاسم الواحد.. إنما جمع تنزيلاً هنا لأنه أراد للمضاف والمضاف إليه تنزيلات في وجوه كثيرة، منزلة الاسم الواحد، فكنَّى بالتنزيلات عن الوجوه المختلفة. ألا ترى أن المصدر لا وجه له إلا تشعب الأنواع وكثرتها. مع أن ابن جني تسمَّح بهذا تسمَّح تحضر وتحذق، فأما على مذهب العرب، فلا وجه له، إلا ما قلناه". أقول إن ما فعله ابن جني وتسمَّح به قد جرى عليه العرب أنفسهم، ولا به لمثل هذا التسمح ما دام تسمَّح تحضر وتحذق أن يتسع نطاقه وتمتد آفاقه مع الزمن ما مسَّت إليه حاجة التعبير.
قال الجوهري: "والثني واحد أثناء الشيء أي تضاعيفه.. والثني من الوادي والجبل منعطفه وثني الجبل ما ثنيت" فحكى عن العرب جمع (تضعيف) وهو مصدر، على (تضاعيف) وجاء هذا الجمع في خطبة (المفصَّل) للزمخشري فقال:"ثم إنهم في تضاعيف ذلك يحمدون فضلها" قال ابن يعيش شارح المفصَّل: "التضاعيف جمع تضعيف هو جمع ضعَّف إذا أردت مثله أو أكثر" وأردف: "وإنما جمع، والمصدر لا يثنى ولا يجمع، لأنه أراد أنواعاً من التضعيف مختلفة، كما يقال العلوم والأشغال".
القياس في جمع المصدر:
فالصحيح على هذا أن يؤخذ بقياس جمع المصدر كلما مسَّت إليه حاجة الاستعمال بإنزال المصدر منزلة الاسم، جرياً على ما استنه العرب واقتاسوا به. وقد قال بذلك بعض الأئمة.
قال صاحب الهمع (1/186) : "أما النوع ففيه قولان: أحدهما أنه يثنى ويجمع وعليه ابن مالك قياساً على ما سَمع منه كالعقول والألباب والحلوم".
وإذا كان بعض الأئمة قد استدركوا فقالوا: "ولا يطرد، ألا تراهم لم يقولوا في قتل وسلب ونهب قتول وسلوب ونهوب" كما جاء في المصباح (مادة قصد) حكاية عن الإمام الجرجاني، وأضاف:"وقال غيره لا يجمع الوعد لأنه مصدر فدلّ كلامهم على أن جمع المصدر موقوف على السماع".أقول: إذا كان بعض الأئمة قد قال بهذا، فالجواب عنه أن العرب لو احتاجوا إلى إنزال (القتل) أو (النهب) أو (السلب) منزلة الاسم لجمعوه على قتول ونهوب وسلوب، كما تجمع الأسماء. قال ابن يعيش في شرح المفصل:".. فعلى هذا لو سميت بالمصدر نحو ضرب وقتل لكان القياس في جمعه أن تقول في القلة ضرب وأضرب وقتل وأقتل قياساً على أفلس وأكعب وألعب".
وقال صاحب الهمع في (جمع المصدر- 2/183) : "ولم تطرد فيه قاعدة بحيث تكون مقيسة في جمع ذلك الاسم: فإنه إذ ذاك يجمع جمع ما كان أشبه به، مثال الأول أن يسمَّى بضرب فإنه لم يجمع وهو مصدر فجمع مسمّى به على أفعل في القلة فتقول أضرب ككلب وأكلب، وضروب في الكثرة ككعب وكعوب". وقد جاء نحو ذلك في شرح الكافية للرضى (2/187) فمثل له بالضروب والقتول. وهكذا جمع (قتلا) حين أنزل منزلة الاسم على (قتول) . فتبين بذلك أنك إذا سميت بالمصدر جمعته على ما يجمع به نظيره من الأسماء. ونظائر ما ذكرناه، مما جمعته العرب من المصادر حملاً على الاسمية أو جمع قياساً على ما جمعوه، لا يحصيه عد.
ما جمعه ابن جني من مصادر الفعل الثلاثي وما جمعه الزمخشري:
فهذا ابن جني فقد جمع من المصادر (قصداً) على (قصود) حين انتوى فيه الاسمية، ففي الخصائص (1/427) :"من غير اعتقاد لعلله ولا لقصد من قصوده". وقد تكرر منه هذا الجمع. وجمع (الحذف) على حذوف في قوله (1/88) : "ألا ترى ما في القرآن وفصيح الكلام من كثرة الحذوف، فحذف المضاف وحذف الموصوف". وجمع (الحمل) على حمول، فقال (1/222) : "ثم قالوا كساوان تشبيهاً له بعلباوان. ثم قالوا قرّاوان حملاً على كساوان
…
وسبب هذه الحمول والإضافات والإلحاقات كثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها". وهكذا جمع (الفصل) خلاف (الوصل) على فصول (1/334) ، و (الوصل) على وصول (اللسان- وصل) و (الغلط) على أغلاط (1/48) ، كما جمعه على (غلاط) (اللسان- غلط) . بل جمع (الوعد) وهو مصدر في الأصل، على وعود. فقد أنكر الجوهري جمع (الوعد) لمصدريته وكذا فعل الأزهري، والأصبهاني في المفردات. واستدرك ابن منظور في اللسان فقال: "والوعد من المصادر المجموعة، حكاه ابن جني"، أقول لعل الأظهر أنه جمعه ابن جني كما هو شأنه فيما أنزله منزلة الأسماء من المصادر.
وجمع الزمخشري (الوَجَل) بفتحتين، وهو الخوف، على (أوجال) كما في أساس البلاغة.
جمع البيان والبلاغ والعذاب:
وتردد المجمعيون في مجمع اللغة العربية بالقاهرة في جمع (البيان) فقال الأستاذ عباس حسن عضو المجمع القاهري: "المصدر من حيث هو مصدر لا يجوز جمعه إلا إذا كان عددياً أو نوعياً، وهنا لا دليل على التعدد. ولو سلمنا أنه متعدد الأنواع لكان المانع من جمعه جمع المؤنث السالم أنه لا يدخل تحت نوع مما يُجمع هذا الجمع". وهكذا أنكر الأستاذ عباس حسن جمع (بيان) على (بيانات) لسببين، الأول: أنه لا دليل على تعدده، والثاني: أنه لا سند لجواز جمعه جمع مؤنث سالماً، إذا صح جمعه.
والجواب على ذلك أن (البيان) بمعناه الذي أرادوا ليس مصدراً، وإنما هو اسم: لما يتم به بيان الأمر والكشف عن غامضه. وما دام قد عدم حدثه وجنسه فقد جذب إلى الاسمية فساغ جمعه. والبيان بالمعنى المذكور متعدد كبيان التقرير والتغيير والتبديل على ما ذكره الجرجاني في تعريفاته. وقد جمع (البيان) في شرح المنار في أصول الفقه لابن ملك فقال: "فصل في بيان أقسام البيانات/234" وجعل هذه الأقسام بيان التقرير والتفسير والتغيير. وأفتى صاحب الوساطة القاضي الجرجاني (ص/ 332) فقال: "إن أصل الجمع التأنيث.. فمن جمع اسماً لم يجد عن العرب جمعه فأجراه على الأصل، أي بالألف والتاء، لم يسغ الرد عليه، ولم يجز أن ينسبه إلى الخطأ لأجلها" وعلى هذا جرى الأئمة. فقد جمع الصحاح (البلاغ) على البلاغات، وكذلك فعل الجاحظ في كتاب (حجج النبوة) ، والهمذاني في خطبة كتابه (الألفاظ الكتابية) ، فسقط بذلك اعتراض المعترض، ويصح عندي جمع (البيان) كذلك على (أبينة) كما جمع العذاب على (أعذبة) . قال ابن منظور:"قال أبو عبيد في قوله تعالى: يضاعف لها العذاب ضعفين- الأحزاب/ 30، معناه تجعل الواحد ثلاثة، أي تعذب ثلاثة أعذبة". والبيان والعذاب اسمان للمصدر الأول من التبيين والثاني من التعذيب، واسم المصدر كالمصدر في امتناعه على الجمع من حيث الأصل، ما لم ينزل منزلة الاسم.
جمع ما انتهى بالتاء من المصادر:
ومما صرح الأئمة بجواز جمعه من المصادر باطراد ما انتهى منها بالتاء. فقد ذكر العلامة ياسين في (حاشية التصريح) : "المصدر لا يثنى ولا يجمع ما لم يكن بالتاء". وسترى أن ما انتهى بالتاء من المصادر إنما جمع حملاً على الاسمية، ولو تأولوا له باختلاف الأنواع. قال ابن الأثير في (النهاية) :"التحيات جمع تحية قيل أراد بها السلام. وإنما جمع التحية لأن ملوك الأرض يحيَّون بتحيات مختلفة.. فقيل للمسلمين قولوا التحيات لله أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء هي لله تعالى". وواضح أن (التحية) التي جمعت قد خرجت عن حدثها بل جنسها فأضحت اسماً من الأسماء. وهكذا (النية) ففي المصباح: "والنية الأمر والوجه الذي تنويه".
ويدخل فيما تقدم مصدر الوحدة ومصدر الهيئة فإنهما يثنيان ويجمعان. وعلة ذلك على ما انتحيناه أنك إذا قلت (جلت جولة) لم يبق في قولك (جولة) دلالة على جنس الفعل الذي يدل على القليل والكثير، بحكم قولك (جلت جولات) . وهكذا قولك (مشيت مشية الفزع) فقد خُصت (المشية) بنوع من (المشي) فخرجت به عن جنس الفعل ولو دل على حدثه.
ومما صرح الأئمة بامتناع جمعه البتة (المصدر المؤكد) . قال صاحب الهمع (1/186) : "المصدر نوعان مبهم، وهو ما يساوي معنى عامله من غير زيادة كقمت قياماً وجلست جلوساً، وهو لمجرد التأكيد، ومن ثم لا يثنى ولا يجمع". فالمصدر في قولك (قمت قياماً وجلست جلوساً) قد ماثل فعله من حيث دلالته على الحدث وجنسه دون تحديد، فهو باق على مصدريته.
إعمال المصدر
شرط إعمال المصدر عمل فعله، تعدياً ولزوماً، بقاؤه على مصدريته بدلالته على حدثه وجنسه، ذلك ليستقيم نيابته عن فعله أو حلول الفعل المصحوب بأن أو ما المصدريتين، محله. مثال ذلك قولك:(يعجبني قيامك بما يجب عليك) وقولك: (يعجبني أن تقوم بفعل الخير) أو (يعجبني ما تقوم الآن بفعل الخير) . فإذا دل على الوحدة لم يعمل. قال الأشموني (3/105) : "فالموحد بالتاء أي تاء الوحدة لم يعمل" فإذا قلت: (ضربت ضربة الرجل) فالرجل منصوب بالفعل لا بضربة، وكذا قولك:(ضربت ضربتين الرجل) فالمصدر المبني للعدد لا يعمل لتحديده، فإذا كانت التاء في أصل بناء المصدر كالرحمة والرغبة والرهبة عمل المصدر. قال أبو البقاء في الكليات: "المصدر المحدد بتاء التأنيث لا يعمل إلا في قليل من كلامهم. ولو كان مبنياً على التاء عمل في قوله:
فلولا رجاء النصر منك ورهبة
عقابك قد كانوا لنا بالموارد
فأعمل رهبة لكونه مبنياً على التاء أي لكون التاء في أصل بناء المصدر.
والمصدر المؤكد لا يعمل، على إبهامه ودلالته على الحدث وجنسه، لأنه إنما أتى ليؤكد عامله وهو الفعل. فإذا قلت:(علَّمت التلميذ تعليماً المسألة) فالمسألة منصوبة بالفعل لأنه هو العامل في الأصل. فإذا قلت: (ضربت فلاناً ضرب زيد أخاه) أي ضرباً مثل ضرب زيد أخاه، كما جاء في حاشية الصبان على الأشموني (3/103) فقد صح عمل المصدر (ضَرْب) المضاف إلى زيد رفعاً في فاعله المضاف إليه ونصباً في مفعوله، لأنه لم يأت مؤكداً لعامله، وإنما أتى مبيناً لنوعه.
إعمال المصدر المجموع:
والأئمة على خلاف في إعمال المصدر المجموع، فمنهم من حكم بمنعه واختاره أبو حيان. ذلك أن المصدر لا يجمع حتى يكون قد فقد مصدريته فعدم جنسه أو حدثه ومتى افتقد مصدريته امتنع عمله. ومنهم من أجازه واختاره ابن مالك إذ ذهب إلى أن المصدر يجمع حيناً فيقصد به مجرد تكرير الفعل ويبقى على حدثه وجنسه فيعمل. قال صاحب الهمع (2/92) :"وجوّزه قوم- أي عمل المصدر- في الجمع المكسر واختاره ابن مالك، قال لأنه وإن زالت معه الصيغة الأصلية فالمعنى معها باق، ويتضاعف بالجمعية لأن جمع الشيء بمنزلة ذكره متكرراً بعطف، وقد سُمِع.. قال أبو حيان والمختار المنع وتأويل ما ورد من ذلك على النصب بمضمر..". وهكذا أقر ابن مالك جمع المصدر الذي لم يعر من حدثه وجنسه وإعماله، وهو نادر في الاستعمال، ومما جاء في ذلك قول:
كم جرَّبوه فما زادت تجاربهم
أبا قدامة إلا المجد والفَنَعا
والفنَع زيادة المال، ومسك ذو فنَع ذكيّ الرائحة. وقد جاء (أبا) منصوباً بتجارب وحاول ابن جني أن يجعله مفعولاً لـ (زادت) لكنه قال:"والوجه أنه انتصب بتجاربهم لأنها العامل الأقرب". وقد حكى ذلك السيوطي في (الأشباه والنظائر) فقال: "وقد يجوز أن يكون أبا قدامة منصوباً بزادت، أي فما زادت أبا قدامة تجاربهم إياه إلا المجد. والوجه أن تنصبه بتجاربهم لأنها العامل الأقرب، ولأنه لو أراد إعمال الأول لكان حرياً أن يعمل الثاني أيضاً
…
". على أن في إعمال (التجارب) نظراً على كل حال. ذلك أن العرب قد جرت على استعمال (التجربة) اسماً. ففي المصباح: "قال الأزهري جربت الشيء تجريباً اخترته مرة بعد أخرى والاسم التجربة والجمع التجارب". فالتجربة في الأصل مصدر كالتجريب لكنه قد عُدل به عن مصدريته فأنزل منزلة الأسماء فجمع على (تجارب) ، فقولك (فلان ذو تجربة) كقولك (فلان ذو خبرة) . وفي الأساس "ورجل مجرِّب: ذو تجارب". ولا يمنع هذا من استعمال (التجربة) بمعنى (التجريب) مصدراً على الأصل، كقولك (إن تجربتك فلاناً قد كشفت خصاله) . فالتجربة هنا مصدر باق على مصدريته عامل عمل فعله. ويبقى الإشكال، على كل حال، في جواز جمعه على هذا الحد. ومما نحن فيه قول الشاعر:
وعدتَّ وكان الخلف منك سجية
مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
فقد انتصب فيه (أخاه) بمواعيد، جمع المصدر. فمواعيد مفعول مطلق لوعَد وعرقوب مضاف إليه، ومحلَّه الرفع بالفاعلية لمواعيد، وأخاه مفعول مواعيد.
السماع والقياس في مصادر الثلاثي
الأكثرون على أن مصادر الثلاثي موقوفة على السماع. وقد ذهب جماعة إلى امتناع القياس فيها، ولو لم يكن سماع. فقد حكى السيوطي في الهمع:"لا تدرك مصادر الأفعال الثلاثية إلا بالسماع، فلا يقاس على فعلٍ ولو عدم السماع". وأجاز آخرون القياس حين يفتقد السماع. فقد قال الأشموني في شرحه على الألفية (3/122) : "والمراد بالقياس هنا أنه إذا ورد شيء ولم يعلم كيف تكلموا بمصدره فإنك تقيسه على هذا..". على أن من الأئمة من أخذ فيها بالقياس ولو كان ثمة سماع كالفراء والزمخشري. قال الصبان في حاشيته على الأشموني (3/122) : ومذهب الفراء إلى أنه يجوز القياس عليه وإن سُمع غيره". وجاء في (المطلوب شرح المقصود/ 1-21 و22) : "مصادر الثلاثي سماعية عند سيبويه، وأما الزمخشري فيرى أنها قياسية لكثرتها". وقال أبو البقاء في الكليات:"القول بأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح، بل لها مصادر منقاسة ذكرها النحويون".
أما القياس الذي ذكره النحويون لمصادر الثلاثي فقد أوجزه محمد بن أبي بكر الرازي في خطبة معجمه (مختار الصحاح) فقال: "اعلم أن الأصل والقياس الغالب في أوزان مصادر الأفعال الثلاثية أن فعَلَ متى كان مفتوح العين كان مصدره على وزن فعل بسكون العين إن كان متعدياً، وعلى وزن فُعول بضمتين إن كان الفعل لازماً. مثاله من الباب الأول: نصَر نصراً، قعد قعوداً. ومن الباب الثاني: ضرب ضرباً، جلس جلوساً. ومن الباب الثالث: قطع قطعاً، خضع خضوعاً. ومتى كان فَعِل مكسور العين ويفعل مفتوح العين كان مصدره على وزن فعل بسكون العين أيضاً، إن كان الفعل متعدياً، وعلى وزن فعل بفتحتين، إن كان لازماً. مثاله: فهِمَ فهماً، طَرِب طرباً. ومتى كان فعُل مضموم العين كان مصدره على وزن فعالة بالفتح أو فُعولة بالضم أو فعِل بكسر الفاء وفتح العين، وفعالة بالفتح هي الغالب. مثاله ظرُف ظرافة، سهُل سُهولة، عظُم عِظَماً، هذا هو القياس في الكل."
خلاف النقاد في مصادر بعض الأفعال ومعانيها
أنكر كثير من النقاد أن يكون (الصمود) مصدراً لـ (صَمَد) لازماً، وأن يكون (الثبات) معنى له. ومن هؤلاء الدكتور مصطفى جواد، عضو المجمع العلمي العراقي، رحمه الله، إذ قال في كتابه (المباحث اللغوية في العراق) :"فهذا الصمود الذي استعمل. بمعنى الثبات والمقاومة لا يزال على سوء استعماله، لأنه حركة وتقدم، لا ثبات واستقرار. ثم إن العرب لم تعرف الصمود مصدراً، وإنما المصدر الصمد كالقصد وزناً ومعنى.. فالصمد إن كان قد استعمل في حروب العرب للقصد والسير إلى العدو، فكيف يستعمل للثبات والقرار، هذا استعمال للكلم في عكس معانيه، وهو خطأ محض لا يسوّغه مرور الزمان أبداً". وقد عاد جواد إلى بحثه هذا في كتابه (قل ولا تقل) ولم يخرج في الجملة عما ذكره في كتابه الأول.
وتقصَّى البحث في هذا الأستاذ محمد العدناني أيضاً وبسط في معجمه (الأخطاء اللغوية الشائعة) رأي جواد، وأكثر من الأدلة واستفرغ ما أتت به المعاجم في (صمد) ومصدره، وخلص إلى مخالفة جواد فأنكر أن يكون معنى (الصمد) مقصوراً على (الحركة) ، وإلى مشايعته فأنكر أن يكون (الصمود) مصدراً للفعل لانفراد المعجم الوسيط بذكره، فما صواب المسألة؟
الرأي عندي أن (الصمد) قد انطوى على معان متجاذبة متداعية. فهو التوجه والطلب، وهو العزم والتحفز للوثوب، وقد يخص بالمضي في استقامة واستواء دون ميل، والقرينة كفيلة بإبراز المعنى الغالب الذي أريد بالفعل، والمسرى الذي سلكه فنزع إليه.
معنى (صمد) :
ففي المعاجم صمَد كقصَد وزناً ومعنى، تقول صمَدته كقصدته متعدياً، وصَمدت له وإليه كقصدت له وإليه لازماً، فإذا صمَدت فلاناً فقد يممته وطلبته، وإذا صمَدت له وإليه فقد توجهت نحوه وتقدمت إليه تبتغيه، هذا هو الأصل. فإذا كان المصمود أو المصمود إليه (الله تعالى) وهو ذو القوة ومحل الثقة والاعتماد، وقد طلبه الصامد ليستعين به ويفوض أمره إليه، فـ (الصمد) هو التوجه والاعتزام. ذلك أن الصامد يتوجه إلى الله يبتغيه ويلوذ به ويعتزم تسليم الأمر إليه. يقول الجوهري في الصحاح:"وصمده يصمده صمداً أي قصده، والصمَد السيد لأنه يُصمد إليه في الحوائج". ويشف (القصد) عما عنيناه بالصمد، كما ستراه. ويقول ابن القوطية في كتابه الأفعال:"صمدتُ إلى الله صَمداً وصموداً، وأصمدت، لجأتُ". وفي معنى اللجوء توجه إلى المصمود إليه، واعتزام تسليم الأمر إليه. ويقول الزمخشري في الأساس:"صمَده قصَده، وصمَد صمد هذا الأمر اعتمده، وسيدٌ صمَد ومصمود، والله الصمَد، عن الحسن: أُصمدت إليه الأمور فلا يقضي فيها غيره". ونحو ذلك في المصباح والأبدال والكليات. فأنت تصمد إلى الله بحاجتك وتعتمده فهو السيد المصمود المقصود بالحوائج.
وإذا قلت (صمدت للعدو) ، وهو ما نحن بسبيل الكشف عن معناه، فليس (الصمد) فيه التوجه والمضي إلى العدو وحسب، وإنما هو اعتزام قتاله والتحفز للوثوب عليه أيضاً. ففي حديث معاذ بن الجموح في قتل أبي جهل، وقد رواه ابن الأثير في النهاية:"فصمدت له حتى أمكنتني منه غرة" قال ابن الأثير: أي ثبتّ له وقصدته وانتظرت غفلته". وفي القصد الذي فُسر به الصمد ما أشرنا إليه من معاني التوجه والطلب، ومن العزم على القتال. والتهيؤ للوثوب كما سنبسطه لك. وأنت إذا قلت في تفسير (فصمدت له حتى أمكنتني منه غرة) : مضيت إليه حتى أمكنتني منه غفلة، ضعف المعنى وتخلف، وإذا قلت في تفسيره: مضيت إلى العدو أبتغيه معتزماً قتاله متحفزاً للوثوب عليه، حتى أمكنتني منه غفلة فرميته، وضح المعنى وحسن ودق، قال الدكتور جواد: "فكيف يثبت له ويقصده بفعل واحد، وكيف تجمع الحركة والسكون أو الركون والحركة في فعل واحد؟ ".
أقول إن ابن الأثير قد أضاف (ثبَتُ له) ليزيد في إيضاح المعنى. فإن نص الحديث: "فصمدت له حتى أمكنتني منه غرة" أي استمر صمدي له حتى كان ذلك. كأن تقول: (وطئت الوعثاء حتى ذللت الصعاب) أفكنت تخطئ لو قلت في تفسيره (استمر وطئي للوعثاء حتى ذلَّلت الصعاب؟ فالثبات الذي أضافه ابن الأثير تأكيد لهذا الاستمرار الذي دلت عليه القرينة.
أما قول الدكتور جواد (كيف تجتمع الحركة والسكون) فعجب حقاً! فمن قال له إن الثبات أو الاستمرار الذي شفَّت عنه العبارة هو السكون؟ وهل يعني قولك: (ثبت فلان في الحرب) أو (ثبت فلان قبالة خصمه) أنه سكن وجمد فلم يتزحزح أو يُبدِ حراكاً؟ فالثبات في هذا الموضع هو ثبات القلب في القتال ومداومته العزم على المواثبة. أفليست الحرب جولات من كر وفر؟ فكيف يسكن الشجاع فيها والجولان حركة مستمرة، أفيصبح أن يكون ثبات الشجاع سكون جسمه وجمود حركته، أو ثبوت أصله في الأرض كرسو السفينة في سيف البحر؟
والغريب أن الأستاذ عز الدين علم الدين، عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، محقق كتاب الابدال لأبي الطيب اللغوي قد أخذ برأي جواد في المسألة، وذيّل قول أبي الطيب (صمدت فلاناً أصمده صمداً..)، فقال:"ومن أغلاط الكتاب استعمال صمد بمعنى ثبت والصمد حركة والثبات سكون فهما ضدان". أقول: الصمد في المعركة حركة بلا شك والثبات الذي شف عنه تأكيد لاستمرار الصمد ومواصلة النضال، لا دعوة لسكون الجسم وجمود الحركة.
وهكذا القول في حديث علي (رض) : "فصمداً صمداً حتى ينجلي عمود الحق" فإن معناه كما يتضح: استمروا في الصمد واثبتوا عليه حتى يتبين عمود الحق. وقد أورد الأستاذ جواد في هذا تفسير الأستاذ ابن أبي الحديد إذ قال: "صمدت لفلان قصدت له" وهو صحيح مستقيم لكنه شرح مقتضب معجمي ونحن نورد فيه شرح الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد إذ قال: "الصمد القصد. وتقول صمده وصمد له وصمد إليه من باب ضرب ونصر، أي فاثبتوا على قصدكم". فقول علي (رض) : (صمداً صمداً) دعوة إلى استمرار الصمد والثبات عليه، وتفسيره: اثبتوا على الصمد واستمروا فيه حتى ينجلي عمود الحق ويسطع نوره.
وقد حكى اللسان والتاج رواية أخرى لتفسير ابن الأثير في حديث معاذ. قال ابن منظور: "أي وثبتُ له وقصدته فانتظرت غفلته" بدلاً من "أي ثبتّ له"، أفلا يعني هذا أن في الصمد للعدو معنى الوثوب عليه والتحفز لقتاله. وذكر التاج ما ذكره اللسان، وقال في موضع آخر:"الصماد بالكسر الجلاد والضِّراب من صامده". وفي التهذيب للأزهري: "ويقال ناقة مصماد وهي الباقية على القُرّ والجدب الدائمة الرسِل، ونوق مصامد ومصاميد". أفليس في هذا ما يشير إلى أن (الصمد) يعني المجالدة والمصابرة، فالناقة المصماد هي التي امتحنت بالبرد والجدب فكان بها طاقة بملاقاتهما، فهي تمضي في إعطاء لبنها، على ما تلقاه وتعانيه من برد ومحل ويبس. وتقول (الصَّمَد من المصماد من الميامين المصاميد) على معنى المجاهدة والمغالبة.
ومن معاني (الصمد) الصلابة كما ذكر ابن فارس في المقاييس إذ قال: "الصاد والميم والدال أصلان أحدهما القصد والآخر الصلابة في الشيء". والذي عناه ابن فارس بالصلابة، في الأصل، صلابة المكان، إذ قال:"الأصل الآخر الصمد، وهو كل مكان صلب"، وفي التاج:"الصمد: المكان المرتفع الغليظ من الأرض"، ولا يبعد هذا من معنى المصامدة التي تعني المجالدة.
مصدر (صمَد) :
ولكن ما القول في مصدر الفعل أهو الصمد أم الصمود؟ أقول أنكر الدكتور جواد أن يكون (الصمود) مصدراً للفعل، بل سخر ممن رأى هذا الرأي. والصحيح أن (الصمود) مصدر للفعل اللازم كالصمد. قال ابن القوطية في كتابه الأفعال، وهو الإمام المحقق:"صمدت إلى الله صمداً وصموداً، وأصمدت، لجأت" وأردف: "وصمدت الشيء صمد أقصدته" فخص (الصمود) بالفعل اللازم، وجعل (الصمد) للازم والمتعدي. والغريب أن جواداً قد جعل (الصمد) هو المصدر دون الصمود، لأمر يتصل بدلالته، فذهب إلى أن ما كان معناه الحركة دون السكون فمصدره (الفَعل) بسكون العين. قال جواد:"والظاهر أن هذا الذي ابتدع الصمود حسبه بمعنى الثبات، فأطال مصدره كالجلوس والقعود.. وفي قِصَر مصدر الفعل صمد، دليل على أنه يعني الحركة لا السكون، والتقدم لا الوقوف".
والذي ذكره الأئمة كالرازي أن الأصل فيما جاء على (فعَل) بالفتح من الأفعال أن يكون مصدره (فَعلاً) بسكون العين إذا كان متعدياً، و (فعولاً) إذا كان لازماً. وفصَل الإمام الرضي فتطرق في شرح الشافية (1/153) إلى دلالة الفعل فقال:"قوله الغالب في فعَل، بفتح العين، اللازم، على فعول، ليس على إطلاقه، بل إذا لم يكن للمعاني التي نذكرها بعد، من الأصوات والأدواء والاضطراب"، وأردف:"ثم نقول: الأغلب الأكثر في غير المعاني المذكورة أن يكون المتعدي على فعل بسكون العين، من أي باب كان، نحو قتل قتلاً وضرب ضرباً وحمد حمداً، وفعل بفتح العين اللازم على فعول نحو دخل دخولاً". وليس (الصمد) الذي نحن في سبيله من أفعال الأصوات والأدواء والاضطراب لينفرد بوزن مصدري خاص، فالأغلب إذاً أن يكون (الفعول) مصدراً للازم منه و (الفَعل) مصدراً لمتعدّيه.
وهذه (نهض ودلف ونهد) فهي من أفعال (الحركة) على حد تعبير جواد مثل (صمَد) وهي لازمة، ومصادرها النهضوض والدلوف والنهود وهكذا (ذهب) تقول: ذهب ذهاباً وذهوباً. فقد جاء في النوادر (2/226) لأبي مسحل الأعرابي: "ويقال في ثلاثة من المصادر: ذهب ذهاباً وذهوباً وكسد كساداً وكسوداً وفسد فساداً وفسوداً، وزاد ابن خالويه: صلح صلاحاً وصلوحاً" فثبت بذلك أن لا صلة بين مصدر الفعل فعلاً أو فُعولاً، وبين دلالته على الحركة أو السكون. ولو أتى جواد المسألة من وجهها ومأتاها لاتضح له الأمر واستبصر الطريق.
مصدر نضج:
ومما نحن فيه قول الكتاب (النضوج) وهو مستقيم لو صح ما تصوروه من أن فعله (نضَج) بالفتح، ولم يسمع، فالذي حكته المعاجم (نضِج) بالكسر. فلا سند إذاً لصحة قولهم (النضوج) قياساً، لأن القياس هو (النضَج) بالتحريك للزوم الفعل. أما المحكيّ من مصادره فهو (النضج) بفتح فسكون وضم فسكون و (النضَج) بفتح النون والضاد. ففي المصباح:"نضج اللحم والفاكهة بالكسر نضجاً بفتحتين، من باب تعب، والاسم النضج بالضم، والفتح لغة".
وعندي أن (النضج) بالضم هو الاسم، أما (النضج) بالفتح فهو المصدر، وليس الاسم. وقد رأى سيبويه وابن جني مثل هذا حين اعتدا (الحرد) بفتح فسكون مصدراً لـ (حَرِدَ) بالكسر. ذلك أن الصفة قد أتت على (ناضج) و (نضيج) ، ومجيء ناضج من نضج بالكسر، كما قيل حارد من حرِدَ بالكسر، ومصدره (الحرْد) بفتح فسكون. وقد جاء على التحريك فقيل (الحَرَد) بفتحتين، كما قيل (النضَج) بفتحتين. وقد نص التهذيب واللسان والتاج على أن (النُّضج) بالضم، هو الاسم.
وقد عرض الأب أنستاس ماري الكرملي لهذا، في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق لشهري آذار ونيسان من عام 1945، فقال:".. ويقال أيضاً النضج بفتح فسكون والنضج بضم فسكون، وهما اسما مصدر" أقول: إن الاسم هو (النضج) بالضم، دون (النضج) بالفتح. وقد ذكرنا أن مجيء الصفة على (ناضج) يؤكد اتفاق مصدر النضج بالكسر على (النضج) بفتح فسكون. وهكذا تواءم (ناضج) صفة و (نضج) مصدراً بفتح فسكون، فاقتضى كل منهما الآخر، و (فاعل) من (فعل) بالكسر إنما هو صفة للمتعدي في الأصل، كما أن (الفَعل) بفتح فسكون مصدر له، وكلاهما قياس. وبيان ذلك أن الأصل في (فَعِل) بالكسر إذا كان لازماً ألا يكون منه (فاعل) ، فإذا سمع منه (فاعل) فقد شبه بالمتعدي وحمل عليه، وكذلك (فعل) بفتح فسكون فالأصل أن يكون مصدراً للمتعدي دون اللازم، فإذا سمع مصدراً لفعل لازم فقد حُمل على المتعدي وشُبه به أيضاً، فمجيء ناضج صفة من نضِج اللازم قد واءم مجيء النضج بفتح فسكون مصدراً له واقتضاه. قال ابن سيده في المخصص (13/122) :"فأما سيبويه فقال: حَرِد بالكسر حرْداً بسكون الراء ورجل حرِد بفتح فكسر وحارد، أدخله في باب العمل وقولهم حارد دال على ذلك" وأردف: "يعني أنهم جعلوه بمنزلة المتعدي كحِمده بالكسر حمدًاً بفتح فسكون، وإلا كان حكمه حرِد بالكسر حرَداً بفتحتين، لأنه غير متعد كغضب غضباً. وقوله حارد دليل على ذلك يعني أنه لو كان على باب ما لا يتعدى لكان حَرِداً أو حردان كضجر بفتح فكسر وغضبان"، وقال أيضاً (14/134) :"وقوّى حملهم ذلك على ما يتعدى أنهم قالوا حارد، وكان القياس في مثله أن يكون حرِدَ حرَداً فهو حردان، كما قالوا غضب غضباً فهو غضبان، فأخرجوه من باب غضبان بتخفيف الحرَد وبقولهم حارد. وتخفيف (الحرد) بفتحتين معناه تسكين الراء فيه، وفي المخصص أيضاً (14/134) : "ومثل الحارد بسكون الراء قولهم حميت الشمس تحمى حمياً بفتح فسكون، وهي حامية". وقد حكاه عن سيبويه بلفظه
(الكتاب 2/216) .
المسّ والمساس:
منع الشيخ إبراهيم اليازجي قول القائل (فعلت كذا لمساس الحاجة) بكسر الميم، وقال:"والصواب لمسّ الحاجة أو لمسيسها" وأردف: "وأما المساس بالكسر فهو مصدر ماسَّه على فاعل مثل القتال من قاتل"، وتابعه كثيرون. قال الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأخطاء الشائعة) :"ويقولون مساس الحاجة بالفتح والصواب مسّ الحاجة ومسيسها..".
ويفهم مما تقدم أن اليازجي قد قصر الصواب في (مس الحاجة) على المسّ والمسيس، ومنع قول القائل (مساس الحاجة) بالكسر، وطابقه العدناني، وأشار كذلك إلى منع (مساس الحاجة) بالفتح.
أقول في الجواب عن ذلك: لا شك أن (المساس) بالكسر هو مصدر (ماسَّه) بالتشديد، تقول (ماسَّه مماسَّة ومِساساً) كقاتله مقاتلة وقتالاً، ولكن (ماسَّه) بمعنى (مسَّه)، وعلى ذلك تقول:(مساس الحاجة) بالكسر لمسّها ومسيسها. قال الزمخشري في الأساس: "ماسَّه مسَّاً ومسيساً، وماسَّه مماسَّة ومِساساً" فقرن هذا إلى ذلك ولم يفرّق. وقال صاحب المصباح: "وماسَّه مماسَّة ومِساساً من باب قاتل بمعنى مسَّه".
وجاء في التنزيل: (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول: لا مِساس (طه/ 97. بكسر الميم وفتح السين. قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: "وقرأ الجمهور لا مِساس بفتح السين والميم المكسورة، ومِساس مصدر ماسَّ كقتال من قاتل.. أي لا تمسُّني ولا أمسُّك" ففسر (لا مِساس) بالقول (لا تمسَّني ولا أمسَّك) . وقال المرزوقي في شرح الحماسة (1415) : "مثلي ومثلك من مِساس حاجتي إليك وتناهي رغبتي في وصلك والنيل منك.." فجاء بما أنكره اليازجي والعدناني وكثيرون، وتكرر ذلك منه (ص 330 و907) .
وفي قوله تعالى: (لا مِساس (طه/ 97 قال الإمام البيضاوي في تفسيره: "لا مساس بكسر الميم. وقرئ لا مَساس بفتح الميم كفجار، وهو علَم للمسَّة" فمساس بفتح الميم اسم يدل على ما يدل عليه المصدر ويجري عليه من الأحكام ما يجري على بعض الأعلام من البناء أو المنع من الصرف نحو برة غير مصروف بمعنى المبرة وفجار مبنياً على الكسر بمعنى فجور". وقال الزمخشري في الأساس: "ويقال لا مِساس بكسر الميم ولا مَساس بفتحها". وفي اللسان: "ولا مَساس بفتح الميم أي لا تمسَّني". وفي شرح الحماسة للمرزوقي (233) في شرح قول يزيد بن الحكم:
مَسِسنا من الآباء شيئاً وكلّنا
إلى حسَب في قومه غير واضع
"وقول مسسنا يجوز أن يكون: أصبنا واختبرنا، لأن المس باليد قد يقصد به الاختبار. ويجوز أن يكون بمعنى طلبنا. وقد قال بعض الناس في قوله تعالى: لا يمسَّه إلا المطهَّرون، إن المعنى: لا يطلبه.. فمن الأول قولهم مسَّه الكبر، وأفضى الرجل إلى امرأته إفضاء: مسيس، ومن الثاني: مَساس الحاجة. فأما قولهم: به مسّ من جنون يصحّ أن يكون من الأول ومن الثاني جميعاً" فأتى بمَساس بفتح الميم في قوله: (مَساس الحاجة) . وجاء في خطبة شرح الشافية، قال الإمام الرضي:"فإن الشراح قد اقتصروا على شرح مقدمة الإعراب، وهذا مع قرب التصريف من الإعراب، في مَساس الحاجة إليه". فأتى بمساس بفتح الميم أيضاً.
المصادر واشتقاق الفعل
الأصل في الأفعال أن تنتزع من أسماء الأعيان. قال ابن مالك في التسهيل: "ويطّرد صوغ فعَل من أسماء الأعيان لإصابتها: نحو جلَده ورأسه، أو أنالتها: نحو شحمه ولحمه أي أطعمه ذلك، أو عمل بها: نحو رمَحَه وسَهَمه أي أصابه بالرمح والسهم". فقد قال العرب جلَده إذا أصاب جلده ورأسه إذا أصاب رأسه، وكبده ودمغه وأذنه وأنفه ونابه ومعده، إذا أصاب ما سُمي بهذه الأحرف من الأعضاء، ومن ذلك رآه إذا أصاب رئته، فاشتقوا بذلك من اسم العين الثلاثي. وقالوا حصاه إذا ضربه بالحصى، ودَبَره إذا تلا دبره، وحنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها، وأسد الرجل إذا أشبه الأسد، وتاس الجدي إلى صار كالتيس.
وقالوا عسَله إذا جعل فيه العسل فعلاً أو مجازاً. ففي الحديث: [إذا أراد الله بعبد خيراً عسَله]، قال صاحب النهاية:"العسل بسكون السين طيب الثناء مأخوذ من العسل بفتحتين".
ويقال بدر الغلام إذا تم واستدار تشبيهاً بالبدر في تمامه وكماله، كما في النهاية وقال الراغب في مفرداته:".. والأقرب عندي أن يجعل البدر أصلاً في الباب، ثم تعتبر معانيه التي تظهر منه، فيقال تارة بدر كذا أي طلع طلوع البدر". وقال الأموي: "سمعتهم يقولون ما أحب أن تشوكك شوكة" وقال الكسائي: "ما أحب أن تشيكك شوكة، وهما لغتان". (النوادر لأبي مسحل- 2/116) . وتقول عصوته بالعصا وسطته بالسوط وهروته بالهراوة ورمحته بالرمح ونبلته بالنبل إذا طعنه ورماه (2/172) .
واشتقوا من الثلاثي المزيد بحذف الزائد فقالوا: حنأ لحيته إذا خضبها بالحناء، لكنهم قالوا حنَّأها بالتشديد أيضاً. وقالوا أركت الإبل تأرك إذا لزمت الأراك، والأراك شجر من الحمض يُستاك بقضبانه، والواحدة أراكة.
واشتقوا الثلاثي المزيد من اسم العين الثلاثي فقالوا: تأبَّل إذا اتخذ الإبل وتأرض إذا لصق بالأرض وتخشب صار كالخشب، وهكذا تحجر من الحجر. وقالوا تأسَّد واستأسد، من الأسد، كما قالوا تليَّث إذا أشبه الليث في جرأته وإقدامه، وقالوا تمزّن على قومه إذا تفضَّل عليهم من المزن أي السحاب.
ويقال أرض مخلة فيها خُلَّة.. ومُروضة كثيرة الرياض ومُعشبة كثيرة العشب وعاشبة ذات عشب مثل لابن وتامر.. وآهله الله لهذا الأمر أي جعله له أهلاً، وأهَّله.. وفلان يعتصي على عصاه أي يتوكأ، وقالوا: استفيل واستنوق واستيس واستنسر واستذأب واستجمل، من الفيل والناقة والتيس والنسر والذئب.
واشتقوا من الرباعي فقالوا ثعلب الرجل إذا راغ، وطحلب الماء إذا علاه الطحلب.
واشتقوا من الرباعي المزيد فقالوا قرطس الرامي إذا أصاب القرطاس أي الغرض.
وقالوا تنكَّب القوس إذا ألقاها على منكبه فاشتقوا بذلك من اسم العين المشتق، ومن هذا القبيل قولهم: تمنطق وتمدرع وتمسلم وتمسكن..
وكثُر (أفعَل) في اشتقاقهم من أسماء الأمكنة فقالوا أهضب إذا دخل الهضبة وهكذا أصحر وأسهل وأبحر وأبرّ وأغرب وأعرق وأيمن وأعمن وأحرم إذا دخل الحرم وأساف إذا أتى السيف بالكسر، وهو ساحل البحر.
وكثر (أفعل) كذلك في اشتقاقهم من أسماء الأزمنة فقالوا أربع وأصاف وأخرف وأشتى وأفجر وأظهر وأعصر وآصل
…
واشتقوا من أسماء الأصوات فقالوا من النعيق والخرير والصهيل والحسيس والأزيز والصرير والأنين والزئير والفحيح والطنين والهزيم والعواء والنباح والخوار والثغاء. نعق وخرّ وصهل وحسّ وأزّ
…
وليست هذه مصادر الأفعال في الأصل وإنما هي أسماء للأصوات حاكوا بها أصداء الطبيعة مذ كانت اللغة في طراءة سنها وحداثة نشأتها، وكان اتصال الإنسان بالطبيعة اتصالاً لا انفصام له، تنبثق أداته في التعبير من أصدائها وأحداثها، يرعى أذنه فيتسقط حركاتها ويذكي الخاطر فيترصد سكناتها.
ولكن إذا صح أن الأفعال في الأصل إنما انتزعت من أسماء الأعيان، وكان الأمر على هذا جارياً، فما تأويل قول ابن جني في الخصائص (2/433) :"اشتقاق العرب من الجواهر قليل جداً، والأكثر من المصدر"، وقول السيوطي في المزهر (1/203- ط. المكتبة الأزهرية) :"والتاسع كون الأصل جوهراً والآخر عرضاً لا يصلح للمصدرية، ولا شأنه أن يشتق منه، فإن الرد إلى الجوهر حينئذ أولى لأنه الأسبق، فإن كان مصدراً تعيَّن الردّ إليه، لأن اشتقاق العرب من الجوهر قليل جداً والأكثر من المصادر".
أقول لا شك أنه إذا نظر إلى اشتقاق لفعل بملحظ (نشوئي) فإن أسماء المحسوسات كالجواهر أو أسماء الأعيان، هي الأصل في هذا الاشتقاق فهي الأشياء التي تتناولها الحواس قبل أن تنتهي مدلولاتها إلى آفاق النفس. لكنك إذا اعتبرت كلام الأئمة وجدت أنهم قد نحوا في اشتقاق الفعل منحى آخر، ذلك أنهم لحظوا أن المصدر ألصق بالفعل من حيث بناؤه وما يعتري هذا البناء وما يعترضه من الاتباع والإبدال والقلب والإعلال، فقرنوا هذا إلى ذاك، لأن كلاً أشبه بصاحبه من حيث كيانه وما يمكن أن يتعرض لها في التصريف. وملحظهم هذا ملحظ (صرفي) لا (نشوئي) .
وقد ذهب الدكتور صبحي الصالح في كتابه (دراسات في فقه اللغة/ 199) إلى أن الأئمة قد بنوا مذهبهم في رد الأفعال إلى المصادر، على اعتقاد وجود أسماء المعاني قبل أسماء الأعيان، وهو محال، ومن ثم وجب رد الأفعال في نشأتها إلى أسماء الأعيان. قال الدكتور الصالح:"إن البداهة تقضي بوجود أسماء الأعيان المشاهدة المرئية التي تناولتها الحواس، قبل أسماء المعاني. لذلك كانت الأعيان، هي أصل الاشتقاق دون المصادر.. كيف وقد امتلأت معاجمنا وكتبنا اللغوية بما لا يُحصى من الجواهر التي تفرعت عنها الصفات والأحوال والمصادر والأفعال". أقول لم يسبق إلى اعتقاد الأئمة أن المصادر قد وضعت قبل أسماء الجواهر البتة، وهذا حالهم حين قالوا الاسم قبل الفعل، فانظر إلى ما قاله ابن جني في الخصائص (1/429-432. ط- 1913) :"وإنما يعني القوم بقولهم أن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى في النفس، وأسبق في الاعتقاد من الفعل، لا في الزمان.. فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل، ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم.." وأردف: "فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقاً من الفعل، فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان، وقد رأيت الاسم مشتقاً منه، ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه" وانتهى من ذلك إلى القول: "وأيضاً فإن المصدر مشتق من الجوهر كالنبات من النبت وكالاستحجار من الحجر، وكلاهما اسم..".
وهكذا ذهب ابن جني إلى أن المصدر، وهو الأصل في اشتقاق الفعل عند البصريين قد انتزع من الجوهر. وحين بحث الأئمة أسماء الأعيان وأسماء المعاني أيهما أسبق في النشأة وأوغل في القدم قدروا أن الأعيان في الموازنة هي المتقدمة، والمعاني هي المتخلفة حقيقة وأصلاً. فانظر إلى ما ذهب إليه السكاكي في كتابه مفتاح العلوم، فقد جعل الكلم المستقرأة نوعين: الأول ما "يشهد التأمل بتقدمه في باب الاعتبار والثاني ما جاء بخلاف ذلك" وهو المتخلف، فسلك في المتقدم (الجوامد) أي الجواهر، وفي المتخلف (الأفعال وما يتصل بها من الأسماء) أسماء المعاني والصفات. بل أكد أن أكثر ما يتصل بالأفعال من الأسماء هو فرع من الأفعال، وأردف:"إلا المصدر عند أصحابنا البصريين، رحمهم الله/ 14" فإنهم يعتدّون الفعل فرعاً عليه. وهو لم يشايعهم فيما انتحوه وقرروه، بل جاز مجاز الكوفيين في مخالفة البصريين، وذهب مذهبهم وجرى مجراهم فاعتد المصدر فرعاً على الفعل.
لم يكن كلام الأئمة أقل وضوحاً وأدنى دقة وجلاء حين بحثوا الجوهر والعرض فلم تغم عليهم معرفة في ذلك، أو تستسر حقيقة. فانظر إلى ما حكاه السيوطي في (الأشباه والنظائر/ 168) عن (الإيضاح في علل النحو للزجاجي) :"قد عرفناك أن الأشباه تستحق المرتبة والتقديم والتأخير على ضروب فنحكم لكل واحد منها بما يستحقه، وإن كانت لم توجد إلا مجتمعة. ألا ترى أنا نقول أن السواد عرض في الأسود، والجسم أقدم من العرض بالطبع والاستحقاق. وأن العرض قد يجوز أن يتوهم زائلاً، والجسم باق! فنقول أن الجسم الأسود قبل السواد، ونحن لم نر الجسم خالياً من السواد الذي هو فيه، ولا رأينا السواد قط عارياً عن الجسم، بل لا يجوز رؤيته لأن المرئيات إنما هي الأجسام الملونة، ولا تدرك الألوان خالية من الأجسام ولا الأجسام غير ملونة".
المصدر ولفعل
البصريون والكوفيون على خلاف في أصل الاشتقاق. فقد أكد البصريون أن الفعل فرع على المصدر في الاشتقاق، على أن من هؤلاء من رد الصفات إلى المصدر أيضاً، ومنهم من ردها إلى الفعل. وخالفهم الكوفيون فأكدوا أن الفعل هو الأصل والمصدر هو الفرع. قال سيبويه في الكتاب (1/1) :"وأما الفعل فامثلته أخذت من لفظ أحداث الأسماء. والأحداث نحو الضرب والقتل والحمد.." فجعل أحداث الأسماء وهي المصادر الأصل في الاشتقاق وقال ابن جني في الخصائص (1/127) : "وإذا ثبت أمر المصدر الذي هو الأصل، لم يتخالج شك في الفعل الذي هو الفرع" فاعتد المصدر هو الأصل والفعل هو الفرع. على أنه رد الصفات إلى الفعل فقال (1/432) : ".. قيل يمنع من هذا أشياء، منها وجود أسماء مشتقة من الأفعال، نحو قائم من قام، ومنطلق من انطلق، ألا تراه يصح لصحته ويعتل لاعتلاله نحو ضرب فهو ضارب وقام فهو قائم وناوم فهو مناوم".
ولكن ما حجة البصريين في أصلية المصدر وفرعية الفعل؟.
الاشتقاق عند البصريين هو اقتطاع فرع من أصل يدور في تصاريفه الأصل. ويراد بالأصل هنا الحروف الموضوعة على المعنى وضعاً أولياً. فالفرع لفظ فيه تلك الحروف مع نوع تغيير، ينضم إليه معنى زائد على الأصل. فالضرب يدل بلفظه على الحركة المعلومة المسماة بهذا الاسم وحدها فهو الأصل، أما ضرب ويضرب وضارب ومضروب فهو الفرع، ذلك أن فيه حروف الأصل وهي الضاد والراء والياء، وزيادات لفظية، وهو ينطوي بهذه الحروف والزيادات على معنى الأصل وهو الضرب ومعنى آخر، وهكذا بنى البصريون رأيهم على أن الفرع ما كان فيه معنى الأصل مع زيادة هي غرض الاشتقاق.
وقد أيد البصريين فيما ذهبوا إليه، واقتاس بهم، وجرى على منهاجهم كثير من الأئمة، وفي مقدمة هؤلاء أبو البركات ابن الأنباري (ت 577هـ) في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين) وأبو البقاء عبد الله بن الحسن بن عبد الله العكبري (ت 616هـ) في كتابه (التبيين في مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين) ولم يبق من هذا الكتاب إلا نُقول جاءت في بعض كتب الخلف، ومنها كتاب (الأشباه والنظائر) للسيوطي إذ جاء فيه (1/128) : "قال أبو البقاء في التبيين: الدليل على أن الفعل مشتق من المصدر طرق، منها: وجود حد الاشتقاق في الفعل، وذلك أن الفعل يدل على حدث وزمان مخصوص فكان مشتقاً وفرعاً على المصدر.. وتحقيق هذه الطريقة أن الاشتقاق يراد لتكثير المعاني، وهذا المعنى لا يتحقق إلا في الفرع الذي هو الفعل، وذلك أن المصدر له معنى واحد، وهو دلالته على الحدث فقط، ولا يدل على الزمان بلفظه، والفعل يدل على الحدث والزمان المخصوص فهو بمنزلة اللفظ المركب فإنه يدل على أكثر مما يدل عليه المفرد، ولا تركيب إلا بعد الإفراد، كما أنه لا دلالة على الحدث والزمان المخصوص إلا بعد الدلالة على الحدث وحده
…
" وأردف: "وطريقة أخرى وهي أن تقول: الفعل يشتمل لفظه على حروف زائدة على حروف المصدر، تدل تلك الزيادة على معان زائدة على معنى المصدر، فكان مشتقاً من المصدر.. ومعلوم أن ما لا زيادة فيه أصل لما فيه الزيادة..".
وقال بقول البصريين كثير من المحدثين ومنهم الأستاذعبد الله أمين، كما جاء في مجلة مجمع اللغة العربية القاهري (1/382) ، وقد استند في ذلك إلى أن الأنباري صاحب الإنصاف قد ساق في المسألة آراء كل من الجانبين ووازن بينها فلم يدع مقالاً لقائل، وقد خلص إلى الأخذ بمقالة البصريين. قال الأستاذ أمين:"المبحث الأول في أن أصل المشتقات المصدر، كما قال البصريون، لا الفعل، كما قال الكوفيون. وإذ كان الإمام الجليل كمال الدين أبو البركات ابن انباري النحوي، رضي الله عنه، قد ساق في المسألة الثامنة والعشرين، في الصفحة الثانية بعد المائة، من كتابه المسمى، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين، آراء البصريين والكوفيين في أصل المشتقات ووازن بينها ولم يدع فيما جاء به مقالاً لقائل، فإني أكتفي في هذا المبحث بما كتب ونقلت عنه وعولت عليه..". ومن هؤلاء الدكتور صبحي الصالح، إذ رأى في ذلك رأي البصريين ونزع منزعهم واستن بسننهم. فقد استشهد بما جاء في (أصول النحو) للأستاذ سعيد الأفغاني. قال الأفغاني:"المصدر يدل على حدث وزمن، والأسماء المشتقة تدل على حدث وزمن وزيادة ثالثة كالدلالة على الفاعل والمفعول".
أقول لم يزد الأفغاني على أن جاء بمقالة البصريين القائمة على أن الفرع ما كان فيه الأصل مع زيادة هي غرض الاشتقاق. فالمصدر هو الأصل لأنه يدل على الحدث مطلقاً والفعل هو الفرع ففيه ما في المصدر من الحدث وزيادة هي الدلالة على الزمن المعين. وكذلك الوصف فالوصف فرع على المصدر كالفعل. وقيل بل الوصف منطو على ما في الفعل من حدث وزمن وزيادة هي الدلالة على الموصوف، فهو فرع على الفعل، فالفعل فرع وأصل، وعليه السيرافي وأبو علي الفارسي وابن جني.
وقصارى ما هناك أننا إذا جرينا مجرى البصريين في قضية الاشتقاق من حيث تعريف (الفرع) المشتق منسوباً إلى (الأصل) المشتق منه بأنه (ما دل على ما دل عليه الأصل وزيادة) انتهينا إلى ما انتهوا إليه، فعلى هذا مدار الكلام ومتصرفه، ولكن هل ثمة ما يوجب اعتبار هذا التعريف الحقيقي بالضرورة، والاقتداء به والانتصار له، أليس هناك موقف فسحة وسعة أخلق بالإيثار وأحرى بالاختيار!
قال الأستاذ الشيخ حسين والي عضو المجمع (2/202) : "رجحوا ما رأى أهل البصرة من أن المصدر هو الأصل، بحجة أن شأن الفرع أن يكون فيه ما في الأصل وزيادة، وهي أقوى ما عندهم من الحجج، مع أنه لا يقوم برهان يؤيدها، ولو قام برهان كذلك لأكره عقول أهل الكوفة على قبوله، حتى يرجعوا عن جعلهم المصدر، الذي لا يدل إلا على الحدث فرعاً من الفعل، الذي يدل على الحدث والزمان المعين. فإن في ذلك زيادة الأصل على الفرع. فالمسألة ظن واجتهاد، وبعض الظن والاجتهاد أولى من بعض".
وجاء في شرح الأشموني على ألفية ابن مالك (2/251) : "وكونه أي المصدر أصلاً في الاشتقاق لهذين أي للفعل والوصف
…
هو مذهب البصريين، وخالف بعضهم فجعل الوصف مشتقاً من الفعل فهو فرع الفرع، وذهب الكوفيون إلى أن الفعل أصل لهما، وزعم ابن طلحة أن كلاً من المصدر والفعل أصل برأسه، ليس أحدهما مشتقاً من الآخر"، وأردف: "والصحيح مذهب البصريين لأن شأن الفرع أن يكون فيه ما في الأصل وزيادة، والفعل والوصف مع المصدر بهذه المثابة، إذ المصدر إنما يدل على مجرد الحدث وكل منهما يدل على الحدث وزيادة".
وقد عقب على ذلك الإمام الصبان فقال: "قوله لأن من شأن الفرع أن يكون فيه الأصل وزيادة.. ما هنا ليس كذلك، أفاده الدنوشري.. وقد ناقش قولهم أن من شأن الفرع الزيادة على أصل بأنه لا برهان يقتضي ذلك".
فإذا نحن لم نخلد إلى التعريف اللفظي للفرع والأصل، في مقالة البصريين، وفزعنا إلى تعريف حقيقي يكون للماهية فيه تحقق وثبوت، كأن تقول:"الأصل ما سبق تصوره وقيامه في الذهن" كان التعريف أليق بالواقع اللغوي. وإذا كان المدرك الحسي أسبق إلى الذهن من المدرك المعنوي، وأجناس الأعيان أسبق من أجناس المعاني ومنها المصادر، كان المصدر الدال على العموم والجنس والمطلق متخلفاً عما يمكن تصوره من أسماء الأعيان وما انتزع منها من أفعال واشتق من هذه من صفات، وما صح أنه الأسبق هو الأصل.
قال ابن جني في الخصائص: "ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه".
وأشار الكوفيون إلى نحو من هذا فقالوا إن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل، والفعل وضع له، فعل يفعل، فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلاً للمصدر. أما احتجاجهم بأن المصدر يعتل باعتلال الفعل، والاعتلال حكم تسبقه علته، فإذا كان الاعتلال في الفعل أولاً، وجب أن يكون أصلاً، وكذا قولهم بأن الفعل يعمل في المصدر كقولك ضربته ضرباً، والمؤثر أقوى من المؤثر فيه، والقوة تجعل القوي أصلاً لغيره.. أقول احتجاجهم بهذا وذاك احتجاج اعتباري لا يكاد يقف فيه الجدل على وجه يخلد إليه بيقين.
وقد بحث المسألة الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العلمي العراقي، رحمه الله، في كتابه (دراسات في فلسفة اللغة والنحو والصرف) فناقش ووازن وكايل وأدلى بحججه وانتهى من بحثه إلى الأخذ بمذهب الكوفيين، واستدل على صحة دعواه بثلاثة عشر دليلاً فقال:"هذه ثلاثة عشر دليلاً تنتقض دعوى سيبويه أن الفعل صادر عن المصدر، وهي أدلة نحن اهتدينا إليها ولم يقف عليها الكوفيون وغيرهم".
أقول إني لأستسرف دعوى جواد هذه، فإذا كان قد أصاب في ذهابه مذهب الكوفيين وقياسه قياسهم فإن جل ما جاء به من الأدلة على سداده واستقامته، اصطلاحي اعتباري. ويكاد يكون أظهر هذه الأدلة أن الفعل تجسيد والمصدر تجريد والمجسد أسبق إلى الذهن من المجرد، وليس هذا جديداً كما أوضحناه، وكذلك قوله أنك تكتب ثم تسمي فعلك الكتابة وهو ما صرح به الكوفيون حين ذكروا أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل. فليس صحيحاً أنه قد تفرد بما ساق من الأدلة فأتى مبتكراً، بما لم تفتح العين على مثله، أو نزع مقترحاً، إلى ما لم يسبق إليه سابق أو ينازعه فيه منازع.
وتابع السكاكي أبو يعقوب (ت 626هـ) في (مفتاح العلوم) الكوفيين فاقتاس بهم ووطئ مواقع أقدامهم واعتل لأصالة الفعل بأن المصدر يتبع الفعل في إعلاله وتصحيحه، ودليل السكاكي هذا اعتباري اصطلاحي.
على أن ثمة منحى يوضح الأمر ويجلوه ويكشف عن مكنونه، ذلك أن اللغات السامية قد اعتدّت الفعل أصلاً للاشتقاق دون المصدر، كما أوضح ذلك الدكتور اسرائيل ولفنسون في كتابه " تاريخ اللغات السامية"/14/ إذا قال تتميز اللغات السامية في بعض أحوالها عن أنواع اللغات الأخرى بمميزات وخصائص تجعل من كل من هذه اللغات كتلة واحدة. وأهم تلك المميزات تنحصر: 1-في أن هذه اللغات تعتمد على الحروف الصامتة وحدها ولا تلتفت إلى الحروف الصوتية كما هي الحال في اللغات الآرية.. 2-وأن أغلب الكلمات يرجع في اشتقاقه إلى أصل ذي ثلاثة أحرف.. 3-واشتقاق الكلمات من أصل هو الفعل
…
" وأردف: "وقد رأى بعض علماء اللغة العربية أن المصدر الاسمي هو الأصل الذي يشتق منه أصل الكلمات والصيغ، لكن هذا الرأي خطأ في رأينا لأنه يجعل أصل الاشتقاق مخالفاً لأصله في جميع أخواتها السامية".
عزا ولفنسون مذهب الأئمة في اعتداد المصدر أصلاً في الاشتقاق، إلى مجاراتهم الفرس فقال:"وقد تسرب هذا الرأي إلى هؤلاء العلماء من الفرس الذين بحثوا في اللغة العربية بعقليتهم الآرية، والأصل في الاشتقاق عند الآريين أن يكون من مصدر اسمي. أما في اللغات السامية فالفعل هو كل شيء فمنه تتكون الجملة، ولم يخضع الفعل للاسم والضمير بل نجد الضمير مسنداً إلى الفعل ومرتبطاً به ارتباطاً وثيقاً".
وقد عالج الأستاذ الأفغاني هذا الرأي فقال: "ثم ذكر هذا المستشرق اليهودي أن هذه نظريته الخاصة، إذ لم يشر إليها أحد من علماء الإفرنج. ومع رغبته في أن يعم بنظريته هذه اللغة العربية ولغته العبرية، يجدر بالمتأمل الوقوف وعدم القطع، ما لم يقم عليه البرهان الساطع، فما أكثر الظواهر التي خالفت فيها العربية أخواتها الساميات".
أقول لا بد للغات عامة أن تتغاير فيعزى ما تقارب منها في أصوله إلى فصيلة واحدة، فالذي يقع فيه التغاير بين فصيلة وأخرى إنما هو القواعد والأصول الأخرى كالبنية اللغوية والاشتقاق، دون الأشكال والمفردات. فالذي ذكروه أن العربية خالفت بعض أخواتها في أداة التعريف وعلامة الجمع، كما أورده الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه (فقه اللغة) والأستاذ محمد عطية الابراشي في كتابه (الآداب السامية) ، ولكنها لم تخالفها في البنية اللغوية وطريقة الاشتقاق، كاعتمادها على الحروف الصامتة دون الصوتية، ورد الكلم إلى أصل ثلاثي، ووحدة الأصل في بنيتها وعدم تعدده كما يتعدد في اللغات الآرية. قال الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه (علم اللغة/ 133) :"وقد اعتمدنا في التفرقة بين هاتين الفصليتين- أي السامية والآرية- على أمور تتصل بالقواعد لا بالمفردات، وذلك لأن ناحية القواعد هي أهم ما تمتاز به الفصائل بعضها عن بعض، فمنها تتكون شخصية اللغات وإليها ترجع مقوماتها، وهي التي تمثل المظهر الثابت المستقر في اللغات، فهي لا تكاد تتغير.. فتشابه لغتين في القواعد يدل إذن على انتمائهما إلى فصيلة واحدة، واختلافهما فيها يدل على اختلاف فصيلتيهما..".
فإذا استقر الأمر على ما بيناه، صح معه أن مغايرة العربية لأخواتها السامية إنما كانت في الأشكال والفروع، لا في القواعد والأصول، واعتماد اللغات السامية في اشتقاقها على الفعل، إنما هو من هذه القواعد والأصول.
هذا ما رأينا أن نعرض له من مذاهب النحاة وآرائهم في مصادر الأفعال والكشف عن دلالاتها وطرائق جمعها وصوغها وقياسها واشتقاقها وأعمالها، فيما صدقت نيات الأوائل في تحري صوابه وابتغاء حقائقه بأفصح لسان وأبلغ بيان.
وقد استعنا في البحث بما استقر في هذا الباب من ضوابط وقواعد، ليقطع في الأمر برأي لا يعوزه تدبر، ويقين لا خفاء به ولا ارتياب، هذا وجه مطلبه والوقوع عليه.
ونحن نعتذر مما بسطنا القول فيه ليقف القارئ في كل مسألة على ما استبهم من وجوهها واستغلق من أحنائها، فتخف الكلفة عليه في تحصيلها، ويكون على ثقة من إصابة الرأي فيما تشعبت مذاهب القول في قبوله ورده، واشتدت الحاجة إليه في التعبير والاصطلاح ومسَّت في تحقيق المعاني وضبط دقائقها.
ولا بد في مسالك البحث هذه من إنعام الفكر وإنعام الروية ليخلص الرأي من كل شائبة ويصفو من كدر أو معابة، فليس القائل بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده لا يخالف في رأي أو ينازع في حكم وأرجو أن أكون قد أدركت من بحثي ما أردت فلم أخطئ القصد.