الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جمع المصادر
اتسعت في المصدر ودلالته وجمعه، أقوال النحاة، وتشعبت في ذلك مذاهبهم، فدعت الضرورة في قليل من كلام النحاة، إلى النظر والتدبير، وفي كثير منه إلى التبيين والإيضاح.
قال صاحب المصباح، في (قصد) حول ما اشترطه النحاة لجمع المصدر: وبعض الفقهاء جمع القصد على قصود، وقال النحاة المصدر المؤكد لا يثنى ولا يجمع لأنه جنس، والجنس يدل بلفظه على ما دل عليه الجمع. فإن كان المصدر عدداً كالضربات أو نوعاُ كالعلوم والأعمال، جاز ذلك لأنها وحدات وأنواع جمعت، فتقول ضربت ضربين، وعملت علمين، فيثنى لاختلاف النوعين، لأن ضرباً يخالف ضرباً في كثرته وقلته، وعلماً يخالف علماً، في معلومة ومتعلقه كعلم الفقه وعلم النحو. كما تقول عندي تمور، لذا اختلفت الأنواع.. وكذلك الظن يجمع على ظنون لاختلاف أنواعه، لأن ظناً يكون خيراً وظناً يكون شراً.
وقال ابن جني في صدد اعتلاله لاختيار سيبويه لفظ (الكلم) على (الكلام) في قوله (هذا باب ما الكلمُ من العربية)، قال ابن جني في الخصائص (1 / 23) :(وذلك أن الكلام اسم من كلم بمنزلة السلام من سلم، وهما بمعنى التكليم والتسليم، وهما المصدران الجاريان على كلَّم وسلَّم. فلما كان الكلام مصدراً يصلح لما يصلح له الجنس، ولا يختص بالعدد دون غيره، عدل عنه إلى الكلم الذي هو جمع كلمة، بمنزلة سلِمَة وسلِم.. ذلك أنه أراد تفسير ثلاثة أشياء مخصوصة، وهي الاسم والفعل والحرف، فجاء بما يخص الجمع وهو الكلم، وترك ما لا يخص وهو الكلام. فأما قول مزاحم العقيلي.. الكلام الطرائف، فوصفه بالجمع، فإنما ذلك وصف على المعنى) . وقال (1 / 25) : (وهذا طريق المصدر لما كان جنساً لفعله، ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام، وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام، وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام. فالكلام إذاً إنما هو جنس للجمل التوام مفردها ومثناها ومجموعها. كما أن القيام جنس للقومات مفردها ومثناها ومجموعها. فنظير القومة الواحدة من القيام، الجملة الواحدة من الكلام، وهذا جلي) هذا وقد سمى سيبويه (المصدر) فعلاً وحدثاً.
فما وجه الرأي في هذا كله؟
أقول المصدر جنس لفعله كما ذكر ابن جني، فهو يدل إذاً على الحدث من حيث تعلقه بفاعله، ولكن على وجه العموم والإبهام. فإذا صح هذا فالمصدر لا يثنى ولا يجمع، لا لأنه يتناول الجنس والجنس يدل على القليل والكثير فحسب، بل لدلالته على الحدث المتعلق بفاعله من حيث هو حدث أيضاً، قال صاحب الكليات (325) :(وعدم تثنيته وجمعه، أي المصدر، لا لكونه اسم جنس، بل لكونه دالاً على الماهية، من حيث هي هي، وإلا كان الأصل في اسم الجنس ألا يثنى ولا يجمع، ولم يقل به أحد) ! أقول ليس الأمر على ما ذكره أبو البقاء الكفوي، ذلك أن الأصل اسم الجنس ألا يجمع لأنه يدل على القليل والكثير، لكنه إذا جمع فقد عُدل بدلالته هذه. فالتمراسم جنس، فإذا جمعته على (تمور) فذلك لاختلاف أنواعه، وبذلك يكون قد جُذب من الجنس ودلالته العامة وشموله، إلى النوع ودلالته المحددة وخصوصه، فأمكن جمعه قال صاحب المصباح (لأن الجنس لا يجمع في الحقيقة، وإنما تجمع أصنافه. والجمع يكون في الأعيان كالزيدين، وفي أسماء الجنس إذا اختلفت أنواعها كالأرطاب والأعناب والألبان واللحوم، وفي المعاني المختلفة كالعلوم والظنون) . فالمصدر إذا حدّ بما ذكرناه فلا سبيل إلى جمعه البتة سماعاً أو قياساً، لكنه إذا عُدل به عما وضع له، كأن يخرج به عن دلالته الجنسية، أو حدثه المتعلق بالفاعل، جاز جمعه في الأصل، قياساً على الأسماء عامة. وسترى أن كل ما جمعوه من المصادر وتأولوا له بالسماع واختلاف الأنواع، هو من قبيل ما خرجوا به عن جنسه أو حدثه العام الصادر عن الفاعل. فليس جمعه إذاً على الشذوذ أو الندرة كما ذهب بعضهم، وإنما لما زال عنه عارض المنع من الجمع عاد له حكمه الذي يقتضيه حال الأسماء في الأصل.
فكلام الأئمة مثلاً على أن مصدر الوحدة ومصدر الهيئة يثنيان ويجمعان. وأنت إذا قلت (جلت جولة) و (مشيت مشية الفزع) لم تر في (الجولة والمِشية) ما يدل على جنس الفعل عامة بعد أن حُد بالوحدة أو خُص بالهيئة، ولو دلّ على الحدثَ. فلا شذوذ على هذا في اطراد جمعهما. قال ابن جني (فنظير القومة الواحدة من القيام، الجملة الواحدة من الكلام، وهذا جليّ) .
وكلام الأئمة على أن (العقول والألباب والحلوم والعلوم والظنون) مصادر قد جمعت لاختلاف الأنواع. وهي على التحقيق أسماء ليس لها من مصدريتها إلا اللفظ. ذلك أنه قال عُدل بها عما للمصدر من دلالة على جنس الفعل وحدثه المتعلق بالفاعل. قال صاحب المصباح (ثم أطلق العقل الذي هو مصدر على الحجا واللب) . وقال صاحب المفردات (والعقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم) .
وقال ابن القوطية: (ولبَّ لُباً ولبابة: عقل) . فدل هذا على أن (اللبَّ) في الأصل مصدر. وقال صاحب المفردات (اللب العقل الخالص من الشوائب، سمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه كاللباب واللب من الشيء) . فدل هذا على أن (اللب) قد حيد به عن مصدريته إلى مجرد الاسمية.
وقال ابن القوطية: (حلمُ حلماً عَقَل) . وقال ابن منظور (الحلمِ بالكسر الأناة والعقل وجمعه أحلام وحلوم) .
وروى ابن منظور عن صاحب المحكم أن (الظن) يكون اسماً ومصدراً وأن الذي جُمع على (الظنون) هو الاسم لا المصدر. وأشار إلى نحو من هذا صاحب المصباح حين قال: (الجمع يكون في الأعيان كالزيدين
…
وفي المعاني المختلفة كالعلوم والظنون) فنبه بهذا على أن العلم والظن إذا جمعا فقد عريا من الحدث وجنسه، إذ أصبحا محض اسمين للمعنى. فـ (العلم) مصدر (عَلم) هذا هو الأصل لكنه ليس مصدراً حين يجمع، وهذا ما أراد الشيخ مصطفى الغلاييني أن يلحظه في كتابه (جامع الدروس العربية 2 / 414) حيث قال:(فالمصدر قد يراد به الاسم، لا حدوث الفعل، كما تقول العلم نور، فإن لم يرد به الحدث فلا يعمل) .
لبس شيء مما جُمع، وأصله المصدر، باقياً على مصدريته
أقول ليس شيء مما جُمع كالعقول والألباب والحلوم والعلوم والظنون، قد أريد به الحدث البتة. فليس هو مصدراً بحال من الأحوال، وإن كان أصله كذلك. قال صاحب المصباح في الاعتلال لجمع (العلم) :(إن ضرباً يخالف ضرباً في كثرته، وعلماً يخالف علماً في معلومه ومتعلقه، كعلم الفقه وعلم النحو) . والصحيح أنه ليس في (العلم) من قولك (علم الفقه وعلم النحو) ما يدل على الحدث. بل ليس فيه ما يصدق على الجنس أيضاً. ومن ثم جاز جمعه جمع الأسماء. وكل ما جمعته من ذلك فقد جذبته إلى الاسمية وخرجت به عن المصدرية.
قال الجرجاني فيما حكاه المصباح (ولا يجمع المبهم إلا إذا أريد به الفرق بين النوع والجنس، وأغلب ما يكون فيما ينجذب إلى الاسمية نحو العلم والظن، ولا يطرد) .والغلبة التي أشار إليها الجرجاني قياس لا ينكسر. وتصحيح قوله أن كل ما جمع فقد انجذب إلى الاسمية. وعلى ذلك قول صاحب المصباح: (وإن لم يُسمع عللوا أن المصدرباق على مصدريته) وليس قول الأئمة فيما جمع أنه مصدر إلا على الاعتداد بالأصل. وإلا فليس المصدر مصدراً بلفظه وحسب، وإنما هو مصدر بدلالته، ودلالته التي تتناول جنس الفعل وحدثه العام المبهم الصادر عن فاعله، فإذا تخلفت عنه الدلالة، تخلف معها ما تقتضيه من امتناع جمعه، فجُمع.
التضاعف والأثناء:
وانظر إلى ما قاله ابن يعيش في قول الزمخشري من خطبة المفصل: (ثم إنهم في تضاعيف ذلك يجحدون فضلها)، قال: "التضاعيف جمع تضعيف، وهو مصدر ضعفته إذا أردت مثله أو أكثر) . وقال (وإنما جمع، والمصدر لا يثنى ولا يجمع، لأنه أراد أنواعاً من التضعيف مختلفة، كما يقال العلوم والأشغال) . فانظر كيف جعل (التضعيف) مصدراً فذكر بهذا حاله الأولى، على شهرته في انفكاكه عنها، وغلبة اسم الذات عليه. فالتضاعيف هي الغضون والأثناء. قال صاحب الأساس (وكل شيء ثني بعضه على بعض أطواقاً، فكل طاق من ذلك ثني، بكسر الثاء، حتى يقال أثناء الحية لمطاويها) . وقال الجوهري (والثني واحد أثناء الشيء، أي تضاعيفه
…
والثني من الوادي والجبل منعطفه، وثني الحبل ما ثنيت) . وقال المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (514) :(ويقال ثنيت الشيء ثنياً ثم يسمى المثني ثنياً، بكسر الثاء، وما ثني به هو أيضاً ثنياً) .
هذا وإذا قلنا إن المصدر قد ينتهي به الاستعمال إلى الاسم، اسم الذات أو اسم المعنى، فلابد من التنبيه على أن اسم الذات في الأصل أعرق في النشوء وأسبق، من المصدر الدال على حدث الفعل وجنسه، من حيث التوالد اللغوي وتكامله.
الأصوات والصلوات والزكوات:
والصوت مصدر صات يصوت كالقول مصدر قال يقول. فإذا جمع على أصوات كان اسماً. ومن النحاة من يقول إنه مصدر لكنه يردف أنه خرج بالتسمية عن حكم المصادر.
قال ابن سيده في المخصص (13 / 85 ـ 86) : (إذا كانت الصلاة مصدراً وقع على الجميع والمفرد على لفظ واحد كقوله: صوت الحمير، فإذا اختلف جاز أن يجمع لاختلاف ضروبه، كما قال جلّ وعزّ: إن أنكر الأصوات) . وأضاف: وإذا جمعت المصادر نحو قوله: إن أنكر الأصوات، فإنك تجمع ما صار بالتسمية، كالخارج عن حكم المصادر، أجدر.. فهذا قول من جمع نحو قوله حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) . أقول الصوت هنا هو ما يحدثه الشيء إذا صات وجمعه أصوات أي أنه الأثِر الذي حصل بالحدث ومن ثم كان اسماً خارجاً عن حكم المصدر. وإذا قلت (له صوتٌ صوتَ حمام) فصوتٌ الأول ليس هو حدث الفعل بل أثره المسموع، ومن ثم كان العمل في (صوت) الثاني لفعل مقدر، لا لـ (صوت) الأول.
وكذا (الصلاة) إذا جمعته على (الصلوات) . قال ابن سيده (فالتسمية به مما يقوي الجمع فيه، إذا عُني به الركعات لأنها جارية مجرى الأسماء) . أي أن (الصلاة) إذا كانت مصدراً بمعنى (الدعاء) فقد سميت بها الركعات أو العبادة المخصوصة فأنزلت منزلة الأسماء فجمعت. وهكذا الزكاةَ حين جمعت على (الزكوات) في نهج البلاغة (2 / 173) : (كما حرس الله عباده بالصلوات والزكوات) . ولا يخفى أن (الصلاة والزكاة) من الألفاظ الإسلامية التي اكتسبت معاني اشتقت من أصول معانيها. ففي كتاب الزينة للشيخ أبي حاتم الرازي (المتوفى 322 هـ) : (فالإسلام هو اسم لم يكن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أسماء مثل الأذان والصلاة والركوع والسجود، لم تعرفها العرب إلا على غير هذه الأصول. فكانوا يعرفون الصلاة أنها الدعاة، قال الأعشى في صفة الخمر:
لها حارس ما يبرح الدهر بينها فإن ذبحت صلى عليها وزمزما
أي دعا لها) وأصل الذبح الشق، ويقال ذبحت الدن أي بزلته، والدن الوعاء الذي ترقد فيه الخمر. وزمزم بمعنى ترنم. وجاء في كتاب الزينة أيضاً:(الزكاة هو من النموّ والزيادة يقال زكا الزرع إذا نما وطال وزاد. ويكون من الطهارة. قال تعالى (قد أفلح من زكاها (أي طهرها على أن الصلاة على التحقيق اسم مصدر، والأصل صلى تصلية وكذلك الزكاة. قال صاحب الكليات (223) : (الصلاة اسم مصدر، أي الثناء الكامل، وكلاهما مستعملان، بخلاف الصلاة بمعنى أداة الأركان فإن مصدرها لم يستعمل.. ويقال صليت صلاة ولا يقال صليت تصلية) . على أن اسم المصدر هنا قد حل محل المصدر واستُغني به عنه.
المصادر المؤكدة:
جاء كلام الأئمة على أن المصدر المؤكد لا يجمع، وهو صحيح على ما انتحيناه، فالمصدر في قولك قمت قياماً وجلست جلوساً، قد ماثل فعله من حيث دلالته على الحدث وجنسه دون تحديد، فهو باق على مصدريته، دال على جنس فعله وإبهامه. قال صاحب الهمع (1 / 186) :(المصدر نوعان مبهم، وهو ما يساوي معنى عامله من غير زيادة كقمت قياماً وجلست جلوساً، وهو لمجرد التأكيد، ومن ثم لا يثنى ولا يجمع، لأنه بمنزلة تكرير الفعل فعومل معاملته في عدم التثنية والجمع) . أما الحكم بقصوره عن العمل فذلك أنه قد أتى مؤكداً لعامله، لا نائباً عنه كالمصدر المضاف المبين للنوع في نحو قولك (ضربت فلاناً ضرب زيد أخاه) أي ضرباً مثل ضرب زيد أخاه، كما جاء في حاشية الصبان على الأشموني (2 / 103) و (ضرب) على هذا قد عمل رفعاً في فاعله المضاف إليه، ونصباً في مفعوله، خلافاً للمصدر المؤكد لعامله.
المصادر المنتهية بالتاء:
وكلام الأئمة على جمع المصادر المنتهية بالتاء. قال العلامة: (ياسين) في حاشية التصريح: (إن المصدر لا يثنى ولا يجمع ما لم يكن بالتاء. وسترى أن ما انتهى بالتاء من المصادر قد جمع حملاً على الاسمية أيضاً، وقد تأولوا له باختلاف الأنواع فدلوا بذلك على خروجه عن جنس فعله قال ابن الأثير في (النهاية) : (التحيات جمع تحية، قيل أراد بها السلام. يقال: حياك الله أي سلم عليك. وقيل التحية الملك، وقيل البقاء. وإنما جمع التيحة لأن ملوك الأرض يحيَّون بتحيات مختلفة. فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: أنعم صباحاً، ولبعضهم: اسلم كثيراً، ولبعضهم: عش ألف سنة، فقيل للمسلمين قولوا: التحيات لله، أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء، هي لله تعالى) . فانظر إليه كيف اعتل لجمع المصدر باختلاف أنواع التحيات فأخرجه عن جنسه، ثم أشار إلى دلالته على لفظ السلام والملك والبقاء، فأخرجه عن حدثه.
و (النية) التي تجمع على (النيات) اسم لا مصدر. قال صاحب المصباح: (والنية: الأمر والوجه الذي تنويه) .
وقد جمعوا (النُهية) على (النُهى) . قال ابن سيده في المخصص (15 / 140)(والنُّهى مقصور العقل يكون واحداً وجمعاً، واحدته نُهية. قال الفارسي: النُهى لا يخلو أن يكون مصدراً أو جمعاً كالظُلَم. وقوله تعالى: (لأولى النهي (، يقوي أنه جمع لإضافة الجمع إليه) . والنُهية اسم مصدر وقد جمع على النُهى كما رأيت، واسم المصدر كالمصدر في جواز جمعه أو امتناعه.
وجاء في الكليات (327) : (ويجوز جمع المصادر وتثنيتها إذا كان في آخرها تاء التأنيث كالتلاوات والتلاوتين) . وليست التلاوة المجموعة مصدراً، كالتلاوة في قوله تعالى (يتلونه حق تلاوته (.
هل يجوز الخروج بالمصدر إلى الاسمية وجمعه كلما دعت الحاجة:
يتبين بما تقدم أن المصدر لا يجمع ما بقي على دلالته من حيث حدثه وجنسه، فإذا انفك عنها سقط عنه مقتضاها، وهو عدم الجمع. على أن بيت القصيد هاهنا هل يسوغ التصرف في المصدر كلما مست إليه الحاجة ودعت الضرورة، فيُخرج به عن مصدريته ويُجمع على إرادة الاسمية؟.
أكثر نصوص الأئمة على الوقوف بهذه الإرادة عند حد السماع، عدا ما انتهى من المصادر بالتاء. فليس لك. على هذا. أن تجمع وتقول أردت بالمصدر الاسمية، إذا أدّاك التعبير إليه، إلا أن يكون العرب قد فعلوِه فنقل عنهم، وهو الحكم الذي يرجع إليه، ويقتاس به عند الأكثرين. ولكن ألا يخالف هذا، العرفَ اللغوي من وجوه؟
قال صاحب المصباح فيما أسلفنا: (فإن كان المصدر عدداً كالضربات أو نوعاً كالعلوم والأعمال، جاز ذلك لأنها وحدات وأنواع جمعت) . وأضاف: (وقال الجرجاني: لا يُجمع المبهم إلا إذا أريد به الفرق بين النوع والجنس. وأغلب ما يكون فيما ينجذب إلى الاسمية نحو العلم والظن) . ولا تكاد تحسب بهذا أنهما آخذان بالقياس حتى يستدرك الجرجاني فيقول: (ولا يطرد، ألا تراهم لم يقولوا في قتل وسلب ونهب: قتول وسلوب ونهوب) . ويستدرك الفيومي فيقول (وقال غيره لا يجمع ـ الوعد ـ لأنه مصدر، فدل كلامهم على أن جمع المصدر موقوف على السماع، فإن سمع الجمع عللوا باختلاف الأنواع، وإن لم يسمع عللوا بأنه مصدر باق على مصدريته، وعلى هذا فجمع القصد موقوف على السماع) .
القول بقياس جمع المصدر إذا أريد به الاسم
ذهب بعض الأئمة إلى الأخذ بقياس جمع المصدر إذا أريد به الاسم، جرياً على ما استن به العرب أنفسهم حين جمعوا (العلوم والظنون والحلوم والعقول والأعمال والأشغال..) . قال صاحب الهمع (1 / 186) : (أما النوع ففيه قولان: أحدهما يثنى ويجمع، وعليه ابن مالك، قياساً على ما سُمع منه كالعقول والألبان والحلوم، والثاني: لا، وعليه الشلوبين قياساً للأنواع على آحاد، فإنها لا تثنى ولا تجمع لاختلافها.
وقال في جمع المصدر (2 / 183) : (ولم تطرد فيه قاعدة بحيث تكون مقيسة في جمع ذلك الاسم، فإنه إذ ذاك يجمع جمع ما كان أشبه به. مثال الأول أن يسمى بضرب، فإنه لم يجمع وهو مصدر فجمع وهو مسمى به على أفعُل في القلِّة فتقول أضرب ككلب وأكلب، وضروب في الكثرة ككعب وكعوب) .
وهذا يعني أنك إذا سميت بمصدر جمعته على ما يجمع به ما هو نظيره من الأسماء.
قال الشيخ مصطفى الغلاييني في كتابه (جامع دروس اللغة العربية (2 / 199) : (والمفيد عدداً يثنى ويجمع بلا خلاف، والمفيد نوعاً فالحق أنه يثنى ويجمع قياساً على ما سمع منه كالعقول والألباب والحلوم وغيرها) .
تصرف الأئمة في جمع المصدر كلما دعت حاجة التعبير
إلى إنزاله منزلة الاسم
على أن المانعين من القياس في جمع المصدر لم يثبتوا على المنع فيما تناولته أقلامهم وذاع في مصنفاتهم. فقد جمعوا من المصادر ما لم يرد بجمعه سماع، وعللوا لذلك باختلاف الأنواع، وجمعهم هذا وتعليلهم دليلان على انصراف الأئمة إلى القياس غالباً لاشتداد الداعي إليه.
أما قول صاحب المصباح (ألا تراهم لم يقولوا في قتل وسلب ونهب، قتول وسلوب ونهوب) فجوابه أنهم لو احتاجوا إلى ذلك في معنياتهم ومتصرف أفكارهم لقالوه وأثبتوه. قال الإمام الرضي في شرح الكافية (2 / 187) : (ومنه قولك الإكرامات والتخريجات، والانطلاقات ونحوها، لأن والواحد إكرامة وتخريجة وانطلاقة بناء الوحدة، لا إكرام وتخريج. وجمع المجرد أكاريم وتخاريج عند اختلاف الأنواع. فالإكرامات كالضربات والقتلات، والأكاريم كالضروب والقتول. ولذا يقال ثلاث إكرامات وتخريجات بتجريد العدد من التاء، وثلاثة أكاريم وتخاريج إذا قصدت ثلاثة أنواع من الإكرام..) وهكذا جمع قتلاً على قتول خلافاً لما تصوره صاحب المصباح. أما قصره جمع إكرام على أكاريم دون إكرامات، لعدم انتهائه بالتاء، فسترى أن الأئمة قد تجاوزوه.
هذا وسنورد عليك مما جرت به أقلام الأئمة، قياساً على ما سمع عن العرب، ما يدل دلالة سديدة واضحة على أن التصرف في المصادر لا يمكن أن يحده سماع. وإن اللغة تقتضيه اقتضاء كلما احتيج إلى تجديد المعاني وتوليدها وتصريفها حيثما اتجه الفكر، وأن أصولها، إلى ذلك، لا تأباه ولا تعافه، بحاال من الأحوال. فأنت إذا تقصيت ما كتبوه واستقريته وجدت أن أحدهم لم يتورع عن جمع المصدر إذا نوى فيه الاسمية، ولو لم يرد النص بسماع جمعه. فالعرب قد جمعت من المصادر ما احتاجت إلى إرادة الاسمية فيه لحاجة في التعبير، وتصرفت فيما اضطرت أن تخرج به عن دلالته، وليس هذا مما يمثل أو يمكن أن يحصره سماع أو تحده رواية.
قال صاحب المصباح: (واستعمل العيب اسماً وجمع على عيوب) .
وقال: (ثم استعمل النسب وهو المصدر في مطلق الوصلة بالقرابة، فيقال بينهما نسب أي قرابة، وجمعه أنساب) .
وقال: (وفرض الله الأحكام فرضاً أوجبها. فالفرض المفروض، جمعه فروض، مثل فلس وفلوس) .
وقال: (الغيم السحاب الواحدة غيمة، وهو مصدر في الأصل من غامت السماء من باب سار، إذا أطبق بها السحاب) .
وقال: (والشق بالفتح انفراج في الشيء، وهو مصدر في الأصل، والجمع شقوق) .
وقال: (والجمع أيضاً الجماعة تسمية بالمصدر ويجمع على جموع مثل فلس وفلوس) .
وقال في (لفظ) : (واستعمل المصدر اسماً وجمع على ألفاظ كفرخ وأفراخ) .
قال: (والمكس الجباية، وهو مصدر من باب ضرب أيضاً، فاعله مكَّاس، ثم سمي المأخوذ مكساً تسمية بالمصدر، وجمع على مكوس مثل فلس، وفلوس) .
وقال: (والبعث الجيش تسمية بالمصدر، والجمع بعوث) .
وقال: (ووقف أيضاً تسمية المصدر والجمع أوقاف) .
وقال: (ثم أطلق الرهن على المرهون، وجمعه رهون مثل فلس وفلوس) .
وقال: (وسمي ما يصاد صيداً، إما فعل بمعنى مفعول، وإما تسمية بالمصدر، والجمع صيود) .
وقال: (ووهمت وهماً، وقع في خلَدي، والجمع أوهام) .
وقال ابن منظور: (والفتح افتتاح دار الحرب وجمعه فتوح) .
وقال: (والوضع أيضاً الموضوع، سمي بالمصدر
…
والجمع أوضاع) .
وقد ورد (النص) عنهم مصدراً منقولاً إلى الاسمية بمعنى المنصوص، فجمع على نصوص، ثم أسمي به الكتاب والسنة، وأصل معناه الرفع أو الإظهار. قال صاحب الكليات:(ثم نقل في الاصطلاح إلى الكتاب والسنة، وإلى ما لا يحتمل إلا معنى واحداً) .
وقال الجوهري: (الغم واحد الغموم، تقول منه غمه فاغتم) . والغم مصدر، قال الجوهري:(وليلة غم أي غامة، وصف بالمصدر، كما تقول ماء غور) .
وفي المخصص (12 / 132) : (قال ابن جني: لام الفضاء واو، لقولهم فضا يفضو فُضوا وفضاء، والفاضي الواسع، وأفضى إلى الشيء صار في فضائه وفرجته، وجمعه أفضية) .
وقال الجوهري: (وفرقت الشيء تفريقاً وتفرقة فانفرق، وافترق وتفرق، وأخذت حقي منه بالتفاريق) .
ونظائر ما ذكرناه لك، مما جمعته العرب من المصادر حملاً على الاسمية، أو جمع قياساً على ما جمعوه، لا يحصيه عد.
طرف مما جمعه الأئمة من المصادر حملاً على الاسمية
يتبين بالاستقراء أن كثرة الأئمة قد جروا على جمع مصادر ما فوق الثلاثي فأكثروا منه، وترددوا في جمع مصادر الثلاثي فأقلوا منه. فهم جمعوا استعمالاً على استعمالات واختراعاً على اختراعات واحتمالاً على احتمالات واعتقاداً على اعتقادات واحتجاجاً على احتجاجات، كما جمعوا تقريراً على تقريرات وتحديداً على تحديدات، وإلزاماً على إلزامات والتزاماً على التزامات وتدقيقاً على تدقيقات وإلحاقاً على إلحاقات، واعتماداً على اعتمادات، وانتقالاً على انتقالات وتصحيفاً على تصحيفات وتنبيهاً على تنبيهات وتنزيلاً على تنزيلات وتأويلاً على تأويلات وتفريعاً على تفريعات وتصرفاً على تصرفات وترخيصاً على ترخيصات واختياراً على اختيارات وابتداءً على ابتداءات وإشكالاً على إشكالات وإعراباً على إعرابات وغير ذلك.
كما جمعوا تركيباً على تراكيب وتقليباً على تقاليب وتعليلاً على تعاليل وتكبيراً على تكابير وتصغيراً على تصاغير وتصنيفاً على تصانيف وتأليفاً على تآليف. وتفعيلاً على تفاعيل وتقسيماً على تقاسيم وتعبيراً على تعابير وتصريفاً على تصاريف وتفسيراً على تفاسير.
شاع ذلك في مؤلفات الأئمة شيوعاً متعالماً، كما هو الحال في كلام ابن جني في خصائصه والقاضي الجرجاني في وساطته والخفاجي في سر الفصاحة والزمخشري في أساسه. بل الجاحظ في بعض رسائله. فقد جاء مثلاً في (التربيع والتدوير) :(وعادته كطبيعته وآخره كأوله، تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد /217) .
وهكذا ابن هشام في مغنيه والسيوطي ومن حكى عنهم في مزهره وهمعه. والصبان في حاشيته على الأشموني، والأشموني في شرح الألفية.
وانظر إلى ما قاله ابن منظور في التعليق على ذلك (وقول ابن جني المضاف والمضاف إليه عندهم وفي كثير من تنزيلاتهم كالاسم الواحد.. إنما جمع تنزيلاً هنا لأنه أراد للمضاف والمضاف إليه تنزيلات في وجوه كثيرة، منزلة الاسم الواحد.. فكنى بالتنزيلات عن الوجوه المختلفة. ألا ترى أن المصدر لا وجه له إلا تشعب الأنواع وكثرتها. مع أن ابن جني تسمَّح بهذا تسمَّح تحضر وتحذق، فأما على مذهب العرب فلا وجه له، إلا ما قلناه) . أقول إن ما فعله ابن جني وتسمَّح به قد جرى عليه العرب أنفسهم، كما بسطنا القول فيه. ولابد لمثل هذا التسمح، مادام تسمح تحذق وتحضر، أن يتسع نطاقه وتمتد آفاقه، ما مسَّت إليه الحاجة في التعبير. وإذا كان الأئمة قد استسهلوا فيما جمعوه من مصادر ما فوق الثلاثي، جمعه السلامة أو منتهى الجموع فلظهور القياس فيه. وقد استحبوا جمع المصادر بالتاء، فيما لم يسمع جمعه عن العرب، وقد ضمنوا سلامة صيغته. وأكثروا من جمع ما ساغ جمعه على صيغه منتهى الجموع، فلا يعترضهم شك في تعرف واحده. وقد جمع الرضي في شرح الكافية (2 / 187) إكراماً على أكاريم وخص إكرامات بجمع إكرامة. وجمع صاحب المصباح (في رهب) إفساداً على إفسادات، كما جمع التاج السبكي في شرح المنهاج، على ما حكاه المزهر (1 / 175) ، إنشاء على إنشاءات.
وأقل الأئمة من جمع مصادر الثلاثي، لاختلاف صيغ جمعه، على وفرة ما نقل منه عن العرب كما رأيت، لكنهم جمعوا من مصادره ما يقتاد النظر إلى الأخذ به، كما اتفق لابن جني، وهو من تعلم في حذقه لفقه اللغة وعلومها واستقرائه لدقائقها وتمحيصه لدخائلها.
طرف مما جمعه ابن جني من مصادر الثلاثي
جمع ابن جني (قصداً) على (قصود) حين انتوى فيه الاسمية، فقد قال في الخصائص:(1 / 427)(فإن قلت فما تنكر أن يكون ذلك شيئاً طبعوا عليه وأجيئوا إليه، من غير اعتقاد منهم لعلله، ولا لقصد من قصوده التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه) . وقال (1 / 255) : (وتضطر إلى معرفته من أغراضها وقصودها)، وقال:(وغير ذلك من الأحوال الشاهدة بالقصود) .
وهكذا جمع (الحذف) وهو مصدر (حذف) على (حذوف) فقال (1 / 88) : (ألا ترى إلى ما في القرآن وفصيح الكلام من كثرة الحذوف، كحذف المضاف وحذف الموصوف) .
وعلى ذلك جمعه (حملاً) بفتح الحاء على (حمول)، قال (1 / 222) :(ثم قالوا علباوان حملا بالزيادة على حمراوان، ثم قالوا كساوان تشبيهاً له بعلباوان. ثم قالوا قرّاوان حملا له على كساوان، على ما تقدم. وسبب هذه (الحمول) والإضافات والإلحاقات، كثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها) .
ومثله جمع (الفصل) خلاف (الوصل)، على فصول. قال ابن جني (1 / 334) : (وأنشدنا وأيضاً
فقد والشك بيَّن لي عناءٌ بِوَشكِ فراقهم صُردٌ يصيح
أراد فقد بيَّن لي صرد يصيح بوشك فراقهم، والشك عناء.. فقد ترى إلى ما فيه من ـ الفصول ـ التي لا وجه لها ولا لشيء منها) .
وكذا (الوصل) فقد جمعه ابن جني على (وصول) . فقد جاء في اللسان (قال ابن جني: فقول الأخفش يلزم بعد الروي الوصل، لا يريد به أنه لابد مع كل روي أن يتبعه الوصل.. وجمعه ابن جني على وصول، وقياسه ألا يجمع) !
وجمع ابن جني (الغلط) على (أغلاط) فقال (1 / 48) : (فكان يروي من أغلاط الناس منذ ذاك إلى أن شاع واستمر فساد هذا الشأن مشهوراً ظاهراً) . ولعله أول من جمع الغلط على أغلاط. وقد جمعه كذلك صاحب القاموس في خطبته فقال: (واختصصت كتاب الجوهري من الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة، لتدواله واشتهاره بخصوصه، واعتماد المدرسين على نقوله ونصوص) ورواه عنه صاحب المزهر (1 / 63) وقال صاحب التاج (ويجمع الغلط على أغلاط) ، وربما استند في ذلك إلى ابن جني.
وغريب على هذا قول الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العراقي في كتابه (المباحث اللغوية في العراق / 128) : (ولم نجد للفصحاء استعمال الأغلاط جمعاً، وإن كان مقيساً ومستعملاً عند غير اللغويين من المتأخرين، ومنه كتاب ـ أغلاطي ـ لصفي الدين الحلي الشاعر المشهور) . أقول إن الفصحاء قد قالوا (الأغلاط) كما رأيت، واستعمله اللغويون المتقدمون قبل سواهم.
وقد جمع ابن جني (الغلط) على (غلاط) أيضاً. قال ابن منظور: (والغلط في الحساب وكل شيء، والغلت لا يكون إلا في الحساب. قال ابن سيده: ورأيت ابن جني قد جمعه على غلاط، ولا أدري ما وجه ذلك؟ (. أقول قد أجبت عن ذلك في كتابي (أخطاؤنا في الصحف والدواوين) الصادر عام 1939، على ما بدا لي، فقلت (ووجه ذلك عندي أن ابن جني، لما وضع ـ الغلط ـ وهو مصدر، موضع الاسم، وجعل بمنزلة ـ المغلوط فيه ـ جمعه جمع قلة على ـ أغلاط ـ وجمع كثرة على ـ غلاط ـ على ما هو القياس. قال سيبويه ـ 2 / 177 ـ وما كان على ثلاثة أحرف وكان فعلاً فإنك إذا كسرته لأدنى العدد بنيته على أفعال، وذلك قولك جمل وأجمال وجبل وأجبال، وأسد وآساد، فإذا جاوزوا به أدنى العدد فإنه يجيء على فعال وفعول. فأما الفعال فنحو جمال وحبال، وأما الفعول فنحو أسود وذكور، والفعال في هذا أكثر) .
هذا وانظر إلى ما جاء في (الوعد) والوعد مصدر في الأصل، لكنه استعمل استعمال الأسماء فينبغي أن يحمل عليها في الجمع فيقال (الوعود) . قال صاحب الصحاح (ولا يجمع الوعد) ، وقال الأزهري على ما حكاه ابن منظور (الوعد العدة يكون مصدراً واسماً، فأما العدة فتجمع على عدات، والوعد لا يجمع) ، ونحو ذلك ما قاله صاحب المفردات (والعدة من الوعد ويجمع على عدات، والوعد مصدر لا يجمع) . واستدرك ابن منظور فقال (والوعد من المصادر المجموعة، قالوا: الوعود، حكاه ابن جني) أقول بل جمعه ابن جني كما هو شأنه فيما أنزله من المصادر منزلة الأسماء.
ما جمعه الزمخشري
الوجل بفتح الجيم مصدر. قال ابن القوطية (ووجل وجلاً: خاف) . وقال صاحب المفردات: (الوجل استشعار الخوف يقال وجل يوجل فهو وجل. قال: وجلت قلوبهم..) . ولم أر جمعه في الصحاح أو المفردات أو المصباح أو المختار أو اللسان أو القاموس أو التاج ولكن جاء في الأساس (وفي قلبه وجل، وفي قلوبهم أوجال) !
توجيه ما جمع من المصادر:
يتبين بما أسلفنا أن ما وقع لفحول الأئمة من جمع المصادر كثير فاش. والذي دفعهم إلى ذلك وبعثهم عليه ما تمثل لهم من صور ذهنية متجددة أجيئوا إلى التعبير عنها. وليس ما اعتمدوا هاهنا خروجاً عن قواعد اللغة بل بناء على أصولها، وتصرف قد خرّج على طرائقها. والتصرف بالمصدر على هذا النحو أشهر من أن تكثر عليه الأمثلة، وهو من الظهور على ما ترى. وقد نهج مجمع اللغة العربية بالقاهرة هذا النهج حين قال:(يجوز جمع المصدر عندما تختلف أنواعه) .
والمصدر إذا جمع حين يدل على الوحدة والهيئة والنوع فلأنه قد افتقد جنس فعله وإذا جمع حين يجتذب إلى الاسم اسم ذات كان أو اسم معنى، فلأنه افتقد حدث فعله، أما إذا اجتمع للمصدر حدث فعله وجنسه فقد صح فيه ما أورد صاحب الموهر حين قال (1 / 120) :(ومما يحسن مفرداً ويقبح مجموعاً، المصادر كلها) . ولا يظن ظان أن لنا أن نريد الاسمية في أي مصدر فنجمعه، وإنما ذلك مرهون بضرورة التعبير والحاجة إليه.
صحة جمع بيان على بيانات وأبنية:
جرى نقاش حول صحة جمع بيان على بيانات في الدورة السابعة والثلاثين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة. فقال الأستاذ عباس حسن، عضو المجمع:(المصدر من حيث هو مصدر لا يجوز جمعه، إلا إذا كان عددياً أو نوعياً. وهنا لا دليل على التعدد. ولو سلمنا أنه متعدد الأنواع لكان المانع من جمعه جمع المؤنث السالم أنه لا يدخل تحت نوع مما يجمع هذا الجمع.) وأنت ترى أن الأستاذ قد أبى جمع (بيان) على (بيانات) لسببين: الأول أنه لا دليل على تعدد المصدر فيجمع، والثاني: أنه لا سند لجواز جمعه جمع مؤنث سالماً، إذا صح جمعه.
أقول في الجواب عن ذلك: فيما يراد به هنا ليس مصدراً، وإنما هو اسم، وهو القول الذي تسوقه لإعلان أمر أو إيضاحه والكشف عن إشكال فيه. أو هو (ما يتم به بيان الأمر والكشف عن غامضه) . فهو بذا قد فقد دلالته على الحدث وجنسه، على السواء، فعاد له حكم الجمع الذي حالت دونه هذه الدلالة. فإذا قيل إنه مصدر فاعتداداً بالأصل. وقد يستعمل (البيان) دالاً على حدثه دون جنسه فيجمع لاختلاف نوعه.
وجاء في النص الذي اختلف في صحته (الأحكام والبيانات) فامتنع الأعضاء من جمع (البيان) وأقروا جمع (الحكم) فما الذي أداهم إلى هذا التفريق؟
أصارهم إلى هذا أن العرب قد عدلت بـ (الحكم) عن مصدريته (عن حدثه أو جنسه) أو عنهما جميعاً، فجمعته على (أحكام) حين عنت به (ما يُشرع أو يسن أو يحكم به) فارتضوا ذلك وأقروه. فقد جاء في نهج البلاغة (2 / 77) :(وبين الأحكام المفصولة) . وجاء فيه (3 / 47) : (وشرائع الإسلام وأحكامه) . وقال صاحب المصباح (وفرض الله الأحكام فرضاً أوجبها) .
وامتنع المجمعيون في المجمع القاهري من جمع (البيان) حين اعتقدوا أن العرب لم تجمعه. وهي لم تجمعه فعلاً لأنها لم تحتج إلى الخروج به عن مصدريته إذ لم تلجئها إليه حاجة في التعبير.
ومن الحق أن يقيسوا جمع (البيان) على (الحكم) كما فعل الأئمة في جمع استعمال واختراع واحتمال واعتقاد واحتجاج، على استعمالات واختراعات واحتمالات واعتقادات واحتجاجات، إلى آخر ما جمعوه على مثال هذا الجمع مما ذكرناه. وهذا (البلاغ) كالبيان. وقد جمعه الإمام عبد الرحمن ابن عيسى الهمذاني (المتوفى 322 هـ) صاحب الألفاظ الكتابية في مقدمة كتابه هذا، إذ قال في مقدمته:(وانضاف إلى ذلك قوة من الصواب وصفاء من الطبع ومادة من الأدب، وعلم بطرق البلاغات، ومعرفة رسوم الرسائل..) . بل رأيت الجاحظ قد جمعه في بعض كتبه (كتاب حجج النبوة) إذ قال (والناس موكلون بالخطابات مولعون بالبلاغات) وجاء في الصحاح (والبلاغات كالوشايات) والوشاية ما أبلغ إلى السلطان من حديث الناس، سعياً بها، ولم يخص الجاحظ أو الهمذاني البلاغ بهذا المعنى. ولا ننس أن البلاغ اسم من التبليغ كالبيان اسم من التبين، ففي الصحاح (وكذلك التبليغ والاسم منه البلاغ) . ويردان مصدرين أيضاً.
وقد جمع العرب (القضاء) على أقضية كما جمعوا (الحكم) على أحكام، وكلاهما في الأصل مصدر. والقضاء لغة: الحكم كما في المصباح والنهاية وتعريفات الجرجاني. وقد جمعوه على أقضية حين عدلوا به عن مصدريته. قال صاحب الأساس (وعدل في قضائه وقضيته وأقضيته، وقضاء الله ترد له أقضية) .
وقال الأستاذ عباس حسن (وهنا ـ أي في البيان ـ لا دليل على التعدد، ولو سلمنا أنه متعدد الأنواع لكان المانع من جمعه جمع المؤنث السالم، أنه لا يدخل تحت نوع مما يجمع هذا الجمع..) .
أقول إن أعضاء المجمع القاهري قد أقروا بتعدد أنواع البيان. قال الدكتور إبراهيم مدكور: (المسألة هي وجود أنواع من البيان) . وقال الدكتور طه حسين (يمكن أن نقول أنواع من البيان) وانتهوا من النقاش إلى هذا التعبير (مختلف أنواع البيان والأحكام) . وكان الوجه أن يقولوا (مختلف أنواع البيان والحكم) أو (مختلف البيانات أو الأبينة والأحكام) . وما داموا قد أقروا أنواعاً من (البيان) فما الذي منعهم من جمعه، كما فعل الأئمة. قال صاحب المصباح:(فإن كان المصدر عدداً كالضربات أو نوعاً كالعلوم والأعمال، جاز ذلك لأنها وحدات وأنواع..) وأردف (لأن ضرباً يخالف ضرباً في كثرته وقلته، وعلماً يخالف علماً في معلومه ومتعلقه) . أو ليس (للبيان) نوعٌ يختلف في مضمونه ومتعلقه، عن بيان آخر. قال ابن سيده في المخصص (13 / 85) :(إذا كانت الصلاة مصدراً وقع على الجمع والمفرد بلفظ واحد كقوله: لصوت الحمير، فإذا اختلف جاز أن يجمع لاختلاف ضروبه..) . ألم تختلف ضروب البيان وقد قال المناقشون (مختلف أنواع البيان) ؟ قال الرضي في شرح الكافية (2 / 187) : (وثلاثة أكاريم وتخاريج، إذا قصدت ثلاثة أنواع من الإكرام) .
هذا ما أحسب إلا أن الأئمة قد جمعت (البيان) بعد أن انتهت فيه إلى أنواع متعددة، كبيان التقرير وبيان التغيير وبيان التبديل إلى غير ذلك مما ذكره الشريف الجرجاني في تعريفاته. فقد جاء في شرح المنار في أصول الفقه لابن ملك (فصل في بيان أقسام البيانات (234) وقد عدد فيه أنواع البيان فقال إنها بيان التقرير وبيان التفسير وبيان التغيير.
وقد قطع أعضاء المجمع القاهري بأن (البيان) مصدر، وهو كذلك في الأصل، إذا كان من (بان) على أنه قد يكون اسم مصدر، إذا حمل على (أبان) أو (بيَّن) . قال صاحب المصباح:(وأبان إبانة وبيَّن وتبين واستبان، كلها بمعنى الوضوح والانكشاف، والاسم: البيان، وجميعها يستعمل لازماً ومتعدياً، إلا الثلاثي فلا يكون إلا لازماً) . فإذا كان (البيان) اسم المصدر من (التبيين) كان كالعذاب اسماً من التعذيب. وقد جمع الأئمة (العذاب) حين انتهوا به إلى الاسمية، على (أعذبة) واسم المصدر كالمصدر في امتناعه على الجمع من حيث الأصل كما ستراه. ففي التنزيل (يضاعف لها العذاب ضعفين ـ الأحزاب / 30 (قال ابن منظور:(قال أبو عبيد: معناه تجعل الواحد ثلاثة أي تعذب ثلاثة أعذبة) .
وعندي أن جمع (البيان) يكون بالتاء تصحيحاً، كما يكون على (أبينة) تكسيراً. أما جمعه بالتاء تصحيحاً، فقد نحا نحوه الأئمة بما جمعوه من نظائره، وأفتى بعضهم بجمع ما لم يسمع عن العرب بالتاء. فقد جاء في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني، حول الاحتجاج لصحة جمع (بوق) على (بوقات) :(وقال المحتج عنه إن أصل الجمع التأنيث، ولذلك جاء ما جاء منه بالتاء، وإن كان في الأصل مذكراً، قال فمن جمع اسماً لم يجد عن العرب جمعه فأجراه على الأصل، لم يسغ الرد عليه، ولم يجز أن ينسب إلى الخطأ لأجله (332) .
أما جمع البيان على (أبينة) فكما جمع (القضاء) على أقضية، وكما جمع (الفضاء) على أفضية، وهو مصدر سمي به، فقد جاء في المخصص لابن سيده (15 / 132) :(قال ابن جني: لام الفضاء واو لقولهم فضا يفضو فضّواً وفضاء، والفاضي الواسع. وأفضى إلى شيء صار في فضائه وفرجته وجمعه أفضية) . وجمع (العذاب) على أعذبة. والعذاب كالبيان اسم مصدر. ونحو ذلك (الجواز) وهو مصدر (جاز يجوز) لكنه استعمل لما يجاز به. وهو صك المسافر، فجمع على (أجوزة) . قال صاحب الأساس (وخذ جوازك وخذوا أجوزتكم، وهو صك المسافر لئلا يتعرض له) ، وفعال في الأسماء، يجمع قياساً على أفعلة، إذا كان مذكراً. وقد أقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة جمع (نشاط) على (أنشطة) إذ قال: (يشيع استعمال هذا اللفظ مراداً به الدلالة على جملة الأعمال المتنوعة التي يمارسها المرء أو الجماعة في الحياة العامة من رياضية واجتماعية وثقافية. وقد يؤخذ على هذا الاستعمال أن الأنشطة جمع نشاط. وهو مصدر. والأصل في المصدر ألا يُثنى ولا يُجمع لأنه يدل على القليل والكثير. ثم إن جمعه في حالة جوازه على صيغة أفعلة غير مسموع
…
أجيز هذا اللفظ على أساسين: الأول أن جمهرة علماء اللغة يجيزون على صيغة أفعلة غير مسموع أنواعه، والنشاط متعدد الأنواع، والثاني أن جمهرة علماء الصرف يجيزون جمع فعال على أفعلة جمع قلة) . ولست أدري ما معنى قول المجمع أن (النشاط) مصدر، وقد أريد به الدلالة على جملة الأعمال المتنوعة.. كما قال. بل ما معنى أن جمعه في حالة جوازه على صيغة أفعلة غير مسموع. وقد رأيت أن العرب قد جمعت ما عدلت به من المصادر إلى الاسمية، وكان على فعال، على أفعلة كقضاء وأقضية وفضاء وأفضية وجواز وأجوزة. وليس هذا وحسب بل أقر المجمع القاهري جمع (نشاط) على (نشاطات) في جملة ما أقر جمعه من الأسماء بالألف والتاء كالجواز والحساب والخطاب..
***
فاتضح مما ذكرناه أن الأئمة حين منعت جمع المصدر نصاً ثم استباحت جمعه بأقلامها فعلاً، بل درجت عليه كلما ألجأتها إليه حاجة في التعبير أو ضرورة في التسمية والاصطلاح، أقول إذا أنصت الأئمة على منع الجمع ثم استجازته فإنها لم تنقض ما نصت عليه، ذلك أن جمعته من المصادر كالذي يحكي جمعه منها، قد عُدل به إلى الاسمية. فإذا استحق ظاهره المنع فقد استوجبت حقيقة حاله الرخصة والجواز كما رأيت.