الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما جاء على مَفعلة
هذا بحث طريف إذا أنت طلبته حفزتك الحاجة إلى أن تنقب عنه في الأُمهات من المظان، وتستعين بالصبر في كل ما تزاوله أو تراوده من أمره. وأول ما يلزمك أن تتقصى القول فيه فتضم أطرافه وتجمع متفرقه، فتوسع له في قلبك وتجعله منك على بال. ثم تتعهد هذا بنظرك فتتعرف قرابة ما بينه وبين شبيهه. فإذا فعلت ذلك كنت على جادة الطريق فتسنى لك كثير مما يسعفك في هذا المجال، وجم مما يغنيك في هذا الباب.
وأفضل ما يمكن أن نمهد به، لإيضاح ما جاء على مفعلة، وتعرّف وجوهه، أن نقسم الكلام فيه إلى مفعلة الفعل، ومفعلة الاسم. ونقصد بمفعلة الفعل كل ما جاء على هذه الصيغة متصلاً بالفعل كالمصدر واسم المكان. ونعني بمفعلة الاسم ما جاء على هذه الزنة، غير مبني على الفعل، كمفعلة الدالة على كثر الأعيان، ومفعلة التي يراد بها الاسم خاصة.
مفعلة الفعل: المصدر الميمييعد المصدر الميمي من مفعلة الفعل المفتوحة العين، إذا لحقت به التاء. ذلك أن المصدر الميمي تفتح عينه أبداً ما لم يكن من المثال الواوي الصحيح اللام، الذي تحذف فاء مضارعه، فإنه تكسر عينه. فإذا لحقت به التاء كان كالموعظة والموهبة بكسر العين. فمن مفعلة المفتوحة العين: المسألة والمسرة والمودة والمحبة والمهمة من سأل وسرّ وودَ وحب وهمّ. ومنها المشارة والمقالة والمخافة والمهابة والمساءة من شار وقال وخاف وهاب وساء. ومفعلة هذه متصلة بالفعل مبنية عليه. وربما أتت مكسورة العين على غير قياس كمغفرة ومحمدة ومعرفة ومقدرة ومعذرة ومرجعة ومرثية بياء مخففة، أو مضمومة العين كمكرمة ومأدبة، فيبنى الكسر هاهنا على الشذوذ، كما يبنى الضم على الندور. قال الشيخ أحمد الحملاوي في كتابه (شذا العرف في فن الصرف) :(ويصاغ المصدر الميمي من الثلاثي، على وزن مفعل بفتح العين وسكون الفاء نحو منصر ومضرب، ما لم يكن مثالاً صحيح اللام وتحذف فاؤه في المضارع كوعد، فإنه يكون على زنة مفعل بكسر العين كموعد وموضع. وشذ من الأول المرجع والمصير والمعرفة والمقدرة، والقياس فيها الفتح، وقد ورد الثلاثة الأولى بالكسر، والآخر مثلثاً. فالشذوذ في حالتي الكسر والضم) . وهو خلاصة ما جاء في المصباح مبسوطاً مفصلاً.
وقد قيل بندرة مفعُلة بالضم، إذ ليس له مفعُل بغير تاء في الأصل. قال سيبويه في الكتاب (2/ 247) :(وأما ما كان يفعُل منه مضموماً فهو بمنزلة ما كان يفعَل مفتوحاً ولم يبنوه على مثال يفعُل لأنه ليس في الكلام مفعُل. فلما لم يكن إلى ذلك سبيل وكان مصيره إلى إحدى الحركتين ألزموه أخصهما، وذلك قولك قتل يقتل وهذا المقتَل، وقالوا يقوم وهذا المقام، وقالوا أكره مقال الناس وملامهم. وقالوا الملامة والمقالة فأنثوا. وقالوا المدعاة والمأدَبة إنما يريدون الدعاء إلى الطعام) . وقال الجوهري في صحاحه (قال الكسائي: المكرُم والمكرُمة، قال ولم يجئ على مفعُل للمذكر إلا حرفان نادران لا يقاس عليهما: مكرُم ومعون. قال الفراء هو جمع لمكرُمة ومعونة. وعندي أن مفعُل ليس من أبنية الكلام) . وقال ابن جني في المحتسب (1/144) : (وأما –إلى ميسُرة – فغريب، ذلك أنه ليس في الأسماء شيء على مفعُل بغير تاء) .
مفعلة الفعل: اسم المكان
ومن مفعلة الفعل اسم المكان إذا لحقت به التاء. والأصل في اسم المكان أن يكون على مفعل بفتح الميم والعين، وسكون ما بينهما، إذا كان المضارع مضموم العين، أو مفتوحها، أو معتل اللام مطلقاً، كمنصَر ومذهَب ومرقى ومسقى ومرضى ومقام ومخاف وموقى، وعلى مفعل بكسر العين إذا كانت عين مضارعة مكسورة، أو كان مثالاً مطلقاً في غير معتل اللام، كمجلس ومبيع وموعد وميسر وموجِل وقيل إن صحت الواو في المضارع، كوجل يوجَل فهو من القياس الأول، كما أوجزَه الحملاوي. وهكذا تكون مفعلة هاهنا بفتح العين أو بكسرها. وذلك كمثابة ومحارة ومدرسة ومدبغة ومصبغة ومزرعة بفتح العين من ثاب وحار ودرس ودبغ وصبغ وزرع. وكمتيهة ومضلة ومنزلة ومحلة بالكسر، من تاه وضلّ ونزل وحل. وربما جاء بالكسر ما كان قياسه الفتح إذ قالوا المظنة بالفتح على القياس، وبالكسر على غيره. كما جاء العكس فقالوا المضلة بالكسر على القياس، وبالفتح على غيره.
هذا وقد قاد كثرة ما جاء على مفعلة من أسماء المكان، قاد مجمع اللغة العربية بالقاهرة، إلى الأخذ بقياسه، إذ جاء في مجلة المجمع (2/188) :(بناء على ما رجعت إليه اللجنة من كتاب سيبويه، وما ورد من الأمثلة التي بلغت ستة وعشرين ومائة، وما أقره المجمع من قياسية صيغة مفعلة للمكان الذي يكثر فيه الشيء، تجيز اللجنة قياس ما لم يرد عن العرب، على ما ورد من لحوق التاء باسم المكان من مصدر الفعل الثلاثي) .
مفعلة الاسم: مفعلة الأعيان
وأما مفعلة الاسم فهي مفعلة التي صيغت لكثرة الأعيان أو خصتّ بمسمى غير اسم المكان أو المصدر. فقد قالوا في مفعلة الأعيان مما جاء على ثلاثة أحرف: مأسدة ومسبعة للأرض التي تكثر فيها الأسود والسباع. كما قالوا معقرة من العقرب ومثعلة من الثعلب، لما زادت أحرفه على ثلاثة وهو ثلاثي الأصول. ومفعلة هذه لا تتصل بالفعل كما اتصلت مفعلة المصدر واسم المكان، وإنما تبنى على اسم عين كالأسد والسبع والعقرب والثعلب. وقالوا من ذلك مثورة من الثور، ومطارة من الطير، وملازة من اللوز، ومجازة من الجوز. وقد أقرَّ مجمع اللغة العربية بالقاهرة قياس مفعلة للمكان الذي يكثر فيه الشيء، وجعل صوغه من أسماء الأعيان دون أسماء المعاني. فقد جاء في مجلة المجمع (2/35) :(تصاغ قياساً من أسماء الأعيان الثلاثية الأصول للمكان الذي تكثر فيه هذه الأعيان، سواء أكانت من الحيوان أم من النبات أم من الجماد) . ومما يسند هذا القياس قول الإمام مظهر الدين صاحب شرح المفصل المسمى المكمل ونصه (اعلم أنهم إذا أرادوا أن يذكروا كثرة حصول شيء بمكان وضعوا له مفعلة بفتح الميم والعين مع لزوم التاء إياها. وهذا قياس مطرد في كل اسم ثلاثي) . وكذا قول ابن سيده في المخصص (16/174) : (ومكان موعلة كثير الوعول، ومغدرة كثير الغدر وهي الوعول المسنة، مطرد عند أبي الحسن) .
ومما يمكن حمله على إجازة القياس قول سيبويه في الكتاب (2/249) : (هذا باب ما يكون مفعلة لازمة لها الهاء والفتحة، وذلك إذا أردت أن تكثر الشيء بالمكان، وذلك قولك أرض مسبعة ومأسدة ومذأبة. وليس في كل شيء يقال، إلا أن تقيس شيئاً وتعلم أن العرب لم تتكلم به) . قال الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه القياس: (الظاهر من عبارة سيبويه إجازة القياس على ما تكلم به العرب من هذه الصيغة) . وكلام الشيخ هو الوجه. فقد أشار سيبويه بكلامه هذا إلى أن العرب لم تقل في كل شيء مفعلة للتعبير عن كثرته في المكان، إلا أن تقيس ما لم تتكلم به على ما تكلمت به، فتكون لك مفعلة في كل شيء. ولو أبى سيبويه القياس في هذا لما قال (إلا أن تقيس) .
وإذا قالت العرب مما جاءت أحرفه على ثلاثة مأسدة ومسبعة فقد قالت مما زادت أحرفه على ثلاثة لكنه ثلاثي الأصول (مبطخة) للأرض التي يكثر فيها البطيخ. وعلى ذلك ما جاء في الكتاب (2/249) : (ومن قال ثعالة قال مثعلة، ومحيأة ومفعاة: فيها أفاع وحيات، ومقثأة من القثاء) . قال الجوهري في صحاحه: (وأما قولهم أرض مثعلة فهو من ثعالة. ويجوز أيضاً أن يكون من ثعلب، كما قالوا معقرة لأرض كثيرة العقارب) .
فقولك مثعلة من ثعلب مبني على أن هذا ثلاثي الأصول، كذلك معقرة من عقرب. قال صاحب التاج:(أرض معقرة كأنه رد العقرب إلى ثلاثة أحرف، ثم بنى عليه) .
هذا وقد استعار العرب للمكان الذي يكثر فيه الشيء مما كان رباعي الأصول صيغة اسم الفاعل. فقد قال الرضي في شرح الشافية (1/188) : (ولم يأتوا بمثل هذا من الراعي فما فوقه نحو الضفدع والثعلب، بل استغنوا عنه بقولهم كثير الثعالب، أو تقول مكان مثعلب ومعقرب ومضفدع ومطحلب بكسر اللام الأولى على أنها اسم فاعل. قال لبيد:
يممن أحداثاً بلبنى أو أجا:
مُضفدِعات كلها مُطحلِبة
على أن سيبويه قد أورد الصيغة على اسم المفعول، بفتح اللام. فقد جاء في الكتاب (2/249) :(ولم يجيئوا بنظير هذا –أي مفعلة- فيما جاوز ثلاثة أصول نحو الضفدع والثعلب، كراهية أن يثقل عليهم، ولأنهم قد يستغنون بأن يقولوا كثيرة الثعالب ونحو ذلك وإنما اختصوا بها بنات الثلاثة لخفتها. ولو قلت من بنات الأربعة على قولك مأسدة لفلت: مثعلبة، لأن ما جاوز الثلاثة يكون نظير المفعل منه بمنزلة المفعول، وقالوا: أرض مُثعلَبة ومُعقرَبة) .
هذا وأكثر نصوص المعاجم على كسر اللام، كما جاء في الصحاح والمصباح. قال الجوهري:(وأرض مثعلبة بكسر اللام ذات ثعالب) . وقال الفيومي (وأرض معقربة اسم فاعل، ذات عقارب، كما يُقال مثعلبة ومضفدعة ونحو ذلك) .
أما صاحب القاموس فقد قال (وأرض مثعلة: كثيرتها) . وقال (وأرض معقربة ومعقرة: كثيرتها) قال الشيخ محمد الخضر حسين عضو المجمع القاهري في مجلة المجمع (2/53) : (وذكرهما صاحب القاموس ولم يقيدهما بفتح أو كسر فاحتمل كلامه الروايتين) . والصحيح أن صاحب القاموس قد عنى الكسر دون الفتح. إذ جاء عقب قوله (وأرض معقربة ومعقرة كثيرتها)، قولُه:(والمعقرب بفتح الراء المعوج المعطوف) . فدل هذا أنه أراد بما سبق ذكره الكسر. قال صاحب التاج في شرح ما جاء في القاموس (والمعقرب بفتح الراء.. ولا يخفى أن هذا الضبط الأخير يقيد ويفيد أن الذي سبق بكسر الراء كما هو عادته في كثير من عباراته) .
هذا وأردف الشيخ الخضر كلامه فقال (ورجح الدماميني في شرح التسهيل رواية سيبويه فقال: ينبغي أن يقرأ بالفتح، فإن سيبويه أثبت من غيره، وإن كان أبو زيد أستاذه قد حكى الكسر) . أقول لا بُدَّ من الأخذ بالروايتين الكسر والفتح، على كل حال.
المَعلَمَة
أسمى الأب أنستاس ماري الكرملي (دائرة المعارف) بـ (المعلمة) على صيغة المفعلة فأخذ عليه الدكتور مصطفى جواد في كتابه (المباحث اللغوية في العراق) أن المعلمة من الصيغ التي تدل على المكان الذي يكثر فيه الشيء.. ومفعلة هذه اشتقها العرب للأشياء الجماد وأشباهها، لا للمعنويات والمجردات، وأنها للمخلوقات دون المصنوعات فرد الأب الكرملي أن المعلمة قد تكون بكسر الميم كـ (مِعلمَة)، فقال الدكتور جواد:(المقلمة للأقلام مادية، وكسر الميم من المعلمة، ذكَرنا فيه أنه مخالف لروح اللغة العربية أيضاً، لأن اسم الآلة للماديات أيضاً) . ثم قال: (وكان عليه أن يستشهد بالمِظنة فهي أقرب إلى المعنويات، لكنها لم تستعمل قديماً لغير الماديات. قال الجوهري في الصحاح: ومظِنَّة الشيء أي موضعه ومألفه الذي يظن كونه فيه، والجمع المظان أهـ. فهم قد اشتقوا المظنة من فعل معنوي، ولكنهم استعملوها للأشياء المادية على الأصل. أما دائرة المعارف فهي عندي الاسم الصحيح) . فما صواب المسألة؟
المسألة عندي أن المفعلة بفتح العين التي جعلها العرب لأسماء العين دون أسماء المعاني، هي المفعلة التي صيغت للموضع الذي يكثر فيه الشيء الذي هو اسم عين. أما المفعلة التي هي اسم مكان قد لحقت به التاء، بفتح العين أو كسرها، فلا مانع البتة أن تكون للمعاني، لأنها اسم مكان للحدث أياً كان. فالمعلمة بفتح الميم واللام اسم مكان صيغ من مصدر الفعل. وقد لحقت به التاء كالمدرسة. قال صاحب المصباح (ودرست العلم درساً من باب قتل ودراسة قرأته، والمدرسة بفتح الميم موضع الدرس) . فالمعلمة قياساً موضع العلم أو وعاؤه كالمدرسة موضع الدرس. وقد بنيت على علم كما بنيت المدرسة على درس. والمظنة نفسها اسم مكان لحقت به التاء أيضاً وليست هي مفعلة المكان الذي يكثر فيه الشيء أو مفعلة الأعيان. لذلك صحّ أن تكون للمعنى. ويؤيد كونها كذلك كلام الجوهري الذي استشهد به الناقد. وإذا كان الجوهري قد أورد المظنة بكسر الظاء ومن حقها الفتح لأنها اسم مكان من ظن يظن كنصر ينصر، فذلك أنها قد أتت هنا على غير قياس كما أتى المسكن والمطلع بالكسر، والفتح الذي هو القياس جائز فيها جميعاً. قال الزمخشري في المفصل (وقد يدخل على بعضها-أي أسماء المكان- تاء التأنيث كالمزلة والمظنة) . فقال ابن يعيش في شرحه (وقد أنثوا هذه الأسماء كأنهم أرادوا البقعة فقالوا المزلة لموضع الزلل، وكسروه لأن المضارع منه مكسور. وقالوا المظنة لموضع الظن ومألفه، وهو مفتوح لأن من ظن يظن بالضم) وقال ابن الأثير في النهاية حول حديث (طلبت الدنيا من مظان حلالها) : (المظان جمع مظنة بكسر الظاء، وهي موضع الشيء، مفعلة من الظن بمعنى العلم. وكان القياس فيه فتح الظاء، وإنما كسرت لأجل الهاء.. أي التاء، من أسماء المكان، اتفق فيه الكسر ولو كان قياسه الفتح. وقد يتفق فيه الفتح وقياسه الكسر. فالمزلة بالكسر اسم مكان من زلّ يزلّ زللاً، وقد جاء فيه الفتح أيضاً. والمضلة اسم مكان من ضل يضل
ضلالاً، وقد جاء بالكسر لمناسبة المضارع، وصحّ فيه الفتح أيضاً.
أما قول الدكتور جواد: (إنهم اشتقوا المظنة من فعل معنوي ولكنهم استعملوها للأشياء المادية على الأصل) فغريب. ذلك أنه استظهر بقول الجوهري (مظنة الشيء موضعه ومألفه الذي يُظن كونه فيه، والجمع المظان) . وليس في كلام الجوهري ما يشير إلى أن المظنة قد خُصت بما هو مادي محسوس. فانظر إلى ما رواه الجوهريّ من قول النابغة:
فإن يك عامر قد قال جهلاً فإن مظنة الجهل الشباب
إذ جعل الشاعر الشباب موضعاً لما يغلب فيه الجهل. والجهل اسم معنى لا اسم ذات. وقال الزمخشري في الأساس: (وهو مظنة للخير، وهو من مظانه) . والخير اسم معنى لا ذات أيضاً. وقد مرَّ بك ما جاء في الحديث (طلبت الدنيا من مظان حلالها) ، وليس الحلال اسم ذات.
والخلاصة أن الفارق بيِّن بين مفعلة الذي يبنى على اسم العين، ويدل على مكان كثرته، وهو بفتح العين أبداً، وبين مفعلة الذي يبنى على المصدر أو فعله، ويدل على مكان الحدث، وهو بالفتح أو بالكسر. ولا يمنع مفعلة الذي يدل على مكان الحدث أن يتضمن تكرار وقوع الحدث أو المبالغة فيه. قال صاحب الكليات (411) :(وقد تدخل على بعض أسماء المكان تاء التأنيث، إما للمبالغة أو لإرادة البقعة. وذلك مقصور على السماع، نحو المظنة والمقبرة) .
مفعلة الاسم: مفعلة اسم المصدر
ويدخل في مفعلة الاسم ما لم يجر على الفعل من المصادر، وهو ما أسموه اسم المصدر، ومن ذلك (المشورة) من الإشارة، و (المثوبة) من الثواب، فقد جاء في اللسان (وقال الليث: المشورة مفعلة اشتقّ من الإشارة ويقال مشورة) ومشورة هذه بضم الشين وسكون الواو، ومشورة الأولى بإسكان الشين وفتح الواو. وقال صاحب المصباح:(واستشرته راجعته لأرى رأيه فيه فأشار عليّ بكذا: أراني ما عنده فيه المصلحة، فكانت إشارة حسنة، والاسم المشورة وفيها لغتان: سكون الشيء وفتح الواو: والثانية بضم الشين وسكون الواو، وزان معونة) . وإذا كان بعض الأئمة قد ذهب إلى أن المشورة من شور الدابة أو شور العسل، فإنهم لم يقصدوا إلى أنه مصدر لـ (شرت العسل أشوره شوراً ومشارة) .
وقد ذكر صاحب المصباح (والاسم المشورة وفيها لغتان)، ثم أردف:(وهي من أشار الدابة إذا عرضها في المشوار. ويقال من شرت العسل، وشبه حسن النصيحة بشرب العسل) . أقول لو كان المشورة مصدر شار لقيل (شار العسل شوراً ومشارة ومشورة) . قال صاحب المفردات (والمشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم شرت العسل أي اتخذته من موضعه واستخرجته منه) . فإذا كان المصدر من حيث لفظه، هو الجاري على فعله كالأفعال من أفعل، والتفعيل من فعَّل، والانفعال من انفعل، فإن اسم المصدر يخالفه في عدم جريانه على الفعل الذي يجري عليه المصدر.
هذا وقد فرّق الشيخ ظاهر خير الله الشويري في رسالته (المفعلة) بين المشورة بضم الشين والمشورة بإسكانها، فجعل الأول اسماً، والثاني من مبالغة المصدر. وحقيقة الأمر أن كلا اللفظين اسم مصدر، وقد جاءا بمعنى، فالمشورة بالضم مفعلة بضم العين، وقد نقلت حركتها إلى ما قبلها بالإعلال، أما المشورة بإسكان الشين فهي مفعلة بفتح العين، وقد جاء بالتصحيح ولم يعلّ، وسنبين علة عدم التصحيح فيه.
أما المثوبة فهي اسم مصدر كالثواب. قال ابن الأثير في النهاية (يقال أثابه يثيبه إثابة، والاسم الثواب) . وقال الجوهري: (والثواب جزاء الطاعة وكذلك المثوبة) . وقد جاءت بضم الثاء وإسكان الواو على مفعلة بضم العين في الأصل، كما جاء بإسكان الثاء وفتح الواو على مفعلة بفتح العين. ففي التنزيل (لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (البقرة/ 104. قال الإمام البيضاوي (وقرئ لمثوبة بإسكان الثاء كمشورة) . هذا وقد تنزل المشورة أو المثوبة منزلة المصدر حيناً، لكنهما اسمان للمصدر لعدم جريانهما على الفعل، وهو ما يعنينا في هذا المقام.
مفعلة الاسم: اسم الموضع واسم الأداة
ومما جاء من مفعلة الاسم، ما سمي به الموضع أو الأداة، ولم يبن على الفعل.
فقد جاء (المفيأة) وليس هو مصدراً، ولا اسم مكان، وإنما هو اسم لموضع التفيؤ كما ذكر الرضي، إذ قال في شرح الشافية (1/183) :(والمشرقة والمفيأة، من ذوات الزوائد، إذ هما موضعان للتشرق والتفيؤ) . وقال في موضع آخر (وكذا المشرقة اسم موضع خاص، لا لكل موضع يتشرق فيه من الأرض، وكذا المقنأة والمفيأة) . وقد أتت المفيأة بضم الياء، كما أتت بالفتح، على ما حكاه الأزهري عن الليث، فيما أورده ابن منظور في اللسان، وكذلك المقنأة.
وجاء (المضربة) بفتح الراء وكسرها لآلة الضرب وأداته على غير قياس. قالوا إنها جعلت اسماً لهذا المسمى، ولم يذهب بها مذهب الفعل. قال سيبويه في الكتاب (2/ 248) :(مضربة السيف جعلوه اسماً للحديدة. وبعض العرب يقول مضربة كما يقول مقبرة ومشربة، فالكسر من مضربة كالضم من مقبرة. وقال الرضي في شرح الشافية: (والظاهر هو أن مضربة السيف آلة الضرب، لا موضعه، غيُرت عمّا هو قياس بناء الآلة، لكونها غير مذهوب بها مذهب الفعل) .
مفعلة الاسم: مفعلة السبب
يلحق بمفعلة الاسم مفعلة السبب، وهي المفعلة الدالة على إفادة السبب أو الباعث على الأمر أو الداعي إليه. وقد جاء في الحديث:[الولد مجبنة مبخلة) . قال صاحب النهاية: (وهو مفعلة من البخل ومظنة له، أي يحمل أبويه على البخل ويدعوهما إليه فيبخلان بالمال لأجله) . وجاء في كتاب النوادر لأبي مسحل الأعرابي (364) : (من أقوال العرب: الولد مجبنة مبخلة ومحزنة) . وفي المخصص لابن سيده (16/174) : (أبو عبيد في الحديث: الولد مجبنة مجهلة مبخلة) . فما الحكم في مجبنة ومبخلة ومجهلة ومحزنة؟ أتعتد مصادر قد أتت على مفعلة؟ أقول الحق أنها مفعلة السبب، وليست مفعلة المصادر. ذلك أنك لو أنزلت المصادر منزلتها في الحديث فقلت: الولد جبن وبخل وحزن، أفكان هذا يغني مغناه ويؤدي مؤداه، وأنت تقصد به ما بيناه من أن الولد يحمل على الجبن والبخل والحزن، ويدعو إليها ويبعث عليها، وليس هو الحزن والبخل والجبن؟ فالمبخلة من (البخل) لا من (بخل) . فانظر إلى ما جاء في خزانة الأدب للبغدادي (1/336) : (ومخبثة بفتح الميم من الخبث. يقال خبث الشيء خبثاً من باب قرب، خلاف طاب. والاسم الخباثة. ومفعلة صيغة سبب الفعل، والحامل عليه، والداعي إليه، كقوله (: [الولد مجبنة مبخلة] ، أي سبب يجعل والده جباناً، لم يشهد الحروب، ليربيه. ويجعله بخيلاً يجمع المال ويتركه لولده من بعده. ومثله كثير في العربية. ولم يتكلم التصريف على هذه الصيغة. قال الخطيب التبريزي في شرح المعلقة: يقال طعام مطيبَة للنفس، ومخبَثَة لها، وشراب مبوَلَة) .
جدوى التفريق بين مفعلة الفعل ومفعلة الاسم
رب معترض يقول: وما جدوى القول أن هذه مفعلة الفعل لأنها اتصلت به وبنيت عليه، وإن هذه مفعلة الاسم لأنها جاءت على خلاف ذلك. أقول إن القسمة تفيد في إيضاح دلالة المفعلة من جهة، كما تفيد في الحكم بوجوب إعلال ما جاء منها معتل العين أو جواز تصحيحه.
ذلك أن العلماء قد اشترطوا للإعلال في أمثاله، موازنة الفعل. واعتدوا (مفعلاً) بالفتح من هذا القبيل، لأنه على وزن (يفعَل) . وكذلك (مُفعل) بضم الميم فهو على وزن (يُفعل) . ولهذا قالوا المقام والمقام بفتح الميم وضمها، بالإعلال. وأصلها المقوم بفتح الميم والواو، والمقوم بضم الميم وفتح الواو. وقد أعلَاّ بنقل حركة المعتل إلى الساكن الصحيح قبله، وقلبه حرفاً يجانس هذه الحركة. ونظير ذلك (المقامة والمقامة) بفتح الميم الأولى وضمها.
وأما المفعل بفتح الميم وكسر العين، فقد أعلَّ كما أعلّ (يفعل) بكسر العين، كقولك المسير والمعيشة، وكذلك المفعل بضم العين كيفعل بضمها، وهكذا.
على أنهم لم يروا مفعلاً بكسر الميم وفتح العين موازناً للفعل، لأن أصله مفعال، وهذا غير موازن للفعل. لذلك قالوا مخيطِ بكسر الميم وفتح الياء ومخياط بكسر الميم، بالتصحيح فيهما. وكذلك لو لحقت بهما التاء. وانظر إلى ما قاله سيبويه في الكتاب (2/364) :(وتجري مفعل بفتح الميم والعين مجرى بفعل فيهما، فتعتل كما اعتل فعلهما الذي هو على مثالها.. كما قالوا مخافة فأجروها مجرى يخاف ويهاب.. وذلك قولهم مقام ومقال ومثابة ومنارة.. وكذلك مفعل بفتح الميم وكسر العين، يجري مجرى يفعل بكسر العين. وذلك قولك المبيض والمسير. وكذلك قولك مفعلة بفتح الميم وضم العين، وذلك المعونة والمشورة والمثوبة. يدلك على أنها ليست بمفعولة أن المصدر لا يكون مفعولة وأما مفعُلة بفتح الميم وضم العين من بنات الياء فإنما يجيء على مثال مفعلة بكسر العين.. فمعيشة يصلح أن تكون مفعُلة بضم العين ومفعلة بكسرها. وأما مُفعَل منهما بضم الميم وفتح العين فهو على يُفعل بضم الياء وفتح العين، وذلك قولهم مقام ومباع بضم الميم فيهما..) .
وقد خرج عن الأصل فلم يعلّ كثير من الألفاظ على هذه الزنة. قال الرضي في شرح الشافية (3/104) : (وقد شذّ مما وجب إعلاله قياساً: المشورة والمصيدة، بفتح الميم وحرف العلة فيهما وسكون ما بينهما، وقولهم الفكاهة مقودة، بفتح الميم والواو وسكون القاف، إلى الأذى) . فهل ثمّة تفسير لما حُمل على الشذوذ في هذا الباب؟
المفعلة وإعلال عينها
قال المبرّد فيما حكاه الرضي في شرح الشافية (3/105) : (المزيد فيه الموازن للفعل إنما يعلّ إذا أفاد معنى الفعل كالمقام بفتح الميم فإنه موضع يقام فيه، وكذا المُقام بضم الميم، موضع يفعل فيه الإقامة) . فالمبرّد قد أضاف إلى شرط موازنة الفعل في وجوب الإعلال، أن يتصل (مفعل) بالفعل ويشتقّ منه ويفيد معناه. فقد اعتدّ الرضي (مدين ومريم) شاذين لأنهما لم يُعلا، واعتدهما المبرد على القياس لأنهما لم يتصلا بالفعل فيشتقا منه ويفيدا معناه. قال الأستاذ أحمد الحملاوي في (شذا العرف في فن الصرف) :(وأما مدين ومريم فشاذان، والقياس مدان ومرام، وعند المبرد لا شذوذ لأنه يشترط في مفعل أن يكون من الأسماء المتصلة بالأفعال) . وسترى أن ما حمله الرضي على الشذوذ كـ (المشورة والمصيدة والمقودة) بإسكان الشين والصاد والقاف، ليس من الألفاظ المتصلة بالأفعال، ولذا كان فيها التصحيح وقد أشار الرضي نفسه إلى شرط الاتصال بالفعل هذا فقال في شرح الشافية (1/170) :(والأسماء المتصلة بالأفعال تابعة لها في الإعلال) . فكل ما اتصل من (مفعلة) بالفعل كالمصدر واسم المكان فأفاد معناه وجب فيه الإعلال، كما وجب في فعله، وكل ما لم يبن على الفعل ليؤدي معناه لم يجب فيه الإعلال فجاز فيه التصحيح. ولكن ما مفعله التي لا تتصل بالفعل فيجوز فيها التصحيح؟
المفعلة وتصحيح عينها
يجوز تصحيح العين في مفعلة المعتلة العين إذا كانت مفعلة الأعيان التي تدل على كثرة الشيء في المكان، ومفعلة الاسم التي خصت بمسمى فلم تجر على فعل، ومفعلة السبب الدالة على إفادة السبب أو الباعث على الأمر أو الداعي إليه. فإذا كان شرط وجوب الإعلال فيما اعتلت عينه من مفعلة أن يتصل بالفعل ويُبنى عليه كالمصدر واسم المكان واسم الزمان ليعلّ إعلاله، فإن ما كان من مفعلة على خلاف ذلك كمفعلة الأعيان ومفعلة الاسم ومفعلة السبب، لم يجب فيه الإعلال لفوات شرطه، فجاز فيه التصحيح.
مفعلة الأعيان بين التصحيح والإعلال
تبين بالاستقراء أن ما جاء معتل العين من (مفعلة) الأعيان، قد أعلّ حيناً وصحح حيناً آخر. فقد قالوا مما أعلوه (متانة ومخانة ومتاتة) للمكان الذي يكثر فيه التين والخوخ والتوت. وقالوا مما صححوه (مثورة) بفتح الواو للمكان الذي يكثر فيه الثور. وهم لم يتجنبوا اللبس فيما أوردوه فعلاً، فقد حكوا (مجازة) للمكان الذي يكثر فيه الجوز، والمجازة اسم مكان لحقت به التاء من (جاز) أيضاً. وكان ما أعل من مفعلة الأعيان كان على توهم أنه اسم مكان متصل بالفعل. قال صاحب اللسان:(وأرض ملازة فيها أشجار اللوز) و (أرض مجازة فيها أشجار الجوز) ، ونظيره كثير.
وقد استبعد الشيخ ظاهر خير الله الشويري صاحب رسالة (المفعلة) المتانة للأرض التي يكثر فيها التين، وجعل الصواب (المتينة) بفتح الياء، على التصحيح قال (وقول بعضهم في المتينة متانة ذهول) . أقول قد حكت الأمهات المتانة كما حكت الملازة والمجازة، ولا يجوز حمل ذلك كله على الذهول. ويؤيد ما ذهبنا إليه أنه إذا كان الاتصال بالفعل شرطاً لوجوب الإعلال، فإن فواته في مثل المتانة والملازة والمجازة يتيح التصحيح ولا يمنع الإعلال، وقد رأيت أن الاستقراء يشهد بهذا ويدعمه.
هذا ولا شك أن الأليق والأجدر بمفعلة الأعيان هذه إذا اعتلت بها العين أن تصحح لتدل على أصل مبناها فتقول (ملوزة ومجوزة ومتينة) بإسكان اللام والجيم والتاء، للمكان الذي يكثر فيها اللوز والجوز والتين، كما قالوا (مثورة) للمكان الذي يكثر فيه الثور، وهو أنفى للبس وأدل على الأصل. فلو قيل (أرض مفالة) بالإعلال أشكل المقصود منه. فإذا قلت أرض مفولة بإسكان الفاء أو أرض مفيلة بإسكان الفاء أيضاً، على التصحيح علمت أن الأول من الفول، والثاني من الفيل، دون لبس.
مفعلة السبب والتصحيح
وقد جاء من مفعلة السبب (مقودة ومبولة ومنومة ومطيبة) بإسكان القاف والباء والنون والطاء وفتح ما بعدها، فكانت على التصحيح. وعلة ذلك أنها لم تبن على الأفعال، فقد قصد بها ما يبعث على (القود والبول والنوم والطيب) فهي مشتقة من هذه، لا من الفعل. ولكن هل جاء من مفعلة السبب ما أعلت عينه؟
أقول جاء مقودة في قولهم (الفكاهة مقودة إلى الأذى) فكانت على التصحيح لأنها مفعلة السبب، فإذا أعلت أصبحت (مقادة) . وجاء (منومة) في قولهم (كثرة الأكل منومة) فكانت على التصحيح لأنها مفعلة السبب. فإذا أعلت أصبحت (منامة) . والمنامة في الأصل اسم مكان لحقت به التاء، ثم استعير لثوب النوم. قال الجوهري في الصحاح (المنامة ثوب ينام فيه، وهو القطيفة. وربما سموا الدكان منامة) . وفي حديث علي عليه السلام: (دخل رسول الله (وأنا على المنامة) قال صاحب النهاية (هي هاهنا الدكان التي ينام عليها. وفي غير هذا القطيفة، والميم الأولى زائدة) . فالمنامة إذن للموضع الذي ينام فيه أو عليه، أو جعلت للثوب الذي يُنام فيه وقياس اسم المكان أن يعل إعلال الفعل لأنه مبني عليه. فالمتيهة للمكان الذي يتاه فيه، والمحارة للمكان الذي يحار فيه، والمخاضة للذي يخاض فيه، وقد جاءت على الإعلال جميعاً، خلافاً لمفعلة السبب. ومن ثم كان الأصل في هذه التصحيح دون الإعلال.
مفعلة الاسم والتصحيح
ومما جاء على مفعلة بالتصحيح: المفيأة، وليس هو مصدراً ولا اسم مكان، وإنما هو اسم خاص لموضع التفيؤ، كما ذكر الرضي. فقد قال في شرح الشافية (1/183) :(والمشرقة والمقيأة من ذوات الزوائد، إذ هما موضعان للتشرق والتفيؤ فيشذان عن هذا الوجه أيضاً. ولهذا لم تعل المفيأة، أو لأنه لم يذهب بها مذهب الفعل كما يجيء) . وقال في موضع آخر: (وكذا المشرقة اسم موضع خاص، لا لكل موضع يتشرق فيه من الأرض. وكذا المقنأة والمقيأة) . وختم كلامه في هذا الباب فقال: (لكن كل ما ثبت اختصاصه ببعض الأشياء، دون بعض، وخروجه عن طريقة الفعل، فهو العذر في خروجه عن القياس، كما ذكرنا) . وفي الإصلاح لابن السكيت أن المشرقة بفتح الراد وضمها وأضاف الفراء الكسر، وأن المقنأة بفتح النون وضمها كالمفيأة. أقول وكذا الحكم فيما قال الرضي بشذوذه لأنه جاء على التصحيح، فالعذر فيه أنه ليس على طريقة الفعل ليعل إعلاله. قال الرضيّ في شرح الشافية (3/104) :(وقد شذّ مما وجب إعلاله قياساً، المشورة والمصيدة بفتح الميم، وقولهم الفكاهة مقودة إلى الأذى) . فـ (المشورة) بإسكان الشين اسم وليست مصدراً، وكذلك (المثوبة) بإسكان الثاء، وهما اسمان لم يجريا على الفعل. وقد جاء في شرح درة الغواص لشهاب الدين الخفاجي (قال ابن بري أصل مثوبة بفتح فضم، مثوبة بفتح فسكون فضم، على وزن مفعلة بضم العين، وقد قرأ بها مجاهد. وضم الشين والثاء فيهما –أي في المشورة والمثوبة- هو القياس. وقد حكى أهل اللغة فيهما الإسكان أيضاً تنبيهاً على أصله قولان أحدهما على وزن مفعولة وأصلها مثووبة.. وهو من المصادر التي جاءت على وزن مفعول.. والثاني أنها مفعلة بضم الواو، نقلت ضمتها لما قبلها.. ويقال مثوبة بسكون الثاء وفتح الواو، وكان من حقها الإعلال وأن يقال مثابة كمقامة، إلا أنهم صححوها كما صححوا الإعلال.. وقيل مثوبة كمشورة) .
وخلاصة الأمر أن الحريري صاحب درة الغواص أنكر المشورة بإسكان الشين وفتح الواو والراء، فجاء رد الخفاجي فأثبت المشورة بفتح الواو والمشورة بإسكانها، والمثوبة بفتح الواو والمثوبة بإسكانها. وقد اعتد ابن بري أن الأصل فيهما هو مفعلة بضم العين أي مثوبة ومشورة بإسكان الثاء والشين وضم الواو، فاستثقل الضم على الواو ونقل إلى ما قبل وأسكنت الواو. فضم الثاء والشين هو القياس، وإسكانهما هو الشذوذ. على أن المثوبة المضمومة الثاء ووزنها مفعلة بضم العين، خرّجت على زنة أخرى هي مفعولة وقيل إنها بهذا التخريج مصدر وقد أنكره سيبويه كما رأيت. وأكثر الأئمة أنها اسم على مفعلة بضم العين، أما مثوبة بإسكان الثاء وفتح الواو، وقد جاءت على التصحيح ولم تعل، فإنها اسم لا محالة.
المفعلة بين الإعلال والتصحيح
تبين مما تقدم جميعاً أن الأصل في مفعلة المعتلة العين هو الإعلال، كمشورة ومثوبة بضم الشين والثاء فيهما، على مفعلة بضم العين، أو مثابة ومشارة بفتحهما، على مفعلة بفتح العين. وقد أعلّ الأول بنقل حركة الواو إلى ما قبلها، وأعلّ الثاني بنقل حركة الواو ثم قلبها ألفاً لتجانس الفتح قبلها.
أما ما أتوا به من مفعلة بفتح العين على غير الإعلال كمشورة ومثوبة بإسكان الشين والثاء فيهما فقد خرجوا به عن بابه، ونبهوا بذلك على أصله. وهذا الذي أبقوه على التصحيح تنبيهاً على أصله هو ما لم يتصل بالفعل كالمشورة والمثوبة بإسكان الشين والثاء وكالمطيبة والمبولة والمقودة بإسكان الطاء والباء والقاف، وهي من مفعلة السبب، وكالمثورة بإسكان الثاء من الثور، وهي من مفعلة الأعيان، كالمفيأة من مفعلة الاسم. أما ما جرى من مفعلة على الفعل كالمصادر وأسماء المكان والزمان فلا بد فيها من الإعلال.
العدول بمفعلة عن الإعلال إلى التصحيح
قلنا إن العدول بمفعلة المعتلة العين من الإعلال إلى التصحيح مرده إلى بناء مفعلة. فإذا بنيت على اسم جاز فيها التصحيح، وإذا بنيت على فعل فلا مناص فيها من الإعلال.
وذهب الشيخ ظاهر خير الله الشويري في (رسالة المفعلة) إلى أن المشورة بإسكان الشين قد أتت على التصحيح (دفعاً للالتباس بالمشارة) ، وأنها مصدر أريد به المبالغة. أقول لو كانت المشورة بإسكان الشين مصدراً لوجب فيها الإعلال لا محالة لاتصالها بالفعل.
ولم أر من نص على أنها مصدر البتة. وهم لم يراعوا في مسألة الإعلال بمفعلة الامتناع عن اللبس. فقد أورودوا المجازة للمكان الذي يكثر فيه الجوز بالإعلال كالملازة للمكان الذي يكثر فيه اللوز، ولم يخشوا اللبس بين المجازة هذه والمجازة اسم المكان من جاز، وقد لحقت به التاء. قال الزمخشري (وأرض مجازة كثيرة الجوز) ، وقال في موضع آخر وهو مجاز القوم ومجازتهم وعبرنا مجازة النهر، وهي الجسر بل هذه هي المشارة التي مثل بها الشيخ ظاهر الشويري. فالمشارة هي الأرض التي تُجتنى أي تُزرع، فهي اسم مكان لحقت به التاء، والمشارة مصدر من قولك شرت العسل شوراً ومشاراً ومشارة إذا اجتنبته. فقد جاء (المشارة) اسم المكان والمصدر بالإعلال على القياس، ولم يصححوا واحداً منهما لمنع اللبس بينهما. ومن ثم كان الأصل في مفعلة المعتلة العين أن تعل. وقد أوجبوا ذلك فيما اتصل منها بالفعل كالمصدر واسم المكان والزمان، ولم يوجبوه فيما لم يتصل منها بالفعل كالمشورة والمثوبة والمطيبة والمقودة والمنومة بإسكان الفاء فيها، وفتح ما بعدها، وقد جاءت مصححة. فالمثوبة بإسكان الثاء مصححة لبنائها على اسم. فإذا أعلت كانت (المثابة) والمثابة اسم مكان لحقت به التاء فهو من ثاب إذا رجع. قال صاحب المصباح (وثاب يثوب ثوباً وثؤوباً إذا رجع. وقد قيل للمكان الذي يرجع إليه الناس مثابة) وقال صاحب النهاية (المثابات جمع مثابة، وهي المنزل لأن أهله يثوبون إليه: يرجعون. ومنه قوله تعالى: (وإذا جعلنا البيت مثابة للناس) أي مرجعاً ومجمعاً (أما المثوبة بضم الثاء فقد أتت بالإعلال أيضاً لكنها على مفعلة بضم العين.
المَصيَدة بإسكان الصاد وفتح الياء
جاء في الصحاح (المصيد والمصيدة) بكسر فسكون ففتح، فيكون على مفعل ومفعلة بكسر الميم وفتح العين. وما كان على هذه الزنة فقياسه التصحيح. وقد جاء (المصيدة) بفتح فكسر كالمعيشة، وهو على الإعلال البتة لأنه على مفعلة بكسر العين. وأما المصيدة بإسكان الصاد وفتح الياء فقد جاءت على التصحيح كما ذكر الرضي، ولكن ما سر تصحيحها خلافاً للأصل؟ المصيدة بإسكان الصاد وفتح الياء ليست موضعاً. لأن الموضع يصاغ من صاد يصيد على مفعل بكسر العين فيكون المصيد بكسر الصاد. وهو ليس من المصادر أيضاً لأن المصدر منه على مفعل بفتح العين أي المصاد بالإعلال. قال ابن السكيت في إصلاح المنطق (247) :(وإذا كان الفعل من ذوات الثلاثة من نحو كال يكيل وأشباهه فإن الاسم منه –أي اسم المكان أو الزمان- مكسور، والمصدر مفتوح. ومن ذلك مال يميل مميلاً وممالاً، يذهب بالكسر إلى الأسماء وبالفتح إلى المصدر. ولو فتحتهما جميعاً أو كسرتهما في المصدر والاسم لجاز. تقول العرب المعاش والمعيش والمعاب والمعيب والمسار والمسير) .
فالمصيدة بإسكان الصاد وفتح الياء ليست مصدراً، ولو كانت كذلك لأعلت كالمعاش والمعاب والمسار على الأصل فما هي إذاً؟
قال صاحب اللسان: (المصيدة بفتح فكسر، والمصيدة بكسر فسكون ففتح، والمصيدة بفتح فسكون ففتح، كله: التي يصاد بها. وهي من بنات الياء المعتلة، وجمعها مصايد) فتبين بهذا أن المصيدة بإسكان الصاد وفتح الياء، اسم جُعل لما يصاد به، وجاء المصيد بإسكان الصاد وفتح الياء أيضاً بالتذكير، وقد صيغ على التصحيح ولم يجريا على الفعل. ولو جريا على الفعل واشتقا اشتقاق اسم الآلة لكانا على المصيدة والمصيد بكسر فسكون ففتح، فجاءا على التصحيح أيضاً، لأن زنة اسم الآلة لا تعل. فسرُّ التصحيح في المصيدة بفتح فسكون بناؤها على الاسم وعدم جريانها على الفعل. ولو أعلت لقيل المصادة.
وإذا كان المصيدة بفتح الياء قد أتت شاذة من حيث خروجها عن الإعلال، وقد قال الرضي بشذوذها، فإنها مقيسة لفوات ما يوجب الإعلال وهو الاتصال بالفعل.
ما عدل به عن الإعلال عامة
نحا الشيخ ظاهر خير الله إلى ما نحونا إليه عامة، ولو تباين ما خلص إليه وما اعتمدناه. وهو لم يعوّل على ما قاله الأئمة في هذا الباب أو يستظهر بما نصوا عليه. قال الشيخ في رسالته:(جاء ماء مسوَدةِ، والمأيمة والمشيخة والمضيعة دون إعلال. وذلك لأن المشتقات الجوفاء ما كان منها مبنياً من فعل على المعنى المصدري يعلّ بحسب القواعد. وما كان منها مبنياً من اسم غير مصدر لإفادة معنى آخر مع إفادة المصدر لا يعل. ولذلك يعُل أراحه يريحه، واستجابه يستجيبه، لأنهما من الراحة والإجابة، ولا يعل أروح اللحم مثلاً يُروِح، واستجوبه يستجوبه لأنهما من الرائحة والجواب. ومن ثم لم يعل المَسوَدة لأنها مبنية من السواد بضم السين وهو داء للغنم. والمأيمة من الأيم، والمشيخة من الشيخ، والمضيعة بفتح الياء من الضيعة بفتح فسكون، وأما من الضياع فهي مضيعة بفتح فكسر. يقال تركه بدار مضيعة بفتح فكسر، وأصلها مضيعة بكسر الياء فأعلت بالنقل. ومن ثم إذا بنيت المفعلة من الثوم والفول والنيل والتين، يقال فيها: مثومة ومفولة ومثيلة ومتينة، بفتح فسكون، وفول بعضهم متانة عن عدم تحقيق) . وإن لنا في شرح ما قاله الشيخ والتعليق عليه ما يلي:
الأول: إن شرط الاتصال بالفعل في (مفعلة) إنما جعل لما يجب فيه الإعلال، فإذا تخلف هذا الشرط، جاز التصحيح ولم يجب، كما بينا فيما تقدم نصاً وشاهداً. فما سُمع من مفعلة المعتلة العين بالإعلال كـ (متانة ومتاتة ومجازة وملازة) ، وهي من التين والتوت والجوز واللوز، يُتقبل ويعمل به، ولو كان المختار هو التصحيح.
الثاني: إن (المأيمة) بفتح فسكون ففتح، من مفعلة السبب. ففي الأساس (الحرب مأيمة ميتمة) أي تؤول بالنساء إلى أن يصبحن أيامى، والأولاد يتامى. وقد أشار الشيخ إلى هذا في موضع آخر. وفي المخصص لابن سيده (16/174) :(أبو عبيد: في الحديث الولد مجبنة مجهلة مبخلة. والحرب مأيمة وميتمة) أي يقتل فيها الرجال فتئيم النساء، ويُتيم الأولاد.
الثالث: جاء في القاموس والصحاح أن المشيخة بإسكان الشين من جموع الشيخ. وفي المصباح (والمشيخة اسم جمع للشيخ وجمعها مشايخ) . وقد ورد في الأساس والقاموس بالإعلال بكسر الشين، وبالتصحيح بإسكانها. فالمشيخة بفتح الياء مفعلة جاءت على التصحيح فما سرّ تصحيحها؟
قال الشيخ في موضع آخر (وقد استفيد من صنيع القاموس أنه يصح في المشيخة اعتباران: كونها من مفعلة السبب، أي الفعل أو الصفة التي توصل إلى الشيخية، فتكون بفتح العين، وكونها من مفعلة التأثر والانفعال كما يجيء فتكون بكسر العين) . فهو قد علل تصحيح المشيخة المفتوحة الياء بأنها مفعلة السبب. أقول لو صحّ هذا لقيل مثلاً (المصائب مشيخة) أي تؤول بصاحبها إلى الشيخوخة، كما قيل (كثرة الأكل منومة) بفتح الواو، أي تؤول بالأكل إلى النوم وتحمل عليه. ولم يسمع المشيخة بهذا المعنى. وإنما قيل (هم مشيخة) أي شيوخ فأين هذا المعنى من ذاك. فعلة تصحيح المشيخة بفتح الياء أنها اسم لم يبنَ على فعل كمصدر أو اسم مكان، وكل اسم على هذا جاز فيه التصحيح.
أما تخريج قولهم (هم مشيخة) وليست مشيخة من الجموع في الأصل، فقد يكون (هم أهل مشيخة) والحذف هاهنا مجاز. فالمشيخة اسم من الشيخوخة. وأما قولهم (هم ميتمة) والميتمة كما مر مفعلة للسبب، فيمكن أن يكون مجازاً أيضاً، لذكر السبب وهو الميتمة وإرادة المسبب، بفتح الباء المشددة الأولى، وهو (الأيتام)، كما في قولك: رعينا غيثاً: أي نباتاً سببه الغيث.
الرابع: قول الشيخ: (ولا يُعل أروح اللحم يُروحُ، واستجوبه يستوجبه، لأنهما من الراحة والإجابة) ، لا يمكن أن يجري على إطلاقه. وعندي أن كل ما صحح فقد أريد به الدلالة على اسم يتصل به. فاسودت المرأة بمعنى ولدت غلاماً أسود لوحظ فيه سواد الولد فاتصل به، وأخوصت النخلة من الخوص بضم الخاء وهو ورق النخل، وأشوكت النخلة من الشرك، وأحول الغلام إذا أتى عليه الحول بفتح الحاء، وأعوه القوم بفتح الواو إذا أصابت ما شيتهم عاهة، وأغيمت السماء بفتح الياء إذا غشيها الغيم، وأغيل فلان ولده بفتح الياء من الغيل بفتح الغين. على أنه قيل أعاه بالإعلال بمعنى أعوه، وأغام بمعنى أغيم وأغال بمعنى أغيل وأساد بمعنى أسود.
الخامس: ماء مسودة بفتح فسكون ففتح هو مفعلة للسبب، أي يؤول بصاحبه إلى السواد بضم السين، والسواد اسم الداء. والكلام في هذا واضح. أما المضيعة بإسكان الضاد وفتح الياء فقد جعلها الشيخ من الضيعة، على حين جعل المضيعة بكسر الضاد وسكون الياء من الضياع. ومذهبه في هذا غريب. ذلك أن الضيعة والضياع سيان ففي اللسان (والضيعة في الأصل المرة من الضياع، والضيعة والضياع: الإهمال) . والضاد فيها جميعاً بالفتح. وفي اللسان أيضاً (ضاع الشيء ضيعة وضياعاً) . فما الفرق إذاً بين (المضيعة) بكسر الضاد، و (المضيعة) بإسكان الضاد وفتح الياء؟ الذي عليه الأمهات أن المضيعة بالكسر مفعلة من الضياع؟ أي أنها اسم منه. ولذا قيل (هو بدار مضيعة) بكسر الضاد أي بدار ضياع، كما ذكر التاج وقد اعتقد الأستاذ عبد الرحمن تاج، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة (المضيعة) بكسر الضاد اسم مكان لحقت به التاء، كما جاء في مجلة المجمع القاهري للدورة الثالثة والثلاثين. وعندي أن قولهم (بدار مضيعة) بكسر الضاد. يمنع أن يكون مضيعة هذه اسم مكان. وقد فسّر التاج (دار مضيعة) بـ (دار ضياع) وقال صاحب النهاية (مضيعة: مفعلة من الضياع وقد قيل تركهم بيعة بفتح الضاد، ومضيعة: بكسر الضاد) كما أورده المرزوقي في شرح الحماسة (75) . فيكون الباء للظرفية المجازية، والضيعة اسم معنى كالضياع، وقد عطف المضيعة بكسر الضاد عليها فلم يبقَ في المضيعة هذه محل لاسم مكان. أما المضيعة بإسكان الضاد وفتح الياء، فهو مفعلة للسبب، كما يتبين من قولهم (بلدكم منساة العلم ومضيعة العالم) على ما جاء في الأساس. ومعناه أن بلدكم يؤول بالعلم إلى النسيان، وبالعالم إلى الضياع، وهو يدعو إلى ذلك ويبعث عليه فيكون سبباً له.
على أنه جاء في التاج (ويقال هو بدار مضيعة كمعيشة، وعليه اقتصر الجوهري، ومضيعة مثل مهلكة، أي بدار ضياع، مفعلة من الضياع، وهو الإطراح والهوان) . ويدل هذا أن من الأئمة من جعل (المضيعة) بكسر الضاد و (المضيعة) بإسكانها، سواء فعطف الأخيرة على الأولى، خلافاً للجوهري، فقد جاء في اللسان (وتركهم بضيعة ومضيعة بكسر الضاد، ومضيعة بإسكان الضاد) .
والأرجح عندي أن (المضيعة) بإسكان الضاد مفعلة للسبب. وإذا كان قد جاء عطفها على المضيعة بكسر الضاد في حكاية، فإنه لم يجئء في حكاية الجوهري، والجوهري كما يقول ابن بري: أنحى اللغويين. وليس يمتنع على كل حال أن تأتي (المضيعة) بالإسكان على حالين في الأصل. فقد جاء (المأدبة) بفتح الدال بمعنى الطعام أو الدعوة، لكنه فسر في حديث (أن القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم) بأنها مفعلة من الأدب. قال المرتضى في أماليه (1/754) :(وقال غيره: المأدبة بفتح الدال مفعلة من الأدب، ومعناه أن الله تعالى أنزل القرآن أدباً للخلق وتقويماً لهم) . أي أنه أنزل القرآن من أجل تأديبهم وتقويمهم. وفي الكامل للمبرد (2/73) إشارة إلى جواز هذا التخريج إذ قال (وكلاهما في العربية جائز) .
مجمع اللغة العربية القاهري ومفعلة
ومما يجدر بنا ذكره والتنبيه عليه أن مجمع اللغة العربية القاهري، قد أقر قياس مفعلة الأعيان، ولم يكشف عن رأيه في معتل العين منها، هل يجري فيه الإعلال، كما يجري فيما اتصل بالفعل من مصدر أو اسم مكان أو زمان. وقد تنبه لهذا الأستاذ عباس حسن عضو المجمع فقال: المجمع لم يبن رأيه في ذلك فكان قراره:
(القاعدة في صوغ مفعلة مما وسطه حرف علة، هي الإعلال فيقال في مثل توت، وخوخ وتين: متاتة ومخاخة ومتانة. لكن وردت ألفاظ كثيرة بالتصحيح لا الإعلال مثل مثوبة ومشورة ومصيدة ومبولة، بفتح الواو وإسكان ما قبلها. ويرى النحاة أن الاحتفاظ بالأصل يلجأ إليه أحياناً. ولا شك أن بقاء الكلمة من غير إعلال أبين في الدلالة على المعنى. والإعلال في هذا الباب غير مستحكم. وقد نقل عن أبي زيد النحوي إجازة التصحيح في أفعل واستفعل.. وإذا أجيز التصحيح في الأفعال، فالإجازة في الأسماء مقبولة، لأن الأسماء في هذا الباب محمولة على الأفعال) . وأنت ترى أنك إذا حاولت الاعتماد على هذا القرار المتردد فاتك الانتهاء منه إلى يقين. فكلّ جائز، ولا تمييز بين مفعلة وأخرى. قال الأستاذ عباس حسن:(وإني ألحظ في هذا القرار غموضاً وتعارضاً يتطلب التجلية والتوفيق. والقرار ينص على أن القاعدة هي الإعلال، لكنه يعود بعد ذلك فيقول: وردت ألفاظ كثيرة في اللغة بالتصحيح لا بالإعلال، فما مراد الكثرة؟ وما المراد من قول التقرير إذا أجيز التصحيح في الأفعال، فالإجازة في الأسماء مقبولة: فهل اطرد التصحيح في الأفعال حتى يحمل عليه الأسماء فيه..) وينتهي الأستاذ حسن إلى القول: (ويدور بخلدي أن القرار لو اقتصر على سرد القاعدة التي جاءت في صدره وزاد عليها إباحة التصحيح في حالة واحدة، وهي أن يخفى معنى الكلمة بالإعلال أو يلتبس بغيره. ولا نجاة من الخفاء واللبس، إلا بالتصحيح. لو فعل هذا لكان سليماً من الغموض، بعيداً من التعارض، مسايراً بعض المذاهب اللغوية) فما الرأي في هذا كله؟
أقول لا وجه لما جاء في قرار المجمع من إطلاق إجازة التصحيح في كل ما اعتلت عينه من مفعلة، وكسر قاعدة انتظمت صياغة ما لا يحصى من الألفاظ بالإعلال. بل لا وجه لاعتماد قول من أباح التصحيح في أفعل واستفعل، وإغفال ما يضبط صوغ ما لا يعد ولا يحصى من الأفعال. ولو أُجيز إفساد قاعدة بما شذّ عنها لأبطلت القواعد جميعاً. ولم يعدل الأئمة عن الإعلال إلى التصحيح، إلا عللوه فكان ذلك إرساء للأصل وتوكيداً للقاعدة. فانظر إلى ما جاء في كتاب التصريف لابن جني:(وما صحّ من ذلك لأنه في معنى ما تجب صحته قولهم عوِر وحوِلَ، صحّ لأنه في معنى أعور وأحول. وكذلك صَيِدَ البعير يصح لأنه في معنى أصيد. وكذلك اعتونوا واعتوروا واهتوشوا واجتوروا، لأنه في معنى ما لا بد من صحته لسكون ما قبله، وهو تعاونوا وتعاوروا وتهاوشوا وتجاوروا، فجعل التصحيح أمارة للمعنى) .
وعندي أن ما جاء فيه التصحيح قد أتوا به كذلك لأمر انتووه. ذلك أن كل ما صحح قد أريد به الدلالة على اسم يتصل به، كما رأيت. فقد جاء التصحيح مثلاً فيما يبنى من استفعل على الاسم خاصة كاستتيست الشاة واستنوق الجمل واستفيل. قال الرضي (وأبو زيد جوّز التصحيح في باب الأفعال والاستفعال مطلقاً قياساً، إذا لم يكن لهما فعل ثلاثي) . كما جاء التصحيح في استفعل وأفعل إذا أريد بهما الاسم لتأكيد معناه، كاستحوذ من الحوذ أو الاحواذ، واستصوب من الصوب أو الصواب واستجوب من الجواب.. ونظير ذلك أُغيل من الغيل، وأغيم من الغيم، وأعوه من العاهة، وأقول من القول، وأخوص وأشوك. وجاء في كتاب الصرف للإمام بدر الدين محمود بن أحمد العيني المتوفى (855 هـ) :(وقوله لا يعل مثل ما أقوله لأنه تعجب، وهو شبه الأسماء في عدم تصرفه، يعني لا يتصرف لفظ التعجب إلى المضارع والأمر والنهي، فلما شابه الاسم صححت واوه وياؤه، كما صححت واو دلو وياء ظبي. ولا يعل أيضاً قولك أغيلت المرأة إذا أرضعت ولدها في حال حملها، واستحوذ أي استولى وغلب، وكذلك استصوب، أي وجد الشيء صواباً، واستروح أي وجد الرائحة والراحة، وأطيب أي جعلت الشيء طيباً، وذلك حتى يدللن على الأصل..) .
أما تعليق إجازة التصحيح على خوف اللبس، كما ذهب إليه الأستاذ عباس حسن، فلا مساغ لقبوله على إطلاقه، بلا حد ولا ضابط، في كل مفعلة.
والرأي عندي أن يكون الأصل عامة هو الإعلال في كل ما بني من مفعلة على الفعل، إذا كان معتل العين، كمصدر أو اسم مكان أو زمان، كما قرر النحاة، ودل عليه الاستقراء. وأن يجاز التصحيح فيما جاء على خلافه غير متصل بالفعل، لأن الإعلال ليس شرطاً فيه، كما رأيت. ثم يوجب التصحيح في هذا وحده، كلما خيف اللبس، وفي هذا بيان.