المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌إثبات الأهلة

- ‌أقوال العلماءفي اعتبار كلام علماء النجوم والحساب في إثبات الأهلة

- ‌أدلة الأقوال ومناقشتها

- ‌أولا: أدلة من يقول بإثبات الشهور القمرية برؤية الهلال فقط:

- ‌ثانيا: أدلة من يعتبر الحساب في إثبات الشهور القمرية:

- ‌أولا: أن المراد بالحساب والتنجيم هنا معرفة البروج والمنازل

- ‌ثالثا: أن رؤية الهلال هي المعتبرة وحدها في حالة الصحو ليلة الثلاثين

- ‌رابعا: أن المعتبر شرعا في إثبات الشهر القمري هو رؤية الهلال فقط دون حساب سير الشمس والقمر

- ‌خامسا: تقدير المدة التي يمكن معها رؤية الهلال بعد غروب الشمس لولا المانع من الأمور الاعتبارية الاجتهادية

- ‌سادسا: لا يصح تعيين مطلع دولة أو بلد - كمكة مثلا - لتعتبر رؤية الهلال منه وحده

- ‌سابعا: ضعف أدلة من اعتبر قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري

- ‌بيان حكم إحياءديار ثمود

- ‌المذهب الثاني: جواز الإحياء

- ‌تحديد الممنوع إحياؤهمن ديار ثمود

- ‌ثانيا: ما ذكره أئمة اللغة التفسير وشراح الحديث وعلماء التاريخ مما يتعلق بتحديد ديار ثمود:

- ‌ثالثا: أقوال أهل الخبرة ومشاهدات اللجنة:

- ‌تدوين الراجح من أقوال الفقهاءفي المعاملات وإلزام القضاةبالحكم به

- ‌ الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض

- ‌ أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا

- ‌الخلاصة

- ‌ المذهب الحنفي:

- ‌ المذهب المالكي:

- ‌ المذهب الشافعي:

- ‌ المذهب الحنبلي:

- ‌ نقول عن بعض الفقهاء المعاصرين الذين يدعون إلى هذه الفكرة:

- ‌ تمهيد

- ‌ الآثار المترتبة على البقاء مع الأصل:

- ‌ الآثار التي تترتب على العدول عن الأصل:

- ‌مصادر البحث

- ‌إقامة طابق على شارع الجمرات

- ‌ سبب المشروع:

- ‌ موضع الرمي:

- ‌ الأصل في تحديد المشاعر التوقيف:

- ‌ المستند لبقاء الوضع الحالي للجمار

- ‌ قد يقال: لا يجوز بناء حوض خارجي أوسع من الحالي:

- ‌حكم تمثيل الصحابةرضي الله عنهم

- ‌حكم تمثيل الصحابةفي مسرحية أو فيلم سينمائي

- ‌الأول: ما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المكانة العليا في الإسلام:

- ‌الثاني: النظرة العامة إلى مشاهدة التمثيل:

- ‌الثالث: حال محترفي التمثيل من المناحي المسلكية:

- ‌الرابع: أغراض التمثيل:

- ‌الخامس: اعتياد كثير من المؤرخين في مؤلفاتهم التاريخية على التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية:

- ‌فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

- ‌اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل

- ‌قرار لجنة الفتوى بالأزهر

- ‌قصص الأنبياء في السينما

- ‌إقامة أكشاك في منى

- ‌مقام إبراهيمعليه السلام

- ‌قتل الغيلة

- ‌ معنى قتل الغيلة في اللغة وضابطه عند الفقهاء:

- ‌ قتل الغيلة: لغة:

- ‌ قتل الغيلة شرعا:

- ‌ خلاف الفقهاء فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا

- ‌الخلاصة

- ‌الخلاف بين الفقهاء فيما يوجبه قتل الغيلة:

الفصل: ‌ الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض

ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا.

الثاني: الدواعي التي دعت إلى تأليف كتاب بعبارة سهلة يقتصر فيه على القول الراجح من أقوال الفقهاء على هيئة مواد، وإلزام القضاة العمل بما فيه.

الثالث: بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا.

الرابع: أقوال فقهاء الإسلام قديما وحديثا في إلزام ولاة الأمور القضاة أن يحكموا بمذهب معين أو رأي معين فيما يرفع إليهم من الخصومات مع الأدلة.

الخامس: الآثار التي تترتب على البقاء مع الأصل، والتي تترتب على العدول عنه للدواعي الطارئة؛ لما يظن أنه المصلحة.

السادس: هل يمكن إيجاد حل لهذه المشكلة القائمة سوى إلزام القضاة أن يحكموا بما يراد تدوينه من الأقوال الراجحة، أو يتعين إلزامهم بذلك طريقا لعلاج الموقف وحل المشكلة.

السابع: مدى تصرف إمام المسلمين في الإلزام، مع أمثلة في مجال إلزامه توضح ذلك.

والله الموفق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

ص: 118

الأول: التمهيد: وفيه ثلاثة أمور:

أ-‌

‌ الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض

.

ب- حكم تولية كل منهم القضاء.

ص: 118

ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا.

أ- الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض:

1 -

قال (1) ابن عابدين نقلا عن ابن كمال باشا: الفقهاء على سبع طبقات:

الأولى: طبقة المجتهدين في الشرع؛ كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة، من غير تقليد لأحد، لا في الفروع ولا في الأصول.

الثانية: طبقات المجتهدين في المذهب؛ كأبي يوسف، ومحمد، وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول.

الثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب؛ كالخصاف، وأبي جعفر الطحاوي -إلى أن قال-: فإنهم لا يقدرون على مخالفة الإمام، لا في الأصول ولا في الفرع، لكنهم يستنبطون الأحكام من المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها.

الرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كالرازي وأضرابه،

(1)[مجموعة رسائل ابن عابدين] ، رسالة رسم المغني (11 \ 12) .

ص: 119

فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا، لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم المأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين، وحكم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب، وعن أحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقاييس على أمثاله ونظائره من الفروع وما وقع في بعض المواضع من الهداية من قوله كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل.

الخامسة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كأبي الحسن القدوري، وصاحب الهداية وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر بقولهم: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أوضح، وهذا أوفق للقياس، وهذا أرفق للناس.

السادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوال والقوي والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والرواية النادرة، كأصحاب المتون المعتبرة؛ كصاحب [الكنز] ، وصاحب [المختار] ، وصاحب [الوقاية] ، وصاحب [المجمع] ، وشأنهم ألا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة.

السابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر، ولا يفرقون بين الغث والسمين، ولا يميزون الشمال من اليمين، بل يجمعون ما يجدون، كحاطب ليل، فالويل لمن قلدهم كل الويل.

2 -

قال (1) الآمدي: أما الاجتهاد فهو في اللغة: عبارة عن استفراغ

(1)[الأحكام] للآمدي (4 \ 162) .

ص: 120

الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة. . ثم قال: وأما في اصطلاح الأصوليين: فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسن من النفس العجز عن المزيد عليه -وبعد أن شرح التعريف قال-: وأما المجتهد: فهو من اتصف بصفة الاجتهاد -وبعد أن ذكر الشرط الأول من شرطي المجتهد المطلق قال- الشرط الثاني: أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها، واختلاف مراتبها المعتبرة فيها على ما بيناه، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها قادرا على تحريرها وتقريرها، والانفصال من الاعتراضات الواردة عليها. . . إلى أن قال: هذا كله يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة وما لا بد منه فيها، ولا يضره جهله في ذلك بما لا تعلق له به مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية. كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المستكثرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر.

3 -

قال (1) محمد الأمين الجنكي الشنقيطي ما حاصله: المجتهد المطلق الناظر في الأدلة الشرعية من غير التزام مذهب إمام معين؛ كالأئمة

(1)[مراقي السعود وشرحها] ، طبعة المدني.

ص: 121

الأربعة، وأما مجتهد المذهب فهو مجتهد أصوله أصول إمام مذهبه، سواء كانت منصوصة للإمام المقلد أم مستنبطة من كلامه، فكثيرا ما يستخرج أهل المذهب الأصول- أي: القواعد وفاقية أو خلافية -من كلام إمامهم وشرطه المحقق له: أن يكون له قدرة على استنباط الأحكام من نصوص ذلك الإمام الملتزم هو له، كأن يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه؛ لوجود معنى ما نص عليه فيه، سواء نص إمامه على ذلك المعنى أو استنبطه هو من كلامه، أو كأن يستخرج حكم المسكوت عنه من عموم ذلك أو قاعدة ذكرها، وأما مجتهد الفتيا فهو المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من أن يرجح قولا على قول آخر لم ينص ذلك الإمام على ترجيح واحد منهما، والمجتهد في المذهب أعلى رتبة من مجتهد الفتوى، والمقلد هو القائم بحفظ المذهب وفهمه في الواضح والمشكل العارف بعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، المستوفي لحفظ ما فيه من الروايات والأقوال، وعلم خاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها. قال: نحو هذا نقله الخطاب، وقال: العلم بذلك متعذر، والظاهر أنه يكفي في ذلك غلبة الظن بأن وجد المسألة في التوضيح، وفي ابن عبد السلام. انتهى كلامه، وهذا له أن يفتي في حدود ما نقل مستوفى، وفيما لا يجده منقولا إن وجد في المنقول معناه، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق وكذا ما يعلم اندراجه تحت قاعدة من مذهبه، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى به، ولا بد أيضا من شدة الفهم وكونه ذا حظ كبير من الفقه.

ص: 122

4 -

قال (1) شيخ الإسلام نقلا عن ابن الصلاح، وذلك بعد أن ذكر كلاما في المجتهد المطلق يتفق مع ما ذكره الآمدي قال:

وللمفتي المنتسب أحوال أربع:

أحدهما: ألا يكون مقلدا لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله، وإنما انتسب إليه؛ لسلوك طريقه في الاجتهاد. . إلخ، وفتوى المنتسبين في هذه الحال في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل ويعتبر بها في الإجماع والخلاف.

الحال الثانية: أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه، يستقل بتقرير مذهبه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، ولا بد أن يكون عالما بأصول الفقه، لكنه قد أخل ببعض الأدوات؛ كالحديث واللغة، فإذا استدل بدليل إمامه لا يبحث عن معارض له، ولا يستوفي النظر في شروطه، وقد اتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها، كما يفعل المجتهد المستقل بنصوص الشارع والعامل بفتيا هذا مقلد لإمامه. قال: والذي رأيت من كلام الأئمة يشعر بأن فرض الكفاية لا يتأدى بمثل هذا، قال: وأقول: يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى، ولا يتأدى به إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قائم مقام المطلق والتفريغ على جواز تقليد الميت وهو الصحيح، وقد يوجد منه الاستقلال في مسألة خاصة، أو باب خاص، ويجوز له أن يفتي فيما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصا لإمامه بما يخرجه على مذهبه، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل، وإليه مفزع

(1)[المسودة] ص (546) ، ويرجع أيضا إلى [المجموع شرح المهذب](1 \ 70) وما بعدها.

ص: 123

المفتين من مدد مديدة، وهو في مذهب إمامه بمنزلة المجتهد في الشريعة، وهو أقدر والمستفتي فيما يفتيه من تخريجه مقلد لإمامه لا له، قطع به أبو المعالي، قال: وأنا أقول: ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه أبو إسحاق الشيرازي (في أن ما يخرجه أصحاب الشافعي على مذهبيه هل يجوز أن ينسب إليه أم لا؟) .

والذي اختاره أبو إسحاق: أنه لا ينسب إليه؛ قال: وتخريجه تارة من نص معين، وتارة تخريجه على وفق أصوله بأن يجد دليلا من جنس ما يحتج به إمامه، والأولى إذا وجد نص بخلافه يسمى ما خرجه: قولا مخرجا، وإن وقع الثاني في مسألة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك ينسى وجها، وشرط التخريج أن لا يجد بين المسألتين فارقا، وإن لم يعلم العلة الجامعة، كالأمة مع العبد في السراية، ومهما أمكن الفرق بين المسألتين لم يجز له على الأصح التخريج، ولزمه تقرير النصين على ظاهرهما، وكثيرا ما يختلفون في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق.

الحال الثالثة: أن يكون حافظا للمذهب، عارفا بأدلته، لكنه قصر عن درجة المجتهدين في المذهب؛ لقصور في حفظه أو تصرفه أو معرفته بأصول الفقه، وهي مرتبة المصنفين إلى أواخر المائة الخامسة، قصروا عن الأولين في تمهيد المذهب، وأما في الفتوى فبسطوا بسط أولئك، وقاسوا على المنقول والمسطور غير مقتصرين على القياس الجلي وإلغاء الفارق.

الحال الرابعة: أن يحفظ المذهب ويفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها غير أنه مقتصر في تقرير أدلته، فهذا يعتمد نقله وفتواه في

ص: 124

نصوص الإمام وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه، وما لم يجده منقولا؛ فإن وجد في المنقول ما يعلم أنه مثله من غير فصل يمكن، كالأمة بالنسبة للعبد في سراية العتق، أو علم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب- جاز له إلحاقه والفتوى به، وإلا فلا، قال: ويندر عدم ذلك، كما قال أبو المعالي، بعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب، ولا هو في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق، ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابطه، ولا بد في هذا أن يكون فقيه النفس يصور المسائل على وجهها، وينقل أحكامها بعد استتمام تصويرها، جليها وخفيها، قال: ولا تجوز الفتوى لغير هؤلاء الأصناف في الفقه: أنه يجب عليه الاستفتاء. انتهى.

5 -

قال (1) علي بن سليمان المرداوي ما ملخصه: المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام:

مجتهد مطلق، ومجتهد في مذهب إمامه أو في مذهب إمام غيره، ومجتهد في نوع من العلم، ومجتهد في مسألة أو مسائل.

القسم الأول: المجتهد المطلق، وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها المصنف في آخر كتاب القضاء على ما تقدم هناك، إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة وأحكام الحوادث منها، ولا يتقيد بمذهب أحد، وقيل يشترط أن يعرف أكثر الفقه،

(1)[الإنصاف](12 \ 258) وما بعدها.

ص: 125

وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك. وقيل: المفتي: من تمكن من معرفة أحكام الوقائع على يسر من غير تعلم آخر.

القسم الثاني: مجتهد في مذهب إمامه أو إمام غيره:

وأحواله أربعة:

الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا وأولى من غيره، وأشد موافقة فيه وفي طريقه. . . وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.

الحالة الثاني: أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه، مستقلا بتقريره بالدليل، ومضى في الكلام. . . إلى أن قال: والحاصل: أن المجتهد في مذهب إمامه هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط. فهذه صفة المجتهدين أرباب الأوجه والتخاريج والطرق.

الحالة الثالثة: ألا يبلغ به رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس، حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريره ونصرته، يصور ويحرر، ويمهد ويقوي، ويزيف ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك؛ إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه، على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته عن طرف من قواعد أصول الفقه ونحوه، وإما

ص: 126

لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق.

وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب وحرروها، وصنفوا فيها تصانيف، بها يشتغل الناس اليوم غالبا، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ويمهد الطرق في المذاهب.

وأما فتاويهم فقد كانوا يستنبطون فيها استنباط أولئك أو نحوه ويقيسون غير المنقول على المنقول والمسطور. . ولا تبلغ فتاويهم فتاوى أصحاب الوجوه. وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول، واستنباط وجه، أو احتمال، وفتاويهم مقبولة.

الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه، من منصوصات إمامه، وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم. . . ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس. . . ويكفي استحضاره أكثر المذاهب، مع قدرته على مطالعة بقيته.

القسم الثالث: المجتهد في نوع من العلم، فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث، ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وإن جهل أحاديث النكاح وغيره، وعليه الأصحاب.

القسم الرابع: المجتهد في مسائل أو مسألة وليس له الفتوى في غيرها.

6 -

قال ابن القيم (1) : المفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى -أربعة

(1)[إعلام الموقعين](4 \ 184) .

ص: 127

أقسام.

أحدهم: العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة فهو المجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت. . . إلخ.

النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومآخذه وأصوله عارف بها متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه من غير أن يكون مقلدا لإمامه في الحكم ولا في الدليل لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره فهو موافق له في مقصده وطريقه معا. . . إلخ.

النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكنه لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة. . . إلخ.

النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه وحفظت فتاويه وفروعه، فأقرت على نفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه. . . إلخ.

ففتاوى القسم الأول: من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم، وفتاوى النوع الثاني: من جنس توقيعات نوابهم وخلفائهم، وفتاوى النوع الثالث، والرابع: من جنس توقيعات خلفاء نوابهم، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعطه متشبه بالعلماء، محاك للفضلاء.

ص: 128

ب- حكم تولية كل منهم القضاء

أما حكم تولية كل منهم القضاء فمختلف تبعا لاختلاف أحوالهم:

ص: 128

أ- المذهب الحنفي:

1 -

قال (1) علي بن خليل الطرابلسي في الكلام على الركن الأول في شروط القضاء- قال: وإذا أراد الإمام تولية أحد اجتهد لنفسه وللمسلمين. . . ومضى إلى أن قال: وأهل القضاء: من كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ حين بعثه قاضيا إلى اليمن: «بم تقضي يا معاذ؟ (2) » . . . الحديث، ولأن القاضي مأمور بالقضاء بالحق، إذا كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لأن الحوادث ممدودة، والنصوص معدودة فلا يجد القاضي في كل حادثة نصا يفصل به الخصومة، فيحتاج إلى استنباط المعنى من المنصوص عليه، وإنما يمكنه ذلك إذ كان عالما بالاجتهاد. . . ومضى إلى أن قال: ولا ينبغي أن يكون صاحب حديث لا فقه عنده، أو صاحب فقه لا حديث عنده، عالما بالفقه والآثار، وبوجه الفقه الذي يؤخذ منه الحكم.

قال عمر بن عبد العزيز: من راقب الله تعالى فكانت عقوبته أخوف في نفسه من الناس وهبه الله السلامة.

2 -

قال (3) الكاساني في الكلام على من يصلح للقضاء بعد أن ذكر جملة من الشروط: وأما العلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام فهل هو شرط جواز التقليد؟ عندنا ليس بشرط الجواز، بل شرط الندب والاستحباب، وعند أصحاب الحديث كونه عالما بالحلال والحرام وسائر الأحكام، مع بلوغ درجة الاجتهاد في ذلك- شرط جواز التقليد، كما قالوا

(1)[معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (13) .

(2)

سنن الترمذي الأحكام (1327) ، سنن أبو داود الأقضية (3592) ، مسند أحمد بن حنبل (5/236) ، سنن الدارمي المقدمة (168) .

(3)

[بدائع الصنائع](7 \ 3) .

ص: 129

في الإمام الأعظم، وعندنا هذا ليس بشرط الجواز في الإمام الأعظم؛ لأنه يمكنه أن يقضي بعلم غيره بالرجوع إلى فتوى غيره من العلماء، فكذا القاضي، لكن مع هذا لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام؛ لأن الجاهل بنفسه ما يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به -وبعد سياقه الحديث:"القضاة ثلاثة" قال: إلا أنه لو قلد جاز عندنا؛ لأنه يقدر على القضاء بالحق بعلم غيره بالاستفتاء من الفقهاء، فكان تقليده جائزا في نفسه، فاسد المعنى في غيره، والفاسد لمعنى في غيره يصلح للحكم عندنا مثل الجائز حتى ينفذ قضاياه التي لم يجاوز فيها حد الشرع، وهو كالبيع الفاسد، إنه مثل الجائز عندنا في حق الحكم كذا هذا. انتهى.

3 -

قال (1) عثمان بن علي الزيلعي على قول صاحب [الكنز] : (والاجتهاد شرط الأولوية- قال: - لأنه أقدر على الحكم بالحق، واختلفوا في حد الاجتهاد. قيل: أن يعلم الكتاب بمعانيه، والسنة بطرقها، والمراد يعلمها على ما يتعلق به الأحكام منه، ومعرفة الإجماع والقياس؛ ليمكنه استخراج الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها بطريقها.

ولا يشترط معرفة الفروع التي استخرجها المجتهدون بآرائهم، وقال بعضهم: يشترط مع هذا: أن يكون عارفا بالفروع المبنية على اجتهاد السلف؛ كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما من المجتهدين، وقال بعضهم: من حفظ المبسوط ومذهب المتقدمين فهو من أهل الاجتهاد، والأشبه أن يقال: أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه يعرف معاني الآثار،

(1)[تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق](4 \ 176) .

ص: 130

وصاحب فقه له معرفة بالحديث؛ كيلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه، وقيل: لا بد مع هذا من أن يكون صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس؛ لأن كثيرا من الأحكام مبني عليها. انتهى.

ب- المذهب المالكي:

1 -

يشترط (1) في القاضي أن يكون مجتهدا، فلا تنعقد إلا له إن وجد، وإلا فمقلد، ويجب عليه العمل بالمشهور في مذهب إمامه، واعلم أنه أراد بالمجتهد المطلق، وأما غير المطلق فهو داخل في المقلد، وهو قسمان: مجتهد مذهب، وهو الذي يقدر على إقامة الأدلة، ومجتهد الفتوى، وهو الذي يقدر على الترجيح، وما ذكره من أن تولية المقلد مع وجود المجتهد باطل قول، والقول الآخر: أنها صحيحة، وعليه طائفة أيضا، كالمازري وغيره، وعليه العمل في زمن مالك وغيره ممن قبله وممن بعده من المجتهدين، فكان ينبغي الاقتصار عليه.

2 -

يشترط في صحة تعيين القاضي: أن يكون مجتهدا مطلقا إن وجد، وإلا فمجتهد مذهب أو فتوى، وهو الذي يضبط المسائل المنقولة ويقوى على استخراج ما ليس فيه نص بقياس على المنقول في مذهب إمامه وباعتبار قاعدة كلية، وقيل: الاجتهاد المطلق شرط كمال التولية وتقديم الأمثل، وهو مجتهد المذهب على المقلد المحض ليس بشرط صحة في

(1)[حاشية علي الصعيدي في باب الأقضية على أبي الحسن على الرسالة] لابن أبي زيد (2 \ 278) وما بعدها.

ص: 131

التولية على الأصح، بل قال بعضهم: يصح تولية غير العالم حيث شاور العلماء.

ج- المذهب الشافعي:

1 -

قال الماوردي: ولا يجوز أن يقلد القضاء من تكاملت فيه شروطه التي يصح معها تقليده، وينفذ بها حكمه وهي سبعة. . . إلى أن قال: والشرط السابع: أن يكون عالما بالأحكام الشرعية، وعلمه يشتمل على أصولها، والارتياض بفروعها. ثم فصل الكلام بما ينطبق على المجتهد المطلق. ثم قال بعد ذلك: فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة في أحكام الشريعة صار بها من أهل الاجتهاد في الدين، وجاز له أن يفتي ويقضي، وجاز له أن يستفتى ويستقضى، وإن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يفتي ولا أن يقضي، فإن قلد القضاء فحكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلا، وحكمه -وإن وافق الصواب- مردود، وتوجه الحرج فيما قضى به عليه وعلى من قلده الحكم والقضاء، وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد؛ ليستفتى في أحكامه وقضاياه، والذي عليه جمهور الفقهاء: أن ولايته باطلة، وأحكامه مردودة، ولأن التقليد في فروع الشريعة ضرورة فلم يتحقق إلا في ملتزم الحق دون ملزمه. ثم قال: ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة؛ لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه، ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه. فإذا كان شافعيا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي

ص: 132

حنيفة عمل عليه وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضاء والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة، وأرضى للخصوم، وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه؛ لأن التقليد فيها محظور، والاجتهاد فيها مستحق. وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه، وقضى بما أداه اجتهاده إليه، وإن خالف ما تقدم من حكمه، فإن عمر رضي الله تعالى عنه قضى في المشتركة بالتشريك في عام، وترك التشريك في غيره، فقيل له: ما هكذا حكمت في العام الماضي؟ فقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.

2 -

وبعد (1) أن ذكر الرملي: أن الاجتهاد شرط في تولية القضاء، قال بعد ذلك: فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية، ولا مقلد وهو: من حفظ مذهب إمامه لكنه غير عارف بغوامضه وقاصر عن تقرير أدلته؛ لأنه لا يصلح للفتوى، فالقضاء أولى. . . ومضى إلى أن قال: واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه، إما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع، فإنه مع المجتهد، كالمجتهد في نصوص الشرع، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه، كما لا يجوز له

(1)[نهاية المحتاج](8 \ 240) .

ص: 133

الاجتهاد مع النص (فإن تعذر جمع هذه الشروط) أو لم يتعذر، كما هو ظاهر مما يأتي فذكر التعذر تصوير لا غير (فولى السلطان أو من له شوكة) . . . (فاسقا أو مقلدا)(ولو جاهلا) نفذ قضاؤه الموافق لمذهبه المعتد به، وإن زاد فسقه (للضرورة) لئلا تتعطل مصالح الناس. . . ويجب عليه رعاية الأمثل فالأمثل؛ رعاية لمصلحة المسلمين، وما ذكر في المقلد محله إن كان ثم مجتهد، وإلا نفذت تولية المقلد، ولو من غير ذي الشوكة. . . ومعلوم أنه يشترط في غير الأهل معرفة طرف من الأحكام. . . ويلزم قاضي الضرورة بيان مستنده في سائر أحكامه، كما أفتى بذلك الوالد رحمه الله، ولا يقبل قوله: حكمت بكذا من غير بيان مستنده فيه، وكأنه لضعف ولايته. انتهى المقصود.

د- المذهب الحنبلي:

1 -

قال (1) في [المنتهى وشرحه] : فيجب على الإمام أن ينصب بكل إقليم قاضيا. . . إلى أن قال: وعلى الإمام أن يختار لذلك أفضل من يجده علما وورعا؛ لأن الإمام ينظر للمسلمين فوجب عليه تحري الأصلح لهم.

2 -

وقال (2) أيضا: وله أن يولي قاضيا من غير مذهبه.

3 -

وقال (3) أيضا بعد ذكره لشروط الاجتهاد: فمن عرف أكثر ذلك فقد صلح للفتيا والقضاء؛ لتمكنه من الاستنباط والترجيح بين الأقوال، قال في

(1)[المنتهى وشرحه](3 \ 459) ، ويرجع أيضا إلى [الإنصاف](12 \ 155) .

(2)

[المنتهى وشرحه](3 \ 463) .

(3)

[المنتهى وشرحه](3 \ 467) .

ص: 134

(آداب المفتي) : ولا يضر جهله بذلك؛ لشبهة أو إشكال، لكن يكفيه معرفة وجوه دلالة الأدلة، وكيفية أخذ الأحكام من لفظها ومعناها، وزاد ابن عقيل في [التذكرة] ، ويعرف وجوه الاستدلال، واستصحاب الحال، والقدرة على إبطال شبه المخالف، وإقامة الدليل على مذهبه.

4 -

وقال (1) أبو يعلى: فأما ولاية القضاء فلا يجوز تقليد القضاء إلا لمن كملت فيه سبع شرائط. . . ومضى إلى أن قال: فإذا عرف ذلك صار من أهل الاجتهاد، ويجوز له أن يفتي ويقضي، ومن لم يعرف ذلك لم يكن من أهل الاجتهاد، ولم يجز له أن يفتي ولا أن يقضي، فإن قلد القضاء كان حكمه باطلا، وإن وافق الصواب؛ لعدم الشرط.

5 -

قال (2) الخرقي رحمه الله: ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عادلا عالما فقيها ورعا.

6 -

قال (3) ابن قدامة رحمه الله: الشرط الثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين.

ولنا قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (4) ولم يقل

(1)[الأحكام السلطانية](45، 46) .

(2)

[المغني والشرح](11 \ 380) .

(3)

[المغني والشرح](11 \ 382) وما بعدها.

(4)

سورة المائدة الآية 49

ص: 135

بالتقليد، وقال:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (1) وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار (3) » رواه ابن ماجه. والعامي يقضي على جهل.

ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى. . . ويخالف قول المقومين؛ لأن ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم.

وبعد أن شرح الاجتهاد قال: وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه. فإن قيل: هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها؟ قلنا: ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة يسألان الناس فيخبران، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة؟ فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ولكن ارجعي حتى أسأل

(1) سورة النساء الآية 105

(2)

سورة النساء الآية 59

(3)

سنن أبو داود الأقضية (3573) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2315) .

ص: 136

الناس، ثم قام فقال: أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. وسأل عمر عن إملاص المرأة؟ فأخبره المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة، ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم، فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة الاجتهاد، فلا تكون شرطا له، وهو سابق عليها.

وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل. . . ثم قال: وإنما المعتبر أصول هذه الأمور، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا، له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه. انتهى.

7 -

يشترط (1) فيمن يولى القضاء: أن يكون مجتهدا مطلقا إن تيسر وإلا جاز تولية مجتهد مذهب للحاجة، فإن لم يتيسر جاز تولية المقلد للحاجة، وإلا تعطلت أحكام الناس. اهـ.

8 -

جاء في [الكشاف](2) في أثناء الكلام على شروط القاضي (مجتهدا) إجماعا ذكره ابن حزم؛ ولأنهم أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله؛ لأن فاقد الاجتهاد إنما يحكم بالتقليد، والقاضي مأمور بالحكم بما أنزل الله، ولا المفتي (3) لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا، فالحاكم أولى (ولو) كان اجتهاده (في مذهب

(1)[الإنصاف](11 \ 177، 178) .

(2)

[كشاف القناع عن متن الإقناع](6 \ 237) .

(3)

قوله: (ولا المفتي)، وفي [المغني] :(ثم المفتي) .

ص: 137

إمامه) (إذا لم يوجد غيره)(لضرورة) لكن في [الإفصاح] : أن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم، ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة: أن قول من قال: إنه لا يجوز تولية غير مجتهد فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما استقرت عليه هذه المذاهب.

وقال الموفق في خطبة [المغني] : النسبة إلى إمام في الفروع، كالأئمة الأربعة ليست بمذمومة، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة قاطعة (واختار في [الإفصاح والرعاية] : أو مقلدا) .

قال في [الإنصاف] : (وعليه عمل الناس من مدة طويلة، وإلا تعطلت أحكام الناس، وكذا المفتي) .

قال ابن يسار: ما أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها، وظاهر نقل عبد الله مفت غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة (فيراعي كل منهما ألفاظ إمامه) و (يراعي من أقواله) متأخرا، ويقلد كبار مذهب في ذلك، ويحكم به ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مقلد، ولا يخرج عن الظاهر عنه.

9 -

وقال (1) شيخ الإسلام ابن تيمية: وسئل بعض العلماء إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دين، فأيهما يقدم؟

فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين، وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم.

(1)[مجموع الفتاوى](28 \ 259) .

ص: 138