الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سير الكواكب؛ لتعرفوا وجوده أو عدمه، وإمكان رؤيته لولا المانع أو عدم إمكان رؤيته. قال النووي في [المجموع]ـ بعد أن ذكر خلاف العلماء في اعتبار الحساب وإثبات الأهلة وعدم اعتباره وجواز الصوم بذلك أو وجوبه أو منعه، وما يترتب على ذلك من إجزاء صوم من صام بالحساب عن الفريضة وعدم إجزائه ـ ما نصه:
(فحصل في المسألة خمسة أوجه:
أصحها: لا يلزم المنجم ولا الحاسب ولا غيرهما بذلك، لكن يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما.
والثاني: يجوز لهما ويجزئهما.
والثالث: يجوز للحاسب، ولا يجوز للمنجم.
والرابع: يجوز لهما ولغيرهما تقليدهما.
والخامس: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم) اهـ.
وليس يعنينا هنا ما ترتب على أصل الخلاف من تفريغ إجزاء صوم من صام عن فريضته أو عدم إجزائه عنها وإنما يعنينا هنا أصل الخلاف في اعتبار الحساب في إثبات الأهلة وعدم اعتباره، وأدلة كل قول، ثم بالتفريع والتطبيق يعرف حكم الجزيئات والفروع؛ لذا اكتفينا بذكر أصل الخلاف.
أدلة الأقوال ومناقشتها
أولا: أدلة من يقول بإثبات الشهور القمرية برؤية الهلال فقط:
أ - استدل الجمهور بأحاديث إثبات الهلال بالرؤية، ففيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم للرؤية والإفطار لها في قوله: «صوموا لرؤيته، وأفطروا
لرؤيته (1) » ، ونهى عن كل منهما عند عدمها في قوله:«لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه (2) » ، وأمرهم إذا كان غيم أو نحوه ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة ثلاثين، ولم يأمرهم بالحساب، ولا بالرجوع إلى الحساب، بل حصر بطريق النفي والإثبات الشهر بالرؤية، فدل على أنه لا اعتبار شرعا لما سواها في إثبات الأهلة، وهذا تشريع من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عام للحاضر والباد، أبدا إلى يوم القيامة، ولو كان هناك أصل آخر للتوقيت لأوضحه لعباده؛ رحمة بهم، وما كان ربك نسيا.
واعترض عليه: بأن تعليق الحكم بثبوت رمضان والخروج منه بالرؤية معلل بوصف الأمة بأنها أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، وقد زال عنها وصف الأمية بكثرة علماء النجوم وحساب منازل القمر، فيزول تعليق الحكم بالرؤية أو بخصوص الرؤية، ويعتبر الحساب وحده أصلا أو يعتبر أصلا آخر؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
وأجيب أولا: بأن وصف الأمة بأنها أمية لا يزال قائما اليوم بالنسبة لعلم النجوم ومنازل القمر في الأغلب والكثير منها، كما كان قائما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرون الأولى في الأغلب منها بالنسبة لعلم النجوم ومنازل القمر، فقد كان العلم بذلك معروفا عند العرب، لكن العارفون به قلة، كما أن العارفين به اليوم قلة بالنسبة لغيرهم، ومع ذلك لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون أمر المسلمين اليوم في هذا الحكم على ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وأجيب ثانيا: بأن الرؤية أمر عام؛ لتيسرها لسواد الأمة ومعظمها، فكان تعليق حكم صوم الشهر والإفطار منه بها أيسر للأمة، وأوفق بمقاصد
(1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(2)
صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2122) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
الشريعة، فإنها الحنيفية السمحة، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب، والعلماء به قليل بالنسبة لسواد الأمة، فإنه يلزمهم ما لا يخفى من الحرج الذي يتنافى مع مقاصد الشريعة.
واعترض عليها أيضا: بأن لفظ الرؤية وإن كان خاصا حسب ظاهره بما يكون بالبصر فإن معناه عام، إذا القصد العلم أو غلبة الظن بوجود الهلال مفارقا للشمس بعد اجتماعه بها وتأخره عنها بعد الغروب أو بوجوده مع إمكان رؤيته، لا خصوص الرؤية بالبصر، فإن الرؤية اعتبرت لكونها وسيلة للعلم أو غلبة الظن، وهذا لا يمنع من أن تكون هناك وسيلة أخرى في معناها يعرف بها وجود الهلال فقط، أو وجوده مع إمكان رؤيته، فإذا وجدت اعتبرت، وقد تحقق هذا في علم النجوم ومنازل القمر.
ويمكن أن يجاب: بأن الرؤية في الحديث بصرية؛ لتعديها لمفعول واحد، ولأن الصحابة فهموا ذلك، وجرى عليه العمل في عهدهم، ولو كان معنى الرؤية أوسع من لفظها لكان الصحابة أفهم له منا، ولرجعوا عند الحاجة إلى الحساب؛ لوجودهم بين أظهرهم، وإن كانوا قلة.
قال ابن بزيزة: نهت الشريعة عن الخوض في علوم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع، ولا ظن غالب، مع أنها لو ارتبط الأمر بها لضاق الأمر، إذ لا يعرفها إلا القليل.
وقال ابن بطال وغيره: معنى الحديث: إننا لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة، وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم.
2 -
واستدلوا أيضا: بقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1)
(1) سورة البقرة الآية 189
قال ابن تيمية رحمه الله: فجعل الله تعالى الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة في الشرع ابتداء أو سببا من العبادة، وللأحكام التي تثبت بشروط العبد، فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له، وهذا يدخل فيه الصيام والحج ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة، وخص الحج بالذكر؛ تمييزا له، ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم، ولأنه يكون في آخر شهور الحول، فيكون علما على الحول، كما كان الهلال علما على الشهر، ولهذا يسمون الحول حجة. اهـ. بتصرف.
لكن توجيه الاستدلال بالآية مجمل؛ ولذلك يمكن للمخالف أن يقول: الأهلة مواقيت للناس والحج عن طريق معرفة وجود الهلال بحساب النجوم ومنازل القمر، كما يحتمل أن تكون مواقيت عن طريق رؤية الهلال بالبصر، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، وإذا لا بد من الرجوع في الاستدلال بالآية إلى الأحاديث التي أوضحت أن ثبوت الشهر القمري إنما هو برؤية الهلال وألغت اعتبار ما سواه، كما تقدم في الدليل الأول.
3 -
واستدلوا أيضا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإكمال العدة ثلاثين، إذا كان غيم أو نحوه مما يمنع عادة من رؤية الهلال، ولم يأمرهم بالحساب ولا بالرجوع إلى الحساب، ولو كان علم النجوم أو حساب سير القمر معتبرا شرعا وأصلا يرجع إليه ـ لعرفهم به، وأرشدهم إليه، إذ لا يجوز تأخير
البيان عن وقت الحاجة.
واعترض عليه: بأن في الحديث أمرا بالرجوع إلى الحساب إذا كان غيم ليلة الثلاثين، فإن معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«فإن غم عليكم فاقدروا له (1) » : فإن حال دون الهلال سحاب أو نحوه فاقدروا منازل القمر وسير الكواكب، واعرفوا لحساب ذلك مفارقته الشمس بعد اجتماعه بها، وتأخره عنها بعد غروبها هذه الليلة.
وأجيب أولا: بأن تفسير هذه الرواية بما ورد في الرواية الأخرى من قوله صلى الله عليه وسلم: «فأكملوا العدة الثلاثين (2) » يرد تفسيره بما ذكره المعترض.
وثانيا: بأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وخطابه للأمة يحمل على معهود العرب في كلامهم وخطابهم، ولم يعهد من الصحابة الرجوع إلى الحساب، ولا كان من عادتهم ذلك، فحمل كلامه على الأمر بتقدير سير الكواكب أو القمر بعيد عما ألف لديهم، وعما جرى به العمل عندهم.
4 -
واستدلوا أيضا: بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب (3) » . . . الحديث.
قالوا: فلو جعل علم النجوم وحساب سير القمر ومعرفة منازله أصلا، يرجع إليه في بدء شهر الصوم ونهايته، وبدء شهر الحج ـ لكان فيه حرج ومشقة، والشريعة الإسلامية شريعة سمحة بنيت على التيسير ورفع الحرج، فلا تعلق أحكامها بما يشق على المسلمين معرفته؛ كعلم النجوم والحساب.
واعترض عليه بما تقدم في الاعتراض على الدليل الأول: من أن وصف الأمية قد زال؛ لكثرة علماء النجوم، وحساب منازل القمر، والحكم يدور
(1) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(2)
صحيح البخاري الصوم (1907) .
(3)
صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .
مع علته وجودا وعدما، فوجب اعتبار علم النجوم والحساب فقط، أو اعتباره أصلا آخر في معرفة الشهور والسنين القمرية.
وأجيب عنه بما تقدم: قال ابن تيمية بعد أن ذكر أحاديث الاعتماد على الرؤية فقط في إثبات الشهور القمرية: (فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور:
أحدها: أن قوله: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب (1) » هو خبر تضمن نهيا، فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط، أمية لا تكتب ولا تحسب، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة، فيكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما، وهذا كقوله «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (2) » أي: هذه صفة المسلم، فمن خرج عنها خرج عن الإسلام، ومن خرج عن بعضها خرج عن الإسلام في ذلك البعض) (3) .
ثم رد احتمال أن تكون هذه الجملة خبرا أريد به الإنشاء مجازا، وأن تكون خبرا محضا، واختار أن تكون خبرا حقيقة استلزم نهيا عن الاعتماد على كتابة الجداول وعلى حساب سير الكواكب؛ لمعرفة مواقيت العبادات ونحوها، وبين متى تكون الأمية محمودة ومتى تكون مذمومة.
ثم قال: (إذا تبين هذا فكتاب أيام الشهر وحسابه من هذا الباب، كما
(1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .
(2)
صحيح البخاري الإيمان (10) ، صحيح مسلم الإيمان (40) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4996) ، سنن أبو داود الجهاد (2481) ، مسند أحمد بن حنبل (2/192) ، سنن الدارمي الرقاق (2716) .
(3)
انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية](25\164، 165)
قدمناه، فإن من كتب مسير الشمس والقمر بحروف (أبجد) ونحوها، وحسب كم مضى من مسيرها، ومتى يلتقيان ليلة الاستسرار، ومتى يتقابلان ليلة الإبدار ونحو ذلك، فليس في هذا الكتاب والحساب من الفائدة إلا ضبط المواقيت التي يحتاج إليها الناس في تحديد الحوادث والأعمال، ونحو ذلك، كما فعل ذلك غيرنا من الأمم، فضبطوا مواقيتهم بالكتاب والحساب - كما يفعلونه بالجداول، أو بحروف الجمل، وكما يحسبون مسير الشمس والقمر، ويعدلون ذلك ويقومونه بالسير الأوسط، حتى يتبين لهم وقت الاستسرار والإبدار، وغير ذلك، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنا أيتها الأمة الأمية لا نكتب هذا الكتاب، ولا نحسب هذا الحساب، فعاد كلامه إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال وطلوعه.
وقد قدمنا فيما تقدم: أن النفي وإن كان على إطلاقه يكون عاما، فإذا كان في سياق الكلام ما يبين المقصود علم به المقصود أخاص هو أم عام؟ فلما قرن ذلك بقوله:"الشهر ثلاثون" و"الشهر تسعة وعشرون" بين أن المراد به: أنا لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب، إذ هو تارة كذلك، وتارة كذلك، والفارق بينهما هو الرؤية فقط، ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب كما سنبينه، فإن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر، وإنما يقربون ذلك، فيصيبون تارة، ويخطئون أخرى) (1) .
(1)[مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية](25\ 173، 174) .