الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو الوطء، أو المباشرة فيما دونه، أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج، أو الأب والسيد، وهذا لا يقوله أحد. . .، ومضى إلى أن قال: وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع قول بلا حجة يجب الرجوع إليها، فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء، وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم. نعم، الولاية قد تمكنه من قول حق ونشر علم قد كان يعجز عنه بدونها، وباب القدرة والعجز غير باب الاستحقاق وعدمه. نعم، للحاكم إثبات ما قال زيد أو عمرو، ثم بعد ذلك إن كان القول مختصا به كان مما يحكم به الحاكم، وإن كان من الأقوال العامة كان من باب مذاهب الناس، فأما كون هذا القول ثابتا عند زيد ببينة أو إقرار أو خط فهذا يتعلق بالحكام.
7 -
وقال (1) أيضا: الأحكام كلها تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام، وإنما الإمام منفذ لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)[المنتقى] للذهبي [مختصر منهاج السنة] لشيخ الإسلام ص (540) .
هـ ـ
نقول عن بعض الفقهاء المعاصرين الذين يدعون إلى هذه الفكرة:
1 -
قال (1) محمد رشيد رضا: وأما الاجتهاد في المعاملات والقضاء فهو الاجتهاد الحقيقي الذي يعجز عنه أكثر الناس، ولا يقوم به إلا طائفة تتفرغ للاستعداد للقضاء والفتوى والتعليم، ويلزم الإمام أو السلطان سائر الناس بالعمل باجتهادهم على ما بينته تبيينا، فإن أصاب هؤلاء الحق والعدل فلهم
(1) مجلة المنار (4\ 368) .
أجران، وإن أخطئوا بعد التحري وبذل الجهد في المعرفة فلهم أجر واحد، ويعذرون هم ومقلدوهم العاملون بمقتضى اجتهادهم.
2 -
قال (1) أيضا: فما أجمعوا عليه من أمر الدين فهو الذي لا يسع مسلما تركه، وما اختلفوا فيه يرد إلى الكتاب والسنة، كما أمر الله تعالى بقوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) أي: مآلا وعاقبة، والرد في الأمور العامة منوط بأولي الأمر، وفي الوقائع الخاصة يعمل كل فرد بما ظهر له الدليل على صحته. . إلخ.
3 -
وسئل (3) : ما قولكم دام فضلكم في أحكام السياسة والقوانين التي أنشأها سلطان البلد أو نائبه، وأمر وألزم حكام بلده وقضائه بإجرائها وتنفيذها، هل يجوز لهم إطاعته وامتثاله لإطلاق قوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (4) الآية، أم كيف الحكم؟ أفتونا مأجورين؛ لأن هذا شيء قد عم البلدان والأقطار؟
فأجاب: إذا كانت تلك الأحكام والقوانين عادلة غير مخالفة لكتاب الله وما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب علينا أن نعمل بها إذا وضعها أولو الأمر منا، وهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة قواعد المعادلة والترجيح والضرورات، وإن كانت جائزة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا
(1)[فتاوى المنار] رقم (522) ص (1466) .
(2)
سورة النساء الآية 59
(3)
[فتاوى المنار] رقم (406) .
(4)
سورة المائدة الآية 92
خلاف فيها- لم تجب الطاعة فيها؛ للإجماع على أنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1) » وهذا نص حديث رواه بهذا اللفظ أحمد والحاكم، عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري، وصححوه بلفظ:«لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف (2) » ، ولا يشترط أن تكون هذه القوانين موافقة لاجتهاد الفقهاء فيما أصلوه أو فرعوه برأيهم؛ لأنهم صرحوا بأن الاجتهاد من الظن، ولا يقوم دليل من الكتاب والسنة ولا من العقل والحكمة على أنه يجب على الناس أن يتبعوا ظن عالم غير معصوم، فلا يخرجوا عنه ولو لمصلحة تطلب، أو مفسدة تجتنب، ولا بغير هذا القيد.
وكذلك يطاع السلطان فيما يضعه- هو أو من يعهد إليه ممن يثق بهم - من القوانين التي ليس فيها معصية للخالق، وإن لم يكونوا من أولي الأمر الذين هم أهل الحل والعقد لأجل المصلحة، لا عملا بالآية، ولكن إذا اجتمع أهل الحل والعقد ووضعوا غير ما وضعه السلطان وجب على السلطان أن ينفذ ما وضعوه دون ما وضعه هو؛ لأنهم هم نواب الأمة، وهم الذين لهم حق انتخاب الخليفة ولا يكون إماما للمسلمين إلا بمبايعتهم، فإن خالفهم وجب على الأمة تأييدهم عليه لا تأييده عليهم.
وبناء على هذه القاعدة التي لا خلاف فيها عند سلف الأمة؛ لأنها مأخوذة من نصوص القرآن الحكيم. قال الخليفة الأول في خطبته الأولى: (وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني)، وقال الخليفة الثاني على المنبر أيضا:(من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه) ، وله كلام آخر في تأييد هذه القاعدة، وقال الخليفة الثالث على المنبر أيضا:(أمري لأمركم تبع) ، وقال الخليفة الرابع في أول
(1) صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/131) .
(2)
صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/94) .
خطبة له وكانت بعدما علمنا من الأحداث والفتن: (ولئن رد إليكم أمركم إنكم لسعداء، وأخشى أن تكونوا في فترة)، وهذا مأخوذ من قوله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (1)
قال (2) . الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا: والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها، أو يأمر بالعمل بقول ضعيف مرجوح إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك، فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به، وبذلك صرح فقهاؤنا، وفقا لقاعدة (المصالح المرسلة)، وقاعدة (تبدل الأحكام بتبدل الزمان) . ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السلطان إذا أمر بأمر في موضوع اجتهادي- أي: قابل للاجتهاد، غير مصادم للنصوص القطعية في الشريعة- كان أمره واجب الاحترام والتنفيذ شرعا، فلو منع بعض العقود لمصلحة طارئة واجبة الرعاية، وقد كانت تلك العقود جائزة نافذة شرعا- فإنها تصبح بمقتضى منعه باطلة، وموقوفة على حسب الأمر.
5 -
وقال (3) أيضا تعليقا على ذلك: جاء في كتاب الوقف من [الدر المختار] وحاشيته [رد المحتار] نقلا عن معروضات المولى أبي السعود - وهو مفتي المملكة العثمانية، ثم قاضي القسطنطينية في عهد السلطانين: سليمان وسليم، ومن كبار رجال المذهب الحنفي المتأخرين، المعول على فتاويهم وترجيحاتهم- أنه: صدر الأمر السلطاني بعدم نفاذ وقف
(1) سورة الشورى الآية 38
(2)
[المدخل الفقهي العام](1\191) ، ونسبه إلى [رد المحتار](1\55)
(3)
[المدخل الفقهي العام](1\191) وما بعدها.
المدين في القدر الذي يتوقف تسديد الدين من أمواله، قطعا لما يلجأ إليه بعض الناس من وقف أموالهم؛ لتهريبها من وجه الدائنين.
وبناء على الأمر صرح الفقهاء من بعده بعدم نفاذ مثل هذا الوقف المدين، ولو كان دينا محيطا بجميع أمواله؛ لأن الدين إنما يتعلق بذمته لا بعينه. . . ومضى إلى أن قال: والمهم جدا في هذه النصوص ليس هو الموضوعات التي وردت فيها، بل المبدأ الفقهي الذي تتضمنه؛ لما له من تأثير ذي بال في شتى الأحكام. . .
ومضى إلى أن قال تحت عنوان (مشكلة إعطاء هذه الصلاحية لولاة الأمور والحل الصحيح لها) قال: بقي أن يقال: إن إعطاء هذه الصلاحية لولي الأمر العام يؤدي إلى إمكان أن يتصرف هذا الحاكم بحسب هواه في تغيير الأحكام الاجتهادية وتقييدها بأوامر أو قوانين زمنية يصدرها. .
إلى أن قال: والجواب: أن هذا النصوص الفقهية مفروضة في إحدى حالتين: إما أن يكون الحاكم نفسه من أهل العلم والتقوى والاجتهاد في الشريعة، كما كان في الصدر الأول من العهد العباسي. . وإما ألا يكون عالما مجتهدا، وعندئذ لا يكون لأوامره هذه الحرمة الشرعية، إلا إذا صدرت بعد مشورة أهل العلم في الشريعة وموافقتهم.
6 -
قال (1) محمد سلام مدكور تحت عنوان: (تقييد القاضي على أن يحكم بمذهب أو رأي معين) قال: إذا قيد الحاكم القاضي أن يقضي بخلاف مذهبه وبالضعيف من مذهبه - فهذا التقييد باطل، ولم نقف على
(1)[المدخل للفقه الإسلامي] ص (378) وما بعدها.
خلاف في هذا بين المتقدمين من فقهاء المذاهب، والدليل على ذلك: أن القاضي مأمور أن يحكم بالحق، والحق ما يعتقده صحيحا، سواء كان الاعتقاد عن طريق بذل الجهد والنظر، أم عن طريق الاقتناع برأي إمامه والعلم بمذهبه. وهذا يتفق مع قولهم: إن من شرط صحة القضاء أن يحكم القاضي برأيه من غير تفرقة بين ما إذا قيده السلطان أو لم يقيده، ولا بين ما إذا كان القاضي مجتهدا أو مقلدا؛ لأن المقلد رأيه هو رأي إمامه الذي هو مذهبه.
وفي (1)[رسائل ابن عابدين] عن أنفع الوسائل: أن القاضي المقلد لا يجوز له أن يحكم إلا بما هو ظاهر في المذهب، إلا أن ينص الفقهاء على أن الفتوى على غير ذلك، وفي (2) [حاشية ابن عابدين على الدر] :(ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه، كما في زماننا تقيد بلا خلاف، ولو قيده بضعيف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه) ، وهذان النقلان يشعران بأنه إذا قيده بغير مذهبه لا يتقيد بعد بطريق الأولى، كما يشعران بأن هذا التقييد لا يتجه إلى المجتهد أيضا بطريق الأولى. كما (3) أن ابن قدامة الحنبلي يقول: إنه لا يجوز أن يقلد القضاء الواحد على أن يحكم بمذهب بعينه عند أحمد والشافعي ولا أعلم فيه خلافا؛ لأن الحق لا يتعين في مذهب، وهذا يشعر أيضا بالإطلاق بالنسبة للقاضي مجتهدا أو مقلدا هذا الإطلاق المستفاد من كلمة (أن يقلد القضاء الواحد) ، وقد
(1)[رسائل ابن عابدين](2\ 75) .
(2)
[حاشية ابن عابدين](4\ 369) .
(3)
[المغني](9\ 106) .
فصل (1) الماوردي الكلام في هذا التقييد وقال: إنه إما أن يكون بالنسبة لجميع الأحكام أو لبعضها، وقد نقل (2) مثله ابن فرحون عن بعض فقهاء المالكية، وهذا التفصيل لا نرى فيه فرقا أكثر من أن ذلك الشرط إذا كان يقصد به عدم سماع القاضي بعض الدعاوى- فإنه يتقيد به، وهذا غير ما نتكلم عنه من تقييد ولي الأمر للقاضي أن يقضي بمذهب أو رأي، ومما يؤيد وجهتنا في عدم أثر هذه التفرقة ما علق به (3) ابن فرحون على ما نقله إذ يقول:(إن جميع تلك التقييدات لا يجوز للإمام اشتراطها؛ لأنه اشتراط ما لا يجوز، ومن كان لا يقتضي إلا بما أمره به من ولاه فليس بقاض على الحقيقة) ، ولما قيد القانون في مصر من زمن بعيد القضاء في المحاكم الشرعية بالمذهب الحنفي فيما لم يرد به قانون خاص فقد استلزم ذلك أن يكون القضاء فيها مقصورا على من كان حنفي المذهب، حتى لا يحكم القاضي بخلاف مذهبه بأمر من سلطان، وبعد أن اتفق الفقهاء (4) على بطلان تقييد السلطان للقاضي على أن يقضي بمذهب معين فقد تناولوا عقد التولية نفسه على هذا القيد بما خلاصته: أنه إذا كان تم العقد على اشتراطه، سواء أكان في صيغة العقد أو متقدما عليه- فإن عقد التولية باطل عند غير الأحناف، صحيح عندهم، وإذا كان غير مشروط في صيغة العقد فعقد التولية صحيح إجماعا.
(1)[الأحكام السلطانية] ، ص (64) .
(2)
[تبصرة الحكام](1\16، 17) .
(3)
[تبصرة الحكام](1\16) .
(4)
انظر [المغني](9\109) .
مما تقدم يتبين:
أولا: الفرق بين الولاة والعلماء والرعية في القرون الأولى، والولاة والعلماء والرعية في القرون الأخيرة لهذه الأمة الإسلامية؟ لاختلاف أحوالهم علما وأمانة وعدلا، وفي قوة الثقة وضعفها، وكثرة المشاكل وقلتها، يترتب على هذا الأمر الثاني.
ثانيا: الفرق بين القاضي المجتهد والمقلد. فالقاضي المجتهد يجب عليه أن يحكم فيما يرفع إليه من القضايا بما وصل إليه باجتهاده، ولا يجوز للحاكم العام إلزامه حين التولية أو بعدها أن يحكم بمذهب معين أو قول معين، فإن ألزمه بطل الشرط وصحت التولية، وقيل: يبطل الشرط والتولية جميعا، وإن كان الإلزام بعد التولية بطل الإلزام، وقضى بموجب اجتهاده. . أما القاضي المقلد فقيل فيه بما ذكر من الخلاف في حكم المجتهد، ويلزمه العمل بما قيد به ولو خالف اعتقاده.
ثالثا: الفرق بين المسائل العلمية الكلية، والقضايا الجزئية، فحكم القاضي أو ولي الأمر لا يرفع الخلاف في الأولى، فيبقى لغيره حق النظر والحكم فيها بما يراه عن اجتهاد، ويرفع الخلاف في الثانية، فليس لأحد أن ينقض حكم ولي الأمر أو القاضي فيها بعينها، إلا إذا خالف نص الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع.
رابعا: عموم التشريع وشموله، فلا يحتاج إلى أحد سوى الله ورسوله في التشريع، وإلى ولاة الأمور من العلماء والأمراء وأئمة المسلمين الفهم والتنفيذ لا غير، وإذا عرفت الأقوال فنشرع في الأدلة ومناقشتها:
أولا: أدلة من قال بالمنع:
استدل من قال بمنع الإلزام بأدلة الكتاب والسنة والإجماع:
أ- أما الكتاب: فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (1) فأوجب سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيما شجر بين الناس بما أعلمه الله في كتابه، وما فهمه من الوحي المنزل عليه. ومن المعلوم أنه يجب على ولاة الأمر بعده أن يحكموا بما حكم به، وإلزام القاضي ونحوه أن يحكم بما دون من القول الراجح، أو بمذهب معين، وإن كان على خلاف ما اقتنع به يتنافى مع ذلك فوجب رده؟ عملا بمقتضى الآية، وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (2) والأقوال الراجحة في مسائل الخلاف إنما هي راجحة في نظر مرجحيها دون مخالفيهم، فلا يتعين أن تكون هي الحق الذي أنزله الله، وأمر بالحكم به بين الناس فلا يلزم القاضي ونحوه الحكم بها إذا كانت أو كان بعضها على خلاف ما يعتقده حقا في نظره بناء على اجتهاده، أو ثقته بمن قلده، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك حين التولية، أو يلزم به بعدها. وقال تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (3) فأمر تعالى من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بين الناس بالحق، والحق لا يتعين في مذهب أو رأي بعينه، ولا في قول رجحه بعض الفقهاء، فلا يلزم القاضي
(1) سورة النساء الآية 105
(2)
سورة المائدة الآية 48
(3)
سورة ص الآية 26
ونحوه الحكم أو الفتوى به، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك في التولية أو بعدها لجواز أن يفهم غير هذا الراجح ويقتنع به، أو يقتنع به ثقة بمن رجحه من المجتهدين، فيكون حكمه بما ألزم به حكما بغير ما اعتقده حقا، وهو حرام {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) فأوجب سبحانه الرجوع إلى حكمه الذي أوحاه إلى رسوله في الكتاب أو السنة الثابتة دون الرجوع إلى الراجح عند بعض المجتهدين في مسائل الخلاف.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) فأوجب سبحانه طاعته وطاعة رسوله في كل الأمور، وأوجب طاعة أولي الأمر من الحكام والعلماء فيما وضح أمره وظهر حكمه دون اشتباه والتباس، بدليل المقابلة بقوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) 30 الآية، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«إنما الطاعة في المعروف (4) » رواه البخاري ومسلم، فعند الاختلاف في حكم من الأحكام العلمية الكلية في أصول الدين أو فروعه يجب الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله فقط؛ ليتبين الحق في محل الخلاف، وأكد سبحانه ذلك بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (5) ولم يشرع لنا سبحانه الرجوع فيما اختلفنا فيه إلى القول الراجح في نظر بعض
(1) سورة الشورى الآية 10
(2)
سورة النساء الآية 59
(3)
سورة النساء الآية 59
(4)
صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) .
(5)
سورة النساء الآية 59
العلماء المجتهدين دون بعض؛ لأنه لم يتعين أن يكون هو الحق حتى يتفق عليه من يعتد بهم في الإجماع فيمكن أن يرجع إليه، لكونه إجماعا في نظر بعض الأصوليين، هذا وآيات القرآن في هذا المعنى كثيرة، اجتزأنا عنها بما ذكر.
ب- وأما السنة: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار (1) » رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه، ومن عرف الحق حسب اجتهاده واقتنع به، أو اقتنع به واعتقده؛ ثقة لمقلده، وتحسينا للظن به، ثم حكم بغير ما ظهر له أنه الحق- فقد جار وأثم، وكان من أهل النار، فلا يصح أن يشترط عليه في التولية، أو يؤمر بعدها أن يحكم بغير ما ظهر له أنه الحق، وفي معنى هذا كثير من الأحاديث الصحيحة.
ج- وأما الإجماع: فقد جرى العمل على ما تقدم في تولية رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة وإمضائه ما اختلف فيه من الأعمال، بناء على اختلاف فهم المجتهدين في المسائل النظرية التي يعذر في مثلها من أخطأ، ثم جرى العمل على هذا في عهد الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من ولاة وعلماء القرون المشهود لها بالخير إلى ما شاء الله، فكان هذا إجماعا عمليا يلزم الوقوف معه والعمل بمقتضاه، فلا يصح أن يلزم من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بغير ما رجح عنده عن اجتهاد أو عن ثقة بمن قلده من المجتهدين، وإن كان ما ألزم به راجحا عند غيره.
(1) سنن الترمذي الأحكام (1322) ، سنن أبو داود الأقضية (3573) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2315) .
المناقشة:
نوقش أولا: بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة من وجوب الحكم بما أنزل الله، وما جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق، ولكن لا نسلم أن ما ألزم الحكم به ليس شرعا يجوز العمل به، إذ هو إلزام بما يسمى شرعا مؤولا، فهمه الفقهاء مما يسمى شرعا منزلا، وكلاهما يصح العمل بموجبه والحكم بمقتضاه، وقد يجاب: بأن مناط الاستدلال إلزام من تولى القضاء أو الإفتاء أن يحكم أو يفتي بخلاف ما يعتقده حقا لا مطلق جواز العمل أو الحكم بما يسمى: شرعا مؤولا، ولا يلزم من جواز الثاني جواز الأول.
ونوقش ثانيا: بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة في القاضي أو المفتي المجتهد، أما المقلد فلا رأي له، بل هو مخير فيمن يتبعه من أئمة الاجتهاد، فلولي الأمر أن يلزمه بقول من أقوال من في اتباعهم خير؛ رعاية للمصلحة، وقد يجاب: بأنه وإن كان مخيرا فيمن يتبعه من الفقهاء إلا أنه قد يثق بمجتهد بناء على معرفته بسيرته وأحواله ويعتقد رجحان رأيه، فلا يجوز إلزامه القضاء أو الإفتاء بغير ما يعتقده.
ونوقش ثالثا: بأن مضرة عدم إلزام القاضي أو المفتي أن يقضي أو يفتي بقول معين قد تكون أشد من مضرة إلزامه بذلك، فلولي الأمر أن يلزمه بقول معين، ولو خالف عقيدته في المسائل الاجتهادية؛ رعاية للمصلحة بارتكاب أخف المفسدتين؛ تفاديا لأشدهما، وقد يقال: إن معرفة ذلك تتوقف على معرفة الآثار المترتبة على كل منهما، وسيأتي بحث ذلك.
ثانيا: أدلة من قال بجواز الإلزام أو وجوبه:
استدل من قال بجواز إلزام القاضي أو المفتي بمذهب أو قول معين-
بالدواعي والأسباب الطارئة التي اقتضت ضرورة تدوين أحكام المعاملات وإلزام القضاة والمفتين أن يعملوا بموجبها. . كما استدلوا بآثار عن السلف ووقائع قضوا فيها، ومن لم يثبت عنه قول في ذلك ولا عمل به سكت ولم ينكر، فكان سكوته تقريرا، وصار ذلك إجماعا على مشروعية الإلزام.
وفيما يلي تفصيل ذلك مع المناقشة.
أولا: الدواعي والأسباب التي تبرر التدوين والإلزام:
أ- وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون. . إلخ، ويمكن أن يناقش ذلك بأن أحكام القضاة التي قيل فيها: إنها متناقضة قد يكون اختلاف الحكم فيها ناشئا عن اختلاف الظروف والأحوال في القضيتين، وتابعا للملابسات والدلائل والأمارات المختلفة فيهما، فيظن من نظر إلى أصل القضيتين دون ما أحاط بهما تماثل القضيتين، ويحكم بتناقض الحكم فيهما حسب نظره، والواقع أنه لا تناقض، بل هذا من اختلاف الحكم لاختلاف الملابسات، وقد يكون تقابل الحكمين واختلافهما ناشئا عن اختلاف اجتهاد القاضيين، أو عن تغير اجتهاد القاضي، وهذا سائغ شرعا، بل الواجب على القاضي أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده حين الفصل في القضية الحاضرة، ولو خالف اجتهاده فيها اجتهاده في قضية سابقة مماثلة، وإن قدر أنه لم يفعل ذلك كان آثما، ولهذا نظير في أحكام الخلفاء الراشدين، بل اختلف الحكم في قضاء الصحابي الواحد، مثاله: ما حكم به عمر بن الخطاب في قضية ميراث، ومثيلتها من حرمان الإخوة الأشقاء أولا من الميراث في قضية وتشريكهم مع الإخوة للأم في الثلث بعد ذلك في مثيلة
الأولى، ولم يبعث ذلك ريبة في القاضي للثقة بعلمه وعدله وأمانته، ولم يحملهم ذلك على التفكير في اختيار رأي واحد يلتزمون القضاء به، وقد يكون الاختلاف ناشئا من قصور القاضي في علمه أو في تطبيقه أو غير ذلك، فيكون طريق الخلاص من ذلك النهوض بالقضاة علميا، وتدريبهم على التطبيق، إلى غير هذا مما سيأتي بيانه.
ب- عدم وجود كتاب في المعاملات سهل العبارة يتعرف منه الناس أحكام المعاملات التي يفصل بها في الخصومات؟ ليراعوها، ويوفقوا بينها وبين أعمالهم. . إلخ ما تقدم في الدواعي.
ونوقش ذلك بما يأتي:
1 -
الخلاف بين الفقهاء في الأحكام الفقهية قديم، وكان القاضي يعين منهم، وليس له فقه مدون فيقضي باجتهاده، وأحيانا يعين حنفيا أو مالكيا أو شافعيا أو حنبليا فيقضي بالفقه المدون، في مذهب الإمام الذي انتسب إليه، وقد يؤديه اجتهاده إلى القضاء بقول في غير مذهب إمامه، ولم يتوقف وجوب رجوع المتخاصمين في الحقوق إلى التقاضي أمام المحاكم الشرعية على معرفة الرعية بشيء من الأحكام قبل بدئهم في العمل أو قبل التقاضي أكثر من أن القاضي سيحكم بينهم بما أداه إليه اجتهاده أو اجتهاد إمامه في الكتاب والسنة وما تفرع عنهما، فكان ذلك منهم إلغاء لاعتبار هذا السبب في تدوين الراجح عند بعض الفقهاء وإلزام القضاة العمل به.
2 -
إن هذا الداعي أو السبب مجرد فرض ومحض تقدير.
وبيانه: أن القوانين الوضعية مدونة، ولها لوائح تفسيرية، ومع ذلك يجهلها السواد الأعظم من الأمة قبل العمل وقبل التقاضي عند الخلاف،
وإنما يعرفها القليل من المتعلمين؛ ولهذا يوكلهم السواد الأعظم في التقاضي، لجهلهم بمراجع القضاء في الحكم وقصورهم عن الدفاع، فكان ما ذكر مجرد تقدير لا يتفق مع واقع الأمم.
3 -
إنه على تقدير معرفة الناس بأحكام كلية حددت لهم فهي مما تختلف فيه الأفهام في التطبيق على جزئيات القضايا والوقائع، وخاصة إذا اختلفت الظروف والملابسات التي تحيط بالقضايا، فلا يزول ما تصور من الإشكال بالتدوين الخاص والإلزام بما فيه.
4 -
إذا رضي السواد الأعظم في كل أمة تتحاكم إلى القوانين الوضعية بالتقاضي إلى محاكمهم مع جهلهم بهذه القوانين- وجب أن يرضوا بالتحاكم إلى المحاكم الشرعية مع جهلهم بتفاصيل مراجعهم في المعاملات، بل الرضا بهذه المحاكم أولى؛ لأن مراجعها أعدل وأحكم، إذ هي مستقاة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقضاة المحاكم الشرعية أقرب إلى الخير والعدالة، وأحرص على الحق، وأكثر تحريا له، وأبعد عن الهوى وبواعث الجور.
ج- تهرب بعض الناس من رفع قضاياه للمحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية. . إلى آخر ما تقدم في الدواعي. . ويمكن أن يناقش بأن التهرب من المحاكم الشرعية ليس ناشئا من عدم تدوين الأحكام، فإنها مدونة ميسور الاطلاع عليها وفهمها وتحقيق الحق منها لمن راض نفسه على البحث فيها، وليس من ترك الاقتصار على الراجح وإلزام القضاة به خاصة. فإن القوانين الوضعية قد دونت وجعلت أحكاما موحدة منظمة معها أرقامها، وألزم قضاتها بالعمل بها، فمع ذلك اختلفوا
في فهمها أحيانا وفي تطبيقها أكثر، ووقع في الحكم بها اختلاف وأخطاء ونقض بعضها في محاكم الاستئناف، فلم يكن الاقتصار على أحكام موحدة في دولة ما، ولا الإلزام بها مانعا من الاختلاف ولا من الخطأ في فهمها أو تطبيقها، ولا من الخطأ عن إهمال أو هوى، وإذن فما وقع من الخطأ في الأحكام القضائية ليس مرده عدم الإلزام بقول واحد، وإنما مرده إلى عدم النهوض بالقضاة علميا، وقلة تدريبهم على تطبيق الأحكام على الوقائع. . إلى غير هذا من عدم توفر الوسائل والنظم التي لا بد منها؛ لتفادي الأخطاء أو تقليلها، فبذلك ضعفت الثقة عند بعض الناس، وتمكنت الريبة فيهم، فكان ما قيل من التهرب من التقاضي أمام المحاكم الشرعية واللجوء إلى غيرها.
أما الأجانب فيلزمون بما ذكر في عقودهم من الشروط الخاصة بعقدهم، وهم أدرى بمقتضاه فنيا، ويطبق عليهم ذلك كما يطبق عليهم ما ذكر في العقد الموحد من الخضوع للأحكام المعمول بها في المملكة، وقد دخلوا على ذلك عند التعاقد باختيارهم مع عقل ورشد، فيلزم كل بما التزم به، وليس لدولته التدخل في ذلك مع معرفته إجمالا بما دخل عليه، فيجب حل الإشكال بما أشير إليه من قبل إجمالا، وسيأتي شرحه دون اللجوء إلى التدوين والإلزام بما دون من القول الراجح.
وقد يقال: إن اختلاف الأحكام القضائية في صدر الإسلام لم يبعث على تدوين أحكام موحدة ولا على الإلزام برأي معين؛ لقوة العلماء في ذلك العهد وكفايتهم وقلة الاختلاف في الأحكام، وندرة المشاكل، فتوفرت الثقة في نفوس الأمة وأمنت الفتنة؛ فلهذا وأمثاله لم تلجئهم حاجة
إلى ما ذكر من التدوين ولا إلى إلزام القضاة بقول معين، أما اليوم وقد صار أمر الناس إلى خلاف ذلك، فالحاجة ملحة، والضرورة إلى التدوين على الطريقة المقترحة والإلزام بالحكم بمقتضى ما دون- أمر لا بد منه؛ رعاية للمصلحة، وحفظا لحقوق الأمة، وإبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية.
ويقال أيضا: إن الخطأ في الفصل في الخصومات وإن كان لا يزال متوقعا بعد الاقتصار على القول الراجح إلا أنه أقل وأخف خطرا؛ لأنه بالتزام العمل بالقول الراجح تنحصر الأخطاء في تطبيقه على الوقائع بعد تحقيقها وتشخيصها، ومن المعلوم شرعا: أن المفاسد إذا لم يمكن القضاء عليها وجب بذل الجهد لتقليلها.
ثانيا: استدل من قال بجواز الإلزام بأدلة من الكتاب والسنة والآثار:
أ- أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) فأمر سبحانه بطاعة أولي الأمر، وهم: الأمراء والعلماء، وقرن حق طاعتهم بحق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أن حق طاعة الله وطاعة رسوله عام في كل شيء وفي كل حال، وحق طاعة أولي الأمر خاص بالمعروف، فتجب طاعتهم فيما وافق الكتاب والسنة، وفيما لم يكن فيهما لكنه لم يتعارض معهما إذا أمروا به؛ رعاية للمصلحة.
ونوقش ذلك: بما تقدم بيانه من أن طاعتهم فيما وضح حكمه، واتفقت عليه الأمة، أما ما اشتبه أمره واختلف فيه العلماء فالمرجع في فصل النزاع
(1) سورة النساء الآية 59
فيه الكتاب والسنة بدليل قوله تعالى في نفس الآية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) الآية، ولذا استدل علماء الأصول بهذه الآية على حجية الإجماع، وبذلك تكون الآية دليلا على المنع لا على الجواز، واستدلوا أيضا بقوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (2) وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (3) فأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستشير أصحابه في الأمر ينزل به أو بالمسلمين، وأثنى على خيار المؤمنين بأن من شأنهم أن يتشاوروا بينهم، وقرن ذلك بثنائه عليهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبالتناصر عند البغي عليهم؛ ردا للعدوان، ونصرة للحق، وغير هذا من الأفعال الواجبة، والصفات الحميدة، ولا شك أن القضاء والفصل في الخصومات من أهم شئون المسلمين فينبغي تعاون القضاة مع كبار العلماء في حل مشاكل القضاء والعمل بمشورتهم، ليكون القاضي على بصيرة فيما يحكم به بدلا من أن يستقل في ذلك بنفسه، فيكون عرضة لكثرة الخطأ والتناقض في أحكامه، ويكفيه أن يتحمل مشقة البحث في تشخيص القضايا وعناء تطبيق ما اختاره كبار العلماء من الأقوال على الوقائع والقضايا الجزئية بعد تحقيقها.
ب- وأما السنة: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في شئونه وشئون الأمة، من ذلك أنه استشار الصحابة في أمر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما هو معروف في قصة الإفك، ومنها استشارته إياهم في غزواته:
(1) سورة النساء الآية 59
(2)
سورة آل عمران الآية 159
(3)
سورة الشورى الآية 38
في غزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وغيرها مما لا يكاد ينكره أحد، وعمل بمشورة أم سلمة حينما دخل عليها في صلح الحديبية مغضبا، وقد أمر أصحابه أن ينحروا هديهم، ويتحللوا من إحرامهم فلم يفعلوا، فأشارت عليه أن يبدأ في ذلك بنفسه فقبل مشورتها، وكان في قبولها الخير، إلى غير هذا من الاستشارات والمشورات الكثيرة التي تواتر معناها، ومنها فيما ذكروا ما جاء في الأثر:«إن الأمر ينزل بنا يا رسول الله وليس فيه نص من كتاب ولا سنة، فقال: اجمعوا له العالمين، ولا تقضوا فيه برأي واحد» . فثبت بهذا أن الشورى أصل شرعي فيجب على العلماء وضع كتاب فقهي مشتمل على الأقوال الراجحة؛ ليسهل على الجميع معرفة الأحكام منه، وبالتالي يلزم القضاة الحكم بمقتضاه؛ تفاديا لمفاسد الاختلاف، وقضاء على التناقض في الأحكام، وإلا تعطلت الشورى، واستشرى الفساد، وتفاقم التناقض.
ونوقش: بأن الشورى مشروعة باتفاق، وعليها قامت الأدلة من الكتاب والسنة، وعمل خير القرون من هذه الأمة، لكنها غير ملزمة لمن استشار إلا إذا وافق اجتهاده اجتهاد من أشار عليه واقتنع به، ولا يصح أن يلزم بما أشير به عليه من آراء خالفت اجتهاده، وإن كان فردا، والمشيرون عليه كثرة؛ لأن الحق ليس وقفا على الكثرة، وليست الكثرة ميزانا يفرق به بين الحق والباطل. وأيضا الصحابة كانوا أحرص الناس على الشورى وأكثرهم عملا بها، ولم يلزموا المستشير أن يعمل بما أشير به عليه، ولم تتعطل الشورى، من ذلك أن عمر أشار على أبي بكر رضي الله عنهما: أن يفاوت بين الناس في العطاء من بيت المال، فيعطي كلا منهم حسب درجته ونصرته للإسلام
وسبقه إليه، فأبى أبو بكر إلا أن يسوي بينهم في العطاء، لاختلاف نظرهما في مقتضى العطاء. ومن ذلك ما أشار به الصحابة- وهم كثرة- على أبي بكر بترك قتال المرتدين ومانعي الزكاة، فأبى إلا أن يقاتلهم، ومضى فيما عزم عليه، وكان خيرا للمسلمين من رأي مخالفيه.
ومن ذلك: أن عمر استشار الصحابة في دخول أرض علموا أن بها طاعونا وعدوله عن الدخول فيها، ثم خالف مشورتهم وعدل عن الدخول فيها، وهم كثرة، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وأخبره بما حفظه في ذلك من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيه تأييد لرأي عمر رضي الله عنه.
وبالجملة: فالأمر كما تقدم من أن الشورى ليست ملزمة، ولا حرج على الواحد في مخالفة الكثرة والعمل بمقتضى اجتهاده، بل هذا هو الواجب، وأصول الشريعة تشهد لصحته.
ولقائل يقول: إن ما ذكر في المناقشة إنما ينطبق على المجتهد؛ لأن له قولا أداه إليه اجتهاده واعتقد صحته، أما المقلد المحض فلا رأي له وهو لعجزه عن استنباط الأحكام مخير في اتباع إمام من الأئمة المجتهدين، فمثل هذا قد يقال: بأن إمام المسلمين له أن يلزمه إذا تولى القضاء أن يحكم بمذهب أو قول معين؛ رعاية لما تقدم بيانه من المصلحة، ولا ضرر في ذلك؟ لأنه تابع على كل حال، فليكن تابعا لما أمره به ولي الأمر في الشئون العامة والحقوق المشتركة بين الأمة، وقد استدل بعض المعاصرين بأن الصحابة قالوا:«إن الأمر ينزل بنا يا رسول الله وليس فيه كتاب ولا سنة، فقال: اجمعوا له العالمين، ولا تقضوا فيه برأي واحد» على الإلزام، ولكن الاستدلال به يتوقف على إثبات كونه عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم يصح، فقد
ذكره الخطيب البغدادي في باب القول في الاحتجاج بصحيح القياس ولزوم العمل به من كتاب الفقيه والمتفقه، قال: أنا أبو القاسم علي بن محمد بن موسى البزار، وأبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله المعدل قالا: أنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المصري، أنا محمد بن الربيع بن بلال العامري، أنا إبراهيم بن أبي الفياض، أنا سليمان بن بزيع عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، «عن علي بن أبي طالب قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن، ولم يسمع منك فيه شيء، قال: اجمعوا له العابدين من أمتي، واجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد» .
وساق ابن حجر في [لسان الميزان] هذا الحديث في ترجمة سليمان بن بزيع، ثم قال: قال أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث لا يعرف من حديث مالك إلا بهذا الإسناد، ولا أصل له في حديث مالك عندهم، ولا في حديث غيره، وإبراهيم وسليمان ليسا بالقويين، ولا يحتج بهما.
قلت: وقال الدارقطني في [غرائب مالك] : لا يصح، تفرد به إبراهيم بن أبي الفياض، عن سليمان، ومن دون مالك ضعيف، وساقه الخطيب في [كتاب الرواة] عن مالك من طريق إبراهيم، عن سليمان، وقال: لا يثبت عن مالك. . والله أعلم. انتهى.
ثم هو مخالف لما جرى عليه العمل قرونا كثيرة حيث كان كل من المجتهدين يعمل بمقتضى اجتهاده ويحكم به، وكان الصحابة، بل الرسول صلى الله عليه وسلم يقبلون مشورة الواحد ويعملون بها، ولم يكن من شأنهم أن يجمعوا العالمين في كل ما نزل بهم، ثم لو ثبت لم يزد على أن يكون نصا
من نصوص المشورة، وتقدم أنها غير ملزمة إلا إذا وافقت اجتهاد المستشير، وإلا عمل باجتهاد نفسه، كما تقدم بيانه في النقل عن الصحابة رضي الله عنهم.
ج- وأما الآثار فكثيرة:
1 -
منها: إجماع الصحابة على جمع القرآن وتدوينه في نسخة واحدة؛ حفظا للقرآن من أن يذهب بذهاب القراء، وهذا وإن كان في بادئ الأمر أمرا جديدا وعملا محدثا، حيث إنه لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه واجب؛ لاتفاقه مع روح الشريعة ومقاصدها، فكذا إلزام القضاة أن يحكموا بالقول الراجح من أقوال الفقهاء، فإنه وإن كان يبدو أمرا محدثا إلا أنه لا يخالف كتابا ولا سنة، بل هو مقتضى المصلحة؛ لما فيه من دفع الريبة والقضاء على الاضطراب والتناقض في الأحكام، فكان واجبا.
ونوقش: بأن القرآن كان مكتوبا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة مأمورة بحفظ الدين وإبلاغه بالنصوص المتواترة، ولم يزد الصحابة على أن جمعوا ما كان مفرقا؛ عملا بمقصد ضروري من مقاصد الشريعة، وهو وجوب حفظ الدين وإبلاغه، بخلاف إلزام القضاة بالحكم بالراجح من أقوال الفقهاء، فإنه مخالف لمقتضى النصوص، ولما جرى عليه العمل في القرون التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير.
2 -
ومنها: جمع عثمان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن، وقصر الناس على القراءة بهذا الحرف وتحريقه المصاحف الأخرى التي تخالف مصحف الإمام، وقد كتب من هذا المصحف نسخا وأرسل بها إلى أمهات البلاد الإسلامية،
واستمرت القراءة لهذا اليوم. فكذا إلزام القضاة بالقول الراجح من أقوال الفقهاء، بل هو أولى بأن أقوال الفقهاء شرع مؤول يحتمل كل منها الخطأ أو الصواب، والقراءات شرع منزل كلها حق لا يحتمل الخطأ، فكان الإلزام واجبا؛ رعاية للمصلحة.
ونوقش هذا بأمور:
الأول: أن عثمان ومن وافقه من الصحابة استندوا إلى مصلحة شهدت لها أصول الشريعة، فإن في قصره على حرف واحد، حفظا للدين بحفظ أصله- وهو القرآن- من الاختلاف فيه، وحفظا للنفوس، وبيانه: أن حذيفة أخبره بأن الصحابة اختلفوا في القراءة اختلافا تخشى منه الفتنة ووقوع القتال بينهم، وفي اختلافهم واقتتالهم ضياع للدين، وقضاء على وحدة المسلمين وقوتهم، بل قضاء على نفوسهم، وحفظ الدين والنفوس من الضروريات الخمس، فوجب إيثار ذلك على بقاء القراءات؛ لأن بقاءها كمالي للاستغناء عنها بقراءة منها؛ لتضمنها ما في القراءات الأخرى من المعاني والأحكام، بخلاف إلزام القضاة أن يحكموا بقول راجح اختير من قولين أو أقوال للفقهاء، فإن ما ظن فيه من المصلحة غير معتبر؛ لشهادة الأدلة السابقة بعدم اعتباره، ولأن القراءات كلها معصومة متحدة الأحكام والمقاصد، فصح الاكتفاء بواحدة منها، بخلاف أقوال الفقهاء، فإنها مختلفة في مقاصدها وأحكامها، ولا ينحصر الحق في واحد منها - فلم يجز الاقتصار على ما يرى جماعة من العلماء أنه الراجح منها وإلزام الناس به، فقد يكون الحق فيما ترك.
الثاني: أنه منع من القراءة بما يخالف مصحفه، أما الاحتجاج
بالقراءات الأخرى فلم يمنع منه؛ ولذا لا يزال الاحتجاج بما صح منها قائما باقيا عند جماعة من الأئمة المجتهدين؛ إما على أنها أخبار آحاد، أو قول صحابي عند من يعتبره حجة.
الثالث: إن القراءة بالأحرف السبعة كانت على التخيير لا الإلزام؛ تيسيرا للقراءة على الناس لاختلاف ألسنتهم، فلما لانت بها ألسنتهم لكثرة اجتماعهم والاختلاط بينهم، وكان ما كان من الاختلاف فيها- كان بقاؤها كماليا عارضه مصلحة ضرورية، فقدمت على مصلحة بقاء القراءات، ولم يفت المسلمين شيء من أحكام القرآن بذلك لاجتماعها في المصحف الإمام، بخلاف الاقتصار على قول من أقوال الفقهاء، فإنه لا يدري عما اختير، هل هو متضمن للحق والصواب أو الحق فيما ترك من الأقوال.
3 -
ومنها: ما رواه سعيد بن منصور في سننه،، وابن أبي شيبة في [المصنف] : أن معاوية كتب إلى زياد أن يأمر شريحا بتوريث المسلم من الكافر دون العكس، فلما أمره زياد قضى بقوله، فكان إذا قضى بذلك يقول: هذا قضاء أمير المؤمنين، فهذا من معاوية وشريح دليل على جواز إلزام القضاة أن يحكموا بقول معين، وعلى التزام القاضي بذلك، ولو كان مجتهدا.
ونوقش أولا: بأن في سند هذا الأثر مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.
وثانيا: بأن قضاء شريح بقول معاوية يحتمل أن يكون من باب الخبر، بدليل: أنه كان يقول بعد قضائه: هذا قضاء أمير المؤمنين.
4 -
ومنها: كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في شئون القضاء، وفيه (اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك) فأمره
عمر أن يحكم بالقياس، وأن يجتهد في ذلك، وكلاهما مجتهد، وقد يكون رأي أبي موسى في أصل العمل بالقياس مخالفا لرأي عمر رضي الله عنهما، ففي الأثر تقييد الإمام لقاضيه المجتهد برأيه، حيث أمره أن يقيس الأمر بما يشبهه، ويحكم بمقتضاه، فدل على جواز إلزام القضاة - ولو كانوا مجتهدين - برأي معين.
وقد يناقش بما ذكره ابن حزم في الجزء السابع من [كتاب الأحكام] من أن هذا الحديث روي من طريقتين:
الأولى: فيها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه، قال ابن حزم: عبد الملك متروك الحديث، ساقط بلا خلاف، وأبوه مجهول.
وذكر أن في الطريق الثانية أربعة مجهولين، وأنها منقطعة، وقد ناقشه ابن القيم في ذلك في كتاب [إعلام الموقعين]، وقد يناقش أيضا: بأن هذا من باب إجابة الإمام لمن استرشده من أمرائه وعماله والنصيحة والتوجيه له في القيام بعمله، ثم هو مجتهد فيما يحكم به، قاض بمقتضى نظره، وليس من باب تقييد القاضي وإلزامه أن يحكم بقول معين وإن كان مجتهدا؛ لقيام الدليل على أن كل مجتهد يجب عليه العمل باجتهاده.
5 -
وفي معنى ما تقدم من الآثار تدوين السنة، وسائر العلوم العربية والدينية وإنشاء المعاهد والمدارس والجامعات العلمية والمصانع والمصحات ودور العجزة والأيتام، وتدوين الدواوين ونحوها مما يدخل في عموم تصرفات ولاة الأمور؛ رعاية لمصلحة الأمة في دينها ودنياها، وحفظا لحقوقها العامة والخاصة، وسيأتي إن شاء الله بيان مدى تصرف إمام المسلمين، وبيان ما إذا كان يدخل فيه إلزام القضاة أن يحكموا بقول أو