الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا
كما صدر ثلاث فتاوى للشيخ محمد رشيد رضا في حكم التمثيل الأخلاقي.
الأولى: في حكم التمثيل الأخلاقي وهذا نصها مع سؤالها (1) من صاحب الإمضاء الحرفي في (دمشق الشام) ع. . .
س: سيدي الأستاذ صاحب المنار الأغر: ما رأي الأستاذ حفظه الله في تمثيل الروايات الأخلاقية التي لا يشوبها ضروب الخلاعة، أو من ظهور النساء حاسرات على المسارح، والتي تحبب الحضور بالفضيلة، وتنفرهم من الرذيلة؟ يجوز لنا أن نعتبر التمثيل غيبة فنحرمه بدعوى أن الغيبة محرمة؟ وهل ورد في النصوص الشرعية تصريحا أو تلميحا ما يدل على حرمة التمثيل الأخلاقي، أو يشير إلى اجتنابه، وعهدنا بهذا النوع من التمثيل أنه خير ما يغرس في النفوس حب الفضائل وكره الرذائل؟
أرجو إجابتي على هذه الأسئلة حتى لا يبقى مجال لتغرير المسلمين باسم الشريعة، ورميها بسهام غير سديدة، هدانا الله بمناركم الوضاح إلى أقوم طريق.
الجواب: جاءنا مثل هذا السؤال أيضا من دمشقي آخر أشار إلى اسمه بحرفي (م. ن)، وجاء في سؤاله: أن للسؤال واقعة حال في دمشق،
(1) انظر [فتاوى رشيد رضا](3\1090) ، و [المنار](14)(1911) \827 - 830.
وهي: أن تلاميذ المدرسة العثمانية بدمشق مثلوا قصة زهير الأندلسي التي تشرح كيفية انقراض المسلمين من الأندلس، فقام بعض الحشوية من طلاب الشهرة، وأصحاب الدعوى يشنعون على المدرسة، ويكفرون تلاميذها ومعلميها، ويزعمون أنهم حاولوا هدم الإسلام بتذكير المسلمين بأسباب انقراض المسلمين من مملكة إسلامية كانت زينة ممالك الأرض بالعلوم والفنون والآداب، وخطبوا بذلك على المنابر في رمضان، وصدق فيهم قول من قال: إن لمتعصبي دمشق في كل رمضان ثورة.
أشار السائل الذي نشرنا نص سؤاله إلى ما صرح به السائل الآخر من احتجاج محرمي التمثيل على تحريمه بأنه يتضمن الغيبة، وقال هذا المصرح: إن بعضهم حرم قراءة الجرائد والمجلات بمثل هذا الدليل.
نقول: إن صح قولهم: أن تلك القصة أو الواقعة التي مثلت في دمشق، كانت متضمنة لشيء من الغيبة - وهو ما يستبعد جدا - فالمحرم فيها هو الغيبة لا جميع القصة، ولا القصص التي تمثل ولا التمثيل نفسه. وكان الأظهر أن يقولوا: أنها تتضمن الكذب في بعض جزئياتها، وكأنهم فطنوا إلى كون الكذب غير مقصود فيها، ولا يتحقق إلا بالنسبة إلى مجموع القصة إذا كان ما تقرره وتودعه في الأذهان من مغزاها المراد غير صحيح، كأن تصور قصة زهير لقرائها، وحاضري تمثيلها: أن الإسبانيين اضطهدوا المسلمين، وفتنوهم عن دينهم، وخيروهم بين الكفر والخروج من الوطن، ويكون هذا الذي تصوره لم يقع أو وقع ضده.
هذه القصص التمثيلية من قبيل ما كتبه علماؤنا المتقدمون من المقامات التي تقرأ في المدارس الدينية وغير الدينية؛ كمقامات البديع، ومقامات
الحريري، وقد كان الحريري رحمه الله تعالى توقع أن يوجد في عصره أمثال أولئك المتنطعين الذين حرموا قصة زهير الأندلسي، فرد عليهم بقولهم في فاتحة مقاماته:
على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل، أو ذي غمر (حقد) متجاهل، يضع مني لهذا الوضع، ويندد بأنه من مناهي الشرع، ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأمعن النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات، في سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات، عن العجماوات والجمادات، ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات، وأثم رواتها في وقت من الأوقات، ثم إذا كانت الأعمال بالنيات، وبها انعقاد العقود الدينيات، فأي حرج على من أنشأ ملحا (1) للتنبيه، لا للتموين، ونحا بها منحى التهذيب، لا الأكاذيب، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب لتعليم، وهدي إلى صراط مستقيم (2) .
فهو يقول: إنه لم يعرف عن أحد من علماء الأمة إلى زمنه أنه حرم أمثال تلك القصص التي وضعت عن الحيوانات ككتاب [كليلة ودمنة] وغيره؛ لأن المراد بها الوعظ والفائدة، وصورة الخير في جزئياتها غير مرادة، وما سمعنا بعده أيضا أن أحدا من العلماء حرم قراءة مقاماته، ولكن اجتهاد بعض المغرورين بالحظوة عند العوام، يتجرءون على تحريم ما لم يحرمه
(1) وردت في المنار (مقامات) .
(2)
[مقامات الحريري] تحقيق سلفستر دي ساسي. باريس - دار الطباعة الملكية 1822 صـ (11، 12) .
الله ورسوله، ولا حرم مثله أحد من علماء الملة، وهم مع هذا يتبرءون بألسنتهم من دعوى الاجتهاد واسم الاجتهاد، ويشنعون على من يقول: إنه يمكننا أن نعرف الأحكام بأدلتها الشرعية، فهم يعترفون بأنهم ليسوا أهلا للاستدلال، ولا لمعرفة حكم بدليله، ويدعون أنهم مقلدون لبعض الأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم، فليأتونا بنص من أولئك الأئمة على تحريم ما حرموه إن كانوا صادقين.
ثم نقول من باب الدليل: قد فسر الحرام في بعض كتب الأصول بأنه: خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازما، فليأتونا بخطاب الله المقتضي بتحريم تمثيل الوقائع الوعظية والتهذيبية، أما أصول المحرمات في الكتاب، فقد بينها الله تعالى بالإجمال في قوله:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) أفلا يخشى أولئك المتجرئون أن يكونوا من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، الذين قال فيهم أيضا:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس (3) » الحديث، وهو في [الصحيحين] والسنن كلها من حديث خيار الآل والصحب علي وولده الحسين والعبادلة الثلاثة وعمار والنعمان بن بشير رضي الله عنهم. فإذا كان الحرام بينا، فكيف يخفى منه مثل هذا الحكم
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2)
سورة النحل الآية 116
(3)
صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
على جميع المسلمين في هذه القرون الطويلة، ولا يهتدي إليه إلا أولئك المضيقون في هذا العام؟ !
إننا لا نرى وجها ما لهذا التحريم، ولو سلمنا أن في القصة الممثلة كلاما يصح أن يعد غيبة أو كذبا، فإنا نعلم أن في كثير من كتب الحديث والفقه والوعظ أحاديث موضوعة، ولم يقل أحد أن ذلك يقتضي تحريم تأليف تلك الكتب وقراءتها وطبعها، وفي كتب الحديث طعن في الرجال فهل نحرم علم أصول الحديث؟ ألا إنه ليحزننا أن يكون لأمثال هؤلاء المفتاتين المتنطعين كلمة تسمع في مدينة دمشق الفيحاء التي هي أجدر البلاد بأن تكون ينبوعا لحياة الدين والعلم والارتقاء في سورية وجزيرة العرب كلها، وما آفتها إلا نفر من المتنطعين قد جعلوا الدين عقبة في طريق الارتقاء العلمي والعملي، فنسأل الله تعالى أن يلهمهم الرشد، ويهديهم طريق القصد، وأن يبصر العامة كالخاصة في تلك المدينة الزاهرة بحقيقة أمرهم حتى لا تتبع كل ناعق منهم.
والثانية: في حكم تمثيل حياة بعض الصحابة، وهذا نصها مع سؤالها:
السؤال: هل يجوز تمثيل حياة بعض الصحابة على شكل رواية أدبية خلقية تظهر محاسن ذلك الصحابي الممثل؛ لأجل الاتعاظ بسيرته ومبادئه العالية مع التحفظ والتحري لضبط سيرته دون إخلال بها من أي وجهة كانت أم لا؟
الجواب: لا يوجد دليل شرعي يمنع تمثيل الصحابة أو أعمالهم الشريفة بالصفة المذكورة في السؤال (1) .
(1) انظر [فتاوى رشيد رضا](6\2348) .
والثالثة: في حكم التمثيل العربي وتمثيل قصص الأنبياء، وهذا نصها (1) :
التمثيل العربي: اشتغال المرأة المسلمة به وتمثيل قصص الأنبياء [المنار](20 (1917) \ 310- 316) . من صاحب الإمضاء بمصر محمد محمد سعفان طالب بمدرسة القضاء الشرعي.
بسم الله الرحمن الرحيم: إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا. جمعتني النوادي بطائفة من المتعلمين الذين قلما يخلو مجلسهم من البحث، وبأية مناسبة - دار بيننا ذكر التمثيل العربي، وبسطنا على بساط بحثنا (2) المرأة المسلمة والتمثيل؛ تمثيل روايات الأنبياء عليهم السلام عموما، وخاتمهم خصوصا، فقر رأى فريق منا على جواز ذلك كله؛ إذ لا تتم أدوار التمثيل وفصوله إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مسارح التمثيل، وأي مانع يمنع تمثيل روايات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، عموما وخاتمهم خصوصا، وهو لم يخرج عن كونه درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل ممن يصادفه أو يجد له أثرا، ومنع فريق آخر ذلك وعده نوعا من التقليد الإفرنجي الذي يستحوذ على بعض البسطاء فيعدونه مفتاح تمدن الأمة، في حين أنه شر عليها وعلى أخلاقها الذاتية.
فهذا ما كان من الفريقين، أما أنا كاتب هذه السطور فقد أعلنت الحيدة حتى أسترشد برشدكم أو أستنير بفتيا
(1) انظر [فتاوى رشيد رضا](4\1418) .
(2)
[المنار](20 (1917) \310 - 316)
مناركم، والسلام.
الجواب: قلت: هدانا الله وإياك بحجة الصواب في الحكم، وعصمنا أن نقفو ما ليس لنا به علم:
إن بعض الأندية جمعك بطائفة من المتعلمين البحاثين، وأنهم ذكروا (التمثيل العربي) فاختلفوا في جواز اشتغال المرأة المسلمة به، وفي جواز تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة وخاتمهم خاصة، فقالت طائفة منهم: بجواز الأمرين، وعللوا الأول: بأن أدوار التمثيل وفصوله لا تتم إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مسارح التمثيل، وعللوا الثاني: بأنه درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل من يصادفه أو يجد له أثرا، وقالت طائفة أخرى بمنع الأمرين، وعدوه من التقليد الإفرنجي الضار، الذي يغتر به الأغرار، وقلت: إنك وقفت حتى تستفتي المنار، فهاك ما أفهمه في المسألتين بالاختصار.
لم يأت فريق المجيزين بشيء من العلم، يدل على ما جزموا به من الحكم، فإن سلمنا لهم أن التمثيل لا يتم إلا بالمرأة لا نسلم لهم أن جوازه يستلزم جواز اشتغال المرأة المسلمة به، بل نسألهم ماذا يعنون بهذا التمام؟ وهل يعتد به شرعا؟ ولماذا لا يستغنى فيه بالمرأة غير المسلمة التي تستبيح من أعماله ما لا يباح للمسلمة؟ وبأي حجة جعلوا القول بجواز التمثيل الذي ينقصه وجود المرأة المسلمة أصلا بنوا عليه القول بجواز اشتغالها بالتمثيل، وهل يعدو التمثيل المطلق أن يكون مباحا أو مستحبا بشرط خلوه من فعل الحرام وذرائع الفساد، واشتماله على الوعظ النافع والإرشاد؟ أو ليس الصواب أن يقال - والأمر كذلك-: إن التمثيل الذي يتوقف على قيام