الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويفعله طاعة الله ورسوله، واتباع كتاب الله، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة- كان هو الواجب، وإن لم يمكن لضيق الوقت وعجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك- فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه، هذا أقوى الأقوال، وقد قيل: ليس له التقليد بكل حال، وقيل: له التقليد بكل حال، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد.
الخلاصة
يتلخص من النقول المتقدمة ما يأتي:
أولا: إن المجتهد المطلق هو: من لديه قدرة على استنباط الأحكام من أدلتها، بناء على أصول ارتضاها لنفسه، وليس تابعا فيها لغيره، فكان بذلك أهلا للإفتاء والقضاء، وكان رأيه معتدا به في الوفاق والخلاف، وإذا ولاه إمام المسلمين أو نائبه القضاء وجب عليه أن يحكم بما وصل إليه باجتهاده فيما رفع إليه من القضايا، ونفذ فيه حكمه، وارتفع به الخلاف في القضايا الاجتهادية التي حكم فيها.
ثانيا: المجتهد المنتسب: هو من انتمى إلى مجتهد مستقل لسلوكه طريقه في الاجتهاد، من غير أن يكون مقلدا له في قوله أو في دليله، وحكمه حكم المجتهد المطلق في أهليته للقضاء والحكم في القضايا باجتهاده. . . إلى آخر ما تقدم في المجتهد المطلق.
ثالثا: المقلد المتعلم هو: المتبحر في مذهب إمامه، المتمكن من تقرير أدلته على ما عرف عن إمامه أو عن أصحابه، العارف بمطلق الآراء في المذهب ومقيدها، عامها وخاصها، وغامضها وواضحها، لكنه لم يبلغ
درجة التخريج أو الترجيح، وهذا يجوز أن يولى القضاء للضرورة، وعليه أن يحكم بالراجح في مذهب إمامه الذي انتسب إليه وعرف تفاصيل مذهبه، فإن فعل ذلك نفذ حكمه، وإن حكم بالضعيف في مذهب إمامه أو حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه؛ لبطلانه، فإنه يعتقد صحة مذهب إمامه، وتقديم الراجح في مذهبه، فإذا حكم بخلاف ذلك كان حاكما بغير ما يعتقد، فكان حكمه باطلا، وعليه أن يبين مستنده في جميع أحكامه، وقيل: لا يجوز توليته القضاء، فإن قلده الإمام القضاء كانت توليته القضاء باطلة، وكان حكمه باطلا، وإن وافق الراجح في مذهب إمامه، وكانت التبعة في ذلك عليه؛ لقبوله ما ليس أهلا له وعلى من ولاه لتوليته إياه، وذهب الماوردي وجماعته إلى جواز حكم المقلد بغير مذهب إمامه، وجمع بينهما الأذرعي بحمل كل من القولين على حال من أحوال المقلد.
رابعا: مجتهد المذهب وهو: من له قدرة على استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي انتسب إليه، أو استنباطها من قواعد إمامه منصوصة أو مستنبطة من كلامه، أو استنباطها بالقياس على منصوصه لشبه معتبر بينهما، أو لعدم وجود فارق مؤثر، وله قدرة أيضا على الترجيح بين الروايات والأقوال والوجوه.
وهذا بأنواعه له شبه بالمجتهد المطلق من ناحية قدرته على استنباط الأحكام في الجملة، وله شبه بالمقلد من ناحية وقوفه عند أصول إمامه، والتزامه لطريقته في التخريج والترجيح؛ ولذا اختلف في حكم توليته القضاء: فمن غلب جهة شبهه بالمجتهد المطلق أجاز توليته القضاء، ولو مع وجود المجتهد
المطلق، فتصح ولايته، ويقضي ما ترجح لديه من الآراء، وحكمه نافذ ورافع للخلاف فيما حكم فيه من القضايا، ومن غلب فيه جهة شبهه بالمقلد، وسماه: مقلدا، وإن كان تقليده غير محض، لم يصحح ولايته إلا عند عدم وجود مجتهد مطلق، والمعتمد الأول عند كثير من الفقهاء، ولكن ينبغي تولية الأمثل فالأمثل. خامسا: مجتهد الفتوى وهو: من لديه قدرة على الترجيح بين الأقوال أو الروايات والوجوه المروية عن الإمام أو أصحابه، ولا قوة له على التخريج على أقوالهم أو من القواعد والأصول المعتبرة في المذهب إلا ما كان قياسا مع عدم الفارق المؤثر، وما وضح اندراجه في قواعد المذهب وأصوله، وما كان تفصيلا لقول مجمل ذي وجهين وحكم محتمل لأمرين منقول عن إمام المذهب أو أحد أصحابه المجتهدين فإنه يقوى على مثل ذلك.
وهذا القسم وإن كان في المرتبة دون من قبله من مجتهدي المذهب، إلا أنه ملحق به في حكم توليته القضاء، وما يحكم به ونفاذ حكمه ورفعه للخلاف في القضية التي حكم فيها.
الثاني: الدواعي إلى تدوين الراجح من أقوال الفقهاء وإلزام القضاة الحكم به:
لما كان علماء الصحابة والتابعين من ذوي البصيرة وكمال الفقه في الشريعة والأمانة في الدين، وكانوا أبعد الناس عن اتباع الهوى ومواطن الريبة، ولم تكن شقة الخلاف بينهم واسعة، ولا التباين في الآراء كثيرا فاشيا- وثق الناس بفتواهم، واطمأنت نفوسهم إلى قضائهم، ورضوا بحكمهم فيما بينهم من نزاع في المعاملات، وبذلك انحلت
مشاكلهم، ولم تداخلهم الريب والظنون، ولم يفكر أحد من العلماء أو الحكام في تدوين أحكام تختار، ليلزم القضاة بالحكم بها في قضايا النزاع، والفصل على ضوئها في الخصومات.
ولما ضعفت القريحة، وقصر النظر، وبعدت شقة الخلاف بين العلماء، وكثرت آراؤهم، وتباينت فتاواهم وأحكامهم في القضايا وجدت الريبة في الأحكام، والشك في العلماء طريقا إلى القلوب وتسلطت الظنون على النفوس؛ ولهذا وغيره فكر بعض من يعنيهم الأمر في تدوين أحكام مختارة من آراء الفقهاء في المعاملات، يرجع إليها القضاة في أحكامهم، ويلزمون الحكم بمقتضاها؛ منعا للاضطراب في الأحكام، وإزالة للأوهام والشكوك من نفوس المتحاكمين إلى المحاكم الشرعية، وقضاء على الظنون الكاذبة في الشريعة الإسلامية وفي علمائها، وتبرئة لها مما وصمت به زورا وبهتانا من أنها غير صالحة للفصل بها في الخصومات وحل مشاكل الناس، وحماية للأمة وحكومتها من العدول عن التحاكم إلى المحاكم الشرعية إلى التحاكم للقوانين الوضعية.
وفيما يلي نقل في بيان الدواعي إلى تدوين أحكام فقهية وإلزام القضاة أن يحكموا بها.
قال محمد سلام مدكور في بيان منشأ الضرورة إلى ذلك ودواعيه (1) : الذي نراه أن منشأ ذلك إنما كان راجعا في عصورهم لشيء من الاضطراب في التطبيق القضائي لعدم معرفة الحكم الواجب التطبيق مع تعداد الأحكام
(1) انظر [المدخل للفقه الإسلامي] ص (380) وما بعده.
في المسألة الواحدة نتيجة اختلاف آراء المجتهدين، وذلك جدير أن يبلبل أفكار الناس، وألا يسير بهم في جادة مستقيمة ومشرع واضح للجميع، ولقد كان من آثار ذلك الاضطراب في الماضي واختلاف القضاة المجتهدين في أحكام المسألة الواحدة في البلد الواحد- أن يضل الناس في شئون حياتهم رغم تحريهم الهداية والرشاد، ولكن عدم معرفة الحكم الواجب التطبيق بينهم على سبيل التعيين في المسألة الاجتهادية جعلهم قاطبة عرضه للخطأ في نظر القضاء.
ولعل هذا هو السر في أن كثيرا من الأصوليين والعلماء أقفلوا باب الاجتهاد؛ سدا لذريعة الفوضى والاضطراب والحكم بالهوى المقنع بالاجتهاد ووجهة النظر، وكانوا محقين إذ ذاك حتى يغلق باب الشرور ويكون القاضي في أحكامه ملزما بأحكام مذهبه فلا يحيد عنه وملزما للناس بها حتى يعرفوها. ويقدر كل إنسان في تصرفاته حكم تصرفه أمام القضاء بحيث يستطيع أن يفهم إن كان في تصرفه حكم القضاء أم لا، وقد ترتب على هذا بحث الفقهاء في تقييد القاضي بمذهب معين، بل بالرأي الراجح من المذهب، كما بحثوا أمر تقييد السلطان لقضائه بالمذهب الذي ينبغي أن يستمد منه القاضي أحكامه، وقد كان هذا الاتجاه نواة وأساسا للتفكير في وضع الأحكام الشرعية في مواد قانونية محدودة واضحة ما أمكن، لا يلتبس الناس غالبا في شيء من أمرها. . .
إلى أن قال: أما القضاة فوظيفتهم هي تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها بسلطان القضاء، ولا شك في أن الأحكام الواجبة التطبيق إذا كانت محدودة مبينة معروفة للقاضي وللمتقاضي- كان ذلك أدعى إلى تحقيق العدالة والتيسير على الناس،
وأكفل لتحقيق المساواة بينهم، وطمأنة نفوسهم بالنسبة للقضاء، فلم يكن بد من وضع الأحكام الشرعية القضائية في صيغ قانونية تتولاها طائفة من فقهاء الأمة من أهل الرأي والاجتهاد، وقد بينا عند الكلام عن الاجتهاد: أن العصر لا يخلو منهم ثم تصبح قانونا واجب الاتباع والتنفيذ، ولا ضير في ذلك ما دامت هذه الأحكام مستمدة من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وآرائه، ومسايرة لمصالح الناس، ولا ضير في أن تعتبر هذه القوانين، كالنصوص القطعية، من ناحية عدم مخالفة القاضي لها وإلزامه باتباعها، فليس هناك مجال إذا لاجتهاد القاضي معها إلا في حدود ضيقة، وهي:
عند وجود إبهام في انطباقها على بعض النوازل والأحداث، ومع هذا فإن العدل إذا كان مصدره هو النصوص التشريعية وما أجمع عليه من أحكام- القاضي عند التطبيق فيما يحتاج إلى اجتهاد يعتبر أيضا مصدرا من مصادر العدالة. اهـ.
مما تقدم يتبين أن الدواعي إلى تدوين القول الراجح وإلزام القضاة به هي:
1 -
وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة، أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون، أو برميهم بالقصور في علمهم أو تطبيقهم لما عرفوا من الأحكام الشرعية على ما رفع إليهم من القضايا الجزئية المتنازع فيها.
2 -
عدم وجود كتاب سهل العبارة في المعاملات يتعرف منه الناس أحكام المعاملات؛ ليراعوا تطبيقاتها، ويوافقوا بينها وبين أعمالهم عند الإقدام حتى لا يقعوا فيما يعرضهم للحكم عليهم وإدانتهم إذا حصل النزاع
ورفعت القضية للقضاء، وإضافة إلى ذلك يكون هذا الكتاب عونا للقضاة على أداء مهمتهم، وأدعى إلى وحدة الأحكام وتناسقها بدلا من تضاربها.
3 -
تهرب بعض الناس من رفع قضاياه للمحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية؛ نتيجة لما تقدم ذكره، والخوف من أن يتزايد ذلك حتى ينتهي- عياذا بالله- إلى استبدال قوانين وضعية بالأحكام الشرعية.
لذا فكر بعض المسلمين في إلزام القضاة أن يحكموا بأقوال في المعاملات تختار لهم، وتدون في كتاب مع أدلتها، أو إلزامهم أن يحكموا بالراجح والمعتمد من مذهب معين؛ إعانة للقضاة على التمكن من معرفة ما يحكمون به في القضايا، وتقريبا بين معارفهم في الأحكام، ومنعا للتناقض فيها ولتبلبل أفكار الأمة، وإبعادا للتهمة عنهم، وقضاء على ما يزعم بعض الناس من اتباع بعض القضاة للهوى، وتمكينا للجمهور من أن يوافقوا بين أعمالهم وبين ما دون؛ ليكون مرجعا للقضاة في الأحكام، فيكونوا بذلك على بصيرة فيما يقدمون عليه من أعمل قد يكون فيها خصومة.
وستأتي مناقشة الدواعي عند مناقشة الأدلة.
الثالث: بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا:
أ- محاولة (1) ابن المقفع في القرن الهجري الثاني في بدء العهد
(1)[رسالة الصحابة من المجموعة الكاملة](206- 208) .
العباسي: كتب ابن المقفع إلى أبي جعفر المنصور رسالة جاء فيها: ومما ينظر فيه أمير المؤمنين من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي- اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال. . . ومضى إلى أن قال: فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة وقياس، ثم نظر في ذلك أمير المؤمنين وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم عليه عزما وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب ذلك كتابا جامعا- لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا، لرجونا أن يكون اجتماع السير قرينة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر الدهر إن شاء الله. انتهى.
قال (1) محمد سلام مدكور تعليقا على ذلك: غير أن هذا الاقتراح لم يجد له رواجا في ذلك الحين؛ لإباء الفقهاء أن يتحملوا تبعة إجبار الناس على تقليدهم، وهم الذين يحذرون تلاميذهم من التعصب لآرائهم، كما أنهم تورعوا وخافوا أن يكون في اجتهادهم خطأ، ليس هذا تقنينا وضعيا، وإنما هم بصدد شريعة سماوية.
ب- محاولة الخليفتين: أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد مع الإمام مالك بن أنس.
1 -
لما حج أبو جعفر المنصور سنة 148هـ اجتمع بالإمام مالك ودار
(1)[المدخل للفقه الإسلامي](107) .
بينهما بحث هذا الموضوع، ونحن نسوق ذلك:
قال (1) عيسى بن مسعود الزواوي في أثناء الكلام الذي دار بين الإمام مالك وبين أبي جعفر المنصور، قال مالك: ثم قال لي: قد أردت أن أجعل هذا العلم علما واحدا، أكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعلمون به، فمن خالف ضربت عنقه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أو غير ذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذه الأمة فكان يبعث السرايا، وكان يخرج فلم يفتح من البلاد كثيرا حتى قبضه الله عز وجل ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فلم يفتح من البلاد كثيرا حتى قبضه الله عز وجل، ثم قام عمر رضي الله عنه ففتحت البلاد على يديه، فلم يجد بدا أن يبعث أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معلمين، فلم يزل يؤخذ عنهم كابرا عن كابر إلى يومنا هذا، فإن ذهبت تولهم عما يعرفون إلى ما لا يعرفون رأوا ذلك كفرا، فأقر أهل كل بلد على ما فيها من العلم، وخذ هذا العلم لنفسك، فقال لي: ما أبعدت هذا القول، اكتب هذا العلم لمحمد.
وقال الزواوي أيضا نقلا عن الشافعي (2) : بعث أبو جعفر المنصور إلى مالك لما قدم المدينة، فقال له: إن الناس قد اختلفوا في العراق فضع للناس كتابا تجمعهم عليه، فوضع [الموطأ]، وقال الزواوي أيضا:(وقال غيره) أي: الشافعي: إن أبا جعفر لما قال لمالك: ضع كتابا في العلم نجمع الناس عليه، قال له مع ذلك: اجتنب فيه شواذ ابن عباس وشذوذ ابن عمر ورخص ابن مسعود، فقال له مالك: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين أن
(1)[مناقب الإمام مالك] وهو [فقه المدونة](1 \ 25، 26) .
(2)
[تزيين الممالك بمناقب مالك مع المدونة](1\ 46) .
تحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب، وإنما الحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تفرقت أصحابه في البلدان، وقلد أهل كل بلد من صار إليهم، فأقر أهل كل بلد على ما عندهم. وقال الزواوي تعليقا على ذلك: فانظر إنصاف مالك رضي الله عنه، وصحة دينه، وحسن نظره للمسلمين، ونصيحته لأمير المؤمنين، ولو كان غيره من الأغبياء المقلدين، والعتاة المتعصبين، والحسدة المتدينين- لظن أن الحق فيما هو عليه، ومقصور على من ينسب إليه، وأجاب أمير المؤمنين إلى ما أراد، وأثار بذلك الفتنة وأدخل الفساد.
2 -
وفي سنة 163هـ وقد ذهب أبو جعفر المنصور للحج مرة أخرى فأعاد عرض فكرته الأولى على الإمام مالك فاقتنع مالك رحمه الله، ووافقه أبو جعفر رحمه الله، يبين ذلك ما نقله جلال الدين السيوطي قال: وقال ابن سعد في [الطبقات] : أخبرنا الواقدي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه فحادثته، فسألني فأجبته، فقال: إني عزمت أن آمر بكتابك هذا الذي وضعته- يعني: [الموطأ]- فينسخ منه نسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدونه إلى غيره، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فإني رأيت أهل العلم رواة أهل المدينة علمهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورددوا روايات، وأخذ كل قوم مما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وأن ردهم عما اعتقدوا شديد فندع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد منهم
لأنفسهم، فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به.
3 -
وأخرج أبو نعيم في [الحيلة] عن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت مالك بن أنس يقول: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق [الموطأ] في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه. . . إلخ، فقلت: يا أمير المؤمنين، أما تعليق [الموطأ] في الكعبة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع فافترقوا في البلدان، وكل عند نفسه مصيب. . إلخ فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله.
وأخرج الخطيب في رواة مالك عن إسماعيل بن أبي المجالد قال: قال هارون الرشيد لمالك: يا أبا عبد الله، نكتب هذه الكتب ونفرقها في آفاق الإسلام فنحمل هذه الأمة على ما فيها، فقال: يا أمير المؤمنين رضي الله عنك، إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكل على هدى، وكل يريد الله والدار الآخرة.
ج- محاولة (1) محمد عالمكير: قال محمد سلام مدكور: وفي القرن الحادي عشر الهجري ألف السلطان محمد عالمكير أحد ملوك الهند لجنة من مشاهير علماء الهند برياسة الشيخ نظام؛ لتضع كتابا جامعا لظاهر الروايات التي اتفق عليها في المذهب الحنفي، فجمعوا ذلك في كتاب معروف بـ[الفتاوى الهندية] ، ومع هذا فلم يكن هذا الجمع شبه الرسمي ملزما للمفتين والقضاة، كما أن الجمع والتدوين والتبويب لم يكن على نمط التقنين، وإنما هي فروع فقهية واقعية ومفترضة، تذكر فيها الآراء، ثم
(1)[المدخل للفقه الإسلامي] ص (108) .
يتبع ذلك بالقول الذي تختاره اللجنة للفتوى.
د- بدء تنفيذ الفكرة: ظهور (مجلة الأحكام العدلية) وقانون المعاملات وغير ذلك.
1 -
قال (1) . الأستاذ مصطفى الزرقاء: ولما بدئ بتأسيس المحاكم النظامية في الدولة العثمانية، وأصبح يعود إليها اختصاص النظر في أنواع من الدعاوى كانت قبل ذلك ترجع إلى المحاكم الشرعية، ودعت الحاجة إلى تيسير مراجعة الأحكام الفقهية على الحكام غير الشرعيين، وتعريفهم بالأقوال القوية المعمول بها من الضعيفة المتروكة دون أن يغوصوا على ذلك في كتب الفقه الواسعة النطاق _ صدرت إدارة سنية سلطانية بتأليف لجنة لوضع مجموعة من الأحكام الشرعية التي هي أكبر من غيرها دورانا في الحوادث.
فوضعت اللجنة في سنة (1286 للهجرة) هذه المجموعة منتقاة من قسم المعاملات من فقه المذهب الحنفي الذي عليه عمل الدولة. . . وقد أخذت بعض الأقوال المرجوحة في المذهب للمصلحة الزمنية التي اقتضتها. . . وقد صدرت الإدارة السنية السلطانية في شعبان (1293هـ) بلزوم العمل بها وتطبيق أحكامها في محاكم الدولة.
2 -
وقال (2) . أيضا تحت فقرة (82) بدء تنفيذ الفكرة في تقنين الأحوال الشخصية قال: ثم بدئ رسميا بتنفيذ هذه الفكرة- فكرة الاستفادة من مختلف المذاهب الفقهية عن طريق التقنين في أحكام الأحوال الشخصية
(1)(المدخل الفقهي العام)(1 \ 197) وما بعدها.
(2)
(المدخل الفقهي العام)(1\ 207) وما بعدها.
أواخر العهد العثماني، إذ وضعت الحكومة العثمانية قانون حقوق العائلة في سنة (1333 رومية) ، وأخذت فيه من المذهب المالكي حكم التفريق الإجباري القضائي بين الزوجين عن طريق التحكيم المنصوص عليه في القرآن عند اختلافهما، وتوسعت فيه.
3 -
وقال (1) . أيضا: في سنة (1929م) خطت الحكومة المصرية خطوة واسعة في الأخذ من مختلف الاجتهادات مما وراء المذاهب الأربعة فأصدرت قانونا تحت رقم (25) ألغت فيه تعليق الطلاق بالشرط في معظم حالاته، كما اعتبرت تطليق الثلاث أو الثنتين بلفظ واحد طلقة واحدة؛ عملا برأي ابن تيمية، ومستنده الشرعي، وذلك بإقرار مشيخة الأزهر. انتهى المقصود.
4 -
وقال (2) . محمد سلام مدكور تحت عنوان (مصر وتقنين الفقه الإسلامي والنهوض بدراسته) قال: لم تختلف مصر عن غيرها في النهضة الفقهية ومحاولة تقنين الأحكام الفقهية التي تهم الناس في معاملاتهم وأحوالهم الشخصية وإخراجها في مواد حتى يسهل الرجوع إليها، وحتى تنصرف الأذهان عن التطلع إلى الغرب، ورفض الخديوي إسماعيل الأخذ بقانون (مجلة الأحكام العدلية) ؛ حبا في الاستقلال، وتخلصا من التبعية للدولة العثمانية، واتجه إلى قانون نابليون، بحجة أن كتب الفقه الإسلامي بوضعها لا يمكن التقنين منها، فأحدث ذلك ضجة في الرأي العام، وظهر رأي بإمكان التقنين من الفقه الإسلامي، وقام الفقيه القدير قدري باشا
(1)(المدخل الفقهي العام)(1\ 208) .
(2)
(المدخل للفقه الإسلامي) ص (110) .
بعمل مجموعة من القوانين أخذها من المذهب الحنفي مسترشدا في عمله ب (مجلة الأحكام العدلية) .
5 -
وقال (1) . أيضا تحت عنوان (القوانين المصرية المختارة من الفقه الإسلامي) : عملت الحكومة على تأليف لجنة من كبار الفقهاء والمشرعين لوضع قوانين تؤخذ من الفقه الإسلامي من غير تقيد بمعنى معين، مع مراعاة روح العصر. فألفت لجنة من أكبر علماء المذاهب الأربعة برئاسة وزير الحقانية في ذلك العهد لوضع قانون الأحوال الشخصية، فوضعت اللجنة مشروع قانون للزواج والطلاق وما يتعلق بهما طبع سنة (1916م) ، ثم أعيد طبعه بعد تنقيح فيه سنة (1917) ، ومع هذا فقد كانت المعارضة في إخراجه قوية من بعض رجل الدين ومن تأثروا بهم؛ لذا لم يخرج هذا المشروع إلى التنفيذ ولم يصدر به القانون، وإنما اكتفي ولاة الأمر بمعالجة بعض الأمور التي وضح عدم مطابقة المذهب الحنفي فيها لمصالح الناس، فصدر القانون رقم (25) سنة (1920) ، والقانون رقم (56) سنة (1923م) بوضع حد أدنى لسن الزواج، والقانون (25) سنة (1929م) ، وكل هذه القوانين نظمت بعض مسائل الأحوال الشخصية المتعلقة بالزواج وبالنفقة والعدة والطلاق والنسب والمهر والحضانة والمفقود وما إلى ذلك، وإن كان القانون الأول (25) سنة (1920م) أخذ من المذاهب الأربعة، فإن القانونين الآخرين الصادرين في سنة (1923م) وسنة (1929م) لم يتقيدا بالمذاهب الأربعة، فقد أخذ القانون (56) لسنة
(1)(المدخل للفقه الإسلامي) ص (111) وما بعدها
(1923م) برأي آخر للإمام أبي حنيفة، وبفتوى عبد الله بن شبرمة، وعثمان البتي، وأبي بكر الأصم، وأما القانون (25) سنة (1929م) فقد جاء في مذكرته التفسيرية بأنه موافق لآراء بعض المسلمين، ولو من غير أهل المذاهب الأربعة، وأنه ليس هناك مانع شرعي من الأخذ بقول غيرهم خصوصا إذا ترتب عليه نفع عام، وفي سنة (1931م) صدر القانون (78) بتنظيم المحاكم الشرعية، وقد احتوى على بعض القوانين غير مقيد فيها بمذهب معين، ثم خطت مصر خطوة جديدة نحو التخلص من التقيد المذهبي، ففي 9 ديسمبر سنة (1936م) وافق مجلس الوزراء على مذكرة لوزارة العدل اقترحت فيها تشكيل لجنة بها، تقوم بوضع مشروع قانون لمسائل الأحوال الشخصية، وما يتفرع عنها، والأوقاف، والمواريث والوصية، وغيرهما، ولا تتقيد بمذهب دون آخر، بل تأخذ من آراء الفقهاء ما هو أكثر ملاءمة لمصالح الناس وللتطور الاجتماعي، ولها أن تبدأ بما ترى أن الشكوى منه أعم، والحاجة إليه أمس، وقد بدأت بالنظر في مشروع قانون المواريث؛ لأن التغيير فيه ضئيل، فخرج في سنة (1913م) برقم (77) شاملا لجميع أحكام الإرث حتى ما كان مأخوذا من أحكام قطعية، كالخاصة بأصحاب الفروض والعصبات، وهذه لم يكن للجنة فيها إلا الصياغة فقط، أما الحكم نفسه فلم تتعرض له، ولم تكن تملك أن تتعرض له، ومن أهم القواعد التي جاء بها القانون مغايرا ما كان عليه العمل توريث الإخوة والأخوات مع الجد الصحيح، بعد أن كان حاجبا لهم، وكذلك الرد على أحد الزوجين بما بقي بعد فرضه إذا لم يوجد للمتوفى أي قريب يرثه، فهو أولى بما بقي من العاصب السببي.
كما اعتبر القانون التسبب في القتل مانعا من الإرث دون القتل الخطأ وما جرى مجراه، بعكس ما كان عليه العمل، إلى غير ذلك مما يدرس تفصيلا في موضعه.
ثم في سنة (1946م) صدر القانون رقم (48) معدلا لبعض أحكام الوقف، وقد أخذ هذا القانون في الغالب أحكامه من مختلف أقوال الفقهاء في سائر المذاهب، متوخيا ما يحقق مصلحة الناس، ولا يعرقل نظمهم الاقتصادية، ومن أهم قواعد هذا القانون أنه قرب أحكام الوقف من أحكام الميراث، وعلى كل فقد ألغي الوقف الأهلي كله بالقانون (180) لسنة (1952م) .
ثم صدر القانون (71) في سنة (1946م) أيضا بأحكام الوصية دون تقيد بمذهب معين، ولا حتى بالمذاهب الأربعة، ومن أهم قواعده القول بالوصية الجبرية، وهي: أن يكون للأحفاد الذين حجبوا عن الميراث من جدهم أو جدتهم حق واجب في التركة، هو نصيب أصلهم لو كان حيا، بحيث لا يزيد على ثلث التركة، وألا يكون أوصى لهم جدهم أو جدتهم بشيء، وقد أخذ هذا الحكم من فقهاء التابعين ومن فقه الإباضية، كما أجاز القانون الوصية للوارث في حدود ثلث التركة دون توقف على إجازة باقي الورثة. . انتهى المقصود.
6 -
قال صبحي محمصاني بعد أن بسط الكلام على مراحل التدوين ملخصا ذلك، قال (1) : إن التدوين مر بمراحل خمس:
أولا: مرحلة التبني للمذهب الرسمي، وكانت مرحلة صعبة لم ينجح
(1)[مقدمة في إحياء علوم الشريعة] المحاضرة السادسة مراحل التدوين الفقهي ص (140)
فيها ابن المقفع ولا أبو جعفر المنصور، ولكن نجحت فيها الدولة العثمانية وغيرها من الدول العربية على غرارها.
المرحلة الثانية: كانت مرحلة جمعت المؤلفات، لا على شكل قانون رسمي، بل في شكل كتاب شبه رسمي يسهل المطالعة وفهم الأمور على الطالبين من قضاة وعلماء وتلامذة، وهذا قد ذكرت له أمثلة، وهي: ملتقى الأبحر، والفتاوى الهندية، وسيدي خليل، ومدونات قدري باشا.
ثم المرحلة الثالثة: دون المذهب الرسمي في مدونات رسمية إلزامية، كـ[مجلة الأحكام العدلية العثمانية] التي أخذت عن المذهب الحنفي وحده.
ثم مرحلة رابعة اتبعت طريقة أخرى، وهي: أن يؤخذ مذهب واحد كأصل الاقتباس من المذاهب الأخرى في بعض المسائل: مثاله ما جرى في قانون حقوق العائلة العثمانية، ومجلة الجنايات والأحكام العرفية التونسية القديمة، ومجلة الالتزامات والعقود التونسية، وما جرى في مدونات الأحوال الشخصية في البلاد العربية التي أشرنا إليها، وقد ذكرنا أن بعضها أيضا قد ابتعد عما جرى في الشريعة، كما فعلت العراق في مسائل المواريث التي نوهنا بها- أي: في هذا المحاضرة.
وأخيرا في المرحلة الخامسة اقتبست بعض القوانين عن المدونات الغربية، فكان هذا الاقتباس أحيانا موفقا بحيث لم يخالف روح التشريع الإسلامي، وأحيانا كان مخالفا لما جاء في هذا التشريع. انتهى.
وسيأتي ما في هذه النقول من المناقشة عند المناقشة لأدلة الأقوال في إلزام القضاة الحكم بالراجح.