الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن جهة أخرى هم مختلفون في مسالك الترجيح بناء على اختلافهم في التقعيد، فتجد مرجوحا عند الشافعية راجحا عند الحنفية وهكذا، ومن جهة ثالثة وصف القول بأنه راجح من حيث التقعيد الشرعي، لا من حيث التقعيد المذهبي، وصفه بذلك ليس من الأوصاف اللازمة، فقد يكون راجحا في وقت بالنظر لما يحيط به من ظروف وملابسات من اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والأشخاص، ويكون مقابله على هذا الأساس مرجوحا، فتتغير الأمور ويكون المرجوح راجحا، والراجح مرجوحا، وهذا كما يجري في الظاهر ومقابله، يجري أيضا في المسائل ذات الأقوال المتساوية في ظن المجتهد، فإن هذا قد يكون بالنسبة لوقت، ويأتي وقت آخر يوجد فيه من القرائن ما يجعل واحدا منها راجحا، فراجحية القول في المسائل الخلافية إنما تظهر بعد دراسة واقع المسألة وتطبيقها على موضعها من الشرع، ومن ثم تبرز راجحية القول، هذا من جهة فقه القضاء، وهذا أمر يورثه الله فيمن يشاء من عباده ولا يدخل تحت حصر البشر.
6 -
ما تقدم ذكره من الدواعي التي دعت إلى تدوين القول الراجح وإلزام القضاة الحكم به.
ب-
الآثار التي تترتب على العدول عن الأصل:
ا- إلزام القضاة أن يحكموا بالقول الراجح من أقوال الفقهاء ينتهي على مر الأيام إلى فصل أهل العلم عن فقه الكتاب والسنة فصلا يتدرج بهم إلى هجرهما، وعدم الرجوع إليهما في هذا المجال؛ اكتفاء بهذه المواد التي يقال: إنها هي القول الراجح.
2 -
القضاء على التراث الإسلامي قضاء نهائيا في مجال البيان لأحكام
المعاملات؛ اكتفاء بهذه المواد المدونة، ومعلوم أن الفقه الإسلامي المدون هو أعظم ثروة، فتجب المحافظة عليها، والعناية بالبحث فيها، والرجوع إليها.
3 -
التضييق على الناس بحملهم على قول واحد بصفة مستديمة وإهدار الأقوال الأخرى.
4 -
كونه مدخلا لتغيير الشريعة بزيادة أو نقص، وتبديل، وتعديل.
5 -
إماتة الفكر الفقهي، والحجر عليه، بحيث لا يكون قابلا للقوة والنماء والتوسع والعمق في التفكير؛ لأنه جعل في دائرة من العلم محدودة.
6 -
حمل القضاة على الحكم بخلاف ما يعتقدون في بعض المسائل وهذا غير جائز شرعا.
7 -
وبالتالي فهو نقطة تحول عما كانت عليه الأمة الإسلامية، وعدول عن أمر جرت عليه أربعة عشر قرنا، منها القرون المفضلة، وفي هذا مخالفة للإجماع العملي.
منا قشة الآثار المترتبة على إلزام القضاة الحكم بقول معين:
يناقش الأول والثاني: بأن سبب انصراف الكثير من المتعلمين عن فقه الكتاب والسنة، والمراجع الكبيرة في الفقه الإسلامي هو: ضعف الهمة، والملكات العلمية، والوازع الديني، والتعصب المذهبي في السواد الأعظم ممن يشتغل بالعلوم الدينية، بدليل انصرافهم عن فقه الكتاب والسنة مع دراسة التفسير والحديث، وعنايتهم بدراسة المختصرات الفقهية لمعرفة الأقوال دون تجشم لمتاعب الاستدلال حتى في الدول التي لم تلزم قضاتها الحكم بقول معين.
ويناقش الثالث بأن الأقوال الأخرى لا تهدر نهائيا، بل لا تزال دراستها موضع عناية في دور التعليم، وإنما قسر القضاة على الحكم بالراجح لمصلحة دفع مضرة التناقض في الأحكام الراجحة على ما يدعى من التيسير في بقاء الأمر على ما كان.
ويناقش الرابع: بأن المدخل في التبديل.. . إلخ يرجع إلى ضعف الوازع الديني، لا إلى قسر القضاة على الحكم بما اختير لهم من القول الراجح، وربما قيل: إن تناقض الأحكام الناشئ من اختلاف أقوال الفقهاء في مراجع القضاة مدعاة إلى النفرة من الثروة الفقهية جملة، وإلى التبديل الشامل، كما تقدم بيانه في الدواعي.
ويناقش الخامس: بما تقدم في الأول والثاني والثالث.
ويناقش السادس: بأنه قد يسلم هذا بالنسبة للمجتهد المطلق أو مجتهد المذهب دون المقلد المحض فإنه تابع لغيره مخير فيمن يتبعه، والمتعلمون اليوم يغلب فيهم طابع التقليد المحض، فللإمام العام أن يلزم من تولى القضاء منهم بقول من الأقوال المخير بينها، تحقيقا للمصلحة على أن الحكم بأن هذا غير جائز هو محل النزاع.
ويناقش السابع: بأنه من استصحاب الإجماع في محل النزاع، وهو مختلف في الاحتجاج به، وبيانه: أن ما ذكر من الإجماع العملي كان في قرون قويت فيها الملكات العلمية، وكثر فيها المجتهدون في الشريعة، أما بعد أن ضعفت الملكات العلمية، وطغى التقليد المحض على المتعلمين- فلا إجماع، بل النزاع قائم على أشده، كما تقدم في سرد الأقوال في الإلزام، فتعين أن ذلك قول باستصحاب إجماع في قرون نيط فيها بأحوال
إلى محل نزاع في قرون تلاشى فيها مناطه لاختلاف الظروف والأحوال.
السادس - هل إلزام القضاة الحكم بمذهب معين أو قول معين ضروري لحل مشاكل القضاء أو يمكن تفاديه بحل آخر؟ من المسلم به وجود مشاكل حول القضاء، والفصل بين الناس في الخصومات، ومن المسلم به أيضا أنه يجب بذل الجهود من الجهات المعنية، والتعاون بينها لإيجاد حل ناجح لهذه المشاكل حتى يسهل على القضاة القيام بمهمتهم على خير حال، ولا يتهرب من العمل في حقل القضاء أحد من المؤهلين عند تعيينه من قبل أولي الأمر للعمل فيه، وحتى يطمئن من بينهم خصومات إلى التقاضي أمام المحاكم الشرعية، وتذهب عنهم الريب والظنون، وإذن لا بد من تحديد هذه المشاكل وبيان منشئها، ثم بيان وسائل حلها ورسم طريق الخلاص منها على ضوء معرفتها ومعرفة أسبابها.
أ- أما المشاكل فقد يقال فيها: إنها ما تقدم بيانه في دواعي إلزام القضاة أن يحكموا بقول معين من التناقض في الأحكام سببه: قصور القضاة، واختلاف الأقوال في المصادر الفقهية التي يرجعون إليها في أحكامهم، فنشأ من هذا: الاضطراب في الأحكام والريبة والاتهام باتباع الهوى والانصراف عن المحاكم الشرعية، وعلى هذا قيل: إن طريق الخلاص من هذه المشاكل إلزام القضاة الحكم بأقوال معينة راجحة تختارها جماعة كبار العلماء، وتقدمها منظمة بعبارة سهلة، معها أدلتها ولائحة تفسيرها، وأمثلة فرضية أو مأخوذة من الواقع يسهل تطبيقها، ولا يلزم مما ذكر التقنين الوضعي، ولا إغلاق باب الاجتهاد في وجوه الأقوياء من القضاة، بل إذا
رأوا رجحان قول يخالف ما قد اختير لهم عرض على هيئة كبار العلماء، فإن أيدوه جعلوه بدلا مما اختير من قبل، وإلا مضوا على ما كان.
وقد تقدم مناقشة هذه الفكرة وبيان الآثار المرتبة عليها، ويزاد هنا أن الإلزام ينافي تخويل الاجتهاد للقاضي المتأهل للترجيح وحسن الاختيار على تقدير أن الهيئة لم تقنع برأيه، وأبقت على ما رآه ضعيفا وعرضه عليها، أما على تقدير اقتناعها برأيه والتعديل على مقتضى ما رجح عنده- فيلزم اختلاف الحكم وتناقضه في قضيتين متماثلتين حكم في إحداهما قبل التعديل وفي الأخرى بعده، وقد يتكرر مثل هذا الاجتهاد، ويوافق عليه، وتعدل! المادة، فيزداد ما سمي من قبل تناقضا، وتعود المشكلة جذعة، ويتكرر ما سمي مأساة ومدعاة للتهرب من القضاء أمام المحاكم الشرعية، وسببا لإباء الأجانب من التحاكم إليها، ولم يطمئن بذلك من وفق أعماله قبل الإقدام عليها مع الأقوال الراجحة؛ لتوقعه التعديل والتغيير. . إلخ، وربما كان استمرار التعديل ذريعة إلى تعديل بعض الأقوال الفقهية بقوانين وضعية- لا سمح الله- كما حصل في بعض الدول الأخرى على ما سبق ذكره في النبذة التاريخية لمراحل التدوين، والأدلة الشرعية دالة دلالة قاطعة على وجوب سد الذرائع، والقضاء على وسائل الشر ومسالكه.
ب- وقد يقال: إن المشكلة نشأت من أسباب كثيرة، من قصور بعض القضاة، ومن التوسع في تعيينهم حتى في قرى ربما يكفيها متعلم يقوم بالوعظ والإرشاد، وإمامة المسجد، وخطبة الجمعة، وعقود الأنكحة ونحو ذلك، ومن قضايا جديدة في نوعها ربما يقال: إنها لم يسبق لها نظير ولم يتبين لها حلول، إلى غير ذلك مما يشابهه.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الطريق للإصلاح هو:
أولا: إعداد القضاة، والعناية بتأهيلهم علميا، وتدريبهم عمليا على أعمال القضاء، ولو بدورات دراسية وتدريبية لمن يحتاج لذلك ممن على رأس العمل إن لم يمكن تفريغه لإعداده والنهوض به.
ثانيا: تقليل المحاكم وتركيزها في المدن وعواصم المناطق مثلا، ويكتفى بتعيين متعلمين في القرى؛ ليقوموا بشئون المساجد، وعقود الأنكحة، والوعظ الإرشاد، وكتابة الوثائق ونحو ذلك، ويساعد على هذا سهولة المواصلات اليوم، ووجود مرافق في المدن يرتفق بها الغريب، ويستريح فيها، ولو أقام أياما، وهذا مما يسهل على القضاة في المدن الاجتماع للاشتراك في دراسة القضايا وهضمها، ويمنع من رفع قضايا تافهة لأقل الأسباب، ويدعو إلى الصلح في كثير من القضايا، وهو خير من التقاضي، واستمرار النزاع حتى يفصل في الخصومة.
ثالثا: حسن اختيار القضاة بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم، ورجاحة عقل وحلم وأناة، وبعد نظر، وصدق وأمانة، وبعد عن مظان الريبة. . إلى غير ذلك من الصفات الكريمة التي ينبغي أن تتوفر فيمن يولى هذا المنصب، ومما يساعد على سهولة حسن الاختيار ما تقدم من تركيز المحاكم.
رابعا: مراعاة أحوال القضاة في توزيع القضايا عليهم، أو تخصيص كل منهم بنوع منها، والاشتراك في القضايا المهمة، والتشاور فيما فيه التباس، وهذا يتيسر إذا تم تركيز المحاكم في المدن، وعواصم المناطق.
خامسا: تأليف لجنة من العلماء، لبحث المسائل القضائية المعضلة،
وإيضاح غامضها، وحل مشكلها من جهة تحقيق الحكم فيها، ومن جهة توضيح تطبيقها بأمثلة، وخاصة القضايا التي جدت في عصرنا، وليس هذا لإلزام القضاة بما انتهى إليه البحث، بل ليكون عونا لهم في القيام بمهمتهم إن اقتنعوا به، وليكون نموذجا لهم في دراسة القضايا وحل مشكلها، والدقة في تطبيقها، وبهذا تضيق شقة الخلاف، وتتحقق الدقة في الأحكام إن شاء الله، أما ارتفاع أصل الخلاف فلا سبيل إليه، ولو توحد المرجع العلمي للقضاة باختيار الأقوال الراجحة؛ لما تقدم بيانه من اختلاف الناس في المدارك والأفهام، واختلاف أحوال القضايا وما يحيط بها من قرائن وأمارات، فبذلك تختلف أفهامهم للمادة العلمية، ويختلف تطبيقهم لما فهموه على ما رفع إليهم من الخصومات.
من هذا يتبين أنه قد لا يكون هناك حل آخر لهذه المشكلة سوى الإلزام.
7 -
مدى تصرف المسلمين في مجال الإلزام مع أمثلة توضح ذلك:
تمهيد:
لما كان لولي المسلمين العام حق التصرف في أمور كثيرة من شئون الأمة بمقتضى الإمامة الكبرى، والخلافة العامة؛ رعاية لمصلحة الأمة، وحفظا لكيان الدولة، وجب بيانها ليتبين ما إذا كان منها إلزام القضاة والمفتين أن يحكموا، أو أن يفتوا بمذهب معين أو قول معين، من أقوال فقهاء الإسلام أولا.
وحيث إن فقهاء الإسلام قد بحثوا هذه الحقوق وبينوا ما يختص منها بولي الأمر العام، وما لا يختص به- كان من الضروري ذكر ما قالوه في هذا الأمر؛ ليعرف مصدره من الشريعة، والسر في تخصيص ولاة الأمور
ومنحهم إياه، ولنسترشد به فيما نحن بصدده.
وفيما يلي ذكر كلام الفقهاء فيما لهم وما عليهم، وما على الأمة لهم من الحقوق، مع الإيجاز والاجتزاء ببعض النقول عن بعض؛ خشية الطول، وبعدا عن التكرار؛ ولذا أشير إلى المراجع؛ ليرجع إليها في شرح الغامض ومعرفة ما تفرع عنه النقل وما تفرع عليه.
1 -
قال القرافي (1) : تصرفه صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى أربعة أقسام: قسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالإمامة؛ كالإقطاع، وإقامة الحدود، وإرسال الجيوش ونحوها.
وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء؛ كإلزام أداء الديون، وتسليم السلع، ونقد الأثمان، وفسخ الأنكحة ونحو ذلك.
وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالفتيا؛ كإبلاغ الصلوات وإقامتها، وإقامة النسك، ونحوها.
وقسم وقع منه صلى الله عليه وسلم مترددا بين هذه الأقسام، اختلف العلماء فيه على أيها يحمل؛ وفيه مسائل.. . إلخ.
2 -
وقال (2) أيضا: وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء؛ لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس.
3 -
وقال (3) أيضا: فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة، كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب
(1)[الأحكام] ص (96، 97)
(2)
[الأحكام] ص (93)
(3)
[الأحكام] ص (95)
الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في القرى ونحو ذلك- فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعا مقررا؛ لقوله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) انتهى ما قاله القرافي. لكن مع ثبوت اختصاص الإمام بالتصرف في هذه الأمور وأمثالها لا يجوز له أن يتصرف فيها بمحض عقله أو هواه، بل يطبق فيها حكم الشريعة، وبذلك لم ينشئ حكما كليا.
4 -
وقال (2) أيضا: بل الحاكم من حيث هو حاكم ليس له إلا الإنشاء، وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما، فقد يفوض إليه التنفيذ، وقد لا يندرج في ولايته، فصارت السلطة العامة التي هي حقيقة الإمامة مباينة للحكم من حيث هو حكم. انتهى كلام القرافي.
يريد بذلك: أن القاضي له إصدار الحكم في القضايا الجزئية التي رفعت إليه حسب ما فهمه من الشريعة، ولا يملك التنفيذ إلا إذا أعطاه إياه من له السلطة: من ولي الأمر العام ومن في حكمه.
5 -
قال (3) الماوردي: والذي يلزمه من الأمور عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة..إلخ.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين،
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2)
[الأحكام] ص (93) .
(3)
[الأحكام السلطانية] للماوردي ص (15، 16) .
حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم. . إلخ.
الرابع: إقامة الحدود. . إلخ.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة. . إلخ.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة..إلخ.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.
الثامن: تقدير العطايا، وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأموال وتصفح الأحوال. . إلخ.
وقال (1) أيضا: وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة، والنصرة، ما لم يتغير حاله.
6 -
وقال (2) القرافي: تصرفات الحكام والأئمة بغير الحكم أنواع كثيرة
(1)[الأحكام السلطانية] ص (17)
(2)
[الأحكام] ص (177) وما بعدها.
أنا ذاكر منها إن شاء الله عشرين نوعا، وهي عامة تصرفاتهم فيسلم من الغلط فيها:
أ- العقود، كالبيع والشراء في أموال الأيتام. . إلخ.
2 -
إثبات الصفات نحو ثبوت العدالة عند حاكم. . إلخ.
3 -
ثبوت أسباب المطالبات، نحو ثبوت مقدار قيمة المتلف في المتلفات. . إلخ.
4 -
إثبات الحجاج الموجبة لثبوت الأسباب الموجبة للاستحقاق، نحو كون الحاكم ثبت عنده التحليف ممن تعين عليه الحلف. . إلخ.
5 -
إثبات أسباب الأحكام الشرعية نحو الزوال. . إلخ.
6 -
الفتاوى في الأحكام في العبادات وغيرها. . إلخ.
7 -
تنفيذات الأحكام الصادرة عن الحكام فيما تقدم الحكم فيه من غير المنفذ، بأن يقول: ثبت عندي أنه ثبت عند فلان من الحكام كذا وكذا. . إلخ.
8 -
تصرفات الحكام بتعاطي أسباب الاستخلاص ووصول الحقوق إلى مستحقيها من الحبس والإطلاق. . إلخ.
9 -
التصرف في أنواع الحجاج بأن يقول: لا أسمع البينة؛ لأنك حلفت قبلها مع قدرتك على إحضارها. . إلخ.
10 -
تولية النواب عنهم في الأحكام. . إلخ.
11 -
إثبات الصفات الموجبة للمكنة من التصرف في الأموال؛ كالترشيد في الصبيان والبنات.
12 -
الإطلاقات من بيت المال وتقدير مقاديرها في كل عطاء. . إلخ.
13 -
اتخاذ الأحمية من الأراضي المشتركة بين عامة المسلمين ترعى فيها إبل الصدقة وغيرها. . إلخ.
14 -
تأمير الأمراء على الجيوش والسرايا. . إلخ.
15 -
تعيين أحد الخصال في الحرابة لعقوبة المحاربين. . إلخ.
16 -
تعيين مقدار من التعزير إذا رفع لغيره قبل تنفيذه فرأى خلاف ذلك فله تعيينه وإبطال الأول. . إلخ.
17 -
الأمر بقتل الجناة وردع الطغاة إذا لم ينفذ. . إلخ.
18 -
عقد الصلح بين المسلمين وبين الكفار ليس من المختلف فيه، بل جوازه عند سببه مجمع عليه. . إلخ.
19 -
عقد الجزية للكفار لا يجوز نقضه ولا تغييره. . إلخ.
20 -
تقرير الخراج على الأرضين وما يؤخذ من تجار الحربيين. . إلخ.
7 -
وقال (1) أيضا: الضابط الذي يرجع إليه في ترتيب الأحكام على أسبابها من غير حكم حاكم، وما يفتقر لحكم الحاكم: أن الموجب للافتقار لحكم الحاكم ثلاثة أسباب:
السبب الأول: كون ذلك الحكم يحتاج إلى نظر وتحرير وبذل جهد من عالم بصير حكم عدل في تحقيق سببه ومقدار مسببه وله مثل:
أ- الطلاق بالإعسار.
2 -
التعزيرات.
3 -
التطليق على المولى.
(1)[الأحكام] ص (146) وما بعدها.
4 -
إذا حلف ليضربن عبده ضربا مبرحا فالقضاء بالعتق عليه يفتقر للحاكم.
السبب الثاني: الموجب لافتقار ترتيب الحكم على سببه إلى حكم الحاكم ومباشرة ولاة الأمور: كون تفويضه لجميع الناس يفضي إلى الفتن والشحناء والقتل والقتال وفساد النفس والمال وله مثل:
ا- الحدود.
2 -
قسمة الغنائم.
3 -
جباية الجزية وأخذ الخراج من أرض العنوة وغيرها من مال المسلمين.
السبب الثالث: قوة الخلاف مع تعارض حقوق الله تعالى وحقوق الخلق، وله مثل:
1 -
من أعتق نصف عبده لا يكمل عليه بقيته إلا بالحكم.
2 -
العتق بالمثلة.
3 -
بيع من أعتقه المديان.
فهذه الأسباب الثلاثة هي الموجبة للافتقار للحاكم وولاة الأمور، فإذا لم يوجد شيء منها تبع الحكم سببه الشرعي حكم به حاكم أم لا. ولأجل هذه القاعدة انقسمت الأحكام ثلاثة أقسام:
1 -
منها: ما يتبع سببه بالإجماع، ولا يفتقر لحكم؛ لقوة بعده عن اشتماله على أحد تلك الأسباب الثلاثة الموجبة للافتقار.
2 -
ومنها: ما يفتقر للحاكم إجماعا؛ للجزم باشتماله على أحد الأسباب الثلاثة أو اثنين منها.
3 -
ومنها: ما اختلف فيه هل هو من القسم الأول أو من القسم الثاني؛ لما فيه من وجوه الإحالة باشتماله على أحد الأسباب أو عدم اشتماله، فلحصول التردد في الاشتمال حصل التردد في الافتقار.
ثم ذكر أمثلتها.
8 -
وقال (1) أيضا في أثناء الكلام على أي شيء ما يفيد الإنسان أهلية أن ينشئ حكما في مواطن الخلاف فيجب تنفيذه، ولا يجوز نقضه فهل ذلك لكل أحد، أو إنما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص، وما هو ذلك السبب، وهل هو واحد أو أنواع كثيرة؟ قال: إنه لا خلاف بين العلماء أن ذلك ليس لكل أحد، بل إنما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص، وهو ولاية خاصة ليس كل الولاية تفيد ذلك.
فمن الولايات ما لا يفيد أهلية شيء من الأحكام. ومنها: ما يفيد أهلية الأحكام كلها. . إلخ. وبعد أن ذكر: أن الولاية لها طرفان ووسط، وأن لها خمس عشرة مرتبة، قال: الرتبة الأولى: الإمامة الكبرى، فأهلية جميع أنواع القضاء في الأموال والدماء وغيرها جزؤها، وهي صريحة في ذلك، فتتناول بصراحتها أهلية القضاء، وأهلية السياسة العامة.
9 -
وقال (2) أيضا: كيف يمكن أن يقال: إن الله جعل لأحد أن ينشئ حكما على العباد؛ وهل ينشئ الأحكام إلا الله تعالى؛ فهل لذلك نظير وقع
(1)[الأحكام] ص (156) وما بعدها.
(2)
[الأحكام] ص (26- 28) .
في الشريعة، وما يؤنس هذا المكان ويوضحه؟ فأجاب عن هذا السؤال: لا غرو في ذلك ولا نكير، بل الله تعالى قرر الواجبات، والمندوبات والمحرمات، والمكروهات، والمباحات، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه الكريم:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
ومع ذلك قرر في أصل شريعته: أن للمكلف أن ينشئ الوجوب فيما ليس بواجب في أصل الشرع، فينقل أي مندوب شاء، فيجعله واجبا عليه، وخصص ذلك بالمندوبات، وخصص الطريق الناقل للمندوبات إلى الواجبات بطريق واحد وهو النذر، فالنذر إنشاء للوجوب في المندوب. وقرر الله تعالى أيضا الإنشاء للمكلف في صورة أخرى. . له أن ينشئ السببية في المندوبات، والواجبات، والمحرمات، والمكروهات، والمباحات، وما ليس فيه حكم شرعي البتة، كفعل النائم. . إلخ.
ومع ذلك فلكل مكلف أن يجعل أي ذلك شاء سببا لطلاق امرأته، أو عتق عبده. . إلخ، فعمم صاحب الشرع في هذا الباب جميع الأشياء في المجعول سببا، وخصص في الطريق المجعول به، فعينه في التعليق، وفي الباب الأول خصص فيهما، فعين المجعول فيه في المندوب، وخصص الطريق بالنذر، فهذا الباب خاص، والأول خاص وعام.
وإذا تقرر أن الله تعالى جعل لكل مكلف، وإن كان عاميا جاهلا الإنشاء في الشريعة لغير ضرورة- فأولى أن يجعل الإنشاء للحكام مع علمهم
(1) سورة المائدة الآية 3
وجلالتهم؛ لضرورة درء العناد، ودفع الفساد، وإخماد النائرة، وإبطال الخصومة. انتهى كلام القرافي.
ليس فيما ذكر من الصورتين إنشاء العبد لحكم شرعي، وضعي أو تكليفي، فإن الذي وقع من العبد في الصورة الأولى مجرد النذر لمندوب، وهو محل للحكم، وليس حكما، والله هو الذي جعل النذر سببا لما بناه عليه سبحانه من الحكم بوجوب الوفاء، وهو الذي جعل القابلية لذلك في المندوب وليس إلى غير الله إنشاء في هذه الثلاثة.
وأما الصورة الثانية فالذي من العبد التعليق للعتق أو الطلاق مثلا على شيء مما ذكر في هذه الصورة، والتعليق الذي هو فعل العبد محل للحكم وليس حكما، ولا إنشاء للحكم، والله سبحانه الذي عم في المعلق عليه، فجعله أيا كان قابلا لأن يكون سببا لترتيب الحكم على تحققه، وعلى ذلك يتبين بطلان ما ذكره من أن الله تعالى جعل لكل مكلف، ولو عاميا جاهلا إنشاء الأحكام في الشريعة لغير ضرورة، وبطلان ما رتبه عليه من أن للحكام من باب أولى إنشاء أحكام كلية في الشريعة، وإنما الذي إليهم فهم الشريعة وتطبيقها على الوقائع والقضايا الجزئية، كما دلت على ذلك أدلة اختصاص الله بالتشريع.
10 -
قال (1) القرافي في الفرق بين المفتي والحاكم، وبين الإمام الأعظم في تصرفاته - قال: إن الإمام نسبته إليهما كنسبة الكل لجزئه، والمركب لبعضه، فإن للإمام أن يقضي، وأن يفتي كما تقدم، وله أن يفعل
(1)[الأحكام] ص (32) .
ما ليس بفتيا ولا قضاء؛ كجمع الجيوش، وإنشاء الحروب، وحوز الأموال، وصرفها في مصارفها، وتولية الولاة، وقتل الطغاة، وهي أمور كثيرة يختص بها لا يشاركه فيها القاضي ولا المفتي، فكل إمام قاض ومفت، والقاضي والمفتي لا يصدق عليهما وصف الإمامة الكبرى.
11 -
وقال (1) أيضا: وظهر حينئذ أن القضاء يعتمد الحجاج، والفتيا تعتمد الأدلة، وأن تصرف الإمامة الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة.
12 -
قال (2) ابن القيم في مبحث غزوة حنين بعد كلام في حديث: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه (3) » قال: ومأخذ النزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والحاكم والمفتي، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد يقول الحكم بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة، كقوله:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » ، وقوله:«من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته (5) » ، وكحكمه بالشاهد واليمين، وبالشفعة فيما لم يقسم.
وقد يقول بمنصب الفتوى، كقوله لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وقد شكت إليه شح زوجها، وأنه لا يعطيها ما يكفيها:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (6) » فهذه فتيا لا حكم، إذ لم يدع بأبي سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البينة.
(1)[الأحكام] ص (41) .
(2)
[زاد المعاد](3 \ 489- 491) .
(3)
صحيح البخاري فرض الخمس (3142) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير (1751) ، سنن الترمذي السير (1562) ، سنن أبو داود الجهاد (2717) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (990) .
(4)
صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5)
سنن الترمذي الأحكام (1366) ، سنن أبو داود البيوع (3403) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2466) ، مسند أحمد بن حنبل (3/465) .
(6)
صحيح البخاري النفقات (5364) ، صحيح مسلم الأقضية (1714) ، سنن النسائي آداب القضاة (5420) ، سنن أبو داود البيوع (3533) ، سنن ابن ماجه التجارات (2293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/206) ، سنن الدارمي النكاح (2259) .
وقد يقوله بمنصب الإمامة فتكون مصلحة الأمة في ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال، فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ومكانا وحالا.
ومن هاهنا تختلف الأئمة في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم:«من قتل قتيلا فله سلبه (1) » هل قاله بمنصب الإمامة، فيكون حكمه متعلقا بالأئمة، أو بمنصب الرسالة والنبوة فيكون شرعا عاما؛ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من أحيا أرضا ميتة فهي له (2) » هل هو شرع عام لكل أحد أذن فيه الإمام، أو لم يأذن، أو هو راجع إلى الأئمة فلا يملك بالإحياء إلا بإذن الإمام؟ على قولين: فالأول: للشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهما.
والثاني: لأبي حنيفة، وفرق مالك بين الفلوات الواسعة وما لا يتشاح فيه الناس، وبين ما يقع فيه التشاح، فاعتبر إذن الإمام في الثاني دون الأول. . انتهى.
(1) صحيح البخاري فرض الخمس (3142) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير (1751) ، سنن الترمذي السير (1562) ، مسند أحمد بن حنبل (5/306) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (990) .
(2)
سنن الترمذي الأحكام (1379) ، مسند أحمد بن حنبل (3/356) ، سنن الدارمي البيوع (2607) .
مما تقدم يتبين ما يأتي:
ا- تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم أنواع:
أ- تصرفه باعتباره رسولا، وهو قسمان:
القسم الأول: أن يحكم حكما شرعيا بوحي من الله تعالى، والأصل في هذا أن يكون حكما كليا وتشريعا عاما في الأعيان والأزمان إلا ما خصه الدليل، وهذا القسم خاص به فلا يشاركه في التشريع أحد من الأمة لا الراعي ولا الرعية، وهو فيه معصوم.
القسم الثاني: إبلاغ هذا التشريع وإرشاد الناس به وحثهم عليه، وهذا
واجب عليه، هو معصوم فيه، وليس مختصا به، بل يرثه عنه العلماء فيجب عليهم البلاغ والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إلا أنهم غير معصومين في بلاغهم وفهمهم له.
ب- تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضيا، فبهذا الاعتبار يفصل في الخصومات ويحكم فيها بمقتضى طرق الإثبات من البينات ودلائل الأحوال والأمارات. . إلخ. وهذا المنصب ورثه عنه ولي الأمر العام، ويكون لغيره بإذنه وتنصيبه إياه، فيحكمون بين الناس على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بالهوى ومحض الرأي.
ج- تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره إماما أعظم للمسلمين، فإليه بهذا الاعتبار إبرام العهود الدولية، وقسمة الغنائم، وإقامة الحدود. . إلى آخر ما ذكر في النقول من هذا الجنس، وهذا المنصب يرثه عنه ولي أمر المسلمين العام، فله ما للرسول صلى الله عليه وسلم من التصرف بحكم الإمامة.
2 -
معنى كون هذه التصرفات للإمام بحكم الإمامة الكبرى: أنها مختصة به لا يقوم بها غيره إلا بإذنه ممن يرى فيه الأهلية لها، وليس معنى كونها له أنه يشرع فيها شرعا جديدا، بل يجب عليه أن يقوم بها باعتباره مسئولا عن الأمة، وعليه أن يتبع فيها حكم الشرع ويطبقه فيها تطبيقا يكفل لهم المصلحة الخالصة، أو الراجحة، ويدفع المضرة أو يخففها عنهم. فإنه صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله كان يقوم بها على مقتضى ما أمره الله وفق المقاصد الشرعية، وقد قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) الآية، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2)
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2)
سورة الأعراف الآية 158
3 -
للإمام العام سلطة البلاغ والإرشاد، وسلطة الحكم والقضاء، وسلطة التنفيذ، بخلاف غيره، فإنه لا يملك سلطة القضاء أو التنفيذ إلا بإذنه وتنصيبه في ذلك، ومن ذلك يعرف: أن من تصرفات الإمام ما يكون بطريق القضاء، وقد ذكر القرافي ثلاثة ضوابط لما يكون فيه ذلك، وأوضحها بالأمثلة، ومنها: ما يكون بغير طريق الحكم والقضاء، وقد ذكر القرافي منها عشرين نوعا مع الإيضاح بالأمثلة.
4 -
قد يكون للناس الخيار بين أمرين أو أمور فيما يأتون وما يذرون من شئون معاشهم ونظام حياتهم، وقد تنشأ مضرة عن تخلية سبيلهم؛ ليختار كل لنفسه ما شاء مما هو مباح له، أو فوضى عامة شاملة، فيجب على ولي الأمر ومن أنابه عنه أن يحملهم على أحد الأمرين أو الأمور، ويلزمهم بالوقوف عنده؛ رعاية للمصلحة العامة، ودفعا للمضرة، ومن خالف ذلك فله تعزيره بما يتناسب مع خطر اعتدائه، ويراه كافيا في تأديبه وردع أمثاله، مثال ذلك: أن للتاجر زيادة السعر ونقصانه وعرض السلع بالأسواق واحتكارها، فلإمام المسلمين إذا رأى من التاجر التواطؤ على الاحتكار ورفع الأسعار وانتهاز الفرص ورأى ما يلحق المستهلكين من المضرة بسبب صنيع هؤلاء - أن يحدد الأسعار ويمنع الاحتكار على وجه يكفل العدالة والرحمة، ويقضي على الأثرة والأزمة والغلاء المصطنع، ومن ذلك التعليم، ودوام
الموظفين بالنسبة للأوقات، وطرق المواصلات بالنسبة للسيارات والقطارات، فلولي الأمر العام أن يضع نظاما يحدد أوقات العمل، وينظم سير المواصلات.
وأخيرا فهذا ما ذكره العلماء فيما لولي الأمر العام أن يتصرف فيه من شئون الأمة بالإمامة والفتيا والقضاء، وليس فيه ذكر لإلزام القضاة أن يحكموا بمذهب أو قول معين، لكن يمكن أن يقال: إن هذه التصرفات لم تذكر على وجه الحصر بدليل ما تقدم في البحث من قول بعض العلماء بإلزام القضاة بذلك، وقد سبقت أدلته مع المناقشة.
ويمكن أن يقال أيضا: إنه وإن لم يذكر صريحا لكنه شبيه بما ذكر في البناء على رعاية مصلحة الأمة والمحافظة على الشريعة واستمرار الحكم بها، أو يقال: إنه مندرج تحت تصرف الإمام بالإلزام بأمر من أمرين أو أمور للأمة فيها الخيار؛ رعاية للمصلحة، ومنعا للفوضى، فإن التقليد في المسائل الفقهية غالب على أهل زماننا، والمقلد مخير في من يتبعه من الأئمة المجتهدين، وعليه لا يأتي الإلزام لمن كان مجتهدا ولو في المذهب.
هذا ما تيسر جمعه وإعداده مع الاجتزاء ببعض النقول عن بعض لكونه في معناه، والى أصحاب الفضيلة أعضاء هيئة كبار العلماء النظر وترجيح ما يرونه.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
…
عضو
…
نائب الرئيس
…
الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع
…
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان
…
عبد الرزاق عفيفي
…
إبراهيم بن محمد آل الشيخ