الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاسعاً: لزوم الرفق، ومجانبة الغلظة والعنف:
سواء في الدعوة، أو الرد، أو النقد، أو الإصلاح، أو المحاورة؛ فإن استعمال الرفق، ولين الخطاب ومجانبة العنف - يتألف النفوس الناشزة، ويدنيها من الرشد، ويرغبها في الإصغاء للحجة.
ويتأكد هذا الأدب في مثل هذه الأحوال العصيبة التي نحتاج فيها إلى تلك المعاني التي تنهض بالأمة، وتشد من أزر الدعوة.
ولقد كان ذلك دأب الأنبياء، قال -تعالى- في خطاب هارون وموسى عليهما السلام {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43-44] .
ولقَّن موسى عليه السلام من القول اللين أحسنَ ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال -تعالى-:{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18-19] .
قال ابن القيم رحمه الله: وتأمل امتثال موسى لما أُمِر به كيف قال لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18-19] .
فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مَخْرجَ الأمر، وقال:{إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ولم يقل: (إلى أن أزكيك) .
فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكِّي دون غيره؛ لما فيه من البركة، والخير، والنماء.
ثم قال: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك.
وقال: {إِلَى رَبِّكَ} استدعاءً لإيمانه بربه الذي خلقه، ورزقه، ورباه بنعمه صغيراً وكبيراً (1) ولهذا فإن الكلمة التي تُلقى أو تحرر في أدب، وسعة صدر، تسيغها القلوب، وتهش لها النفوس، وترتاح لها الأسماع.
ولقد امتن ربنا -جل وعلا- على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن جبله على الرفق ومحبة الرفق، وأن جنبه الغلظة، والفظاظة، فقال عز وجل:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] .
ولقد كانت سيرته عليه الصلاة والسلام حافلةً بهذا الخلق الكريم الذي مَنْ مَلَكَه بسط سلطانه على القلوب.
وكما كان عليه الصلاة والسلام متمثلاً هذا الخلق فقد كان يأمر به، ويبين فضله.
(1) بدائع الفوائد لابن القيم 3 / 132-133
قال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على غيره» (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (2) ولما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن قال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» (3)
قال الإمام أحمد رحمه الله: يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب؛ فيكون يريد ينتصر لنفسه (4) ولقد أحسن من قال:
لو سار ألفُ مَدَجَّجٍ في حاجة
…
*** لم يَقْضِها إلا الذي يترفق
(5)
.
وكان يقال: " من لانت كلمته وجبت محبته "(6)
وخلاصة القول أن الرفق هو الأصل، وهو الأجدى، والأنفع، وأن الشدة لا تصلح من كل أحد، ولا تليق مع كل أحد، فقد تلائم إذا صدرت من ذي قدر كبير في سن، أو علم وكانت في حدود الحكمة، واللباقة، واللياقة.
أما إذا صدرت ممن ليس له قدر في سن، أو علم، أو كانت في غير موضعها، وتوجهت إلى ذي قدر أو جاه-فإنها -أعني الشدة- تضر أكثر مما تنفع، وتفسد أكثر من أن تصلح.
(1) رواه مسلم (2593) .
(2)
رواه مسلم (2594) .
(3)
رواه البخاري (6124) ، ومسلم (1733) .
(4)
جامع العلوم والحكم 2 / 456.
(5)
روضة العقلاء ص 216
(6)
البيان والتبيين للجاحظ 2 / 174