الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحادي والعشرون: ترسيخ الفهم الصحيح للإيمان بالقدر والتوكل على الله عز وجل
-:
فالإيمان بالقدر يحمل على التسليم لله، والرضا بحكمه، والقيام بالأسباب المشروعة، لا على القعود، والإخلاد إلى الأرض؛ فهناك من يترك الأخذ بالأسباب، بحجة أنه متوكل على الله، مؤمن بقضائه وقدره، وأنه لا يقع في ملكه شيء إلا بمشيئته.
وذلك كحال بعض الذين يرون أن ترك الأخذ بالأسباب أعلى مقامات التوكل.
فهذا الأمر مما عمت به البلوى، واشتدت به المحنة، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى الأمة.
فأمة الإسلام مرت بأزمات كثيرة، وفترات عسيرة، وكانت تخرج منها بالتفكير المستنير، والنظرة الثاقبة، والتصور الصحيح، فتبحث في الأسباب والمسببات، وتنظر في العواقب والمقدمات، ثم بعد ذلك تأخذ بالأسباب، وتلج البيوت من الأبواب، فتجتاز - بأمر الله - تلك الأزمات، وتخرج من تلك النكبات، فتعود لها عزتها، ويرجع لها سالف مجدها.
هكذا كانت أمة الإسلام في عصورها الزاهية.
أما في هذه العصور المتأخرة التي غشت فيها غواشي الجهل، وعصفت فيها أعاصير الإلحاد والتغريب، وشاعت فيها البدع والضلالات - فقد اختلط هذا الأمر على كثير من المسلمين؛ فجعلوا من الإيمان بالقضاء والقدر تكأةً للإخلاد إلى الأرض، ومسوغاً لترك الحزم والجد والتفكير في معالي الأمور، وسبل العزة والفلاح، فآثروا ركوب السهل الوطيء الوبيء على ركوب الصعب الأشق المريء.
فكان المخرج لهم أن يتكل المرء على القدر، وأن الله هو الفعَّال لما يريد، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأه لم يكن؛ فلتمضِ إرادتُه، ولتكن مشيئته، وليجرِ قضاؤه وقدره، فلا حول لنا ولا طول، ولا يدَ لنا في ذلك كله.
هكذا بكل يسر وسهولة، استسلام للأقدار دون منازعة لها في فعل الأسباب المشروعة والمباحة؛ فلا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، ولا حرص على نشر العلم ورفع الجهل، ولا محاربة للأفكار الهدامة والمبادئ المضللة، كل ذلك بحجة أن الله شاء ذلك!
والحقيقة أن هذه مصيبة كبرى، وضلالة عظمى، أدت بالأمة إلى هوة سحيقة من التخلف والانحطاط، وسبَبَّت لها تسلط الأعداء، وجرَّت عليها ويلات إثر ويلات.
وإلا فالأخذ بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إنه من تمامه؛ فالله عز وجل أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أمرنا بالقيام به، فقد أراد منا حمل الدعوة إلى الكفار وإن كان يعلم أنهم لن يؤمنوا، وأراد منا أن نكون أمة واحدة وإن كان يعلم أننا سنتفرق ونختلف، وأراد منا أن نكون أشداء على الكفار رحماء بيننا، وإن كان يعلم أن بأسنا سيكون بيننا شديداً وهكذا
…
فالخلط بين ما أريد بنا، وما أريد منا، وبين الأمر الكوني القدري، والشرعي الديني هو الذي يُلبِس الأمر، ويوقع في المحذور.
ثم لا ريب أن الله عز وجل هو الفعال لما يريد، الخالق لكل شيء، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي له مقاليد السماوات والأرض.
ولكنه تبارك وتعالى جعل لهذا الكون نواميس يسير عليها؛ وقوانين ينتظم بها، وإن كان هو عز وجل قادراً على خرق هذه النواميس وتلك القوانين، وإن كان - أيضاً - لا يخرقها لكل أحد.
فالإيمان بأن الله قادر على نصر المؤمنين على الكافرين - لا يعني أنه سينصر المؤمنين وهم قاعدون عن الأخذ بالأسباب؛ لأن النصر بدون الأخذ بالأسباب مستحيل، وقدرة الله لا تتعلق بالمستحيل، ولأنه منافٍ لحكمةِ الله، وقُدْرَتُه-عز وجل متعلقةٌ بحكمته.
فكون الله قادراً على الشيء، لا يعني أن الفرد أو الجماعة أو الأمة قادرةٌ عليه؛ فقدرة الله صفة خاصة به، وقدرة العبد صفة خاصة به، فالخلط بين قدرة الله والإيمان بها، وقدرة العبد وقيامه بما أمره الله به- هو الذي يحمل على القعود، وهو الذي يخدر الأمم والشعوب (1) .
وهذا ما لاحظه وألمح إليه أحد المستشرقين الألمان وهو باول شمتز، فقال وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم المتأخرة:(طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله، والرضا بقضائه وقدره، والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار، وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان؛ ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحروب، وحققت نصراً متواصلاً؛ لأنها دفعت في الجندي روح الفداء، وفي العصور المتأخرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي، فقذف به إلى الانحدار، وعزله وطواه عن تيار الأحداث العالمية)(2) .
(1) تفاصيل ذلك في كتاب (الإيمان بالقضاء والقدر) للكاتب
(2)
الإسلام قوة الغد العالمية، باول شمتز ص90