الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادس عشر: ألا يحرص المسلم على إبداء رأيه في كل أمر، وألا يقول كل ما يعلم:
فاللائق بالعاقل أن ينظر في العواقب، وأن يراعي المصالح؛ فلا يحسن به أن يبدي رأيه في كل صغيرة وكبيرة، ولا يلزمه أن يتكلم بكل نازلة؛ لأنه ربما لم يتصور الأمر كما ينبغي، وربما أخطأ التقدير، وجانب الصواب، بل ليس من الحكمة أن يبدي الإنسان رأيه في كل ما يعلم حتى ولو كان متأنياً في حكمه، مصيباً في رأيه؛ فما كل رأي يُجهر به، ولا كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يصلح للقول يصلح أن يقال عند كل أحد، أو في كل مكان أو مناسبة.
بل الحكمة تقتضي أن يحتفظ الإنسان بآرائه إلا إذا استدعى المقام ذلك، واقتضته الحكمة والمصلحة، وكان المكان ملائماً، والمخاطبون يعقلون ما يقال.
وإذا رأى أن يبدي ما عنده فليكن بتعقل، وروية، ورصانة، وركانة.
وزِن الكلام إذا نطقت فإنما
…
يبدي عيوب ذوي العقول المنطقُ
قال أحد الحكماء: إن لابتداء الكلام فتنةً تروق وجدَّةً تعجب؛ فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس- فليعدِ النظر، وليكن فرحُه بإحسانه مساوياً لغمِّه بإساءته. (1)
(1) زهر الآدب للحصري القيرواني 1 / 154.
وقال ابن حبان رحمه الله: الرافق لا يكاد يُسْبَق كما أن العَجِل لا يكاد يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم.
والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويَحْمد قبل أن يُجَرِّب، ويَذُّم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم.
والعَجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلةَ أمَّ الندامات". (1)
وذكر بسنده عن عمر بن حبيب قال: "كان يقال: لا يوجد العجول محموداً، ولا الغضوب مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريم حسوداً، ولا الشَّرِه غنياً، ولا الملول ذا إخوان. (2) .
وقال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: ما اعتمد أحدٌ أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت؛ فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم؛ ولهذا أمر بالمشاورة؛ لأن الإنسان بالتثبت يفتكر؛ فتعرِض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور.
وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.
وأشد الناس تفريطاً من عمل بما ورده في واقعة من غير تثبت واستشارة؛ خصوصاً فيما يوجب الغضب؛ فإنه طلب الهلاك أو الندم العظيم (3) .
(1) روضة العقلاء ص216
(2)
روضة العقلاء ص 217
(3)
صيد الخاطر ص605.
وقال: " فالله الله! التثبت التثبت في كل الأمور، والنظر في عواقبها؛ خصوصاً الغضب المثير للخصومة "(1) وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى -: وقد جاء في حديث مرسل: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» .
فبكمال العقل والصبر تُدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة، والله المستعان (2) .
ثم إن التثبت والتأني، والنظر في العواقب من سمات أهل العلم والعقل، ولا يستغني عنها أحد مهما كان، ولا يكفي مجرد علم الإنسان، بل لا بد له -مع العلم- من هذه الأمور.
وإليك هذه الكلمة الحكيمة الرائعة التي رقمتها يراعة العلامة الشيخ محمود شاكر - رحمه الله تعالى - والتي تعبر عن كثير مما مضى ذكره، قال: "رُبَّ رجلٍ واسعِ العلم، بحرٍ لا يزاحم، وهو على ذلك قصير العقل مضلَّل الغاية، وإنما يَعْرِض له ذلك من قبل جرأته على ما ليس له فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصراره إصرار الكبرياء التي تأبى أن تعقل.
(1) صيد الخاطر 625.
(2)
إغاثة اللهفان ص537
وإن أحدنا لَيقْدِم على ما يحسن، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجب عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدم عليه؛ فينقضه نقض الغزل.
ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحمل صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزه، ثم لا يلبث أن يفسده طول التمادي في إعجابه بما يحسن من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرؤى فيما لا يحسن، ثم لا تزال تغيره عادة الإعجاب بنفسه حتى ينزل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يصر، ثم يغالي، ثم يعنف، ثم يستكبر، ثم إذا هو عند الناس قصير الرأي والعقل على فضله وعلمه (1) .
ولقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يراعون هذا الأدب الحكيم؛ فما كانوا يتكلمون في كل شيء، بل كانوا يراعون المكان، والزمان، والحال، ويراعون العقول، والأفهام، ومراميَ الكلام.
(1) مجلة الرسالة عدد 562 إبريل 1944، وانظر جمهرة مقالات محمود شاكر 1 / 258 إعداد د. عادل سليمان جمال.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، منها ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أُقْرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجة حجها إذ رجع إليَّ عبد الرحمن رضي الله عنه فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر رضي الله عنه لقد بايعت فلاناً؛ فوالله ما كانت بيعة أبي بكر رضي الله عنه إلا فلتة، فتمت، فغضب عمر رضي الله عنه ثم قال: إني -إن شاء الله- لقائمٌ العشيةَ في الناس، فمحذِّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم،
قال عبد الرحمن رضي الله عنه: فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رَعاعَ الناس وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قُرْبك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كل مُطَيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها؛ فأَمْهِلْ حتى تَقْدُمَ المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة فَتَخْلُصَ بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها. فقال عمر رضي الله عنه:أما والله-إن شاء الله-لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة الحديث. (1)
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! (2)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة (3)
(1) البخاري (6830) .
(2)
أخرجه البخاري (127) .
(3)
أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (5) .