المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السنة الثامنة والسبعون وستمائة - ذيل مرآة الزمان - جـ ٤

[اليونيني، أبو الفتح]

الفصل: ‌السنة الثامنة والسبعون وستمائة

//بسم الله الرحمن الرحيم

‌السنة الثامنة والسبعون وستمائة

استهلت هذه السنة يوم الأحد، والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية والملك السعيد بدمشق ففي شهر المحرم منها ترتب بدمشق حاكم مالكي المذهب بعد خلوها منه مدة، فإن الشيخ زين الدين الزواوي رحمه الله كان يباشر الاحكام بها ثم استعفى فأعفى.

وفي العشر الأوسط من ربيع الأول وقع بين المماليك الخاصكية الملازمين بخدمة السعيد عن تلاقي ذلك، وخرج عن طاعته سيف الدين كوكندك الظاهري نائب السلطنة بالمماليك، ومقدم العساكر مغاضباً له،

ص: 1

ومعه أربعمائة من الظاهرية، منهم جماعة كثيرة أمراء مشهورين بالشجاعة ونزلوا بمنزلة القطيفة في نظرة العساكر التي ببلاد سيس.

ففي العشر الآخر منه عادت العساكر إلى جهة دمشق من بلاد سيس، فنزلوا بمرج عذراء إلى القصير، وكان قد اتصل بهم سيف الدين كوكندك ومن معه ولم يدخل العسكر دمشق، وأرسلوا إلى الملك السعيد في معنى الخلف الذي حصل، وكان كوكندك مائلاً إلى البيسرى، ولما اجتمع بالأمير سيف الدين قلاوون الالفي، والأمير بدر الدين بيسرى، والأمراء الكبار، وأوحى إليهم ما غلت صدورهم، وخوفهم من الخاصكية، وعرفهم أن نيتهم له غير جميلة، وأن الملك السعيد موافق لهم على ذلك، وكثر من القول المختلق بما يعديهم وينفرهم، وكان من جملة ما اقترح الأمراء الكبار على الملك السعيد إبعاد الخاصكية عنه وتفرقهم، وأن لايكون لهم في الدولة والتدبير حديث، بل يكون على ذلك أخيارهم ووظائفهم مقيمين فلم يجب الملك السعيد إلى ذلك، ولا اقدر عليه، اتوه شوكتهم، واجتماع كلمتهم. فرحل العسكر من مرج عذراء إلى ذيل عقبة سحوراء بأسرهم، ولم يعبروا على المدينة، بل جعلوا طريقهم من المرج، وأقاموا بهذه المنزلة ثلاثة أيام، والرسل تتردد إليهم، وبينهم وبين الملك السعيد؛ ثم رحلوا من هناك، ونزلوا بمرج الصفر، وعند رحيلهم رجع الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بالشام، وأكثر عسكر دمشق، ودخلوا البلد من وقتهم في طاعة الملك السعيد. وفي رحيلهم إلى مرج الصفر سير الملك السعيد والدته

ص: 2

ابنة بركة خان في محفة، وفي خدمتها الأمير شمس الدين قرا سنقر الأشقر فإنه كان مقيماً عند الملك السعيد بدمشق، لم يتوجه إلى بلاد سيس، ولحقوا العسكر، فلما سمعوا بوصولها، خرج الأمراء الأكابر المقدمون لملتقاها، وقبلوا الأرض أمام المحفة وبسطوا العتابى وغيره تحت حوافر البغال كما جرت العادة، فلما استقرت بالمنزلة تحدثت معهم في الصلح، والانقياد، واجتماع الكلمة فذكروا ما بلغهم من تغريبة الملك السعيد فيهم، وموافقته الخاصكية على ما يرمونه من ابعادهم، وامساكهم وغير ذلك، فحلفت لهم على بطلان ما نقل إليهم من ذلك، وعدم صحته فاشترطوا شروطاً كثيرة ألزمت لهم بها، وعادت إلى ولدها، وعرفته الصورة، فمنعه من حوله من الخاصكية من الدخول تحت تلك الشروط، وقالوا له: ما القصد إلا إبعادنا عنك ليتمكنوا منك، وينزعوك من الملك فأبى قبول تلك الشروط، فرحل العسكر من مرج الصفر قاصداً إلى الديار المصرية، فخرج الملك السعيد بنفسه جريدة، وساق في طلب اللحاق بهم، ويلاقي الأمراء في معناهم إلى أن بلغ رأس الماء، فوجدهم قد عبروه وبعدوا، فعاد من يومه، ودخل قلعة دمشق في الليل، وذلك ليلة الخميس سلخ ربيع الأول.

وفي يوم الجمعة بعد الصلاة مستهل ربيع الآخر، خرج الملك السعيد بجميع من يخلف عنده من العساكر المصرية والشاميين إلى جهة الديار المصرية في طلب العساكر المتقدمة، وجهز والدته وخزانته إلى الكرك،

ص: 3

ووصل الملك السعيد بلبيس يوم الجمعة خامس عشرة فوجد العسكر المتقدم ذكره قد سبقه إلى القاهرة، فلما رحل من بلبيس بعد العصر من النهار المذكور فارقه الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بدمشق، وصحبته أكثر أمراء دمشق.

وفي ربيع الأول وربيع الآخر من هذه السنة جرى بين صاحب طرابلس وصاحب جبيل والداوية اختلاف، وأغار بعضهم على بلد بعض، وقتل بينهم جماعة كثيرة، وكذلك التتار اختلفوا، وقتل بينهم ما لا يحصى عدده إلا الله. وفي داخل البحر اختلفت الفرنج وقتل بينهم خلق كثير. واختلفوا في عكا، والكرج، وفي سائر الأطراف، واختلفوا في العراق واختلف العرب، والقبائل والفلاحون؛ وقتل بين هذه الطوائف خلق كثير. وأما الملك السعيد فوصل بمن معه إلى ظاهر قلعة الجبل، ونائبه بها وبالديار المصرية الأمير عز الدين ايبك الأفرم. وهو بالقلعة فوجد العساكر محدقة بها فحصل بينهم مقاتلة يسيرة، وكان الذين مع الملك السعيد جماعة قليلة بالنسبة إلى من في مقاتلته فحمل الأمير علم الدين سنجر الحلبي بدمشق، وشق الأطلاب، ودخل إلى قلعة الجبل بعد أن قتل الفريقين نفر يسير. فلما استقر بها، ورفع علمه عليها انضاف جميع من بقي ظاهر القلعة ممن كان معه اليهم، وأما الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بقي في المطر لم يدخل معه إلى القلعة، ولا انضاف إلى العسكر المباين له، وأحاطت العساكر بالقلعة، وضايقوها، وقطعوا الماء الذي يطلع إليها في المرارات عنها

ص: 4

ورجعوا إليها وجدوا في ذلك السعيد يخلى من كان يرجو نصره عنه، وتخاذل من بقي من الخاصكية، وأنه لا طاقة له بهم، وكان المشار إليه في هذه الأمور والمخاطب إنما هو الأمير سيف الدين قلاوون فجرت المراسلات بأنهم ينصبوا في السلطنة أخاه بدر الدين سلامش، ويعطون للملك السعيد وأخيه نجم الدين خضر الحلبي، الكرك، والشوبك، واعمالها فسير الأمير علم الدين سنجر الحلبي والمولى تاج الدين أحمد بن الأثير رحمهما الله تعالى إلى الأمير سيف الدين قلاوون وأعيان الأمراء ليستوثق منهم فحلفوا له على الوفاء بما التزموه. ونزل من قلعة الجبل يوم الأحد سابع عشر الشهر المذكور إلى دار العدل التي على باب القلعة. وكانت مركز الأمير سيف الدين قلاوون حال المضايقة للقلعة فلما نزل حضر أعيان الأمراء والقضاة والمفتيين وخلعوه من السلطنة، ورتبوا مكانه أخاه لأبيه بدر الدين سلامش ونعتوه بالملك العادل، وتقدير عمره يوم ذاك سبع سنين، وجعلوا اتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الالفي الصالحي، وهو حمو الملك السعيد، وحلف الأمراء، والعسكر له، ولأتابكه بعده في اليمين وضربت السكة أحد الوجهين باسم العادل، والآخر باسم اتابكه، وذكر الاتابك في الخطبة، ودعى له على المنابر، واستقر الأمر على هذه الصورة، وتصرف الاتابك في المملكة والعساكر، والخزائن، وعامله الأمراء، وجميع الجيش بما يعاملون به السلطان وعمل بخلع الملك السعيد مكتوب شرعي متصل باستفتاء، ووضع الأمراء خطوطهم، وشهادتهم فيه، وكتب فيه المفتيون، والقضاة، وجعلوا نسخاً

ص: 5

عدة وعوضوا الملك السعيد الكرك، وعملها، وأعطوا أخاه نجم الدين خضر الشوبك وعملها.

وفي ليلة الاثنين ثامن عشرة خرج الملك السعيد إلى بركة الحجاج ونزل بها متوجهاً إلى الكرك، ومعه جماعة من العسكر، صورة ترسيم مقدمهم سيف الدين بيدغان الركني ثم أعيد إلى القلعة نهار الاثنين لأمر أرادوه وقدروه، ثم توجه ليلة الثلاثاء إلى الكرك بمن معه فوصلوها يوم الاثنين خامس عشرين منه، ودخلوها، وتسلم أخوه الأمير نجم الدين خضر الشوبك وكان بيدغان، ومن معه قد فارقه من غزة، ورجع إلى الديار المصرية.

وأما الأمير شمس الدين سنقر الأشقر فإنه اجتمع بخشداشيته الاتابك سيف الدين قلاوون وصار في جملته. وأما الأمير عز الدين ايدمر فإنه وصل بمن معه إلى ظاهر دمشق يوم الأحد مستهل جمادى الأولى فخرج لملتقاهم من كان تخلف بدمشق من الأمراء والجند، والمقدم عليهم، والمشار إليه فيهم الأمير جمال الدين اقوش الشمسي فلما وصلوا إلى مصلى العيد بقصر حجاج، احتاط بالأمير عز الدين ايدمر الأمير جمال الدين الشمسي، والأمراء الذين معه، وأخذوه بينهم، وفصلوه عن العسكر الذي حضروا معه، ودخلوا به من باب الجابية، وحملوه إلى الدار المعروفة باستاد دار الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بقرب ماذنة فيروز، واستمروا عليه بها إلى آخر النهار ثم نقلوه إلى قلعة دمشق تحت الحوطة، واعتقلوه بها، وكان الملك السعيد لما خرج من قلعة دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية، سلمها إلى

ص: 6

الأمير علم الدين سنجر الدواداري، وجعله النائب عنه بالبلد وبها، فاستمر الحال على هذه الغاية، ولما اعتقلوه طلبوا التضييق عليه، فلم يوافق الأمير علم الدين على ذلك، ثم طلبوه منه فلم يسلمه إليهم، وقال: أنتم حبستموه بيد الاتابك وهو في حبسه لا أسلمه إلا بأمره ودفعهم بذلك.

وفي العشر الأوسط منه وصل إلى دمشق من الديار المصرية جمال الدين اقوش الباخلي، وشمس الدين سنقر حاالكجي، وعلى ايديهما نسخة الأيمان بالصورة التي استقر الحال عليها بمصر، وأحضروا الأمراء والجند والقضاة والعلماء وأكابر البلد للحلف، وكان مع القادمين من الديار المصرية نسخة بالمكتوب المتضمن خلع الملك السعيد وكتبه إلى الأمراء وغيرهم من الاتابك بصورة الحال فقرئ ذلك على الناس، وحلفوا واستمر التحليف أياماً.

وفي هذا الشهر عزل قضاة الديار المصرية الثلاثة دفعة واحدة، وهم تقي الدين محمد بن رزين، ونفيس الدين بن شكر المالكي، ومعز الدين الحنفي؛ وباشر الأحكام عوض تقي الدين القاضي صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز.

وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة صار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق نائب السلطنة بها وبأعمالها وما أضيف إليها من البلاد، ومعه جماعة من الأمراء والعسكر خرجوا في خدمته من القاهرة، فخرج الناس من الشام لتلقيه احتفالاً عظيماً وعاملوه قريباً من معاملة الملوك،

ص: 7

ونزل بدار السعادة، وكانت له بسطة عظيمة في الخزائن والقلاع والعساكر والأموال خلاف من تقدمه، وتقدم عند وصوله إلى الأمير علم الدين الدواداري بالنزول من القلعة فنزل إلى داره، وأقام بها مباشراً لتنفيذ الأشغال، وتدبير الأحوال، وشد الدواوين وبدار المملكة بأسرها عليه، وقرأ تقليد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بمقصورة الخطابة عقيب الفراغ من الجمعة، وحضروا أعيان الدولة، ولم يحضر هو قراءته.

وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رجب اجتمع الأمراء والأعيان بقلعة الجبل من الديار المصرية، وخلعوا الملك العادل بدر الدين سلامش بن الملك الظاهر من السلطنة ورتب عوضه اتابكه سيف الدين قلاوون الصالحي ونعت بالملك المنصور، وحلفوا له بأسرهم، ولم يكن لسلامش في مدة سلطنته غير الاسم وكان السبب في توليته أولاً تسكين ثورة الظاهرية، فإنهم كانوا معظم عسكر الديار المصرية، وأيضاً فكانت بعض القلاع في نواب الملك السعيد فأرادوا استنزالهم منها، فلما تم معظم المقصود خلعوه واستقل الملك المنصور بالسلطنة، ووصلت البرد إلى دمشق يوم الأحد سادس وعشرين منه، ومعهم نسخة يمين لتحليف الأمراء والجند وأرباب الدولة وأعيان الرعايا فأحضروا إلى دار السعادة بدمشق، وحلفوا، وقيل أن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر لم يحلف، ولم يرضه ما جرى.

وفي يوم الجمعة ثاني شعبان خطب الملك المنصور سيف الدين قلاوون

ص: 8

بجامع دمشق، وجوامع الشام بأسرها، خلا مواضع يسيرة جداً توقفوا ثم خطبوا بعد ذلك، وكان الكتاب الوارد من الملك المنصور على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بخط المولى تاج الدين أحمد بن الأثير رحمه الله وفيه:" لا زالت أيامه عجابها. تهتنى وترى من النصر ما كانت تتمنى. ويتأمل آثارها. فيملأها حسناً. ويشاهد من أمائر الظفر ما يوسع العباد أمناً. ويستزيد الحمد على ما وهب من الملك الذي أولى كلاً منا مناً. المملوك يهدي من لطيف أنبائه، ووظائف دعائه. وما استقر من عوارف الله لديه. وما جناه من النعم التي ملأت يديه ما يستروح به، ويستفتح لسان الحمد بتقديمه، ويزداد به مسرة نفسه ابتهاجاً وتزدان به عقود السعود، وإنما تزين انسلاك في العقود ازدواجها، ويقوى به قوى الغرائم وبمثله الأعدء في أوكارها. فيكاد يتجرد ذيول الهزائم. وتبعث الآمال على تمسكها بالنصر، ويظهر منه المحاب التي لو قصدت الأقلام بحصرها، لعجزت عن الحصر، وهو أن العلم الكريم قد أحاط بالصورة التي استقرت من دخول الناس في طاعة المملوك، واجتماع الكلمة عليه، واستقلاله بأمر السلطنة المعظمة ".

ولما كان يوم السبت الثالث من شعبان المبارك سنة ثمان وسبعين وستمائة ركب المملوك بشعار السلطنة وأبهة المملكة، وسلك المجالس العالية والأمراء الأكابر، والمقدمون، والمفاردة والعساكر المنصورة من آداب الخدمة، واخلاص النية، وحسن الطاعة كل ما دل على انتظام الأمر واتساق عقد النصر، ولما قضينا من أمر الركوب وطراً وأنجزنا

ص: 9

الأولياء وعداً من السعادة منتظراً، عدنا إلى قلعة الجبل المحروسة والأيدي بالأدعية الصالحة لنا مرتفعة، والقلوب على محبة أيامنا محترمة، والآمال قد توسعت بالعدل واستمراره، والأبصار قد استشرق من التأييد مطلع أنواره، وشرعنا من الآن في أسباب الجهاد، وأخذنا في كل ما يؤذن ان شاء الله تعالى بفتح ما في أيدي العدو من البلاد، ولم يبق إلا أن نثنى الأعنة ونسدد الأسنة. ونظهر ما في النفوس من مضمرات المقاصد المسكنة، والمولى أدام الله نصرته يأخذ بحظه من هذه المسرة، وهذه المواهب التي ظهرت منها خفايا الاقبال المستسرة، ويتقدم بأن يزين دمشق المحروسة، ويضرب البشائر في البلاد. وأن يسمعها كل حاضر وباد. والله يجعل أوقاته بالتهاني مفتتحة، وبشكر مساعيه التي ما زالت في كل موقف ممتدحة إن شاء الله تعالى.

وفي السادس والعشرين من شهر رمضان عزل الصاحب برهان الدين السنجاري عن الوزارة بالديار المصرية، ولزم مدرسة أخيه قاضي القضاة بدر الدين بالقرافة الصغرى، ورتب مكانه في الوزارة الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الانشاء الشريف.

وفي يوم الخميس حادي عشر ذى القعدة توفي بالكرك الملك السعيد رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى.

وفي يوم الثلاثاء سادس عشرة حمل الأمير عز الدين ايدمر الظاهري

ص: 10

من قلعة دمشق في محفة إلى الديار المصرية لمرض لحقه في أطرافه منعه من الركوب بمرسوم ورد من هناك، وعند وصوله إلى الديار المصرية اعتقل بقلعة الجبل بالديار المصرية، وحضره الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وهو لابس البياض، وحضرت القضاة والعلماء وأرباب الدولة والوعاظ والمقربون على ما جرت العادة.

وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين ركب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من دار السعادة بدمشق بعد صلاة العصر، ومعه جماعة من الأمراء والجند، وهم رجالة وهو راكب وحده، وقصد القلعة من الباب الذي يلي المدينة فهجمها بمن كان معه راكباً، وجلس بها من ساعته، فحلف الأمراء والجند ومن حضر وتسلطن، ولقب بالملك الكامل. وفي آخر النهار المذكور نادت المنادية بالمدينة بسلطنته واستقلاله. وفي بكرة السبت خامس وعشرين منه طلب القضاة والعلماء ورؤساء البلد واكابره واعيانه إلى مسجدأبى الدرداء رضى الله عنه بقلعة دمشق، وحلف بقية الأمراء والعسكر.

وفي يوم الأربعاء سبع وعشرين منه توجهت العساكر إلى غزة لحفظ البلاد ومنعها، ودفع من يتطرق إليها من الديار المصرية.

وفي هذه السنة جدد في قبة النسر بجامع دمشق خمسة أضلاع من الجهة الغربية بشمال.

وفيها تسلم نواب الملك المنصور سيف الدين قلاوون قلعة الشوبك من أربابها بالأمان، وهدموها، وذلك بعد أن حاصروها مدة، وكان

ص: 11

انتقل منها الأمير نجم الدين خضر إلى عند أخيه الملك السعيد إلى حصن الكرك قبل منازلة على الملك المنصور لها من حين أحس بقصدهم بها ولم يحصن نفسه فيها.

وفيها توفى أحمد بن سلامة بن إبراهيم أبو العباس الحنبلي، وكان شيخاً صالحاً سمع الكثير، واسمع وروى بالاجازه من اصحاب الحداد وحدث بالكثير عن الكندي وغيره، واضر في آخر عمره، وكانت وفاته في عاشر المحرم، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.

إسحاق بن إبراهيم بن يحيى صفي الدين الشقراوي الحنبلي الفقيه المحدث. مولده بشقراء من ضياع برزاء من عمل دمشق سنة خمس وست مائة، وتوفى بدمشق يوم السبت تاسع عشر ذى الحجة، ودفن بسفح قاسيون، وكان عالماً فاضلاً دمث الأخلاق عنده كرم وسعة صدر، وقوة نفس، سمع الكثير وحدث، وكان ثقة رحمه الله تعالى.

اقوش بن عبد الله جمال الدين الركني المعروف بالبطاج. أحد أمراء دمشق، كان جرد مع العساكر إلى بلاد سيس، فتوجه صحبتهم، فلما عاد تمرض وتوفي بحلب يوم السبت ثامن عشر ربيع الأول، ونقل إلى حمص، فدفن بظاهرها بالقرب من قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو في عشر الخمسين سنة من العمر رحمة الله عليه. والركني نسبة إلى الأمير الكبير الذي لقى الفرنج بأرض غزة، وكسرهم الكسرة المشهورة، وكان من أعيان الأمراء، وله عدة مماليك يعرفون به، منهم الأمير عز الدين أبغان المعروف

ص: 12

بسم الموت، وعلاء الدين الركني الذي أضر في آخر عمره صاحب العمائر المشهورة بالقدس والخليل والحجاز الشريف وغيره رحمه الله تعالى.

اقوش بن عبد الله جمال الدين الشهابي السلحدار. أحد أمراء دمشق الأعيان كان صحبة العسكر بسيس، فتمرض وانقطع بحماة، فتوفي بها في تاسع وعشرين ربيع الآخر، ونقل إلى دمشق، ودفن عند خشداشه علاء الدين ايدكين الشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الخادم الكبير الصالحي النجمي.

بلبان بن عبد الله الأمير ناصر الدين النوفلي العزيزي. أحد أمراء دمشق، كان من أعيان العزيزية، وافر الديانة، كثير البر والخير، عنده حشمة ورياسة، ولين جانب، وحسن عشرة، وتواضع، ومحبة في الفقراء والعلماء، وكان صحبة العساكر بسيس، فلما عاد إلى حلب، تمرض، وتوفي إلى رحمة الله تعالى بها يوم الجمعة رابع وعشرين ربيع الأول وعمره خمس وستون سنة رحمه الله. والعزيزي نسبة إلى الملك العزيز بن الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الكبير رحمهم الله تعالى.

حبق بن صون بن إيل الأمير جمال الدين. أحد أمراء دمشق، وتوفي بها ليلة الأحد سادس جمادى الآخرة، ودفن من الغد، وعمره مقدار خمسين سنة رحمه الله. ويقال أنه من أولاد صول التركي ملك جرجان الذي أسلم على يد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة لما حاصره بها، وأخذ بها منه، والله أعلم.

عبد السلام بن أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين

ص: 13

أبو محمد عز الدين الأنصاري المقدسي المولد، المصري الدار والوفاة، الواعظ المشهور. كان شاباً فاضلاً عالماً، اشتغل أول عمره بالكتاب العزيز، ثم بالعلم، فحصلت له مشاركة جيدة، ثم بعد ذلك لازم كلام جده الشيخ غانم رحمه الله فانتفع به، وكان مبدأ شروعه في الواعظ أنه طلب منه مجلس تذكير في حال الخلوة ابن عمه أبو الحسن في حياة عمه الشيخ عبد الله فأطربه، وبلغ الشيخ عبد القادر ذلك فطلبه إليه، وسأله الجلوس، فجلس واشتهر وقصد لسماع كلامه لا عن قصد منه، ثم توجه إلى الديار المصرية، فطلب منه الجلوس بها فجلس وحصل له قبول، فأقام بالقاهرة، وبنى له زاوية وبالغ جماعة في الناس في الاحسان إليه، فأقام بالديار المصرية على كره لفراق والده وأهله، وعقد بها مجالس، وفتح عليه في ذلك، قيل: إنه كان يعمل خطب المواعيد ارتجالاً، ولا يثبت شيئاً يقوله، وكان يتردد إلى القدس لزيارة والده وأهله، ويتردد من القدس إلى دمشق فيجلس بها في الجامع الأموي، ويحضر مجلسه جماعة من العلماء والفضلاء والزهاد وغيرهم، ويستحسنون كلامه، وينتفعون به، وعمل بدمشق مجلساً في حدود السبعين والستمائة فارتجل فيه خطبة، أولها:

" الحمد لله الذي ملأ الوجود جوداً وإحساناً. وأسبغ على كل موجود من سوابغ نعمه سراً وإعلاناً. وجعل السجود لقربان حضرته قرباناً. وأوفر القلوب بتحقيق شهوده اتقاناً. نور بصائر أوليائه، فشاهدوه بعين اليقين عياناً. كلما جليت عليهم صفاته، هاموا إليها ولهاناً. وإذا تليت عليهم آياته زادتهم

ص: 14

إيماناً. زفت عليهم عروس محبته، فجعلوا النفوس عليها سكراناً. واستبدلوا من الملبوس أشجاناً وأحزاناً. ونثروا الدموع على الخدود فسالت غدرانها.

فلما وثقوا العقود وحفظوا العهود، أعطوا من الصدود أماناً. فلو رأيتهم وقد جن عليهم الليل، لحسبتهم في ثياب الخشوع رهباناً. وفي مصابرة الولوع فرساناً. صفوا على سرير الصفا إخواناً. لا تجد فيهم خواناً. وأصبحوا في خلوة الوفاء ندماناً. لا تعرف فيهم ندماناً. نصبوا للنصب أشباحهم، ورفعوا للرعب نواحهم. وخفضوا من الرهب جباهم، وفيهم نائح باك، وصائح شاك. يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً. قد تجلى لهم الجليل، ونادى يا جبريل! أنم فلاناً وأقم فلانا.

وقل يا طالبي وصلى هلموا

فإنا لا نخيب من أتانا

حمانا للذي نهواه رحيب

إذا ما جاءنا يبغي لقانا

يراق له شراب من وصال

يمازجه رضاب من رضانا

هوانا للذي نهوى نعيماً

فلا كان الذي يهوى سوانا

فلو كشفت الحجاب لعاشقينا

وأيدينا الجمال لهم عيانا

لهاموا عند رؤيتنا وطابوا

وطاشوا من تخلينا زمانا

ولكنا جعلنا الوصف سراً

نصون بسره حسناً مصانا

يا جبريل! أكحل بالنوم أجفان من جفانا. فإنا لا نرضى لهوانا. من رضى لنفسه هوانا. ولا يدخل إلى حمانا. إلا من وقف على أبوابنا زمانا. ولا يفوز

ص: 15

بلقانا. إلا من صرف وجهه تلقانا. فمن كان بالمحبة عنانا. أطلق في ميدان المحبة عنانا. ومن تفرد لهوانا. تجرد عمن سوانا. يا جبريل! ما ضر من فرقه الشوق ألوانا. إذا ما حشر تحت لوانا. ولا ضل من فتنة الوحد أفنانا. إذا ما انتهى إلى فنانا. يا جبريل! بعينا يعمل المتجملون سراً وإعلانا. وبسمعي ما لاقى المحبوب شيباً وشبانا. فمن بات بما قضيت له فرحانا. أهديت له روحاً وريحانا. ومن جعل قلبه لمحبتي ميدانا. ملأته عرفاً وعرفانا. ومن هجر في هواي أهلاً وأوطانا. أمنتهم عند لقائي صداً وهجرانا. ومن تحمل بالافتراق عصيانا. أنزلته بالاعتراف عفواً وغفرانا. ومن أبحته النظر إلى جمالي عيانا. فقد وجب الشكر عليه شكراً وسكرانا.

قم يا نديمي فإن الوقت قد حانا

واسمع إذا ما دخلت الخان ألحانا

فثم ساقي الحميا في خصيرته

يدنى إليك من الراووق نشوانا

واتلوا المثانى ووجدان عزمت

على ذكر الحبيب فحبي ذاك قرآنا

وادخل إذا ما دخلت الخان منفرداً

عن كل فرد وقف مسلوب عريانا

وسلم فؤادك للخمار مرتهماً

واخلع ذلوقك للندمان شكرانا

وقل لمن كاس هات الكأس مصطحباً

واسقني كي يراني الناس سكرانا

ان ظمآن لا الورى على عذل

نشوان ولهان ما بقيت حيرانا

وقل لمن لا منى في حبها غلطاً

قل ما تشاء فيها قد كان ما كانا

لو كنت تعرف ما أصبحت تنكره

من سرها فجعلت السر إعلانا

ص: 16

هي المدام التي في دنها قدمت

وعتقت فيه أحياناً وأزمانا

هي التي في دياجي ليلها جليت

في كأسها فاهتدى موسى بن عمرانا

هي التي جعلت نار الخليل له

نوراً وقد أخطأت نمرود كنعانا

صهباء لما دنت من قلب شاربها

ألفت أشعتها نوراً ونيرانا

ومن شعره:

سادتي لو وصلتم

مغرماً قد قطعتم

قلبه قد أذبتم

حبذا لو رحمتم

في يديكم قياده

فاحكموا قد ملكتم

أنا راض وحقكم

بالذي فيه تحكم

كيف لا أبتغي رضى

بالذي قد رضيتم

ما رضائي ومن أنا

أنتم الكل أنتم

إن يكن با أحبتي

بعذابي قضيتم

فعلى كل ما جاء في الحكم منكم

يا عذولي عليهم

حل مني ومنهم

يا صاحبي وجيرتي

سلموا الأمر تسلموا

وقال أيضاً أثناء كلامه في مجلس وعظ ارتجالاً:

يا عذولي سلم إلى قيادي

ثم دعني فما عليك رشادي

وفؤادي إذا لقيت فلمه

قل لي بالله أين فؤادي

لا تلمني إذا سكرت فحبي

قد سقاني صرفاً بكأس ودادي

ص: 17

وحبيبي مواعدي بوصال

فخماري من نشوة الميعاد

واستماعي لأمره إذ دعاني

ما استماعي لنغمة الانشاد

حبه راحتي وروحي وراحي

وكذا ذكره بلاغي وزادي

وإذا ما مرضت فهو طبيبي

كلما عادني بلغت مرادي

وإذا ما طلت أو طل ركب

عن حماه فوجهه لي هادي

يا عذولي فكن عليه عذيراً

أو افعل لي ما حيلتي واعتمادي

إن تلمني أو لا تلمني فإني

حبه مذهبي وأصل اعتقادي

وقدم مرة بدمشق، وبلغ قدومه قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله فكتب إليه:

لله در مبشري بقدومه

فلقد أتى بأطائب المسموع

لو كان يقنع بالخليع وهبته

قلباً يقطع ساعة التوديع

فأجابه رحمه الله بقوله:

حاشاك يا قاضي القضاة بأمرتي

حكماً تخالف سنة التشريع

أهل القضية إنني عبد لكم

والاصل لا ينفك بالتفريع

القلب يعمى كيف أملك رده

من بعد ما ملك الغرام جميعي

وقال أيضاً رحمه الله:

زودزني بنظرة

قبل يوم التفرق

هذه ساعة الفراق مهجتي

في مطاياك فارفقي

ص: 18

قف قليلاً على الحمى

يشتكي الصب ما لقي

أودعوا حين ودعوا

في فؤادي تحرقي

من جفاهم وصدهم

شاب رأسي ومفرقي

سادتي بالذي قضى

إن حظي هو الشقي

سامحوا في الذي مضى

وارفقوا بالذي بقي

فأنا المغرم الذي

دمعه في تدفق

يا عذولي فخلني

لست عندي بمشفق

إن تردد تعرف الهوى

ومعانيه فاعشق

وأجل في الكأس جمرة من شراب المعتق

بين ندمان حضره

كل من خانهم شقي

بات ساقي مدامهم

من محياه يستقي

وينادي عليهم

بأنك أماني من بقي

وحكى الشيخ شرف الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن سباع ابن ضياء الفزاري رحمه الله قال: حججت في سنة خمس وسبعين وست مائة، واجتمع في الحج من علماء الأقطار ابن العجيل من اليمن، وتقي الدين بن دقيق العيد من الديار المصرية، والشيخ تاج الدين الفزاري من الشام، وغيرهم، واجتمعوا في الحرم الشريف، وكان عز الدين عبد السلام المذكور قد حج من مصر، فجلس تجاه الكعبة المعظمة، وحضر أمير مكة

ص: 19

وغيره، فارتجل خطبة أولها:

" الحمد لله ذى القدرة التي لا تضاهى. والحكمة التي لا تتناهى. والقسمة لا يطيق خلق أن يتعداها. الذي تعزز في أزليته. فلا يعرف الأول أولها. تسرمد في أبديته، فلا يدرك الآخر أخراها. وتقدس في أحديته فلا تتحيل العقول خلاها. كيف تعرفه العقول، وقد عقلها عن بلوغ مناها. وكيف تنكره النفوس، وقد ألهمها فجورها وتقواها. وكيف يمثله الجهول، وقد أعجزه عن معرفة نفسه كيف سواها. وكيف يعطله العطول، وقد أغطش ليلها وأخرج ضحاها. من ذا الذي سمك السماء، وعلى غير عمد بناها. من ذا الذي دور أفلاكها، وفي قضاء بيد مشيئته مشاها. ومن ذا الذي سخر أفلاكها وفي حمى حمايته حماها. من ذا الذي قال للسماوات ائتينا طوعاً وكرها، فأتت طائعة حين دعاها. من ذا الذي يعلم خفايا الغيوب وما في طواياها. من ذا الذي يبصر طوايا القلوب وما في رؤياها. من ذا الذي يسمع أنه العليل إذا هو في علته أبداها. من ذا الذي ينقع غلة الغليل إذا اشتكت ظماها. من ذا الذي يرحم ذلة الذليل إذا الخطب الجليل وافاها. من ذا الذي يستر زلة الخاطي وغطاها. من ذا الذي يغفر زلة العاصي، وفي صحائف السيئات محاها. من ذا الذي تجلى على قلوب أوليائه، ومن دون الشك جلاها. ومن ذا الذي أدار كؤوس محبته على ندمان حضرته يستقاها. من ذا الذي جعل خليقته في قبضتين،

ص: 20

فهذه أسعدها وهذه أشقاها. من ذا الذي صورك. فأحسن صورك. وفتق سمعك، وخرق بصرك. ثم برحمته شملك. وعلى أكف رأفته حملك. وجعل عن يمينك ملك، وعن شمالك ملك، ينقلان عملك إلى من ملك. في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. انظر إلى الرياض، كيف أخباها. فاستخرج منها ماءها ومرعاها. وانظر إلى الغياض، كيف اهتزت رباها. إذ هو بلطيف حكمته رباها. انظر إلى الأرض، كيف دحاها. ونشرها من تحت هذه البقعة الشريفة بعد ما طواها. فسبحان من شرف هذه البنية واصطفاها. وجعلها حمى لمن حام حول حماها، وحرما امنا لمن وفى ما عليه حين وافاها. ووجهه لمن واجهها الجاها. وأراد عندها جاها. فهي التي هاجر منها الحبيب، ما هجرها ولا قلاها. وما انقلب قلبه سواها. حتى أنزل عليه جبريل في آيات تلاها:" قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها "

فول بوجهك الحسن المفدى

إليها حيث وجهت اتجاها

فإن ابك إبراهيم قدما

لأجل رضاك عنا قد بناها

وإسماعيل طاف بها ولبى

وطهرها لمشتاق أتاها

هي البلد الأمين وأنت حل

فطأها يا أمين فأنت طه

ولولا أنت حل في ذراها

لما شرفت ولا حميت حماها

فوجه حيث كنت لها وكبر

ولا تعدل إلى شيء سواها

ووجه الله قبلة كل قلب

لمن شهد الحقيقة واجتلاها

هذا البيت قبلة كل قلب

لمن شهد الحقيقة واجتلاها

هذا البيت بيت الله بشرى

لنفس فيه قد بلغت مناها

ص: 21

فهلل عند مشهد كفاحاً

وزمزم عند زمزمه سقاها

فيا حجاج بيت الله طوفوا

بكعبتها ولبوا في ذراها

فهذا الفخر إن حاولت فخراً

وهذا الجاه إن حاولت جاها

وسئل عن السماع فأجاب بكلام طويل ليس هذا موضع ذكره، ثم أنشد لنفسه يقول:

ان يسكن عارفاً بشرح غرامي

هات حدث عن سكرتي وهيامي

أو فقل لي إن كنت تعرف خمري

أين خمار خمرتي ومدامي

يا فقيها إن كنت تفقه قولي

هات قل لي ما سرد من كلامي

أنا اقرءيت بالمحبة حرفاً

معرباً معجماً على الأفهام

هو معنى ليس في كل معنى

بصلاة وقيام وصيام

هو سر وأنت عنه حجاب

فهو نور مستر بظلام

فانخلع عنك وانتزع منك تشهد

ثم معنى اعنى جميع الأنام

وتجرد عن الوجود وجاهد

كي تشاهد سرائر الأحكام

قل لعراعرى بتلذيذ حالي

ما لحالي من مشية ومقامي

قم فردد في الخان الحان ذكرى

فسماع الألحان غير حرام

واسقني من مدامة الحب صرفاً

تمح عني كبائر الآثام

واصطبح واغتبق بها وتهتك

وتمرد تيها على اللوام

وإذا قيل من أباحك هذا

قل بفتوى الفقير عبد السلام

ص: 22

وخطر له قبل موته فصل أنشأه وهو: " إلهي أنت قلت، وقولك الحق: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء. فأنت على لطفك دللتني. وفي جنب جودك أطعمتني. وإلى كرم حرمك أوصلتني. فقد حسن بك ظني. على ما كان مني. فحاشاك عن بوارد أوليائك تمنعني. وعن موارد نعمائك تدفعني. سيدي ان أقلعني تخليطي فعفوك ينهضني. وإن رماني تفريطي فجودك ينعشني. إلهي أنا في أسر نفسي، ولو شئت خلصتني. وفي حبس هواي، ولو شئت عتقتني. وفي رقدة غفلتي، ولو شئت أيقظتني. إلهي فهل لي منك توفيق يسعفني. وإلى طاعتك يعطفني. ومن هذه الأوزار ينقذني. إلهي أسألك رحمة تشملني. وأسبلك مغفرة تعتقني.

فخوفي منك يؤنسني

وظني فيك يطعمني

وديني عنك يقعدني

وسوء الفعل يقطعني

فلولا الفضل يعتقني

لكان العذل يحرقني

وحقك أن تعذبني

فعدلك ليس تظلمني

ولكني بتوحيدي

أرتجي منك ترحمني

إلهي إنك أمرتنا بالوصية عند حلول المنية. وقد تهجمت عليك، وجعلت وصيتي إليك. عند قدومي لديك. فأول ما يبدأ به من أمري إذا نزلت قبري وخلوت بوزري. وأسلمني أهلي أن تؤنس وحشتي. وتوسع حفرتي. وتلهمني جواب مسألتي. ثم تكتب علي منصوب نصيبي. في لوح صحيفتي

ص: 23

بقلم؛ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فإذا جمعت رفاتي وحشرتني يوم ميقاتي ونشرت صحيفة سيئاتي وحسناتي. انظر عملي فما كان من حسن فاصرفه في زمرة أوليائك وما كان من قبيح فمد به إلى ساحل عتقائك واغفره في بحر عفوك وغفرانك. ثم إذا وقف عبدك بين يديك، ولم يبق إلا افتقاره إليك، واعتماده عليك. فقس مني بين عفوك ودينه، وبين غناك وفقره. بين حلمك وجهله، وبين عزك وذله. ثم افعل فيه ما أنت أهله. فهذه وصيتي إليك. تطفلاً بفضلك عليك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأن الموت حق، وأن الحياة باطل، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور ".

وله رحمه الله تعالى:

يا من أناجيه في سري وفي علني

ومن أرجيه في بؤسي وفي حزني

أفردتني عن جميع الناس يا سكني

وأنت أنى إذا استوحشت من سكني

وأنت روحي إذا جردت عن بدني

وأنت راحة قلبي في تقلبه

وأنت غاية قصدي في تطلبه

من لي من مغيث أستغيث به

إذا تضايق أمر في تكربه

ومن أرجو إذا أدرجت في كفني

إذا ذكرتك زال الهم من فكري

وإن شهدتك عاد الكل عن نظري

وإن حضرتك لا ألوي على بشر

وإن مررت على شيء من السمر

فغير ذكرك لا يصغى له أذني

ص: 24

ما لي وحقك عن جدواك منصرف

ولا عناني إلى الأغيار منحرف

فامنى فإني بما قدمت معترف

فإن عطفت فكل الناس منعطف

وإن وصلت فكل الناس يسعدني

وبحق حبك ما قلبي بمنقلب

إلى سواك ولا حبلي بمنجذب

ولا أراك بدمع فيك منسكب

حتى أراك بطرف غير محتجب

في حضرة القدس لا في حضرة الدمن

وقال:

إن كان أطماع قلبي فيك قد قطعت

والعين عن حفظ ذاك العهد ما رجعت

وفي سواك فلا والله ما طمعت

والاذن ما سمعت والعين لا هجعت

حتى أرى بارقاً للوصل يؤنسني

توفي إلى رحمة الله تعالى ورضى عنه شهيداً، لأنه وقع من موضع مرتفع، فتوجع قليلاً، ومات يوم الأربعاء ثامن عشر شوال سنة ثمان وسبعين وست مائة بالقاهرة، ودفن بمقبرة باب النصر، ولم يبلغ الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى ورضي عنه وعن سلفه. ومن لطائفه:

أيا حادي العيس قف لي قليلا

أطيب النجيب وأندى العليلا

على جيرة أودعوا في الحشا

لهيباً يشب وحزناً طويلا

فيا ليتني يوم حد الرحيل

لزمت الركاب حقيراً ذليلا

فيا جيرة الحي نوحوا معي

فإن الخليل يواسي الخليلا

ويندب بكل شج شجوة

فحادي الرحيل ينادي الرحيلا

ص: 25

وقال أيضاً رضي الله تعالى عنه:

أأحبابنا إن جرتم أو هجرتم

وحقكم لا حل عقد ولا كم

ولا استحسنت عيني جمالاً رأيته

سواكم ولا سرت بغير لقاكم

قضيتم بوشك البين بيني وبينكم

فما حيلتي إلا الرضا بقضاكم

وإن مناي أن يدوم لي الصفا

وكان الجفا والهجر كل مناكم

ولي حرمة الجار القديم ومن له

لحاظ ومن والاكم واصطفاكم

والله لا أنسى وقد مر لي بكم

زمان رضي في ظلكم وحماكم

أتيه على الأكوان عجباً بحبكم

وأغدو وقلبي آمن من جفاكم

وما كان ظني أنني بعد صفوتي

أعد على حكم الهوى من عداكم

على شؤم بحتي كان عنوان شقوتي

صدودكم عني ومالي سواكم

وكان رضاكم في رضائي وسخطكم

علي فأهلا في الهوى برضاكم

وما حيلتي إلا وقوفي ببابكم

لعلكم إن تعطفوا وعساكم

أمد إلى إحسان حسنكم يدي

أرجي عن فقري بفضل غناكم

دعاني إليكم جودكم فأجبته

وعادتكم أن تجيروا من أتاكم

فإن تحرموني نظرة من جمالكم

فلا تحرموني عقبة من سراكم

وإني لآت أرضكم لا لحاجة

لعلي أراكم أو أرى من يراكم

ومن تصانيفه: تفسير القرآن العظيم مجلد. خطب مجلد، ديوان شعر مجلدان، مختصر الشفا للقاضي عياض مجلد، الأثمار والأطيار مجلد،

ص: 26

تفليس إبليس بما معه مجلد، شرح أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم مجلد، وعظ مجلدان، حل الكنوز مجلد، اعتذارات مجلد، مسائل في علم الطريق وأجوبة، ومجاميع مختلفة، وتفسير آيات كل آية بمجلس يتنبه عليها ولا يخرج عن حكمها في أول المجلس إلى آخر مجلد؛ وله غير ذلك مما أوقفه بزاوية مصر وكفى بالله حسيبا.

عبد الله بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه أبو بكر شرف الدين شيخ الشيوخ بن شيخ الشيوخ تاج الدين بن شيخ الشيوخ عماد الدين الجويني، وامه عالى النسب ابنة الامام عز الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن عبد الماجد القشيري. توفي الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله تعالى يوم الأحد ثامن شوال بجبل الصالحية. ودفن يوم الاثنين بسفح قاسيون بتربة الشيخ عبد الله البطائحي رحمة الله تعالى عليه، ومولده في المحرم سنة ثمان وست مائة. كان عنده فضيلة ورياضة، وحسن خلق ورياسة، وشرف نفس، ومعرفة بأخبار الناس والتواريخ، وعنده احتمال وصبر، وله نظم متوسط وإن لم يكن براكب، فمنه ما كتبه إلى أخيه سعد الدين مسعود:

أرى بك أفكاراً وأنت مروع

وسرك مشغول وقلبك موجع

فاشرك أخاك اليوم فيمن تحبه

من الأمر واعلم بأنه لك يطبع

ألم تسمع البيت الذي سار ذكره

وقيت الردى والخوف والهم أجمع

ولابد من شكوى إلى ذى حفيظة

يواسيك أو يسليك أو يتوجع

ص: 27

فأجابه سعد الدين:

سواك الذي ودي إليه مضيع

وغيرك في حسن الوفا يتضيع

ومثلك من يرجى لكل ملمة

ويدرأ عن قلبي الهموم ويدفع

وحقك لو أبديت ما أنا كاتم

لكان به صم الجبال تصدع

ولكنني رفهت سرك عالماً

بأنك فيما مسني تتوجع

وكتب شرف الدين في صدر كتاب إلى أخيه سعد الدين:

فهبكم تباعدتم وآثرتم الجفا

وملتم مع الواشي وما كان ذا ظني

فهلا حفظتم بعض ما كان بيننا

من الود وفيتم صروف الردى أنى

أحبكم لا أبتغي بدلاً بكم

فأنتم إلى قلبي ألذ من الأمن

وقال الشيخ شرف الدين في صنعة البساتين بدمشق، سنة ست وستين وست مائة:

قالت الأشجار يا قوم اسمعوا

فكلامي كله صدق وحق

خلفنا أعد منا أحبابنا

من غصون وثمار وورق

إنما الناس مع السلطان في

كل ما يأمر أمراً تحت رق

فاجتهد يا صاحبي واسمع وطع

فمتى خالفت يوماً تحترق

عبد الله بن محمد بن علي بن كرب أبو محمد زين الدين القرشي الزبيري الحنفي. كان إماماً عالماً فاضلاً محدثاً، سمع من الافتخار الهاشمي وغيره، ومولده في يوم الثلاثاء ثالث ذى الحجة سنة ثلاث وست مائة بدمشق، وتوفى يوم الأربعاء رابع شوال، ودفن بباب الفراديس رحمه الله تعالى.

ص: 28

عبد الله بن محمد أبو الصلاح محيي الدين قاضي قضاة مصر ويعرف بابن عين الدولة الصفراوي الاسكندراني الأصل المصري الشافعي. باشر الحكم بمدينة مصر الوجه القبلي عقيب وفاة قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز رحمه الله مدة سنين، ولحقه الفالج وأقعد وعجز عن الكتابة، وأقام على هذا الحال مستمراً في الأحكام نحو خمس سنين، وكاتب الحكم يعلم عنه، ثم عزل في سنة ست وسبعين، فأقام بطالاً في بيته إلى حين توفي في احدى الجمادين، ودفن بالقرافة الصغرى، ومولده في سنة سبع وتسعين وخمس مائة. وكان عنده فضيلة ورياسة، ولطف أخلاق، وديانة كبيرة، وحسن مجالسة ومكارم. ووالده قاضي القضاة شرف الدين المشهور بالديانة والصلابة في الأحكام وتحرى الحق، ومعناه الذائد والنوادر الحسنة. قال له بعض العدول وهو في بيت قليل الهواء كثير البق، وهو البرغش، ويسمونه الناموس ما أقل الهواء في هذا البيت وأكثر الناموس فقال: هكذا ينبغي أن تكون مجالس الأحكام. ودخلت إليه امرأة في محاكمة فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: ست من يراها، فوضع كمه على عينيه وكان ينشد، وقد بلغ ثمانين سنة:

إن الثمانين وبلغتها

ما احوجت سمعي إلى ترجمان

الرواية إنما هي احوجت وإنما قال ذلك لئلا يؤخذ بقوله، والطرش قادح

ص: 29

في ولاية الحكم عن بعض العلماء. ومن شعره أعني القاضي شرف الدين:

وليت القضاء وليت القضاء لم يل شيئا توليته

فأوقعني في القضاء القضا

وما كنت قدما تمنيته

ومدح الشهاب محمد بن عبد المنعم الخيمي للقاضي محي الدين بقصيدة أولها:

سلام على معنى الجلالة والهدى

وبادي الحجي والعلم والحلم والندى

أحن إليه معظم الود والولا

ويمنعني الاخلاص أن أتوددا

وما زال عندي مضمر الشوق نحوه

بظاهر وصف الحال منى موكدا

وقلبي محضور التسلي واجب

مباح كبدت الحب فيه تعبدا

ويروي حديث الوجد عني بحبه

بمتصل من مرسل الدمع مسندا

أحاول منه القرب زلفاً لعلني

أفوز به الفوز المبين أسعدا

ومنها:

واعلم أني لست أهلاً لقربه

ولكنني لا أستطيع التجلدا

ولولا ألتقي صبرت بابك قبلة

وتربته استغفر الله مسجدا

وعفواً ففي كاف الخطاب تعلل

لقلبي المعنى إن لي منك مشهدا

أدام لك السعادة والرضى

عليك وعزا في المحلين سرمدا

ونوراً من العرفان بالله من رأى

مخائله في حسن وجهك اهتدى

عبد الله بن محمد بن أبي الحسين أبو الفرج نجم الدين الشيخ الزاهد العارف المعروف بابن الحكيم. مولده سنة ثلاث وست مائة، وتوفى في ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة بحماة رحمه الله تعالى، ويعرف

ص: 30

بابن سطيح، ويقال أنه من ذرية سطيح الكاهن، وله فضيلة بطريق القوم، وكان له حرمة وافرة عند الملك المنصور، وصاحب حماة بحيث إذا صادفه في طريق ترجل وسلم عليه راجلاً ولا يركب حتى يبعد عنه، وله زاوية مشهورة بحماة يردها الفقراء وغيرهم رحمه الله تعالى.

علي بن عمر بن محمد أبو محمد بن مجلى أبو الحسن الأمير نور الدين الهكاري. ولى نيابة السلطنة بحلب، وأعمالها في سنة تسع وخمسين وست مائة إلى سنة ثمان وسبعين وست مائة، وكان حسن السيرة، عالي الهمة، لين الكلمة، كريم الأخلاق، كثير التواضع للعلماء والفقراء، والأصحاب محسناً إليهم. وعزل عنها قبل موته بالأمير علاء الدين ايدغدى الكبكي، وكانت وفاته بحلب بعد عزله بقليل يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الآخر، ودفن بها، وقد نيف على سبعين سنة من العمر، وكان والده الأمير عز الدين من أكابر الأمراء بحلب وأعيانهم، وشهرته تغني عن الأطناب في وصفه رحمه الله تعالى.

قالاجا بن عبد الله الركني الأمير سيف الدين أحد أمراء دمشق. كان توجه صحبة العساكر إلى مسيس، وتوفى بحلب عند عود العساكر في الرابع والعشرين من ربيع الأول، ودفن بالأنصاري، وقد نيف على أربعين سنة من العمر رحمه الله تعالى. والركني نسبة إلى الأمير ركن الدين بيبرس العلائي وقد تقدم البينة عليه.

لولو بن عبد الله حسام الدين. أحد كتاب الجيوش بالشام، وهو عتيق

ص: 31

بدر الدين جعفر بن محمد الآمدي أو عتيق أخيه موفق الدين علي بن محمد وهو ممن استفاد صناعة الكتابة والتصرف وبرع في ذلك، وخدم الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، وتوفه عنده حتى كانت مداراة أموره عليه وهو في رتبة وزير صغير، فلما توفى الملك الأشرف انتقل من حمص إلى دمشق، واستوطنها، واستخدم في مشارفة ديوان الجيش بها، وكان الديوان بأسره عبارة عنه والرفقة تبعاً له، وكان غزير المروءة طاهر اللسان، متفضلاً على معارفه وأصحابه، كثير البر لمن يقصده في حاجة والمسارعة إليها حسبما يمكنه، وكان شيعياً متغالياً في التشيع داعية إليه، ركناً لأهل مذهبه، يلجأون إليه في أمورهم ولم يسمع عنه ملاعنة كلمة يؤخذ عليها فيما بلغني عنه، وكنت أسمعه إذا ذكر أحداً من الصحابة رضي الله عنهم يترضى عنه، ويذكره بأجمل ذكر، وأما أهل البيت عليهم السلام فيوفيهم حقهم من الموالاة والمبالغة في ذلك. وتوفي بدمشق يوم الأحد سادس وعشرين ربيع الأول، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله، وهو في عشر الستين.

محمد بن بركة بن دولة خان الأمير بدر الدين. هو خال الملك السعيد ومن أعيان الأمراء بالديار المصرية، وحصل له عند ما أوصى الملك السعيد إلى ابن أخيه تقدم كثير في الدولة، ومكانة عالية، وقدم معه إلى دمشق، فتمرض بها، وكان نزوله في دار صاحب حماة داخل باب الفراديس

ص: 32

المجاورة لمدرسة ابن المقدم، وبها توفي في ليلة الخميس تاسع ربيع الأول، وصلى عليه يوم الخميس الثالثة من النهار بالمصلى خارج باب الفرج، ودفن بسفح قاسيون بالتربة المجاورة لرباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله بعد أن جعل في تابوت لينقل وقعدا معمره يومئذ خمسون سنة، وعمل له في هذا الشهر عدة اعزية وقرى بالتربة التي دفن بها عدة ختمات حضر احداها الملك السعيد رحمه الله ومد خوان فيه من عظيم فاخر الأطعمة والحلاوات فأكل من حضر وتناهبه الفقراء وغيرهم، وخلع السلطان على والدته ومماليكه وخواصه، وهو في العزاء، فلبسوا الخلع وقبلوا الأرض، ثم نقل تابوته إلى القدس الشريف في العشر الأول سنة تسع وسبعين، فدفن عند قبر والده رحمهما الله تعالى.

محمد بن بيبرس بن عبد الله أبو المعالي الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة ابن الملك الظاهر ركن الدين رحمهما الله تعالى. قد تقدم في هذا الكتاب نبذة من أخباره، وما جرى له وآل أمره إليه، ولما استقر بالكرك قصده أجناد من الناس، وكان ينعم على من يقصده ويعطيه ويستخدمه، فتكاثروا عليه بحيث نفذ كثير مما كان عنده، ولما بلغ ذلك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله تأثر منه، فقيل أنه سم، وقيل غير ذلك، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه يوم الجمعة حادي عشر ذى القعدة بقلعة الكرك، ودفن من يومه بأرض موته عند قبر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نقل بعد ذلك إلى دمشق في سنة ثمانين وست مائة فدفن إلى جانب والده بالتربة التي أنشأها قبالة المدرسة العادلية السيفية، وألحده قاضي

ص: 33

القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله تعالى. ولما توفى ترتب مكانه في مملكة الكرك أخوه لابنه نجم الدين خضر ولقب بالملك المسعود. ومولد الملك السعيد رحمه الله بالعر من ضواحي القاهرة سنة ثمان وخمسين وست مائة، وكان ملكاً جليلاً كريماً، سخي الكف، كثير العدل، محسناً إلى الخاص والعام، لا يرد سائلاً، ولا يخيب آملاً، ولا في خلقه عسف ولا ظلم، كثير الشفقة والرحمة للرعية، لين الكلمة، محباً لفعل الخير رحمه الله تعالى وقيل أنه ولد له مولود ذكر يوم دخوله قلعة الجبل على الصورة المذكورة في شهر ربيع الآخر من هذه السنة وابن أم ولد، وكانت ابنة المنصور سيف الدين قلاوون زوجته فوجدت لفقده ولمأتم عليه وجداً شديداً، ولم تزل باكية حزينة إلى أن توفيت إلى رحمة الله تعالى بعده بمدة في مستهل شهر رجب سنة سبع وثمانين وست مائة، وكانت شقيقة الملك الأشرف صلاح الدين خليل، ودفنت في تربة معروفة بوالدها بين مصر والقاهرة. ولما مات الملك السعيد بالكرك، صلى عليه بجامع دمشق يوم الجمعة رابع وعشرين ذى الحجة سنة ثمان وسبعين رحمه الله تعالى.

يحيى بن أبي المنصور بن أبي الفتح بن رافع بن علي أبو زكرياء الحراني الحنبلي المنعوت بجمال الدين المعروف بابن الصيرفي. كان إماماً عالماً فاضلاً مفتياً عارفاً بالفقه متبحراً فيه، كثير الافادة والأشغال، وللطلبة به نفع كثير، روى عن الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن عمر بن أبي نصر بن علي بن عبد الدائم المعروف بابن الغزال الحنبلي وغيره، وحصل العلوم، كان كثير

ص: 34