المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السنة الخامسة والثمانون وستمائة - ذيل مرآة الزمان - جـ ٤

[اليونيني، أبو الفتح]

الفصل: ‌السنة الخامسة والثمانون وستمائة

‌السنة الخامسة والثمانون وستمائة

إستهلت هذه السنة والخليفة، والملك المنصور سيف الدين قلاوون، والملوك على القاعدة في السنة الخالية، والملك المنصور بالديار المصرية. أخذت الكرك من الملك المسعود نجم الدين خضر ابن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، ودقت البشائر بدمشق ثلاثة أيام، أولها يوم الجمعة سابع صفر. وحصل في شهر صفر من الرعود والبروق ما خرج عن العادة خصوصاً في الأطراف. وورد كتاب الأمير بدر الدين بكتوت العلائي إلى الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، ومن مضمونه أنه لما كان يوم الاثنين رابع عشر صفر سنة خمس وثمانين وست مائة وقت العصر حصل بالغسولة إلى عيون القصب غمامة سوداء إلى الغاية، وأرعدت رعداً كثيراً زائداً، وظهر من الغمامة شبه دخان أسود من السماء ومتصل بالأرض، وصور من الدخان صورة أصلها هائلة في مقدار العمد الكبير الذي لا يحضنه جماعة من الرجال، وهي متصلة بعنان السماء يلعب بذنبها، فتتصل بالأرض شبه الزوبعة الهائلة، وصارت تحمل الحجارة الكبار المقادير، وترفعها في الهواء كرمية سهم نشاب وأكثر، وما صادف شيئاً من الأشياء من السيوف، والجواشن، والعدد، والتراكيش، والغشى، والقماش، والشاشات، والنحاس، والأسطال إلا صار طائراً في الهواء كشبه الطيور، ومن جملة ذلك أنه كان في أسطبل بعض الناس خرج ادم ملآن تطابيق نعال بيطارية

ص: 281

حمله في الهواء والجو كرمية نشاب، ورفع في جملة ما رفعه عدة من الجمال بأحمالها قدر رمح، وحمل جماعة من الجند، والغلمان، وأهلك شيئاً كثيراً من السروج التي صدفها في الرماح. وطحن ذلك إلى أن بقي لا ينتفع به، وأتلف شيئاً كثيراً مما صادفه في طريقه، وأضاع شيئاً كثيراً من العدد والقماش لمقدار ما بقي نفر من الجبد وأصحاب الأمر إلى أن صاروا بغير عدة، ولا قماش، وعاينت تلك الحية عن العين في عنان السماء، فتوجهت في البرية صوب الشرق، والذي عدم من قماش الجند منه ما راح في الغمامة السوداء، ومنه ما أخذه بعض الجند مع أن المملوك ركب بنفسه، ودار في العسكر المنصور، واستعاد كثيراً مما عدم، وبعد هذا عدم ما تقدم ذكره، وهذه الواقعة ما سمع بمثلها أبداً، ثم وقع بعد هذا يسير من مطر، ثم أن اللواحيق الكبار حملها الهواء، وهي منصوبة، وصارت مرتفعة في الجو وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وفيها وصل تقي الدين توبة إلى دمشق من الديار المصرية متولياً الوزارة بالشام يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر.

وفيها توفي:

أحمد بن شيبان بن تغلب أبو العباس بدر الدين الشيباني. مولده سنة ست وتسعين وخمس مائة، وكانت وفاته بسفح جبل قاسيون في نهار الخميس ثامن عشرين صفر، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة رحمه الله. سمع، وأسمع، وكان رجلاً خيراً، وله نظم، فمنه يمدح قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي عند ما ولى سنة أربع وستين وست مائة، قوله:

ص: 282

شرف الزمان وساد بالإسعاد

واضت ليالينا بغير زناد

ونور شمس الدين شيخ شيوخنا

مفتي الشريعة أزهد الزهاد

سمح الزمان بما نؤمل منكم

فيكم ترى الأيام كالأعياد

أنت الذي أسلكتها سيل الهدى

وأقمت دنيا ثابت الأوتاد

من أبيات له. سمع من حنبل، وابن طبرزد، وأبي اليمن الكندي، وأبي القاسم الحرستاني، وأجز له أبو جعفر الصيدلاني، وأسعد بن روح، وعبد الواحد بن أبي المطهر الصيدلاني، وغيرهم، وقيل إن مولده سنة سبع وتسعين وخمس مائة.

خليل بن أبي بكر بن محمد بن صديق أبو الصفاء صفي الدين المراغي الفقيه الحنبلي. توفي بالقاهرة في يوم سابع عشر ذي القعدة، وقد نيف على الثمانين، ودفن من الغد رحمه الله تعالى. وكان فاضلاً، عارفاً بالمذهب، سمع الكثير، وأسمع، واستوطن دمشق ثم توجه إلى الديار المصرية، وأقام بها، وولي نيابة الحكم بالقاهرة مدة رحمه الله تعالى.

سعيد بن عمر بن إسماعيل بن مسعود سعد الدين بن الشيخ رشيد الدين أبي حفص الفارقي. كان شاباً فاضلاً، اشتغل على والده، وأتقن عليه فن الأدب، وكان له نظم حسن، فمنه:

ص: 283

مشوق يا نيل له عليل

وسوف يا نيل له غليل

وصب دمعه يجري مديد

ولكن ليله ليل طويل

ولي رشأ يملكني عزيز

غرير والمحب له ذليل

نأى عني فصد ولا وصال

يرجى منذ بان ولا وصول

فشوقي ضحو طلعته كثير

وصبري عند جفوته قليل

أيا قمراً له قلبي وطرفي

منازل ما له عنها رحيل

ويا شمساً وليس له كسوف

ويا نجماً وليس له أفول

فيا غصناً يملك قلب صب

فديتك كم على ضعفي تميل

طبعت على هواه فكم عذول

يلوم ولست أدري ما يقول

توفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين سابع عشرين المحرم، ودفن من الغد بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.

طاهر بن عمر بن طاهر بن مفرج بن جعفر المصري الشيخ الصالح. كان كثير الزهد والعبادة، والتقلل من الدنيا، واشتغل بالفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله ولما عرف ما يدعو إليه ضرورته في أمر دينه، انقطع إلى رباط ابن يغمور بالصالحية، وكان من أخص أصحاب الشيخ يوسف الفقاعي رحمه الله وأجلهم عنده، وكان له كشف. قال النجم أبو بكر بن شرف رحمه الله: كنت واقفاً بدرب الوزير أريد الرواح إلى الخواصين، وجيش الإسلام حينئذ قبالة جيش التتار على حمص

ص: 284

سنة ثمانين وست مائة، وذلك يوم الأحد فمر بي الشيخ الطاهر المذكور، وحدثني ما لم أفهمه لاشتغال خاطري، فقال: كأنك ما فهمت كلامي! قلت: لا والله، قال: كأنك خاطرك مشغول. قلت: ما هو لقلبي ولكل لآخذ أولادي قال: اسمع ما أقول، واعتمد عليه، اليوم أيش هو؟ قلت: يوم الأحد، قال: يوم الجمعة تكون في هذه البلدة بشارة بكسر التتار، وشموع توقد بالنهار، وسماعات، وتكسر التتار كسرة ما كسروا مثلها، فكان كما قال، ثم بات عندي بعد ذلك وانشرح، فسألته عما أخبرني به، قال: هل تراه يقظة أو مناماً؟ فقال: لا في اليقظة ولا في المنام، بل في حالة بينهما تسمى الواقعة تكون للفقراء؛ فسألته عن حقيقتها فنفر وغضب. قال النجم: وكان قال لي مرة: إن بيت هلاكو لا بد أن تكون، وخوارزمية لا يوجد منهم عشرة في مكان. قال: وكان به سعال مزمن فبقي سنين يأخذ في كوز مكسور ماء شعير مبزر من بكرة، يودعه عندي إلى العشاء يأخذه. قال: وأخبرني أنه يثرد فيه كسرة ويفطر عليها. قال النجم: ودخلت مع الشيخ يوسف إلى بيت طاهر بالرباط المذكور، فرأينا بيتاً لم يكنس قط. وقد نسج العنكبوت على حصيره رثة سوداء، فقال الشيخ يوسف: ما أعفشك يا طاهر! ثم خرج طاهر للوضوء. فقال لي الشيخ يوسف: طاهر يموت طيب. وتزوج طاهر امرأة جميلة جداً. وطلقها على كثرة تعجزه عنها، ولم يكن قربها ومات، ولم يعرف أنثى ولا غيرها، ولم يزل على هذا القدم من الاجتهاد وخشونة العيش والتقلل من الدنيا إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى

ص: 285

في العشر الآخر من شهر رمضان، ودفن عند الشيخ يوسف رحمه الله بالرباط اليغموري بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى. وذكر الشيخ علم الدين البرزالي: أن وفاته كانت ليلة السبت خامس شوال رحمه الله تعالى.

عبد الدائم بن أحمد بن عبد الدائم بن نعمة أبو محمد تاج الدين المقدسي الحنبلي. كان كثير الصلاح، والتعبد، والاجتهاد، والتمسك بالكتاب والسنة، وتوفي بجبل قاسيون ليلة الثلاثاء ثالث وعشرين شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وقد نيف على السبعين رحمه الله.

عثمان بن سعيد بن عبد الرحيم بن أحمد بن تولو أبو عمرو ومعين الدين الفهري. مولده بتنيس سنة خمس وست مائة، وتوفي بمصر يوم الأحد سلخ ربيع الأول، ودفن من يومه بالقرافة الصغرى. سمع القاضي أبا نصر بن الشيرازي وغيره، وله معرفة بالأدب، ويد طولى في النظم، وشعره في غاية الجودة والإتقان، نقلت من خطه قوله بمدح الصاحب زين الدين ابن الزبير فيقول:

ماذا على بارق بالغور يأتلق

لو لم يهج حزن قلب ملؤه حرق

ذكرت إذ لاح والذكرى مشوقة

ثغر السلامي حكاه اللؤلؤ النسق

في ذمة الله أيام العقيق وإن

تملك الليث فيها شادن خرق

ص: 286

ترنو بألحاظ رئم قط ما رمقت

فغادرت في البرايا من به رمق

أما وأهيف ذي خصر بأعيننا

كما يشاء الهوى العذري ينطبق

تألفت فيه أصداد لها أبدا

على هواه الخلق تتفق

فالخد والثغر ذا جمر وذا برد

والوجه والشعر ذا صبح وذا غسق

ما حلت عن عهد سكان العقيق وهل

يحول عنهم محب حبه خلق

كم زرتهموا في الكرى طيفاً واحسبني

للسقم لو زرتهم شخصاً لما فرقوا

خوفاً عليهم من الواشين لا حذراً

من بارق للصفاح البيض يأتلق

تسطو بها فتية غر سيوفهم

بيض كأحسابهم مصقولة عنقوا

لا أدعي أن جفني سحبة مطرت

من طول ما رعدوا وجداً وبرقوا

لكن سلمى لاح بارقه....

فكان من سحب جفني عارض يدق

ما للجديدين قد أبلى اختلافهما

جديد حالي فصبري دائماً خلق

ألقى الظلام بصدر غير منشرح

لما ألاقي وجفن ليس ينطبق

وأسأل الشمس عن أخت لها غربت

فادمعي الدهر في آثارها شفق

قلبي وطرفي لنأي السائرين ضحىً

كلاهما بنقاء منه لا أثق

ومن هذا كما شاء الجوى حرق

وملء ذاك كما شاء البكا أرق

حبست دمعي فقالت لوعة غلبت

لا تحبس الدمع إن الركب منطلق

وقلت للقلب صبراً بعد بعدهم

فقال لي نحن قبل البعد نفترق

أشكو إلى الدهر قوماً من بنيه إذا

محضتهم ود خل مخلص مذقوا

ص: 287

يهوون موتي وما لي في بلادهم

والحمد لله لا تبر ولا ورق

إني وإن كنت دهري مملقا لفتىً

لا يعتري طبعه ميل ولا ملق

بذي يدٍ كم لها عند الكرام يدا

من شينها الحر بعد الله يرتزق

بأبلج من قريش نور عز به

مهما تحلى لأعداء الندى صعقوا

مولى تولى الورى حفظا ببذل يد

لها على الوفي كي ترضى الورى حنق

من معشر لا يروق المجد غيرهم

إن الكريم بما ترضى العلا لبق

إن الأولى في جدي كفي الحيا اختلفوا

على جدي كفه الوهابة اتفقوا

بنو الزبير كما تهوى مكارمهم

إن فوضلوا أو سوبقوا سبقوا

عزوا منالاً ونالوا كل مكرمة

أقلها بنواصي النجم معتلق

وجه الزمان بيعقوب سليلهم

كما تشاء المعالي نير شرق

حرى على أصلهم جوداً وفاقهم

والفرع فيه الحياء الطول والورق

يا ابن اللاء ينطق العليا إن سكتوا

عنهم وسكت أهل الفخر إن نطقوا

فتحت للناس باب الجود ودمت له

مجداً حين دست دونه الطرق

وليتهم ما تولته الغيوث جدىً

فكلهم لطلاب الحمد مستبق

أرقت كما ينتهى الوفراء في دعة

كذا محب المعالي طرفه أرق

يفديك من كل ما تخشى عواقبه

خلق لغير الخنا والبخل ما خلقوا

تخلقوا بالندى جهلاً أما علموا

أن التخلق يأتي دونه الخلق

ص: 288

كم زنت مرتبة رأيتهم زمناً

وكم قلادة خود زانها عنق

أما وجود لياليها وعزتها

وعرضك المحض كل أبيض يقق

وعقدها وثناياها ونظمي في

مديح مدحك كل لؤلؤ نسق

حويت خلقاً وخلقا ضامنين معاً

صدفي فلست وإن بالغت أختلق

قيدتني بحراً أطلقته فكذا

أصبحت كالجود ما لي عنك منطلق

من لم يكن ساكناً في ظل جاهكم

فقلبه لرزايا دهره قلق

لولاكم يا بني عبد الرفيع لما

أصبحت في خفض عيش سله غرق

قال أخي رحمه الله تعالى أنشدني المذكور لنفسه:

قلت له إذ غاب عن مقلتي

في يوم غيم ممطر مدجن

لو لم تكن في الحسن شمساً حجبت بالغيم عن الأعين

وقال أيضاً رحمه الله تعالى:

وليلة من ليالي البين واحدة

وددت لو أنها ولت ولم تبن

زادت فؤادي فنوناً من صبابته

بها مطوقة ناحت على فنن

ناديتها وكؤوس الشوق دائرة

والوجد يطربها طوراً ويطربني

وإنني بالذي ألقى من حديثتها

ونوحها بالذي تلقى تحدثني

حتى بدا الصبح كالواشي فريع له

قلب عن بين حالي يخبرني

فما رأيت له عن جاهل مثلاً

ولا رأيت له ميلاً إلى فطن

ولا رأيت لئيماً فيه ممتحناً

ولا رأيت كريماً غير ممتحن

طار انتظاري حياً رزق يلين له

مذموم عيش كما اشتهى خشن

ص: 289

ديني إلى الرزق فضل كنت أحسبه

مقدماً لي على غيري فأخرنى

ما أصدق القائلين العلم مخرقه

والجهل والحظ مقرونان في قرن

ومن شعره وقد أمر قاضي مصر بقطع أرزاق الشعراء من الصدقات سوى الجزار الشاعر:

تقدم القاضي لنوابه

بقطع رزق البر والفاجر

ووفر الجزار من بينهم

فاعجب للطف التيس بالجازر

وقال أيضاً من شعره:

يا أهل مصر وجدت أيديكم

من بسطها بالنوال منقبضه

قد عدمت الغذاء عندكم

أكلت كتبي كأنني أرضه

وقال من شعره أيضاً:

أما السماح فقد أقوت معالمه

فما على الأرض من يرجى مكارمه

ولا يغرنك من يلقاك مبتسماً

فربما غر برق أنت شائمه

لا تتعب النفس في استخراج راحتها

من باخل لونه في الجود لائمه

أخي المذلة اعزاز لدرهمه

ويصحب الذل من عزت دراهمه

ماذا أقول لدهر عاش جاهله

ومات فيه بسيف الفخر عالمه

ص: 290

قد سالم النقص حتى ما يجاز له

وحارب الفضل حتى ما يسالمه

وقال من شعره أيضاً:

لم أنسه إذ قال أين تحلني

حذراً علي من الخيال الطارق

فأجبته قلبي فقال تعجبا

أرأيت ويحك ساكناً في خافق

وقال من شعره أيضاً:

ذنبي إلى الصفح الجميل وسيلة

فارحم فتى بذنوبه يتوسل

وقال من شعره أيضاً:

أعلمت أن الربيع حين دعاكا

لنزوله جعل الشحون قراكا

لما وقفت به تسائل رسمه

حزناً على رسم الطلول شجاكا

محمد بن أحمد أبو عبد الله جمال الدين المعروف بابن يمن العرضي. كان من أكابر رؤساء دمشق، ومن أهل الثروة الطائلة. لم يكن في زمانه من يضاهيه في كثرة المال، وكان كثير التواضع، غزير المروءة، له الصدقات الدائرة سراً، وكان قد أرصد عشرين ألف درهم يقرضها من غير ربح بل درهماً بدرهم لكل من قصد ذلك. ووقف على غلمانه وغيرهم أوقافاً حسنة، وجرى في تركته تخبيط كبير من ولده الشمس خطيب المزة فإنه أثبت أشياء توجب تخصيصه وحرمان أخواته، فصودر، وعكس في مقصوده، وذهب لوالده من الدفائن ما لا يحصى. ولم ينتفع بشيء مما خلفه أبوه، وهلك بعده بمدة يسيرة، وكانت وفاة والده يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة

ص: 291

هذه السنة أعني سنة خمس وثمانين وست مائة بداره، ودفن بسفح قاسيون بتربة ابن نظيف المطلة على الجامع المظفري بسبب زوجته فإنها من ذرية ابن نظيف، ودفنت عنده رحمهما الله تعالى.

محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سمحان أبو بكر جمال الدين الوائلي البكري الشافعي الشريشي. كان إماماً عالماً فاضلاً زاهداً ورعاً، طلب للقضاء بدمشق عوض الشيخ زين الدين الزواوي فامتنع، وكان من أعيان العلماء وأكابر المحدثين، ومولده بشريش بلدة بقرب إشبيلية من بلاد الأندلس سنة إحدى وست مائة، وتوفي إلى رحمة الله تعالى يوم الاثنين ثامن عشر رجب سنة خمس وثمانين وست مائة بالصالحية برباط الملك الناصر، وهو شيخه يومئذ. ودفن بسفح قاسيون تجاه الرباط الناصري يوم الثلاثاء، وكان مالكي المذهب، وله معرفة بالأدب، وله يد في النظم. وقال رحمه الله ورضي عن سلفه الصالح: لما أتى شهر رمضان الكائن سنة أربعين وست مائة، وأنا بدمشق حرسها الله تعالى أردت أن أريح نفسي من كد المطالعة والتكرار. وأصرف همتي إذ كنت كثير البطالة إلى المواظبة على نوافل الصلوات والأذكار، فحين شرعت في ذلك وجدت في قلبي قسوة. ورأيت في صارم عزيمتي عن المضاء فيها نبوة، وقدت نفسي إلى العبادة بزمام الحرص، فحزنت وما انقادت، وضربتها بسوط الاجتهاد، فمادت على جرانها بل زادت، فلما رأيت ذلك منها، علمت أن داءها صار عضالاً،

ص: 292

وأن ما رمته من الهدى، صار ضلالاً، فسألت عن عالم بهذه الأمور خبير، وطبيب بدواء هذه العلة الدواء، فدللت على أوحد دهره وأفضل علماء عصره أحسنهم هدياً وسمتاً. وأروعهم نطقاً وصمتاً. وأوسعهم في جميع العلوم علماً، وأنعتهم في كل المعاني فهماً. وهو شيخنا العلامة سيد القراء، وحجة الأدباء، وعمدة الفقهاء، وقدوة الفضلاء، علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي، فكتبت إليه بهذه الأبيات المبهرجة عند الامتحان العاطلة من حلي الإجادة والإحسان، أشكو إليه فيها بثي وحزني، وما استولت عليه هذه النفس العدوة مني، وأسأله كيف خلاص أسيرها من وثاقه، وكيف السبيل إلى هربه من جورها وإباقه، وهي هذه:

أيا عالماً في الناس ليس له مثل

وحبراً على الأحبار أضحى له الفضل

أيا عالم الدين الذي ظل علمه

بحوراً عذاباً منه يغترف الثكل

لقد حزت بين الأنام فضائلاً

فمنها التقى والعلم والخلق السهل

وهديك هدى الصالحين ذوي الهدى

وصيتك في المعروف ليس له مثل

تعلم دين الله ثم كتابه

على سنن الماضين أهل الهدى قبل

نهارك تقريه لمن جاء قارئاً

وليلك في التهجيد أجمعه يتلو

فأنشأ ربي في حياتك أنها

حياة لها نفع من الخير ما يخلو

وبعد فإنني ذاكر لك سيدي

أموراً قد أعيتني وعندي لها ثقل

ولا بد من شكوى إلى ذي بصيرة

يربك سبيل الرشد إن حادت السبل

فأصغ إلى قولي أبث صبابتي

إليك وأحزاني فقد مضني الكل

ص: 293

أخي ما لقلبي قد قسا فكأنما

عليه لذي وعظ وتذكرة قفل

فلا هو القرآن يخشع إن تلا

ولا لأحاديث أتتنا بها الرسل

ولا يرعوى يوماً إلى وعظ واعظ

ولا عذل ينهي وإن كثر العذل

يسوف بالطاعات مهما أردتها

ويشرع في العصيان وللغي ما يسلو

وما ضعيف العزم في الجد هازلاً

مجداً قوي العزم مهما بذ الهزل

جبان عن الطاعات وقت حضورها

وإن حضر العصيان فالبطل الفحل

وكل عباداتي رياء وسمعة

مشوب جميع القول فيهن والفعل

فإن رمت صوماً كان لغواً جميعه

وعند صلاتي يعتري السهو والخبل

وكل الذي أتى من العرف منكر

فماذا دهى عقلي أليس له عقل

فلا العقل يهديني ولا العلم رافعي

بلى ليس ذا علماً ولكنه جهل

ولي أسأل الله الصلاح نفيسة

ذليلة ليس يسيء لها الذل

تريد المعالي وهي لبست من أهلها

ومن ضل يهوى في الخصيص متى يعلو

إلى الله أشكوها أريد صلاحها

وتبغي فسادي بئس ما اختلف الفعل

إذا قلت يا نفسي إلى الله فارجعي

تراجعني في القول من عنده الكل

فإن شاء يهديني اهتديت وإن

يشاء يضل فمن ربي الهداية والعدل

وإن قلت للجنات والحور فاعملي

تقل لي وهل معطي الجنان هو الفعل

بل الله يعطيني الجنان تفضلاً

فمن ربي الإحسان والجود والبذل

وإن قلت خافي من أليم عقابه

ومن ناره قالت له العفو والفضل

وقد قهرتني ثم أصبحت عبدها

أسيراً أخا قيد وفي عنقي غل

ص: 294

فكل الذي تبغيه مني حاصل

وما أبتغي منها فمن دونها المطل

تريد الذي لا أستطيع لحظها

وبعض الذي تبغيه أيسره القتل

تكلفني بذلي إلى الناس مهجتي

وما عند حر بذل مهجته سهل

فكيف خلاصي يا أخي من وثاقها

وهل لأسير النفس من قيدها حل

فوا أسفي لهفي لما بي لقد وهت

قوى حيلتي وانسد بي وجهة السبل

لقد خبت إن لم يدركني بلطفه

ورحمته رب له اللطف والفضل

وها أنا مستهد فكن لي راشداً

أبا حسن فالرشد أنت له أهل

ولا زلت تهدي للرشاد سبيله

على منهج عدل فأنت الرضى والعذل

وأبقاك رب الخلق تحيي كتابه

مدى الليل والأيام تتليه وتتلو

فنحن إذا أبقاك للدين ربنا

بخير وتحيي الفرض في العلم والنقل

قال الشيخ جمال الدين منشئها رحمهما الله تعالى: فكتب إلي رحمة الله عليه على كبره وضعفه مجيباً بهذه الأبيات التي حوت معاني رائقة، ولفظاً عجيباً، وهو يشكو ما شكوته، ويرجو من عفو ربه وغفرانه ما رجوته وهي:

إلى الله أشكو ما شكوت من اللتي

لها عن هدى عدل وليس لها عدل

تجور عن التحقيق جوراً أخي عمى

وقد وضحت منه لسالكها السبل

وكيف أرجى أن يتوب وللهوى

عليها يد سلطانه ما له عزل

إلى غير مولاها توجه في الذي

تريد وتخشى والخضوع له ذل

وقد سترت عنها العيوب فما لها

بما هي فيه خبرة لا ولا عقل

وليس لها في طاعة الله لذة

لقسوتها لا الفرض ترجى ولا النفل

ص: 295

إلى باطل تجري وإن كان متعباً

وما خف من حق ففيه لها ثقل

تعيب بما يأتي سواها كأنه

لهم من قبيح النقص وهو لها فاضل

وتستبعد الموت الذي هو نازل

وفي طلب الآمال عنه لها شغل

لها ظاهر ترضى بتزيينه الورى

وعند الإله ليس يرضى لها فعل

تريد نعيماً منه أخرج آدم

بذنب وأني للعصاة لها نزل

تحيل على المقدور في ترك طاعة

فما بالها في الرزق ليس لها مهل

تعز بإطراء الأنام ومدحهم

ولم يخف عنها أن أقوالهم بطل

تديم احتقار الناس نعياً كأنها

على شامخ تعلو ومن دونها سفل

وتكذب إن قالت وتغضب تارة

وتحرص أحياناً ومن شأنها البخل

تمن بما تعطي وإن كان تافهاً

وتذكر معروفاً ومعروفها قل

بذلت لها نصحي وحاولت رشدها

وبالغت في عذلي فما نفع العذل

فناولتها حبل التقى فتقاعست

إلى أن نفانا العمر وانقطع الحبل

وأرسل رب الدار يطلب ثقلها

وليس لها زاد وقد أعجل النقل

ونادى منادٍ يا مضيع حظه

مما كان من تفريطه فله الثكل

فيا ويحها إن لم تسامح بعفوه

ويا ويلها إن لم تجد من له البذل

أتبغي أبا بكر هدى عند مثلها

وأنت الذي أضحى وليس له مثل

حفظت كتاب الله ثم قرأته

بأقوال مأمون به ختم الرسل

ومثلك يرجى أن يعمر برهة

فدونك فاغنمها فأنت له أهل

ولست كمثلي ذا ثمانين حجة

بها فاتت الأيام وانقطع الوصل

ص: 296

ولم للتأخير وجه وهكذا

متى انتهت الآجال لم يسع الأجل

وأدنى الورى من رحمة الله مذنب

أتى ما له في الخير عقد ولا حل

فقيراً ذليلاً جائراً متذللاً

عرياً من التقوى كما جرد النصل

لدى ملك بر غفور لمن جنى

ولم يعلم الغفران لم يكن جهل

وإن يكن السوأى فذلك عدله

وإن تكن الحسنى فإحسانه جزل

قال الشيخ جمال الدين رحمه الله: أنشدنيها في شهر رمضان المعظم في الخامس والعشرين منه سنة أربعين وست مائة. قال الشيخ جمال الدين المذكور: ولما كانت الليلة السابعة والعشرين من هذا الشهر المبارك، وكانت ليلة الجمعة، حضرت فيها ختمة للكتاب العزيز بدار الحديث الأشرفية عند أوحد زمانه، وعلامة عصره وأوانه، الحبر الذي جمع أنواع العلوم ووعاها، ورقى في مراتب التحقيق إلى ذراها، العالم الذي قرن بعلمه العمل الخالص، ونصح في الله تعالى ليالي يوم القيامة، وهو من التبعات خالص، إمام آتاه الله علماً وحلماً، ورزقه في جميع الأمور بصيرة وفهماً، إن تفقه، ترك عند فقهه فقه أبي العباس بن شريح، وإن حدث نسي عند حديثه حماد بن زيد، وعبد الملك بن جريج مع جماعة كثيرة من أفاضل العلماء وسادة أخيار من أكابر الصلحاء، فقد تنورت بنور اليقين والإخلاص قلوبهم، وتجافت من خوف الله عن المضاجع جنوبهم، وصرفوا هممهم إلى أعمال الطاعة، وليس لهم عمل إلا فعل خير أو سماعه، فباتوا ليلتهم جميعها في صلاة، وخشوع، وتضرع إلى ربهم، وخضوع قد قسموها بين صلاة

ص: 297

ذات تسبيح وتحميد، وقراءة ذات ترتيل وتجويد، يتقربون إلى الله تعالى في كلامه بالترتيل، ويجازون في تنزيهه بالتسبيح والتهليل، وكانت ليلة معتدلة هواءها بالأنوار، أرجاءها قد أزهرت مصابيحها ونجومها، واعتدل حتى طاب نسيمها، ولو لم يكن فيهم إلا من هو لنفسه ناصح، ولم يرتفع لهم في تلك الليلة إلا عمل من الله صالح، فلما ختموا الكتاب العزيز، ولصدورهم بالبكاء أزيز، وافق فراغهم للوقت الذي فيه ربنا إلى السماء ينزل فيستجيب لمن دعاه، فيتعطف عليه ويقبل دعاءه، إذ ذاك أخذ الحاضرون بدعاء خاشع القلب حزين دعاء ذرفت منه العيون، ووجلت منه القلوب، ورقت بعد قسوتها حتى كادت تذوب، ورجى الله تعالى بالتأمين يديه، وأسبل دموعه على خديه، فلما رأيت ما كان من جمعهم، وما صدر من جميل صنعهم، لم أشك أن الله قد استجاب دعاءهم، وحقق ظنهم به ورجاءهم، وغلب على ظني أنها ليلة القدر التي جعلها الله خيراً من ألف شهر، ففرحت إذ بت في هذه الليلة المباركة وأنا سهيرهم وأنيسهم، ورجوت أن يغفر الله لي بهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فعند ذلك جرت على لساني هذه الأبيات من غير فكر ولا روية، فجاءت غير مستحسنة ولا مرضية، ولولا ما جرى فيها من ذكر الحال، كان أن يكتم أولى من أن يقال، وهي:

يا ليلة طاب فيها الذكر والسهر

ولد للقارئ الآيات والسور

يجلو دجاها مصابيح منورة

كأنها أنجم في جوفها زهر

ص: 298

لانت قلوب بذكر الله قاسية

فيها ومن قبل كانت دونها الحجر

واستشعر القلب خوف الله وانسفحت

فيها الدموع على الخدين تنهمر

في جمع صدق لدى الرحمن قد ضرعوا

يبكون خوفاً وبالقرآن قد جهروا

فلست تبصر إلا خائفاً وجلاً

ذا عبرة لرضى الرحمن ينتظر

في ليلة الجمعة الغراء مشرقة

تضيء نوراً ولم يطلع لها قمر

تمت بها السبع والعشرون وافية

من الصيام الذي قد صامه البشر

رجوتها ليلة خيراً لذي عمل

من ألف شهر وفيها الذنب يغتفر

فقمت أدعو إلى الرحمن مبتهلاً

فإنه لعظيم الذنب يغتفر

كان الشيخ جمال الدين الشريشي رحمه الله تعالى جامعاً لعلوم كثيرة، منفرداً بها كالنحو، وفنونه من علم التصريف، والعروض، والقوافي، والأصول وفنونه، والتفسير، والفقه على مذهب الإمام مالك، والاستقلال به علماً وإتقاناً، وإفادة لكل من قصده فيها، وكان أحد أفراد الزمان في العلم، لم يكن في زمانه مثله علماً وعملاً، وكان متضلعاً في معرفة الأدب معانيه، ومبانيه، وبديعه، وله الاستقلال بالنظم البديع، والنثر الصنيع، مع المشاركة في غير ذلك كالحديث النبوي، وأسماء رجاله، والكلام على صحيحه وضعيفه، وأحكامه، وله في ذلك التصانيف الفائقة، منها: شرح الألفية لابن معطى مجلدان، وفي أصول الفقه، وكان علماء عصره مجتمعين على علمه وعمله، واستقلاله بالعلوم الإسلامية، وكان حسن المناظرة، مليح المذاكرة، حسن العشرة، كثير الإنصاف، غزير الديانة، واسع الفضيلة،

ص: 299

له الحرمة الوافرة عند الملوك فمن دونهم. ولما ورد دمشق في سنة ست وخمسين وست مائة، أقبل عليه الملك الناصر يوسف رحمه الله إقبالاً عظيماً، وفوض إليه مشيخة الرباط الذي بناه بالجبل. وكان كثير الاحترام له، والإقبال عليه، حتى أنه يحضر إليه، ويبادر معه ويقول: ما جعلناه شيخاً في هذا المكان إلا لنخدمه لا ليخدمنا. ولم يزل مباشره إلى أن توفي. لكن سافر إلى القدس وهو متوليه بعد الستين وست مائة، وتولى بالقدس مواضع. وتنقل في الديار المصرية، والحجازية، والحلبية: ثم عاد إلى دمشق، وباشر الرباط، وكان به من يقوم مقامه، فلم يزل مباشره حتى مات. وكان كثير الاعتناء بالحديث، رحل بسببه إلى البلاد، وأخذ الناس عنه، وانتفع به جماعة من العلماء، وسمع بالإسكندرية من محمد بن عماد الحراني وغيره، وبدمشق من أبي نصر بن الشيرازي ومكرم بن أبي الصقر، وبحلب من ابن يعيش النحوي، وباربل من الفخر الإربلي، وببغداد من أبي الحسن القطيعي، وابن روزبه، وابن سهرور، وابن اللتي، وابن السباك، ونصر بن عبد الرزاق الحنبلي، وقدم دمشق وطلب للقضاء فامتنع زهداً، وبقي المنصب شاغراً لأجله إلى أن مات رحمه الله.

محمد بن عبد المنعم بن محمد أبو عبد الله الأنصاري الشافعي الصوفي

ص: 300

شهاب الدين المعروف بابن الخيمي الشاعر المجيد المشهور، والأديب الفاضل المبرز على نظرائه، والمتقدم على شعراء بلده مع مشاركة في كثير من العلوم، مولده في سنة اثنتين وست مائة، وتوفي بمشهد الحسين رضي الله عنه بالقاهرة في التاسع والعشرين من شهر رجب، ودفن بسفح المقطم، روى عن عتيق بن باقا وعن أبي عبد الله بن عبدون، وسمع من ابن البناء وغيره، وحدث. وكان يعاني الخدم الديوانية، ونظمه كثير، فمن ذلك قوله:

قسماً بكم يا جيرة البطحاء

ما حال عما تعهدون وفائي

حبي لكم حبي وشوقي نحوكم

شوقي وأدوائي بكم أدوائي

ما خانكم كلفي ولا نسيتكم

روحي ولم يعهدكم أهوائي

وجدي بكم مجدي وذل عزتي

والافتقار إليكم استغنائي

يا أهل ودي يا مكان شكايتي

يا عز ذلي يا ملاء رجائي

كيف الطريق إلى الوصال فإنني

في ظلمة التفريق في عمياء

ما ضركم إن تنقلوا بوصالكم

سري من الضراء والسراء

روحي تدور على الورد نظماً وقد

حباتكم تمشي على استحياء

أشكو عليلاً ليس يملك زيه

برد النسيم ولا زلال الماء

لم يزرني إلا ضريح وصالكم

فصبابتي لن ترو بالإيماء

قد حل حبكم عقود مدامعي

وأجاد في أحكام عقد ولائي

ص: 301

وإذا بكيت فمن سروري بالذي

فيكم بلغت من الغرام بكائي

وقال أيضاً رحمه الله:

يا مطلباً ليس لي في غيره أرب

إليك آل التقضي وانتهى الطلب

وما طمحت لمرأى أو لمستع

إلا لمعنى إلى علياك ينتسب

وما أراني أهلاً أن تواصلني

حسبي علواً فإني فيك مكتئب

لكن تنازع شوقي ناره أربي

فاطلب الوصل لما يضعف الأرب

ولست أبرح في الحالين ذا قلق

باد وشوق له في أضلعي لهب

وناظر كلما انكفت بأدمعه

صوناً بحبك يعصيني وينكسب

ويدعي في الهوى دمعي مقاسمتي

وجدي وحزني وبحري وهو مختضب

كالطرف يزعم توحيد الحبيب ولا

يزال في ليله للنجم يرتقب

يا صاحبي قد عدمت المسعدين فساعدي على وصبي لأمسك الوصب

تالله إن جئت كثباناً بذي سلم

قف بي عليها وقل لي هذه الكثب

ليقضي الحر في أجراعها وطراً

من تربها ويؤدي بعض ما يجب

ومل إلى البان من شرقي كاظمة

فلي إلى البان من شرقها طرب

وخذ يميناً لمغنى يهتدي بشذى

نسيمة الرطب إن ظلت بك النجب

حيث الهضاب وبطجاها بروضها

دمع المحبين لا الأنداء والسحب

أكرم به منزلاً تحميه هيبته

عني أونواره لا السمر والقضب

دعني أعلل نفساً عز مطلبها

فيه وقلباً لعذر ليس ينقلب

ص: 302

ففيه عاهدت قد ما حب من حسنت

به الملاحة واغترت به الرتب

دان وأدنى وعز الحسن يحجبه

عني وذلي والإجلال والرهب

أحيى إذا مت من شوقي لرؤيته

لأنني لهواه فيه منتسب

ولست أعجب من جسمي وصحته

من صحتي إنما سقمي هو العجب

يا لهف نفسي لو يجدي تلهفها

غوثاً وواجزنا لو ينفع الحرب

يمضي الزمان وأشواقي مضاعفة

يا للرجال ولا وصل ولا سبب

هبت لنا نسمات من ديارهم

لم يبق في الركب من لا هزه الطرب

كدنا نظهر سروراً من تذكرهم

حتى لقد رقصت من تحتنا النجب

يا بارقاً بأعلى الرقمتين إذا

لقد حلبت ولكن فاتك الشنب

أما خفوق فؤادي فهو عن سبب

وعن جفونك لي ما هو السبب

ويا نسيماً سرى من جو كاظمة

بالله قل لي كيف البان والغرب

وكيف جيرة ذاك الحي هل حفظوا

عهداً أراعيه إن شطوا وإن قربوا

أم ضيعوا ومرادي منك ذكرهم

هم الأحبة إن أعطوا وإن سلبوا

ولما نظم شهاب الدين هذه القصيدة بلغت الأديب نجم الدين محمد بن إسرائيل المقدم ذكره في هذا الكتاب فادعاها. حكى لي صاحبنا الموفق عبد الله ابن عمر رحمه الله أن ابن إسرائيل وابن الخيمي اجتمعا بعد ذلك بحضرة جماعة من الأدباء، وجرى الحديث في الأبيات المتقدمة، فأصر ابن إسرائيل

ص: 303

على أنه ناظمها، فتحاكما إلى الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رحمه الله وهو المشار إليه في معرفة الأدب، ونقل الشعر في ذلك الوقت، فقال: ينبغي لكل واحد منكما أن ينظم أبياتاً على هذا الوزن والروى ليستدل بها، فنظم ابن الخيمي هذه الأبيات:

لله قوم بجرعاء الحمى غيب

حنوا علي ولما أن حنوا عتبوا

يا قوم هم أخذوا قلبي فلم سخطوا

وأنهم غضبوا عيشي فلم غضبوا

هم الكريب بنجد منذ أعرفهم

لم يبق لي معهم مال ولا نسب

شاكون للحرب لكن من قدودهم

وفاترات اللحاظ السمر والقضب

عهدت في دمن البطحا عهد هوى

إليهم وتمادت بيننا حقب

فما أضاعوا قديم العهد بل حفظوا

لكن لغيري ذاك العهد قد نسبوا

من منصفي من لطيف فيهم غنج

لدن القوام لاسرايل ينتسب

مبدل القول ظلماً لا يفي بمواعيد الوصال ومنه الذنب والغضب

في لثغه الراء منه صدق نسبته

والمن منه يزور الوعد والكذب

موحد فيرى كل الوجود له ملكاً

ويبطل ما يقصي به النسب

فعن عجائبه حدث ولا حرج

ما ينتهي في المليح المطلق العجب

بدر ولكن هلالاً لاح إذ هو بالوردى من شفق الخدين منتقب

في كأس مبسمه من حلو ريقته

خمر ودر ثناياها بها خبب

ص: 304

فلفظه أبداً سكران يسمعنا

من معرب اللحن ما ينشى لها الأدب

تجنى لواحظه فينا ومنطقه

جناية تجتني من مرها الطرب

قد أظهر السحر في أجفانه طرباً

البرء منه إذا ما شاء والعطب

حلو الأحاديث والألفاظ ساحرها

يلقى إذا نطق الألواح والكتب

فداؤها ما جرى في الدمع من مهج

وما جرى في سبيل الحب محتسب

ويح المتيم شام البرق من اضم

فهزه كاهتزاز البارق الحرب

وانسكف البرق من وجد ومن كلف

من قبله فهو في الأحشاء به لهب

فكلما لاح منه بارق بعثت

قطر المدامع من أجفانه سحب

وما أعادت نسمات الغوار له

أخبار ذي الائل إلا هزه الطرب

واهاً له أعراض الأحباب عنه وما

أخذت رسائله الحسنى ولا القرب

ونظم نجم الدين محمد بن إسرائيل قوله:

لم يقض من حبكم بعد الذي يجب

قلب متى ما جرى تذكاركم يجب

ولي دمى لرسم الدار بعدكم دمع

متى جاد صيب بالحيا السحب

أحبابنا والمنى تدني مزاركم

وربما حال من دون المنى الأرب

ما رأيكم من حياتي بعد بعدكم

وليس لي في حياة بعدكم أرب

قاطعتموني فأجراني مواضلة

وحلتم محلاً لي فيكم التعب

ويا نسيماً سرى والعطر يصحبه

أحرت حين مشين الخرد العرب

ص: 305

أقسمت بالمقسمات الدهر يحجبها

سمر العوالي والهندية القضب

لكدت تشبه برقاً من ثغورهم

بادر دمعي لولا الظلم والشنب

وجيرة جار فينا حكم معتدل

منهم ولم يعتبوا لكنهم عتبوا

ما حيلتي قربوني من محبتهم

وحال دونهم التقريب والخبب

وعرضت القصيدتان على الشيخ شرف الدين بن الفارض، فأنشد مخاطباً لابن إسرائيل بيت ابن الخيمي، وهو:

لقد حليت ولكن فاتك الشنب

وحكم بالقصيدة الأولى لابن الخيمي، واستحسن بعض الحاضرين أبيات ابن إسرائيل، وقال: من ينظم مثل هذه! ما الحامل له على إدعاء ما ليس له؟ فقال ابن الخيمي: هذه سرقة عادة لا سرقة حاجة، وانفصل على ذلك، وسافر ابن إسرائيل لوقته من الديار المصرية. هذا مضمون حكاية الموفق رحمه الله.

محمد بن يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح أبو عبد الله محيى الدين الحراني المعروف بابن الصيرفي. مولده سنة ست وعشرين وست مائة، وتوفي بدمشق يوم السبت لليلتين خلتا من ذي الحجة، ودفن يوم السبت بمقابر باب الفراديس رحمه الله. كان عنده فضيلة، وحسن عشرة، وعلى ذهنه من الأشعار، والحكايات، وأخبار الناس، والتواريخ قطعة صالحة. سمع الكثير من صغره، وفي حال كبره، وتولى عدة جهات، وكان له حرمة، ومكانة، وملازمة للأمير افتخار الدين وولده الأمير ناصر الدين

ص: 306

رحمه الله تعالى وتوكل للأمير علم الدين سنجر أمير خازندار الملك الظاهر وغيره رحمه الله.

يوسف بن محمد بن عبد الله أبو الفضائل مجد الدين المعروف بابن المهتار. مولده في حدود سنة عشر وست مائة، وتوفي بمسجده داخل باب الفراديس بدمشق بعد الظهر من يوم الاثنين تاسع ذي القعدة، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة باب الفراديس رحمه الله تعالى. كان رجلاً حراً أديباً، يكتب خطاً منسوباً، وجود عليه خلق كثير، وانتفعوا به، وسمع الكثير، وأسمع، وكف بصره قبل وفاته بمدة رحمه الله تعالى، ومن شعره:

تعالى الإله الواحد الصمد الفرد

العليم بما يخفى من العبد أو يبدو

له المثل الأعلى على كل خلقه

فليس له قبل وليس له بعد

سميع إذا دبت على الضحر نملة

وينظر في الظلماء ما هو مسود

كريم حليم راحم متعطف

فظن به الإحسان يا أيها العبد

فمن مثل مولى يغفر الذنب كلما

عصيت إذا استغفرته فله الحمد

يوسف بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحيم بن الوليد بن القاسم بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي العثماني الشافعي أبو الفضائل قاضي القضاة بهاء الدين بن قاضي القضاة محي الدين بن قاضي القضاة مجير الدين أبي المعالي بن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن بن

ص: 307

قاضي القضاة منتخب الدين أبي المعالي. مولده سنة أربعين وست مائة، وتوفي ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة، ودفن بتربتهم المعروفة بسفح قاسيون، كان إماماً عالماً فاضلاً محجاجاً، مناظراً في سائر العلوم الإسلامية، لم يكن له في وقته نظير مع صغر سنه، جمع الله تعالى له في صغر السن حسن الشكل وشرف البيت والفضيلة التي لم تكن في غيره في زمانه ما كان عليه من اللطافة في المحاضرات، وإيراد الأشعار الفائقة الكثيرة من أشعار العرب، وأشعار المتأخرين، والحكايات الغريبة، وإذا أنشد أحد بحضرته بيتاً يستشهد به على شيء من المسائل اللغوية، أنشد هذه القصيدة بكاملها بأحسن إيراد، وكمل ذلك بمكارم الأخلاق، وكرم النفس وطلاقة الوجه، وحسن المحاضرة، وكثرة الديانة، وكان مدرساً بمدارس والده المشهورة، وكان قيماً بدروسها حفظاً، ومناظرة، وبحثاً على اختلاف علومها، وكان كثير الاشتغال لم يتفرغ لحفظ الدروس إلا في طريق الميدانية عند عبوره البلد، يطالع كل درس مرتين أو مرة وهو راكب فتعلق بذهنه، ويورده آخر إيراد، وهذا لم يعهد لغيره، وكان مقصوداً بالفتاوي من سائر الأقطار، وترجح وتفنن بالدليل القاطع، ويقوي بعض الأوجه الضعيفة في المذهب ويفتي بها، ويسأل من يناظره فيها، وكان فقهاء البلد ومشايخه في سائر العلوم فقهاء عنده في مدارسه، ولا يقدر أحد على مجازاته في بحوثه، وكان فاق رجال زمانه في العلوم العقلية، فإنها أتقنها على القاضي الإمام كمال الدين عمر التفليسي لما كان بمصر عند والده، وقال

ص: 308

كمال الدين المذكور في حقه: لم أر أنبه منه ولا أحد ذهناً. هذا وهو في سن الصغر، وليس له عشرون سنة، ومن أغرب ما حدث في الدرس بالعزيزية أن شخصاً من علماء الخلاف حضر إلى درسه، وأورد عليه بلمة خلاف فتلقى الجواب بصدره، وشرع في حلها وعكسها عليه، فادعى الملقى لها عند ذلك بقصوره عن مضمان القاضي بهاء الدين المذكور، وقال: ما رأيت في بلاد العجم ولا العرب مثله. وتعجب الفقهاء الحاضرون من ذلك تعجباً عظيماً، وهذا دليل على غزارة علمه، وعظم قدره، وتوسعه في العلوم، ثم بعد ذلك خلع على الخلافي، وأحسن إليه، وأجازه جائزة سنية، وكان هذا الخلافي قد حضر مدارس الممالك الإسلامية، وأورد عليهم تلك النكيتة التي رتبها، فما أجابه أحد، فلما أجابه القاضي بهاء الدين من غير تفكير ولا تثبت، وعكسها عليه تحير في أمره. وسافر لوقته، وهذا من المناقب التي ما سمعت لأحد قبله. وكانت الشعراء تقصده بالمدائح من سائر الأقطار لكثرة جوائزه، وكرم نفسه، فمن مدحه بقصيدة بديعة الأديب شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني، وأجازه عليها جائزة سنية وخلع عليه. ونقلت من خطه، وهي:

وافى وأرواح العذيب بواسم

والليل فيه من الصباح مباسم

أهلاً بمن أسرى به وغدا له

متأخر وهوى لنا متقادم

غصن الشبيبة والملاحة يعذر

المضني به ويلام فيه اللائم

النضر من أعطافه وكتابه

بلحاظه ولمهجتي هو هاشم

ص: 309

أمعنفين على الغرام وقلما

يصغي لأوهام العواذل هائم

هو ناظر متعشق وجوانح

فيها مواطن للجوى ومعالم

وهوى لقلبي عامراً أبا عادم

صبري وأخو الملامة راغم

هيهات أن أثني عناني والصبى

نضر وغصن العمر رطب ناعم

أو أشتكي حالي ومن أحببته

أبداً لا خلاف القبول ملازم

أو أختشي خطباً أراه ببلدة

وبها بهاء الدين يوسف حاكم

شرف أقيم بعبد شمس أسه

وله قريش ذو الفخار دعائم

لا يلتقي يوم المعاد سواهم

متبسماً حيث الوجوه سواهم

يا خير من نيطت عليه العلى

ومن المهابة والجلال تمائم

حاشا لعزمك أن تقوم لهمة

والدهر عن إتمامها لك باسم

أو أن يلوح وليس يخفى جاهل

أو أن يثير وليس بعدك ظالم

ما كان فداؤك من كريم ينثني

كلا ولا ولدت سواك أكارم

أبني الزكي سقيتم ورويتم

ونفيتم والأكرمون فداكم

إذا ما قيل هو أعربت

أحساب أعراب لكم ومكارم

من مثل جدكم ومثل أبيكم

ما مثل جدكم ومثل أباكم

حسب المرجى في المعاد شفاعة

منكم ومن قبل المعاد نداكم

يتسابق الأذهان في إدراككم

ويفوت أسبقها أقل مداكم

من للخلاف وللوفاق مسائلاً

وحصائلاً والمعلى إلاكم

لو أطلق اسم النيران لما سرى

ذهن الذي هو سامع لواكم

ص: 310

أو كان وحي بعد أحمد منزل

لبدت لكم آى به وعلائم

عثمان جدكم وذلك حسبة

وكفى وذلك حسبكم وكفاكم

فهذه الأبيات تدل على بعض ما يستحقه من المناقب، ولقد جمعت بعض مناقبه، وهي مليحة في بابها، مستوفية لبعض الترجمة رحمه الله تعالى. ومدحه المولى شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء، وأرسلها إليه وقد سافر، وهي:

لولا تذكره الحي الذي بانوا

ما عاج نحو الحمى واستخبر البانا

ولا رعى أنجم الجوزاء يحسبها

لما استقلت بيوت العرب إظعانا

ولا صبى للصبا يهفو فيأخذها

روحاً ويبعثها الأحشاء نيرانا

صب بكى الربع بعد الظاعنين وقد

أبدى له القلب دون الطرف عرواناً

مثل الكتاب محا آثار أسطره

عهد قديم وأبقى منه عنوانا

بانوا فلا زال دمع الطل بعدهم

في الروض يملأ الأزهار أجفانا

ولا ونى فيه معتل النسيم إذا

أخفى السرى ساقه الأغصان إعلانا

يحدث الدوح عن هز الصبي مرحاً

أعطافهم فيميل الغصن نشوانا

وكلما عاد عنه نحوهم علقت

به الرياض وجرت منه أردانا

وحملته إشارات لها نطقت

معنى فرجع فيها الورق ألحانا

هل جاد معناكم دمعي فغادره

من بعد ظنت الأمواه غدرانا

أعائد بعد ما شابت بشاشته

على الحمى عيش غض كما كان

ص: 311

إياهم ألثم جيد الرئم ملتفتاً

نحوي وأعطف غصن البان ريان

وأجتلي من يكاد البدر يشبهه

لو لم يكن يعتريه النقص أحيانا

يبيح طرفي حمى خديه عارضه

فيجتني منهما ورداً وريحانا

وكلما وردت في روض وجنته

مناهل الحسن عني عدت ظمآنا

فاليوم بعد الرضى في القرب أقنع أن

يزورني في البعاد الطيف غضبانا

وكيف يرقد جفن بات ناظره

أو يطوف الطيف طوفاً بات سهرانا

إن لان أظهر سر الوجد بعدكم

وأنثني سوى الدمع أو اضمرت سلوانا

فعفت راح الهوى واخترت أن حليت

كؤوسها وسها غير أهل الوجد خلانا

لله خيف هوى تلقاء التقائه

حتى لقد حسد الأحياء قتلانا

نسخوا بأنفسنا فيه كأن ندى

قاضي القضاة بهاء الدين إعلانا

أبو الفرج بن يعقوب بن إسحاق بن القف الملقب أمين الدولة الحكيم الفاضل من نصارى الكرك. مولده يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وست مائة بالكرك، كان فاضلاً، ماهراً، بارعاً في الصناعة الطبية، ظهرت نجابته من صغره، وكان حسن السمت، كثير الصمت، وافر الذكاء، اشتغل بالطب على موفق الدين ابن أبي أصيبعة، وقرأ عليه حفظاً مسائل حنين والفضول، ومقدمة المعرفة لأبقراط؛ وعرف شرح معانيها من صغره، وقرأ عليه بعد ذلك في العلاج من كتب أبي بكر محمد بن زكريا الرازي ما عرف به أقسام الأسقام، وحشم العلل في الأجسام، وكان اشتغاله عليه بصرخد، ثم انتقل إلى دمشق، ولازم علماء عصره بدمشق،

ص: 312

مثل الشيخ شمس الدين عبد الحميد الحروشاني، والعز الضرير، والنجم بن السفاح، والموفق يعقوب السامري، وقرأ كتاب أقليدس على مؤيد الدين العرضي، وخدم بصناعة الطب في قلعة عجلون، ثم عاد إلى دمشق وخدم بقلعتها، وكان والده حفظه الأشعار، ونقل التواريخ والأخبار، ولما توفي الحكيم أمين الدولة في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين وست مائة، رثاه سيف الدين أبو بكر المنجم بهذه الأبيات:

يا مأتماً قد أتى بالويل والحرب

رميت ركن الحجي والمجد بالعطب

شلت يداك لقد أصميت أي فتى

رحب الذراعين رياناً من الأدب

أيتمت طلاب علم الطب قاطبة

وعوضوا عنك بالأفعال في التعب

حق علينا بأن نفديك أنفسنا

لو كان ذاك لبادرناك في الطلب

أبعد درسك يا ابن القف ينفعنا

أقوال قوم عن التحقيق في حجب

قد مات إذ مت حقاً بحر فلسفة

طماً وجامع العلم في اللحود خبى

وبالشفاء سقام مذ نويت وقد

غدا لفجعتك القانون في صخب

والهف قلبي وواحزني ويا أسفي

ويا مصاباً دهاني فيك واحربى

حزني عليك مذ الأيام متصل

وكل عمري أقضيته مع الوصب

أأطمع الآن في درس ومدرسة

إني إذاً لخؤون غير ذي حسب

لهفي على كهف علم كان يجمعنا

دوي وأضحى رهين الحتف في الترب

من أبيات. ولأمين الدولة المذكور من التصانيف: كتاب الشافي في أربع مجلدات، شرح كتاب من كتاب القانون لابن سينا ست مجلدات، شرح الفصول لأبقراط مجلدان، جامع الغرض مجلد، المباحث العربية،

ص: 313