الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: مشاهد من يوم القيامة وتوبيخ المشركين على مزاعمهم
المناسبة
بعد أن ردّ القرآن الكريم على حجج المشركين، وبيَّن تهافتها بتأكيده على أن الأمن يكون بالقرب من الله، وأن الخوف في البعد عنه، يجول النص بهم جولة أخرى بعرض مشهد من مشاهد يوم القيامة وما يحصل فيه من الإهانة والتقريع والعذاب للمشركين حين يسألهم عدة أسئلة للتوبيخ والتأنيب:
السؤال الأول: {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ؟
السؤال الثاني: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} ؟
السؤال الثالث: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} ؟
فأراد القرآن الكريم من خلال هذه الآيات أن يجسد حقيقية مهمة لعباده، مفادها أن الخوف ينبغي أن يكون من الله، فهو القاهر فوق عبادة ويبطل الخوف من غيره، فما قدره الله كائن لا محالة، وما لم يقدر لم يقع أبداً. إذن علام الخوف من المرض، وعلام الخوف من الفقر، وعلامة الخوف من الموت إذا كان كلّ شي مقدر ومكتوب؟
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 62 - 67.
قال تعالى {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ((1)) .
تحليل الألفاظ
1.
{تَزْعُمُونَ} :
الزَّعْم والزِّعم والزُّعْم ثلاث لغات القول زَعَمَ زَعْماً وزُعْماً وزِعْماً، أي: قال. وقيل: هو القول يكون حقاً ويكون باطلاً.
وقال الليث: سمعت أهل العربية يقولون: إذا قيل: ذكر فلان كذا أو كذا، فإنما يقال ذلك للأمر يستيقن أنه حق، وإذا شك فيه فلم يدر لعله كذب أو باطل. قيل: زعم فلان. وقيل: الزعم الظن. وقيل: الكذب ((2)) .
قال الراغب الأصفهاني: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلين به ((3)) .
2.
{أَغْوَيْنَا} :
غَوَى الغَيَّ الظَّلال والخيبة. غَوَى بالفتح غَيَّاً وغَوِى غِوَايَة، فعن أبي عبيد: ضلَّ ورجل غاوٍ وغَوٍ وغَوَى وغَيَّان ضَالّ وإِغْواء. قال ابن الإعرابي: الغَيّ الفساد ((4)) .
قال الراغب الأصفهاني: " الغَيُّ جهل من اعتقاد فاسد "((5)) .
3.
{تَبَرَّأْنَا} :
قال الراغب: برأ أصل البُرْء والبَراء والتَّبِّري مما يكره مجاوزته ولذلك. قيل: بَرَأْتُ من المرض، وبَرَأتُ من فلان، وتَبَرَّأتُ وأبْرَأتُه وأَبْرَأتُه من كذا، وبَرَأتُه، ورجل بَرِئ وقوم بُرَاء وبَرِيئُون ((6)) .
4.
{فَعَمِيَتْ} :
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 175.
(2)
لِسَان العَرَب: مَادة (زعم) 12/ 264.
(3)
معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 217.
(4)
لِسَان العَرَب: مَادة (غوي) 15 /140.
(5)
معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 380.
(6)
معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 38.
العمى: ذهاب البصر كله عَمِي يَعْمَى عَمَىً فهو أَعْمَى وأعْمَاي يعَامِي أعْمِياء، وتعمَى في معنى عَمِيَ. قال الليث: رجل أعْمَى وامرأة عَمْياء ولا يقع هذا النعت على العين الواحدة لأن المعنى يقع عليها جميعاً ويقال: امرأتان عُمياً ونسوة عُمياً وقوم عُمي، وتَعَامى الرجل أي أري من نفسه ذلك ((1)) .
وقال الراغب: العَمَى في اقتضاء البصر والبصيرة، ويقال في الأول: أعمى، وفي الثاني أعمى وعمٍّ. وعَمِي عليه، أي: أشتبه حتى صار بالإضافة إليه كالأعمى ((2)) .
5.
{الْمُفْلِحِينَ} :
الفَلح والفَلاح: الفوز والنجاة والبقاء في النعيم والخير. قال الأزهري: إنما قيل لأهل الجنة مفلحون لفوزهم ببقاء الأبد ((3)) .
وقال الراغب الأصفهاني: الفلاح الظفر وإدراك بغية، وذلك ضربان دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، وهو البقاء والغنى والعز، وفلاح أخروي وذلك أربعة اشياء بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل " ((4)) .
القراءات القرآنية
1.
{غَوَيْنَا} :
قرأ أبان عن عاصم وبعض الشاميين: (غَوِينا) بكسر الواو ((5)) .
2.
{يُنَادِيهِمْ} :
قرأ يعقوب: (يناديهم) بضم الهاء ((6)) .
3.
{فَعَمِيَتْ} :
وقرأ الأعمش، وجناح بن حبيش، وأبو زرعة، وابن عمرو بن جرير بضم العين وتشديد الميم (فَعُمَّيَتْ) والمعنى أظلمت عليهم الأمور فلا يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم ((7)) .
4.
{يَتَسَاءَلُونَ} :
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (عمي) 150 /95 – 99.
(2)
معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 361.
(3)
لِسَان العَرَب: مَادة (فلح) 2 /547.
(4)
معجم مفردات ألفاظ القرآن: 399.
(5)
البَحْر المُحِيْط: 7 /128.
(6)
غيث النفع: ص 343.
(7)
المحرر الوجيز: 12 /180. البَحْر المُحِيْط: 7/129.
قرأ طلحة (يسَّاءلون) بإدغام التاء في السين، أي: لا يسأل بعضهم بعضاً فيما يتحاجون به ((1)) .
القضايا البلاغية
أولاً. أسلوب السخرية والتهكم في قول تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ((2)) .
ثانياً. تشيبه مرسل في قوله تعالى: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} ووجه الشبة في أنهم تلقوا الغواية من غيرهم فأفاد التشبيه أن المجيبين أغواهم مغوون قبلهم وهم يحسبون هذا الجواب يدفع التبعية عنهم ((3)) .
ثالثاً. استعارة تصريحية ((4)) تبعية في قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} أستعير العمى لعدم الاهتداء، فهم لا يهتدون للأنباء، ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وضمن معنى الخفاء فعدي بـ (على) ففيه أنواع من البلاغة الاستعارة والقلب والتضمين ((5)) .
المعنى العام للآيات
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}
(1) البَحْر المُحِيْط: 7 /129.
(2)
الكَشَّاف: 3 /187.
(3)
التحرير والتنوير: 2 /158.
(4)
الاستعارة التصريحية: ما صرّح فيها بلفظ المشبه به، وذكر فيها شيء من لوازم المشبه. كقول الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
المشبه به: المستعار منه: الدقات القائمة والقول بمعنى الدلالة. والمشبه: المستعار: الشيء الدال. والجامع بينهما: إيضاح المراد من الحياة. والقرينة: نسبة القول إلى الدقات. والتبعية منها: هي ما يكون فيها اللفظ المستعار فعلا أو اسما مشتقا أو اسما مبهما أو حرفا. ينظر شرح التلخيص: 122، 144. تنبيه الوسنان: ص 32 –33.
(5)
ينظر محاسن التأويل: 13/ 4719. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /366.
قال أبو حيان: " يوم يناديهم الله ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة "((1)) .
وقال الثعالبي: " الضمير المتصل بـ (ينادي) لعبدة الأوثان والإشارة إلى قريش وكفار العرب "((2)) .
{أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} . قال الرازي: " أين الذين ادعيتم ألهيتهم لتخلصكم؟ أو أين قولكم تقربنا إلى الله زلفى، وقد علموا أن لا اله إلا الله، فيكون ذلك زائداً في غمهم إذا خوطبوا بهذا القول "((3)) .
وقال البقاعي: " ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله {الَّذِينَ كُنتُمْ} ، أي: كوناً أنتم عريقون فيه (تزعمون) ليدفعوا عنكم أو عن أنفسهم "((4)) .
{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ}
" الشياطين وأئمة الكفر ورؤوسه و (حق)، أي: وجب عليهم القول، أي: مقتضاه ((5)) ، وهو قوله تعالى:{لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ((6)) .
نلاحظ تكرار (الذين) :
أولاً: {الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} .
وثانياً: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ} .
ما الغرض من ذلك؟
يجيبنا الآلوسي رحمه الله بقوله: " المراد بالموصول الشركاء والذين كانوا يزعمونهم شركاء من الشياطين ورؤساء الكفر وتخصيصهم بما في حيز الصلة مع شمول مضمونها الاتباع أيضاً لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب، والتعبير عنهم بذلك دون زعمهم شركاء لإخراج مثل عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام لشمول الشركاء على ما سمعت له "((7)) .
(1) البَحْر المُحِيْط: 7 /128.
(2)
الجواهر الحسان: 4 /278.
(3)
مفاتيح الغيب: 13/ 13.
(4)
نظم الدرر: 5/ 509.
(5)
ينظر الوسيط: 3 /405. البَحْر المُحِيْط: 7 /128.
(6)
سُوْرَة هُوْد: الآية 119.
(7)
?????????????????????????????
{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}
أي: ربنا أن هؤلاء الاتباع الذين أضللناهم أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن كذلك، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل لا القسر والإلحاد فهم كانوا مختارين حين اقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب المشحونة والزواجر بالوعد والوعيد والمواعظ ((1)) .
{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} قال القرطبي: " أي: تبرأ بعضنا من بعض والشياطين يتبرؤون ممن أطاعهم والرؤساء يتبرؤون ممن قبل منهم "((2))
كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} ((3)) .
{مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} قال الزمخشري معناها: " إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم "((4)) .
وقال ابن عاشور: " ابتدءوا جوابهم بتوجيه النداء إلى الله بعنوان أنه ربهم، نداء أريد منه الاستعطاف بأنه الذي خلقهم اعترافاً منهم بالعبودية وتمهيداً للتنصل من أن يكونوا هم المخترعين لدين الشرك "((5))
{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} قال البقاعي: " وقيل: أي ثانياً للاتباع تهكماً بهم وإظهاراً للاستهانة لعجزهم الملزوم لتحسرهم وعظم تأسفهم، وعبر بصيغة المجهول إظهاراً للاستهانة بهم "((6)) .
(1) ?????????????????????????????????????????????????????????????
(2)
?????????????????????????????????????????????
(3)
??????????????????????????????????????
(4)
??????????????????????????
(5)
??????????????????????????????????
(6)
??????????الدرر: 5 /510.
{فَدَعَوْهُمْ} قال أبو حيان:"هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن لا يجيبهم".
وقال ابن عاشور: " والدعاء دعاء الاستغاثة حسب زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله في الدنيا "((1)) .
وقال الآلوسي: " لفرط الحيرة والإفلاس هناك طلب حقيقة الدعاء وقيل: دعوهم لضرورة الامتثال على أن هناك طلباً والغرض من طلب ذلك منهم تفضيحهم على رؤوس الأشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه "((2)) .
{فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} قال أبو السعود: " ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة "((3)) .
{وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} ، فكثير من المفسرين زعموا أن جواب (لو) محذوف وذكروا فيه وجوهاً:
أحدهما ـ قال الضحاك، ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة.
ثانياً. لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أن العذاب حق.
ثالثاً. ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون.
رابعاً. لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب.
خامساً. قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذ رأوا العذاب ((4)) ، ويؤكد ذلك قوله تعالى:{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ} ((5)) .
فإن المراد به ـ والله اعلم ـ أن المشركين حينما يرون العذاب في الآخرة، وأنه واقع بهم لا محالة، وحاصل كما ذكره الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهم وحذرهم منه يتمنون لو أنهم كانوا مهتدين، ولات حين مناص، ولا يمكن أن يراد بالعذاب عذاب الدنيا كما قال ابن عاشور ((6)) .
(1) التحرير والتنوير: 20/160.
(2)
روح المعاني: 2 /101.
(3)
إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /22.
(4)
مفاتيح الغيب: 13/9.
(5)
سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 201.
(6)
التحرير والتنوير: 20 /160- 161.
وذلك لأننا إذا رجعنا قليلاً إلى الآيات التي قبل هذه، فكلها تتحدث عن يوم القيامة قال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، أي: يوم القيامة يناديهم ثم ما يحصل من تبرأ بين الذين أتَبَعوا والذين أَتُبِعوا {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} ، ثم يسألهم الله ليوبخهم، ويبين لهم عدم قدرة من اتخذوهم آلهةً على نصرهم. فبعد أن سقطت كل حججهم، وتبين لهم كم كانوا على ضلال ورأوا العذاب، فتمنوا لو أنهم كانوا مهتدين مع من اهتدى.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} . قال القرطبي: " أي: يقول الله لهم ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي "((1)) .
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} . قال الماوردي: فيها وجهان:
" الوجه الأول ـ الحجج، قاله مجاهد.
الوجه الثاني ـ الأخبار، قاله السدي " ((2)) .
وقال ابن الجوزي: " سميت أنباء لأنها أخبار يخبرها "((3)) .
{فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} نقل القرطبي عدة آراء للعلماء في معناها:
قال الضحاك: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحجج، لأن الله أدحض حججهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: {لَا يَتَسَاءَلُونَ} لا ينطقون بحجة.
وقيل: {لَا يَتَسَاءَلُونَ} في تلك الساعة ولا يدرون ما يجيبون من هول تلك الساعة.
وقال مجاهد لا يتساءلون بالأنساب.
وحكى عيسى أنه لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحمل من ذنوبه شيئاً (4) .
والذي أراه في ذلك هو رأي ابْن عَبَّاس لصوابه ودلالته على الحجة.
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5020.
(2)
النُّكَت والعُيون: 3/ 235.
(3)
زَاد المَسِيْر: 6/ 236.
(4)
الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5020.
{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} {فَأَمَّا مَنْ تَابَ} ، أي: من الشرك {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} جمع بين الإيمان والعمل الصالح {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} قال الآلوسي: " أي: الفائزين بالمطلوب عنده تعالى الناجين عن المهروب "((1)) .
وقد ذكر العلماء في (عسى) وجوه ذكرها الرازي:
إنه من الكرام تحقيق والله اكرم الأكرمين.
أن يراد ترجي التائب وطمعه كأنه قال فليطمع في الفلاح.
عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة والإيمان لجواز أن لا يدوموا ((2)) .
وقال الطبري: " وعسى من الله واجب "((3)) .
وابن كثير:" عسى من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضله ومنته لا محالة "(4) .
وقال ابن عطية: " وهذا ظن حسن بالله تعالى يشبه فضله وكرمه واللازم من (عسى) أنها ترجيه لا واجبة، وفي كتاب الله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِن
طَلَّقَكُنَّ} ((5)) " ((6)) .
وقال الثعالبي: " معنى الوجوب الوقوع "((7)) .
وذكر ابن عاشور: " {فَعَسَى} ترج لتمثيل حالهم بحال من يرجى منه الفلاح. و {أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} أشد في إثبات الفلاح ثم أن يفلح "((8)) .
وقال البقاعي: " وإنما يقطع له بالغلام وإن كان مثل ذلك في مجاري عادات الملوك قطعاً إعلاماً بأنه لا يجب عليه سبحانه شيء ليدوم حذره ويتقي قضاؤه وقدرة، فإن الكل منه "((9)) .
ما يستفاد من النصّ
دلت الآيات السابقات على ما يأتي:
(1) روح المعاني: 20 /103.
(2)
مفاتيح الغيب: 13 /10.
(3)
جامع البيان: 10 /94.
(4)
تفسير القرآن العظيم: 3/ 397.
(5)
سُوْرَة التَّحْرِيمِ: الآية 5.
(6)
المحرر الوجيز: 12 /181.
(7)
الجواهر الحسان: 4/ 279.
(8)
التحرير والتنوير: 20 /164.
(9)
نظم الدرر: 5 /512.
أولاً. هناك في الآيات نداءان؛ النداء الأول لإثبات الألوهية لله وحده لا شريك له من خلال إخباره عز وجل عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة حيث يناديهم {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، وقوله تعالى:{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} .
ثانياً. النداء الثاني لإثبات النبوات من خلال قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} ، ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم وكيف كان حالكم معهم، وهذا كما يسئل العبد في قبره: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا اله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله. وأما الكافر فيقول: هاه، هاه لا أدري. ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت، لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قال تعالى:{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) .
ثالثاً. أجابت الآيات عن ما يتبادر من سؤال في الذهن وهو: ما حكم من تاب من المشركين ((2)) ؟ بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} .
وعطف الإيمان عليها لأن المقصود حصول إقلاع عن عقائد الشرك وإحلال عقائد الإسلام محلها، ولذلك عطف عليه بقوله {وَعَمِلَ صَالِحًا} ، لأن بعض أهل الشرك كانوا شاعرين بفساد دينهم، وكان يصدهم عن تقلد شعائر الإسلام أسباب مغرية من الأعراض الزائلة التي افتتنوا بها " ((3)) .
فباب التوبة إذا مفتوح للمشركين ولغيرهم بهذه الشروط:
الندم بالقلب.
ترك المعصية في الحال.
العزم على ألا يعود إلى المعصية.
(1) ينظر تفسير القرآن العظيم: 3 /397.
(2)
ينظر التحرير والتنوير: 20/ 163.
(3)
التحرير والتنوير: 20 /163.