الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثوق النبي (صلى الله عليه وسلم) بربه.
عظمة الدار الآخرة في الرجوع إليها.
إسناد كل شيء لله سبحانه وتعالى.
صحة إنزال القرآن الكريم.
أهمية الرجوع لله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
انتصار الإسلام.
العودة للأرض التي أخرج منها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
إن الهدى والضلال علمها عند الله سبحانه وتعالى.
وبذلك تتضح مقومات شخصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكذلك الأمر في قوله تعالى مخاطباً رسوله (صلى الله عليه وسلم) :{وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ} ((1)) ، فهي آية دالة على أن الله يصطفي من رسله من يشاء عن غير استعداد نفسي منهم كما يقول بعض الفلاسفة والعقلانيين والملاحدة الذين جعلوا الرسالة اصطفاء عقلياً فبان بذلك فضل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وكذلك قوله تعالى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) آمراً فإن المأمور من الله تعالى مستلزم لشرفه وفضله (تَكُونَنَّ)(لا يصدنك)(ادع)(لا تدع) فكلها أشرف خطاب لأشرف الرسل عليهم وعليه أفضل الصلاة والسلام.
وبذلك كله يمكن أن تصور رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على ما أسلفنا.
المطلب الخامس: المناسبة بين رسالة الرسول مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) ورسالة سيدنا موسى (عليه السلام) كما جاءت في سُوْرَة الْقَصَصِ
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
لقد جاءت سورة القصص في فترة نزولها المكية لتؤكد جانباً مهماً من الجوانب الإيمانية التي نبه عليها المفسرون القدماء منهم والمحدثون ألا وهو جانب المناسبة، بمعنى (التناسب الإيماني) بين الرسالة المحمدية وبين الرسالة الموسوية، ولعل مما يوضح ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :((لو كان موسى حياً ما وسعه إلا إتباعي)) ((1)) .
لذلك اشتدت عناية بعض حاقدي اليهود ومبشري النصارى بتحليل سورة القصص لإثبات كونها مأخوذة من سفر الخروج وسفر تثنية الاشتراع ((2)) .
وقد لاحظنا من خلال تحليلنا لسورة القصص أنها تشكل رابطاً خفياً لا يكاد ينتبه إليه أحد في العلاقة بين رسالة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورسالة موسى (عليه السلام) . وهو اتحاد القضيتين في المبنى والمعنى والدلالة.
ويكفي في إثبات ذلك أن المناسبة هاهنا تكمن في وجود روابط خفية في السورة بين أولها وآخرها تدلّ على ذلك، وأن هيمنة الرواية القرآنية على المرويات الإسرائيلية (المنحولة) أمر قد غدا في حكم المسلمات العلمية التي تثبت بالبراهين والأدلة ((3)) .
(1) مُصَنَّف ابن أبي شَيْبَة: 5 /312 من حديث جابر بن عَبْد الله والحديث حسن الإسناد.
(2)
ينظر الَقُرْآن والكتاب: 1 /122 و 2/ 142 و 3/225. وفيه يذكر كون سُوْرَة الْقَصَصِ مأخوذة من سفر الخروج مع إعادة صياغة (إسلامية) .
(3)
ينظر الإنجيل والصليب. عبد الأحد داود. الطبعة الثانية. قطر. الدار الإسلامية. 1405 هـ.: ص 57. الفارق بين الخالق والمخلوق. عَبْد الرَّحْمَن الباججي. الطبعة الأولى. بولاق. مصر. 1305 هـ: ص 145- 147.
وذلك أن الرواية التاريخية في أفاق النص القرآني تعتمد إضافة إلى قدسية مصدرها على الاستعداد الذاتي لقبولها بعد أن تشوهت كل الروايات التاريخية للقصص نفسها في العهد القديم وفي التلموذ (بنسختيه الأورشليمية والبابلية) وفي العهد الجديد بأناجيله الأربعة والرسائل التي تتلوها ((1)) .
وهذا ما توصلت له أحدث الدراسات الجديدة للمؤرخين اليهود والنصارى وفق أحدث المكتشفات الأثرية في فلسطين وفي أرض الجزيرة العربية في مطلع القرن العشرين الميلادي على أيدي الرحالة والمستكشفين.
وفي ذلك يذكر الدكتور رون سنوبي: " إن المقارنة بين ما ورد في أسفار التوراة (العهد القديم) وما ورد في بعض آيات وسور كتاب المسلمين المقدس ترينا أن النص الإسلامي أبتعد ابتعاداً كلياً عن التعتيم التاريخي اليهودي على حقائق حيوات أنبياء بني إسرائيل أو ما يسمى في الأدب اليهودي ـ المسيحي الأباء الأوائل (البطاركة الأول) ، وهكذا فإن قصة موسى على سبيل المثال ـ وهو كما لا يخفى أساس الوجود اليهودي ـ صيغت في أسفار العهد القديم وبخاصة سفر الخروج صياغة توحي ببدائيتها وبأنها أجترحت لموسى أفكاراً لم تكن له، أما كتاب المسلمين المقدس فأنه يصور (موسى) على أنه نبي واجب الاعتراف له بالنبوة ويصفه بأجمل وأحلى وأحسن الصفات "((2)) .
وقد تنبه لذلك كله قوم آخرون من كبار الباحثين حتَّى وإن كانت توجهاتهم علمانية ـ لا دينية ((3)) .
(1) ينظر الديانة اليهودية. إسرائيل شاماك. الطبعة الثانية. دار الطليعة. بيروت. 1995 م.: ص 46. مُحَمَّد في الكتاب المقدس: ص 111.
(2)
تراث العهد القديم. (مع معجم جغرافي للعهد القديم) . د. برنارد روب. ترجمة: جوميد ميضال. الطبعة الأولى. الدار الكاثوليكية للنشر. المطبعة الكاثوليكية. بيروت، لبنان. 1980 م.: ص 117.
(3)
ينظر قراءة سياسة التوراة: ص 85.
وهذا الأمر جعل بعض الباحثين من اليهود أنفسهم يتنصلون من قصة موسى عليه السلام بكاملها، أو يعيدون صياغتها صياغة تختلف كلّ الاختلاف عن النصّ التوارتي وفق نظريات جديدة، وذلك لما لاحظوه في النص التوراتي من كذب ودجل ((1)) .
وفي ذلك يقول فرويد: " المأثور الذي يستند إلى محض تناقل شفهي لا يمكن أن يكون له ذلك الطابع اللجوج التسلطي المميز للظاهرات الدينية، بل هو قد يلقى أذناً صاغية فيقيم ويحاكم وقد ينبذ ويطرح جانباً مثله مثل أي آت من الخارج، ولن يكتب له أبداً في هذه الحال امتياز الإفلات من مقتضيات نمط التفكير المنطقي"(2) .
ففرويد في هذا النص الذي يختم به تحليله للنص التوراتي الذي يسرد سيرة موسى يكَّذب كل ما ورد في التوراة عنه، ويقول كذلك:
" إن واحدة من خصائص قصة موسى تفسر علة اختلاف هذه القصة عن سائر الخرافات المماثلة لها في النوع "((3)) .
وهذا الكلام السقيم اليهودي ـ النصراني تدحضه سورة القصص في أنبائها لصدق الرواية القرآنية وغلبتها وهيمنتها على الروايات الكاذبة وصولاً إلى صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في رسالته.
(1) موسى والتوحيد: ص 98.
(2)
المصدر نفسه: ص 141.
(3)
المصدر نفسه: ص 17.
فقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1)) جاء فيها النصّ مفتوح المعنى لاحتمال أن يفهم من خصوصية لآيات الكتاب المنزل على موسى عليه السلام، أو على مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) وهذا من إعجاز الأسلوب القرآني وقوله تعالى:{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ((2)) يدلّ في اختصاص التلاوة برسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أنه إنما أريد له التسلية عن مواقف فراعنة قريش من كفارها معه عليه السلام)) وكون تلك المواقف سيكون عاقبتها الإلهية عاقبة فرعون.
وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} ((3)) يحتمل الوارثين وراثة قوم موسى ووراثة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للأرض، وهو ما تحقق بعد فتح مكة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكانت المناسبة ظاهرة بين السنتين الإلهيتين.
وقوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((4)) جاءت دالة على المناسبة والمقارنة بين من مكن لهم في الأرض من الطائفتين (بني إسرائيل والصحابة الكرام رضوان الله عليهم) فالتمكين في الأرض من الله تعالى هاهنا دال على أنه يدل في دلالته على المناسبة بين رسالة موسى، ورسالة مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) .
وقوله تعالى: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ((5)) فيه تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في كون الخطاب محتملاً أن يكون مضارعته لام موسى (عليه السلام) ، أو أمر (بالتاء) لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهذا من إعجاز النص القرآني.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(5)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
وقوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((1)) يشبه الذي سيحدث فيها بعد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الخروج بخوف مترقباً من مكة عند الهجرة، وذلك قبل أن يهاجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بزمن.
وقوله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) يدلّ كلّ الدلالة في عموميته وخصوصيته على المناسبة التامة والمقارنة الكاملة بين التوحيد الذي جاء به موسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وسلم) خلافاً لبعض الذين زعموا أن موسى تعلم التوحيد من قوم فرعون ((3)) ، ولا يقول بذلك إلا كافر بالله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ((4)) يدلّ في التوجيه المعنوي وفي تحليل عموميات ألفاظه على أن موسى بَشَّر صدقاً وحقاً برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي جائ بالهدى، وهو من كانت له ولأمته عاقبة الدار.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ((5)) يدلّ على أن توجيه الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) خاص بذاته، لأن النبي لم يكن موجوداً بجانب الغربي، ولكنها كانت موجودة بتواصل الرسالة النبوية ـ الإلهية
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(3)
أسطورة إيزيس. سيد مُحَمَّود القمني. الطبعة الثانية. دار مدبولي. القاهرة. 1994 م.: ص 121.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(5)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} ((1)) وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ((2)) يحملان المعنى ذاته في تواصل الرسالة بين موسى ومحمد ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ.
أما قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} ((3)) فهو نص خاص بأن رسالة مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) كانت متواصلة مع رسالة موسى (عليه السلام) من خلال سياق الفعل المضارع (لتنذر) .
وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} ((4)) خاص بأن عدم الاستجابة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثل عدم الاستجابة التي قام بها فرعون وقومه لموسى (عليه السلام) في العاقبة والمآل. وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِين} ((5)) من أعظم الأدلة على صدق ما عرضنا في هذا المطلب كون هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) كانوا من قبل مسلمين، وهذا دليل ما بعده دليل على المناسبة التواصلية بين الرسالتين.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} ((6)) مما اختلفت فيه العلماء بين أن يكون أمها (أم القرى) ، أو أي مدينة كبيرة على ما قدمنا بيان ذلك فيما مضى، فإذا كان النص محتملاً لهذه المعاني المتواصلة المتقاربة دل على صدق الرسالتين، رسالة مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) ، ورسالة موسى (عليه السلام) .
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.
(5)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53.
(6)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.
قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((1)) . أوتيها قوم موسى فنبذوها وأوتيها أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فحافظوا عليهما فجعلت الأرض لهم ديناً ودنيا على مر حضارتهم الزاهرة العظيمة في الماضي والحاضر والمستقبل.
أما قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ((2)) فإنهما في خطابهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم دالة على صدقه فلو كان هذا القرآن من عنده صلى الله عليه وسلم لما خاطب نفسه هذه المخاطبة وهذا كذلك من الدلائل على المناسبة بين
الرسالتين.
ولا ريب في أننا واجدون من خلال القراءة التحليلية لسورة القصص إن هنالك أوجهاً عجيبة من الشبه النبوي بين سيدنا موسى عليه السلام وسيدنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من خلال تقصينا لحياتهما قبل النبوة وبعد النبوة وهو الأمر الذي تعده بعض التقديرات الإلهية انطلاقاُ من قوله تعالى (والله أعلم حيث يجعل رسالته) فالاصطفاء الإلهي هو بين الحالتين وهذا عين ما عبرت عنه سورة القصص في فاتحتها بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((3)) فالإشارة العامة للكتاب (أي كتاب إلهي كان) تجعل أفاق المقارنة والمشابهة مفتوحة من خلال التقصي لسيرتي النبيين الكريمين.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
ولقد عبر عن ذلك النص القرآني أصدق تعبير إذ قال تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((1)) إذ أن مجيء الصيغة المضارعة (يؤمنون) مشعرة باستمرارية التلاوة الحقة وهكذا يمكن لنا أن نجد استناداً إلى ذلك بعض المقارنات التفصيلية بين حالي الرسولين الكريمين ـ عليهما الصلاة والسلام ـ من خلال سيرتهما القرآنية النبوية الموثقة وفي ذلك رد كل الرد على من زعم ان القصص القرآني لا تفيد أي حقبة تاريخية لا في مبناها ولا في معناها.
وهكذا فنحن واجدون ما يأتي من خلال القراءة المقارنة لسورة القصص:
إن قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ، ثم قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام:{لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((2)) ، ثم قوله تعالى له:{أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} ((3)) يشبه كل الشبه خوف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الإسلام وخروجه من مكة وقوله لأبي بكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} ((4)) ، ثم نزول قوله تعالى له (صلى الله عليه وسلم) :{وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ((5)) فالأمر واحد في الحالتين، وهو يدل على التشابه التام بين القصتين كحكمة إلهية عالية.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(4)
سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 40.
(5)
سُوْرَة المَائِدَة: الآية 67.
إن سيدنا موسى قد رعى الغنم فترة من عمره على ما جاء في الآثار العديد
{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ((1)) ، فكان له من ذلك خبرة في الحياة فجعل رعية لغنم شعيب (عليه السلام) مهراً لأبنته، وسيدنا مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) رعى الغنم فترة من عمره قبل البعثة (على قراريط قريش)((2)) كما قال (صلى الله عليه وسلم)، فحاز من ذلك الخبرة بالناس ومعرفته لهم وتعوده على الصبر. فقوله تعالى في سورة القصص:{أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ((3)) في رعي الغنم كما في حديث رعي الرسول (صلى الله عليه وسلم) للغنم.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 26.
(2)
صَحِيْح البُخَارِي: باب رعي الغنم على قراريط 2 /789 رقم (2143) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) .
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.
إن هناك تشابهاً عجيباً في قصتي الهجرتين هجرة موسى (عليه السلام) وهجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فنجد في سورة القصص قوله تعالى: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ((1)) و {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((2)) و {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} ((3)) يشبه كل الشبه قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} ((4)) ، فالنص واحد والمعنى واحد والنهاية واحدة في النجاة الإلهية إلى النصر الإلهي فموسى (عليه السلام) انتصر على فرعون {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ((5)) . ومحمد (صلى الله عليه وسلم) انتصر على المشركين والكافرين جميعاً {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ((6)) ، وهذا مما يوضح الترابط العفوي بين كل سور وآيات القرآن.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21.
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(4)
سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 30.
(5)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(6)
سُوْرَة النَّصْرِ: الآية 1.
إن هنالك رهبة أولى من تلقي الوحي الإلهي متشابهة بين الرسولين الكريمين، فنجد قوله تعالى في سورة القصص:{يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} ((1)) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ((2)) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَاّ قَلِيلاً} ((3)) ، فالمعنى واحد هو محصول الاطمئنان الإلهي والأمن الرباني بعد الوحي للنبيين إذا أصابهما بعض الروع والخوف فاذهب الله سبحانه وتعالى ذلك عنهما.
إن هنالك تشابهاً كبيراً بين سيرة النبيين الكريمين قبل الزواج في اختيار الزوجة، وفي العلاقة التجارية معهما فموسى (عليه السلام) كما جاء في سورة القصص عمل أجيراً لدى والد زوجته (عليه السلام){قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ((4)) ، أي: أن والدها هو الذي خطبها له. ونجد في السيرة النبوية أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمل عند خديجة بنت خويلد ـ رضي الله تعالى عنها ـ وأجرته في تجارتها، ثم خطبته لنفسها ونجد أن النبيين عملا لدى والد الزوجة، أو الزوجة نفسها لحكمة إلهية لا تخفى على ذوي الألباب تتمثل في التعويد الإلهي على الدخول على كل أصناف المجتمع وتحمل المشاق والمسؤولية وليؤكد على أهمية العمل.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(2)
سُوْرَة المُدَّثِرِ: الآيات 1 – 4.
(3)
سُوْرَة المُزَّمِّلِ: الآيتان 1 – 2.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.
إن النبيين الكريمين ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ استطاعاً من خلال دعائهما أن يحوزا وزيرين يشدان بهما عضدهما وينتصران بهما في دعوتهما فقوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} ((1)) ونجد مقارباً لذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) ((2)) . وقوله تعالى:
{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} ((3)) ففي كلا الحالتين هناك ترابط واحد في السيرتين الشريفتين.
إن النبيين الكريمين رميا بالسحر، {قَالُوا مَا هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} ((4)) ،
{قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ((5)) وهذا من ديدن الكفار من الفراعنة، وكفار قريش على حد سواء.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 34 –35.
(2)
صحيح ابن حبان: 15 /306. المستدرك على الصحيحين: 3 / 89 من حديث ابن عباس. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد صح شاهده عن عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما.
(3)
سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 40.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.
(5)
سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 52.
إننا نجد من هذا التشابه الكبير الواضح بين شخصية الرسول مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) وسيرته الشريفة ومراحل دعوته. وسيرة نبي الله موسى (عليه السلام) أثناء قراءتنا المعاصرة للنص القرآني بآفاقه المفتوحة في سُوْرَة الْقَصَصِ إن مجيء سيدنا مُحَمَّد
(صلى الله عليه وسلم) بعد سيدنا موسى (عليه السلام) وختم الله به الرسالات دالاً على أن الله ارتضى لصلاح هذا الكون ولخلافة الأرض الديانة الإسلامية، وأن أمة الإسلام لها السيادة في الدنيا والآخرة.
وإن من أراد أن يطفئ نور الله الذي هو الإسلام من اليهود والنصارى الذين حرفوا الديانات، وقتلوا الأنبياء، قد حكم الله عليهم في سُوْرَة الْقَصَصِ بأنهم سيلاقون المصير نفسه الذي لاقاه فرعون على يد موسى (عليه السلام) لأن الإرادة الإلهية شاءت أن يكون الإسلام الدين المهيمن على كلّ الديانات والناسخ لهما {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} ((1)) ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} ((2)) . وهذا الترابط في سُوْرَة الْقَصَصِ يجعلنا نعرج على ما جاءت به صحاح الآثار في كتب الفتن والملاحم في الصحيحين ـ البخاري، ومسلم رحمهما الله برحمته ـ في أن النهاية القرآنية لبني إسرائيل {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً} ((3)) آتية لا محالة مهما علا اليهود في الأرض كما فعل الله سبحانه وتعالى بفرعون وهامان وجنودهما وقارون.
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 19.
(2)
سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 85.
(3)
سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 5.