الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
17- جمع الضمير العائد على المثنى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم)(1) .
يقولون:
كان يجب أن يثنى الضمير العائد على المثنى، فيقول:" خصمان اختصما فى ربهما "!.
الرد على الشبهة:
أشرنا من قبل إلى طريقتين من طرق التعبير اللغوى الفصيح، وهما:
- طريقة مراعاة اللفظ.
- وطريقة مراعاة المعنى
فحيث جمع القرآن الضمير العائد على المثنى، فهو من استعمالات الطريقة الثانية، التى يراعى فيها جانب المعنى على جانب اللفظ.
وينبغى أن نعرف أن المثنى نوعان:
- مثنى حقيقى، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى:(قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما)(2) .
ف " رجلان " مثنى حقيقى؛ لأن واحده فرد فى الوجود؛ أو ذات واحدة؛ هذا هو المثنى الحقيقى. وإذا وُصِفَ أو استؤنف الحديث عنه وجب تثنية الضمير العائد عليه.
* أما النوع الثانى من المثنى، فهو المثنى اللفظى ومثاله من القرآن قوله تعالى:(مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)(3) .
وهذا النوع من المثنى ضابطه أن واحده جمع فرد من عدة أفراد، وليس فرداً واحداً.
والنوع الأول (المثنى الحقيقى) يسمى مثنى لفظاً ومعنى.
أما الثانى (المثنى غير الحقيقى) فيسمى مثنى فى اللفظ، وجمعاً فى المعنى. وفى وصفه أو استئناف الحديث عنه يجوز أن يراعى فيه جانب اللفظ، أو جانب المعنى.
ومنه ما ورد فى آية " الحج ": " هذان خصمان " لما كان معناه جمعاً روعى فيه جانب المعنى فقال عز وجل: " اختصموا فى ربهم " ومعروف أن مفرد الخصمين خصم، وهو اسم جنس يندرج تحته - هنا - أفراد كثيرون وبهذا نزل القرآن فى هذه الآية، فتحدث عن الخصمين بضمير " الجمع " الذى هو " واو الجماعة " " اختصموا " ثم بضمير الجماعة " هم " فى قوله تعالى:" فى ربهم ".
ونظيره فى القرآن قوله تعالى:
(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)(4) . أعاد الضمير جمعاً " اقتتلوا " هذا فى جملة الخبر، مع أن المبتدأ مثنى " طائفتان " وذلك لأن هذا اللفظ مثنى غير حقيقى، بل هو مثنى فى اللفظ، جمع فى المعنى.
وفى هذه الآية راعى النظم القرآنى المعجز المعنى فى جملة الخبر وحدها " اقتتلوا " ثم راعى اللفظ فى بقية الآية هكذا:
(فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما (.
وكلا المنهجين فصيح صحيح بليغ.
والذى سوَّغ مراعاة المعنى فى " اقتتلوا " وقوعه بعد جمعٍ، هو " المؤمنين "، وليس فوق ذلك درجة من الصحة والإصابة، وإن كره الحاقدون.
والخلاصة:
أن " اختصموا " و " فى ربهم " الذوق السليم يشهد أن " اختصموا " أبلغ من اختصما، وأن " ربهم " أبلغ من ربهما.
لأن " اختصموا " يفيد تبادل الخصومة بين جميع أفراد ال " خصمان " من أول وهلة، وكذلك " ربهم؛ إن ضمير الجمع فيه " هم " يفيد من أول وهلة ربوبية الله لكل فرد منهم.
والاختصام هو الحدث الرئيسى فى هذه الواقعة. فعُبِّر عنه بهذا اللفظ الفخم " اختصموا " ومحال أن يستقيم لو قيل بعده " فى ربهما " فسبحان من هذا كلامه، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
(1) الحج: 19.
(2)
المائدة: 23.
(3)
هود: 24.
(4)
الحجرات: 9.
18- الإتيان باسم الموصول العائد على الجمع مفرداً
منشأ هذه الشبهة:
ومنشأ هذه الشبهة - عندهم - قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذى خاضوا أولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون)(1) .
والشاهد - عندهم - فى الآية هو قوله تعالى: " وخضتم كالذى خاضوا " وآثرنا ذكر الآية بتمامها لأن الرد على هذه الشبهة يقتضى النظر فى الآية كلها لا فى الجزء الذى استشهدوا به وحده.
وكان تعليقهم على قوله عز وجل: (وخضتم كالذى خاضوا (هو قولهم: " وكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول: (خضتم كالذين خاضوا (!
الرد على الشبهة:
هذه الآية - بتمامها - وردت فى سياق الحديث عن المنافقين؛ لأن ما قبلها هو قوله عز وجل: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم)(2) .
والآية مسوقة لتهديد المنافقين والكفار، لعلهم يقلعون عما هم فيه من نفاق وكفر.
وقد أدير الحديث فيها على تشبيه المخاطبين (المنافقين والكفار) بالأمم الغابرة، كانت أشد منهم قوة، وأكثر مالاً وولدا، وانغمسوا فى شهواتهم الفانية، فسار المنافقون والكفار سيرتهم فركنوا إلى متع الحياة الدنيا الفانية، ولم يبتغوا ما عند الله، وأن المنافقين والكفار فعلوا كل ما فعله من قبلهم من المعاصى والسيئات.
ثم بين الله عز وجل أنهم الخاسرون فى الدنيا والآخرة فالذى معنا فى الآية فريقان:
- فريق سابق فى الزمن، لم يكن موجوداً فى عصر نزول القرآن.
- فريق كان حاضراً فى عصر نزول القرآن، وهم الذين خاطبهم الله فى هذه الآية الكريمة. وليس فى هذه الآية فريق ثالث تحدثت عنه الآية.
ومن هذا يتضح أن تعقيب خصوم القرآن على هذه الآية، بأن الصواب أن يقال:" وخضتم كالذين خاضوا " فاسد من كل الوجوه؛ لأن معنا فى الآية فريقان لا ثلاثة، ولو قيل:" خضتم كالذين خاضوا " لانفكت رابطة الكلام، ولبرز فى النظم طرف ثالث لا وجود له فى سياق الآية.
بيان ذلك:
أن المقارنة جرت فى الآية بين الفريقين " المنافقين والكفار " و " الأمم الغابرة ". ودارت المقارنة على هذا المنهج:
- فاستمتعوا بخلاقهم.
- فاستمتعتم بخلاقكم.
- كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم.
- وخضتم كالذى خاضوا.
والمعنى: وخضتم خوضاً مثل خوضهم (3) .
فالذى فى الآية اسم موصول مفرد، يعود على المصدر المفهوم من الفعل الماضى " خضتم " فشبه الله عز وجل خوض المنافقين بخوض الذين من قبلهم. وهذا هو النسق الذى دارت عليه المقارنة فى الآية تشبيه سلوك اللاحقين بسلوك السابقين من الأمم الغابرة، التى عتت عن أمر ربها وعصت رسله.
واختار الإمام الشوكانى أن المعنى: " كالخوض الذى خاضوا "(4)، ومن قبله قال الإمام الزمخشرى:" وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا "(5) .
هذا هو الحق فى هذه العبارة، لا كما قال خصوم القرآن الكارهون لما أنزل الله عز وجل.
(1) التوبة: 69.
(2)
التوبة: 68.
(3)
انظر: الدر المصون (6/84) .
(4)
فتح القدير (2/433) .
(5)
الكشاف (2/201) .
19- جزم الفعل المعطوف على المنصوب
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول ربِّ لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدَّق وأكن من الصالحين)(1) .
وشاهد هذه الشبهة - عندهم - هو قوله تعالى: " وأكن " لأنه محذوف الواو ساكن النون، وهو فعل معتل الوسط بالواو (أجوف) ولا يحذف الواو منه إلا إذا سكن آخره، ولا يسكن آخره إلا إذا كان مجزوماً، ويجزم المضارع إذا دخل عليه جازم أو عطف على مجزوم.
ولما لم يدخل على الفعل - هنا - جازم، ولم يتقدم عليه مجزوم يصح جزمه بالعطف عليه، ساغ لخصوم القرآن أن يقولوا إن هذا الفعل " أكن " جزم مع أن المعطوف عليه منصوب، وهو الفعل " فأصدق " وعلقوا على هذا فقالوا:" كان يجب أن ينصب الفعل المعطوف على المنصوب فيقال: " فأصدق وأكون ".
الرد على الشبهة:
لفتت هذه الآية أنظار النحاة والمفسرين، وقد اختلفت توجيهاتهم لورود الفعل المجزوم مردوفاً على الفعل المنصوب، مع اتفاقهم جميعاً على صحة هذا التركيب نحوياً لأن نظم القرآن مشهود له بالصحة من ألد خصومه الذين بلغوا الذروة فى الفصاحة والبلاغة، وهم مشركو العرب، حيث لم يُرو عنهم أنهم طعنوا فى القرآن فى صحة أساليبه، وضروب تراكيبه، والتسليم له بالسمو والرفعة فى هذا المجال.
فعلى كثرة ما اتهموه بأنه سحر، أو شعر، أو أساطير الأولين تملى على النبى صلى الله عليه وسلم بكرة وأصيلا لم يذكروا - قط - أن به أخطاء لغوية، أو نحوية أو صرفية أو بيانية، بل على العكس من ذلك نراهم أثنوا عليه على لسان الوليد بن المغيرة، لما سمع من النبى صلى الله عليه وسلم الآيات الأولى من سورة " فصلت " حين نفى عنه كل عيب أو نقص فى أساليبه ونظمه المحكم البديع ولو كان ما يؤخذه خصوم القرآن - الآن - من الشبهات التى نعرض لها - هنا - حقاً لبادروا بإعلانها، ولاتخذوها حرباً ضروساً ضده. وسكوتهم المطبق عن ذكر عيوب من هذا القبيل تسليم منهم له بالسلامة من جميع الأخطاء، وهذه هى عقيدة الأمة وكل العقلاء المنصفين، وقد أشرنا من قبل إلى أن القرآن أوسع من قواعد اللغة وأسمى من أساليب البيان المعروفة عند البشر فإذا ورد فيه شىء على غير قاعدة نحوية أو صرفية معروفة لدى الناس، فليس معناه أن القرآن قد أخطأ أو سها. لأن القرآن نفسه مصدر من مصادر إثبات اللغة فى نفسها وفى طرق استعمالاتها.
فما جاء منه على ما نعرفه أو نألفه من القواعد فلا مشاحنة فيه. وما جاء على غير ذلك وجب الإيمان بصحته، وعلينا أن نجتهد فى التماس العلة فيه، فإن أدركناها فالحمد لله وإلا فوضنا الأمر فيها لله، كما هو فى بعض المتشابهات القرآنية من الألفاظ والمعانى، كما قال عز وجل: (هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) (2) .
وبعد هذه الوقفة الكاشفة الشافية نعود إلى ما قاله النحاة والمفسرون فى توجيه مجىء الفعل المجزوم مردوفاً على الفعل المنصوب فى الآية الكريمة، التى اتخذ منها الذين فى قلوبهم زيغ وسيلة للطعن فى القرآن، ابتغاء الفتنة:
وجّه الإمام الزمخشرى مجئ الفعل " وأكن " مجزوماً مردوفاً على الفعل المنصوب " فأصدق " بأن قوله تعالى " لولا أخرتنى.. " فى محل جزم لتضمنه معنى الشرط، فكأنه قيل: إن أخرتنى أصدقْ وأكن من الصالحين (3) .
وكذلك قال ابن عطية (4) ، وأبو على الفارسى (5) .
الخلاصة:
لم تكن هذه القراءة هى الوحيدة فى جزم الفعل " أكن " فقد قرأه أبو عمرو " وأكون " بالنصب عطفاً على " فأصدق ".
ونرى أن التوجيه بأن هذا الفعل مجزوم على تضمن عبارة التمنى " لولا أخرتنى إلى أجل قريب " أو على الشرط المقدر ب- " إن أخرتنى " هو توجيه سديد، وقد سبق إلى القول به علمان من أئمة النحو، هما الخليل وسيبويه (6) .
والذى سوَّغ إيثار عبارة التمنى " لولا أخرتنى " على الشرط الصريح " إن أخرتنى " أن قائل هذه العبارة يقولها فى ساعة يملكه فيها اليأس من التأخير وهى ساعة حضور الموت، والتمنى كما نعلم يستعمل فى طلب المحال أو المتعذر، أما الشرط فيستعمل فى الأمور التى لا استحالة فيها ولا تعذر. فهو إذن من تبادل الصيغ وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغى. وقرينة إرادة الشرط من عبارة التمنى هو جزم الفعل " أكن " وسره البلاغى أن من حضرته الوفاة وهو مقصر فى طاعة الله تدفعه شدة الحاجة التى نزلت به إلى طمعٍ من نوع ما، مما هو مستحيل أو متعذر الوقوع. ومما تقدم يظهر لنا استقامة العبارة القرآنية وبُعْدها عن كل خلل، ووفاؤها بالمعنى المراد نحواً وبياناً.
(1) المنافقون: 10.
(2)
آل عمران: 7.
(3)
الكشاف (4/112) .
(4)
المحرر الوجيز (16/23) .
(5)
الحجة فى القراءات (4/386) .
(6)
حاشية الشهاب على البيضاوى (8/200) .
20- جَعْلُ الضمير العائد على المفرد جمعاً
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون)(1) .
ذكروا هذه الآية، ووقفوا عند قوله تعالى:(الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله) (ذهب الله بنورهم (وعلقوا عليه قائلين: وكان يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً، فيقول:" استوقد ـ ذهب الله بنوره "!.
الرد على الشبهة:
هذه الآية مضروبة مثلاً لبيان حال المنافقين فى تذبذب أحوالهم وتقلبهم فى مواقفهم، وانتهازهم الفرص السانحة لتحقيق أغراضهم الدنيوية. وعدم ثباتهم على مبدأ خلقى قويم، وقد تقدم على هذه الآية آية أخرى تصف سعيهم الضال، وإيثارهم منافع الدنيا العاجلة الفانية، على ما عند الله عز وجل مقضياً عليهم بالخسران المبين، وهى قوله تعالى:(أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)(2) .
ثم استأنف القرآن الحديث عنهم فى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون (.
والمثل ـ بفتح الثاء ـ هو الشأن والقصة الغريبة التى يكون عليها المتحدث عنه، وهو ـ هنا ـ المنافقون، مَثَّلَ الله حالهم وشأنهم الذى هم عليه، وقصتهم الغريبة الراسخة فى طباعهم بمثل رجل، أو فريق من الناس طلب إيقاد نارٍ للانتفاع بها فى تحقيق الرؤية، وإبصار الطريق للسير فيه، فلما أضاءت النار ما حوله وفرح بها سرعان ما أطفاها الله فأظلمت عليه الدنيا، فوقع فى حيرة وارتباك.
وجمع الضمير فى " بنورهم " ليس عائداً على " الذى " المفرد المذكور فى (كالذى استوقد ناراً (، وقد وجَّه النحاة جمع الضمير بعد " الذى " فقالوا: إن الذى ليس بمعنى المفرد، بل هو بمعنى " الذين " وذكروا أن " الذى " فى الاستعمال اللغوى له معنيان:
الأول: أن يكون بمعنى المفرد، وهو الغالب والكثير فيه.
والثانى: أن يكون بمعنى الجمع، ويُفرَّق بينهما بالقرائن، ففى الآية التى معنا:" الذى " بمعنى الفريق أو الفوج الذى استوقد النار.
هذا رأى فى توجيه رد الضمير جمعاً على " الذى " وقد عبروا عن هذا بقولهم: أراد بالذى جنس المستوقد، لا فرداً معيناً (3) .
ويرى الإمام الزمخشرى أن " الذى " هو ـ هنا ـ "الذين " حذفت منه " النون " لاستطالته، وهو مثل " وخضتم كالذى خاضوا " وليس فى الكلام تشبيه الجماعة بالواحد على هذا التأويل، وأن المشبه هو حال المنافقين، بحال الذى استوقد ناراً. تشبيه معنى مركب بمعنى مركب، وليس تشبيه ذوات المنافقين بذات الذى استوقد ناراً، فهذا غير مقصود، وإنما المقصود هو تشبيه قصة المنافقين المضروب لها المثل، بقصة المستوقد للنار، وأن وجه الشبه بين القصتين هو:" فبقوا خابطين فى ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح فى إحياء النار "(4) .
ويقول الإمام الشوكانى:
و" الذى " موضوع موضع الذين، أى كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود فى كلام العرب، كقول الشاعر:
وإن الذى حانت بفلج دماؤهم
همُ القوم، كل القوم، يا أم خالد
ومنه " وخضتم كالذى خاضوا " و " والذى جاء بالصدق وصدَّق به، أولئك هم المتقون "(5) .
والخلاصة:
بعد هذا العرض لأئمة النحاة والمفسرين يتضح جلياً أن الاستعمال القرآنى فى " مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم " استعمال عربى فصيح فى غاية الفصاحة، وله شواهد فى كلام العرب المحتج بكلامهم، وإن كان القرآن غنياً عن الاستشهاد من خارجه على عروبته وسلامته من كل خطأ؛ لأنه من أصح مصادر اللغة العربية، ومع هذا فإن ما قاله الأئمة الأعلام يحيل شبهة هؤلاء المتطاولين على كتاب الله العزيز هباءً منثوراً، هذا هو دور النحو فى إبطال هذه الشبهة، وللبلاغة دور مهم فى الرد عليهم نلخصه فى الآتى:
إن المثل فى الآية مسوق أساساً لتمثيل شأن المنافقين، أما قوله تعالى:" كمثل الذى استوقد ناراً "، فأمر عارض اقتضاه مقام الحديث عن تمثيل حال المنافقين فهو أشبه ما يكون بالجملة الاعتراضية، لولا أنها مشبه به، ولما أدت الدور المراد منها تحول الحديث إلى الأصل المسوق من أجله الكلام، وبدأ هذا التحول من قوله تعالى:" ذهب الله بنورهم " فَجَمْعُ الضمير فى " بنورهم " منظور فيه إلى نظيره فى " مثلهم " فكان ضمير الجمع فى " بنورهم " مطابقاً أصالة لمقام الحديث أما " الذى استوقد ناراً " فصار مسكوتاً عنه بعد آداء دوره المراد منه.
وعلى هذا فإن التوجيه البلاغى لجمع الضمير فى " بنورهم " يغنى عن التوجيهات التى أبداها النحاة والمفسرون إذ لا معول فى التوجيه البلاغى على اعتبار " الذى " بمعنى الذين، أو هو " الذين " حذف منه النون.
ومحال أن يستقيم ما قاله مثيرو هذه الشبهة أن الصواب هو إفراد الضمير فى " نورهم " لأنه لو قيل: ذهب الله بنوره وتركه فى ظلمات لا يبصر، لتحول الكلام إلى غير المنافقين المضروب لهم المثل، ولزالت كل الروابط بين صدر الآية وعجزها. وهذا لا يقول به عاقل.
(1) البقرة: 17.
(2)
البقرة: 16.
(3)
انظر: أنوار التنزيل للإمام البيضاوى (1/30) وحاشية الشهاب على البيضاوى (1/365) .
(4)
الكشاف (1/199) .
(5)
فتح القدير (1/55) .
21- الإتيان بجمع كثرة فى موضع جمع القلة
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون)(1) .
أخذوا من هذه الآية كلمة " معدودة " وتوهموا أن القرآن أخطأ فيها؛ لأنها ـ عندهم ـ جمع كثرة، والمقام الذى استعملت فيه يتطلب جمع القلة، ثم علقوا قائلين:
" وكان يجب أن يجمعها جمع قلة، حيث إنهم أرادوا القلة، فيقول: أياماً معدودات ".
هكذا عبروا عن جهلهم، وهم يحسبون ـ أو لا يحسبون ـ أنهم العلماء الأفذاذ الذين يعلمون ما لم يعلمه أحد ـ حتى الله ـ من شئون اللغة والبيان، وهم ـ بحق ـ لا يكادون يفقهون حديثاً.
الرد على الشبهة:
هذه الآية نزلت تحكى قولاً قاله اليهود، يكشف عن الغرور الذى ملأ أنفسهم، فقد زعموا أنهم إذا دخلوا النار، فإنها لا تمسهم إلا مساً خفيفاً، وأنهم لن يُخلدوا فيها، بل يقضون عدة أيام.
وهذا تطاول منهم، لأن شئون الآخرة لا يعلمها إلا الله.
لذلك كذَّبهم الله، وألزمهم الحُجة البالغة له عليهم وحصر مصدر هذا الذى ادعوه فى أمرين:
الأول: أن يكون عندهم من الله عهد بما قالوا، والله لا يخلف عهده، وهم فى الواقع لا عهد عندهم من الله يحدد فيه مدة مكثهم فى النار، ودرجة العذاب الذى سيصيبهم فيها.
الثانى: أو هُمْ يفترون على الله عز وجل، وماداموا ليس عندهم عهد من الله، فهم ـ إذاً ـ كاذبون والذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
أما مسألة الكثرة والقلة، التى بنى عليها هؤلاء الكارهون لما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم، فلا اعتبار لها هنا، وهم وإن حفظوا شيئاً فقد غابت عنهم أشياء. ولذلك أوقعهم جهلهم فيما حاولوا أن يفروا منه؛ لأنهم قالوا إن معدودة، جمع كثرة، واستعمال جمع الكثرة ـ هنا ـ خطأ؟ ؛ لأن اليهود أرادوا جمع القلة ـ أى أنهم يمكثون فى النار أياماً قليلة. فجاء تعبير القرآن غير وافٍ بالمعنى الذى كانوا يقصدونه، وكان الواجب على القرآن أن يقول: أياماً معدودات، بدلاً من (أياماً معدودة (هذا هو قولهم، وهو محض الخطأ لو كانوا يعلمون وذلك للاعتبارات الآتية:
فأولاً: لأن " معدودة " ليست جمعاً بل مفردًا، ليست جمع كثرة ولا جمع قلة. وهؤلاء " العباقرة " جعلوها جمع كثرة، بسبب جهلهم باللغة العربية، لغة الإعجاز.
وثانياً: أن " معدودات " التى يقولون إنها الصواب وكان حق القرآن أن يعبر بها بدلاً من " معدودة " ظانين أن " معدودات " جمع قلة. وهى ليست جمع قلة كما توهموا، فهى على وزن " مفعولات " وهذا الوزن ليس من
أوزان جموع القلة (2) بل من أوزان جموع الكثرة ولا ينفعهم قولهم إن اليهود أرادوا القلة، لأن هذه القلة يدل عليها سياق الكلام لا المفردات المستعملة فى التركيب.
وثالثاً: إن هذا التعبير لا ينظر فيه إلى جانب قلة أو كثرة، ولكن ينظر فيه من جانب آخر ليس عند هؤلاء الأدعياء شرف الاتصاف به؛ لأنهم دخلاء على لغة الإعجاز والتنزيل.
هذا الجانب هو: معاملة غير العاقل معاملة العاقل أو عدم معاملته (3) .
ووصف الأيام بـ " معدودة " فى ما حكاه الله عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها، لأن الأيام لا تعقل فأجرى عليها الوصف الذى لغير العقلاء، وما جاء على الأصل فلا يسأل عنه، ولكنهم لجهلهم المركب بلغة الإعجاز حسبوا الصواب خطأ، والخطأ صواباً. لأنهم زجوا بأنفسهم فيما لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل، فلها دواعٍ بلاغية لا يعرف عنها مثيرو هذه الشبهات كثيراً ولا قليلاً.
وهى فى النظم القرآنى من الكثرة بمكان، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل لداع بلاغى يقتضى ذلك التنزيل.
وإذا كان القرآن قد عبَّر فى وصف " أياماً " فى آية البقرة هذه بـ " معدودة " وهو وصف غير العاقل جارٍ على الأصل، فإنه عبَّر عن وصفها بـ " معدودات " فى موضع آخر، هو قوله تعالى:
(ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون)(4) .
فكان ينبغى أن يسأل هؤلاء عن اختلاف التعبير فى الموضعين بدل أن يخطِّئوا الصواب وهم جاهلون. وها نحن نضع بين أيديهم الحق ناصع البياض.
فى آية البقرة جاء وصف " أياماً " ـ " معدودة " بصيغة الإفراد، وليس جمع كثرة كما زعموا.
وفى آية آل عمران جاء وصف " أياماً " ـ " معدودات " جمعاً لا إفراداً.
فلماذا ـ إذاً ـ اختلفت صيغة الوصف، والموصوف واحد، هو " أياماً "؟
إذا قارنَّا بين الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز هكذا:
" وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة.. ".
ووجدنا آية آل عمران مبنية على الإطناب هكذا:
" ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ".
وازن بين صدر آية البقرة " وقالوا ".
وبين صدر آية آل عمران " ذلك بأنهم قالوا ".
تجد أن جملة " ذلك بأنهم " هذه العبارة اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد، الرابط بين الكلامين السابق عليه، واللاحق به.
ثم تجد " الباء " الداخلة على " إن " فى " بأنهم ".
ثم " إن " التى تفيد التوكيد، ثم ضمير الجماعة " هم ".
هذه الأدوات لم يقابلها فى آية البقرة، إلا واو العطف " وقالوا " إذاً المقامان مختلفان، أحدهما إيجاز، والثانى إطناب.
وهذا يبين بكل قوة ووضوح لماذا كان " معدودة ". فى آية البقرة؟ و " معدودات " فى آية آل عمران؟
كان وصف " أياماً " فى آية البقرة " معدودة " لأن المقام فيها مقام إيجاز كما تقدم فناسب هذا المقام الإيجازى أن يكون الوصف موجزاً هكذا " معدودة ".
وكان الوصف فى آية آل عمران مطنباً " معدودات " بزيادة " الألف " ليناسب مقام الآية الإطنابى كما تقدم (5) .
فانظر إلى هذه الدقائق واللطائف البيانية المعجزة التى عميت عنها مدارك " الخواجات " المتعالمين.
(1) البقرة: 80.
(2)
أوزان جموع القلة هى: فِعْلَة ـ أفْعَال ـ أفعُل ـ أفْعِلَة.
(3)
غير العاقل هو ماعدا الإنسان من مخلوقات الله الأرضية.
(4)
آل عمران: 24.
(5)
انظر: ملاك التأويل، القاطع لذوى الإلحاد والتعطيل فى توجيه المتشابه من آى التنزيل (1/281) للعلامة أحمد بن الزبير القرناطى. دار النهضة العربية.
132- أن النساء ناقصات عقل ودين
الردعلى الشبهة:
المصدر الحقيقى لهذه الشبهة هو العادات والتقاليد الموروثة، والتى تنظر إلى المرأة نظرة دونية.. وهى عادات وتقاليد جاهلية، حرر الإسلام المرأة منها.. لكنها عادت إلى الحياة الاجتماعية، فى عصور التراجع الحضارى مستندة كذلك إلى رصيد التمييز ضد المرأة الذى كانت عليه مجتمعات غير إسلامية، دخلت فى إطار الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، دون أن تتخلص تماماً من هذه المواريث.. فسرعة الفتوحات الإسلامية التى اقتضتها معالجة القوى العظمى المناوئة للإسلام قوى الفرس والروم وما تبعها من سرعة امتداد الدولة الإسلامية، قد أدخلت فى الحياة الإسلامية شعوباً وعادات وتقاليد لم تتح هذه السرعة للتربية الإسلامية وقيمها أن تتخلص تلك الشعوب من تلك العادات والتقاليد، والتى تكون عادة أشد رسوخاً وحاكمية من القيم الجديدة.. حتى لتغالب فيه هذه العادات الموروثة العقائد والأنساق الفكرية والمثل السامية للأديان والدعوات الجديدة والوليدة، محاولة التغلب عليها!.
ولقد حاولت هذه العادات والتقاليد بعد أن ترسخت وطال عليها الأمد، فى ظل عسكرة الدولة الإسلامية فى العهدين المملوكى والعثمانى أن تجد لنظرتها الدونية للمرأة " غطاء شرعيًّا " فى التفسيرات المغلوطة لبعض الأحاديث النبوية وذلك بعد عزل هذه الأحاديث عن سياقها، وتجريدها من ملابسات ورودها، وفصلها عن المنطق الإسلامى منطق تحرير المرأة كجزء من تحريره للإنسان، ذكراً كان أو أنثى هذا الإنسان فلقد جاء الإسلام ليضع عن الناس إصرهم والأغلال التى كانت عليهم، وليحيى ملكات وطاقات الإنسان مطلق جنس ونوع الإنسان وليشرك الإناث والذكور جميعاً فى حمل الأمانة التى حملها الإنسان، وليكون بعضهم أولياء بعض فى النهوض بالفرائض الاجتماعية، الشاملة لكل ألوان العمل الاجتماعى والعام..
لكن العادات والتقاليد الجاهلية فى احتقار المرأة، والانتقاص من أهليتها، وعزلها عن العمل العام، وتعطيل ملكاتها وطاقاتها الفطرية قد دخلت فى حرب ضروس ضد القيم الإسلامية لتحرير المرأة.. وسعت إلى التفسيرات الشاذة والمغلوطة لبعض الأحاديث النبوية والمأثورات الإسلامية كى تكون " غطاءً شرعياً " لهذه العادات والتقاليد..
فبعد أن بلغ التحرير الإسلامى للمرأة إلى حيث أصبحت به وفيه:
* طليعة الإيمان بالإسلام.. والطاقة الخلاقة الداعمة للدين ورسوله صلى الله عليه وسلم كما كان حال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد [68 3ق هجرية / 556 620م] رضى الله عنها.. حتى لقد كان عام وفاتها عام حزن المسلمين ورسول الإسلام ودعوة الإسلام..
* وطليعة شهداء الإسلام.. كما جسدتها شهادة سمية بنت خياط [7ق هجرية 615م] ، أم عمار بن ياسر [57 ق هجرية 37 هجرية /567 657م] ..
* وطليعة المشاركة فى العمل العام السياسى منه، والشورى، والفقهى، والدعوى، والأدبى، والاجتماعى. بل والقتالى - كما تجسدت فى كوكبة النخبة والصفوة النسائية التى تربت فى مدرسة النبوة..
بعد أن بلغ التحرير الإسلامى للمرأة هذه الآفاق.. أعادت العادات والتقاليد المرأة أو حاولت إعادتها إلى أسر وأغلال منظومة من القيم الغربية عن الروح الإسلامية.. حتى أصبحت المفاخرة والمباهاة بأعراف ترى:
* أن المرأة الكريمة لا يليق بها أن تخرج من مخدعها إلا مرتان: أولاهما: إلى مخدع الزوجية.. وثانيتهما: إلى القبر الذى تُدفن فيه!..
* فهى عورة، لا يسترها إلا " القبر "!.
ولم أر نعمة شملت كريماً *** كنعمة عورة سُترت بقبر!
وإذا كان الإسلام قد حفظ حياتها من الوأد المادى القتل فإن المجد والمكرمات فى تلك العادات هى فى موتها!
ومن غاية المجد والمكرمات *** بقاء البنين وموت البنات!
تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا *** والموت أكرم نزّال على الحرم!
* وشوراها شؤم يجب اجتنابها.. وإذا حدثت فلمخالفتها، وللحذر من الأخذ بها!.
والأكثر خطورة من هذه الأعراف والعادات والتقاليد، التى سادت أوساطا ملحوظة ومؤثرة فى حياتنا الاجتماعية، إبان مرحلة التراجع الحضارى، هى التفسيرات المغلوطة لبعض المرويات الإسلامية بحثاً عن مرجعية إسلامية وغطاء شرعى لقيم التخلف والانحطاط التى سادت عالم المرأة فى ذلك التاريخ.. لقد كان الحظ الأوفر فى هذا المقام للتفسير الخاطىء الذى ساد وانتشر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى ومسلم عن نقص النساء فى العقل والدين.. وهو حديث رواه الصحابى الجليل أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه فقال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أضحى أو فِطْر إلى المصلى فمرّ على النساء، فقال:
- " يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ".
- قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟.
- قال: " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل "؟.
- قلن: بلى.
- قال: " فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟ ".
- قلن: بلى.
- قال: " فذلك من نقصان دينها ".
ذلكم هو الحديث الذى اتّخذَ تفسيره الملغوط ولا يزال " غطاء شرعيًّا " للعادات والتقاليد التى تنتقص من أهلية المرأة.. والذى ينطلق منه نفر من غلاة الإسلاميين فى " جهادهم " ضد إنصاف المرأة وتحريرها من أغلال التقاليد الراكدة.. وينطلق منه المتغربون وغلاة العلمانيين فى دعوتهم إلى إسقاط الإسلام من حسابات تحرير المرأة، وطلب هذا التحرير فى النماذج الغربية الوافدة..
الأمر الذى يستوجب إنقاذ المرأة من هذه التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث.. بل إنقاذ هذا الحديث الشريف من هذه التفسيرات!..
وذلك من خلال نظرات فى " متن " الحديث و " مضمونه " نكثفها فى عدد من النقاط:
أولاها: أن الذاكرة الضابطة لنص هذا الحديث قد أصابها ما يطرح بعض علامات الاستفهام.. ففى رواية الحديث شك من الرواى حول مناسبة قوله.. هل كان ذلك فى عيد الأضحى؟ أم فى عيد الفطر؟.. وهو شك لا يمكن إغفاله عند وزن المرويات والمأثورات.
وثانيتها: أن الحديث يخاطب حالة خاصة من النساء، ولا يشرّع شريعة دائمة ولا عامة فى مطلق النساء.. فهو يتحدث عن "واقع " والحديث عن " الواقع " القابل للتغير والتطور شىء، والتشريع " للثوابت " عبادات وقيمًا ومعاملات شىء آخر..
فعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إنا أمة أُمية، لا نكتب ولا نحسب ". رواه البخارى ومسلم والنسائى وأبو داود والإمام أحمد فهو يصف " واقعاً "، ولا يشرع لتأييد الجهل بالكتابة والحساب، لأن القرآن الكريم قد بدأ بفريضة " القراءة " لكتاب الكون ولكتابات الأقلام (اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم)(1) ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذى وصف " واقع " الأمية الكتابية والحسابية، وهو الذى غير هذا الواقع، بتحويل البدو الجهلاء الأميين إلى قراء وعلماء وفقهاء، وذلك امتثالاً لأمر ربه، فى القرآن الكريم، الذى علمنا أن من وظائف جعل الله سبحانه وتعالى القمر منازل أن نتعلم عدد السنين والحساب (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نوراًوقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) (2) . فوصف " الواقع " - كما نقول الآن مثلاً:" نحن مجتمعات متخلفة " لا يعنى شرعنة هذا " الواقع " ولا تأييده، فضلاً عن تأبيده، بأى حال من الأحوال.
وثالثتها: أن فى بعض روايات هذا الحديث وخاصة رواية ابن عباس رضى الله عنهما ما يقطع بأن المقصود به إنما هى حالات خاصة لنساء لهن صفات خاصة، هى التى جعلت منهن أكثر أهل النار، لا لأنهن نساء، وإنما لأنهن كما تنص وتعلل هذه الرواية " يكفرن العشير "، ولو أحسن هذا العشير إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منه هِنَةً أو شيئاً لا يعجبها، كفرت كفر نعمة بكل النعم التى أنعم عليها بها، وقالت بسبب النزق أو الحمق أو غلبة العاطفة التى تنسيها ما قدمه لها هذا العشير من إحسان:" ما رأيت منك خيراً قط "! رواه البخارى ومسلم والنسائى ومالك فى الموطأ..
فهذا الحديث إذن وصف لحالة بعينها، وخاص بهذه الحالة.. وليس تشريعاً عامًّا ودائماً لجنس النساء..
ورابعتها: أن مناسبة الحديث ترشح ألفاظه وأوصافه لأن يكون المقصود من ورائها المدح وليس الذم.. فالذين يعرفون خُلق من صنعه الله على عينه، حتى جعله صاحب الخُلق العظيم (وإنك لعلى خلق عظيم)(3) ..
والذين يعرفون كيف جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من " العيد " الذى قال فيه هذا الحديث " فرحة " أشرك فى الاستمتاع بها مع الرجال كل النساء، حتى الصغيرات، بل وحتى الحُيَّض والنفساء!.. الذين يعرفون صاحب هذا الخلق العظيم، ويعرفون رفقه بالقوارير، ووصاياه بهن حتى وهو على فراش المرض يودع هذه الدنيا.. لا يمكن أن يتصوروه صلى الله عليه وسلم ذلك الذى يختار يوم الزينة والفرحة ليجابه كل النساء ومطلق جنس النساء بالذم والتقريع والحكم المؤبد عليهن بنقصان الأهلية، لنقصانهن فى العقل والدين!..
وإذا كانت المناسبة يوم العيد والزينة والفرحة لا ترشح أن يكون الذم والغم والحزن والتبكيت هو المقصود.. فإن ألفاظ الحديث تشهد على أن المقصود إنما كان المديح، الذى يستخدم وصف " الواقع " الذى تشترك فى التحلى بصفاته غالبية النساء.. إن لم يكن كل النساء..
فالحديث يشير إلى غلبة العاطفة والرقة على المرأة، وهى عاطفة ورقة صارت " سلاحاً " تغلب به هذه المرأة أشد الرجال حزماً وشدة وعقلاً.. وإذا كانت غلبة العاطفة إنما تعنى تفوقها على الحسابات العقلية المجردة والجامدة، فإننا نكون أمام عملة ذات وجهين، تمثلها المرأة.. فعند المرأة تغلب العاطفة على العقلانية، وذلك على عكس الرجل، الذى تغلب عقلانيته وحساباته العقلانية عواطفه.. وفى هذا التمايز فقرة إلهية، وحكمة بالغة، ليكون عطاء المرأة فى ميادين العاطفة بلا حدود وبلا حسابات.. وليكون عطاء الرجل فى مجالات العقلانية المجردة والجامدة مكملاً لما نقص عند " الشق اللطيف والرقيق! "..
فنقص العقل الذى أشارت إليه كلمات الحديث النبوى الشريف هو وصف لواقع تتزين به المرأة السوية وتفخر به، لأنه يعنى غلبة عاطفتها على عقلانيتها المجردة.. ولذلك، كانت " مداعبة " صاحب الخُلق العظيم الذى آتاه ربه جوامع الكلم للنساء، فى يوم الفرحة والزينة، عندما قال: لهن: " إنهن يغلبن بسلاح العاطفة وسلطان الاستضعاف أهل الحزم والألباب من عقلاء الرجال، ويخترقن بالعواطف الرقيقة أمنع الحصون!:
- " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن "
فهو مدح للعاطفة الرقيقة التى تذهب بحزم ذوى العقول والألباب.. ويا بؤس وشقاء المرأة التى حرمت من شرف امتلاك هذا السلاح الذى فطر الله النساء على تقلده والتزين به فى هذه الحياة! بل وأيضاً يا بؤس أهل الحزم والعقلانية من الرجال الذين حرموا فى هذه الحياة من الهزيمة أمام هذا السلاح.. سلاح العاطفة والاستضعاف!..
وإذا كان هذا هو المعنى المناسب واللائق بالقائل وبالمخاطب وبالمناسبة وأيضاً المحبب لكل النساء والرجال معاً الذى قصدت إليه ألفاظ " نقص العقل " فى الحديث النبوى الشريف.. فإن المراد " بنقص الدين " هو الآخر وصف الواقع غير المذموم، بل إنه الواقع المحمود والممدوح!..
فعندما سألت النسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقصود من نقصهن فى الدين، تحدث عن اختصاصهن " برخص " فى العبادات تزيد على " الرخص " التى يشاركن فيها الرجال.. فالنساء يشاركن الرجال فى كل " الرخص " التى رخّص فيها الشارع 00 من إفطار الصائم فى المرض والسفر.. إلى قصر الصلاة وجمعها فى السفر.. إلى إباحة المحرمات عند الضرورات.. إلخ.. إلخ 00ثم يزدن عن الرجال فى " رخص" خاصة بالإناث، من مثل سقوط فرائض الصلاة والصيام عن الحيَّض والنفساء.. وإفطار المرضع، عند الحاجة، فى شهر رمضان.. إلخ.. إلخ..
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يحب أن تُؤتَى رخصه كما يحب أن تُؤتَى عزائمه، فإن التزام النساء بهذه " الرخص " الشرعية هو الواجب المطلوب والمحمود، وفيه لهن الأجر والثواب.. ولا يمكن أن يكون بالأمر المرذول والمذموم.. ووصف واقعه فى هذا الحديث النبوى مثله كمثل وصف الحديث لغلبة العاطفة الرقيقة الفياضة على العقلانية الجامدة، عند النساء، هو وصف لواقع محمود.. ولا يمكن أن يكون ذمًّا للنساء، ينتقص من أهلية المرأة ومساواتها للرجال، بأى حال من الأحوال.
إن العقل ملكة من الملكات التى أنعم الله بها على الإنسان، وليس هناك إنسان رجلاً كان أو امرأة يتساوى مع الآخر مساواة كلية ودقيقة فى ملكة العقل ونعمته.. ففى ذلك يتفاوت الناس ويختلفون.. بل إن عقل الإنسان الواحد وضبطه ذكراً كان أو أنثى يتفاوت زيادة ونقصاً بمرور الزمن، وبما يكتسب من المعارف والعلوم والخبرات.. وليست هناك جبلة ولا طبيعة تفرق بين الرجال والنساء فى هذا الموضوع..
وإذا كان العقل فى الإسلام هو مناط التكليف، فإن المساواة بين النساء والرجال فى التكليف والحساب والجزاء شاهدة على أن التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث النبوى الشريف، هى تفسيرات ناقصة لمنطق الإسلام فى المساواة بين النساء والرجال فى التكليف.. ولو كان لهذه التفسيرات المغلوطة نصيب من الصحة لنقصت تكاليف الإسلام للنساء عن تكليفاته للرجال، ولكانت تكاليفهن فى الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة وغيرها على النصف من تكاليف الرجال!.
ولكنها " الرخصة "، التى يُؤجر عليها الملتزمون بها والملتزمات، كما يُؤجرون جميعاً عندما ينهضون بعزائم التكاليف.. إن النقص المذموم فى أى أمر من الأمور هو الذى يمكن إزالته وجبره وتغييره، وإذا تغير وانجبر كان محموداً.. ولو كانت " الرخص " التى شرعت للنساء بسقوط الصلاة والصيام للحائض والنفساء مثلاً نقصًا مذمومًا، لكان صيامهن وصلاتهن وهن حُيّض ونفساء أمرًا مقبولاً ومحمودًا ومأجورًا.. لكن الحال ليس كذلك، بل إنه على العكس من ذلك.
وأخيرًا، فهل يعقل عاقل.. وهل يجوز فى أى منطق، أن يعهد الإسلام، وتعهد الفطرة الإلهية بأهم الصناعات الإنسانية والاجتماعية صناعة الإنسان، ورعاية الأسرة، وصياغة مستقبل الأمة إلى ناقصات العقل والدين، بهذا المعنى السلبى، الذى ظلم به غلاة الإسلاميين وغلاة العلمانيين الإسلام، ورسوله الكريم، الذى حرر المرأة تحريره للرجل، عندما بعثه الله بالحياة والإحياء لمطلق الإنسان (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)(4) فوضع بهذا الإحياء، عن الناس كل الناس ما كانوا قد حُمِّلوا من الآصار والأغلال (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم..)(5) .
إنها تفسيرات مغلوطة، وساقطة، حاول بها أسرى العادات والتقاليد إضفاء الشرعية الدينية على هذه العادات والتقاليد التى لا علاقة لها بالإسلام.. والتى يبرأ منها هذا الحديث النبوى الشريف..
وإذا كان لنا فى ختام إزالة هذه الشبهة أن نزكى المنطق الإسلامى الذى صوبنا به معنى الحديث النبوى الشريف، وخاصة بالنسبة للذين لا يطمئنون إلى المنطق إلا إذا دعمته وزكته " النصوص "، فإننا نذكر بكلمات إمام السلفية ابن القيم، التى تقول:" إن المرأة العدل كالرجل فى الصدق والأمانة والديانة "(6) .
وبكلمات الإمام محمد عبده، التى تقول:
" إن حقوق الرجل والمرأة متبادلة، وإنهما أكفاء.. وهما متماثلان فى الحقوق والأعمال، كما أنهما متماثلان فى الذات والإحساس والشعور والعقل، أى أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر فى مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويُسَرُّ به، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه.. (7) ".
وبكلمات الشيخ محمود شلتوت، التى تقول:
" لقد قرر الإسلام الفطرة التى خلقت عليها المرأة.. فطرة الإنسانية ذات العقل والإدراك والفهم.. فهى ذات مسئولية مستقلة عن مسئولية الرجل، مسئولة عن نفسها، وعن عبادتها، وعن بيتها، وعن جماعتها.. وهى لا تقل فى مطلق المسئولية عن مسئولية أخيها الرجل، وإن منزلتها فى المثوبة والعقوبة عند الله معقودة بما يكون منها من طاعة أو مخالفة، وطاعة الرجل لا تنفعها وهى طالحة منحرفة، ومعصيته لا تضرها، وهى صالحة مستقيمة (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرا)(8)(فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)(9) .
وليقف المتأمل عند هذا التعبير الإلهى " بعضكم من بعض "، ليعرف كيف سما القرآن بالمرأة حتى جعلها بعضاً من الرجل، وكيف حدَّ من طغيان الرجل فجعله بعضاً من المرأة. وليس فى الإمكان ما يُؤدَّى به معنى المساواة أوضح ولا أسهل من هذه الكلمة التى تفيض بهاطبيعة الرجل والمرأة، والتى تتجلى فى حياتهما المشتركة، دون تفاضل وسلطان (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن)(10) .
وإذا كانت المرأة مسئولة مسئولية خاصة فيما يختص بعبادتها ونفسها، فهى فى نظر الإسلام أيضاً مسئولة مسئولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والإرشاد إلى الفضائل، والتحذير من الرذائل. وقد صرح القرآن بمسئوليتها فى ذلك الجانب، وقرن بينها وبين أخيها الرجل فى تلك المسئولية، كما قرن بينها وبينه فى مسئولية الانحراف عن واجب الإيمان والإخلاص لله وللمسلمين (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)(11)(المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون * وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم)(12) .
فليس من الإسلام أن تلقى المرأة حظها من تلك المسئولية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهى أكبر مسئولية فى نظر الإسلام على الرجل وحده، بحجة أنه أقدر منها عليها، أو أنها ذات طابع لا يسمح لها أن تقوم بهذا الواجب، فللرجل دائرته، وللمرأة دائرتها، والحياة لا تستقيم إلا بتكاتف النوعين فيما ينهض بأمتهما، فإن تخاذلا أو تخاذل أحدهما انحرفت الحياة الجادة عن سبيلها المستقيم..
والإسلام فوق ذلك لم يقف بالمرأة عند حد اشتراكها مع أخيها الرجل فى المسئوليات جميعها خاصها وعامها بل رفع من شأنها، وكرر تلقاء تحملها هذه المسئوليات احترام رأيها فيما تبدو وجاهته، شأنه فى رأى الرجل تماماً سواءً بسواء. وإذا كان الإسلام جاء باختيار آراء بعض الرجال، فقد جاء أيضاً باختيار رأى بعض النساء.
وفى سورة المجادلة احترم الإسلام رأى المرأة، وجعلها مجادلة ومحاورة للرسول، وجمعها وإياه فى خطاب واحد (والله يسمع تحاوركما)(13) وقرر رأيها، وجعله تشريعاً عامًّا خالداً.. فكانت سورة المجادلة أثراً من آثار الفكر النسائى، وصفحة إلهية خالدة نلمح فيها على مر الدهور صورة احترام الإسلام لرأى المرأة، فالإسلام لا يرى المرأة مجرد زهرة، ينعم الرجل بشم رائحتها، وإنما هى مخلوق عاقل مفكر، له رأى، وللرأى قيمته ووزنه.
وليس هناك فارق دينى بين المرأة والرجل فى التكليف والأهلية، سوى أن التكليف يلحقها قبل أن يلحق الرجل، وذلك لوصولها - بطبيعتها - إلى مناط التكليف، وهو البلوغ، قبل أن يصل إليه الرجل (14) .
هكذا تضافرت الحجج المنطقية مع نصوص الاجتهاد الإسلامى على إزالة شبهة الانتقاص من أهلية المرأة، بدعوى أن النساء ناقصات عقل ودين..
وهكذا وضحت المعانى والمقاصد الحقة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى اتخذت منه التفسيرات المغلوطة " غطاءً شرعيًّا " للعادات والتقاليد الراكدة، تلك التى حملها البعض من غلاة الإسلاميين على الإسلام، زوراً وبهتانًا.. والتى حسبها غلاة العلمانيين ديناً إلهيًّا، فدعوا - لذلك - إلى تحرير المرأة من هذا الإسلام!.
لقد صدق الله العظيم إذ يقول: (سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد)(15) .
إننا نلح منذ سنوات طوال وقبلنا ومعنا الكثيرون من علماء الإسلام ومفكريه على أن هذا الدين الحنيف إنما يمثل ثورة كبرى لتحرير المرأة، لكن الخلاف بيننا وبين الغرب والمتغربين هو حول " نموذج "هذا التحرير.. فهم يريدون المرأة ندًّا مساوياً للرجل.. ونحن مع الإسلام نريد لها " مساواة الشقين المتكاملين، لا الندين المتماثلين ".. وذلك، لتتحرر المرأة، مع بقائها أنثى، ومع بقاء الرجل رجلاً، كى يثمر هذا التمايز الفطرى بقاء، ويجدد القبول والرغبة والجاذبية والسعادة بينهما سعادة النوع الإنسانى.
ونلح على أن هذا " التشابه.. والتمايز " بين النساء والرجال، هو الذى أشار إليه القرآن الكريم عندما قرن المساواة بالتمايز، فقالت آياته المحكمات:(ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)(16)(وليس الذكر كالأنثى)(17) .
نلح على ذلك المنهاج فى التحرير الإسلامى للمرأة.. ولقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يشهد شاهد من أهلها على صدق هذا المنهاج الإسلامى، فتنشر صحيفة [الأهرام] تقريراً علمياً عن نتائج دراسة علمية استغرقت أبحاثها عشرين عاماً، وقام بها فريق من علماء النفس فى الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا بها تكشف عن مصداقية حقائق هذا المنهاج القرآنى فى تشابه الرجال والنساء فى اثنين وثلاثين صفة.. وتميّز المرأة عن الرجل فى اثنتين وثلاثين صفة.. وتميز الرجل عن المرأة كذلك فى اثنتين وثلاثين صفة-فهناك التشابه:(ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف) ، (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها)(18)(بعضكم من بعض)(19) . وهناك التمايز الفطرى (وليس الذكر كالأنثى) .. فهما يتشابهان فى نصف الصفات، ويتمايزان فى نصفها الآخر..
فالنموذج الأمثل لتحررهما معاً هو " مساواة الشقين المتكاملين، لا الندين المتماثلين ".. ولذلك، آثرت أن أقدم للقارئ خلاصة هذه الدراسة العلمية، كما نشرتها [الأهرام]-- تحت عنوان [اختلاف صفات الرجل عن المرأة لمصلحة كليهما]- ونصها:
" فى دراسة قام بها علماء النفس فى الولايات المتحدة الأمريكية، على مدى عشرين عاماً، تم حصر عدد الصفات الموجودة فى كل من الرجل والمرأة، ووجد أن هناك 32 صفة مشتركة فى كل منهما، وأن 32 صفة أخرى موجودة فى الرجل، و32 صفة أخرى موجودة عند المرأة، بدرجات مختلفة فى الشدة، ومن هنا جاءت الفروق بين صفات الرجولة والأنوثة.
وتوصل العلماء من خلال هذه التجارب إلى أن وجود نصف عدد الصفات مشتركة فى كل من الرجل والمرأة يعمل على وجود الأسس المشتركة بينهما، لتسهيل التفاهم والتعامل مع بعضهما البعض..
أما وجود عدد آخر من الصفات متساوياً بينهما ومختلفاً عند كل منهما فى الدرجة والشهرة فمعناه تحقيق التكامل بينهما. كما توصلوا إلى أنه كى يعيش كل من الرجل والمرأة فى انسجام وتناغم تام، لابد أن يكون لدى كل منهما الصفات السيكولوجية المختلفة، فمثلاً الرجل العصبى الحاد المزاج لا يمكنه أن يتعايش مع امرأة عصبية حادة المزاج، والرجل البخيل عليه ألا يتزوج امرأة بخيلة، والرجل المنطوى، الذى لا يحب الناس، لا يجوز أن يتزوج من امرأة منطوية ولا تحب الناس. وهكذا.
وكان من نتائج هذه الدراسات الوصول إلى نتيجة مهمة، ألا وهى أن كل إنسان يحب ألا يعيش مع إنسان متماثل معه فى الصفات وكل شىء، أى صورة طبق الأصل من صفاته الشخصية، ومن هنا جاءت الصفات المميزة للرجولة متمثلة فى: قوة العضلات وخشونتها والشهامة، والقوة فى الحق، والشجاعة فى موضع الشجاعة، والنخوة، والاهتمام بمساندة المرأة وحمايتها والدفاع عنها وجلب السعادة لها. كما تتضمن أيضاً صفات الحب، والعطاء، والحنان، والكرم، والصدق فى المشاعر وفى القول وحسن التصرف.. إلخ.
أما عن صفات الأنوثة، فهى تتميز بالدفء، والنعومة، والحساسية، والحنان، والتضحية، والعطاء، وحب الخير، والتفانى فى خدمة أولادها، والحكمة، والحرص على تماسك الأسرة وترابطها، وحب المديح، والذكاء، وحسن التصرف، وغير ذلك من الصفات..
ولذلك، فمن المهم أن يكون لدى كل من الرجل والمرأة دراية كافية بطبيعة الرجل وطبيعة المرأة، وبذلك يسهل على كل منهما التعامل مع الطرف الآخر فى ضوء خصائص كل منهما.. فعندما يعرف الرجل أن المرأة مخلوق مشحون بالمشاعر والأحاسيس والعواطف، فإنه يستطيع أن يتعامل معها على هذا الأساس. وبالمثل، إذا عرفت المرأة طبيعة الرجل، فإن هذا سيساعدها أيضاً على التعامل معه.. (20) .
تلك هى شهادة الدراسة العلمية، التى قام بها فريق من علماء النفس فى الولايات المتحدة الأمريكية والتى استغرق البحث فيها عشرون عاماً.. والتى تصدق على صدق المنهاج القرآنى فى علاقة النساء بالرجال: الاشتراك والتماثل فى العديد من الصفات.. والتمايز فى العديد من الصفات، لتكون بينهما " المساواة " و " التمايز " فى ذات الوقت..
ومرة أخرى لا أخيرة صدق الله العظيم إذ يقول: (سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد)(21) .
(1) العلق: 1-5.
(2)
سورة يونس: الآية 5.
(3)
القلم: 4.
(4)
الأنفال: 24.
(5)
الأعراف: 157.
(6)
[الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 236.
(7)
[الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده] ج4 ص 606. دراسة وتحقيق د. محمد عمارة. طبعة القاهرة 1993م.
(8)
النساء: 124.
(9)
آل عمران: 195.
(10)
النساء: 32.
(11)
التوبة: 71.
(12)
التوبة: 67- 68.
(13)
المجادلة: 1.
(14)
[الإسلام عقيدة وشريعة] ص 223-228. طبعة القاهرة سنة 1400 هجرية -1980م.
(15)
فصلت: 53.
(16)
سورة البقرة: 228.
(17)
سورة آل عمران: 36.
(18)
سورة الأعراف: 189.
(19)
سورة آل عمران: 195.
(20)
[الأهرام] فى 29- 4-2001- ص 2.
(21)
فصلت: 53
135- قضية الحِجاب
الرد على الشبهة:
السياق القرآنى لآية الخمار يبين أن العلة هى العفاف وحفظ الفروج، حيث يبدأ بالحديث عن تميز الطيبين والطيبات عن الخبيثين والخبيثات.. وعن آداب دخول بيوت الآخرين، المأهول منها وغير المأهول.. وعن غض البصر.. وحفظ الفروج، لمطلق المؤمنين والمؤمنات..وعن فريضة الاختمار، حتى لا تبدو زينة المرأة ـ مطلق المرأة ـ إلا لمحارم حددتهم الآية تفصيلاً. فالحديث عن الاختمار حتى فى البيوت، إذا حضر غير المحارم.. ثم يواصل السياق القرآنى الحديث عن الإحصان بالنكاح (الزواج) وبالاستعفاف للذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله:
(الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم * يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تَذكَّرون * فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم * ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون * قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون * وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذى آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم)(1) .
فنحن أمام نظام إسلامى، وتشريع إلهى مفصل، فى العفة وعلاقتها بستر العورات عن غير المحارم. وهو تشريع عام، فى كل مكان توجد فيه المرأة مع غير محرم.
بل إن ذات السورة ـ (النور) تستأنف التشريع لستر العورات داخل البيوت ـ نصاً وتحديداً ـ فتقول آياتها الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاثُ عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم * والقواعد من النساء اللاتى لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم)(2) .
فنحن أمام تشريع لستر العورات، حتى داخل البيوت، عن غير المحارم ـ الذين حددتهم الآيات ـ ومنهم الصبيان إذا بلغوا الحلم.. فحيث أمر الله بالعفاف وحرم الزنا وأقر الزواج وأباح إمكانية التعدد فكان لابد لكمال التشريع من الأمر بدرء ما يوصل إلى عكس ذلك كله فأمر بالحجاب وبغض البصر وبعدم الخلوة وهو أَمْرٌ له سبحانه فى كل دين.
(1) النور: 26- 33.
(2)
النور: 68: 70.
136- الرِّق
الرد على الشبهة:
الرِّق لغة: هو الشئ الرقيق، نقيض الغليظ والثخين.
واصطلاحًا: هو المِلْك والعبودية، أى نقيض العِتْق والحرية.
والرقيق بمعنى العبد يطلق على المفرد والجمع، وعلى الذكر والأنثى أما العبد، فهو: الرقيق الذكر، ويقابله: الأَمَة للأنثى. ومن الألفاظ الدالة على الرقيق الذكر لفظى: الفتى أو الغلام.. وعلى الأنثى لفظى: الفتاة، والجارية. أما القنّ فهو أخص من العبد، إذ هو الذى مُلِك هو وأبواه.
ومالك الرقيق هو: السيد، أو المولى.
والرق نظام قديم قدم المظالم والاستعباد والطبقية والاستغلال فى تاريخ الإنسان، وإليه أشار القرآن الكريم فى قصة يوسف عليه السلام:(وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بُشْرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً)(1) وكان الاسترقاق من عقوبات السرقة عند العبرانيين القدماء، وعندما سئل إخوة يوسف عن جزاء السارق لصواع الملك (قالوا جزاؤه من وُجد فى رحله فهو جزاؤه..)(2) .
وفى الحضارات القديمة كان الرق عماد نظام الإنتاج والاستغلال، وفى بعض تلك الحضارات كالفرعونية المصرية والكسروية الفارسية كان النظام الطبقى المغلق يحول دون تحرير الأرقاء، مهما توفرت لأى منهم الرغبة أو الإمكانات.. وفى بعض تلك الحضارات كالحضارة الرومانية كان السادة هم الأقلية الرومانية، وكانت الأغلبية فى الامبراطورية برابرة أرقاء، أو فى حكم الأرقاء.. وللأرقاء فى تلك الحضارات ثورات من أشهرها ثورة " اسبارتاكوس "[7371ق م] .
وعندما ظهر الإسلام كانت للمظالم الاجتماعية والتمييز العرقى والطبقى منابع وروافد عديدة تغذى " نهر الرق " فى كل يوم بالمزيد من الأرقاء.. وذلك من مثل:
1-
الحرب، بصرف النظر عن حظها من الشرعية والمشروعية، فالأسرى يتحولون إلى أرقاء، والنساء يتحولن إلى سبايا وإماء..
2-
والخطف، يتحول به المخطوفون إلى رقيق..
3-
وارتكاب الجرائم الخطيرة كالقتل والسرقة والزنا كان يحكم على مرتكبيها بالاسترقاق..
4-
والعجز عن سداد الديون، كان يحوِّل الفقراء المدينين إلى أرقاء لدى الأغنياء الدائنين..
5-
وسلطان الوالد على أولاده، كان يبيح له أن يبيع هؤلاء الأولاد، فينتقلون من الحرية إلى العبودية.
6-
وسلطان الإنسان على نفسه، كان يبيح له بيع حريته، فيتحول إلى رقيق..
7-
وكذلك النسل المولود من كل هؤلاء الأرقاء يصبح رقيقا، حتى ولو كان أباه حرا..
ومع كثرة واتساع هذه الروافد التى تمد نهر الرقيق فى كل وقت بالمزيد والمزيد من الأرقاء، كانت أبواب العتق والحرية إما موصدة تماما، أو ضيقة عسيرة على الولوج منها..
وأمام هذا الواقع، اتخذ الإسلام، إبان ظهوره، طريق الإصلاح الذى يتغيا تحرير الأرقاء، وإلغاء نظام العبودية، وطى صفحته من الوجود، لكن فى " واقعية ثورية " إذا جازالتعبير.. فهو لم يتجاهل الواقع ولم يقفز عليه.. وأيضا لم يعترف به على النحو الذى يبقيه ويكرسه..
لقد بدأ الإسلام فأغلق وألغى وحرّم أغلب الروافد التى كانت تمد نهر الرقيق بالمزيد من الأرقاء.. فلم يبق منها إلا أسرى الحرب المشروعة والشرعية، والنسل إذا كان أبواه من الأرقاء.. وحتى أسرى الحرب المشروعة فتح الإسلام أمامهم باب العتق والحرية المنّ أو الفداء:(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها..)(3) فعندما تضع الحرب أوزارها، يتم تحرير الأسرى، إما بالمن عليهم بالحرية وإما بمبادلتهم بالأسرى المسلمين لدى الأعداء..
ومع إغلاق الروافد روافد الاسترقاق ومصادره التفت الإسلام إلى " كتلة " واقع الأرقاء، فسعى إلى تصفيتها بالتحرير، وذلك عندما عدد ووسع مصابّ نهر الرقيق..ولقد سلك الإسلام إلى ذلك المقصد سبيل منظومة القيم الإسلامية. وسبيل العدالة الاجتماعية الإسلامية. فحبب إلى المسلمين عتق الأرقاء تطوعا، إذ فى عتق كل عضو من أعضاء الرقيق عتق لعضو من أعضاء سيده من النار، فتحرير الرقيق سبيل لتحرير الإنسان من عذاب النار يوم القيامة.. كما جعل الإسلام عتق الأرقاء كفارة للكثير من الذنوب والخطايا.. وجعل للدولة والنظام العام مدخلاً فى تحرير الأرقاء عندما جعل هذا التحرير مصرفا من المصارف الثمانية لفريضة الزكاة فهو جزء من أحد أركان الإسلام (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)(4) . كما جعل الحرية هى الأصل الذى يولد عليه الناس، والرق هو الاستثناء الطارئ الذى يحتاج إلى إثبات، فمجهولوا الحكم هم أحرار، وعلى مدعى رقهم إقامة البينات، وأولاد الأمة من الأب الحر هم أحرار و" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ! "..
كذلك، ذهب الإسلام فساوى بين العبد والحر فى كل الحقوق الدينية، وفى أغلب الحقوق المدنية، وكان التمييز فقط، فى أغلب حالاته بسبب التخفيف عن الأرقاء مراعاة للاستضعاف والقيود التى يفرضها الاسترقاق على الإرادة والتصرف.. فالمساواة تامة فى التكاليف الدينية، وفى الحساب والجزاء.. وشهادة الرقيق معتبرة فى بعض المذاهب الإسلامية عند الحنابلة وله حق الملكية فى ماله الخاص، وإعانته على شراء حريته بنظام المكاتبة والتدبير مرغوب فيها دينياً (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذى آتاكم)(6) . والدماء متكافئة فى القصاص..
وبعد أن كان الرق من أكبر مصادر الاستغلال والثراء لملاك العبيد، حوّله الإسلام بمنظومة القيم التى كادت أن تسوى بين العبد وسيده إلى ما يشبه العبء المالى على ملاك الرقيق.. فمطلوب من مالك الرقيق أن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل مالا يطيق.. بل ومطلوب منه أيضاً إلغاء كلمة " العبد " والأمة " واستبدالها بكلمة " الفتى " و " الفتاة ".
بل لقد مضى الإسلام فى هذا السبيل إلى ما هو أبعد من تحرير الرقيق، فلم يتركهم فى متاهة عالم الحرية الجديد دون عصبية وشوكة وانتماء، وإنما سعى إلى إدماجهم فى القبائل والعشائر والعصبيات التى كانوا فيها أرقاء، فأكسبهم عزتها وشرفها ومكانتها ومنعتها وما لها من إمكانات، وبذلك أنجز إنجازاً عظيماً وراء وفوق التحرير عندما أقام نسيجاً اجتماعياً جديداً التحم فيه الأرقاء السابقون بالأحرار، فأصبح لهم نسب قبائلهم عن طريق " الولاء "، الذى قال عنه الرسول (:[الولاء لُحْمَةٌ كلُحْمَة النسب] رواه الدارمى. حتى لقد غدا أرقاء الأمس " سادة " فى أقوامهم، بعد أن كانوا " عبيداً " فيهم.. وقال عمر بن الخطاب وهو من هو فى الحسب والنسب عن بلال الحبشى، الذى اشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه:" سيدنا أعتق سيدنا "!.. كما تمنى عمر أن يكون سالم مولى أبى حذيفة حياً فيختاره لمنصب الخلافة.. فالمولى، الذى نشأ رقيقاً، قد حرره الإسلام، فكان إماماً فى الصلاة وأهلاً بخلافة المسلمين.
ولقد ساعد على هذا الاندماج فى النسيج العربى فضلاً عن الإسلامى ذلك المعيار الذى حدده الإسلام للعروبة وهو معيار اللغة وحدها، فباستبعاد " العرق.. والدم " غدت الرابطة اللغوية والثقافية انتماءً واحداً للجميع، بصرف النظر عن ماضى الاسترقاق وعن هذا المعيار للعروبة تحدث الرسول (فى معرض النقد والرفض للذين أرادوا إخراج الموالى، ذوى الأصول العرقية غير العربية، من إطار العروبة، فقال:[أيها الناس، إن الرب واحد، والأب واحد.. وليست العربية بأحدكم من أب أو أم، وإنما هى اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربى..] ..
هكذا كان الإسلام إحياء وتحريراً للإنسان، مطلق الإنسان، يضع عن الناس إصرهم والأغلال التى كانت عليهم، ويحرر الأرقاء، لأن الرق فى نظره " موت "، والحرية " حياة وإحياء ".. ولقد أبصر هذه الحكمة الإسلامية الإمام النسفى [710هجرية /1310م] وهو يعلل جعل الإسلام كفارة القتل الخطأ تحرير رقبة:(ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة)(6) .. فقال: إن القاتل " لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمة أن يدخل نفساً مثلها فى جملة الأحرار، لأن اطلاقها من قيد الرق كإحيائها، من قِبَل أن الرقيق ملحق بالأموات، إذ الرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكماً.."(7) .. فالإسلام قد ورث نظام الرق عن المجتمعات الكافرة فهو من آثار الكفر، ولأنه موت لروح وملكات الأرقاء، وسعى الإسلام إلى إلغائه، وتحرير أى إحياء موات هؤلاء الأرقاء، كجزء من الإحياء الإسلامى العام (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)(8) .
ومع أن مقاصد الإسلام فى تصفية نهر الرقيق بإغلاق روافده وتجفيف منابعه، وتوسيع مصباته لم تبلغ كامل آفاقها، إذ انتكس "الواقع التاريخى" للحضارة الإسلامية، بعد عصر الفتوحات، وسيطرة العسكر المماليك على الدولة الإسلامية.. إلا أن. حال الأرقاء فى الحضارة الإسلامية قد ظلت أخف قيوداً وأكثر عدلاً بما لا يقارن من نظائرها خارج الحضارة الإسلامية، بما فى ذلك الحضارة الغربية، التى تزعمت فى العصر الحديث الدعوة إلى تحرير الأرقاء..
فلقد اقترن عصر النهضة الأوروبية بزحفها الاستعمارى على العالمين القديم والجديد، وبعد أن استعبد المستعمرون الأسبان والبرتغاليون والإنجليز والفرنسيون سكان أمريكا الأصليين، وأهلكوهم فى سخرة البحث عن الذهب وإنشاء المزارع، مارسوا أكبر أعمال القرصنة والخطف فى التاريخ، تلك التى راح ضحيتها أكثر من أربعين مليوناً من زنوج إفريقيا، سلسلوا بالحديد، وشحنوا فى سفن الحيوانات، لتقوم على دمائهم وعظامهم المزارع والمصانع والمناجم التى صنعت رفاهية الرجل الأبيض فى أمريكا وأوروبا.. ولا يزال أحفادهم يعانون من التفرقة العنصرية فى الغرب حتى الآن.
وعندما سعت أوروبا فى القرن التاسع عشر إلى إلغاء نظام الرق، وتحريم تجارته، لم تكن دوافعها فى أغلبها روحية ولا قيمية ولا إنسانية، وإنما كانت فى الأساس دوافع مادية، لأن نظامها الرأسمالى قد رأى فى تحرير الرقيق سبيلاً لجعلهم عمالاً أكثر مهارة، وأكثر قدره على النهوض باحتياجات العمل الفنى فى الصناعات التى أقامها النظام الرأسمالى.. فلقد غدا الرق بمعايير الجدوى الاقتصادية عبئاً على فائض رأس المال الذى هو معبود الحضارة الرأسمالية المادية وأصبحت حرية الطبقة العاملة أعون على تنمية مبادراتها ومهاراتها فى عملية الإنتاج..
ولقد كان ذات القرن الذى دعت فيه أوروبا لتحرير الرقيق هو القرن الذى استعمرت فيه العالم، فاسترقّت بهذا الاستعمار الأمم والشعوب استرقاقاً جديداً، لا تزال الإنسانية تعانى منه حتىالآن..
(1) يوسف: 1921.
(2)
يوسف: 75.
(3)
محمد: 4.
(4)
التوبة: 60.
(5)
النور: 33.
(6)
النساء: 92.
(7)
[تفسير النسفى] طبعة القاهرة، الأولى.
(8)
الأنفال: 24
138- هل تحريم زواج المسلمة بغير المسلم يُعد نزعة عنصرية
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ صحيح أن الإسلام يجيز زواج المسلم من غير المسلمة (مسيحية أو يهودية) ولا يجيز زواج المسلمة من غير المسلم. وللوهلة الأولى يُعد ذلك من قبيل عدم المساواة، ولكن إذا عرف السبب الحقيقى لذلك انتفى العجب، وزال وَهْمُ انعدام المساواة. فهناك وجهة نظر إسلامية فى هذا الصدد توضح الحكمة فى ذلك. وكل تشريعات الإسلام مبنية على حكمة معينة ومصلحة حقيقية لكل الأطراف.
2 ـ الزواج فى الإسلام يقوم على " المودة والرحمة " والسكن النفسى. ويحرص الإسلام على أن تبنى الأسرة على أسس سليمة تضمن الاستمرار للعلاقة الزوجية. والإسلام دين يحترم كل الأديان السماوية السابقة ويجعل الإيمان بالأنبياء السابقين جميعًا جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية. وإذا تزوج مسلم من مسيحية أو يهودية فإن المسلم مأمور باحترام عقيدتها، ولا يجوز له ـ من وجهة النظر الإسلامية ـ أن يمنعها من ممارسة شعائر دينها والذهاب من أجل ذلك إلى الكنيسة أو المعبد. وهكذا يحرص الإسلام على توفير عنصر الاحترام من جانب الزوج لعقيدة زوجته وعبادتها. وفى ذلك ضمان وحماية للأسرة من الانهيار.
3 ـ أما إذا تزوج غير مسلم من مسلمة فإن عنصر الاحترام لعقيدة الزوجة يكون مفقودًا. فالمسلم يؤمن بالأديان السابقة، وبأنبياء الله السابقين، ويحترمهم ويوقرهم، ولكن غير المسلم لا يؤمن بنبى الإسلام ولا يعترف به، بل يعتبره نبيًّا زائفًا وَيُصَدِّق ـ فى العادة ـ كل ما يشاع ضد الإسلام وضد نبى الإسلام من افتراءات وأكاذيب، وما أكثر ما يشاع.
وحتى إذا لم يصرح الزوج غير المسلم بذلك أمام زوجته فإنها ستظل تعيش تحت وطأة شعور عدم الاحترام من جانب زوجها لعقيدتها. وهذا أمر لا تجدى فيه كلمات الترضية والمجاملة. فالقضية قضية مبدأ. وعنصر الاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة أساس لاستمرار العلاقة الزوجية.
4 ـ وقد كان الإسلام منطقيًّا مع نفسه حين حرّم زواج المسلم من غير المسلمة التى تدين بدين غير المسيحية واليهودية، وذلك لنفس السبب الذى من أجله حرّم زواج المسلمة بغير المسلم.
فالمسلم لا يؤمن إلا بالأديان السماوية وما عداها تُعد أديانًا بشرية. فعنصر التوقير والاحترام لعقيدة الزوجة فى هذه الحالة ـ بعيدًا عن المجاملات ـ يكون مفقودًا. وهذا يؤثر سلبًا على العلاقة الزوجية، ولا يحقق " المودة والرحمة " المطلوبة فى العلاقة الزوجية.
139- هل صحيح أن الإسلام ضد حرية الاعتقاد
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ لقد كفل الإسلام للإنسان حرية الاعتقاد. وجاء ذلك فى وضوح تام فى القرآن الكريم: (لا إكراه فى الدين)(1) . فلا يجوز إرغام أحد على ترك دينه واعتناق دين آخر. فحرية الإنسان فى اختيار دينه هى أساس الاعتقاد. ومن هنا كان تأكيد القرآن على ذلك تأكيدًا لا يقبل التأويل فى قوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(2) .
2 ـ وقد أقر النبى صلى الله عليه وسلم الحرية الدينية فى أول دستور للمدينة حينما اعترف لليهود بأنهم يشكلون مع المسلمين أمة واحدة.
ومن منطلق الحرية الدينية التى يضمنها الإسلام كان إعطاء الخليفة الثانى عمر بن الخطاب للمسيحيين من سكان القدس الأمان " على حياتهم وكنائسهم وصلبانهم، لا يضار أحد منهم ولا يرغم بسبب دينه ".
3 ـ لقد كفل الإسلام أيضًا حرية المناقشات الدينية على أساس موضوعى بعيد عن المهاترات أو السخرية من الآخرين. وفى ذلك يقول القرآن: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن)(3) . وعلى أساس من هذه المبادئ السمحة ينبغى أن يكون الحوار بين المسلمين وغير المسلمين، وقد وجه القرآن هذه الدعوة إلى الحوار إلى أهل الكتاب فقال:(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله * فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)(4) . ومعنى هذا أن الحوار إذا لم يصل إلى نتيجة فلكل دينه الذى يقتنع به. وهذا ما عبرت عنه أيضًا الآية الأخيرة من سورة (الكافرون) التى ختمت بقوله تعالى للمشركين على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: (لكم دينكم ولى دين)(5) .
4 ـ الاقتناع هو أساس الاعتقاد: فالعقيدة الحقيقية هى التى تقوم على الإقناع واليقين، وليس على مجرد التقليد أو الإرغام. وكل فرد حر فى أن يعتقد ما يشاء وأن يتبنى لنفسه من الأفكار ما يريد، حتى ولو كان ما يعتقده أفكارًا إلحادية. فلا يستطيع أحد أن يمنعه من ذلك طالما أنه يحتفظ بهذه الأفكار لنفسه ولا يؤذى بها أحدًا من الناس. أما إذا حاول نشر هذه الأفكار التى تتناقض مع معتقدات الناس، وتتعارض مع قيمهم التى يدينون لها بالولاء، فإنه بذلك يكون قد اعتدى على النظام العام للدولة بإثارة الفتنة والشكوك فى نفوس الناس. وأى إنسان يعتدى على النظام العام للدولة فى أى أمة من الأمم يتعرض للعقاب، وقد يصل الأمر فى ذلك إلى حد تهمة الخيانة العظمى التى تعاقب عليها معظم الدول بالقتل. فقتل المرتد فى الشريعة الإسلامية ليس لأنه ارتد فقط ولكن لإثارته الفتنة والبلبلة وتعكير النظام العام فى الدولة الإسلامية. أما إذا ارتد بينه وبين نفسه دون أن ينشر ذلك بين الناس ويثير الشكوك فى نفوسهم فلا يستطيع أحد أن يتعرض له بسوء، فالله وحده هو المطلع على ماتخفى الصدور.
وقد ذهب بعض العلماء المحدثين إلى أن عقاب المرتد ليس فى الدنيا وإنما فى الآخرة، وأن ما حدث من قتل للمرتدين فى الإسلام بناء على بعض الأحاديث النبوية فإنه لم يكن بسبب الارتداد وحده، وإنما بسبب محاربة هؤلاء المرتدين للإسلام والمسلمين (6) .
(1) البقرة: 256.
(2)
الكهف: 29.
(3)
النحل: 125.
(4)
آل عمران: 64.
(5)
الكافرون: 6.
(6)
راجع: الحرية الدينية فى الإسلام للشيخ عبد المتعال الصعيدى ص 3،72، 73، 88 ـ دار الفكر العربى ـ الطبعة الثانية (دون تاريخ) .
140- ما موقف الإسلام من الديمقراطية وحقوق الإنسان
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ يُعد الإسلام أول من نادى بحقوق الإنسان وشدد على ضرورة حمايتها. وكل دارس للشريعة الإسلامية يعلم أن لها مقاصد تتمثل فى حماية حياة الإنسان ودينه وعقله وماله وأسرته. والتاريخ الإسلامى سجل للخليفة الثانى عمر بن الخطاب مواجهته الحاسمة لانتهاك حقوق الإنسان وقوله فى ذلك: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا "؟.
2 ـ تنبنى حقوق الإنسان فى الإسلام على مبدأين أساسيين هما: مبدأ المساواة بين كل بنى الإنسان، ومبدأ الحرية لكل البشر. ويؤسس الإسلام مبدأ المساواة على قاعدتين راسختين هما: وحدة الأصل البشرى، وشمول الكرامة الإنسانية لكل البشر. أما وحدة الأصل البشرى فإن الإسلام يعبر عنها بأن الله قد خلق الناس جميعًا من نفس واحدة. فالجميع إخوة فى أسرة إنسانية كبيرة لا مجال فيها لامتيازات طبقية. والاختلافات بين البشر لا تمس جوهر الإنسان الذى هو واحد لدى كل البشر. ومن هنا فهذه الاختلافات ينبغى ـ كما يشير القرآن الكريم ـ أن تكون دافعًا إلى التعارف والتآلف والتعاون بين الناس وليس منطلقًا للنزاع والشقاق:(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا * إن أكرمكمعند الله أتقاكم)(1) .
أما القاعدة الأخرى للمساواة فهى شمول الكرامة الإنسانية لكل البشر. وقد نص القرآن على ذلك فى قوله: (ولقد كرمنا بنى آدم)(2) . فالإنسان بهذا التكريم جعله الله خليفة فى الأرض، وأسجد له ملائكته، وجعله سيدًا فى هذا الكون، وسخر له ما فى السموات وما فى الأرض. فالإنسان بذلك له مكانته ومكانه المفضل بين الخلق جميعًا. وقد منح الله هذه الكرامة لكل الناس بلا استثناء لتكون سياجًا من الحصانة والحماية لكل فرد من أفراد الإنسان، لا فرق بين غنى وفقير وحاكم ومحكوم. فالجميع أمام الله وأمام القانون وفى الحقوق العامة سواء.
أما المبدأ الثانى الذى ترتكز عليه حقوق الإنسان فهو مبدأ الحرية. فقد جعل الله الإنسان كائنًا مكلفًا ومسئولاً عن عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية. وليست هناك مسئولية دون حرية، حتى فى قضية الإيمان والكفر التى جعلها الله مرتبطة بمشيئة الإنسان (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(3) . وهكذا تشمل الحرية كل الحريات الإنسانية دينية كانت أم سياسية أم فكرية أم مدنية.
3 ـ الحكم فى تعاليم الإسلام لابد أن يقوم على أساس من العدل والشورى. وقد أمر الله الناس فى القرآن بالعدل وألزمهم بتطبيقه (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)(4) . (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(5) . والآيات فى ذلك كثيرة. أما الشورى فهى مبدأ أساسى ملزم. وكان النبى (يستشير أصحابه ويأخذ برأى الأغلبية وإن كان مخالفًا لرأيه. وأظهر مثل على ذلك خروج المسلمين إلى غزوة أُحد. فقد كان الرسول يرى عدم الخروج، ولكن الأكثرية كانت ترى الخروج. فنزل على رأيهم وخرج، وكانت الهزيمة للمسلمين. ومع ذلك شدد القرآن على ضرورة الشورى فقال مخاطبًا النبى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر)(6) . ولا يلتفت فى هذا الصدد إلى رأى قلة من الفقهاء الذين يزعمون أن الشورى غير ملزمة. فهذا الزعم مخالف للنصوص الدينية الصريحة.
وقد ترك الإسلام للمسلمين حرية اختيار الشكل الذى تكون عليه الشورى طبقًا للمصلحة العامة. فإذا كانت المصلحة تقتضى أن تكون الشورى بالشكل المعروف الآن فى الدول الحديثة فالإسلام لا يعترض على ذلك. وكل ما فى الأمر هو التطبيق السليم مع المرونة طبقًا لظروف كل عصر وما يستجد من تطورات محلية أو دولية.
ومن ذلك يتضح مدى حرص الإسلام على حقوق الإنسان وصيانتها، وحرصه على التطبيق السليم لمبدأ الشورى أو الديمقراطية بالمفهوم الحديث.
4 ـ الإسلام أتاح الفرصة لتعددية الآراء، وأباح الاجتهاد حتى فى القضايا الدينية طالما توافرت فى المجتهد شروط الاجتهاد. وجعل للمجتهد الذى يجتهد ويخطئ أجرًا وللذى يجتهد ويصيب أجران. والدارس لمذاهب الفقه الإسلامى المعروفة يجد بينها خلافًا فى وجهات النظر فى العديد من القضايا. ولم يقل أحد: إن ذلك غير مسموح به. ومن هنا نجد أن الإسلام يتيح الفرصة أمام الرأى الآخر ليعبر عن وجهة نظره دون حرج مادام الجميع يهدفون إلى ما فيه خير المجتمع والحفاظ على أمنه واستقراره.
(1) الحجرات: 13.
(2)
الإسراء: 70.
(3)
الكهف: 29.
(4)
النحل: 90.
(5)
النساء: 58.
(6)
آل عمران: 159.
141- ما موقف الإسلام من الفنون
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ الإسلام دين يحب الجمال ويدعو إليه فى كل شىء. والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الله جميل يحب الجمال](1) . والفن هو فى حقيقته إبداع جمالى لا يعاديه الإسلام. وغاية ما فى الأمر أن الإسلام يجعل الأولوية للمبدأ الأخلاقى على المبدأ الجمالى، بمعنى أنه يجعل الثانى مترتبًا على الأول ومرتبطًا به. وهذا هو الموقف المبدئى للإسلام إزاء جميع أشكال الفنون. وهناك معيار إسلامى للحكم على أى فن من الفنون يتمثل فى قاعدة تقول: حَسَنُه حسن وقبيحه قبيح.
والقرآن الكريم فى العديد من آياته يلفت الأنظار إلى ما فى الكون من تناسق وإبداع وإتقان، وما يتضمنه ذلك من جمال وبهجة وسرور للناظرين (2) . ومن هنا لا يعقل أن يرفض الإسلام الفن إذا كان جميلاً. أما إذا اشتمل على القبح بما يعنيه ذلك من قبح مادى ومعنوى فإن الإسلام يرفضه ولا يوافق عليه.
2 ـ وترتيبًا على ما تقدم فإن الفن إذا كان هدفه المتعة الذهنية، وترقيق الشعور، وتهذيب الأحاسيس، فلا اعتراض عليه. ولكن إذا خرج عن ذلك وخاطب الغرائز الدنيا فى الإنسان، وخرج عن أن يكون فنًّا هادفًا فإنه حينئذ لا يساعد على بناء الحياة، بل يعمل على هدمها، وبذلك يخرج عن أن يكون فنًّا، بل يصير نوعًا من اللهو المذموم والعبث المرفوض. وهذا أمر لا يقره الإسلام.
3 ـ إذا كانت الموسيقى والغناء تحمل إلينا ألحانًا جميلة وكلمات مهذبة وأنغامًا راقية، وأصواتًا جميلة، فذلك لا يرفضه الإسلام طالما كان فى إطار المبدأ الأخلاقى، أى طالما كان هدف الفن هو السمو بالإنسان وبأحاسيسه ووجدانه ومشاعره. وقد امتدح النبى صلى الله عليه وسلم صوت أبى موسى الأشعرى ـ وكان صوته جميلاً ـ وهو يتغنى بالقرآن. وكان النبى يختار من بين أصحابه للأذان أجملهم صوتًا. وقد سمع النبى صلى الله عليه وسلم صوت الدف والمزمار دون تحرج. وفى يوم عيد دخل أبو بكر على ابنته عائشة زوجة الرسول ولديها جاريتان تغنيان وتضربان بالدفوف فاعترض أبو بكر على ذلك. ولكن النبى صلى الله عليه وسلم رفض ما أبداه أبو بكر من احتجاج فى هذا الصدد قائلاً:[دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد](3) . وقد أوصى النبى صلى الله عليه وسلم نفسه السيدة عائشة أن ترسل من يغنى فى حفل زفاف قريبة لها زُفت إلى رجل من الأنصار.
وهناك مرويات أخرى عديدة عن النبى صلى الله عليه وسلم تبين أن الغناء والموسيقى ليسا من المحرمات فى الإسلام ما لم يصحبهما أمور منكرة غير أخلاقية (4) .
4 ـ أما الرقص: فالإسلام يفرق فيه بين رقص المرأة ورقص الرجل. فالرقصات الشعبية التى يؤديها الرجال مثلاً لا ضير فيها، وقد سمح النبى صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة بمشاهدة الأحباش وهم يرقصون فى يوم عيد.
ورقص المرأة أمام النساء لا حرج فيه. أما رقصها أمام الرجال فذلك لا يقره الإسلام لما فيه من محاذير كثيرة.
5 ـ أما التمثيل فإنه ليس حرامًا مادام فى إطار المبدأ الأخلاقى، ولا ينكر أحد ما للتمثيل الهادف من دور فعال فى معالجة الكثير من المشكلات والقضاء على العديد من السلبيات فى المجتمع. ولا حرج أيضًا أن يشتمل التمثيل على ألوان من اللهو البرئ والترويح المقبول والترفيه الذى لا يخرج عن نطاق المعقول. وكذلك التصوير لا ضير فيه، بل أصبح فى حياتنا المعاصرة يمثل فى أحيان كثيرة ضرورة لا غنى عنها.
6 ـ أما النحت أو التماثيل المجسمة فهناك نصوص واضحة فى تحريمها. ويرجع السبب فى تحريم الإسلام لذلك بالدرجة الأولى إلى ما يخشى من توقير هذه التماثيل أو عبادتها كما كان يفعل عباد الأصنام قديمًا. فإذا لم يكن ذلك واردًا على الإطلاق نظرًا لارتفاع درجة الوعى لدى الناس فلا ضرر منه ولا حرج فيه لانعدام سبب التحريم. غير أن الإسلام من باب سد الذرائع لا يريد أن يفتح هذا الباب لما يمكن أن يترتب عليه من محاذير فى أزمنة مستقبلية. فالإسلام يشرع لكل الأجيال ولمختلف العصور. وما يستبعد فى بيئة قد يقبل فى أخرى، وما يعتبر مستحيلاً فى عصر قد يصبح حقيقة واقعة فى عصر آخر قريب أو بعيد.
(1) رواه مسلم فى كتاب الإيمان.
(2)
انظر: الحجر: 16، النحل: 6، فصلت:12.
(3)
متفق عليه.
(4)
راجع: الحلال والحرام فى الإسلام للدكتور القرضاوى ص 291 وما بعدها ـ الدوحة، قطر 1978م، والشيخ محمد الغزالى: مائة سؤال عن الإسلام ج1 ص 174 وما بعدها.
142- ما أسباب تفرق المسلمين رغم دعوة الإسلام للوحدة
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ لا ينكر أحد أن الشعوب الإسلامية فى عصرنا الحاضر متفرقة ومتنازعة فيما بينها، فهذا واقع ملموس لا يحتاج إلى برهان. ولكن هذا يُعد مرحلة فى تاريخ المسلمين شأنهم فى ذلك شأن بقية الشعوب والأمم الأخرى. ولا يعنى ذلك أنهم سيظلون كذلك إلى الأبد. وكما استطاعت الشعوب الأوروبية أن تتغلب على عوامل الفرقة والتنازع فيما بينها والتى أدت إلى حربين عالميتين شهدهما القرن العشرون ـ فإن الشعوب الإسلامية سوف تستطيع فى مستقبل الأيام أن تتغلب أيضًا على عوامل الفرقة فيما بينها، والبحث عن صيغة ملائمة للتعاون المثمر من أجل مصلحة المجتمعات الإسلامية كلها.
وهناك محاولات مستمرة فى هذا الصدد وإن كانت بطيئة وذات تأثير محدود ومتواضع مثل منظمة المؤتمر الإسلامى التى تضم كل الدول الإسلامية، إلا أنه يمكن تطوير العمل فى هذه المنظمة وغيرها من منظمات إسلامية أخرى للوصول بها إلى مرحلة متقدمة من التعاون الأوثق. وللأمة الإسلامية فى تعاليم الإسلام فى الوحدة والتعاون والتآلف والتكافل أعظم سند يضمن لها نجاح هذه المحاولات فى مستقبل الأيام.
2 ـ فالإسلام فى مصادره الأصلية يدعو إلى الوحدة والتضامن ويحذر من الفرقة والتنازع (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا)(1) ، ويدعو إلى الشعور بآلام الآخرين والمشاركة فى تخفيفها، ويجعل الأمة كلها مثل الجسد الواحد ـ كما يقول النبى صلى الله عليه وسلم[إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى] (2) . ويعتبر الإسلام رابطة العقيدة بمنزلة رابطة الأخوة:(إنما المؤمنون إخوة)(3) . وحينما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، فأصبحوا إخوة متحابين متضامنين فى البأساء والضراء. وآيات القرآن وأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك أكثر من أن تحصى.
3 ـ هناك أسباب خارجية كثيرة أدت إلى الانقسام والفرقة بين المسلمين فى العصر الحديث. وترجع هذه الأسباب فى قدر كبير منها إلى الفترة التى هيمن فيها الاستعمار على بلاد العالم الإسلامى. وعندما رحل ترك مشكلات عديدة كان هو سببًا فيها مثل مشكلات الحدود، وكانت القاعدة التى على أساسها خطط لسياساته هى مبدأ:" فَرِّق تَسُد ". ومن هنا عمل على إحياء العصبيات العرقية بين شعوب البلاد المستعمَرة. وقام بنهب خيرات هذه البلاد، وأدى ذلك إلى إفقارها وتخلفها الحضارى الذى لا تزال آثاره باقية حتى اليوم. ولا تزال معظم شعوب العالم الإسلامى تعانى من المشكلات التى خلفها الاستعمار.
4 ـ انشغل المسلمون بالمشكلات الكثيرة التى خلفها الاستعمار وغفلوا عن تعاليم الإسلام فى الوحدة والتضامن.
ولكن الشعوب الإسلامية لا تزال تحن إلى وحدة جهودها، وتضامنها فيما بينها، وتجميع قواها فى سبيل الخير لهذه الشعوب جميعها. ولا يزال المسلم فى أى بلد إسلامى يشعر بآلام المسلمين فىمناطق العالم المختلفة بوصفه جزءاً من الأمة الإسلامية. وهذا من شأنه أن يعمل على توفير أساس راسخ لمحاولات إعادة التضامن والوحدة بين أقطار العالم الإسلامى، بمعنى توحيد الجهود والتكامل فيما بينها فى ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة والأمن، وتبادل الخبرات والمنافع، وكل ما يعود على المسلمين بالخير، مما يجعلهم أقدر على القيام بدور فعّال فى ترسيخ قواعد السلام والأمن فى العالم كله.
(1) آل عمران: 103.
(2)
رواه الإمام مسلم وغيره (راجع: فيض القدير ج5 ص 514 وما بعدها) .
(3)
الحجرات: 10.
143- هل الإسلام مسئول عن تخلف المسلمين
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ حقائق التاريخ تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام قد استطاع بعد فترة زمنية قصيرة من ظهوه أن يقيم حضارة رائعة كانت من أطول الحضارات عمرًا فى التاريخ. ولا تزال الشواهد على ذلك ماثلة للعيان فيما خلفه المسلمون من علم غزيز فى شتى مجالات العلوم والفنون، وتضم مكتبات العالم آلافًا مؤلفة من المخطوطات العربية الإسلامية تبرهن على مدى ما وصل إليه المسلمون من حضارة عريقة. يضاف إلى ذلك الآثار الإسلامية المنتشرة فى كل العالم الإسلامى والتى تشهد على عظمة ما وصلت إليه الفنون الإسلامية.
وحضارة المسلمين فى الأندلس وما تبقى من معالمها حتى يومنا هذا شاهد على ذلك فى أوروبا نفسها. وقد قامت أوروبا بحركة ترجمة نشطة فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر لعلوم المسلمين. وكان ذلك هو الأساس الذى بنت عليه أوروبا حضارتها الحديثة.
2 ـ يشتمل القرآن الكريم على تقدير كبير للعلم والعلماء وحث على النظر فى الكون ودراسته وعمارة الأرض. والآيات الخمس الأولى التى نزلت من الوحى الإلهى تنبه إلى أهمية العلم والقراءة والتأمل (1) . وهذا أمر كانت له دلالة هامة انتبه إليها المسلمون منذ البداية. وهكذا فإن انفتاح الإسلام على التطور الحضارى بمفهومه الشامل للناحيتين المادية والمعنوية لا يحتاج إلى دليل.
3 ـ أما تخلف المسلمين اليوم فإن الإسلام لا يتحمل وزره، لأن الإسلام ضد كل أشكال التخلف. وعندما تخلف المسلمون عن إدراك المعانى الحقيقية للإسلام تخلفوا فى ميدان الحياة. ويعبر مالك بن نبى ـ المفكر الجزائرى الراحل ـ عن ذلك تعبيرًا صادقًا حين يقول:" إن التخلف الذى يعانى منه المسلمون اليوم ليس سببه الإسلام، وإنما هو عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه لا لتمسكهم به كما يظن بعض الجاهلين ". فليست هناك صلة بين الإسلام وتخلف المسلمين.
4 ـ لا يزال الإسلام وسيظل منفتحًا على كل تطور حضارى يشتمل على خير الإنسان. وعندما يفتش المسلمون عن الأسباب الحقيقية لتخلفهم فلن يجدوا الإسلام من بين هذه الأسباب، فهناك أسباب خارجية ترجع فى جانب كبير منها إلى مخلفات عهود الاستعمار التى أعاقت البلاد الإسلامية عن الحركة الإيجابية، وهذا بدوره ـ بالإضافة إلى بعض الأسباب الداخلية ـ أدى أيضًا إلى نسيان المسلمين للعناصر الإيجابية الدافعة لحركة الحياة فى الإسلام.
5 ـ لا يجوز الخلط بين الإسلام والواقع المتدنى للعالم الإسلامى المعاصر. فالتخلف الذى يعانى منه المسلمون يُعد مرحلة فى تاريخهم، ولا يعنى ذلك بأى حال من الأحوال أنهم سيظلون كذلك إلى نهاية التاريخ. ولا يجوز اتهام الإسلام بأنه وراء هذا التخلف، كما لا يجوز اتهام المسيحية بأنها وراء تخلف دول أمريكا اللاتينية.
إن الأمانة العلمية تقتضى أن يكون الحكم على موقف الإسلام من الحضارة مبنيًّا على دراسة موضوعية منصفة لأصول الإسلام وليس على أساس إشاعات واتهامات وأحكام مسبقة لا صلة لها بالحقيقة.
(1) العلق: 1ـ5.
144- هل صحيح أن الصوم يقلل حركة الإنتاج
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ الصوم من العبادات التى لم ينفرد بها الإسلام. فقد أخبر القرآن الكريم أن الصوم كان مفروضًا أيضًا على الأمم السابقة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)(1) . ولا تزال هناك ديانات أخرى حتى يومنا هذا تَعرِف شعيرة الصوم. ولكن هناك فرقًا واضحًا بين الصوم فى الإسلام والصوم فى غيره من الديانات. ويتمثل هذا الفرق فى أن الصوم فى الإسلام يأتى فى شهر معين من العام طبقًا للتقويم الهجرى، ويبدأ صيام كل يوم بالامتناع التام عن الطعام والشراب وعن كل الشهوات من طلوع الفجر حتى غروب الشمس. وهذا يعنى أن المسلم يقضى نهار يومه كله ـ وهو وقت العمل المعتاد ـ وهو صائم على النحو المشار إليه. ولعل هذا هو السبب الذى من أجله يتوهم البعض أن الصوم الإسلامى بهذه الطريقة يقلل حركة الإنتاج لدى الفرد والمجتمع.
2 ـ والصوم فى حقيقة الأمر برئ من هذه التهمة. فالصوم يفترض فيه أنه يعمل على تصفية النفوس والتسامى بالأرواح. وهذا من شأنه أن يمد الفرد بطاقة روحية تجعله أقدر على الإنتاج والعمل أكثر مما لو لم يكن صائمًا. وهذه الطاقة الروحية قوة لا يستهان بها. وقد حارب المسلمون فى غزوة بدر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وهم صائمون وانتصروا، وحارب الجنود المصريون عام 1973م وهم صائمون حيث كان ذلك فى شهر رمضان وانتصروا. ولم يقلل الصوم من نشاطهم، بل كان العكس هو الصحيح تمامًا.
3 ـ ما نراه فى بعض البلاد الإسلامية من قلة الإنتاج فى شهر الصوم يرجع إلى أسباب أخرى غير الصوم. فمن عادة الكثيرين أن يظلوا متيقظين فى شهر الصوم معظم الليل. ولا يأخذون قسطًا كافيًا من النوم، فنجدهم ـ نظرًا لذلك ـ متعبين أثناء النهار. ومن هنا يقل إنتاجهم، ويقبلون على أعمالهم ببطء وفى تثاقل. ويعتذرون عن ذلك بأنهم صائمون. وقد يكون اعتذارهم هذا فى أول النهار. فلو كان للصوم أى تأثير على النشاط ـ كما يزعمون ـ فإن ذلك لا يكون فى أول النهار، بل يكون فى فترة متأخرة منه.
4 ـ لقد ثبت أن للصوم فوائد كثيرة صحية وروحية واجتماعية وتربوية. فالمفروض أنه فرصة سنوية للمراجعة والتأمل والتقييم والنقد الذاتى على المستويين الفردى والاجتماعى بهدف القضاء على السلبيات والتخلص من الكثير من الأمراض الاجتماعية، وهذا من شأنه أن يدفع حركة المجتمع بخطى أسرع، وبإخلاص أكثر، وبوعى أفضل.
(1) البقرة: 183.
145- هل صحيح أن الزكاة تتيح للغنى فرصة عند الله أفضل من فرصة الفقير
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ تُعد الزكاة فى الإسلام أول ضريبة نظامية فى تاريخ الاقتصاد فى العالم. فالذى كان يحدث قبل ذلك هو أن الحكام كانوا يفرضون الضرائب حسب أهوائهم، وبقدر حاجتهم إلى الأموال تحقيقًا لأغراضهم الشخصية. وكان عبء هذه الضرائب يقع على كاهل الفقراء أكثر مما يقع على كاهل الأغنياء، أو يقع على كاهل الفقراء وحدهم. ولما جاء الإسلام وفرض الزكاة قام بتنظيم جمعها وحدد لها نسبة معينة، وجعلها تقع على عاتق الأغنياء والمتوسطين، وأعفى منها الفقراء (1) . وتشريع الزكاة ليس فقط نظامًا ماليًّا، وإنما هو فى الوقت نفسه عبادة كالصلاة والصيام والحج، يؤديها المسلم القادر على دفعها، ليس خوفًا من السلطة التنفيذية، ولكن تقربًا إلى الله واستجابة لتعاليم دينه.
2 ـ شعر الفقراء فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بعجزهم عن أداء الزكاة مثل الأغنياء. ورأوا أن هذا من شأنه أن يعطى للأغنياء ميزة الحصول على الثواب من الله بأدائهم للزكاة وحرمان الفقراء من هذا الثواب مع أنه لا ذنب لهم فى فقرهم. وقام الفقراء بعرض ما يشعرون به على النبى صلى الله عليه وسلم، فأوصاهم بالتسبيح والتحميد والتكبير (أى بقول سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر) ثلاثًا وثلاثين مرة عقب كل صلاة، وبين لهم أن هذا من شأنه أن يرفع من درجاتهم عند الله ويجعل منزلتهم عنده لا تقل عن منزلة الأغنياء الذين يؤدون الزكاة (2) .
3 ـ المعيار الذى اعتمده القرآن فى المفاضلة بين الناس بصفة عامة هو معيار التقوى والعمل الصالح كما جاء فى القرآن الكريم: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(3) . والتقوى مفهوم عام يشمل كل عمل يقوم به الإنسان ـ أيًّا كان هذا العمل دينيًا أم دنيويًا ـ طالما قصد به وجه الله ونفع الناس ودفع الأذى عنهم. فالقرب من الله لا يتوقف على أداء الزكاة أو غيرها من الشعائر الإسلامية فحسب، بل يتوقف أيضًا على التوجه العام من جانب الإنسان فى كل ما يقوم به فى حياته من أعمال، وما يصدر عنه من سلوك وما يخرج من فمه من أقوال. والإسلام يعلق أهمية كبيرة على النية. فالأعمال بالنيات كما يقول النبى عليه الصلاة والسلام[إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى](4) . وهذا يعنى أن الفقير الذى لا يستطيع إخراج الزكاة ويتمنى أن لو كان لديه مال ليزكى به فإنه يثاب على هذه النية مادامت صادقة. وقد يُخرج الغنى الزكاة ويقصد من وراء ذلك التظاهر أمام الناس والحصول على مكانة بينهم فلا يثاب على ذلك بشىء.
(1) راجع: محمد قطب: شبهات حول الإسلام ـ ص91 ـ مكتبة وهبة سنة 1960م.
(2)
فتح البارى بشرح صحيح البخارى ج2 ص 325 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى. المطبعة السلفية.
(3)
الحجرات: 13.
(4)
البخارى. باب الوحى رقم 1، والإيمان 41، والنكاح 5، والطلاق 11، والترمذى فضائل الجهاد 16، والنسائى طهارة 59.
146- لماذا حرّم الإسلام أكل لحم الخنزير
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ لم يكن الإسلام أول الأديان التى حرمت أكل لحم الخنزير. فالديانة اليهودية تحرِّم أكل لحم الخنزير. ولا يوجد حتى الآن يهودى فى أوروبا وأمريكا يأكل لحم الخنزير إلا فيما ندر. ولم يعب أحد على اليهود ذلك، بل يحترم الغرب العادات الدينية لليهود. وعندما جاء السيد المسيح عليه السلام صرح ـ كما جاء فى الإنجيل ـ بأنه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله، أى أنه لم يأت ليغير التشريعات اليهودية. ومن بينها بطبيعة الحال تحريم أكل لحم الخنزير. والأمر المنطقى بناء على ذلك أن يكون الخنزير محرمًا فى المسيحية أيضًا (1) .
2 ـ عندما جاء الإسلام حرّم أيضًا أكل لحم الخنزير. وهذا التحريم امتداد لتحريمه فى الديانات السماوية السابقة. وقد نص القرآن الكريم عليه صراحة فى أربعة مواضع (2) . وهناك من ناحية أخرى ـ بجانب هذا التحريم الدينى ـ أسباب ومبررات أخرى تؤكد هذا التحريم. ومن ذلك ما أثبته العلماء المسلمون من أن أكل لحم الخنزير ضار بالصحة ولا سيما فى المناطق الحارة. وفضلاً عن ذلك فإن الآيات القرآنية التى ورد فيها تحريم لحم الخنزير قد جمعت هذا التحريم مع تحريم أكل الميتة والدم. وضرر أكل الميتة والدم محقق لما يتجمع فيهما من ميكروبات ومواد ضارة، مما يدل على أن الضرر ينسحب أيضًا على أكل لحم الخنزير.
وإذا كانت الوسائل الحديثة قد تغلبت على ما فى لحم الخنزير ودمه وأمعائه من ديدان شديدة الخطورة (الدودة الشريطية وبويضاتها المتكلسة) فمن الذى يضمن لنا بأنه ليست هناك آفات أخرى فى لحم الخنزير لم يكشف عنها بعد؟ فقد احتاج الإنسان قرونًا طويلة ليكشف لنا عن آفة واحدة. والله الذى خلق الإنسان أدرى به ويعلم ما يضره وما ينفعه. ويؤكد لنا القرآن هذه الحقيقة فى قوله: (وفوق كل ذى علم عليم)(3) .
3 ـ يحسب الإسلام حساب الضرورات فيبيح فيها المحرمات. وفى ذلك قاعدة مشهورة تقول: " الضرورات تبيح المحظورات ". ومن هنا فإن المسلم إذا ألجأته الضرورة الملحة ـ التى يخشى منها على حياته ـ لتناول الأطعمة المحرمة ومنها الخنزير فلا حرج عليه. كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)(4) . ولكن هذه الإباحة لا يجوز أن تتعدى حدود تلك الضرورة وإلا كان المسلم آثماً.
(1) راجع: الحلال والحرام للدكتور القرضاوى ص42 ـ قطر 1978م.
(2)
البقرة: 173، والمائدة: 3، والأنعام: 145، والنحل: 115
(3)
يوسف: 76.
(4)
البقرة: 173.
147- لماذا حرّم الإسلام الحرير والذهب على الرجال
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ يعتمد القول بتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب للرجال فى الإسلام على العديد من المرويات عن النبى صلى الله عليه وسلم كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء ـ وتتلخص وجهة نظرهم فى أن من طبيعة الرجل الصلابة والقوة. والإسلام يريد أن يتربى الرجال بعيدًا عن مظاهر الضعف، وبعيدًا أيضًا عن مظاهر الترف الذى يحاربه الإسلام ويعده مظهرًا من مظاهر الظلم الاجتماعى، وذلك حتى يكون الرجل قادرًا على الكفاح والانتصار فى معارك الحياة وميادين القتال أيضًا إذا اقتضى الأمر. ولما كان التزين بالذهب وارتداء الحرير يُعدان من مظاهر الترف فقد حرمهما الإسلام على الرجال. ولكنه أباحهما للمرأة مراعاة لمقتضى أنوثتها وما فطرت عليه من حب للزينة (1) .
2 ـ وعلى الرغم من هذا التحريم فإنه إذا كانت هناك ضرورة صحية تقضى بلبس الرجل للحرير فإن الإسلام يبيح له ذلك ولا يمنعه. فقد أذن النبى صلى الله عليه وسلم لكل من عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام فى لبس الحرير لأنهما كانا يشكوان من حكة فى جسمهما (2) .
3 ـ وقد ذهب الإمام الشوكانى (توفى حوالى عام 1840م) فى كتابه الشهير " نيل الأوطار " إلى القول بأن أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى النهى عن لبس الحرير تدل على الكراهية فقط وليس على التحريم. والكراهية هنا درجة أخف من التحريم. ويقوى الشوكانى رأيه هذا بأن هناك ما لا يقل عن عشرين صحابيًّا منهم أنس والبراء بن عازب قد لبسوا الحرير. ومن غير المعقول أن يقدم هؤلاء الصحابة على ما هو محرّم، كما يبعد أيضًا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه (3) .
4 ـ أما التختم بالذهب أى اتخاذه كخاتم ونحوه للرجال فقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريمه أيضًا اعتمادًا على بعض الأحاديث النبوية. ولكن هناك جماعة من العلماء ذهبوا إلى القول بكراهة التختم بالذهب للرجال كراهة تنزيه فقط. وكراهة التنزيه بعيدة عن التحريم وقريبة من الإباحة أو الجواز، واعتمدوا فى ذلك أيضًا على أن هناك عددًا من الصحابة قد تختموا بالذهب منهم سعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وصهيب، وحذيفة، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب. الذين فهموا أن النهى للتنزيه وليس للتحريم (4) .
(1) راجع: الحلال والحرام فى الإسلام للدكتور القرضاوى ص 80 وما بعدها ـ الدوحة ـ قطر 1978م.
(2)
راجع: نيل الأوطار للشوكانى ج2 ص81 ـ دار الجيل، بيروت 1973م.
(3)
نيل الأوطار ج2 ص73 وما بعدها. راجع أيضًا: فقه السنة للشيخ سيد سابق ج3 ص 481 وما بعدها. بيروت 1971م.
(4)
راجع: فقه السنة للشيخ سيد سابق ـ المجلد الثالث ص 482 وما بعدها، 488 وما بعدها.