الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1- جمع القرآن
اتخذ المعترضون من وقائع جمع القرآن وليجة يتسللون من خلالها للنيل من القرآن، وإيقاع التشكيك فى كونه وحيًا من عند الله عز وجل.
والواقع أن الذى ألجأهم إلى التسلل من هذه " الوليجة " وهى وقائع جمع القرآن أمران رئيسيان:
الأول: محاولتهم نزع الثقة عن القرآن وخلخلة الإيمان به حتى لا يظل هو النص الإلهى الوحيد المصون من كل تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقص.
الثانى: تبرير ما لدى أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من نقد وجه إلى الكتاب المقدس بكلا عهديه: القديم (التوراة) والجديد (الأناجيل) ليقطعوا الطريق على ناقدى الكتاب المقدس من المسلمين، ومن غير المسلمين.
ومواطن الشبهة عندهم فى وقائع جمع القرآن والمراحل التى مرَّ بها، هى:
أن القرآن لم يُدوَّن ولم يكتب فى مصحف أو مصاحف كما هو الشأن الآن، إلا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم أما فى حياته، فلم يكن مجموعاً فى مصحف. وأن جمعه مرًّ بعدة مراحل:
الأولى: فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - وهو جمع ابتدائى غير موثق تمام التوثيق كما يزعمون؟ .
الثانية: فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وقد كان الجمع فى هذه المرحلة قابلاً لإدخال كثير من الإضافات التى افتقر إليها تدوين القرآن فيما بعد. لأن القرآن لم يكن فيهما مضبوطًا مشكولاً.
الثالثة: الإضافات التى أُلْحِقَتْ بالنص القرآنى وأبرزها:
* نَقْط حروفه لتمييز بعضها من بعض، مثل تمييز الخاء من الجيم والحاء، وتمييز الجيم من الخاء والحاء، وتمييز التاء بوضع نقطتين فوقها عن كل من الياء والباء والنون والثاء.
1-
ضبط كلماته بالضم والفتح والكسر والجزم، مثل:" الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين " وهذا أمر طارئ على جمع القرآن فى مرحلتيه السابقتين.
2-
علامات الوقف: مثل:ج صلى لا قلى م 00 00
3-
وضع الدوائر المرقوم فيها أرقام الآيات فى كل سورة.
إن كل هذه الإضافات لم تكن موجودة فى العصر النبوى، بل ولا فى عهد الخلفاء الراشدين.
يذكرون هذا كله ليصوروا أن الشبهة التى لوحظت فى جمع المصحف الحاوى للقرآن الكريم، تزرع الشكوك والريوب (جمع ريب) فى وحدة القرآن واستقراره وسلامته من التحريف. فعلام إذن يصر المسلمون على اتهام التوراة التى بيد اليهود الآن أنها لا تمثل حقيقة التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام؟ أو لماذا يطلقون هذا الوصف على مجموعة " الأناجيل ": التى بيد النصارى الآن؟
الرد على هذه الشبهة:
إنًّ تأخير تدوين القرآن عن حياة النبى صلى الله عليه وسلم وجمعه فى مصحف فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، لامساس له مطلقًا بوحدة القرآن وصلة كل كلمة بالوحى الإلهى؛ لأن القرآن قبل جمعه فى مصاحف كان محفوظًا كما أنزله الله على خاتم المرسلين.
والعرب قبل الإسلام، وفى صدر الإسلام المبكر كانوا ذوى ملكات فى الحفظ لم يماثلهم فيها شعب أو أمة، من قبلهم أو معاصرة لهم، ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليلون فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومه.
وروعة نظم القرآن، ونقاء ألفاظه، وحلاوة جرسه، وشرف معانيه، هذه الخصائص والسمات فاجأت العرب بما لم يكونوا يعرفون، فوقع من أنفسهم موقع السحر فى شدة تأثيره على العقول والمشاعر، فاشتد اهتمامهم به، وبخاصة الذين كانوا من السابقين إلى الإيمان به، وكانوا يترقبون كل جديد ينزل به الوحى الأمين، يجمعون بين حفظه والعمل به.
وكان النبى صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه شئ من الوحى يأمر كُتًّاب الوحى بكتابته فورًا، سماعًا من فمه الطاهر ثم ينشر ما نزل من الوحى بين الناس.
وقد ساعد على سهولة حفظه أمران:
الأول: نزوله (مُنَجَّمًا) أى مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة؛ لأنه لم ينزل دفعة واحدة كما كان الشأن فى الوحى إلى الرسل السابقين.
والسبب فى نزول القرآن مُفَرَّقًا هو ارتباطه بتربية الأمة، والترقى بها فى مجال التربية طورًا بعد طور ومعالجة ما كان يجد من مشكلات الحياة، ومواكبة حركة بناء الدعوة من أول شعاع فيها إلى نهاية المطاف.
الثانى: خصائص النظم القرآنى فى صفاء مفرداته، وإحكام تراكيبه، والإيقاع الصوتى لأدائه متلوًّا باللسان، مسموعًا بالآذان، وما يصاحب ذلك من إمتاع وإقناع، كل ذلك أضفى على آيات القرآن خاصية الجذب إليه، والميل الشديد إلى الإقبال عليه، بحيث يجذب قارئه وسامعه واقعًا فى أسره غير ملولٍ من طول الصحبة معه.
وتؤدى فواصل الآيات فى القرآن دورًا مُهِمًّا فى الإحساس بهذه الخصائص. ولنذكر لهذا " مثلاً " من سور القرآن الكريم:
بسم الله الرحمن الرحيم (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحًا * فأثرن به نقعًا * فوسطن به جمعًا * إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بُعثر ما فى القبور * وحُصل ما فى الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير)(1) .
عدد آيات هذه السورة [العاديات] إحدى عشرة آية، وقد وزعت من حيث الفواصل، وهى الكلمات الواقعة فى نهايات الآيات، على أربعة محاور، هى: الثلاث الآيات الأولى، وكل فاصلة فيها تنتهى بحرف الحاء: ضبحا قدحا صبحا.
والآيتان الرابعة والخامسة، كل فاصلة فيهما انتهت بحرف العين: نقعا جَمْعا.
والآيات السادسة والسابعة والثامنة، انتهت فواصلها بحرف الدال: لكنود لشهيد لشديد.
أما الآيات التاسعة، والعاشرة، والحادية عشرة، فقد انتهت فواصلها بحرف الراء: القبور الصدور لخبير.
مع ملاحظة أن حروف الفواصل فى هذه السورة ماعدا الآيات الثلاث الأولى مسبوقة بحرف " مد " هو " الواو " فى: " لكنود " و " الياء " فى: " لشهيد لشديد ".
ثم " الواو " فى: " القبور الصدور ثم " الياء " فى: " لخبير " وحروف المد تساعد على " تطرية " الصوت وحلاوته فى السمع. لذلك صاحبت حروف المد كلمات " الفواصل " فى القرآن كله تقريبًا، وأضفت عليها طابعًا غنائيًا من طراز فريد (2) جذب الإسماع، وحرك المشاعر للإقبال على القرآن بشدة أسره إياهم عن طريق السماع، ليكون ذلك وسيلة للإقبال على فقه معانيه، ثم الإيمان به.
ومن سمات سهولة الحفظ فى هذه السورة أمران:
أنها سورة قصيرة، حيث لم تتجاوز آياتها إحدى عشرة آية.
قصر آياتها، فمنها ما تألف من كلمتين، وهى الآيات الثلاث الأولى. ومنها ما تألف من ثلاث كلمات، وهى الآيتان الرابعة والخامسة. ومنها ما تألف من أربع كلمات، وهى الآيات: السادسة والسابعة والثامنة. وآيتان فحسب كلماتها خمس، وهما العاشرة والحادية عشرة. وآية واحدة كلماتها سبع، هى الآية التاسعة.
ونظام " عقد المعانى " فى السورة رائع كروعة نظمها. فالآيات الثلاث الأولى قَسَمٌ جليل بِخَيْلِ المجاهدين فى سبيل الله.
والآيتان الرابعة والخامسة استطراد مكمل لمعانى المقسم به، شدة إغارتها التى تثير غبار الأرض، وسرعة عَدْوِِهٍَا ومفاجأتها العدوّ فى الإغارة عليه.
ثم يأتى المقسم عليه فى الآية السادسة: " إن الإنسان لربه لكنود ": عاص لله، كفور بإنعامه عليه.
وفى الآية السابعة إلماح إلى علم الإنسان بأنه عاق لربه، شهيد على كفرانه نعمته.
وفى الآية الثامنة تقبيح لمعصية الإنسان لربه، وإيثار حطام الدنيا على شكر المنعم.
أما الآيات الثلاث الأخيرة من (9) إلى (11) فهى إنذار للإنسان الكفور بنعم ربه إليه.
وهذه السمات، ليست وقفًا كلها على سورة " والعاديات " بل هى مع غيرها، سمات عامة للقرآن كله، وبهذا صار القرآن سهل الحفظ لمن حاوله وصدق فى طلبه وسلك الطريق الحق الموصل إليه (3) .
إن الحفظ كان العلاقة الأولى بين المسلمين وبين كتاب ربهم وكان الحفظ له وسيلة واحدة ضرورية يعتمد عليها، هى السماع. وهكذا وصل إلينا القرآن، من بداية نزوله إلى نهايته.
وأول سماع فى حفظ القرآن كان من جبريل عليه السلام الذى وصفه الله بالأمين.
وأول سامع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع القرآن كله مرات من جبريل.
وثانى مُسَمِّع كان هو عليه الصلاة والسلام بعد سماعه القرآن من جبريل.
أما ثانى سامع للقرآن فهم كُتَّابُ الوحى، سمعوه من النبى عليه الصلاة والسلام فور سماعه القرآن من جبريل؛ لأنه كان إذا نزل الوحى، وفرغ من تلقى ما أنزله الله إليه دعا كُتَّابَ الوحى فأملى على مسامعهم ما نزل فيقومون بكتابته على الفور.
ثم يشيع عن طريق السماع لا الكتابة ما نزل من القرآن بين المؤمنين، إما من فم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من أفواه كتاب الوحى.
وقد يسَّر الله تعالى لحفظ القرآن واستمرار حفظه كما أنزله لله، أوثق الطرق وأعلاها قدرًا فكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه على جبريل فى كل عام مرة فى شهر رمضان المعظم. ثم فى العام الذى لقى فيه ربه تَمَّ عرض القرآن تلاوة على جبريل مرتين. زيادة فى التثبت والتوثيق.
وفى هذه الفترة (فترة حياة النبى) لم يكن للقراء مرجع سوى المحفوظ فى صدر النبى عليه الصلاة والسلام، وهو الأصل الذى يُرجع إليه عند التنازع، أما ما كان مكتوبًا فى الرقاع والورق فلم يكن مما يرجع إليه الناس، مع صحته وصوابه.
وكذلك فى عهدى الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كان الاعتماد على الحفظ فى الصدور هو المعول عليه دون الكتابة؛ لأنها كانت مفرقة، ولم تكن مجموعة.
وكانت حظوظ الصحابة، من حفظ القرآن متفاوتة، فكان منهم من يحفظ القدر اليسير، ومنهم من يحفظ القدر الكثير، ومنهم من يحفظ القرآن كله. وهم جمع كثيرون مات منهم فى موقعة اليمامة فى خلافة أبى بكر سبعون حافظًا للقرآن، وكانوا يسمون حفظة القرآن ب " القُرَّاء ".
ولا يقدح فى ذلك أن بعض الروايات تذهب إلى أن الذين حفظوا القرآن كله من الصحابة كانوا أربعة أو سبعة، وقد وردت بعض هذه الروايات فى صحيحى البخارى ومسلم لأن ما ورد فيهما له توجيه خاص، هو أنهم حفظوا القرآن كله وعرضوا حفظهم على رسول الله تلاوة عليه فأقرهم على حفظهم، وليس معناه أنهم هم الوحيدون الذين حفظوا القرآن من الصحابة (4) .
أول جمع للقرآن الكريم
لم يجمع القرآن فى مصحف فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، ولا فى صدر خلافة أبى بكر رضى الله عنه، وكان حفظه كما أنزل الله فى الصدور هو المتبع.
وفى هذه الأثناء كان القرآن مكتوبًا فى رقاع متفرقًا. هذه الرقاع وغيرها التى كتب فيها القرآن إملاء من فم النبى صلى الله عليه وسلم، ظلت كما هى لم يطرأ عليها أى تغيير من أى نوع.
ولما قتل سبعون رجلاً من حُفَّاظِه دعت الحاجة إلى جمع ما كتب مفرقًا فى مصحف واحد فى منتصف خلافة أبى بكر باقتراح من عمر رضى الله عنهما.
وبعد وفاة أبى بكر تسلم المصحف عمر بن الخطاب، وبعد وفاته ظل المصحف فى حوزة ابنته أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها (5) .
وفى هذه الفترة كان حفظ القرآن فى الصدور هو المتبع كذلك.
وانضم إلى حُفَّاظه من الصحابة بعد انتقال النبى عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، التابعون من الطبقة الأولى، وكانت علاقتهم بكتاب الله هى الحفظ بتفاوت حظوظهم فيه قلة وكثرة، وحفظًا للقرآن كله، وممن اشتهر منهم بحفظ القرآن كله التابعى الكبير الحسن البصرى رضى الله عنه وآخرون.
كان هذا أول جمع للقرآن، والذى تم فيه هو جمع الوثائق التى كتبها كتبة الوحى فى حضرة رسول الله، بمعنى تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها، ولا معنى لهذا الجمع إلا ما ذكرناه، وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق مجازى صرف. والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ.
ومما يجب التنبيه إليه مرات أن الجمع فى هذه المرحلة لم يضف شيئًا أو يحذفه من تلك الوثائق الخطية، التى تم تدوينها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام إملاءً منه على كتبة وحيه الأمناء الصادقين.
مرحلة الجمع الثانية (6)
كانت هذه المرحلة فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وكان حافظًا للقرآن كله كما ورد فى الروايات الصحيحة. والسبب الرئيسى فى اللجوء إلى هذا الجمع فى هذه المرحلة هو اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات، إلى حد الافتخار بقراءة على قراءة أخرى، وشيوع بعض القراءات غير الصحيحة.
وهذا ما حمل حذيفة بن اليمان على أن يفزع إلى أمير المؤمنين عثمان ابن عفان، ويهيب به أن يدرك الأمة قبل أن تتفرق حول القرآن كما تفرق اليهود والنصارى حول أسفارهم المقدسة. فنهض رضى الله عنه للقيام بجمع القرآن فى " مصحف " يجمع الناس حول أداء واحد متضمنًا الصلاحية للقراءات الأخرى الصحيحة، وندب لهذه المهمة الجليلة رجلاً من الأنصار (زيد بن ثابت) وثلاثة من قريش: عبد الله بن الزبير، سعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وزيد بن ثابت هذا كان هو رئيس الفريق الذى ندبه عثمان رضى الله عنه لهذه المهمة الجليلة؛ لأنه أى زيد بن ثابت قد تحققت فيه مؤهلات أربعة للقيام بهذه المسئولية وهى:
كان من كتبة الوحى فى الفترة المدنية.
كان حافظًا متقنًا للقرآن سماعًا مباشرًا من فم رسول الله.
كان هو الوحيد الذى حضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبى عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام.
كان هو الذى جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه.
منهج الجمع فى هذه المرحلة
وقد تم الجمع فى هذه المرحلة على منهج دقيق وحكيم للغاية قوامه أمران:
الأول: المصحف الذى تم تنسيقه فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، وقد تقدم أن مكوّنات هذا المصحف هى الوثائق الخطية التى سجلها كتبة الوحى فى حضرة النبى عليه صلى الله عليه وسلم سماعًا مباشرًا منه.
فكان لا يُقبل شئ فى مرحلة الجمع الثانى ليس له وجود فى تلك الوثائق التى أقرها النبى عليه الصلاة والسلام.
الثانى: أن تكون الآية أو الآيات محفوظة حفظًا مطابقًا لما فى مصحف أبى بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأقل. فلا يكفى حفظ الرجل الواحد، ولا يكفى وجودها فى مصحف أبى بكر، بل لابد من الأمرين معًا:
1-
وجودها فى مصحف أبى بكر.
2-
ثم سماعها من حافظين، أى شاهدين، وقد استثنى من هذا الشرط أبو خزيمة الأنصارى، حيث قام حفظه مقام حفظ رجلين فى آية واحدة لم توجد محفوظة إلا عند أبى خزيمة، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين عدلين.
قام هذا الفريق، وفق هذا المنهج المحكم، بنسخ القرآن،لأول مرة، فى مصحف واحد، وقد أجمع عليه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعارض عثمان منهم أحدًا، حتى عبد الله بن مسعود، وكان له مصحف خاص كتبه لنفسه، لم يعترض على المصحف "الجماعى" الذى دعا إلى كتابته عثمان رضى الله عنه، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالرضا والقبول، فى جميع الأقطار والعصور.
ونسخ من مصحف عثمان، الذى سمى " المصحف الإمام " بضعة مصاحف، أرسل كل مصحف منها إلى قطر من أقطار الإسلام، مثل الكوفة والح
جاز، وبقى المصحف الأم فى حوزة عثمان رضى الله عنه، ثم عمد عثمان إلى كل ماعدا " المصحف الإمام " من مصاحف الأفراد المخالفة أدنى مخالفة للمصحف الإمام، ومنها مصحف الصحابى الجليل ابن مسعود وأمر بحرقها أو استبعادها؛ لأنها كانت تحتوى على قراءات غير صحيحة، وبعضها كان يُدخل بعض عبارات تفسيرية فى صلب الآيات أو فى أواخرها.
الفرق بين الجمعين
من نافلة القول، أن نعيد ما سبق ذكره، من أن أصل الجمعين اللذين حدثا فى خلافتى أبى بكر وعثمان رضى الله عنهما كان واحدًا، هو الوثائق الخطية التى حررت فى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم إملاءً من فمه الطاهر على كتبة الوحى، ثم تلاوتهاعليه وإقرارها كما تليت عليه هذه الوثائق لم تدخل عليها أية تعديلات، وهى التى نراها الآن فى المصحف الشريف المتداول بين المسلمين.
وكان الهدف من الجمع الأول فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه هو جمع تلك الوثائق المتفرقة فى مكان واحد منسقة السور والآيات، دون نقلها فى مصحف حقيقى جامع لها. فهذا الجمع بلغة العصر مشروع جمع لا جمع حقيقى فى الواقع.
ولهذا عبَّر عنه أحد العلماء بأنه أشبه ما يكون بأوراق وجدت متفرقة فى بيت النبى فربطت بخيط واحد، مانع لها من التفرق مرة أخرى.
أما الجمع فى خلافة عثمان رضى الله عنه فكان نسخًا ونقلاً لما فى الوثائق الخطية، التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام وأقرها بعد تلاوتها عليه، وجمعها فى مصحف واحد فى مكان واحد. وإذا شبهنا الوثائق الأولى بقصاصات ورقية مسطر عليها كلام، كان الجمع فى خلافة عثمان هو نسخ ذلك الكلام المفرق فى القصاصات فى دفتر واحد.
أما الهدف من الجمع فى خلافة عثمان فكان من أجل الأمور الآتية:
1-
توحيد المصحف الجماعى واستبعاد مصاحف الأفراد لأنها لم تسلم من الخلل. وقد تم ذلك على خير وجه.
2-
القضاء على القراءات غير الصحيحة، وجمع الناس على القراءات الصحيحة، التى قرأ بها النبى عليه الصلاة والسلام فى العرضة الأخيرة على جبريل فى العام الذى توفى فيه.
3-
حماية الأمة من التفرق حول كتاب ربها. والقضاء على التعصب لقراءة بعض القراء على قراءة قراء آخرين.
وفى جميع الأزمنة فإن القرآن يؤخذ سماعًا من حُفَّاظ مجودين متقنين، ولا يؤخذ عن طريق القراءة من المصحف؛ لإن الحفظ من المصحف عرضة لكثير من الأخطاء، فالسماع هو الأصل فى تلقى القرآن وحفظه. لأن اللسان يحكى ما تسمعه الأذن، لذلك نزل القرآن ملفوظًا ليسمع ولم ينزل مطبوعًا ليُقرأ.
فالفرق بين الجمعين حاصل من وجهين:
الوجه الأول: جمع أبى بكر رضى الله عنه كان تنسيقًا للوثائق الخطية التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام على صورتها الأولى حسب ترتيب النزول سورًا وآيات.
وجمع عثمان رضى الله عنه كان نقلاً جديدًا لما هو مسطور فى الوثائق الخطية فى كتاب جديد، أطلق عليه " المصحف الإمام ".
أما الوجه الثانى فهو من حيث الهدف من الجمع وهو فى جمع أبى بكر كان حفظ الوثائق النبوية المفرقة فى نسق واحد مضمومًا بعضها إلى بعض، منسقة فيه السور والآيات كما هى فى الوثائق، لتكون مرجعًا حافظًا لآيات الذكر الحكيم.
وهو فى جمع عثمان، جمع الأمة على القراءات الصحيحة التى قرأها النبى صلى الله عليه وسلم فى العرضة الأخيرة على جبريل عليه السلام.
أما المتون (النصوص) التى نزل بها الوحى الأمين فظلت على صورتها الأولى، التى حررت بها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام.
فالجمعان البكرى والعثمانى لم يُدْخِِِِِلا على رسم الآيات ولا نطقها أى تعديل أو تغيير أو تبديل، وفى كل الأماكن والعصور واكب حفظ القرآن تدوينه فى المصاحف، وبقى السماع هو الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن على مدى العصورحتى الآن وإلى يوم الدين.
فذلكة سريعة:
العرض الذى قدمناه لتدوين القرآن يظهر من خلاله الحقائق الآتية:
1-
إن تدوين متون القرآن (نصوصه) تم منذ فجر أول سورة نزلت بل أول آية من القرآن، وكان كلما نزل نجم من القرآن أملاه عليه الصلاة والسلام على كاتب الوحى فدونه سماعًا منه لتوه، ولم يلق عليه الصلاة والسلام ربه إلا والقرآن كله مدون فى الرقاع وما أشبهها من وسائل التسجيل. وهذا هو الجمع الأول للقرآن وإن لم يذكر فى كتب المصنفين إلا نادرًا.
2-
إن هذا التدوين أو الجمع المبكر للقرآن كان وما يزال هو الأصل الثابت الذى قامت على أساسه كل المصاحف فيما بعد، حتى عصرنا الحالى.
- إن الفترة النبوية التى سبقت جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، لم تكن فترة إهمال للقرآن، كما يزعم بعض خصوم القرآن من المبشرين والمستشرقين والملحدين بل العكس هو الصحيح، كانت فترة عناية شديدة بالقرآن (7) . اعتمدوا فيها على ركيزتين بالغتى الأهمية:
الأولى: السماع من الحفظة المتقنين لحفظ القرآن وتلاوته.
الثانية: الحفظ المتقن فى الصدور.
والسماع والحفظ هما أقدم الوسائل لحفظ وتلاوة كتاب الله العزيز. وسيظلان هكذا إلى يوم الدين.
- إن القرآن منذ أول آية نزلت منه، حتى اكتمل وحيه لم تمر عليه لحظة وهو غائب عن المسلمين، أو المسلمون غائبون عنه، بل كان ملازمًا لهم ملازمة الروح للجسد.
إن تاريخ القرآن واضح كل الوضوح، ومعروف كل المعرفة، لم تمر عليه فترات غموض، أو فترات اضطراب، كما هو الشأن فى عهدى الكتاب المقدس (8) التوراة والإنجيل. وما خضعا له من أوضاع لا يمكن قياسها على تاريخ القرآن، فليس لخصوم القرآن أى سبب معقول أو مقبول فى اتخاذهم مراحل جمع القرآن منافذ للطعن فيه، أو مبررًا يبررون به ما اعترى كتابهم المقدس من آفات تاريخية، وغموض شديد الإعتام صاحب وما يزال يصاحب، واقعيات التوراة والأناجيل نشأة، وتدوينًا، واختلافًا واسع المدى، فى الجوهر والأعراض التى قامت به.
وقد بقى علينا من عناصر شبهاتهم حول جمع القرآن ومراحله ما سبقت الإشارة إليه من قبل، وهى: النقط والضبط وعلامات الوقف.
المراد بالنَقْط هو وضع النُّقط فوق الحروف أو تحتها مثل نقطة النون ونقطة الباء.
أما الضبط فهو وضع الحركات الأربع: الضمة والفتحة والكسرة والسكون فوق الحروف أو تحتها حسب النطق الصوتى للكلمة. حسبما تقتضيه قواعد النحو والصرف.
أما علامات الوقف فهى كالنقط والضبط توضع فوق نهاية الكلمة التى يجوز الوقف عليها أو وصلها بما بعدها. وهذه الأنواع الثلاثة يُلحظ فيها ملحظان عامَّان:
الأول: أنها لا تمس جسم الكلمة من قريب أو من بعيد ولا تغير من هيكل الرسم العثمانى للكلمات، بل هى زيادة إضافية خارجة عن " متون "(أصول) الكلمات.
الثانى: أنها كلها أدوات أو علامات اجتلبت لخدمة النص القرآنى، ولتلاوته صوتيًا تلاوة متقنة أو بعبارة أخرى:
هى وسائل إيضاح اصطلاحية متفق عليها تعين قارئ القرآن على أدائه أداء صوتيًا محكمًا، وليست هى من عناصر التنزيل، ولو جرد المصحف منها ما نقص كلام الله شيئًا. وقد كان كتاب الله قبل إدخال هذه العلامات هو هو كتاب الله، إذن فليست هى تغييرًا أو تبديلاً أو تحريفًا أدخل على كتاب الله فأضاع معالمه، كما يزعم خصوم القرآن الموتورون.
فالنقط أضيفت إلى رسم المصحف للتمييز بين الحروف المتماثلة كالجيم والحاء والخاء، والباء والتاء والثاء والنون والسين والشين، والطاء والظاء والفاء والقاف والعين والغين، والصاد والضاد.
وقبل إضافة النقط إلى الحروف كان السماع قائماً مقامها، لأن حفاظ القرآن المتقنين المجوِّدين ليسوا فى حاجة إلى هذه العلامات، لأنهم يحفظون كتاب ربهم غضًا طريًا كما أنزله الله على خاتم رسله، أمَّا غير الحفاظ ممن لا يستغنون عن النظر فى المصحف فهذه العلامات النقطية والضبطية والوقفية ترشدهم إلى التلاوة المثلى، وتقدم لهم خدمات جليلة فى النظر فى المصحف؛ لأنها كما قلنا من قبل وسائل إيضاح لقراء المصحف الشريف.
فمثلاً نقط الحروف وقاية من الوقوع فى أخطاء لا حصر لها، ولنأخذ لذلك مثالاً واحدًا هو قوله تعالى:(كمثل جنة بربوة)(9) .
لو تركت " جنة " بغير نقط ولا ضبط لوقع القارئ غير الحافظ فى أخطاء كثيرة؛ لأنها تصلح أن تنطق على عدة احتمالات، مثل: حَبَّة حية حِنَّة خبَّة جُنة حِتة خيَّة جيَّة حبة جبَّة.
ولكن لما نقطت حروفها، وضُبطت كلماتها اتضح المراد منها وتحدد تحديدًا دقيقًا، طاردًا كل الاحتمالات غير المرادة.
وأول من نقط حروف المصحف جماعة من التابعين كان أشهرهم أبوالأسود الدؤلى، ونصر بن عاصم الليثى، ويحيى بن يَعْمُر، والخليل ابن أحمد، وكلهم من كبار التابعين (10) .
والخلاصة: أن نقط حروف الكلمات القرآنية، وضبط كلمات آياته ليس من التنزيل، وأنه حدث فى عصر كبار التابعين، وإلحاق ذلك بالمصحف ليس تحريفًا ولا تعديلاً لكلام القرآن.
وهو من البدع الحسنة وقد أجازه العلماء لأن فيه تيسيرًا على قُرَّاء كتاب الله العزيز، وإعانة لهم على تلاوته تلاوة متقنة محكمة، وهو من المصالح المرسلة، التى سكت الشرع عنها فلم يأمر بها ولم ينه عنها.
وتحقيق المصلحة يقوم مقام الأمر بها، ووقوع المضرة يقوم مقام النهى عنها.
وهذه سمة من سمات مرونة الشريعة الإسلامية العادلة الرحيمة. أما علامات الوقف فلها أدوار إيجابية فى إرشاد قراء القرآن وتوجيههم إلى كيفية التعامل مع الجمل والتراكيب القرآنية حين تُتلى فى صلاة أو فى غير صلاة.
والواقع أن كل هذه المضافات إلى رسم كلمات المصحف فوق أنها والله سبحانه وتعالى أعلم وسائل إيضاح كما تقدم، اجتلبت من أجل خدمة النص القرآنى، تؤدى فى الوقت نفسه خدمة جليلة لمعانى المفردات والتراكيب القرآنية. وقد أشرنا من قبل إلى مهمات النقط فوق أو تحت الحروف، وعلامات الضبط الأربع: الفتحة والضمة والكسرة والسكون، فوق أو تحت رسم الكلمات.
ونسوق الآن تمثيلاً سريعًا للمهام الجليلة التى تؤديها علامات الوقف، التى توضع فوق نهايات الكلمات التى يُوْقَفُ عليها أو لا يُوقف:
قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هوصلى، وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير)(11) .
نرى العلامة (صلى) فوق حرف الواو فى كلمة " هو " وهى ترمز إلى أن الوقف على هذه الكلمة " هو " جائز ووصلها بما بعدها وهو " وإن يمسسك " جائز كذلك إلا أن الوصل، وهو هنا تلاوة الآية كلها دفعة واحدة بلا توقف، أولى من الوقف.
والسبب فى جواز الوقف والوصل هنا أن كلاً من الكلامين معناه تام يحسن السكوت عليه، وكذلك يحسن وصله بما بعده لأنهما كلامان بينهما تناسب وثيق، ومن حيث البناء التركيبى، هما شرط " إنْ "، وفِعْلا الشرط فيهما فعل مضارع، وهما فعل واحد تكرر فى شرطى الكلامين " يمسسك " والفاعل هو " الله " فيهما. الأول اسم ظاهر، والثانى ضمير عائد عليه، أما كون الوصل أولى من الوقف، فلأن التناسب بين الكلامين أقوى من التباين لفظًا ومعنى، مع ملاحظة أن جواز الوقف يتيح لقارئ القرآن نفحة من راحة الصمت، ثم يبدأ رحلة التلاوة بعدها وقوله تعالى:(قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل قلى فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرًا)(12) .
علامة الوقف (قلى) موضوعة فوق اللام الثانية من كلمة "قليل" وترمز إلى جواز الوصل والوقف على كلمة " قليل " وأن الوقف عليها أولى من وصلها بما بعدها، وفى الوقف راحة لنفس القارئ كما تقدم.
وجواز الوقف لتمام المعنى فى الجزء الأول من الآية.
وجواز الوصل، فلأن الجزء الثانى من الكلام مفرع ومرتب على الجزء الأول (13) .
أما كون الوقف على كلمة " قليل " أولى فى هذه الآية فلأن ما قبلها جملتان خبريتان، وهما واقعتان مقول القول لقوله تعالى:(قل ربى..) .
أما جملة " فلا تمار فيهم " فهى جملة إنشائية (14) فيها نهى عن الجدال فى شأن أهل الكهف كم كان عددهم والكلام الإنشائى مباين للكلام الخبرى. إذن فالكلامان غير متجانسين. هذه واحدة.
أما الثانية فإن " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا "، غير داخل فى مقول القول الذى أشرنا إليه قبلاً.
وهذان الملحظان أحدثا تباعدًا ما بين الكلامين لذلك كان الوقف أولى، إلماحًا إلى ذلك التباين بين الكلامين. والوقف هو القطع بين كلامين بالسكوت لحظة بين نهاية الكلام الأول، وبداية الكلام الثانى، وله شأن عظيم فى تلاوة القرآن الكريم، من حيث الألفاظ (الأداء الصوتى) ومن حيث تذوق المعانى وخدمتها، وقوله تعالى:(وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منهج ذلك من آيات الله)(15) .
علامة الوقف (ج) موضوعة فوق " الهاء " نهاية كلمة " منه " وترمز إلى جواز الوقف على " منه " وعلى جواز وصله بما بعده " ذلك من آيات الله " وهذا الجواز مستوى الطرفين، لا يترجح فيه الوقف على الوصل، ولا الوصل على الوقف. وهذا راجع إلى المعنى المدلول عليه بجزئى الكلام، جزء ما بعد " منه " وجزء ما قبله.
وذلك لأن ما قبل " منه " كلام خبرى لا إنشائى وكذلك ما بعدها " ذلك من آيات الله.. " فهما إذن متجانسان.
والوقف مناسب جدًا لطول الكلام قبل كلمة " منه " وفى الوقف راحة للنفس، والراحة تساعد على إتقان التلاوة.
والوصل مناسب جدًا من حيث المعنى؛ لأن قوله تعالى: " ذلك من آيات الله " تركيب واقع موقع " الخبر " عما ذكره الله عز وجل من أوضاع أهل الكهف فى طلوع الشمس وغروبها عنهم.
وقوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبينلا يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة..)(16) .
علامة الوقف (لا) موضوعة على " النون " نهاية كلمة "طيبين" ترمز إلى أن الوقف على " طيبين " ممنوع.
والسبب فى هذا المنع أن جملة " يقولون " وهى التالية لكلمة "طيبين" حال من " الملائكة " وهم فاعل " تتوفاهم ".
أما " طيبين " فهى حال من الضمير المنصوب على المفعولية للفعل " تتوفاهم " وهو ضمير الجماعة الغائبين " هم " ولو جاز الوقف على " طيبين " لحدث فاصل زمنى بين جملة الحال " يقولون " وبين صاحب الحال " الملائكة " ولم تدع إلى هذا الفعل ضرورة بيانية.
لذلك كان الوقف على " طيبين " ممنوعًا لئلا يؤدى إلى قطع "الحال" وهو وصف، عن صاحبه " الملائكة " وهو الموصوف. وهذا لا يجوز بلاغة؛ فمنع الوقف هنا كان سببه الوفاء بحق المعنى، ومجىء الحال هنا جملة فعلية فعلها مضارع يفيد وقوع الحدث بالحال والاستقبال مراعاة لمقتضى الحال؛ لأن الملائكة تقول هذا الكلام لمن تتوفاهم من الصالحين فى كل وقت لأن الموت لم ولن يتوقف.
وقوله تعالى: (إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولدم له ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا)(17) .
علامة الوقف (م) موضوعة على حرف الدال من كلمة " ولد " للدلالة على لزوم الوقف على هذه الكلمة " ولد " وامتناع وصلها بما بعدها وهو: " له ما فى السماوات وما فى الأرض ".
وإنما كان الوقف، هنا لازمًا لأن هذا الوقف سيترتب عليه صحة المعنى وليمتنع إيهام غير صحته أما وصله بما بعده فيترتب عليه إيهام فساد المعنى.
بيان ذلك أن الوصل لو حدث لأوهم أن قوله تعالى: " له ما فى السماوات وما فى الأرض " وصف ل " الولد " المنفى، أى ليس لله ولد، له ما فى السماوات والأرض، وهذا لا يمنع أن يكون لله سبحانه ولد ولكن ليس له ما فى السماوات والأرض؟! وهذا باطل قطعًا.
أما عندما يقف القارئ على كلمة " ولد " ثم يستأنف التلاوة من " له ما فى السماوات وما فى الأرض " فيمتنع أن يكون هذا الوصف للولد المنفى، ويتعين أن يكون لله عز وجل، وهذا ناتج عن قطع التلاوة عند " ولد " أى بالفاصل الزمنى بين تلاوة ما قبل علامة الوقف " لا " وما بعدها حتى آخر الآية.
فأنت ترى أن الوقف هنا يؤدى خدمة جليلة للمعنى المراد من الآية الكريمة. ومثله قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهمم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون)(18) .
علامة الوقف (م) موضوعة فوق الميم من كلمة " همم " للدلالة على لزوم الوقف عليها، وامتناع وصلها بما بعدها، وهو " الذين خسروا أنفسهم ".
وسر ذلك اللزوم؛ أن الوصل يوهم معنى فاسدًا غير مراد، لأنه سيترتب عليه أن يكون قوله تعالى:" الذين خسروا أنفسهم " وصفًا ل " أبناءهم " وهذا غير مراد، بل المراد ما هو أعم من "أبناءهم" وهم الذين خسروا أنفسهم فى كل زمان ومكان. فهو حكم عام فى الذين خسروا أنفسهم، وليس خاصًا بأبناء الذين آتاهم الله الكتاب.
هذه هى علامات الوقف، وتلك هى نماذج من المعانى الحكيمة التى تؤديها، أو جاءت رامزة إليها، وبقيت حقيقة مهمة، لابد من الإشارة إليها.
إن خصوم القرآن يعتبرون علامات الوقف تعديلاً أُدْخِل على القرآن، بعد عصر النزول وعصر الخلفاء الراشدين.
وهذا وهم كبير وقعوا فيه، لأن هذه العلامات وغيرها ليست هى التى أوجدت المعانى التى أشرنا إلى نماذج منها، فهذه المعانى التى يدل عليها الوقف سواء كان جائز الطرفين، أو الوقف أولى من الوصل أو الوصل أولى من الوقف، أو الوقف اللازم أو الوقف الممنوع. هذه المعانى من حقائق التنزيل وكانت ملحوظة منذ كان القرآن ينزل، وكان حفاظ القرآن وتالوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبقونها فى تلاوتهم للقرآن، قبل أن يُدوَّن
القرآن فى " المصحف " هذا هو الحق الذى ينبغى أن يكون معروفًا للجميع، أما وضع هذه العلامات فى عصر التابعين فجاءت عونًا لغير العارفين بآداب تلاوة القرآن، دون أن تكون بشكلها جزءا من التنزيل (19) .
تنسيق المصحف:
نعنى ب: تنسيق المصحف " الفواصل بين سوره ب: " بسم الله الرحمن الرحيم " وترقيم آيات كل سورة داخل دوائر فاصلة بين الآيات، ووضع خطوط رأسية تحت مواضع السجود فى آيات القرآن، ثم الألقاب التى أطلقت على مقادير محددة من الآيات مثل:
الربع الحزب الجزء. لأن هذه الأعمال إجراءات بشرية خالصة أُلْحِق بعضها بسطور المصحف، وهو ترقيم الآيات وَوُضِع بعضها تحتها، كعلامات السجود فى أثناء التلاوة.
أما ماعدا هذين فهى إجراءات اعتبارية عقلية، تدل عليها عبارات موضوعة خارج إطار أو سُور الآيات.
وليس فى هذا مطعن لطاعن؛ لأنّاَ نقول كما قلنا فى نظائره من قبل إنها وسائل إيضاح وتوجيه لقرَّاء القرآن الكريم توضع خارج كلمات الوحى لا فى متونها، وتؤدى خدمة جليلة للنص المقدس مقروءاً أو متْلُوًّا.
ولا يدعى مسلم أنها لها قداسة النص الإلهى، أو أنها نازلة من السماء بطريق الوحى الأمين.
والمستشرقون الذين يشاركون المبشرين (20) فى تَصيُّد التهم للقرآن، ينهجون هذا النهج " التنسيقى " فى أعمالهم العلمية والفكرية، وبخاصة فى تحقيق النصوص فيضعون الهوامش والملاحق والفهارس الفنية لكل
ما يقومون بتحقيقه من نصوص التراث. ولهم مهارة فائقة فى هذا المجال، ولم نر واحدًا منهم ينسب هذه الأعمال الإضافية إلى مؤلف النص نفسه، كما لم نر أحدًا منهم عدَّ هذه الإضافات تعديلاً أو تحريفًا أو تغييرًا للنص الذى قام هو بتحقيقه وخدمته.
بل إنه يعد هذه الأعمال الإضافية وسائل إيضاح للنص المحقق. وتيسيرات مهمة للقراء.
وهذا هو الشأن فى عمل السلف رضى الله عنهم فى تنسيق المصحف الشريف، وهو تنسيق لا مساس له ب " قدسية الآيات " لأنها وضعت فى المصحف على الصورة التى رُسِمَتْ بها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تاريخ القرآن (21)
هذا هو تاريخ القرآن، منذ نزلت أول سورة منه، إلى آخر آية نزلت منه، كان كتابًا محفوظا فى الصدور، متلوًّا بالألسنة، مسطورًا على الرقاع، ثم مجموعًا فى مصاحف، لم يخضع لعوامل محو وقرض، ولا آفات ضياع، وضعته الأمة فى " أعينها " منذ نَزَلَ فلم يضل عنها أو يغب، ولم تضل هى عنه أو تغب، تعرف مصادره وموارده، على مدى عمره الطويل، تعرفه كما تعرف أبناءها، بلا زيغ ولا اشتباه.
هذا هو تاريخ القرآن، وضعناه وضعًا موجزًا، لكنه مُلِمٌّ بمعالم الرحلة، كاشفًا عن أسرارها. وضعناه لنقول لخصوم القرآن والإسلام:
هل فى تاريخ القرآن ما يدعو إلى الارتياب فيه، أو نزع الثقة عنه؟
وهل أصاب آياته المحكمة خلل أو اضطراب؟
وهل رأيتموه غاب لحظة عن الأمة، أو الأمة غابت عنه لحظة؟
وهل رأيتم فيه جهلاً بمصدره ونشأته وتطور مراحل جمعه وتدوينه؟ أو رأيتم فى آياته تغييرًا أو تبديلاً؟
تلك هى بضاعتنا عرضناها فى سوق العرض والطلب غير خائفين أن يظهر فيها غش أو رداءة، أو تصاب ببوار أو كساد من منافس يناصبها العداء.
هذا هو ما عندنا. فما هو الذى عندكم من تاريخ الكتاب المقدس بعهديه (22) .
القديم (التوراة) التى بين أيدى اليهود الآن، والجديد (الأناجيل) التى بين أيدى النصارى الآن.
ما الذى تعرض له الكتاب المقدس فى تاريخه الأول المقابل لفترة تاريخ القرآن، التى فرغنا من عرضها؟
تعالوا معنا نفحص تلك الفترة من تاريخ الكتاب المقدس فى رحلته المبكرة:
مولد التوراة وتطورها:
يضطرب أهل الكتاب عامة، واليهود خاصة حول تاريخ التوراة (مولدها وتطورها) اضطرابًا واسع المدى ويختلفون حولها اختلافًا يذهبون فيه من النقيض إلى النقيض، ولهذا عرضوا لتاريخ القرآن بالطعن والتجريح ليكون هو والتوراة سواسية فى فقد الثقة بهما، أو على الأقل ليُحرجوا المسلمين بأنهم لا يملكون قرآنًا مصونًا من كل ما يمس قدسيته وسلامته من التحريف والتبديل. وقد عرضنا من قبل تاريخ القرآن، وها نحن نعرض تاريخ التوراة حسبما هو فى كتابات أهل الكتاب أنفسهم، مقارنًا بما سبق من حقائق تاريخ القرآن الأمين.
الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد تتعلق به آفتان قاتلتان منذ وجد، وإلى هذه اللحظة التى نعيش فيها:
آفة تتعلق بتاريخه متى ولد، وعلى يد من ولد، وكيف ولد، ثم ما هو محتوى الكتاب المقدس؟ وهل هو كلام الله، أم كلام آخرين؟ (23) .
والمهم فى الموضوع أن هذا الغموض فى تاريخ الكتاب المقدس لم يثره المسلمون، بل أعلنه أهل الكتاب أنفسهم يهودًا أو نصارى ممن اتسموا بالشجاعة، وحرية الرأى، والاعتراف الخالص بصعوبة المشكلات التى أحاطت بالكتاب المقدس، مع الإشارة إلى استعصائها على الحلول، مع بقاء اليهودية والنصرانية كما هما.ومعنى العهد عند أهل الكتاب هو " الميثاق " والعهد القديم عندهم هو ميثاق أخذه الله على اليهود فى عصر موسى عليه السلام، والعهد الجديد ميثاق أخذه فى عصر عيسى عليه السلام (24) .
والمشكلتان اللتان أحاطتا بالكتاب المقدس يمكن إيجازهما فى الآتى:
- مشكلة أو أزمة تحقيق النصوص المقدسة، التى تمثل حقيقة العهدين.
- مشكلة أو أزمة المحتوى، أى المعانى والأغراض التى تضمنتها كتب (أى أسفار) العهدين، وفصولهما المسماة عندهم ب"الإصحاحات ".
والذى يدخل معنا فى عناصر هذه الدراسة هو المشكلة أو الأزمة الأولى؛ لأنها هى المتعلقة بتاريخ الكتاب المقدس دون الثانية.
متى؟ وعلى يد مَنْ ولدت التوراة:
هذا السؤال هو المفتاح المفضى بنا إلى إيجاز ما قيل فى الإجابة.
وهو تساؤل صعب، ونتائجه خطيرة جدًا، وقد تردد منذ زمن قديم. وما يزال يتردد، وبصورة ملحة، دون أن يظفر بجواب يحسن السكوت عليه.
وممن أثار هذا التساؤل فى العصر الحديث وول ديورانت الأمريكى الجنسية، المسيحى العقيدة، وكان مما قال:
" كيف كُتبت هذه الأسفار (يعنى التوراة) ومتى كُتبت؟ ذلك سؤال برئ لا ضير فيه، ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد، ويجب أن نفرغ منه هنا فى فقرة واحدة، نتركه بعدها من غير جواب؟! (25) .
فقد ذهب كثير من الباحثين إلى أن خروج موسى من مصر كان فى حوالى 1210 قبل ميلاد السيد المسيح، وأن تلميذه يوشع بن نون الذى خلفه فى بنى إسرائيل (اليهود) مات عام 1130 قبل الميلاد. ومن هذا التاريخ ظلت التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام مجهولة حتى عام 444 قبل الميلاد، أى قرابة سبعة قرون (700سنة) فى هذا العام. (444) فقط عرف اليهود أن لهم كتابًا اسمه التوراة؟
ولكن كيف عرفوه بعد هذه الأزمان الطويلة؟ وول ديورانت يضع فى الإجابة على هذا السؤال طريقتين إحداهما تنافى الأخرى.
الطريقة الأولى:
أن اليهود هالهم ما حل بشعبهم من كفر، وعبادة آلهة غير الله، وانصرافهم عن عبادة إله بنى إسرائيل " يهوه " وأن " الكاهن خلقيا " أبلغ ملك بنى إسرائيل " يوشيا " أنه وجد فى ملفات الهيكل ملفًا ضخمًا قضى فيه موسى عليه السلام فى جميع المشكلات، فدعا الملك " يوشيا" كبار الكهنة وتلا عليهم سفر " الشريعة " المعثور عليه فى الملفات، وأمر الشعب بطاعة ما ورد فى هذا السفر؟
ويعلق وول ديورانت على السفر فيقول: "لا يدرى أحد ما هو هذا السفر؟ وماذا كان مسطورًا فيه؟ وهل هو أول مولد للتوراة فىحياة اليهود "؟ .
الطريقة الثانية:
أن بنى إسرائيل بعد عودتهم من السبى البابلى شعروا أنهم فى حاجة ماسة إلى إدارة دينية تهىء لهم الوحدة القومية والنظام العام، فشرع الكهنة فى وضع قواعد حكم دينى يعتمد على المأثور من أقوال الكهنة القدماء وعلى أوامر الله؟
فدعا عزرا، وهو من كبار الكهان، علماء اليهود للاجتماع وأخذ يقرأ عليهم هو وسبعة من الكهان سفر شريعة موسى ولما فرغوا من قراءته أقسم الكهان والزعماء والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع، ويتخذوها دستورًا لهم إلى أبد الآبدين (26) .
هذا ما ذكره ديورانت نقلاً عن مصادر اليهود، وكل منهما لا يصلح مصدرًا حقيقيًا للتوراة التى أنزلها الله على موسى؛ لأن الرواية الأولى لا تفيد أكثر من نسبة الملف الذى عثر عليه " خلقيا " إلى أقوال موسى وأحكامه فى القضاء بين الخصوم.
ولأن الرواية الثانية تنسب صراحة أن النظام الذى وضعه الكهان، بعد قراءتهم السفر كان خليطًا من أقوال كهانهم القدماء، ومن أوامر الله؟!
(1) العاديات: 1-11.
(2)
سورة " والعاديات " من قصار السور التى قد بدأ بها الوحى فى مكة، قبل الهجرة، ويرى بعض الباحثين أن القرآن بدأ بهذه السور ذات الطبيعة الغنائية فى مكة، لجذب أهل مكة إليه عن طريق السمع أولاً، ثم لتدبر معانيه ثانيًا.
(3)
انظر تفسير سورة " والعاديات " فى أى تفسير شئت من التفاسير المتداولة: الكشاف روح المعانى التفسير الواضح للدكتور حجازى، أو فى غيرها.
(4)
ينظر: البرهان فى علوم القرآن للإمام الزركشى (1/241) وما بعدها.
(5)
هو مصحف فرد لا متعدد، فلم يكن متداولاً بين أيدى المسلمين، لأن حفظ القرآن فى الصدور كان هو المرجع.
(6)
انظر: جمع القرآن فى خلافة عثمان فى " البرهان فى علوم القرآن " و " الاتقان فى علوم القرآن والأول للإمام الزركشى، والثانى للإمام جلال الدين السيوطى
(7)
لأن القرآن لو كان جمع فى مصحف من أول الأمر، لاتكل الناس على المصحف المكتوب، وقل اهتمامهم بحفظه.
(8)
سيأتى حديث مفصل عما تعرض له الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد من أوضاع وآفات شديدة الخطورة.
(9)
البقرة: 265.
(10)
المقنع لأبى عمرو الدانى ص 129 تحقيق محمد الصادق قمحاوى.
(11)
الأنعام: 17.
(12)
الكهف: 22.
(13)
التفريع هو تولد كلام من كلام آخر، وتأتى الفاء دليلاً على هذا التفريع كما فى الآية الكريمة.
(14)
الكلام كله قسمان: خبر، وإنشاء، فكل كلام أخبرت فيه غيرك بأمر قد حدث قبل زمن التكلم أو بعده مثل: حضر فلان أمس، أو سيحضر غدًا هو كلام خبرى، أما إذا طلبت شيئًا لم يكن حاصلاً فى زمن التكلم مثل: أطع والديك فهو كلام إنشائى.
(15)
الكهف: 17.
(16)
النحل: 32
(17)
النساء: 171.
(18)
الأنعام: 20.
(19)
هى مثل علامات الإعراب كالفتحة والضمة والكسرة والسكون. لم تُوجد هى أحكام الإعراب، وإنما هى مجرد رموز دالة عليها.
(20)
المبشرون هم الذين يريدون فتنة عامة الناس بما يكتبونه عن الإسلام، وهم أساتذة المستشرقين. أما المستشرقون فيقصدون فتنة المثقفين والطبقات العليا، ويصورون الإسلام فى غير صورته إلا قليلاً منهم تجدهم منصفين للإسلام.
(21)
نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر، إلى أن تم جمعه فى المصاحف، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجودًا، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى.
(22)
اليهود يؤمنون بالعهد القديم وحده، ويكفرون بالعهد الجديد (الأناجيل) أما النصارى فيعتبرون العهد القديم شطرًا من الكتاب المقدس، ويؤمنون بالعهدين معًا.
(23)
نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر، إلى أن تم جمعه فى المصاحف، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجودًا، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى.
(24)
نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر، إلى أن تم جمعه فى المصاحف، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجودًا، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى.
(25)
قصة الحضارة (ج2 ص: 367) ترجمة محمد بدران.
(26)
قصة الحضارة (ج2 ص356) .
3- تعدد قراءات القرآن
مقدمة: تعدد القراءات ألا يدل على الإختلاف فيه، وهو نوع من التحريف؟
القراءات: جمع قراءة، وقراءات القرآن مصطلح خاص لا يراد به المعنى اللغوى المطلق، الذى يفهم من اطلاع أى قارئ على أى مكتوب، بل لها فى علوم القرآن معنى خاص من إضافة كلمة قراءة أو قراءات للقرآن الكريم، فإضافة " قراءة " أو "قراءات " إلى القرآن تخصص معنى القراءة أو القراءات من ذلك المعنى اللغوى العام، فالمعنى اللغوى العام يطلق ويراد منه قراءة أى مكتوب، سواء كان صحيفة أو كتابًا، أو حتى القرآن نفسه إذا قرأه قارئ من المصحف أو تلاه بلسانه من ذاكرته الحافظة لما يقرؤه من القرآن ومنه قول الفقهاء:
القراءة فى الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء تكون جهرًا، فإن أسرَّ فيهما المصلى فقد ترك سُنة من سنن الصلاة، ويسجد لهما سجود السهو إن أسر ساهيًا. فقراءة القرآن هنا معنى لغوى عام، لا ينطبق عليه ما نحن فيه الآن من مصطلح: قراءات القرآن. وقد وضع العلماء تعريفًا للقراءات القرآنية يحدد المراد منها تحديدًا دقيقًا. فقالوا فى تعريفها:
" اختلاف ألفاظ الوحى فى الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما (البرهان فى علوم القرآن (1/318)) .
وقد عرفها بعض العلماء فقال:
" القراءات: هى النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبى صلى الله عليه وسلم.."(القراءات القرآنية تاريخ وتعريف) .
ومما تجب ملاحظته أن القراءات القرآنية وحى من عند الله عز وجل، فهى إذن قرآنً، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنْفُسِكُمْ)(1) . هذه قراءة حفص عن عاصم، أو القراءة العامة التى كُتب المصحف فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه عليها، والشاهد فى الآية كلمة "أنفُسِكُم" بضم الفاء وكسر السين، وهى جمع:" نَفْس " بسكون الفاء، ومعناها: لقد جاءكم رسول ليس غريبًا عليكم تعرفونه كما تعرفون أنفسكم لأنه منكم نسبًا ومولدًا ونشأة، وبيئة، ولغة.
وقرأ غير عاصم: " لقد جاءكم رسول من أَنْفَسِكُمْ " بفتح الفاء وكسر السين، ومعناها: لقد جاءكم رسول من أزكاكم وأطهركم.
و" أنْفَس " هنا أفعل تفضيل من النفاسة. فكلمة " أنفسكم " كما ترى قرئت على وجهين من حيث النطق. وهذا هو معنى القراءة والقراءات القرآنية.
مع ملاحظة مهمة ينبغى أن نستحضرها فى أذهاننا ونحن نتصدى فيما يأتى للرد على الشبهة التى سيوردها خصوم القرآن من مدخل: تعدد قراءات القرآن أن هذه القراءات لا تشمل كل كلمات القرآن، بل لها كلمات فى الآية دون كلمات الآية الأخرى، وقد رأينا فى الآية السابقة أن كلمات الآية لم تشملها القراءات، بل كانت فى كلمة واحدة هى " أنفسكم ".
وهذا هو شأن القراءات فى جميع القرآن، كما ينبغى أن نستحضر دائمًا أن كثيرًا من الآيات خلت من تعدد القراءات خلوًّا تامًّا.
ومثال آخر، قوله تعالى:
" مالك يوم الدين " والشاهد فى الآية كلمة " مالك "، وفيها قراءتان:
" مالك " اسم فاعل من " مَلِكَ " وهى قراءة حفص وآخرين. " مَلِك " صفة لاسم فاعل، وهى قراءة: نافع وآخرين.
ومعنى الأولى " مالك " القاضى المتصرف فى شئون يوم الدين، وهو يوم القيامة.
أما معنى " مَلِك " فهو أعم من معنى " مالك " أى من بيده الأمر والنهى ومقاليد كل شىء. ما ظهر منها وما خفى.
وكلا المعنيين لائق بالله تعالى، وهما مدح لله عز وجل.
ولما كانت هذه الكلمة تحتمل القراءتين كتبت فى الرسم هكذا "ملك " بحذف الألف بعد حرف الميم، مع وضع شرطة صغيرة رأسية بين الميم واللام، ليصلح رسمها للنطق بالقراءتين.
ومثال ثالث هو قوله تعالى:
(يوم يُكشف عن ساق)(2) .
والشاهد فى الآية كلمة " يُكشَف " وفيها قراءتان الأولى قراءة جمهور القراء، وهى " يُكشف " بضم الياء وسكون الكاف، وفتح الشين. بالبناء للمفعول، والثانية قراءة ابن عباس " تَكْشِفُ " بفتح التاء وسكون الكاف، وكسر الشين، بالبناء للفاعل، وهو الساعة، أى يوم تكشف الساعة عن سياق. قرأها بالتاء، والبناء للمعلوم، وقرأها الجمهور بالياء والبناء للمجهول.
والعبارة كناية عن الشدة، كما قال الشاعر:
كشفت لهم ساقها * * * وبدا من الشر البراح (3) .
هذه نماذج سقناها من القراءات القرآنية تمهيدًا لذكر الحقائق الآتية:
- إن القراءات القرآنية وحى من عند الله عز وجل.
- إنها لا تدخل كل كلمات القرآن، بل لها كلمات محصورة وردت فيها، وقد أحصاها العلماء وبينوا وجوه القراءات فيها.
- إن الكلمة التى تقرأ على وجهين أو أكثر يكون لكل قراءة معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه.
- إن القراءات القرآنية لا تؤدى إلى خلل فى آيات الكتاب العزيز، وكلام الله الذى أنزله على خاتم رسله عليهم الصلاة والسلام.
ومع هذا فإن خصوم الإسلام يتخذون من تعدد قراءات بعض كلمات القرآن وسيلة للطعن فيه، ويرون أن هذه القراءات ما هى إلا تحريفات لحقت بالقرآن بعد العصر النبوى.
وكأنهم يريدون أن يقولوا للمسلمين، إنكم تتهمون الكتاب المقدس بعهديه (التوراة والإنجيل) بالتحريف والتغيير والتبديل، وكتابكم المقدس (القرآن) حافل بالتحريفات والتغييرات والتبديلات، التى تسمونها قراءات؟
وهذا ما قالوه فعلاً، وأثاروا حوله لغطًا كثيرًا، وبخاصة جيش المبشرين والمستشرقين، الذين تحالفوا إلا قليلاً منهم على تشويه حقائق الإسلام، وفى مقدمتها القرآن الكريم.
ونكتفى بما أثاره واحد منهم قبل الرد على هذه الشبهة التى يطنطنون حولها كثيرًا، ذلكم الواحد هو المستشرق اليهودى المجرى المسمى:" جولد زيهر " الحقود على الإسلام وكل ما يتصل به من قيم ومبادئ.
إن هذا الرجل لهو أشد خطرًا من القس زويمر زعيم جيش المبشرين الحاقدين على الإسلام فى عهد الاحتلال الإنجليزى للهند ومصر.
أوهام جولد زيهر حول القراءات القرآنية:
المحاولة التى قام بها جولد زيهر هى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله، نزل به الروح الأمين إلى كونها تخيلات توهمها علماء المسلمين، وساعدهم على تجسيد هذا التوهم طبيعة الخط العربى؛ لأنه كان فى الفترة التى ظهرت فيها القراءات غير منقوط ولا مشكول، وهذا ساعد على نطق الياء ثاء فى مثل " تقولون " أو " تفعلون "! فمنهم من قرأ بالتاء " تقولون " ومنهم من قرأ بالياء " يقولون ".
هذا من حيث النقط وجودًا وعدمًا، أما من حيث الشكل أى ضبط الحروف بالفتح أو الضم مثلاً، وأرجع إلى هذا السبب قوله تعالى:(وهو الذى أرسل الرياح بُشرًا..)(4) .
فقد قرأ عاصم: " بُشرا " بضم الباء وقرأها الكسائى وحمزة: " نَشْرا " بالنون المفتوحة بدلاً من الباء المضمومة عند عاصم.
وقرأ الباقون: " نُشُرا " بالنون المضمومة والشين المضمومة، بينما كانت الشين فى القراءات الأخرى ساكنة (5) .
وفى هذا يقول جولد زيهر نقلاً عن الترجمة العربية لكتابه الذى ذكر فيه هذا الكلام (6) :
" والقسم الأكبر من هذه القراءات يرجع السبب فى ظهوره إلى خاصية الخط العربى، فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية، وفقدان الشكل (أى الحركات) فى الخط العربى يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب. فهذه التكميلات للرسم الكتابى ثم هذه الاختلافات فى الحركات والشكل، كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات، فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن ".
إن المتأمل فى هذا الكلام، الذى نقلناه عن جولد زيهر، يدرك أن الرجل يريد أن يقول فى دهاء وخبث. إن هذه القراءات تحريفات معترف بها لدى المسلمين خاصتهم وعامتهم، وأن النصوص الإلهية المنزلة على رسولهم أصابها بعض الضياع إنه لم يقل صراحة بالتحريف وإنما وضع المبررات لوجود التحريف فى القرآن الحكيم.
ثم أخذ بعد ذلك يورد أمثلة من القراءات وينسبها إلى السببين اللذين تقدم ذكرهما، وهما:
- تجرد المصحف من النقط فى أول عهده.
- تجرد كلماته من ضبط الحروف.
فإلى السبب الأول نسب قوله تعالى:
(ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون)(7) .
والشاهد فى كلمة " تستكبرون " وهى قراءة الجمهور. وقد قارنها جولد زيهر بقراءة شاذة " تستكثرون " بإبدال الباء ثاء، يريد أن يقول: إن الكلمة كانت فى الأصل " يستكبرون " غير منقوطة الحروف الأول والثالث والخامس فاختُلِف فى قراءتها:
فمنهم من قرأ الخامس " باء " والأول تاء فنطق: تستكبرون، ومنهم من قرأ الخامس " ثاء " فنطق " تستكثرون.
هذا هو سبب هاتين القراءتين عنده.
وكذلك قوله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه..)(8) .
والشاهد فى كلمة " إياه " ضمير نصب منفصل للمفرد الغائب الذكر.
ثم قارنها بقراءة شاذة لحماد الراوية هكذا " اباه " بإبدال الياء من " إياه " باء " اباه " أى وعدها إبراهيم عليه السلام أباه؟ (9) .
أما اختلاف القراءات للسبب الثانى، وهو تجرد كلمات المصحف عن الضبط بالحركات، فمن أمثلته عنده قوله تعالى:
(ومَنْ عِنْدَهُ علم الكتاب)(10) .
وقارن بين قراءاتها الثلاث: " مَنْ عنْدَهُ "" مِنْ عِنْدِه ""مَنْ عِنْدِهِ "؟ !
هذا هو منهجه فى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله، إلى كونها أوهامًا كان سببها نقص الخط العربى الذى كتب به المصحف أولاً عن تحقيق الألفاظ من حيث حروفها ومن حيث كيفية النطق بها. واقتفى أثره كثير من المبشرين والمستشرقين.
الرد على هذه الشبهة:
لقد حظى كتاب الله العزيز بعناية منقطعة النظير، فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته. ومن الحقائق الراسخة رسوخ الجبال أن طريق تَلَقِّى القرآن كان هو السماع الصوتى.
- سماع صوتى من جبريل لمحمد عليهما السلام.
- وسماع صوتى من الرسول إلى كتبة الوحى أولاً وإلى المسلمين عامة.
- وسماع صوتى من كتبة الوحى إلى الذين سمعوه منهم من عامة المسلمين.
- وسماع صوتى حتى الآن من حفظة القرآن المتقنين إلى من يتعلمونه منهم من أفراد المسلمين.
هذا هو الأصل منذ بدأ القرآن ينزل إلى هذه اللحظة وإلى يوم الدين، فى تلقى القرآن من مرسل إلى مستقبل.
وليست كتابة القرآن فى مصاحف هى الأصل، ولن تكون. القرآن يجب أن يُسمع بوعى قبل أن يقرأ من المصحف، ولا يزال متعلم القرآن فى أشد الحاجة إلى سماع القرآن من شيوخ حافظين متقنين، وفى القرآن عبارات أو كلمات مستحيل أن يتوصل أحد إلى نطقها الصحيح عن مجرد القراءة فى المصحف، ولو ظل يتعلمها وحده أيامًا وأشهرا.
وبهذا تهوى الأفكار التى أرجع إليها جولد زيهر نشأة القراءات إلى الحضيض، ولا يكون لها أى وزن فى البحث العلمى المقبول؛ لأن المسلمين من جيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان لم يتعلموا القرآن عن طريق الخط العربى من القراءة فى المصاحف، وإنما تعلموه سماعًا واعيًا ملفوظًا كما خرج من فم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قيض الله لكتابه شيوخًا أجلاء حفظوه وتلوه غضًا طريًا كما كان صاحب الرسالة يحفظه ويتلوه كما سمعه من جبريل أمين الوحى.
أجل.. كان سيكون لأفكار جولد زيهر وجه من الاحتمال لو كان المسلمون يأخذون القراءة قراءة من مصاحف. أما وقد علمنا أن طريق تلقى القرآن هو السماع الموثق، فإن أفكار جولد زيهر تذهب هباء فى يوم ريح عاصف.
ثانيًا: إن القراءات الصحيحة مسموعة من جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسموعة من محمد صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحى، ومسموعة من محمد ومن كتبة الوحى لعموم المسلمين فى صدر الإسلام الأول، ثم شيوخ القرآن فى تعاقب الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد سمع المسلمون من محمد المعصوم عن الخطأ فى التبليغ " فتبينوا " و " فتثبتوا " فى قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)(11) بالباء والياء والنون.
وسمعوها منه " فتثبتوا " بالتاء والثاء والباء والتاء وكلا القراءتين قرآن موحى به من عند الله. وليس كما توهم جولد زيهر، إنهما قراءتان ناشئتان عن الاضطراب الحاصل من خلو كلمات المصحف من النقط والشكل فى أول أمره؟.
والقراءتان، وإن اختلف لفظاهما، فإن بين معنييهما علاقة وثيقة، كعلاقة ضوء الشمس بقرصها: لأن التبين، وهو المصدر المتصيد من " فتبينوا " هى التفحص والتعقب فى الخبر الذى يذيعه الفاسق بين الناس، وهذا البَين هو الطريق الموصل للتثبت. فالتثبت هو ثمرة التبين. ومن تبيَّن فقد تثبت. ومن تثبت فقد تبين.
فما أروع هذه القراءات، ورب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، إن قراءات القرآن لهى وجه شديد الإشراق من وجوه إعجاز القرآن، وإن كره الحاقدون.
وكما سمع المسلمون من فم محمد، الذى لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فى الآية السابقة:" فتبينوا " و " فتثبتوا " سمعوا منه كذلك، " يُفَصِّل " و " نُفصِّلُ " فى قوله تعالى:
(ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون)(12) .
و" نفصل الآيات "
وفاعل الفصل فى القراءتين واحد هو الله عز وجل:
وقد اختلف التعبير عن الفاعل فى القراءتين، فهو فى القراءة الأولى " يفَصِّل " ضمير مستتر عائد على الله عز وجل فى قوله:
(ما خلق الله ذلك إلا بالحق) أى يفصل هو الآيات. فالفاعل هنا مفرد لعوده على مفرد " الله ".
وفى القراءة الثانية عُبِّر عن الفاعل بضمير الجمع للمتكلم "نُفَصِّل" أى نفصل نحن.
والله واحد أحد، ولكن النون فى " نفصل " لها معنى فى اللغة العربية هو التعظيم إذا كان المراد منها فردًا لا جماعة. ووجه التعظيم بلاغةً تنزيل الفرد منزلة " الجماعة " تعظيمًا لشأنه، وإجلالاً لقدره.
وفى هاتين القراءتين تكثير للمعنى، وهو وصف ملازم لكل القراءات.
وللبلاغيين إضافة حسنة فى قراءة " نفصل " بعد قوله: " ما خلق الله.. " هى الانتقال من الغيبة فى " ما خلق الله " إلى المتكلم فى " نفصل " للإشعار بعظمة التفصيل وروعته.
وبعد: إن إرجاع القراءات القرآنية لطبيعة الخط العربى الذى كان فى أول أمره خاليًا من النقط والشكل، كما توهم " جولد زيهر " ومن بعده " آثر جيفرى " فى المقدمة التى كتبها لكتاب المصاحف، لأبى داود السجستانى، وتابعهما المستشرق " جان بيرك "، إن هذه النظرية مجرد وَهْمٍ سانده جهل هؤلاء الأدعياء على الفكر الإسلامى، مبدؤه ومنتهاه الحقد على الإسلام والتطاول على القرآن، لحاجات فى نفوس " اليعاقيب ".
وقد قدمنا فى إيجاز ما أبطل هذه الأوهام، وبقى علينا فى الرد على هذه الشبهة أن نذكر فى إيجاز كذلك جهود علمائنا فى تمحيص القراءات، وكيف وضعوا الضوابط الدقيقة لمعرفة القراءات الصحيحة، من غيرها مما كان شائعًا وقت جمع القرآن فى عهد عثمان بن عفان " رضى الله عنه ".
تمحيص القراءات:
وضع العلماء الأقدمون ضوابط محكمة للقراءات الصحيحة التى هى وحى من عند الله. وتلك الضوابط هى:
1-
صحة السند، الذى يؤكد سماع القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2-
موافقة القراءة لرسم المصحف الشريف، الذى أجمعت عليه الأمة فى خلافة عثمان رضى الله عنه مع ملاحظة أن الصحابة الذين نسخوا القرآن فى المصحف من الوثائق النبوية فى خلافة عثمان، نقلوه كما هو مكتوب فى الوثائق النبوية بلا تغيير أو تبديل. ورسم المصحف الذى بين أيدينا الآن سنة نبوية؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أقر تلك الوثيقة، واحتفظ بها فى بيته حتى آخر يوم فى حياته الطيبة.
ولذلك أجمع أئمة المذاهب الفقهية على تحريم كتابة المصحف فى أى زمن من الأزمان، على غير الرسم المعروف بالرسم العثمانى للمصحف الشريف. ونقل هذا الإجماع عنهم كثير من علماء تاريخ القرآن (13) .
3-
أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه تراكيب اللغة العربية؛ لأن الله أنزل كتابه باللسان العربى المبين.
4-
أن يكون معنى القراءة غير خارج عن قيم الإسلام ومقاصده الأصول والفروع.
فإذا تخلف شرط من هذه الشروط فلا تكون القراءة مقبولة ولا يعتد بها.
وعملاً بهذه الضوابط تميزت القراءات الصحيحة من القراءات غير الصحيحة، أو ما يسمى بالقراءات الشاذة، أو الباطلة.
ولم يكتف علماؤنا بهذا، بل وضعوا مصنفات عديدة حصروا فيها القراءات الصحيحة، ووجهوها كلها من حيث اللغة، ومن حيث المعنى.
كما جمع العلامة ابن جنى القراءات الشاذة، حاصرًا لها، واجتهد أن يقومها تقويمًا أفرغ ما ملك من طاقاته فيه، وأخرجها فى جزءين كبيرين.
أما ذو النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه، حين أمر بنسخ الوثائق النبوية فى المصاحف، فقد أراد منه هدفين، ننقل للقارئ الكريم كلامًا طيبًا للمرحوم الدكتور/ محمد عبد الله دراز فى بيانهما:
" وفى رأينا أن نشر المصحف بعناية عثمان كان يستهدف أمرين:
أولهما: إضفاء صفة الشرعية على القراءات المختلفة، التى كانت تدخل فى إطار النص المدون يعنى المصحف ولها أصل نبوى مجمع عليه، وحمايتها فيه منعًا لوقوع أى شجار بين المسلمين بشأنها، لأن عثمان كان يعتبر التمارى (أى الجدال) فى القرآن نوعًا من الكفر.
ثانيهما: استبعاد ما لا يتطابق تطابقًا مطلقًا مع النص الأصلى (الوثائق النبوية) وقاية للمسلمين من الوقوع فى انشقاق خطير فيما بينهم، وحماية للنص ذاته من أى تحريف، نتيجة إدخال بعض العبارات المختلف عليها نوعًا ما، أو أى شروح يكون الأفراد قد أضافوها إلى مصاحفهم " (14) .
هذه هى عناية المسلمين من الرعيل الأول بالقرآن الكريم وتعدد قراءاته، وحماية كتاب الله من كل دخيل على نصوص الوحى الإلهى.
هذا، وإذا كان جولد زيهر، وآثر جيفرى المبشر الإنجليزى، وجان بيرك قد أجهدوا أنفسهم فى أن يتخذوا من قراءات القرآن منفذًا للانقضاض عليه، والتشكيك فيه، فإن غيرهم من المستشرقين شهدوا للقرآن بالحق، ونختم ردنا على هذه الشبهة بمستشرق نزيه، أثنى على القرآن وقال إنه النص الالهى الوحيد، الذى سلم من كل تحريف وتبديل، لا فى جمعه، وفى تعدد مصاحفه، ولا فى تعدد قراءاته. قال المستشرق لوبلوا:[إن القرآن هو اليوم الكتاب الربانى الوحيد، الذى ليس فيه أى تغيير يذكر] . ومن قبله قال مستشرق آخر (د. موير) كلاما طيباً فى الثناء على القرآن، وهو: [إن المصحف الذى جمعه عثمان، قد تواتر انتقاله من يد ليد، حتى وصل إلينا بدون أى تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة، بحيث لم يطرأ عليه أى تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أى تغييرعلى الإطلاق فى النسخ التى لا حصر لها، المتداولة فى البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية
المتنازعة وهذا الاستعمال الإجماعى لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم حجة ودليل على صحة النص المُنزل، الموجود معنا والذى يرجع إلى عهد الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه الذى مات مقتولا (15) .
(1) التوبة: 128.
(2)
القلم: 42.
(3)
معانى القرآن للقراء (3/177) .
(4)
الفرقان: 48.
(5)
انظر: رسم المصحف (29) للدكتور / عبد الفتاح شلبى، مكتبة وهبة.
(6)
المذاهب الإسلامية (ص4) ، ترجمة د. محمد يوسف موسى.
(7)
الأعراف: 48.
(8)
التوبة: 114.
(9)
رسم المصحف (30) ، مرجع سبق ذكره.
(10)
الرعد: 43.
(11)
الحجرات: 6.
(12)
يونس: 5.
(13)
ينظر: البرهان فى علوم القرآن، مرجع سبق ذكره.
(14)
" مدخل إلى القرآن الكريم "(ص43) مرجع سبق ذكره.
(15)
حياة محمد: تأليف w.MUIR نقلا عن (مدخل إلى القرآن الكريم) .
5- الكلام العاطل
يدعى المشكِّكُون أنه جاء فى فواتح 29 سورة بالقرآن الكريم حروف عاطلة، لا يُفهم معناها نذكرها فيما يلى مع ذكر المواضع التى وردت فيها:
الحروف: السورة
الر: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر
الم: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة
المر: الرعد
المص: الأعراف
حم: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف
حم عسق: الشورى
ص: ص
طس: النمل
طسم: الشعراء، القصص
طه: طه
ق: ق
كهيعص: مريم
ن: القلم
يس: يس
ونحن نسأل: " إن كانت هذه الحروف لا يعلمها إلا الله (كما يقولون) فما فائدتها لنا، إن الله لا يوحى إلا بالكلام الواضح فكلام الله بلاغ وبيان وهدى للناس ".
الرد على هذه الشبهة:
أطلقوا على هذه الحروف وصف " الكلام العاطل " والكلام العاطل هو " اللغو " الذى لا معنى له قط.
أما هذه الحروف، التى أُفتتحت بها بعض سور القرآن، فقد فهمت منها الأمة، التى أُنزل عليها القرآن بلغتها العريقة، أكثر من عشرين معنى (1) ، وما تزال الدراسات القرآنية الحديثة تضيف جديداً إلى تلك المعانى التى رصدها الأقدمون فلو كانت " عاطلة " كما يدعى خصوم الإسلام، ما فهم منها أحد معنى واحداً.
ولو جارينا جدلاً هؤلاء المتحاملين على كتاب الله العزيز من أن هذه " الحروف " عاطلة من المعانى، لوجدنا شططاً فى اتهامهم القرآن كله بأنه " كلام عاطل " لأنها لا تتجاوز ثمانى وعشرين آية، باستبعاد " طه" و" يس " لأنهما اسمان للنبى صلى الله عليه وسلم، حذف منهما أداة النداء والتقدير: يا " طه " يا " يس " بدليل ذكر الضمير العائد عليه هكذا:
(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)(2) و (إنك لمن المرسلين)(3) .
وباستبعاد هاتين السورتين من السور التسع والعشرين تُصبح هذه السور سبعاً وعشرين سورة، منها سورة الشورى، التى ذكرت فيها هذه الحروف المقطعة مرتين هكذا:
"حم، عسق " فيكون عدد الآيات موضوع هذه الملاحظة ثمانى وعشرين آية فى القرآن كله، وعدد آيات القرآن الكريم 6236 آية. فكيف ينطبق وصف ثمانٍ وعشرين آية على 6208 آية؟.
والمعانى التى فُهمتْ من هذه " الحروف " نختار منها ما يأتى فى الرد على هؤلاء الخصوم.
الرأىالأول:
يرى بعض العلماء القدامى أن هذه الفواتح، مثل: الم، والر، والمص ". تشير إلى إعجاز القرآن، بأنه مؤلف من الحروف التى عرفها العرب، وصاغوا منها مفرداتهم، وصاغوا من مفرداتهم تراكيبهم. وأن القرآن لم يغير من أصول اللغة ومادتها شيئاً، ومع ذلك كان القرآن معجزاً؛ لا لأنه نزل بلغة تغاير لغتهم، ولكن لأنه نزل بعلم الله عز وجل، كما يتفوق صانع على صانع آخر فى حذقه ومهارته فى صنعته مع أن المادة التى استخدمها الصانعان فى " النموذج المصنوع " واحدة وفى هذا قطع للحُجة عنهم.
ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى:
(أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون)(4) .
يعنى أن اللغة واحدة، وإنما كان القرآن معجزاً لأمر واحد هو أنه كلام الله، نازل وفق علم الله وصنعه، الذى لا يرقى إليه مخلوق.
الرأى الثانى:
إن هذه الحروف " المُقطعة " التى بدئت بها بعض سور القرآن إنما هى أدوات صوتية مثيرة لانتباه السامعين، يقصد بها تفريغ القلوب من الشواغل الصارفة لها عن السماع من أول وهلة. فمثلاً " الم " فى مطلع سورة البقرة، وهى تنطق هكذا.
" ألف لام ميم " تستغرق مسافة من الزمن بقدر ما يتسع لتسعة أصوات، يتخللها المد مد الصوت عندما تقرع السمع تهيؤه، وتجذبه لعقبى الكلام قبل أن يسمع السامع قوله تعالى بعد هذه الأصوات التسعة:
(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)(5) .
وإثارة الانتباه بمثل هذه المداخل سمة من سمات البيان العالى، ولذلك يطلق بعض الدارسين على هذه " الحروف " فى فواتح السور عبارة " قرع عصى "(6) وهى وسيلة كانت تستعمل فى إيقاظ النائم، وتنبيه الغافل. وهى كناية لطيفة، وتطبيقها على هذه " الحروف " غير مستنكر. لأن الله عز وجل دعا الناس لسماع كلامه، وتدبر معانيه، وفى ذلك يقول سبحانه وتعالى:
(وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)(7) .
الرأى الثالث:
ويرى الإمام الزمخشرى أن فى هذه " الحروف " سرًّا دقيقاً من أسرار الإعجاز القرآنى المفحم، وخلاصة رأيه نعرضها فى الآتى:
" واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه فى الفواتح من هذه الأسماء يقصد الحروف وجدتها نصف حروف المعجم، أربعة عشر سواء، وهى: الألف واللام والميم والصاد، والراء والكاف والهاء، والياء والعين والطاء والسين والحاء، والقاف والنون، فى تسع وعشرين سورة، على حذو حروف المعجم ".
ثم إذا نظرت فى هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أن فيها:
من المهموسة نصفها:
" الصاد، والكاف، والهاء والسين والخاء ".
ومن المجهورة نصفها:
الألف واللام والميم، والراء والعين والطاء، والقاف والياء والنون.
ومن الشديدة نصفها:
" الألف والكاف، والطاء والقاف ".
ومن الرخوة نصفها:
" اللام والميم، والراء والصاد، والهاء والعين، والسين والحاء والياء والنون ".
ومن المطبقة نصفها:
" الصاد والطاء ".
ومن المنفتحة نصفها:
" الألف واللام، والميم والراء، والكاف، والهاء والعين والسين والحاء، والقاف والياء والنون ".
ومن المستعلية نصفها:
" القاف والصاد، والطاء ".
ومن المنخفضة نصفها:
" الألف واللام والميم، والراء والكاف والهاء، والياء، والعين والسين، والحاء والنون ".
ومن حروف القلقلة نصفها: " القاف والطاء "(8) .
يريد أن يقول: إن هذه الحروف المذكورة يلحظ فيها ملحظان إعجازيان:
الأول: من حيث عدد الأبجدية العربية، وهى ثمانية وعشرون حرفاً. فإن هذه الحروف المذكورة فى فواتح السور تعادل نصف حروف الأبجدية، يعنى أن المذكور منها أربعة عشر حرفاً والذى لم يذكر مثلها أربعة عشر حرفا:
14+14 = 28 حرفاً هى مجموع الأبجدية العربية.
الثانى: من حيث صفات الحروف وهى:
الهمس فى مقابلة الجهارة.
الشدة فى مقابلة الرخاوة.
الانطباق فى مقابلة الانفتاح.
والاستعلاء فى مقابلة الانخفاض.
والقلقلة فى مقابلة غيرها.
نجد هذه الحروف المذكورة فى الفواتح القرآنية لبعض سور القرآن تعادل نصف أحرف كل صفة من الصفات السبع المذكورة. وهذا الانتصاف مع ما يلاحظ فيه من التناسب الدقيق بين المذكور والمتروك، لا يوجد إلا فى كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وهو ذو مغزى إعجازى مذهل لذوى الألباب، لذلك نرى الإمام جار الله الزمخشرى يقول مُعقباً على هذا الصنع الحكيم:
" فسبحان الذى دقت فى كل شىء حكمته. وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته. فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التى منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم، وإلزام الحُجة إياهم (9) .
ثم أخذ الإمام الزمخشرى، يذكر فى إسهاب الدقائق والأسرار واللطائف، التى تستشف من هذه " الحروف " التى بدئت بها بعض سور القرآن، وتابعه فى ذلك السيد الشريف فى حاشيته التى وضعها على الكشاف، والمطبوعة بأسفل تفسير الزمخشرى. وذكر ما قاله الرجلان هنا يخرج بنا عن سبيل القصد الذى نتوخاه فى هذه الرسالة. ونوصى القراء الكرام بالاطلاع عليه فى المواضع المشار إليها فى الهوامش المذكورة وبقى أمرٌ مهمٌّ فى الرد على هذه الشبهة التى أثارها خصوم الإسلام، وهى شبهة وصف القرآن بالكلام العاطل. نذكره فى إيجاز فى الأتى:
لو كانت هذه " الحروف " من الكلام العاطل لما تركها العرب المعارضون للدعوة فى عصر نزول القرآن، وهم المشهود لهم بالفصاحة والبلاغة، والمهارة فى البيان إنشاءً ونقداً؛ فعلى قدرما طعنوا فى القرآن لم يثبت عنهم أنهم عابوا هذه " الفواتح " وهم أهل الذكر " الاختصاص " فى هذا المجال. وأين يكون " الخواجات " الذين يتصدون الآن لنقد القرآن من أولئك الذين كانوا أعلم الناس بمزايا الكلام وعيوبه؟!
وقد ذكر القرآن نفسه مطاعنهم فى القرآن، ولم يذكر بينها أنهم أخذوا على القرآن أىَّ مأخذ، لا فى مفرداته ولا فى جمله، ولا فى تراكيبه. بل على العكس سلَّموا له بالتفوق فى هذا الجانب، وبعض العرب غير المسلمين امتدحوا هذا النظم القرآنى ورفعوه فوق كلام الإنس والجن.
ولشدة تأثيره على النفوس اكتفوا بالتواصى بينهم على عدم سماعه، والشوشرة عليه.
والطاعنون الجدد فى القرآن لا قدرة لهم على فهم تراكيب اللغة العربية، ولا على صوغ تراكيبها صوغاً سليماً، والشرط فيمن يتصدى لنقد شىء أن تكون خبرته وتجربته أقوى من الشىء الذى ينقده. وهذا الشرط منعدم أصلاً عندهم.
(1) انظر للوقوف على هذه المعانى: التفسير الكبير " للفخر الرازى. تفسير سورة البقرة.
(2)
طه: 2.
(3)
يس: 3.
(4)
هود: 13-14.
(5)
البقرة: 2.
(6)
يعنى الضرب بالعصى على الأرض لتنبيه المراد تنبيهه.
(7)
الأعراف: 204.
(8)
الكشاف (ج1 ص 100- 103) .
(9)
الكشاف: (ج1 ص 103) .
9- الكلام المنسوخ
النسخ فى اللغة هو الإزالة والمحو، يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ، يعنى أزالته ومحته، وأحلت الضوء محله.
ثم تطورت هذه الدلالة فأصبح النسخ يطلق على الكتابة، سواء كانت نقلاً عن مكتوب، أو ابتدأها الكاتب بلا نقل.
والنُّساخ أو الوراقون هم جماعة من محترفى الكتابة كانوا ينسخون كتب العلماء (ينقلون ما كتب فيها فى أوراق جديدة فى عدة نسخ، مثل طبع الكتب الآن) .
أما النسخ فى الشرع فله عدة تعريفات أو ضوابط، يمكن التعبيرعنها بالعبارة الآتية:
" النسخ هو وقْفُ العمل بِِحُكْمٍٍ أَفَادَه نص شرعى سابق من القرآن أو من السنة، وإحلال حكم آخر محله أفاده نص شرعى آخر لاحق من الكتاب أو السنة، لِحكمة قصدها الشرع، مع صحة العمل بحكم النص السابق، قبل ورود النص اللاحق (1) والنسخ موجود بقلة فى القرآن الكريم، مثل نسخ حبس الزانيات فى البيوت حتى الموت، وإحلال الحكم بالجلد مائة، والرجم حتى الموت محل ذلك الحبس (2) .
النسخ ووروده فى القرآن، على أن القرآن ليس وحياً من عند الله. ونذكر هنا عبارة لهم صوَّروا فيها هذه الشبهة:
" القرآن وحده من دون سائر الكتب الدينية، يتميز بوجود الناسخ والمنسوخ فيه، مع أن كلام الله الحقيقى لا يجوز فيه الناسخ والمنسوخ؛ لأن الناسخ والمنسوخ فى كلام الله هو ضد حكمته وصدقه وعلمه، فالإنسان القصير النظر هو الذى يضع قوانين ويغيرها ويبدلها بحسب ما يبدو له من أحوال وظروف.
لكن الله يعلم بكل شئ قبل حدوثه. فكيف يقال إن الله يغير كلامه ويبدله وينسخه ويزيله؟
ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم؟!
* الرد على هذه الشبهة:
نحن لا ننكر أن فى القرآن نسخاً، فالنسخ موجود فى القرآن بين ندرة من الآيات، وبعض العلماء المسلمين يحصرها فيما يقل عن أصابع اليد الواحدة، وبعضهم ينفى نفياً قاطعاً ورود النسخ فى القرآن (3) .
أما جمهور الفقهاء، وعلماء الأصول فيقرونه بلا حرج، وقد خصصوا للنسخ فصولاً مسهبة فى مؤلفاتهم فى أصول الفقه، قل من لم يذكره منهم قدماء ومحدثين. والذى ننكره كذلك أن يكون وجود النسخ فى القرآن عيباً أو قدحاً فى كونه كتاباً منزلاً من عند الله. ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
إن الناسخ والمنسوخ فى القرآن، كان إحدى السمات التربوية والتشريعية، فى فترة نزول القرآن، الذى ظل يربى الأمة، وينتقل بها من طور إلى طور، وفق إرادة الله الحكيم، الذى يعلم المفسد من المصلح، وهو العزيز الحكيم.
أما ما ذكرتموه من آيات القرآن، ساخرين من مبدأ الناسخ والمنسوخ فيه فتعالوا اسمعوا الآيات التى ذكرتموها فى جداول المنسوخ والناسخ وهى قسمان:
أحدهما فيه نسخ فعلاً (منسوخ وناسخ) .
وثانيهما لا ناسخ فيه ولا منسوخ فيه، ونحن نلتمس لكم العذر فى هذا " الخلط " لأنكم سرتم فى طريق لا تعرفون كيفية السير فيه.
القسم الأول: ما فيه نسخ:
من الآيات التى فيها نسخ، وذكروها فى جدول الناسخ والمنسوخ الآيتان التاليتان:(واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا)(4) .
ثم قوله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله 000)(5) .
هاتان الآيتان فيهما نسخ فعلاً، والمنسوخ هو حكم الحبس فى البيوت للزانيات حتى يَمُتْنَ، أو يجعل الله لَهُنَّ حكماً آخر.
وكان ذلك فى أول الإسلام. فهذا الحكم حكم حبس الزانية فى البيت، حين شرعه الله عز وجل أومأ فى الآية نفسها إلى أنه حكم مؤقت، له زمان محدد فى علم الله أزلاً. والدليل على أن هذا الحكم كان فى علم الله مؤقتاً، وأنه سيحل حكم آخر محله فى الزمن الذى قدره الله عز وجل هو قوله: (أو يجعل الله لهن سبيلاً (. هذا هو الحكم المنسوخ الآن وإن كانت الآية التى تضمنته باقية قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
أما الناسخ فهو قوله تعالى فى سورة "النور" فى الآية التى تقدمت، وبين الله أن حكم الزانية والزانى هو مائة جلدة، وهذا الحكم ليس عامّا فى جميع الزناة. بل فى الزانية والزانى غير المحصنين. أما المحصنان، وهما اللذان سبق لهما الزواج فقد بينت السنة قوليًّا وعمليًّا أن حكمهما الرجم حتى الموت.
وليس فى ذلك غرابة، فتطور الأحكام التشريعية، ووقف العمل بحكم سابق، وإحلال حكم آخر لاحق محله مما اقتضاه منهج التربية فى الإسلام.
ولا نزاع فى أن حكم الجلد فى غير المحصنين، والرجم فى الزناة المحصنين، أحسم للأمر، وأقطع لمادة الفساد.
وليس معنى هذا أن الله حين أنزل عقوبة حبس الزانيات لم يكن يعلم أنه سينزل حكماً آخر يحل محله، وهو الجلد والرجم حاشا لله.
والنسخ بوجه عام مما يناسب حكمة الله وحسن تدبيره، أمَّا أن يكون فيه مساس بكمال الله. فهذا لا يتصوره إلا مرضى العقول أو المعاندين للحق الأبلج الذى أنزله الله وهذا النسخ كان معمولاً به فى الشرائع السابقة على شريعة الإسلام.
ومن أقطع الأدلة على ذلك ما حكاه الله عن عيسى عليه السلام فى قوله لبنى إسرائيل: (ولأحل لكم بعض الذى حُرِّم عليكم)(6) .
وفى أناجيل النصارى طائفة من الأحكام التى ذكروها وفيها نسخ لأحكام كان معمولاً بها فى العهد القديم.
ومثيروهذه الشبهات ضد القرآن يعرفون جيداً وقوع النسخ بين بعض مسائل العهد القديم والعهد الجديد. ومع هذا يدعون بإصرار أن التوراة والأناجيل الآن متطابقان تمام الانطباق (7) .
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
(يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون)(8) .
وقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين)(9) .
والآيتان فيهما نسخ واضح. فالآية الأولى توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة (1: 10)، والآية الثانية توجب مواجهة المؤمنين للعدو بنسبة (1: 2) .
وهذا التطور التشريعى قد بين الله الحكمة التشريعية فيه، وهى التخفيف على جماعة المؤمنين فى الأعباء القتالية فما الذى يراه عيباً فيه خصوم الإسلام؟
لو كان هؤلاء الحسدة طلاب حق مخلصين لاهتدوا إليه من أقصر طريق، لأن الله عزوجل لم يدع مجالاً لريبة يرتابها مرتاب فى هاتين الآيتين. لكنهم يبحثون عن " العورات " فى دين أكمله الله وأتم النعمة فيه، ثم ارتضاه للناس ديناً.
وقد قال الله فى أمثالهم:
(ولو نزلنا عليك كتاباً فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)(10) .
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج
…
) (11) .
وقوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً
…
) (12) .
أجل، هاتان الآيتان فيهما نسخ؛ لأن موضوعهما واحد، هو عدة المتوفى عنها زوجها.
الآية الأولى: حددت العدة بعام كامل.
والآية الثانية: حددت العدة بأربعة أشهر وعشر ليال.
والمنسوخ حكماً لا تلاوة هو الآية الأولى، وإن كان ترتيبها فى السورة بعد الآية الثانية.
والناسخ هو الآية الثانية، التى حددت عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ليال، وإن كان ترتيبها فى السورة قبل الآية المنسوخ حكمها.
وحكمة التشريع من هذا النسخ ظاهرة هى التخفيف، فقد استبعدت الآية الناسخة من مدة العدة المنصوص عليها فى الآية المنسوخ حكمها ثمانية أشهر تقريباً، والمعروف أن الانتقال من الأشد إلى الأخف، أدعى لامتثال الأمر، وطاعة المحكوم به.. وفيه بيان لرحمة الله عز وجل لعباده. وهو هدف تربوى عظيم عند أولى الألباب.
القسم الثانى:
أما القسم الثانى، فقد ذكروا فيه آيات على أن فيها نسخاً وهى لا نسخ فيها، وإنما كانوا فيها حاطبى ليل، لا يفرقون بين الحطب، وبين الثعابين، وكفى بذلك حماقة.
وها نحن نعرض نموذجين مما حسبوه نسخاً، وهو أبعد ما يكون عن النسخ.
النموذج الأول:
(لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى)(13) .
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(14) .
زعموا أن بين هاتين الآيتين تناسخاً، إحدى الآيتين تمنع الإكراه فى الدين، والأخرى تأمر بالقتال والإكراه فى الدين وهذا خطأ فاحش، لأن قوله تعالى (لا إكراه فى الدين) سلوك دائم إلى يوم القيامة.
والآية الثانية لم ولن تنسخ هذا المبدأ الإسلامى العظيم؛ لأن موضوع هذه الآية " قاتلوا " غير موضوع الآية الأولى: (لا إكراه فى الدين) .
لأن قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) له سبب نزول خاص. فقد كان اليهود قد نقضوا العهود التى أبرمها معهم المسلمون. وتآمروا مع أعداء المسلمين للقضاء على الدولة الإسلامية فى المدينة، وأصبح وجودهم فيها خطراً على أمنها واستقرارها. فأمر الله المسلمين بقتالهم حتى يكفوا عن أذاهم بالخضوع لسلطان الدولة، ويعطوا الجزية فى غير استعلاء.
أجل: إن هذه الآية لم تأمر بقتال اليهود لإدخالهم فى الإسلام. ولو كان الأمر كذلك ما جعل الله إعطاءهم الجزية سبباً فى الكف عن قتالهم، ولاستمر الأمر بقتالهم سواء أعطوا الجزية أم لم يعطوها، حتى يُسلموا أو يُقتلوا وهذا غير مراد ولم يثبت فى تاريخ الإسلام أنه قاتل غير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام.
ومثيرو هذه الشبهات يعلمون جيداً أن الإسلام أقر اليهود بعد الهجرة إلى المدينة على عقائدهم، وكفل لهم حرية ممارسة شعائرهم، فلما نقضوا العهود، وأظهروا خبث نياتهم قاتلهم المسلمون وأجلوهم عن المدينة.
ويعلمون كذلك أن النبى (عقد صلحاً سِلْمِيًّا مع نصارى تغلب ونجران، وكانوا يعيشون فى شبه الجزيرة العربية، ثم أقرهم عقائدهم النصرانية وكفل لهم حرياتهم الاجتماعية والدينية.
وفعل ذلك مع بعض نصارى الشام. هذه الوقائع كلها تعلن عن سماحة الإسلام، ورحابة صدره، وأنه لم يضق بمخالفيه فى الدين والاعتقاد.
فكيف ساغ لهؤلاء الخصوم أن يفتروا على الإسلام ما هو برئ منه؟
إنه الحقد والحسد. ولا شىء غيرهما، إلا أن يكون العناد.
النموذج الثانى:
(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)(15) .
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)(16) .
والآيتان لا ناسخ ولا منسوخ فيهما. بل إن فى الآية الثانية توكيداً لما فى الآية الأولى، فقد جاء فى الآية الأولى:" فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "
ثم أكدت الآية الثانية هذا المعنى: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) فأين النسخ إذن؟.
أما المنافع فى الخمر والميسر، فهى: أثمان بيع الخمر، وعائد التجارة فيها، وحيازة الأموال فى لعب الميسر " القمار " وهى منافع خبيثة لم يقرها الشرع من أول الأمر، ولكنه هادنها قليلاً لما كان فيها من قيمة فى حياة الإنسان قبل الإسلام، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطوات حكيمة قبل أن يحرمها تحريماً حاسماً، حتى لا يضر بمصالح الناس.
وبعد أن تدرج فى تضئيل دورها فى حياة الناس الاقتصادية وسد منافذ رواجها، ونبه الناس على أن حسم الأمر بتحريمها آتٍ لا محالة وأخذوا يتحولون إلى أنشطة اقتصادية أخرى، جاءت آية التحريم النهائى فى سورة المائدة هذه:(رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) هذه هى حقيقة النسخ وحكمته التشريعية، وقيمته التربوية ومع هذا فإنه نادر فى القرآن.
(1) هذا التعريف راعينا فيه جمع ما تفرق فى غيره من تعريفات الأصوليين مع مراعاة الدقائق والوضوح.
(2)
الجلد ورد فى القرآن كما سيأتى. أما الرجم فقد ورد قوليا وعمليا فى السنة، فخصصت الجلد بغير المحصنين.
(3)
منهم الدكتور عبد المتعال الجبرى وله فيه مؤلف خاص نشرته مكتبة وهبة بالقاهرة، والدكتور محمد البهى ومنهم الشيخ محمد الغزالى.
(4)
النساء: 15.
(5)
النور: 2.
(6)
آل عمران: 50.
(7)
انظر كتابنا " الإسلام فى مواجهة الاستشراق العالمى " طبعة دار الوفاء.
(8)
الأنفال: 65.
(9)
الأنفال: 66.
(10)
الأنعام: 7.
(11)
البقرة: 240
(12)
البقرة:234.
(13)
البقرة: 256.
(14)
التوبة: 29.
(15)
البقرة: 219.
(16)
المائدة: 90.