الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
16- تأنيث العدد، وجمع المعدود
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرِب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم..)(1) .
وشاهدهم على اللغط بهذه الشبهة هو قوله عز وجل " اثنتى عشرة أسباطاً أمماً " والصواب الذى توهموه عبروا عنه بقولهم:
" كان يجب أن يُذَكَّر العدد، ويأتى بمفرد المعدود فيقول: اثنى عشر سبطا ".
الرد على الشبهة:
وجَّه النحاة تأنيث العدد فى الآية بأن السبط فى بنى إسرائيل كالقبيلة عند العرب. يعنى أنه أراد بالأسباط القبائل، ولذلك أنث جزئى العدد المركب، وهما: اثنتى، وعشرة (2) .
هذا وجه، ووجه آخر هو تأويل السبط بالجماعة أو الفرقة أو الطائفة.
أما جمع أسباط، وكان حقه أن يفرد فقد روعى فيه المعنى دون اللفظ، ومراعاة المعنى دون اللفظ، أو اللفظ دون المعنى كثير الورود فى النظم القرآنى، ويبدو أن هؤلاء الطاعنين فى سلامة القرآن من كل خطأ يجهلون هذه الأساليب فى القرآن خاصة، وفى اللغة العربية عامة، ويتشبثون بظواهر العبارات حباً فى ترويج ما يريدون ترويجه من الشبهات الواهية وكان العرب النازل بلغتهم القرآن يذكِّرون عدد المؤنث مراعاة للفظ فيقولون: ثلاثة أنفس، أى رجال ويقولون عشر أبطن.
ففى الأول " ثلاثة أنفس " ذكَّروا العدد نظراً للمعنى؛ لأن المعدود مذكر " رجال " وفى الثانى أنثوا العدد " عشر أبطن " لأن المعدود هو القبيلة أى عشر قبائل. وهذا باب واسع لا تحصر شواهده (3) . أما جمع المعدود الذى فى الآية " أسباطاً أمماً فله نظائر فى الاستعمال المأثور الوارد عن العرب ومنه قول الشاعر:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سُوداً كخافية الغراب الأسحم
فقد وصف الشاعر " حلوبة " وهى مفرد، بقوله " سُوداً " وهو جمع سوداء.
ولهذه.. الشواهد نظائر من المأثور عن العرب الخلَّص.
والخلاصة:
فقد طاحت هذه الشبهة، وانمحت آثارها، كما طاحت نظائرها من قبل. ومن الدلائل القوية على صحة تأنيث العدد، فوق ما تقدم، أن بعض النحاة أضاف إلى بدلية " أمما " من " أسباطا " أن " أمما " وقعت نعتاً ل " أسباطا " و " أمماً " مؤنثة لفظاً. وسواء كانت " أمماً " بدلاً من " أسباطاً " أو كانت نعتاً له. فإن الذى لا نزاع فيه أن المؤنث لا يبدل من المذكر، ولا يقع نعتاً له. وهذا دليل قاطع على أن المراد من " أسباطاً " وإن كان مذكَّراً فى اللفظ، معنى مؤنث لا محالة. ولذلك أنث النظم القرآنى جزئى العدد المركب " اثنتى عشرة ".
أما جمع المعدود " أسباطاً أمماً " وإن وجهه النحاة توجيهاً صائباً، فقد بقى فى مجيئه جمعاً ملمح بلاغى دقيق ذلك الملمح نوضحه فى الآتى:
بدأت الآية الكريمة بهذا الفعل " قطَّعناهم " بتشديد " الطاء " على وزن " فَعَّل " وهذا التشديد يفيد التكثير، أى كثرة التقطيع والتفريق. وهذا يناسبه بلاغة جمع " أسباطاً أمماً " لا إفرادهما، والمعانى البلاغية من هذا النوع تزال من أجلها كل الموانع والسدود. ولغة القرآن وبلاغته أوسع من قواعد اللغة وفنونها البلاغية.
(1) راف: 160.
(2)
انظر: الدر المصون (5/485) .
(3)
ومما رجح التأنيث فى الآية إبدال " أمما " من " أسباطا " مما يؤكد أن الأسباط معناها هنا مؤنث بمعنى قبائل أو جماعات.
18- الإتيان باسم الموصول العائد على الجمع مفرداً
منشأ هذه الشبهة:
ومنشأ هذه الشبهة - عندهم - قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذى خاضوا أولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون)(1) .
والشاهد - عندهم - فى الآية هو قوله تعالى: " وخضتم كالذى خاضوا " وآثرنا ذكر الآية بتمامها لأن الرد على هذه الشبهة يقتضى النظر فى الآية كلها لا فى الجزء الذى استشهدوا به وحده.
وكان تعليقهم على قوله عز وجل: (وخضتم كالذى خاضوا (هو قولهم: " وكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول: (خضتم كالذين خاضوا (!
الرد على الشبهة:
هذه الآية - بتمامها - وردت فى سياق الحديث عن المنافقين؛ لأن ما قبلها هو قوله عز وجل: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم)(2) .
والآية مسوقة لتهديد المنافقين والكفار، لعلهم يقلعون عما هم فيه من نفاق وكفر.
وقد أدير الحديث فيها على تشبيه المخاطبين (المنافقين والكفار) بالأمم الغابرة، كانت أشد منهم قوة، وأكثر مالاً وولدا، وانغمسوا فى شهواتهم الفانية، فسار المنافقون والكفار سيرتهم فركنوا إلى متع الحياة الدنيا الفانية، ولم يبتغوا ما عند الله، وأن المنافقين والكفار فعلوا كل ما فعله من قبلهم من المعاصى والسيئات.
ثم بين الله عز وجل أنهم الخاسرون فى الدنيا والآخرة فالذى معنا فى الآية فريقان:
- فريق سابق فى الزمن، لم يكن موجوداً فى عصر نزول القرآن.
- فريق كان حاضراً فى عصر نزول القرآن، وهم الذين خاطبهم الله فى هذه الآية الكريمة. وليس فى هذه الآية فريق ثالث تحدثت عنه الآية.
ومن هذا يتضح أن تعقيب خصوم القرآن على هذه الآية، بأن الصواب أن يقال:" وخضتم كالذين خاضوا " فاسد من كل الوجوه؛ لأن معنا فى الآية فريقان لا ثلاثة، ولو قيل:" خضتم كالذين خاضوا " لانفكت رابطة الكلام، ولبرز فى النظم طرف ثالث لا وجود له فى سياق الآية.
بيان ذلك:
أن المقارنة جرت فى الآية بين الفريقين " المنافقين والكفار " و " الأمم الغابرة ". ودارت المقارنة على هذا المنهج:
- فاستمتعوا بخلاقهم.
- فاستمتعتم بخلاقكم.
- كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم.
- وخضتم كالذى خاضوا.
والمعنى: وخضتم خوضاً مثل خوضهم (3) .
فالذى فى الآية اسم موصول مفرد، يعود على المصدر المفهوم من الفعل الماضى " خضتم " فشبه الله عز وجل خوض المنافقين بخوض الذين من قبلهم. وهذا هو النسق الذى دارت عليه المقارنة فى الآية تشبيه سلوك اللاحقين بسلوك السابقين من الأمم الغابرة، التى عتت عن أمر ربها وعصت رسله.
واختار الإمام الشوكانى أن المعنى: " كالخوض الذى خاضوا "(4)، ومن قبله قال الإمام الزمخشرى:" وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا "(5) .
هذا هو الحق فى هذه العبارة، لا كما قال خصوم القرآن الكارهون لما أنزل الله عز وجل.
(1) التوبة: 69.
(2)
التوبة: 68.
(3)
انظر: الدر المصون (6/84) .
(4)
فتح القدير (2/433) .
(5)
الكشاف (2/201) .
22- الإتيان بجمع قلة فى موضع جمع الكثرة
منشأ هذه الشبهة:
أما منشأ هذه الشبهة فهو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياماً معدودات)(1) .
والشاهد ـ عندهم ـ هو قوله عز وجل " معدودات " لأنهم يفهمون جهلا ـ أن " معدودات " جمع قلة، وأن " معدودة " جمع كثرة، وأيام الصيام فى شهر رمضان ثلاثون يوماً. فهى أيام كثيرة يناسبها جمع الكثرة عندهم وهو " معدودة " ولكن القرآن أخطأ فوضع كلمة جمع قلة عندهم، موضع " معدودة " وهى جمع كثرة عندهم كما تقدم. ثم عقبوا على هذا فقالوا " وكان يجب أن يجمعها جمع كثرة، حيث أن المراد جمع كثرة، عدته ثلاثون يوماً، فيقول: " أياماً معدودة ".
الرد على الشبهة:
سبق أن عدوا الأربعين جمع قلة، وهنا جزموا بأن الثلاثين يوماً الرمضانية، أو التسعة والعشرين يوماً جمع كثرة، وأن القرآن أخطأ مرة أخرى حين عبَّر عنها بجمع القلة " معدودات " أليست هذه نادرة من نوادر الدهر؟ كيف تكون الأربعون أقل من الثلاثين أو التسعة والعشرين؟ هل هذا يصدر عن عاقل على وجه الأرض؟
وما عدوه خطأً فى هذه الآية، وهو قوله تعالى:" معدودات " فهو عين الصواب لغة وبياناً، وقد أشرنا من قبل إلى أن معاملة غير العاقل معاملة العاقل أسلوب بلاغى رفيع المستوى، وهو عند البلاغيين استعارة، شبه فيها غير العاقل بالعاقل لداعٍ بلاغى، يراعيه البليغ فى كلامه.
وكلمة " معدودات " فى وصف أيام الصيام أتى بها القرآن لخصوصية بيانية، هى تعظيم شأن تلك الأيام، حتى لكأنها لرفعة منزلتها عند الله عز وجل صارت من ذوى العقول، وهى أوقات لا روح فيها كالأحياء العاقلين.
فليس المدار فيها اعتبار قلة، أو كثرة، بل المراد التنويه بفضلها، وعلو منزلتها عند الله تعالى.
أما القلة فتفهم من سياق الكلام، الذى حدد أيام الصيام بالشهر الواحد:
(شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه)(2) .
ولهذا التنزيل مواضع أخرى كثيرة فى القرآن الكريم وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
(1) البقرة: 183-184.
(2)
البقرة: 185.
23- جَمْعُ اسمِ عَلَمٍ يجب إفراده
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين * إذْ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه فى الآخرين * سلام على إلياسين)(1) .
موضع الشاهد على الشبهة عندهم هو " إلياسين " ولكنهم ـ لسوء قصدهم ـ اتبعوا طريقة حذف مزرية فى هذه الآيات، وكان يكفيهم بدل هذه الحذوفات أن يقتصروا على " إلياسين " وحدها، وقد يكون الداعى إلى ذكر ما ذكروا هو أن يقولوا إن القرآن تحدث عن " إلياس " والضمائر العائدة عليه حديث المفرد، ثم عاد فجمع " إلياس " وهو علم مفرد، جمع المذكر السالم المجرور بـ " الياء "، هكذا " إلياسين "، ثم علقوا على هذا الذى فهموه بقولهم:
" فلماذا قال " إلياسين " بالجمع عن " إلياس " المفرد؟ فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العَلَم حباً فى السجع المتكلف.
وجاء فى سورة " التين "(والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الآمين)(2) .
فلماذا قال سينين بالجمع عن سيناء؟ فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العَلَمَ حباً فى السجع المتكلف "؟
هذا قولهم، ذكرناه بالحرف الواحد. وكما يرى القارئ الكريم أن هذه الشبهة شبهتان: إحداهما فى " إلياسين "، والثانية فى " سينين " وإن كان المقصود لهم من الشبهتين واحداً.
الرد على الشبهة:
عرض المفسرون واللغويون عدة توجيهات لمجىء إلياس على إلياسين، فالإمام الزمخشرى قال مرة إن زيادة الياء والنون ربما كان له معنى فى اللغة السريانية، وقال مرة إن إلياسين لغة فى إلياس، كما أن إدريسين لغة فى إدريس، وعلى هذا فإن " إلياسين " ليس جمعاً. وإذا كان جمعاً فإن المراد إلياس مضموماً إليه من آمن به من قومه، كما قالوا الخبيبون والمهلبون، فى الخبيب والمهلب أى تسمية الاتباع اسم المتبوع (3) .
ويقوى هذا قراءة نافع وابن عامر وعلى: آل ياسين، وياسين، وأن " ياسين " هو أبو " إيليا " واحد (4) من أنبياء بنى إسرائيل.
ويرى هذا الرأى آخرون غير من تقدم ذكرهم (5) .
ويرى باحث حديث أن " إلياس " هو " إيليا " أحد أنبياء بنى إسرائيل، المذكور فى سفر الملوك الأول بهذا الاسم " إيليا "(6) .
وأن أصله فى اللغة العبرية " إلياهو " أى " إيل + ى + ياهو:
أى إيلى ياهو، أو يهو. ومعناه: الله إلهى أو الله ربى.
وأن مجيئه فى القرآن مرتين (إلياس) فى حالة المنع من الصرف للعلمية والعجمة. أما فى سورة الصافات فكان مجيئه مصروفاً هكذا " إلياسين "، وأن علامة صرفه هى " التنوين " أما " الياء " فتولد عن إشباع الكسرة تحت " السين " أى أن أصله فى حالة الصرف " إلياسن " فلما أشبعت الكسرة صار " إلياسين " وأن المقتضى لصرفه هنا هو رؤوس الآى.
هذا فيما يختص بالشبهة الأولى. أما الشبهة الثانية وهى " طور سنين " فالرد عليها فى الآتى:
ليست " سينين " جمعاً كما توهم مثيرو هذه الشبهات، الذين يقفون عند ظواهر الكلمات فإن وجدوا فيها ما يشبع رغبتهم فى التشفى من القرآن والتحامل عليه ملأوا الدنيا ضجيجاً، وإن لم يجدوا ملأت قلوبهم الحسرة، ورجعوا خائبين.. نعم ليست " سينين " جمعاً كما زعموا، بل هى لغة فى "سيناء" بكسر السين، كما أن " سَيناء " بفتح السين لغة فيها. وبهاتين اللغتين: سِيناء، بالكسر، وسَيناء بالفتح وردت القراءات، فهى إذن فى القرآن لها ثلاثة لغات:
- سِيناء بكسر السين.
- سَيناء بفتح السين.
- وسِنيين، بكسر السين وياءين ونونين.
كما أن البلد الحرام لها فى القرآن عدة أسماء (7) :
- مكة
- بكة
- أم القرى
- البلد الأمين.
(1) الصافات: 123-130.
(2)
التين: 1-3.
(3)
الكشاف (3/352) .
(4)
الدر المصون (9/328) .
(5)
معانى القرآن للفراء (2/391) وعلل القراءات (579) .
(6)
الإصحاح (16) الفقرات (31-33) .
(7)
انظر: من إعجاز القرآن، العلم الأعجمى مفسراً بالقرآن (2/167) للأستاذ رؤوف سعد.
24- الإتيان بالموصول بدل المصدر
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.. (1)
وموضع الشاهد على الشبهة ـ عندهم ـ هو قوله عز وجل:
" من آمن بالله " وعلقوا عليه فقالوا: " والصواب أن يقال: ولكن البر أن تؤمنوا بالله، لأن البر هو الإيمان لا المؤمن ".
الرد على الشبهة:
قالوا فى العنوان الذى وضعوه العبارة الآتية:
" أتى باسم الفاعل بدل المصدر ".
يقصدون قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله ".
وليس فى هذا القول اسم فاعل على الإطلاق: فلا " البر " اسم فاعل؟ ولا " من " اسم فاعل؟ ولا " آمن " اسم فاعل؟ ولا " الله " اسم فاعل؟
وهم ـ قطعاً ـ يقصدون " من آمن " و " مَنْ " هذا اسم موصول، وصلته " آمن " أى الذى آمن فمن أين أتوا باسم الفاعل الموضوع موضع المصدر فى الآية يا ترى؟
إنهم أتوا به من دائرة جهلهم الواسعة ببدهيات اللغة، التى هم أميون فيها، ومع هذا ينصبُّون أنفسهم قضاة على كتاب الله العزيز ذروة البيان المعجز، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكان يجب عليهم أن يلتحقوا بمدارس أولية يتعلمون فيها " فك الخط " إذا أرادوا أن يبحثوا لأنفسهم عن مكان مناسب لأوضاعهم. ولهذا الخطأ الشنيع عدلنا عن عنوانهم إلى العنوان الذى وضعناه لهذه الشبهة " الإتيان بالموصول بدل المصدر ".
هذا، وللعلماء فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن " البر " وهو خلاف الأصل؛ لأن البر معنى ذهنى و " من آمن " ذات، والذوات لا يخبر بها عن " المعانى الذهنية "، للعلماء فى هذه المسألة ستة توجيهات نذكر منها أقواها فى الآتى:
الإمام الزمخشرى أورد فيها ثلاثة توجيهات:
الأول: أن فى الكلام مضافاً محذوفاً، والتقدير. ولكن البر بر من آمن. وهذا التوجيه اشتهر بين جمهور العلماء، وردده كثير منهم.
الثانى: تأويل " البر " بـ " ذو البر " يعنى أن فى الكلام حذف مضاف لكن تقديره قبل " البر " أما التوجيه الأول فكان تقدير المضاف المحذوف قبل " من آمن " وهذا المضاف خبر " البر " الذى هو اسم " ليس ".
الثالث: أن يكون المصدر، وهو " البر " موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة، كما فى قول الخنساء تصف فرس أخيها صخر.
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت
فإنما هى إقبال وإدبار
فإقبال وإدبار مصدران حلا محل اسم الفاعل، والتقدير؛ هى مقبلة مدبرة.
وقد سبق الزمخشرى إلى الرأى الأول. ولكن البر برُّ من آمن، شيخ النحاة سيبويه. وقد اختار سيبويه هذا الرأى ورجحه لاعتبار قوى فحواه.
أن السابق عليه هو نفى كون البر هو تولية وجوه المخاطبين نحو المشرق والمغرب.
ثم قال: والذى يستدرك ينبغى أن يكون من جنس ما وقع عليه النفى، وهو ـ هنا ـ البر (3)
يريد شيخ النحاة أن يقول:
إن " لكن " أداة استدراك فى المعنى، وإن طرفى الاستدراك ينبغى أن يكونا متجانسين، والاستدراك: إما إثبات بعد نفى، أو نفى بعد إثبات، فمثلاً قوله تعالى:(ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (4)
ما قبل أداة الاستدراك " لكن " هو الإيمان والتقوى، وما بعدها هو التكذيب، فبين ما قبلها وما بعد تجانس ظاهر، لأنهما سلوكيات قلبية وخلقية.
وكذلك ما قبل لكن فى الآية موضوع الدراسة هو البر الظاهرى المنفى، وما بعدها ينبغى أن يكون هو البر الحقيقى المثبت.
وهذه لمحة طيبة من شيخ النحاة، ولها صلة وثيقة بالتوجيه البلاغى لهذه المسألة، سنعرضها فى الخلاصة إن شاء الله.
ومن الآراء التى طرحت فى هذا الصدد أن " البر " وقع موقع اسم الفاعل لإرادة المبالغة على وزان قول العرب " رجل عدل " حيث عدلوا عن رجل عادل، إلى الإخبار عنه بالمصدر، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه، لا فرق بينهما. وهذا رأى نحاة الكوفة.
أما الفراء فقد جعل " من آمن " واقعاً موقع الإيمان وقال:
والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل، واستشهد على هذا بقول الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
ولكنما الفتيان كل فتى نَدِى
حيث جعل الشاعر نبات اللحية خبراً عن الفتيان.
والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى.
نكتفى بهذا القدر ـ مما ذكره النحاة، ويكاد يجمع عليه المفسرون ـ فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن البر، مع تسليم الكافة بصحة الاستعمال اللغوى فيه، واجتهادهم هذا كان محاولة لفهم هذا الاستعمال.
والخلاصة:
من خلال النقول التى تقدمت عن النحاة واللغويين والمفسرين، بطلت هذه الشبهة ولم يبق لها أثر، فلا غرابة فى وضع " من آمن " خبراً عن " البر " سواء أخذنا بتوجيه شيخ النحاة سيبويه؛ أن فى الكلام حذف مضاف تقديره " ولكن البر بر من آمن " أو أخذنا بالتوجيه الذى أجاز وقوع المصدر موقع اسم الفاعل أو الفاعل.. فهذه كلها أساليب عربية فصيحة مستعملة، ومن شواهدها فى القرآن كذلك قوله تعالى:" وأنت حل بهذا البلد " فوقع المصدر " حل " موقع اسم الفاعل " حالٌّ " أى مقيم بهذا البلد.
فإذا ولينا وجوهنا شطر البلاغة بعد النحو واللغة، والبلاغة أوسع خطى منهما، فإننا نلمح فى التعبير القرآنى " ولكن البر من آمن " معنى لطيفاً دقيقاً ذا مغزى كبير لأن " من آمن " يدل على ذوات تمكن الإيمان فى قلوبها. فالإيمان " حالٌّ " فى تلك القلوب، ولو كان قد قيل:" ولكن البر الإيمان " لكان هذا الإيمان مجرد فكرة لا محل لها، بل هى مفصولة عن الذوات. يعنى إيمان نظرى لا عملى. وهذا ليس بسديد، لكن لما جعل هذا وصفاً للذوات المدلول عليها بـ " من " التحم الإيمان بالمؤمن، والمؤمن بالإيمان، فتحول إلى إيمان عملى متمكن فى القلوب، فى مقابلة الإيمان الشكلى الذى لم يرضه القرآن، وهو توجه الوجوه نحو المشرق والمغرب. وهذا ما ألمح إليه سيبويه من قبل.
(1) البقرة: 177.
(2)
الكشاف (1/330) .
(3)
الكتاب (1/108) .
(4)
الأعراف: 96.
25- وضع الفعل المضارع موضع الماضى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله عز وجل: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)(1) .
ذكروا هذه الآية، ثم قالوا فى تصويب الخطأ الذى توهموه فيها:
" كان يجب أن يعتبر المقام الذى يقتضى صيغة الماضى، لا المضارع فيقول: " قال له كُنْ فكان "؟!
الرد على الشبهة:
وجَّه المفسرون والنحاة قوله تعالى " كُنْ فيكون " فأوجز الزمخشرى القول فيها فقال: هى حكاية حال ماضية (2) .
وقد أخذ هذه العبارة عن الزمخشرى الإمام البيضاوى ولم يزد عليها (3) .
وهى عبارة تحتاج إلى بيان ما هى حكاية الحال الماضية؟
يريد الإمامان أن المضارع " يكون " دلالته فى الآية أن الله عز وجل يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها فى الزمن الذى خلق الله فيه آدم، وفائدته نقل أذهانهم إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم.
وهذه هى دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضى عند علماء المعانى، هى بعث الماضى وتصويره فى صورة الذى يحدث فى الحال.
ومن أمثلته عندهم قول الشاعر يحكى صراعًا حدث بينه وبين الضَّبُع، وهو حيوان مفترس.
فأضربها بلا دهش فخرَّت
صريعًا لليدين، وللجران (4)
الشاعر ضرب الضبع فى الماضى، فلما حكى صراعه معها للناس عبَّر عن الماضى " فضربتها " بالمضارع " فأضربها " والدلالة البلاغية للعدول عن الماضى إلى المضارع هى استحضار صورة الحدث الذى وقع فى الماضى، كأنه يحدث الآن فى زمن التكلم.
هذا ما أراده الشيخان: الزمخشرى والبيضاوى من عبارة " حكاية حال ماضية " ليبينا سر العدول عن " فكان " إلى " فيكون " فى الآية الكريمة، التى ادعى مثيرو هذه الشبهات أن فيها خطأً نحويًا، وهم عن معرفة الصواب والخطأ بمعزل.
وقال بعض المفسرين اللغويين فى توجيه " فيكون ":
" يجوز أن يكون على بابه من الاستقبال، والمعنى: فيكون كما يأمر الله فيكون، حكاية للحال التى يكون عليها آدم حين خلقه الله، ويجوز أن يكون " فيكون " بمعنى كان، وعلى هذا أكثر المفكرين والنحويين، وبهذا فسره ابن عباس رضى الله عنه "(5) .
ونعيد السؤال مرة أخرى:
لماذا عُدِل عن معنى الماضى إلى لفظ المضارع ومعناه؟
الجواب على هذا السؤال هو ما قدمناه فى توضيح عبارة الإمام الزمخشرى، التى تناقلها عنه النحاة والمفسرون وهو إيثار المضارع على الماضى لاستحضار صورة الحدث فى الذهن، وكأن الأبصار تراه الآن.
هذه خلاصة أمينة ووافية لما قاله العلماء فى توجيه " فيكون " مضارعًا مرفوعًا لا مجزومًا جوابًا للأمر، ولا ماضيًا.
والخلاصة:
بعد عرض توجيهات المفسرين والنحاة، يطيب لنا أن نستكشف إسهامات البلاغة فى تأصيل التعبير القرآنى " ثم قال له كن فيكون " الذى اعتبره مثيرو هذه الشبهات معيبًا بالخطأ النحوى، والنحو وإن كان أساس البلاغة، وجذورها العميقة، التى أثمرت كل الإيحاءات البلاغية، فإن هناك حقيقة يجب الوقوف عليها، وهى أن البلاغة تبدأ من حيث ينتهى النحو، فالنحو ـ ومعه الصرف ـ يهتم باستقامة الأساليب وصحتها، أما البلاغة فتنظر فى الأساليب، وتغوص وراء ما فيها من المعانى الخبيئة، والأسرار الدفينة وتبحث عن الإيحاءات الكامنة وراء كل لفظ وجملة وتركيب، أو تبحث عن معنى المعنى لا معنى اللفظ، أو المعانى الثانية الخفية غير المباشرة الظاهرة.
وإذا كان ما قدمناه من توجيهات كافيًا فى إزالة هذه الشبهة التى توهمها هؤلاء " الخواجات " فإن دور البلاغة فى تأصيل هذا التعبير القرآنى مساير لتوجيهات النحاة والمفسرين.
إن هذا التعبير " كن فيكون " هو الواجب بلاغة وبيانًا وإعجازًا ونظمًا
أما لوقيل " كن فكان " لخلا هذا التعبير من ثلاثة أرباع الحسن الذى هو فيه، وذلك للاعتبارات الآتية:
فأولاً: دلالة الماضى الأصل فيها الانقطاع عن الوجود المستمر، ولذلك يعبر عنه النحويون بأنه: ما دل على حدث وقع وانقطع قبل زمن التكلم.
وهذا غير مراد فى حكاية الله كيفية خلقه لآدم، لأنه لو قيل: كن فكان لصدق هذا التعبير عن وجوده لحظة واحدة من الزمن، ولو كان قد مات لحظة خلقه.
أما " كن فيكون " فدلالتها استمرار وجوده حتى أنجب مَنْ أنجب من ذكور وإناث، وما بث منهما من آباء البشر وأمهاته، كما قال عز وجل:
(وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً)(6) .
لأن دلالة المضارع تبدأ من الحال، وتستمر فى الاستقبال.
وثانياً: أن هذا التعبير " كن فيكون " يؤذن بتقدير مسند إليه قيل " فيكون " أى " فهو يكون " وفى هذا تكرار إسناد " الكينونة " لآدم:
مرة يجعل " يكون " خبرًا عن ضمير آدم " هو "
ومرة بإسناد فعل الجملة الخبرية " يكون " إلى ضمير آدم المستكن فى الفعل وجوبًا، على أنه فاعل له. وتكرار الإسناد من أقوى أساليب التوكيد فى البلاغة العربية.
وثالثاً: فى الفعل المضارع " يكون " تناسب آسر لرءوس الآيات (الفواصل) لأن ما قبله كلها فواصل مبنية على حرف المد إما الياء، وهو الأكثر، وإما الواو مع النون، وهو كثير، أو مع الميم.
وكذلك ما بعدها، والتناسق الصوتى فى النظم القرآنى المعجز، وجه من وجوه إعجازه، التى باين بها كلام البشر والجن، وجعل لتلاوته حلاوة جذابة للأسماع، كما جذبت معانيه القلوب، وأسرت العقول، واستولت على ألباب أولى الألباب.
(1) آل عمران: 59.
(2)
الكشاف (1/433) .
(3)
أنوار التنزيل (1/162) .
(4)
يعنى سقطت على الأرض على جنبها.
(5)
انظر: الدر المصون (3/220-221) .
(6)
النساء: 1.
26- عدم الإتيان بجواب " لمَّا
"
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون)(1) .
وموطن الشاهد عندهم هو قوله جل شأنه: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينا إليه.. (.
بحثوا عن جواب " لما " فلم يجدوه، فرموا القرآن بالخطأ؛ لأنه لم يذكر جواب " لما " ثم قالوا:
" فأين جواب لما؟ ولو حذفت الواو التى قبل لما لاستقام المعنى ".
الرد على الشبهة:
قلنا إن هذه الشبهة تتعلق بفن الحذف، وهو مبحث بلاغى أكثر منه نحويًّا.
إن كل محذوف عندهم غلط شنيع، وكل حذف خلط فظيع والناس ـ كما قيل فى المثل ـ أعداء ما جهلوا.
يقول الإمام عبد القاهر الجرجانى ـ شيخ البلاغيين ـ فى وصف الحذف البلاغى، وروائع ثماره، وبديع آثاره:
" هو بحث دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبن "(2) .
هذه هى منزلة الحذف فى البيان العربى، السارى فى أعطاف الكلام سريان النسيم فى الرياض الفيحاء، وقد شاع شيوعاً لا حصر له فى القرآن الكريم، إذ لم تكد تخلو منه سورة من سوره، ولا آية من آياته والمعانى التى يدل عليها الحذف فى القرآن تكاد تعادل ربع معانى القرآن كله. وهو منهج واسع وحكيم من مناهج اللغة العربية لا مثيل له.
ولذلك نجد العلامة اللغوى العظيم ابن جنى، يسميه فى كتابه "الخصائص" اسمًا طريفًا، هو: شجاعة العربية ".
وينتمى الحذف البلاغى إلى فن بلاغى حصر بعض العلماء البلاغة فيه، وهو " فن الإيجاز " أى قلة الألفاظ مع كثرة المعانى.
وله مقامات يتألق فيها، ومقتضيات يوفى بأغراضها.
ومن مقاماته الحذف الوارد فى آية سورة " يوسف " التى رآها من عشا بصره، وغلظ قفاه، وضل عقله خطأ ينبغى أن يصوَّب، ولحنًا يجب أن يقوَّم.
إن حذف جواب " لما " هنا المراد منه تهويل وتفظيع ما حدث من إخوة يوسف ليوسف، بعد أن أذن لهم أبوهم بالذهاب به إلى الصحراء، وقد روى عنهم أنهم أخذوا يؤذونه بالقول والفعل وهم فى الطريق إلى المكان الذى قصدوه، حتى كادوا يقتلونه، والدليل على هذا قوله تعالى حكاية عن أحد إخوته:
(قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين)(3) .
فالنهى عن القتل لا يكون إلا عند العزم عليه ومباشرة أسبابه.
لذلك حذف جواب " لما " لتذهب النفس فى تصوره كل مذهب، وحذف هذا الجواب فيه دلالة على طول ما حدث منهم، وعلى غرابته وبشاعته، لذلك قدره الإمام الزمخشرى فقال:
" فعلوا به ما فعلوا من الأذى.. وأظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه، وإذا استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب.. "(4) .
وسار على هذا النهج الإمام البيضاوى (5) .
وذهب غيرهما فى تقدير الجواب مذاهب أخرى، والذى أتاح لهم هذا الاختلاف فى تقدير الجواب المحذوف هو الحذف نفسه (6) .
أما اقتراح مثيرى الشبهة أن يحذف " الواو " فى " وأوحينا " ليستقيم المعنى فخطأ جسيم؛ لأن " أوحينا " ليس هو جواب " لما " وإنما هو معطوف على الجواب المقدر لأن جواب " لمَّا " هو ما حدث ليوسف من إخوته بمجرد خروجهم به من عند أبيهم وبعدهم عنه قليلاً.
ودليل ذلك هو العطف بالفاء فى " فلما " لأنها تفيد الفورية والترتيب.
(1) يوسف: 15.
(2)
دلائل الإعجاز (146) تحقيق الشيخ محمد محمد شاكر.
(3)
يوسف: 9.
(4)
الكشاف (3/306-307) .
(5)
أنوار التنزيل (1/387) .
(6)
الدر المصون (6/453) .
27- الإتيان بتركيب أدى إلى اضطراب المعنى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً)(1) .
وموطن هذه الشبهة ـ عندهم ـ هو الضمائر الثلاثة فى:
" تعزروه " ـ " توقروه " ـ " تسبحوه ".
ذكروا هذا، ثم قالوا:
" وهنا ترى اضطراباً فى المعنى، بسبب الالتفات من خطاب محمد إلى خطاب غيره، ولأن الضمير المنصوب فى قوله " وتعزروه وتوقروه " عائد على الرسول المذكور آخرًا.
وفى قوله " وتسبحوه " عائد على اسم الجلالة المذكور أولاً. هذا ما يقتضيه المعنى، وليس فى اللفظ ما يعينه تعيينًا يزيل اللبس. فإن كان القول: وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً عائدًا على الرسول يكون كفرًا لأن التسبيح لله فقط، وإن كان القول " وتعزروه وتوقروه وتسبحوه " عائدًا على الله يكون كفرًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج لمن يعزره ويقويه ".
الرد على الشبهة:
لقد أطالوا ـ على خلاف عادتهم ـ فى بيان هذه الشبهة كما ترى. والسبب أنهم أرادوا أن يضيقوا علينا الخناق أو يسدوا علينا الطريق ليحكموا علينا قبضتهم، على رأى المثل العامى " حلِّق حُوشْ " بيان ذلك أنهم يقولون لنا:
إذا جعلتم الضمائر الثلاثة عائدة على الرسول فقد كفرتم لأن الرسول بشر، والبشر لا يجوز أن يسبحهم أحد، لأن التسبيح لا يكون إلا لله.
وإذا جعلتم الضمائر الثلاثة عائدة على الله فقد كفرتم لأن الله غنى عن خلقه لا يحتاج منهم إلى تقوية ولا خلافه. فأين ـ إذن ـ أنتم تذهبون؟
ونقول لهؤلاء الكارهين لما أنزل الله على خاتم رسله:
نحن ـ المسلمين ـ لا نسبح أحداً غير الله، ولا نعبد أحداً غير الله، ولا نرفع حاجاتنا إلى أحدٍ غير الله، ولا نطلب غفران ذنوبنا من أحدٍ غير الله، ولا نقدم كشف حساباتنا إلى أحد غير الله، ولا نرجو ولا نخاف أحداً غير الله. والكتاب الذى أنزله الله على خاتم رسله لا لفَّ فيه ولا دوران، ولا قلق ولا اضطراب، لا فى مبانيه، ولا فى معانيه، ولا فى مقاصده وقيمه، فمن توَّهم فيه اضطراباً فالاضطراب فى عقله هو، وفى فهمه هو لا يتعداه إلى كتاب الله، ولا إلى المؤمنين به.
والآية التى وصفوا تركيبها بأنه أدى إلى اضطراب المعنى المؤدى إلى الكفر، أجلى من الشمس فى رائعة النهار ومرجع الضمائر الثلاثة، التى اتخذوا منها منشأً لهذه الشبهة محددة ـ عقلاً وشرعاً ـ دون أى التواء.
فالضمير فى " وتسبحوه " عائد على الله قطعاً دون أدنى شك. لأن التسبيح عبادة، ولم يؤذن الله لعباده أن يعبدوا أحداً غيره:
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)(2) .
(اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)(3) .
(يعبدوننى لا يشركون بى شيئاً)(4) .
أما مرجع الضمير فى " وتعزروه " فهو الرسول (دون خلط أو تشويش.
وأما الضمير فى " وتوقروه " فلا مانع لا عقلاً، ولا شرعاً أن يكون عائداً على الله، لأن توقير الله هو إكباره وتعظيمه، وقد قال نوح لقومه موبخاً لهم (ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً)(5) .
ويجوز أن يكون عائداً على الرسول، وتوقيره هو احترامه وإنزاله منزلته من التكريم والطاعة.
هذا هو بيان ما توهموه من لبس، دون الرجوع إلى ما قاله النحاة أو المفسرون فالمسألة لا تحتاج إلى أكثر مما أوجزناه.
والخلاصة:
القرآن خطاب للعقلاء الأذكياء، وليس خطاباً للمتغابين أو الأغبياء، وفى الإنسان حاسة كثيراً ما يعوِّل عليها القرآن فى خطابه، تستجلى خفايا معانيه، وتدرك روائع إيماءاته ودقائق أسراره.
تلك الحاسة هى الخصائص العقلية، والملكات الذهنية أو الذوقية المثقفة.
فمثلاً قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف)(6) .
ترى الخطاب فيها واحداً " طلقتم ـ تعضلوهن " والنظرة العجلى تحسب أن المخاطب فى الموضعين صنف واحد من الرجال لكن العقل ـ بمعونة الشرع ـ سرعان ما يفرق بين الذين خوطبوا بـ " طلقتم " والذين خوطبوا بـ " تعضلوهن " فالمخاطب الأول هم الأزواج الذين يطلقون زوجاتهم، والمخاطب الثانى هم أولياء أمور المطلقات، يقول لهم القرآن إذا أراد الزوج المطلق طلاقاً رجعياً فى العدة أو بعد العدة أن يعيد زوجته إليه بالمراجعة أو العقد الجديد وكانت الزوجة راغبة فى ذلك، فعلى أولياء أمرها ألا يقفوا فى طريقها.
فالذى فرَّق بين مرجعى الضميرين ـ هنا ـ العقل، بمعونة الشرع، وهذه الآية شبيهة بالآية التى أثيرت حولها الشبهات، التى فرغنا من الرد عليها. ولو كان نظر مثيرى هذه الشبهات وقع على آية البقرة هذه، لقالوا إن فيها تركيباً أدى إلى اضطراب المعنى، ولا وجود لاضطراب إلا فى أوهامهم.
(1) الفتح: 8-9.
(2)
الإسراء: 23.
(3)
الأعراف: 59، 65، 73.
(4)
النور: 55.
(5)
نوح: 13، 14.
(6)
البقرة: 232.
28- صَرْفُ الممنوع من الصرف
منشأ هذه الشبهة:
هو آيتان من سورة واحدة.
إحداهما قوله تعالى: (إنا اعتدنا للكافرين سلاسلاً وأغلالاً وسعيراً)(1) .
والثانية: (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا)(2) .
وشاهدهم فى الآية الأولى كلمة " سلاسلا " ذكروها ثم قالوا: فلماذا قال " سلاسلا " بالتنوين مع أنها لا تُنَوَّنُ لامتناعها عن الصرف؟
وقالوا عن الآية الثانية: لماذا آتى بها؟ " بالتنوين مع أنها لا تُنَوَّنُ؛ لامتناعها عن الصرف، لأنها على وزن مصابيح؟
هذا قولهم، وهو مبلغ علمهم أو مبلغ جهلهم وافترائهم لأنهم ـ كما تقدم مرات ـ يحفظون شيئاً وتغيب عنهم أشياء، وما حفظوه ليس بمغنٍ لهم، وكان الصمت استر لهم لو كانوا يحترمون أنفسهم.
الرد على الشبهة:
فى هذه الشبهة افتراء وجهل:
أما الافتراء فهو قولهم إن الكلمتين سلاسلا وقواريرا تقرآن بـ " التنوين " والتنوين: نون ساكنة فى آخر الكلمة المصروفة تنطق فى الوصل دون الوقف، ولا تكتب، يعنى لا صورة لها فى الكتابة والخط.
وهذا افتراء منهم؛ لأن الكلمتين فى قراءة حفص عن عاصم وغيرهما لا تنونان، وإنما يوقف عليهما بالفتح لا غير ولا يلتفت إلى " الألف " الذى فى آخر كل منهما هكذا " سلاسلا " ـ " قواريرا ".
وللقراء فى هاتين الكلمتين مذاهب، وبها نزل القرآن فقد قرأ نافع وابن كثير والكسائى وأبو جعفر " قواريراً " بالتنوين مصروفة منونة فى الموضعين معاً " قواريراً " و " سلاسلاً ".
وقرأ الباقون، ومنهم حفص عن عاصم " سلاسلا " و " قواريرا " بدون تنوين على المنع من الصرف وعلة المنع من الصرف هى صيغة منتهى الجموع والذين قرأوهما بالتنوين (مصروفتين) لهم سند فى ذلك.
ووجه صرف الكلمتين أن بعض العرب كانت تصرف كل الكلام، وليس فى لهجتهم كلام مصروف وكلام غير مصروف. بل هو كله مصروف، والقرآن نزل أصلاً بلغة قريش، ثم بلهجات القبائل العربية الأخرى (3) .
(1) الإنسان: 4.
(2)
الإنسان: 15.
(3)
انظر: التوجيهات النحوية والصرفية للقراءات (1/598) للدكتور: على محمد فاخر.
29- الإتيان بتوضيح الواضح
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله جل ثناؤه:
(.. فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة..)(1) .
موطن الشاهد على هذه الشبهة عندهم هو قوله تعالى: " تلك عشرة كاملة " بعد قوله عز شأنه: " فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم "
وفى تصوير هذه الشبهة قالوا:
" فلماذا لم يقل: تلك عشرة؟ مع حذف كلمة " كاملة " تلافياً لإيضاح الواضح؟ لأنه مَنْ الذى يظن أن العشرة تسعة "؟!
الرد على الشبهة:
من الآيات الكونية لله حركة القمر فى رحلته الشهرية حيث يظهر ضعيفاً نحيفاً فى أولى لياليه، حتى لا يكاد يراه أحد إلا بأجهزة الرصيد الحساسة، ثم ينمو ويكبر ليلة وراء ليلة، وفى كل ليلة تالية تصحبها ظاهرتان فى تطور القمر:
الظاهرة الأولى: إطالة مكثه بعد غروب الشمس، فهو فى أولى لياليه لا يمكث إلا لحيظات فى شكله الضعيف النحيف.
أما الظاهرة الثانية: فهى تطور حجمه من الضعف والنحافة إلى القوة والضخامة.
أما فى الليالى التالية فتزيد مدة مكثه بعد غروب الشمس، ويكبر حجمه، ليلة تلو ليلة.
وفى ليلة الخامس عشر من بدء ولادته تصل الظاهرتان إلى أقصى درجة لهما.
فيمتد مكثه طول الليل، منيراً فى الوجود.
ويكتمل قرصه فيملأ الدائرة المخصصة له ويكتمل نوره 100% ويحيل الليل المظلم إلى نور قوى هادئ فيه منافع للناس، ويُعجِب الناظرين، ويتغنى بجماله الشعراء، ويشبهون به كل ما يرونه:
* حسناً جميلاً.
* بهياً ساحراً.
* رفيع الشأن شامخاً.
حتى العامة من الناس ـ غير الشعراء المرهفى الحس ـ يفتنون به، ويعبرون عن بهائه وسحره. ويمجدون بوصفه كل جميل، فيقولون:" قمر أربع عشرة " أى قمر الليلة التى يرون فيها القمر يوم الرابع عشر، التى سيعقبها اليوم الخامس عشر من الشهر، والقمر فى هذه الليلة يبلغ كمال شبابه ونضجه.
ومنذ فجر الحياة كان القمر، وبخاصة فى ليلة كماله مبعث الإعجاب والبهارة والابتهاج فى نفس كل من يراه، ولم يشذ عن هذا الإحساس أحد،
فإن رأيت من يذم القمر فى ليلة كماله فاعلم أنه رجل مريض الحس، فاسد الذوق، غريب الأطوار.
والأساليب البيانية شأنها شأن القمر، فى تدرج أنماطها وتفاوت درجاتها:
فمنها الحديث اليومى العادى، الذى يخلو من الخصائص الفنية ومنها المتوسط الدرجة، الذى لا يمدح ولا يذم.
ومنها البيان العالى المؤثر فى النفوس، الممتع للعواطف المثرى للفكر.
ومنها البيان الأعلى، المعصوم من النقد، الذى يحس الناس برونقه وإحكامه وجماله وكماله وجلاله، وهو القرآن المعجز العظيم.
ومن أساليب هذا البيان الأعلى الذى لا يضارعه بيان، أسلوب التوكيد كما فى قوله تعالى (تلك عشرة كاملة (.
ونبدأ بأقوال الأئمة فى بيان قيمة " تلك عشرة كاملة " فى تقوية الأسلوب وتوفير العناية بالمعنى، نبدأ بما قاله الإمام الزمخشرى:
" فإن قلت: ما فائدة الفذلكة "؟ قلت: الواو قد تجئ للإباحة فى نحو قولك: جالسى الحسن، وابن سيرين، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً، أو واحداً منهما كان ممتثلاً، فَفُذْلِكَتْ (2) نفياً لتوهم الإباحة.
وأيضاً ففائدة الفذلكة فى كل حساب أن يُعْلَم العدد جملة كما عُلِم تفصيلاً ليحاط به من جهتين فيتأكد العلم به.
وفى أمثال العرب:
" علمان خير من علم ".
وكذلك " كاملة " تأكيد آخر، وفيه زيادة توصية بصيامها، وألا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها.
وقيل " كاملة فى وقوعها بدلاً من الهدى "(3) .
يعنى أن فى هذه العبارة توكيدين:
الأول فى: تلك عشرة ".
والثانى فى " كاملة ".
وقد بين الإمام رحمه الله المعانى التى أفادها هذا التركيب ولنا إضافة على ما قاله سنوضحها فى الخلاصة التى تعودنا على جعلها خاتمة كل مبحث.
ويتابع الإمام البيضاوى ما قاله الإمام الزمخشرى ويضيف إليه جديداً فيقول: " تلك عشرة " فذلكة الحساب، وفائدتها ألا يتوهم متوهم أن " الواو "
ـ أى فى " وسبعة إذا رجعتم " ـ كقولك جالسى الحسن وابن سيرين، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً.. و " كاملة " صفة مؤكدة تفيد المبالغة فى المحافظة على العدد، أو مبينة كمال العشرة، فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهى الآحاد وتتم مراتبها " (4) .
وحذا الإمام الشوكانى حذوهما، ثم قال: إنه مثل " كتبتُ بيدى " والكتابة لا تكون إلا باليد (5) .
ويسوق غيرهم شواهد من الشعر العربى على تأصيل هذا الأسلوب فى لغة العرب، مثل:
فسرتُ إليهمُ عشرين شهراً
وأربعة فذلك حِجّتان
أى: سنتان. وقول الآخر:
ثلاث بالغداة فهُنَّ حسبى
وست حين يدركنى العشاء
فذلك تسعة فى اليوم ربى
وشُرب المرء بعد الِرى داء (6)
والخلاصة:
لقد أصاب الأئمة فى الإشارة إلى معنى جملة " تلك عشرة كاملة " وبخاصة فى قولهم إنها أفادت دفع توهم من يحسب أن " الواو " بمعنى " أو " تفيد الإباحة، فليس ببعيد أن يفهم بعض الناس أن المتمتع بالعمرة إلى الحج كفارته الصيام:
فإن صام فى الحج فيكفيه ثلاثة أيام، ومن لم يصم حتى رجع إلى بلده فعليه صيام سبعة أيام، وأن يفهم الاكتفاء بالثلاثة فى الحج للتخفيف على المحرمين بالحج ويؤدون مناسكه، أما بعد الرجوع إلى الوطن فلا داعى للتخفيف، لأنه غير مشغول بالمناسك، وليس غريباً عن بلده. ليس ببعيد أن يقع هذا الفهم فى أذهان بعض الناس حتى الفقهاء المجتهدين.
لذلك كان قوله تعالى: " تلك عشرة " واصفاً لها بأنها " كاملة " دافعاً لذلك الفهم.
وبذكر " كاملة " تحوَّل قوله تعالى: " تلك عشرة " إلى نص محكم غير قابل للاحتمال أو التأويل.
أما من حيث البلاغة والبيان، فإن كلمة " كاملة " وصفاً لـ " تلك عشرة " تفيد تعظيم هذه الأيام العشرة وكمال فضلها عند الله عز وجل.
بدليل أنه أشار إليها باسم الإشارة الموضوع للبعيد، تنويهاً ببعد منزلتها، وكان يمكن أن يقال هذه عشرة كاملة، وهذه اسم إشارة للقريب سواء كان قرباً حسياً أو قرباً معنويًّا.
هذه المعانى والدقائق والأسرار ما كانت لتُفهَم لولا وجود تلك العبارة، التى عدَّها مثيرو الشبهات عيباً من عيوب الكلام.
(1) البقرة: 196.
(2)
الفذلكة مصطلح فنى معناه: إجمال المعنى فى عبارة موجزة بعد بسطه فى عبارة طويلة.
(3)
الكشاف (1/345) .
(4)
نوار التنزيل (1/111) .
(5)
فتح القدير (1/227) .
(6)
الدر المصون (2/320) .
30- الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين)(1) .
وشاهدهم فى الآية هو قوله تعالى: " حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم ".
الرد على الشبهة:
هذه الشبهة المثارة هنا على هذه الآية، ليست لها صلة، لا من قريب، ولا من بعيد، بالنحو والصرف بل هى مسألة بلاغية صرفة، والبلاغة ـ عموماً ـ لها عنصران كبيران، أحدهما خارجى عن شخصية البليغ، والثانى ممتزج بشخصيته.
العنصر الأول الخارجى:
هو مجموعة القواعد والأصول التى تكوِّن علوم البلاغة باعتبارها علماً راقياً من علوم اللسان؛ لأن لكل علم أو فن أصوله ومبادئه الخاصة به.
وهذه القواعد والأصول يمكن تَعَلُّمها وإتقانها لكل راغب صادق الرغبة فيها.
العنصر الثانى الذاتى:
الممتزج بذات البليغ، والذى يجرى فيه مجرى الروح فى الجسد هو الإحساس المرهف بالجمال الفنى، والقدرة على التذوق، والخبرة بالأساليب إنشاءً ودراسة ونقداً وتقويماً. وليس بلازم أن يكون العارف بالقواعد والأصول البلاغية، ليس بلازم أن يكون بليغاً.
يقول الإمام الزمخشرى البليغ الذواقة، فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:
" فإن قلت ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قلت: المبالغة، كأنه يذكر حالهم لغيرهم ليعجبَّهم منها، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح "(2) .
هذه العبارة فى حاجة إلى إيضاح، هو الآتى:
هؤلاء الذين تحدث الله عنهم فى هذه الآية، أنعم الله عليهم بالتسيير فى البر والبحر، وامتحنهم بالريح العاصف بعد أن أقلعت بهم الفلك تمخر عباب الماء، فتوجهوا إلى الله يطلبون منه الإنجاء، واعدين الله إذا أنجاهم أن يشكروه ويعرفوا فضله. فلما أنجاهم نسوا ما وعدوا الله به، وعادوا إلى معصيته كما قال ربنا عز وجل:
(فلما أنجاهم إذا هم يبغون فى الأرض بغير الحق..)(3) .
وكانت فائدة الالتفات عن خطابهم المباشر " كنتم فى الفلك " إلى حكاية حالتهم العجيبة إلى غيرهم، لكى يستثير سخطهم عليهم، ويقبِّحوا سوء صنيعهم مع الله.
والخلاصة:
ما قاله الإمام الزمخشرى فى هذه الآية لمحة طيبة، ومعنى لطيف دل عليه هذا الالتفات من المخاطب إلى الغائب، وقد تناقله عنه المفسرون من بعده.
أما البلاغيون ـ بعد الزمخشرى ـ فقد أضافوا ملمحًا بلاغياً آخر، يساير ما فهمه الإمام الزمخشرى ولا ينافره، فقد قالوا:
" إن السر فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أن " الغيبة " تناسب الفعل " جرين " فهم كانوا على الشاطئ والفلك ترسو إلى جنبه، وأخذ الناس يركبون الفلك، حتى إذا تكاملوا على ظهره، وأقلعت آخذة فى السير السريع (الجرى) غابوا عن الأنظار، فهم ليسوا حاضرين حتى يُخاطَبُوا. ولكنهم غائبون غائبون فجرى الحديث عنهم مجرى الحديث عن الغائب ".
إن كلتا اللمحتين البلاغيتين تنبثقان من هذا التعبير " وجرين بهم " ولا تنافر واحدة منهما الأخرى.
هذا ما لم يكن مثيرو هذه الشبهات أهلاً لفهمه لبلادة حسهم، وفساد ذوقهم.
والالتفات ـ عامة ـ فن عريق من فنون البيان فى البلاغة العربية، طرقه الشعراء فى الجاهلية، وشاع فى كلامهم، ووردت منه نماذج وصور فى الذكر الحكيم، وفى أحاديث خاتم النبيين، وأسراره لا تحصر، ودلالاته لا تنضب، وكفاه فضلاً أنه يروِّح عن مشاعر السامعين وينتقل بهم من لون إلى لون، فى معرض جذاب، لا يقدره حق قدره إلا من رُزق حسن الفهم، والقدرة على التذوق لمرامى الكلام.
(1) يونس: 22.
(2)
الكشاف (2/231) .
(3)
يونس: 23.
31- الإتيان بفاعلين لفعل واحد
(1)
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)(2) .
وشاهدهم فى هذه الآية هو الجمع بين: " وأسروا "، " الذين ظلموا " لأنهم جزموا بأن " الواو " فى " أسروا " فاعل، كما جزموا بأن " الذين " فى " الذين ظلموا " فاعل كذلك.
ولما كان كل فعل لا يتطلب إلا فاعلاً واحداً، صاحوا بأعلى صوت قائلين:
إن القرآن أخطأ فجعل للفعل الواحد فاعلين؟!
الرد على الشبهة:
قال شيخ المفسرين البيانيين الإمام جار الله محمود بن عمر الزمخشرى يقول: " أبدل الذين ظلموا من " واو " " وأسروا " إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به.
أو جاء على لغة من قال: أكلونى البراغيث.
أو هو منصوب المحل على الذم.
أو هو مبتدأ خبره " وأسروا النجوى " قُدِّم عليه والمعنى:
هؤلاء أسروا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم (3) .
ذكر الإمام رحمه الله فى توجيه هذا التركيب أربعة آراء كلها صحيح فصيح:
الأول: إن " الذين ظلموا " بدل كل من كل من معنى " الواو " فى " أسروا " لأنه واو جماعة معناه الجمع.
الثانى: إنه جاء على لغة بعض القبائل العربية، التى تجمع بين الضمير إذا وقع فاعلاً وبين ما يفسره.
وعليه جاء الحديث الشريف: [يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار](4) .
الثالث: أن يكون فى محل نصب على الذم، على تقدير فعل محذوف هو: أذم أو أخص الذين ظلموا بالذم.
الرابع: أن يكون هو المبتدأ، وما قبله خبر عنه، أى الذين ظلموا أسروا النجوى.
أما الذى اقتضى تقديم خبره عليه " أسروا النجوى " فهو التسجيل عليهم بقبح ظلمهم وفحوشته. وهذا كله كلام طيب فى غاية النفاسة.
ويردد الإمام الشوكانى ما قاله الإمام جار الله رحمه الله ويضيف إلى ما قاله جديداً، ومن هذا الجديد:" إن الذين ظلموا " فاعل لفعل محذوف تقديره: يقول الذين ظلموا.
ثم يورد على لغة " أكلونى البراغيث " آية أخرى من كتاب الله، هى قوله عز وجل:(ثم عموا وصموا كثير منهم)(5) .
فقد جُمِعَ فى الآية بين الضمير، وهو " الواو " فى " عموا " و "صموا " وبين الاسم الظاهر " كثير ".
كما ذكر قول الشاعر:
ولكن ديافى أبوه وأمه
بحوران يعصرن السليط أقاربه (6)
والشاهد فى البيت حيث جَمَع الشاعر، وهو عربى فصيح يحتج بكلامه بين نون النسوة فى " يعصرن " وهو فاعل لـ " يعصر " وبين الاسم الظاهر " أقاربه " وليس فى الكلام إلا فعل واحد يكفى فيه فاعل واحد (7) .
وفى المسألة مذاهب أخرى، منها:
* إن " الذين ظلموا " هى الفاعل، أما " الواو " فهى علامة جمع الفاعل لا غير، وأن العرب كانت تفعل ذلك حتى فى المثنى، فيقولون:
قاما أخواك. كما استشهد من ذهب هذا المذهب بقول الشاعر:
يلوموننى فى اشتراء النخيل
قومى، فكلهمو يعزل
حيث جمع بين " الواو " فى " يلوموننى " وبين الاسم الظاهر فى " قومى"(8) .
هذا ما قاله المفسرون وبعض النحاة فى هذا التركيب وتخريجه على عدة وجوه من الصحة. دون أن يكون عندهم علم بأن بعضاً من الناس، سيأتون ويقولون مثل ما قال مثيرو هذه الشبهات، مع جهلهم المركب بلغة التنزيل وخصائصها التعبيرية والبيانية، وهم فيها عوام أو أشباه عوام.
والخلاصة:
ما تقدم من الرد على هذه الشبهة يريك إلى أى مدىً تعسف هؤلاء المغالون فى التحامل على القرآن، المسرفون فى إظهار الحقد عليه والطعن فيه، إنهم مثل الذى يريد أن يعبر محيطاً بقارب مصنوع من " البوص "، دون أن يكون لهم رادع من أنفسهم يحفظون به ماء وجوههم إن كان فى وجوههم ماء.
وقبل أن نودع الحديث فى الرد عليهم على ما أثاروه حول الآية نضيف إلى ما ذكره الأئمة إضافتين من حيث التوجيه البلاغى:
إحداهما: إن فى أساليب علم المعانى، وهو أحد علوم البلاغة الثلاثة (المعانى ـ البيان ـ البديع) أسلوباً لا يعرف عنه مثيرو هذه الشبهات شيئاً، هو ما يسميه البلاغيون بـ " الاستئناف البيانى ".
وضابط هذا الأسلوب أن تتقدم جملة من الكلام تثير فى ذهن السامع تساؤلاً لطيفاً يدب فى نفسه أو يسرى سريان الماء فى العود الأخضر، فتأتى جملة أخرى تجيب على ذلك التساؤل، الذى ليس له صورة فى الكلام. بل هو يبرق كالشعاع فى ذهن السامع ومن أمثلته فى القرآن:
(وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوعُ مصبحين)(9) . فجملة " أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " جواب على سؤال تقديره: ما هو ذلك الأمر الذى قضاه الله (10) .
ومثله قوله تعالى: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)(11) .
فجملة " فوسوس إليه الشيطان " أثارت فى النفس تساؤلاً لطيفاً " ماذا قال الشيطان لآدم؟ فكان الجواب:
(قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (.
هذا هو الاستئناف البيانى عند البلاغيين وهو ـ مرة أخرى ـ:
" تنزيل جملة منزلة جواب على سؤال تضمنته الجملة التى قبلها ".
والآية التى معنا: (وأسروا النجوى الذين ظلموا (جرت على نسق الاستئناف البيانى الذى عرفته، لأن جملة (وأسروا النجوى (تثير فى النفس التساؤل نفسه: مَنْ هم الذين (أسروا النجوى (؟ فكان الجواب: (الذين ظلموا (.
لا يقال: إن هذا السؤال لا يقتضى المقام إثارته لأن مرجع الضمير، وهو " الواو " فى " أسروا " مذكور قبله فى قوله تعالى:
(اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون * ما يأتيكم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم..)(12) .
لأنا نقول: إن الوقائع المذكورة فى مطلع السورة، وقائع عامة، هى أحوال للناس جميعاً، إلا من عصمه الله.
أما إسرار النجوى، فهى واقعة خاصة وقعت من مشركى العرب، فليس " الناس " قبلها هم فاعليها، بل فاعلوها هم الذين قالوا:
(??? هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)(13) .
وعلى هذا فإن " الذين ظلموا ليس فاعلا لـ " أسروا " وإنما فاعل " أسروا " الواو.
أما " الذين ظلموا " فواقعه فى كلام جديد، هو خبر عن جلة السؤال: من هم الذين أسروا النجوى؟
وهذا وجه آخر يرد به على مثيرى هذه الشبهة المتعالمين وهم جاهلون.
أما الإضافة الثانية، فهى أسلوب آخر من أساليب البلاغة العربية، مفتاح الإعجاز المفحم.
ذلك الأسلوب تحدث عنه شيخ البلاغيين بلا منازع الإمام عبد القاهر الجرجانى، وأسماه:
" الإضمار على شريطة التفسير "(14) .
وضابط هذا الأسلوب هو أن تأتى بالضمير أولاً ثم تفسره بعد ذلك بذكر مرجعه. ومن أمثلته شعرًا قول الشاعر:
هى الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشى وفتكى
ولا يغرُركمُ منى ابتسام
فقولى مضحك والفعل مبكى
وتخريج الآية " وأسروا النجوى الذين ظلموا " على هذا الأسلوب سائع رائع.
فقد أتى بالضمير أولاً " وأسروا " ثم فسره ثانياً هكذا " الذين ظلموا ".
وبلاغة هذا الأسلوب هى تحريك الشعور، وتشويق النفس إلى عقبى الكلام كيف تكون، فيتمكن المعنى المسوق من أجله الكلام فى النفوس كل التمكن؛ لأن النفس إذا ظفرت بالشىء بعد انتظاره استقر ذلك الشىء فيها.
هذه الخصائص البيانية محرومٌ منها مثيرو هذه الشبهات؛ لأنهم يجهلونها. والناس ـ كما جاء فى المثل ـ أعداء ما جهلوا.
(1) ليست هذه عبارتهم، بل هى تعبير بديل من عندنا عنها. أما عبارتهم فهى " أتى بضمير فاعل مع وجود فاعل " وهى خطأ ـ كما ترى ـ لأنه لا مانع من الإتيان بضمير فاعل عائد على الفاعل فى الكلام الفصيح مثل: جاء صديقى الكريم خُلقه.
(2)
الأنبياء: 3.
(3)
الكشاف (2/562) .
(4)
رواه الشيخان: البخارى ومسلم.
(5)
المائدة: 71.
(6)
دياف وحوران: موضعان. والسليط: الزيت.
(7)
فتح القدير (3/469-470) .
(8)
الدر المصون (8/132-133) .
(9)
الحجر: 66.
(10)
انظر: الإيضاح للخطيب القزوينى: مبحث الفصل والوصل.
(11)
طه: 120.
(12)
الأنبياء: 1-3.
(13)
الأنبياء: 3.
(14)
دلائل الإعجاز (163) تحقيق الشيخ العلامة محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجى، القاهرة.
32- الإتيان بالضمير العائد على المثنى مفردًا
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يُرضوه إن كانوا مؤمنين)(1) .
ذكروا هذه الآية، ولفت نظرهم ذكر الله، ثم ذكر رسوله معطوفاً عليه، ثم إيقاع الفعل " يُرضى " على الضمير المفرد، وهو " الهاء " فى " يُرضوه " وهو شاهدهم فى هذه الشبهة، ثم قالوا:
" فلماذا لم يثنِّ الضمير العائد على الاثنين، اسم الجلالة ورسوله فيقول: أن يُرضوهما "؟!
الرد على الشبهة:
هذه الآية، والتركيب الذى حسبوه أو عاندوا وقالوا إنه خطأ لغوى نحوى، إنما هى لمحة قرآنية تتعلق بعقيدة توحيد الله عز وجل.
ومثيرو هذه الشبهات، لا يعرفون عن حقيقة " التوحيد " شيئاً، وضوابطهم فيه مثل الغربال إذا وضع فيه سائل لا يبقى فيه منه شىء.
وقد فات هؤلاء أمر عظيم، ترتب عليه جهل شنيع ذلك أنهم لم يعرفوا أصلاً، أو لم يستحضروا فى أذهانهم وهم يسطرون هذه الشبهة، متى يُثنَّى المعدود، ومتى يجمع، ومتى يظل مفرداً.
وهى من البديهات، بيان ذلك: أن هناك شرطاً موضوعيًّا فى تثنية المعدود وجمعه ذلك الشرط هو:
التجانس بين الأفراد فى الواقع، فقَلَم يثنى فيقال: قلمان ويجمع فيقال أقلام.
لكن حماراً ـ مثلاً ـ لا يثنى مع القلم ولا يجمع، لأنك لو ثنيت القلم والحمار، فقلت قلمان، أو حماران، وأنت تريد قلماً وحماراً لم يفهم أحدٌ من العقلاء ما تريد.
وحتى الرجل والمرأة، وهما فردان بينهما تجانس من جهة، واختلاف من جهة أخرى. فإنك لا تستطيع أن تثنيهما فتقول: رجلان، أو تقول: امرأتان، وأنت تريد رجلاً وامرأة. هذا لا يجوز عند العقلاء، ولا يجوز فى الواقع الذى يحسه الناس ويحترمونه.
هذا التمهيد ضرورى جدًّا لبيان لماذا ورد فى القرآن " أن يُرضوه " دون أن يُرضوهما كما اقترح مثيرو هذه الشبهات؟
وذلك لأنه ليس بين الله، وبين رسوله، ولا بين الله وبين أىِّ شىء فى الوجود تجانس من أى نوع من الأنواع.
فالله هو الفرد الصمد، الواحد الأحد، الذى لم يلد فليس له ولد، ولم يولد فليس له أم ولا أب. هو الخالق البارئ المصوِّر، ليس له كفواً أحد، وليس كمثله شىء فى الوجود وغيره، هو المخلوق المبروء المصوَّر (اسم مفعول) .
من أجل هذا؛ فإن الله لا يُجمَع ولا يُثنىَّ. لا فى ذاته ولا مع أحدٍ من خلقه.
وعلى هذا جرى بيان القرآن المعجز، فلم يقل كما يقترح هؤلاء الغافلون:
والله ورسوله أحق أن يُرضوهما. لأن الله ليس فرداً من جنس الأفراد الذين ينتمى إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
بل هو فرد لا مثيل له فى الوجود أبداً، فلا يكون مع غيره ثانى اثنين، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
فالخطأ كل الخطأ هو ما توهمه مثيرو هذه الشبهات. أما ما عليه النظم القرآنى الحكيم، فهو ليس كل الصواب فحسب ولكنه الإعجاز المفحم، فى أَجْلَى معارضه، وآلق آفاقه ومَنْ أحسن من الله حديثاً.
التوحيد فى القرآن عقيدة متمكنة فى الواقع الخارجى مستقرة كل الاستقرار فى قلوب المؤمنين.
وهو ـ كذلك ـ عقيدة فى البيان القرآنى، فلم يأت الله فى لغة القرآن إلا واحداً أحدًا، ليس اثنين، وليس ثلاثة (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار)(2) وليس ما لفت أنظار مثيرى هذه الشبهات فى الآية المتقدمة هو الوحيد فى القرآن، بل له نظائر عميت عنها أبصارهم وبصائرهم:
ففى الآية الثالثة من سورة التوبة نفسها، ورد قوله تعالى:
(.. أن الله برئ من المشركين ورسوله..)(3) .
لم يقل: إن الله ورسوله بريئان من المشركين، لأن وصف الله بالبراءة من المشركين، وصف توحيدى تابع للواحد الأحد، الذى ليس له مثيل فى كل الوجود.
ولذلك قال: " أن الله برئ من المشركين ورسوله " أى ورسوله برئ منهم، والذى دل على هذا، ما ذكره فى جانب الله أولاً.
كما تقول: محمد (من أُولى العزم من الرسل، وموسى عليه السلام، أى وموسى من أُولى العزم من الرسل. تثبت الوصف المحذوف لموسى، استناداً إلى ذكر ذلك الوصف خبراً عن محمد، عليهما الصلاة والسلام. هذا ما يفهمه العقلاء من بليغ الكلام.
وفى سورة التوبة نفسها ـ كذلك ـ ورد قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنَّا إلى الله راغبون)(4) .
روعيت عقيدة التوحيد فى النظم القرآنى المعجز المفحم فى ثلاثة مواطن:
الأول: " ما آتاهم الله ورسوله " حيث عطف رسوله على اسم الجلالة، دون عود ضمير مثنى.
الثانى: " حسبنا الله " دون عطف رسوله على اسم الجلالة. لأن الحسب لا يكون إلا لله.
الثالث: " سيؤتينا الله من فضله ورسوله " دون أن يُثَنِّى فيقول: من فضلهما.
وإنما عُطِف " رسوله " بعد تمام الجملة الأولى.
ثم حذف من جملة " ورسوله " ما دل عليه الكلام السابق، أى:
وسيؤتينا رسوله من فضله.
هذا هو التوحيد فى القرآن، دقة وإحكام، ومبالغة فى تنزيه الله عن المساوى والمثيل والكفء حتى فى اللفظ توحيد نقى، خالص، مبرأ عن الشبهات المعنوية ومبرأ عن الشبهات اللفظية.
ولم يرد فى القرآن الحكيم اسم يكون ثانياً لله، ولا اسم يكون ثالثاً لله، لا فى المعانى، ولا فى الألفاظ وذلك هو التوحيد الخالص. رسالة كل الرسل والأنبياء.
والخلاصة:
أن فى الآية أسلوب الإيجاز البليغ لأن معناها الذى لم يهتدوا إليه هو: " والله أحق أن يُرضوه ورسوله أحق أن يرضوه " فحُذف " أحق أن يرضوه " من الأول، لدلالة الثانى " ورسوله أحق أن يرضوه " عليه.
وهذا فن بلاغى يطلقون عليه: " الاحتباك " وهو نوعان:
الأول: أن يحذف كلام من جملة أولى ويذكر ما يدل عليه فى جملة ثانية جاءت بعدها مباشرة. مثل الآية التى اتخذوها منشأ لهذه الشبهة.
والثانى: أن يحذف من جملة ثانية كلام يدل عليه ما ذكر فى الجملة التى قبلها، ومثاله قوله تعالى:(ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً..)(5) .
والمعنى: والنهار مبصراً ليسعوا فيه، فحذف لأن " ليسكنوا " دليل قوى عليه.
وقد تلحظ حذفاً من الأول ـ كذلك ـ لدلالة الثانى عليه، وهو: مظلماً، أى جعلنا الليل مظلماً، وحذف لأن ما فى الثانى، وهو " مبصراً " دليلاً عليه.
(1) التوبة: 62.
(2)
سورة ص: 27.
(3)
التوبة: 3.
(4)
سورة: 59.
(5)
النمل: 86.
33- الإتيان بالجمع مكان المثنى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين)(1) .
والشاهد فى الآية عندهم هو " قلوبكما " حيث جاء المضاف (قلوب) جمعا، والمضاف إليه " كما " مثنى. والمتحدث عنه فى قوله تعالى:" تتوبا " مثنى كذلك. وقد علقوا على هذا فقالوا: " لماذا لم يقل: قلباكما " لأنه ليس للاثنين أكثر من قلبين "؟!
الرد على الشبهة:
العرب كانوا يستثقلون اجتماع تثنيين فى كلمة واحدة، فيعدلون عن التثنية إلى الجمع، لأن أول الجمع عندهم الاثنان.
ومما قاله أئمة اللغة والنحو فى جمع " قلوب " فى الآية قولهم:
و" قلوبكما " من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى، استثقالاً لمجئ تثنتين لوقيل " قلباكما "(2) .
ومثل هذه الآية قوله تعالى:
(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)(3) .
فقد أوقع الجمع " أيدى " موقع المثنى: يدى. جرياً على سُنة العرب فى كلامهم، والقرآن بلغتهم نزل ولا يُفهم من هذا أن الجمع حل محل التثنية لإصلاح اللفظ فحسب، وإن كان إصلاح اللفظ وإحلال الخفيف منه محل الثقيل سببًا مقبولاً كافيًا فى توجيه هذا الاستعمال بيد أننا لو أنعمنا النظر، وأعملنا الفكر لظفرنا بمعانٍ أخرى غير إصلاح اللفظ، هذه المعانى يومئ إليها برفق مجىء الجمع فىمقام التثنية. وسيأتى البيان بعد قليل.
والخلاصة (4) :
اتضح لنا مما تقدم أن قوله تعالى " قلوبكما " من أفصح الكلام، وليس صحيحاً فحسب، ولكن ضآلة حظ مثيرى هذه الشبهات من اللغة العربية، هى التى جعلتهم يهرفون بما لا يعرفون، ويتعالمون وهم أميون.
أما ما يعود على المعنى من وضع الجمع موضع التثنية فوق إصلاح اللفظ كما تقدم، فبيانه فيما يأتى:
ولنبدأ بآية المائدة، نجد أن لجمع الأيدى دلالة على الجمع فعلاً، وذلك من جهتين:
الأولى: أن المراد من " السارق " و " السارقة " ليس فردين، بل نوعين:
* الذى يسرق من الرجال، سواء كان واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو ألف وهكذا؛ لأن المراد النوع لا الفرد.
* التى تسرق من النساء، لا على سبيل الفردية (امرأة) واحدة ولكن كل من ينطبق عليها وصف السرقة. فالسارقون لا يحصرون فى عدد معين، من عصر نزول القرآن إلى يوم القيامة.
والسارقات لا يحصرن فى عدد محدد، بل هن جمع لا يعلمه إلا الله.
فأنت ترى أن اللفظ فى " السارق " و " السارقة " وإن كان مفرداً، فهو من حيث المعنى جمع لا حصر له فى النوعين معاً: الذكور والإناث.
الجهة الثانية: إن السارق أو السارقة قد تتكرر منهما السرقة، فيقام عليهما الحد مرة أخرى بقدر مرات السرقة.
وعلى كلا الوضعين (الجهة الأولى والجهة الثانية) تكون كلمة: " أيدى " جمعا. مضافة إلى الضمير " هما " فيها دلالة ملحوظة على الجمع كما رأيت. وهذا ما لا يهتدى إليه أمثال مثيرى هذه الشبهات.
أما آية " التحريم " فقد فسرها العلماء تفسيرين:
أحدهما: أن " صغت " بمعنى: زاغت وأثمت، وهذا تفسير ابن عباس رضى الله عنه (5) .
وعلى هذا يكون مجىء القلبين جمعاً فيه تهويل وتفظيع لما حدث من زوجتى النبى صلى الله عليه وسلم، من إفشاء سره عليه السلام، لأن فى ذلك ما يؤذيه صلى الله عليه وسلم (6) .
أما التفسير الثانى فهو قريب من الأول، وهو:" إن صغت " بمعنى زاغت أى مالت عن الحق والصواب (7) وتوجيهه توجيه التفسير الأول.
وفى الآيتين معنى لطيف غاية فى الطرافة والروعة والإعجاز وهو مراعاة اللفظ والمعنى معاً.
مراعاة اللفظ فى تثنية المضاف إليه، وهو " هما " فى " أيديهما " و"كما" فى " قلوبكما ".
ثم مراعاة المعنى فى جمع الأيدى والقلوب.
فتثنية الضمير المضاف إليه فيهما جاءت حملاً على اللفظ فى: "السارق والسارقة ".
وجمع الأيدى والقلوب جاء حملاً على المعنى المفهوم من إيحاءات المقام على وجه الحقيقة فى جمع الأيدى.
والمفهوم من المقام على وجه التنزيل التهويلى فى جمع القلوب.
أجل: إن القرآن لا تنتهى عجائبه، ولا تجف ينابيعه، لأنه تنزيل من حكيم حميد.
(1) التحريم: 4.
(2)
الدر المصون (10/366) .
(3)
المائدة: 38.
(4)
انظر: المصدر نفسه (4/262) .
(5)
فتح القدير للإمام الشوكانى (5/301) .
(6)
انظر: القصة بتمامها فى كتاب من كتب التفسير: تفسير سورة " التحريم "؛ وليكن السابق ـ مثلاً.
(7)
الدر المصون (10/265) .
34- نصبُ المضاف إليه
!
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراءَ مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور)(1) .
وشاهدهم فى هذه الآية هى كلمة " ضراءَ " وهى مضاف إليه، والمضاف هو كلمة " بعد " وقد رأوا فتحة بعد " الراء " فوق الهمزة من كلمة " ضراءَ " فأملى عليهم جهلهم أن القرآن أخطأ فنصب المضاف، وهو من حقه أن يُجر؟!
ثم قالوا: (وكان يجب أن يجر المضاف إليه فيقول: " بَعْدَ ضراءِ ") .
الرد على الشبهة:
المضاف إليه فى الآية " ضراءَ " مجرور لا منصوب، وهو ممنوع من الصرف، والمانع له من الصرف ألف التأنيث الممدودة. وتلاميذ الإعدادى يعرفون أن الممنوع من الصرف يُجر بالفتحة نيابة عن الكسرة. ولذلك وضعت الفتحة فوق الهمزة بعد الراء. فهذه الفتحة علامة جر لا علامة نصب. والممنوع من الصرف لا يجر بالفتحة إلا فى حالتين:
أن يكون مضافاً، أو معرفاً بالألف واللام.
و" ضراء " فى الآية ليست مضافاً، ولا معرفة بالألف واللام. وفى جر الممنوع من الصرف يقول ابن مالك:
وجر بالفتحة ما لا ينصرف
ما لم يضف أو يك بعد أل ردف
(1) هود: 10.
35- هل تناقض القرآن فى مادة خلق الإنسان
؟
يعطى القرآن معلومات مختلفة عن خلق الإنسان.. من ماء مهين (المرسلات: 20) من ماء (الأنبياء: 30) .. من نطفة (يس: 77) .. من طين (السجدة: 7) .. من علق (العلق: 2) .. من حمأ مسنون (الحجر: 26) .. ولم يك شيئًا (مريم: 67) .
فكيف يكون كل ذلك صحيحًا فى نفس الوقت؟ (انتهى) .
الرد على الشبهة:
ليس هناك أدنى تناقض بل ولا حتى شبهة تناقض بين ما جاء فى القرآن الكريم من معلومات عن خلق الإنسان.. وحتى يتضح ذلك، يلزم أن يكون هناك منهج علمى فى رؤية هذه المعلومات، التى جاءت فى عديد من آيات القرآن الكريم.. وهذا المنهج العلمى يستلزم جمع هذه الآيات.. والنظر إليها فى تكاملها.. مع التمييز بين مرحلة خلق الله للإنسان الأول آدم عليه السلام ومرحلة الخلق لسلالة آدم، التى توالت وتكاثرت بعد خلق حواء، واقترانها بآدم، وحدوث التناسل عن طريق هذا الاقتران والزواج..
* لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان الأول ـ آدم ـ فأوجده بعد أن لم يكن موجودًا.. أى أنه قد أصبح " شيئًا " بعد أن لم يكن " شيئًا " موجودًا.
وإنما كان وجوده فقط فى العلم الإلهى.. وهذا هو معنى الآية الكريمة (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئًا)(1) .
* أما مراحل خلق الله سبحانه وتعالى لآدم.. فلقد بدأت بـ[التراب] الذى أضيف إليه [الماء] فصار [طينًا] ثم تحول هذا الطين إلى [حمأ] أى أسود منتنًا، لأنه تغير والمتغير هو [المسنون] .. فلما يبس هذا الطين من غير أن تمسه النار سمى [صلصالاً] لأن الصلصال هو الطين اليابس من غير أن تمسه نار، وسمى صلصالاً لأنه يصلّ، أى يُصوِّت، من يبسه أى له صوت ورنين.
وبعد مراحل الخلق هذه ـ التراب.. فالماء.. فالطين.. فالحمأ المسنون.. فالصلصال ـ نفخ الله سبحانه وتعالى فى " مادة " الخلق هذه من روحه، فغدا هذا المخلوق " إنسانًا " هو آدم عليه السلام.
* وعن هذه المراحل تعبر الآيات القرآنية، فتصور تكامل المراحل ـ وليس التعارض المتوهم والموهوم ـ فتقول هذه الآية الكريمة:(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)(2) . فبالتراب كانت البداية (الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)(3) . وذلك عندما أضيف الماء إلى التراب (فاستفتهم أهم أشد خلقًا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب)(4) وذلك عندما زالت قوة الماء عن الطين، فأصبح " لازبًا " أى جامدًا.
* وفى مرحلة تغير الطين، واسوداد لونه، ونتن رائحته، سمى [حمأً مسنونًا]، لأن الحمأ هو الطين الأسود المنتن.. والمسنون هو المتغير.. بينما الذى (لم يَتَسَنَّه) هو الذى لم يتغير.. وعن هذه المرحلة عبرت الآيات:(ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين)(5) .
تلك هى مراحل خلق الإنسان الأول، توالت فيها وتتابعت وتكاملت معانى المصطلحات: التراب.. والماء.. والطين.. والحمأ المسنون.. والصلصال.. دونما أية شبهة للتعارض أو التناقض.
* وكذلك الحال والمنهاج مع المصطلحات التى وردت بالآيات القرآنية التى تحدثت عن خلق سلالة آدم عليه السلام.
فكما تدرج خلق الإنسان الأول آدم من التراب إلى الطين.. إلى الحمأ المسنون.. إلى الصلصال.. حتى نفخ الله فيه من روحه.. كذلك تدرج خلق السلالة والذرية بدءاً من [النطفة]ـ التى هى الماء الصافى ـ ويُعَبَّرُ بها عن ماء الرجل [المنىّ] .. إلى [العَلَقَة] التى هى الدم الجامد، الذى يكون منه الولد، لأنه يعلق ويتعلق بجدار الرحم إلى [المضغة] وهى قطعة اللحم التى لم تنضج، والمماثلة لما يمضغ بالفم.. إلى [العظام] .. إلى [اللحم] الذى يكسو العظام.. إلى [الخلق الآخر] الذى أصبح بقدرة الله فى أحسن تقويم (6) .
ومن الآيات التى تحدثت عن توالى وتكامل هذه المراحل فى خلق وتكوين نسل الإنسان الأول وسلالته، قول الله سبحانه وتعالى:(يا أيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا)(7) .
وقوله سبحانه: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر * فتبارك الله أحسن الخالقين)(8) .
* وإذا كانت [النطفة] هى ماء الرجل.. فإنها عندما تختلط بماء المرأة، توصف بأنها [أمشاج]ـ أى مختلطة ـ كما جاء فى قوله تعالى:(إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا)(9) .
* كما توصف هذه [النطفة] بأنها [ماء مهين] لقلته وضعفه.. وإلى ذلك تشير الآيات الكريمة: (الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)(10) . (ألم نخلقكم من ماء مهين * فجعلناه فى قرار مكين * إلى قَدَرٍ معلوم * فقدرنا فنعم القادرون)(11) .
* وكذلك، وصفت [النطفة]ـ أى ماء الرجل ـ بأنه [دافق] لتدفقه واندفاعه.. كما جاء فى الآية الكريمة (فلينظر الإنسان مِمَّ خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب)(12) .
هكذا عبر القرآن الكريم عن مراحل الخلق.. خلق الإنسان الأول.. وخلق سلالات وذريات هذا الإنسان..
وهكذا قامت مراحل الخلق، ومصطلحات هذه المراحل، شواهد على الإعجاز العلمى للقرآن الكريم. عندما جاء العلم الحديث ليصدق على هذه المراحل ومصطلحاتها، حتى لقد انبهر بذلك علماء عظام فاهتدوا إلى الإسلام.
فكيف يجوز ـ بعد ذلك ومعه ـ أن يتحدث إنسان عن وجود تناقضات بين هذه المصطلحات.. لقد صدق الله العظيم إذ يقول: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا)(13) .
(1) مريم: 67.
(2)
آل عمران: 59.
(3)
السجدة: 7.
(4)
الصافات: 11.
(5)
الحجر: 26ـ35. انظر معانى المصطلحات الواردة فى هذه الآيات فى: الراغب الأصفهانى أبو القاسم الحسين بن محمد [المفردات فى غريب القرآن] طبعة دار التحرير ـ القاهرة ـ سنة 1991م و [لسان العرب]ـ لابن منظور ـ طبعة دار المعارف ـ القاهرة.
(6)
انظر فى معانى هذه المصطلحات [المفردات فى غريب القرآن]ـ مصدر سابق ـ.
(7)
الحج: 5.
(8)
المؤمنون: 12ـ14.
(9)
الإنسان: 2.
(10)
السجدة: 7ـ8.
(11)
المرسلات: 20ـ23.
(12)
الطارق: 5ـ7.
(13)
النساء: 82.
36- حول موقف القرآن من الشرك بالله
يوضح القرآن أن الله لا يغفر أن يشرك به (سورة النساء آية: 48) . ومع ذلك فقد غفر الله لإبراهيم عليه السلام بل جعله نبيّا رغم أنه عبد النجوم والشمس والقمر (الأنعام: 76ـ78) . فما الإجابة؟ (انتهى) .
الرد على الشبهة:
الشرك محبط للعمل: (قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)(1)(إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا)(2) .
والأنبياء والرسل هم صفوة الله من خلقه، يصطفيهم ويستخلصهم، ويصنعهم على عينه، وينزههم حتى قبل البعثة لهم والوحى إليهم عن الأمور التى تخل بجدارتهم للنبوة والرسالة.. ومن ذلك الشرك، الذى لو حدث منهم واقترفوه لكان مبررًا لغيرهم أن يقترفه ويقع فيه.. ولذلك، لم يرد فى القرآن الكريم ما يقطع بشرك أحد من الأنبياء والرسل قبل بعثته.. بمن فى ذلك أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام.
أما الآيات التى يشير إليها السؤال.. وهى قول الله سبحانه وتعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصنامًا آلهة إنى أراك وقومك فى ضلال مبين * وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغًا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إنى برئ مما تشركون * إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين * وحاجّه قومه قال أتحاجّونى فى الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئًا وسع ربى كل شىء علمًا أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم)(3) .
أما هذه الآيات، فليس فيها دليل على أن إبراهيم عليه السلام قد مر بمرحلة شرك، وحاشا لله أن يقع فى ذلك، وإنما هى تحكى كيف آتى الله إبراهيم الحجة على قومه.. حجة التوحيد، ودحض الشرك.. فهى حجاج وحوار يسلم فيه إبراهيم جدلاً ـ كشأن الحوار ـ بما يشركون، لينقض هذا الشرك، ويقيم الحجة على تهاوى ما به يحتجون، وعلى صدق التوحيد المركوز فى فطرته.. ليخلص من هذا الحوار والحجاج والاحتجاج إلى أن الخيار الوحيد المتبقى ـ بعد هذه الخيارات التى سقطت ـ هو التوحيد..
فهو حوار التدرج من توحيد الفطرة إلى التوحيد القائم على المنطق والبرهان والاستدلال، الذى فند دعاوى وحجج الخصوم.. والاستدلال اليقينى (وليكون من الموقنين (وليس فيه انتقال من الشرك إلى التوحيد.
تلك هى الحقيقة التى رجحها المفسرون.
* فالقرطبى، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى [671هـ 1273م] يقول فى تفسيره [الجامع لأحكام القرآن]ـ مورد الآراء المختلفة حول هذا الموضوع:
قوله تعالى: (هذا ربى (اختلف فى معناه على أقوال، فقيل: كان هذا منه فى مُهلة النظر وحال الطفوليّة وقبل قيام الحجة، وفى تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان.
وقال قوم: هذا لا يصح، وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتى عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحِّد وبه عارف، ومن كل معبود سواه برئ. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وأتاه رشده من قبلُ، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز أن يوصف بالخلو من المعرفة، بل عرف الرب أول النظر.. وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال:(واجنبنى وبنىّ أن نعبد الأصنام)(4) وقال عز وجل: (إذ جاء ربه بقلب سليم)(5) أى لم يشرك قط.. لقد قال: (هذا ربى (على قول قومه، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر. ونظير هذا قوله تعالى: (أين شركائى)(6) . وهو جل وعلا واحد لا شريك له، والمعنى: أين شركائى على قولكم..
وقيل: إنما قال: (هذا ربى (لتقرير الحُجة على قومه، فأظهر موافقتهم، فلما أفل النجم قرّر الحُجة، وقال: ما تَغَيَّرَ لا يجوز أن يكون ربًّا، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها.
ومن أحسن ما قيل فى هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال فى قوله عز وجل: (نور على نور)(7) قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه ازداد نورًا على نور، وكذلك إبراهيم عليه السلام، عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربًّا وخالقًا. فلما عرَّفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: (أتحاجونى فى الله وقد هدان (.
وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ، منكرًا لفعلهم، والمعنى: أهذا ربى، أو مثل هذا يكون ربًّا؟! فحذف الهمزة. وفى التنزيل:" (أفإن مت فهم الخالدون) (8) . أى أفهم الخالدون؟.. "(9) .
* ومع هذا الرأى أيضًا الزمخشرى، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الخوارزمى [467 ـ 538هـ 1075 ـ 1144م]، صاحب تفسير [الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل] الذى يقول فى تفسير هذه الآيات:
" وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ فى دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرِّفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إلى أن شيئًا منها لا يصح أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها مُحْدِثًا أحدثها وصانعًا صنعها ومدبرًا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها ".
(هذا ربى (: قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشَّغَب، ثم يكرُّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحُجة.
(لا أحب الآفلين (: لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال، المنتقلين من مكان إلى مكان، المحتجبين بستر، فإن ذلك من صفات الأجْرام.
(لئن لم يهدنى ربى (: تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكواكب فى الأفول فهو ضال، وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه..
(إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض (أى للذى دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدئها ومبدعها (10) .
* وعلى هذا الرأى أيضًا من المحدثين ـ الشيخ عبد الوهاب النجار [1278ـ1360هـ،1862ـ1941م]ـ صاحب [قصص الأنبياء]ـ الذى يقول: " لقد أتى إبراهيم فى الاحتجاج لدينه وتزييف دين قومه بطريقة التدرج فى الإلزام أو التدرج فى تكوين العقيدة.. "(11) .
وذلك هو موقف إبراهيم الخليل عليه السلام من الشرك.. لقد عصمه الله منه.. وإنما هى طريقة فى الجدال يتدرج بها مع قومه، من منطلقاتهم ليصل إلى هدم هذه المنطلقات، وإلى إقامة الدليل العقلى على عقيدة التوحيد الفطرية المركوزة فى القلوب.
(1) الزمر: 64ـ66.
(2)
النساء: 48.
(3)
الأنعام: 74ـ83.
(4)
إبراهيم: 35.
(5)
الصافات: 84.
(6)
القصص: 74.
(7)
النور: 35.
(8)
الأنبياء: 34.
(9)
[الجامع لأحكام القرآن] ج7 ص 25، 26، طبعة دار الكاتب العربى للطباعة والنشر ـ القاهرة 1387هـ 1967م.
(10)
[الكشاف] ج2 ص 30، 31 طبعة دار الفكر ـ بيروت ـ بدون تاريخ ـ وهى طبعة مصورة عن طبعة طهران " انتشارات أفتاب ـ تهران " وهى الأخرى بدون تاريخ للطبع.
(11)
[قصص الأنبياء] ص 80 طبعة دار إحياء التراث العربى ـ بيروت ـ لبنان ـ بدون تاريخ للطبع.
37- حول عصيان إبليس وهو من الملائكة الذين لا يعصون الله
يؤكد القرآن أنه لا يمكن للملائكة أن تعصى الله [التحريم: 6] ومع ذلك فقد عصى إبليس الذى كان من الملائكة، كما فى الآية [البقرة: 34] فأيهما صحيح؟. (انتهى) .
الرد على الشبهة:
الملائكة مخلوقات مجبولة على طاعة الله وعبادته والتسبيح له وبه.. فهم لا يعصون الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)(1) .
ومع تقرير هذه الآية أن هؤلاء الملائكة القائمين على النار [لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون] يقرر القرآن الكريم أن إبليس ـ وهو من الملائكة ـ فى قمة العصيان والعصاة: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)(2) .
وهناك إمكانية للجمع بين معانى الآيتين، وذلك بأن نقول: إن عموم الملائكة لا يعصون الله سبحانه وتعالى فهم مفطورون ومجبولون على الطاعة.. لكن هذا لا ينفى وجود صنف هم الجن ـ ومنهم إبليس، شملهم القرآن تحت اسم الملائكة ـ كما وصف الملائكة أيضًا بأنهم جِنَّة ـ لخفائهم واستتارهم ـ وهذا الصنف من الجن، منهم الطائعون ومنهم العصاة..
وفى تفسير الإمام محمد عبده [1265 ـ 1323هـ،1849 ـ 1905م] لآية [لبقرة: 34] يقول:
" أى سجدوا إلا إبليس، وهو فرد من أفراد الملائكة، كما يفهم من الآية وأمثالها فى القصة، إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن.. وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلاً جوهريًا يميز أحدهما عن الآخر، وإنما هو اختلاف أصناف، عندما تختلف أوصاف. فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة. وقد أطلق القرآن لفظ الجنَّة على الملائكة، على رأى جمهور المفسرين فى قوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) (3) . وعلى الشياطين فى آخر سورة الناس "(4) .
ونحن نجد هذا الرأى أيضًا عند القرطبى ـ فى تفسيره [الجامع لأحكام القرآن] فيقول:
" وقال سعيد بن جبير: إن الجن سِبْط من الملائكة، خلقوا من نار، وإبليس منهم، وخُلق سائر الملائكة من نور.. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها. وفى التنزيل:(وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا)(5) وقال الشاعر أعشى قيس ـ فى ذكر سليمان عليه السلام:
وسَخَّر من جنّ الملائكة تسعة قيامًا لديه يعملون بلا أجر (6) .
فلا تناقض إذًا بين كون الملائكة لا يعصون الله.. وبين عصيان إبليس.. وهو من الجن، الذين أطلق عليهم اسم الملائكة ـ فهو مثله كمثل الجن هؤلاء منهم الطائعون ومنهم العصاة.
(1) التحريم: 6.
(2)
البقرة: 34.
(3)
الصافات: 158.
(4)
[الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده] ج4 ص 133، دراسة وتحقيق. د. محمد عمارة، طبعة دار الشروق. القاهرة 1414هـ 1993م.
(5)
الصافات: 158.
(6)
[الجامع لأحكام القرآن] ج1 ص294، 295 مصدر سابق.
38- حول عصيان البشر: مع أنهم من المخلوقات الطائعة القانتة لله
كل المخلوقات فى السموات والأرض طائعة وقانتة لله تعالى [الروم: 26] ومع ذلك نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر مثلاً: [الحاقة: 10] . (انتهى) .
الرد على الشبهة:
كل المخلوقات فى السموات والأرض، طائعة وقانتة لله سبحانه وتعالى (وله من فى السموات والأرض كل له قانتون)(1) .
فهم قانتون لله، أى خاضعون ومطيعون لإرادته سبحانه وتعالى ومع ذلك يشهد الواقع، وتحكى الآيات القرآنية الكثير من حالات العصيان وعدم الطاعة من جانب البشر وذلك من مثل قوله سبحانه:(وجاء فرعون ومن قَبْلَه والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية)(2) .
ففى هذه الآية وحدها إشارات إلى عصيان فرعون.. وعصيان من سبقه من المؤتفكات ـ أى قُرى قوم لوط ـ الذين أخذهم الله أخذة رابية، أى زائدة فى الشدة على غيرها.
بل إن تاريخ الإنسان هو صراع بين أهل العصيان.. حتى أن المأثور النبوى الشريف قد تحدث عن أن كل بنى آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
فكيف يتسق شيوع العصيان فى البشر، مع الآية القرآنية التى تحدثت عن أن كل من فى السموات والأرض قانتون ـ أى خاضعون ومطيعون ـ لله سبحانه وتعالى؟..
إن مفتاح الإجابة عن هذا التساؤل، هو فهم أنواع الإرادة الإلهية والقضاء الإلهى.. فالله سبحانه لا يريد العصيان، ولا يقضى بالشر.. لكن إرادته وقضاءه نوعان:
1 ـ إرادة وقضاء تكوينى وحتمى للمخلوقات غير المُخَيَّرة.. وذلك مثل القضاء الذى تتحدث عنه الآية: (فقضاهن سبع سموات فى يومين وأوحى فى كل سماء أمرها)(3) .
(وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون)(4) .
ففى هذا اللون من الأمر الإلهى والقضاء الربانى تكون المخلوقات غير المختارة مجبولة على القنوت والطاعة والخضوع لله سبحانه وتعالى..
2 ـ إرادة وقضاء معهما تخيير..وذلك خاص بالإنسان المُخَيَّر..المكلف.. المسئول والذى له ـ بسبب هذا التخيير والحرية ـ حساب وجزاء.
وإلى مثل هذا تشير الآيتان: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا)(5) .
فنحن هنا أمام قضاء إلهى، شاء الله سبحانه وتعالى أن يترك للإنسان المخير إزاءه حرية الطاعة والعصيان ليتميز الخبيث من الطيب، وليكون الجزاء وفق العمل والإرادة والاختيار.. فالإنسان المُخَيَّر، الذى هداه الله النجدين، له قدرات واستطاعات الطاعة والعصيان.. ولذلك كان من جنس الإنسان المؤمن والكافر، والمطيع والعاصى ومن يبتغى وجه الله ومن يبتغى غير دين الله.. بينما المخلوقات غير المختارة مجبولة على الطاعة والخضوع (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من فى السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون)(6)، وقوله تعالى:(ولله يسجد من فى السموات والأرض طوعًا وكرهًا)(7)، وقوله سبحانه وتعالى:(ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين)(8) .
ففى مخلوقات الله مخلوقات مجبولة على الطاعة والخضوع.. وفى هذه المخلوقات مخيرون، منهم من يطيع ومنهم من يختار العصيان، فيبتغى غير دين الله!.
(1) الروم: 26.
(2)
الحاقة: 9 ـ 10.
(3)
فصلت: 12.
(4)
البقرة: 117.
(5)
الإسراء: 23ـ24.
(6)
آل عمران: 83.
(7)
الرعد: 15.
(8)
فصلت: 11.
39- حول مدة خلق السموات والأرض
توضح كثير من سور القرآن أن السموات والأرض قد خلقت فى ستة أيام. وهنا مشكلتان:
الأولى: أنه من الثابت علميًا أن خلق السموات والأرض قد استغرق بلايين السنين.
الثانية: أنه فى التعبير القرآنى نفسه كانت مدة الخلق ثمانية أيام بدلاً من ستة [فصلت: 9ـ12] .
فكيف يمكن التوفيق بين هذه الآيات؟. (انتهى) .
الرد على الشبهة:
فى كثير من السور القرآنية تتحدث آيات كثيرة عن خلق الله سبحانه وتعالى السموات والأرض وتقدير ما فيهما فى ستة أيام.. ومن هذه الآيات:
(إن ربكم الله الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام)(1) .
(وهو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام)(2) .
(الذى خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام)(3) .
(الله الذى خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام)(4) .
(ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام)(5) .
(هو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام)(6) .
* وليس هناك تعارض بين تحديد زمن الخلق للسموات والأرض فى ستة أيام، وبين ما يراه العلم من استغراق ذلك الخلق بلايين السنين، ذلك أن المدى الزمنى " لليوم " عند الله، سبحانه وتعالى ليس هو المدى الزمنى " لليوم " فى العرف والتقويم الذى تعارف عليه الإنسان فى هذه الحياة الدنيا. وفى القرآن الكريم آيات شاهدة على ذلك منها:
(أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شىء قدير)(7) .
فبعض اليوم، فى حساب الإنسان ـ هنا ـ بلغ مائة عام.. أى قرابة 37000 يوم! وكذلك الحال فى قصة أهل الكهف.. فما حسبوه يومًا أو بعض يوم قد بلغ ثلاثمائة عام بالتقويم الشمسى وثلثمائة وتسعة أعوام بالتقويم القمرى.. (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم)(8) ، (ولبثوا فى كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعًا * قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا)(9) .
* وكذلك الحال يوم ينفخ فى الصور ـ يوم البعث ـ يحسب بعض المجرمين أن مكثهم فى الدنيا لم يتجاوز عشر ليالٍ.. بينما يحسب آخرون منهم أن مكثهم لم يتعد اليوم الواحد: (يوم ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يوميئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما)(10) .
* أما عند الله، سبحانه وتعالى فإن لمصطلح " اليوم " مدى لا يعلم حقيقة طوله وأمده إلا هو:(ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون)(11) .
والآية لا تحدده بألف سنة مما نعد نحن فى تقويمنا.. وإنما تستخدم أداة التشبيه ـ الكاف ـ (كأَلْف) ليظل المدى غير معلوم لنا فى هذه الحياة.. وغير ممكن التحديد بوحداتنا نحن فى القياس الزمنى.
فيوم الدين ـ الجزاء ـ.. وأيام الله.. والأيام الستة التى خلق الله فيها السموات والأرض.. مداها ـ بمقاييس أيامنا نحن ـ لا يعلمها إلا الله، سبحانه وتعالى..
* ثم إن ما اكتشفه العلم من سرعات للصوت.. وسرعات للضوء.. وزمن للضوء ـ سنة ضوئية ـ يجعل تفاوت واختلاف المفاهيم والمقاييس لمصطلح " اليوم " أمرًا مقررًا ومألوفًا.
هذا عن المشكلة الأولى من مشكلتى السؤال..
أما المشكلة الثانية ـ من مشكلتى السؤال ـ والخاصة بحديث بعض الآيات القرآنية عن أن الخلق للسموات والأرض قد يفهم على أنه قد استغرق ثمانية أيام، وليس ستة أيام.. وهى آيام سورة فصلت:(قل أئنكم لتكفرون بالذى خلق الأرض فى يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها فى أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات فى يومين وأوحى فى كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم)(12) .
هذه " المشكلة " لا وجود لها!.. فليس هناك تناقض ولا تفاوت بين المدة الزمنية التى جاءت فى هذه الآيات وبين الآيات الأخرى التى ورد فيها تحديد الأيام الستة..
ففى هذه الآيات ـ من سورة فصلت ـ نجد أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا بأنه: (خلق الأرض فى يومين (.
ثم (جعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها (فى تمام (أربعة أيام (.. أى فى يومين آخرين يضافان إلى اليومين اللذين خلق فيهما الأرض، فيكون المجموع أربعة أيام.. وليس واردًا أن يكون خلق الرواسى وتقدير الأقوات قد استغرق أربعة أيام..
ولعل الشبهة ـ التى جاءت فى السؤال ـ قد أتت من هنا.. أى من توهم إضافة أربعة إلى اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض، فيكون المجموع ستة.. وإذا أضيف إليها اليومان اللذان خلقت فيهما السماء (فقضاهن سبع سموات فى يومين (يكون المجموع ثمانية أيام، وليس ستة أيام.. لكن إزالة هذه الشبهة متحققة بإزالة هذا الوهم.. فالأرض خلقت فى يومين.. وخلق الرواسى وتقدير الأقوات قد استغرق ما تمم اليومين أربعة أيام.. أى استغرق هو الآخر يومين.. ثم استغرق خلق السموات السبع يومين.. فكان المجموع ستة أيام من أيام الله، سبحانه وتعالى..
ولقد نبه المفسرون على هذه الحقيقة ـ المزيلة لهذا الوهم ـ فقال القرطبى: " (فى أربعة أيام (. ومثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد فى عشرة أيام وإلى الكوفة فى خمسة عشر يومًا، أى فى تتمة خمسة عشر يومًا "(13) .
وقال الزمخشرى:
" (فى أربعة أيام (فذلكة (14) لمدة خلق الله الأرض وما فيها، كأنه قال: كل ذلك فى أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.. وقال الزجاج: فى تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين "(15) .
فهذه الآيات ـ من سورة فصلت ـ تؤكد هى الأخرى ـ على أن خلق السموات والأرض إنما تم فى ستة أيام.. ومن ثم فلا تناقض بين آيات القرآن ولا تفاوت فى مدة الخلق الإلهى للسموات والأرض.. وحاشا أن يكون شىء من ذلك فى الذكر الحكيم.
(1) الأعراف: 54، يونس:3.
(2)
هود: 7.
(3)
الفرقان: 59.
(4)
السجدة: 4.
(5)
ق: 38.
(6)
الحديد: 4.
(7)
البقرة: 259.
(8)
الكهف: 19.
(9)
الكهف: 25ـ26.
(10)
طه: 102ـ104.
(11)
الحج: 47.
(12)
فصلت: 9ـ12.
(13)
[الجامع لأحكام القرآن] ج15 ص 343 ـ مصدر سابق.
(14)
الفذلكة: جملة ما فصل وخلاصته.
(15)
[الكشاف] ج3 ص 444 ـ مصدر سابق.
40- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس فى أسماء بعض الشخصيات التاريخية
يعطى القرآن أسماء لبعض الشخصيات التاريخية مخالفة لأسمائهم حسب الكتاب المقدس الذى سبق القرآن بعدة قرون. فمثلاً والد إبراهيم عليه السلام كان اسمهم Teral أو " تارح "، ومع ذلك يسميه القرآن آزر. واسم الذى كان يوسف عليه السلام فى بيته Potiphar أما الاسم المعطى له فى القرآن فهو " عزيز " [يوسف: 30] . (انتهى) .
الرد على الشبهة:
أولاً: لا يصح أن نجعل من الكتاب المقدس حجة على القرآن ومرجعية له.. لأن الثابت ـ حتى فى الدراسات التى قام بها كثير من علماء اليهود والنصارى أن هذا الكتاب المقدس قد أعيدت كتابته، وأصابه التحريف.. كما أن ترجماته قد أدخلت عليه تغييرات وتصحيفات وخاصة فى أسماء الأماكن والأشخاص..
وثانيًا: لأن القرآن قد تمتع بمستوى من الحفظ والتوثيق والتواتر فى النقل جعله الوحى الوحيد الصحيح على ظهر هذا الكوكب الذى نعيش عليه.. فهو الحاكم والمرجع لكل ما عداه من النصوص الدينية الأخرى..
وفى هذا الإطار.. ومن هذا المنطلق نناقش الشبهات التى يثيرها هذا السؤال.. فنقول:
* بالنسبة لاسم والد الخليل إبراهيم عليه السلام لا تختلف معظم المصادر الإسلامية ـ سواء منها تفاسير القرآن، أو قصص الأنبياء على أن " آزر " ليس اسم والد إبراهيم.. وعلى أن اسمه " تارح " ومن العلماء من يرى أن " آزر " اسم صنم، وأن الآية خطاب استنكارى لعبادة والد إبراهيم لهذا الصنم، تقدم المفعول فى هذا الخطاب.. والمعنى أتتخذ آزر إلها ومعبودًا؟..
ومن العلماء من يرى أن " آزر " لقب أطلق على " تارح " بعد أن عمل فى حاشية الملك الذى كان حاكمًا فى ذلك التاريخ..
ونحن نقرأ ـ حول هذه القضية ـ فى تفسير القرطبى:
" قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) تكلَّم العلماء فى هذا، فقال أبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الجوينى الشافعى الأشعرى فى النكت من التفسير له: وليس بين الناس اختلاف فى أن اسم والد إبراهيم تارح. والذى فى القرآن يدل على أن اسمه آزر.. وقيل: آزر اسم صنم كأنه قال: وإذا قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصنامًا آلهة..
قلتُ ـ[أى القرطبى] ما ادعاه من الاتفاق ليس عليه وفاق. فقد قال محمد بن إسحاق والكلبى والضحاك: إن آزر أبو إبراهيم عليه السلام وهو تارح، مثل إسرائيل ويعقوب. قلتُ: فيكون له اسمان. وقال مقاتل: آزر لقب، وتارح اسم. وحكاه الثعلبى عن ابن إسحاق القشيرى. ويجوز أن يكون العكس.. وقال الجوهرى: آزر اسم أعجمى، وهو مشتق من آزر فلان فلانًا إذا عاونه، فهو مؤازرٌ قومه على عبادة الأصنام.. وقال مجاهد ويمانٍ: آزر اسم صنم، أى أتتخذ آزر إلها. أتتخذ أصنامًا.. وقال الثعلبى فى كتاب العرائس: إن اسم أبى إبراهيم الذى سماه به أبوه تارح، فلما صار
مع النمرود قيِّمًا على خزانة آلهته سماه آزر. وقال مجاهد إن آزر ليسباسم أبيه وإنما هو اسم صنم، وهو إبراهيم ابن تارح بن ناخور بن ساروع ابن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام " (1) .
ونفس التفسيرات الموضحة لهذه الشبهة نجدها فى [قصص الأنبياء] :
" قال السيد المرتضى الزبيدى ـ فى " ص 12 ج2 تاج العروس ": روى عن مجاهد فى قوله تعالى: (آزر أتتخذ أصنامًا) قال: لم يكن بأبيه، ولكن آزر اسم صنم، فموضعه نَصْبٌ على إضمار الفعل والتلاوة كأنه قال: " وإذ قال إبراهيم أتتخذ آزر إلها، أى أتتخذ أصنامًا آلهة ".
وقال الصغانى: " التقدير أتتخذ آزر إلها ".
وقد نقل شيخ العروبة المرحوم أحمد زكى باشا عبارة تاج العروس السابقة فى أول كتابه " تكملة كتاب الأصنام لابن الكلبى ".
وهذا القول الذى قاله مجاهد أولى الأقوال عندى بالقبول. وعلى ذلك يكون والد إبراهيم لم يذكر باسم العَلَمى فى القرآن الكريم. ومما يستأنس له بأن " آزر " اسم إله أننا نجد فى الآلهة القديمة عند المصريين الإله " أوزوريس " ومعناه الإله القوى المعين، وقد كانت الأمم السالفة يقلد بعضهم بعضًا فى أسماء الآلهة.. " (2) .
فليست هناك مشكلة، إذن، حول هذا الموضوع.
أما الشبهة الثانية فى هذا السؤال، والخاصة باسم الذى اشترى وآوى يوسف عليه السلام فى بيته، والذى أطلق عليه القرآن الكريم اسم " عزيز " بينما سماه الكتاب المقدس Potiphar.. فإنها لا تمثل، هى الأخرى، مشكلة من المشكلات.
ذلك أن منصب هذا الذى آوى يوسف كان " رئاسة الشرطة ".. واسمه " فوطيفار ".. ولقبه " العزيز " فلا تناقض بين أسماء التعريف به هذه.. ولقد تناولت ذلك المصادر الإسلامية.. ففى [قصص الأنبياء] :
" وكان سيده رئيس شرطة المدينة، واسمه " فوطيفار "، ويعبر عن منصبه فى العبرية بـ " سرها طباحيم "، أى رئيس الشرطة.. "(3) .
وفى تفسير القرطبى:
" قال الضحاك: هذا الذى اشتراه ملك مصر، ولقبه العزيز.. واسمه قطفير. وقال ابن إسحاق: إطفير. اشتراه لامرأته.. وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر.. وكان هذا العزيز الذى اشترى يوسف على خزائن الملك.. "(4) .
أما الخلافات والاختلافات الطفيفة فى نطق الاسم فهى واردة، بسبب النقل من لغة إلى لغة.. ومن لهجة إلى لهجة.. وبسبب النسخ للمخطوطات. والتصحيف والتحريف.. فلا مشكلة..، إذن، حول هذه الأسماء.
(1)[الجامع لأحكام القرآن] ج7 ص 22، 23 ـ مصدر سابق.
(2)
[قصص الأنبياء] ص 72 ـ مرجع سابق.
(3)
المرجع السابق ص 122.
(4)
[الجامع لأحكام القرآن] ج9 ص 158 ـ مصدر سابق ـ.
41- حول تسمية القرآن الكريم مريم " أخت هارون
" واختلافه فى ذلك مع الكتاب المقدس
يسمى القرآن والدة المسيح عليه السلام باسم " أخت هارون "[مريم: 28] ولعل محمدًا صلى الله عليه وسلم، خلط بين مريم أم المسيح، ومريم أخرى كانت أختًا لهارون الذى كان أخًا لموسى عليه السلام ومعاصرًا له، ولا يوجد مثل هذا التناقض فى الكتاب المقدس. (انتهى) .
الرد على الشبهة:
يتحدث القرآن الكريم عن مريم ـ أم المسيح عليهما السلام، باسم " أخت هارون ".. وذلك فى سورة مريم، فيقول مخاطبًا إياها فى الآية: 28: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيًّا (.. وليس لهذه التسمية ذكر فى الإنجيل.
بل الثابت ـ فى القرآن والأناجيل ـ أن مريم هى ابنة عمران (ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها)(1) .
وعمران هذا هو من نسل داود عليه السلام أى من سبط ونسل " يهوذا "، وليس من سبط ونسل " هارون " سبط " اللاويين " فكيف دعاها القرآن " أخت هارون "؟.
هذا هو التساؤل والاعتراض الذى يورده البعض شبهة على القرآن الكريم.. والحقيقة التى تفهم من السياق القرآنى، أن تسمية مريم بـ " أخت هارون "، ليست تسمية قرآنية وإنما هى حكاية لما قاله قومها لها، وما خاطبوها ونادوها به عندما حملت بعيسى عليه السلام عندما استنكروا ذلك الحمل، واتهموها فى عرضها وشرفها وعفافها.. فقالوا لها:(يا مريم لقد جئت شيئًا فريًّا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْء وما كانت أمك بغيًا)(2) .
فلماذا نسبها قومها إلى هارون؟.
يختلف المفسرون فى التعليل.. فمنهم من يقول إن هارون ـ المشار إليه ـ كان رجلاً فاسقًا، اشتهر بفسقه، فنسبها قومها إليه، إعلانًا عن إدانتهم لها.
ومن المفسرين من يقول إن هارون هذا كان رجلاً صالحًا، مشهورًا بالصلاح والعفة.. فنسبها قومها إليه سخرية منها، وتهكمًا عليها، وتعريضًا بما فعلت، واستهزاء بدعواها الصلاح والتقوى والتبتل فى العبادة بينما هى ـ فى زعمهم ـ قد حملت سفاحًا..
وقيل: إنه كان لها أخ من أبيها اسمه هارون وكان من عُبّاد وصلحاء بنى إسرائيل ـ فنسبوها إليه ـ.. واسم هارون من الأسماء الشائعة فى بنى إسرائيل (3) .
والشاهد ـ من كل ذلك ـ أن هذه التسمية لمريم بـ " أخت هارون "، ليست خبرًا قرآنيًا، وإنما هى حكاية من القرآن الكريم لما قاله قومها.. وهذه الاحتمالات التى ذكرها المفسرون، تعليلاً لهذه التسمية هى اجتهادات مستندة إلى تراث من التاريخ والقصص والمأثورات.
(1) التحريم: 12.
(2)
مريم: 27، 28.
(3)
انظر فى ذلك [قصص الأنبياء] ص 383، 384 ـ مرجع سابق ـ و [الجامع لأحكام القرآن] ج11 ص 100، 101 ـ مصدر سابق ـ. و [الكشاف] ج2 ص 508 ـ مصدر سابق ـ.
42- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس فى عصر نمرود
حسب قول القرآن والمفسرين ألقى نمرود بإبراهيم فى النار [الأنبياء: 68ـ69] وليس من المعقول أن يكون نمرود حيًّا فى زمن إبراهيم عليه السلام[الكتاب المقدس ـ سفر التكوين 8: 10، 11، 10: 22ـ25، 11: 13ـ26] . (انتهى) .
الرد على الشبهة:
فى قصص القرآن الكريم عن إبراهيم الخليل عليه السلام مشاهد عديدة.. منها معجزة نجاته من التحريق بالنار، بعد أن حطم أصنام قومه التى يعبدونها:(قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كونى بردًا وسلامًا على إبراهيم * وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين)(1) .
ويحكى القرآن محجّة إبراهيم للملك ـ فى سورة البقرة: (ألم تر إلى الذى حاجّ إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربى الذى يحيى ويميت قال أنا أحيى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين)(2) .
والقرآن الكريم لم يسم الملك الذى حاج إبراهيم فى ربه؛ لأن قصد القرآن من القصص هو مضمون المحاجّة، والعبرة منها.. واسم الملك لا يقدم ولا يؤخر فى المضمون والعِبرة. أما تسمية هذا الملك ـ الذى حاجّه إبراهيم ـ بـ " النّمروذ " والاختلاف فى نطق اسمه. ومدة ملكه.. فجميعها قصص تاريخى، أورده المفسرون.. فهو غير ملزم للقرآن الكريم (3) .. ومن ثم لا يصح أن يورد ذلك كشبهة تثار ضد القرآن.. فليس لدينا فى التاريخ الموثق والمحقق ما يثبت أو ينفى أن اسم الملك الذى حاجّ إبراهيم الخليل فى ربه هو " النّمروذ ". وإنما هو قصص تاريخى يحتاج إلى تحقيق..
ولقد راجعتُ العهد القديم، فى المواضع التى جاء ذكرها فى السؤال [سفر التكوين الإصحاح 8: 10، 11 والإصحاح 10: 22ـ25 والإصحاح 11: 13ـ26] وهى تحكى عن قبائل نوح، ومواليد ابنه سام، فلم أجد فيها ذكر الملك " النّمروذ ".
وفى [دائرة المعارف الإسلامية] التى كتبها المستشرقون ـ وقد حرر مادة " إبراهيم " فيها " ج. إيزبرغ " ـ يأتى ذكر الملك نمروذ فى قصة إبراهيم دون اعتراض.. وفى أثنائها إشارات إلى مصادر عبرية أشارت إلى النمروذ ـ منها [دلالة الحائرين ـ لموسى بن ميمون ـ الفصل 29] .. ومنها " سفر هياشار " فصل نوح..
وتأتى الإشارة إلى " نمرود " الملك فى سفر التكوين ـ بالعهد القديم ـ الإصحاح 10: 8ـ11 باعتباره " الذى ابتدأ يكون جبارًا فى الأرض "..
وبه كان يُضرب المثل فى التجبر.. " وكان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكدّ وكلنة من أرض شنغار. من تلك الأرض خرج أشور وبنى نينوى.. " إلخ.. إلخ..
وأخيرًا.. فليس هناك ما يمنع تكرار لاسم " نمروذ " لأكثر من ملك فى أكثر من عصر وتاريخ.. ويبقى أن الشبهة ـ إذًا كانت هناك شبهة ـ خاصة بالقصص التاريخى.. ولا علاقة لها بالقرآن الكريم..
(1) الأنبياء: 68ـ70.
(2)
البقرة: 258.
(3)
انظر: القرطبى [الجامع لأحكام القرآن] ج3 ص 283ـ285 ـ مصدر سابق ـ والزمخشرى [الكشاف] ج1 ص 387ـ389 ـ مصدر سابق ـ.
43- حول الإسكندر ذى القرنين
.. وهل كان عبدًا صالحًا؟ أم من عبدة الأوثان؟
يمدح القرآن الإسكندر الأكبر (ذو القرنين) كعبد صالح يؤمن بالله [الكهف: 87ـ88] . ولكن جميع مؤرخى الإغريق يجمعون على أنه كان من عبدة الأوثان. فكيف يصح ذلك؟. (انتهى) .
الرد على الشبهة:
فى القرآن الكريم ـ بسورة الكهف: 83ـ98 حكاية ذى القرنين: (ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرًا * إنا مَكّنَّا له فى الأرض وآتيناه من كل شىء سببًا)(1) إلى آخر الآيات.
وخلال هذه الآيات يتبدى عدل " ذو القرنين " فيقول: (قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يُرد إلى ربه فيعذبه عذابًا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحًا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا)(2) . تلك هى تسمية القرآن الكريم لهذا الملك " ذو القرنين ".
أما أن ذا القرنين هذا هو الإسكندر الأكبر المقدونى [356ـ324ق. م] فذلك قصص لم يخضع لتحقيق تاريخى.. بل إن المفسرين الذين أوردوا هذا القصص قد شككوا فى صدقه وصحته..
فابن إسحاق [151هـ 768م]ـ مثلاً ـ يروى عن " من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذى القرنين " أنه كان من أهل مصر، وأن اسمه " مرزبان بن مردية اليونانى ".
أما الذى سماه " الإسكندر " فهو ابن هشام [213هـ 828م]ـ الذى لخص وحفظ [السيرة]ـ لابن إسحاق ـ.. وهو يحدد أنه الإسكندر الذى بنى مدينة الإسكندرية، فنسبت إليه.
وكذلك جاءت الروايات القائلة إن " ذو القرنين " هو الإسكندر المقدونى عن " وهب بن مُنبِّه "[34ـ114هـ 654ـ732م](3) وهو مصدر لرواية الكثير من الإسرائيليات والقصص الخرافى.
ولقد شكك ابن إسحاق ـ وهو الذى تميز بوعى ملحوظ فى تدوين ونقد القصص التاريخى ـ شكك فيما روى من هذا القصص ـ الذى دار حول تسمية ذى القرنين بالإسكندر، أو غيره من الأسماء.. وشكك أيضًا فى صدق ما نسب للرسول صلى الله عليه وسلم حول هذا الموضوع.. وذلك عندما قال ابن إسحاق:" فالله أعلم أى ذلك كان؟.. أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أم لا؟ ".
ويثنى القرطبى على شك وتشكيك ابن إسحاق هذا، عندما يورده، ثم يقول:" والحق ما قال ".. أى أن الحق هو شك وتشكيك ابن إسحاق فى هذا القصص، الذى لم يخضع للتحقيق والتمحيص وإن يكن موقف ابن إسحاق هذا، وكذلك القرطبى، هو لون من التحقيق والتمحيص.
فليس هناك، إذًا ما يشهد على أن الإسكندر الأكبر المقدونى ـ الملك الوثنى ـ هو ذو القرنين، العادل، والموحد لله..
(1) الكهف: 83ـ84.
(2)
الكهف: 87ـ88.
(3)
القرطبى [الجامع لأحكام القرآن] ج11 ص 50 ـ مصدر سابق.
44- حول غروب الشمس فى عين حمئة ومخالفة ذلك للحقائق العلمية
تغرب الشمس فى عين حمئة، حسب القرآن [الكهف: 86] وهذا مخالف للعلم الثابت. فكيف يقال إن القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية الثابتة؟ (انتهى) .
الرد على الشبهة:
فى حكاية القرآن الكريم لنبأ " ذو القرنين " حديث عن أنه إبان رحلته: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قومًا..)(1) .
والعين الحمئة، هى عين الماء ذات الحمأ، أى ذات الطين الأسود المنتن.
ولما كان العلم الثابت قد قطعت حقائقه بأن الأرض كروية، وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس، فإن غروب الشمس ليس اختفاء فى عين أو غير عين، حمئة أو غير حمئة.. والسؤال: هل هناك تعارض بين حقائق هذا العلم الثابت وبين النص القرآنى؟.
ليس هناك أدنى تعارض ـ ولا حتى شبهة تعارض ـ بين النص القرآنى وبين الحقائق العلمية.. ذلك أن حديث القرآن هنا هو عن الرؤية البصرية للقوم الذين ذهب إليهم ذو القرنين، فمنتهى أفق بصرهم قد جعلهم يرون اختفاء الشمس ـ غروبها ـ فى هذه البحيرة ـ العين الحمئة ـ.. وذلك مثل من يجلس منا على شاطئ البحر عند غروب الشمس، فإن أفق بصره يجعله يرى قرص الشمس يغوص ـ رويدًا رويدًا ـ فى قلب ماء البحر.
فالحكاية هنا عما يحسبه الرائى غروبًا فى العين الحمئة، أو فى البحر المحيط.. وليست الحكاية عن إخبار القرآن بالحقيقة العلمية الخاصة بدوران الأرض حول الشمس، وعن ماذا يعنيه العلم فى مسألة الغروب.
وقد نقل القفال، أبو بكر الشاشى محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر [429ـ507هـ /1037ـ1114م] عن بعض العلماء تفسيرًا لهذه الرؤية، متسقًا مع الحقيقة العلمية، فقال:" ليس المراد أنه [أى ذو القرنين] انتهى إلى الشمس مشرقًا ومغربًا حتى وصل إلى جِرْمها ومسَّها.. فهى أعظم من أن تدخل فى عين من عيون الأرض، بل هى أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة. وإنما المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة [أى البقاع المعمورة والمأهولة] من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها فى رأى العين تغرب فى عين حمئة، كما أنا نشاهدها فى الأرض الملساء كأنها تدخل فى الأرض، ولهذا قال: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سِترا) (2) . ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسّهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم.. "(3) .
فالوصف هو لرؤية العين، وثقافة الرائى.. وليس للحقيقة العلمية الخاصة بالشمس فى علاقتها بالأرض ودورانها، وحقيقة المعنى العلمى للشروق والغروب.
فلا تناقض بين النص القرآنى وبين الثابت من حقائق العلوم..
(1) الكهف: 86.
(2)
الكهف: 90.
(3)
القرطبى [الجامع لأحكام القرآن] ج11 ص 49، 50 ـ مصدر سابق ـ.
45- حول حفظ الله للذكر وهل الذكر هو كل القرآن؟ أم بعض القرآن
؟
هناك من لا يؤمنون بأن القرآن قد حفظ، كما تقول الآية الكريمة:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، ويقولون: قد يكون الذكر جزءً امن القرآن، وليس كله. ويستدلون بكلام لعمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ بأنه أقسم على أن هناك آية فى القرآن تتحدث عن الرجم ـ وهذه الآية غير موجودة ـ وأن غنمه أكلت ورقة من القرآن كانت بيد عائشة رضى الله عنها (انتهى) .
الرد على الشبهة:
وفى الجواب عن هذه الشبهة نسأل:
لماذا بعث الله سبحانه وتعالى الرسل، وأنزل الكتب؟.
لقد كان ذلك رعاية من الله لخلقه.. ولطفًا بهم.. وحتى يكون حسابه لهم ـ كى لا يتساوى المحسن والمسىء ـ وجزاؤه إياهم على أفعالهم عدلاً إلهيًا خالصًا.. (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)(1)(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(2) .
(لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)(3) .
وقبل ختم النبوة والرسالة، كانت مهمة حفظ كتب الرسالات والشرائع موكولة إلى أمم هذه الرسالات كجزء من التكليف لهم والاختبار لاستقامتهم فى هذا التكليف:(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنًا قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)(4) .لكنهم فرطوا فى القيام بتكليف الحفظ للكتب بالنسيان حينًا وبالتحريف والإخفاء حينًا آخر: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكَلِمَ عن مواضعه ونسوا حظًا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين * ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون * يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)(5) .
وعندما كانوا يحرفون هذه الكتب، أو ينسون بعضها ويخفون البعض الآخر، كان الله يبعث رسولاً جديدًا بكتاب جديد..
أما عندما أراد الله سبحانه وتعالى مع بلوغ الإنسانية سن الرشد ـ ختم النبوات والرسالات بنبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان لابد لحفظ كتاب الشريعة الخاتمة من حافظ لا يجوز عليه الإهمال، ولا يتأتى منه التحريف، ولا يليق به النسيان.. أى كان لابد من الحفظ المعصوم الدائم للكتاب المعجز الخالد. لأن ترك حفظ الكتاب الخاتم للبشر، الذين يجوز عليهم الإهمال والتحريف والنسيان معناه طروء وحدوث التحريف والضياع لهذا الكتاب، حيث لا وحى سيأتى ولا رسول سيبعث ولا كتاب سينزل.. الأمر الذى لو حدث ـ افتراضًا ـ سيضل الناس ولا رعاية لهم، ولا حُجة عليهم، تجعل من حسابهم وجزائهم عدلاً إلهيًا مناسبًا.
ولذلك، انتقلت مهمة حفظ الوحى الخاتم ـ القرآن الكريم ـ فى الرسالة الخاتمة إلى الله سبحانه وتعالى الذى لا يتخلف حفظه أبدًا، بعد أن كانت هذه المهمة فى الرسالات السابقة، استحفاظًا من الله للناس، أى طلبًا منه لهم أن يحفظوا ما أنزل عليهم من الكتاب. فكان الوعد الإلهى المؤكد:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(6) .
ولذلك هيأ الله لتدوين القرآن الكريم من كتبة الوحى ما لم يتهيأ لكتاب سابق.. وجعل جمعه وعدًا إلهيًا وإنجازًا ربانيًا: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه)(7) . فكان الحفظ للقرآن ـ كل القرآن ـ وعدًا إلهيًّا. وإنجازًا ربانيًا، وذلك حتى تستمر حجة الله على عباده، ويكون حسابه لهم عدلاً خالصًا.
ولم يقل أحد، ولا جائز فى العقل ـ فضلاً عن النقل ـ أن يقال: إن الذكر، الذى تعهد الله بحفظه، هو بعض القرآن، وليس كل القرآن.. لأن ضياع أى جزء من القرآن إنما يعنى تخلف رعاية الله لخلقه، وسقوط حُجته على عباده.. ثم إن القرآن لا يقف بالحفظ عندما يطلق عليه الذكر، فضلاً عن أن مصطلح الذكر إنما يشمل كل القرآن.. تشهد على ذلك الآيات الكثيرة فى كتاب الله.. فالمراد بالذكر القرآن.. كل القرآن.. والكتاب.. كل الكتاب ـ وليس بعضه ـ بدليل قول الله سبحانه وتعالى:(فاسألوا أهل الذكر)(8) ، أى أهل الكتب السابقة.. والله يشير إلى القرآن والتنزيل ـ أى كل ما نزل به الوحى ـ بلفظ الذكر (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم)(9) ، (وقالوا يا أيها الذى نُزِل عليه الذكر إنك لمجنون)(10) ، (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون)(11) ، (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون)(12) ، (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)(13) ، (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين)(14) . والذكر هو كل ما جاء به الوحى، فالوحى هو الذكر (فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون)(15) . بل إن سياق آية (إنا نحن نزلنا الذكر (شاهد على أن الذكر والقرآن والكتاب هو الوحى (آلر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين)(وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) ، (وقالوا يا أيها الذى نُزل عليه الذكر إنك لمجنون (، (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(16) .
ثم إن القرآن الكريم يؤكد أن الحفظ، ونفى الشك والريبة إنما هو لكل القرآن ولجميع التنزيل، وليس لبعض القرآن:(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)(17)(تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)(18)(ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق)(19)(نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه)(20)(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس)(21)(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه)(22) . (ما فرطنا فى الكتاب من شىء)(23) .. ولو ضاع شىء من هذا الكتاب أى القرآن والتنزيل لحدث التفريط الذى تنفيه هذه الآية، ولانتفت حجة الله على البشر (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) (24) .. فحجة الله على الناس ـ بعد ختم الوحى القرآن الكريم ـ تنتفى وتسقط إذا حدث جهل بشىء مما أنزل فى الكتاب ـ القرآن ـ:(وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم)(25) ولو أن القرآن ضاع منه شىء لتخلف وعد الله بتنزيل تبيان كل شىء فيه، لتتم شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته:(ويوم نبعث فى كل أمة شهيدًا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدًا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)(26) .
وختم النبوة والرسالة، يعنى انتفاء بعث رسول جديد، ونزول كتاب جديد.. وحتى تقوم حُجة الله على عباده لابد من بقاء القرآن كله محفوظًا، ليكون قيّما على الناس، أى دائم القيام على هدايتهم وإرشادهم:(الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا)(27) .
وإذا كان الكتاب هو كل القرآن، فلقد وعد الله سبحانه بأن يحفظه ويورثه للذين اصطفاهم من عباده، بعد أن أنزله على المصطفى من رسله، وجمعه وقرأه:(والذى أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقًا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير * ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير)(28) .
ومن صفات القرآن ـ كل القرآن ـ أنه كتاب عزيز، أى منيع، محفوظ من العبث به وفيه.. وأنه ممتنع عن الإبطال، لا يأتيه الباطل من بينه يديه ولا من خلفه، بأى حال من الأحوال:(إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(29) . والذكر فى هذه الآية هو كل الكتاب، العزيز على أى عبث به وفيه..
ومن صفات القرآن ـ كل القرآن ـ أنه كتاب علىّ حكيم، فوق تطاول المتطاولين، بشرًا كانوا أو أزمنة ودهورًا:(إن جعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون * وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم)(30) .
ومن صفات القرآن ـ كل القرآن ـ أنه فى كتاب مكنون: أى مصون ومحفوظ عن اللعب والعبث والتحريف (إنه لقرآن كريم * فى كتاب مكنون)(31) .
ولقد صدّق التاريخ على هذا الحفظ الإلهى لهذا القرآن المجيد.. ومن يقرأ تاريخ التوراة ـ حتى ذلك الذى كتبه علماء اليهودية ـ يعلم ما أصابها بعد سنوات من نزولها.. وكيف أعيدت كتابة أسفارها على النحو الذى صنعه " عزرا " وغيره من الأحبار، فى صورة مليئة بالتحريف.. ومن يتأمل تناقضات الأناجيل ـ حتى الشهيرة منها ـ والفروق الجوهرية بينها وبين غير الشهيرة ـ من مثل أناجيل " مخطوطات نجع حمادى "، و " مخطوطات البحر الميت "، " إنجيل برنابا " يعلم ما أصاب الإنجيل بعد سنوات معدودة من بعثة المسيح عليه السلام لكن.. ها هو القرآن الكريم كما نزل به الروح الأمين على قلب الصادق الأمين، لم يتغير فيه حرف ولا رسم ولا حركة ولا غُنّة ولا مدّ وقد مضى على نزوله أكثر من أربعة عشر قرنًا مرت فيها أمته بأطوار من التراجع والانحطاط، وفقدت فيها الذاكرة الإسلامية ملايين المخطوطات التى أبادتها غزوات الطغاة، واندثرت فيها مذاهب وفلسفات.. وظل القرآن الكريم عزيزًا منيعًا محفوظًا بحفظ الله خير الحافظين.. فالتاريخ ـ هو الآخر ـ قد غدا شاهدًا على هذا الحفظ الإلهى لكل القرآن الكريم..
فبرهان العقل ـ المتعلق بختم الرسالة.. وختم الوحى ـ يجعل حفظ القرآن ـ كل القرآن ـ لإقامة الحجة على الناس ـ ضرورة عقلية.
وكذلك النقل المتكرر فى القرآن ـ بلفظ القرآن.. والكتاب.. والتنزيل.. والذكر.. ـ شاهد هو الآخر على الحفظ الإلهى لكل حرف وكل كلمة وكل آية وكل سورة من هذا القرآن الكريم.. فهو وحى الله الخاتم.. تعهد سبحانه وتعالى بجمعه وحفظه، وحجة خالدة، كى لا يكون للناس على الله حجة إذا ما ضاع شىء من هذا التنزيل العزيز المنيع الحكيم.
أما بعض المرويات التى يفهم منها البعض شكًّا فى حفظ كل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن.. فإن منطق العقل، ومنهاج البحث العلمى، وقواعد نقد النصوص والمرويات، التى اتفق عليها العلماء والعقلاء من كل الحضارات والفلسفات والأنساق الفكرية.. كلها تؤكد على ضرورة الموازنة بين المتعارض والمتناقض من الروايات.. والأخذ بالمصدر الأوثق عند تعذر الجمع بين المرويات.. فإذا كان لدينا ـ على نحو ما قدمنا ـ شهادة العقل الصريح على أن حفظ القرآن ـ كل القرآن ـ هو ضرورة عقلية، تقتضيها حقيقة ختم النبوة والرسالة واكتمال الوحى.. وإذا كانت شهادة العقل الصريح هذه مدعومة بنصوص آيات القرآن الكريم، أى بالمصدر المعجز، قطعى الدلالة والثبوت.. فهل يكون عاقلاً من يترك شهادة العقل الصريح، والنقل المعجز الصحيح، ويلتفت إلى رواية من روايات يعلم الله من رواها؟ ولماذا رواها؟.
إن منطق البحث العلمى، الذى أجمع عليه كل عقلاء الدنيا، فى التعامل مع النصوص، قد حسم هذه القضية التى نرجو أن تكون هذه الإجابة حاسمة للشبهة المثارة حولها.. والله من وراء القصد، منه نلتمس الهداية والحكمة والرشاد..
(1) فاطر: 24.
(2)
الإسراء: 15.
(3)
النساء: 165.
(4)
المائدة: 44.
(5)
المائدة: 13ـ16.
(6)
الحجر: 9.
(7)
القيامة: 16ـ19.
(8)
الأنبياء: 7.
(9)
الأعراف: 69.
(10)
الحجر: 6.
(11)
النحل: 44.
(12)
الأنبياء: 50.
(13)
يس: 69.
(14)
القلم: 51ـ52.
(15)
الزخرف: 43ـ44.
(16)
الحجر: 1، 4، 6، 9.
(17)
البقرة: 2.
(18)
السجدة: 2.
(19)
البقرة: 176.
(20)
آل عمران: 3.
(21)
النساء: 105.
(22)
المائدة: 48.
(23)
الأنعام: 38.
(24)
الأنعام: 155ـ157.
(25)
الحجر: 4.
(26)
النحل: 89.
(27)
الكهف: 1ـ2.
(28)
فاطر: 31ـ32.
(29)
فصلت: 41ـ42.
(30)
الزخرف: 3ـ4.
(31)
الواقعة: 77ـ78.
46- حول تاريخية أو خلود أحكام القرآن الكريم
هناك ـ بالنسبة للقرآن الكريم ـ من يعتبرون أنه غير صالح لكل زمان، وأنه وقتى، أى أنه جاء لوقت قد مضى، ولا يتلاءم مع العصر الحالى، وأنه يجب أن تتغير تفسيراته بما يناسب هذا الوقت. وعلى سبيل المثال:
ـ إرث المرأة (للذكر مثل حظ الأنثيين) يقولون: إن هذه الآية قد جاءت لزمن معين ويجب أن تتغير، بحيث يتساوى الرجل والمرأة فى الإرث.
ـ وكذلك الأمر بالنسبة لشهادة المرأة حيث يطالبون بمساواة الرجل بالمرأة من حيث الشهادة.. (انتهى) .
الرد على الشبهة:
أما القول بتاريخية ـ أو تاريخانية ـ ووقتية أحكام القرآن الكريم.. بمعنى " أنها غير صالحة لكل زمان ".. فإن لنا عليها ملاحظات نسوقها فى عدد من النقاط:
أولها: أن هذه الدعوى ليست جديدة، فلقد سبق وتبناها فلاسفة التنوير الغربى الوضعى العلمانى، بالنسبة للتوراة والإنجيل.. فرأوا أن قصصها مجرد رموز، بل ورأوا أن الدين والتدين إنما يمثل " مرحلة تاريخية " فى عمر التطور الإنسانى، مثلت مرحلة طفولة العقل البشرى، ثم تلتها ـ على طريق النضج ـ مرحلة " الميتافيزيقا "، التى توارت هى الأخرى لحساب المرحلة الوضعية، التى لا ترى علمًا إلا إذا كان نابعًا من الواقع، ولا ترى سبلاً للعلم والمعرفة إلا العقل والتجارب الحسية.. وما عدا ذلك ـ من الدين وأحكام شرائعه ـ فهى " إيمان " مَثَّل مرحلة تاريخية على درب التطور العقلى، ولم يعد صالحًا لعصر العلم الوضعى ـ اللهم إلا لحكم العامة والسيطرة على نزعاتهم وغرائزهم!.
هكذا بدأت وتبلورت نزعة " تاريخية وتاريخانية " النصوص الدينية فى فكر التنوير الغربى العلمانى والنهضة الأوروبية الحديثة..
وإذا كان هذا القول قد جاز، ووجد له بعض المبررات ـ فى الغرب ـ بالنسبة لكتب رسالات خاصة بقوم بعينهم ـ بنى إسرائيل ـ الذين جاءتهم اليهودية والمسيحية، ونزلت لهم التوراة والإنجيل ـ.. ولزمان معين.. وبتفاصيل تشريعات ـ وخاصة فى التوراة ـ تجاوزها تطور الواقع، فإن دعوى تاريخية النص الدينى لا مكان لها ولا ضرورة تستدعيها بالنسبة للقرآن الكريم..
ذلك أن القرآن هو كتاب الشريعة الخاتمة، والرسالة التى ختمت بها النبوات والرسالات، فلو طبقنا عليه قاعدة تاريخية النصوص الدينية لحدث " فراغ " فى المرجعية الدينية، إذ لا رسالة بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا وحى بعد القرآن.. وإذا حدث هذا " الفراغ " فى المرجعية والحجة الإلهية على الناس، زالت حجة الله على العباد فى الحساب والجزاء، إذ سيقولون: يا ربنا، لقد أنزلت علينا كتابًا نسخه التطور، فماذا كان علينا أن نطبق، بعد أن تجاوز الواقع المتطور آيات وأحكام الكتاب الذى أنزلته لهدايتنا؟!.
وثانى هذه النقاط: أن التاريخية والتاريخانية ـ أى وقتية الأحكام ـ لا يقول بها أحد فى أحكام العبادات.. وإنما يقول بها أصحابها فى آيات وأحكام المعاملات. وهم يخطئون إذا ظنوا أن هناك حاجة إليها فى أحكام المعاملات التى جاء بها القرآن الكريم ذلك أن القرآن الكريم ـ فى المعاملات ـ قد وقف عند " فلسفة " و " كليات " و " قواعد " و " نظريات " التشريع، أكثر مما فصّل فى تشريع المعاملات.. فهو قد فصل فى الأمور الثوابت، التى لا تتغير بتغير الزمان والمكان، مثل منظومة القيم والأخلاق، والقواعد الشرعية التى تستنبط منها الأحكام التفصيلية، والحدود المتعلقة بالحفاظ على المقاصد الكلية للشريعة.. ونزل تفصيل أحكام المعاملات لعلم الفقه، الذى هو اجتهاد محكوم بثوابت الشريعة الإلهية، ذلك حتى يظل هذا الفقه ـ فقه المعاملات ـ متطورًا دائمًا وأبدًا، عبر الزمان والمكان، ليواكب تغير الواقع ومستجدات الأحداث، فى إطار كليات الشريعة وقواعدها ومبادئها، التى تحفظ على أحكامه المتطورة إسلاميتها، دائمًا وأبدًا..
وهذه " الصيغة الإسلامية " الفريدة التى جاءت بالنص الإلهى الثابت ـ أى الشريعة التى هى وضع إلهى ثابت ـ تحفظ إسلامية وإلهية المرجعية والمصدر دائمًا وأبدًا.. بينما وكلت أمر المتغيرات إلى الفقه المتجدد والمتطور ـ والفقه هو علم الفروع ـ.. هذه " الصيغة الإسلامية " هى التى وازنت بين ثبات النص وتطور التفسير البشرى للنص الإلهى الثابت.. وجمعت بين ثبات " الوضع الإلهى " وتطور " الاجتهاد الفقهى ".. أى جمعت بين ثبات المرجعية والنص، وبين تطور الاجتهاد الفقهى المواكب لمتغيرات الواقع عبر الزمان والمكان..
ثالث هذه النقاط: تتعلق بالأمثلة التى سيقت وتساق من قبل دعاة تاريخية وتاريخانية النصوص الدينية، للتدليل على ضرورة تطبيق هذه التاريخانية ـ فى زعمهم ـ على أحكام القرآن الكريم فى المعاملات..
ونحن عندما ننظر فى هذه الأمثلة ـ وهى هنا ـ: " ميراث المرأة وشهادتها " نزداد يقينًا بخطأ دعوى تطبيق هذه التاريخانية على القرآن الكريم، وعلى الأحكام التشريعية الواردة فيه.. فليس صحيحًا أن توريث المرأة فى الإسلام قد جانب الإنصاف لها، حتى يكون حكمه صالحًا للزمان الماضى دون الزمان المعاصر والمستقبل.. فالأنثى ـ فى الإسلام ـ لا ترث نصف الذكر دائمًا وأبدًا.. والقرآن لم يقل يوصيكم الله فى الوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإنما جعل ذلك فى حالة بعينها هى حالة " الأولاد "، وليس فى مطلق وكل الوارثين:(يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)(1) . أما عندما كان التقعيد عامًا للميراث فإن القرآن قد استخدم لفظًا عامًا هو لفظ " النصيب " لكل الذكور والإناث على حد سواء: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيبًا مفروضًا)(2) .
ومعايير التفاوت فى أنصبة الميراث لا علاقة لها بالجنس ـ ذكورة أو أنوثة ـ على الإطلاق ـ على غير ما يحسب ويظن الكثيرون ـ إن لم يكن الأكثرون! وإنما معايير هذا التفاوت ثلاثة:
1 ـ درجة القرابة. فكلما كان الوارث أقرب إلى المورّث زاد نصيبه فى الميراث.
2 ـ وموقع الجيل الوارث فى تسلسل الأجيال وتلك حكمة إلهية بالغة فى فلسفة الإسلام للميراث ـ وكلما كان الوارث صغيرًا من جيل يستقبل الحياة وأعباءها، وأمامه المسئوليات المتنامية، كان نصيبه من الميراث أكبر.. فابن المتوفى يرث أكثر من أب المتوفى ـ وكلاهما ذكر ـ وبنت المتوفى ترث أكثر من أمه ـ وكلتاهما أنثى.. بل إن بنت المتوفى ترث أكثر من أبيه.
3 ـ والعامل الثالث فى تفاوت أنصبة الميراث هو العبء المالى الذى يتحمله ويكلف به الوارث طبقًا للشريعة الإسلامية.. فإذا اتفقت وتساوت درجة القرابة.. وموقع الجيل الوارث ـ مثل مركز الأولاد ـ أولاد المورث ـ مع تفاوت العبء المالى بين الولد الذكر ـ المكلف بإعالة زوجة وأسرة وأولاد ـ وبين البنت ـ التى سيعولها هى وأولادها زوج ذكر ـ هنا يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.. وهو تقسيم ليس فيه أية شبهة لظلم الأنثى.. بل ربما كان فيه تمييز وامتياز لها، احتياطًا لاستضعافها..
وهذه الحقائق فى المواريث الإسلامية ـ التى يجهلها ويتجاهلها دعاة تاريخية آيات الميراث ـ هى التى جعلت المرأة ـ فى الجداول الإجمالية لحالات الميراث الإسلامى ـ ترث مثل الرجل، أو أكثر من الرجل، أو ترث ولا يرث الرجل فى أكثر من ثلاثين حالة من حالات الميراث الإسلامى، بينما هى ترث نصف ما يرث الذكر فى أربع حالات فقط (3) !.
وكذلك الحال مع " شهادة المرأة ".. ففى الأمور والميادين التى تقل فيها خبرة المرأة عن الرجل، تكون شهادتها أقل من شهادته.. وحتى لا تهدر شهادتها كلية فى هذه الميادين، سمح القرآن بشهادتها، على أن تُدعم بشهادة واحدة من بنات جنسها، تذكرها بما تنساه من وقائع الشهادة.. أما الميادين التى تختص بالمرأة، والتى تكون خبرتها فيها أكثر، فإن شهادتها فيها تكون أعلى، وأحيانًا ضعف شهادة الرجل.. بل إن شهادتها تعتمد حيث لا تعتمد شهادة الرجل فى بعض هذه الميادين.
والذين يظنون أن آية سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا فإن كان الذى عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شىء عليم * وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدِّ الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم)(4) .
الذين يظنون أن هذه الآية ـ282ـ تجعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل بإطلاق، وفى كل الحالات مخطئون وواهمون.. فهذه الآية تتحدث عن دَين خاص.. فى وقت خاص، يحتاج إلى كاتب خاص، وإملاء خاص، وإشهاد خاص..
وهذه الآية ـ فى نصها ـ استثناء: (.. إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها) .
ثم إنها تستثنى من هذه الحالة الخاصة الإشهاد على البيوع، فلا تقيدها بما قيدت به حالة هذا الدين الخاص.. ثم إنها تتحدث، مخاطبة، لصاحب الدين، الذى يريد أن يستوثق لدينه الخاص هذا بأعلى درجات الاستيثاق.. ولا تخاطب الحاكم ـ القاضى ـ الذى له أن يحكم بالبينة واليمين، بصرف النظر عن جنس الشاهد وعدد الشهود الذين تقوم بهم البينة.. فللحاكم ـ القاضى ـ أن يحكم بشهادة رجلين.. أو امرأتين.. أو رجل وامرأة.. أو رجل واحد.. أو امرأة واحدة.. طالما قامت البينة بهذه الشهادة..
ومن يرد الاستزادة من الفقه الإسلامى فى هذه القضية ـ التى يجهلها الكثيرون ـ فعليه أن يرجع إلى آراء شيخ الإسلام ابن تيمية [661ـ728هـ/1263ـ1328م] وتلميذه العظيم ابن قيم الجوزية [691ـ751هـ/1262ـ1350م] فى كتابه [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية](5) .. ففيه ـ وفق نص ابن تيمية ـ أن ماجاء عن شهادة المرأة فى آية سورة البقرة، ليس حصرًا لطرق الشهادة وطرق الحكم التى يحكم بها الحاكم، وإنما ذكر لنوعين من البينات فى الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه.. فالآية نصيحة لهم وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم، وما تحفظ به الحقوق شىء وما يحكم به الحاكم شىء، فإن طرق الحكم أوسع من الشاهدين والمرأتين.
ولقد قال الإمام أحمد بن حنبل [164ـ241هـ/780ـ855م] إن شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين فيما هو أكثر خبرة فيه، وأن شهادة المرأة تعدل شهادة رجلين فيما هى أكثر خبرة فيه من الرجل.. فالباب مفتوح أمام الخبرة التى هى معيار درجة الشهادة، فإذا تخلفت خبرة الرجل فى الميدان تراجع مستوى شهادته فيه.. وإذا تقدمت وزادت خبرة المرأة فى الميدان ارتفع مستوى شهادتها فيه.. وليس هناك فى الفقه الإسلامى تعميم وإطلاق فى هذا الموضوع، إذ الشهادة سبيل للبينة التى يحكم الحاكم ـ القاضى ـ بناء عليها، بصرف النظر عن جنس الشهود وعددهم.
ولو فقه الداعون إلى تاريخية وتاريخانية آيات الأحكام فى القرآن حقيقة هذه الأحكام التى توهموا الحاجة إلى تجاوزها ـ فقالوا بتاريخية ووقتية معانى نصوصها القرآنية ـ لأدركوا أن وقوف النص القرآنى عند كليات وفلسفات وقواعد ونظريات التشريع، مع ترك تفصيلات التشريع لاجتهادات الفقهاء، هو الذى جعل أحكام القرآن الكريم فى المعاملات ـ فضلاً عن العبادات.. والقيم والأخلاق ـ صالحة لكل زمان ومكان، فكانت شريعته آخر وخاتم الشرائع السماوية، دونما حاجة إلى هذه " التاريخية " التى استعاروها من الفكر الغربى، دونما إدراك لخصوصية النص الإسلامى، وتميز مسيرة الفقه الإسلامى والحضارة الإسلامية.. ولو أنهم فقهوا حقيقة الأمثلة التى توهموها دواعى لهذه التاريخية ـ من مثل ميراث المرأة.. وشهادتها ـ لكفونا مئونة هذا الجهد فى كشف هذه الشبهات!..
(1) النساء: 11.
(2)
النساء: 7.
(3)
لمزيد من التفاصيل، أنظر: د. محمد عمارة [هل الإسلام هو الحل؟] طبعة دار الشروق. القاهرة 1998م. ود. صلاح سلطان [ميراث المرأة وقضية المساواة] طبعة دار نهضة مصر. القاهرة 1999م.
(4)
البقرة: 282ـ283.
(5)
ص 103ـ104. تحقيق: د. جميل غازى، طبعة القاهرة 1977م.
47- حول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القرآن من العصمة
هناك من لا يعترفون بأن الرسول معصوم عن الخطأ، ويقدمون الأدلة على ذلك بسورة [عبس وتولى] وكذلك عندما جامل الرسول صلى الله عليه وسلم، زوجاته، ونزلت الآية الكريمة التى تنهاه عن ذلك (انتهى) .
الرد على الشبهة:
إن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك عصمة كل الرسل عليهم السلام يجب أن تفهم فى نطاق مكانة الرسول.. ومهمة الرسالة.. فالرسول: بشر يُوحَى إليه.. أى أنه - مع بشريته - له خصوصية الاتصال بالسماء، بواسطة الوحى.. ولذلك فإن هذه المهمة تقتضى صفات يصنعها الله على عينه فيمن يصطفيه، كى تكون هناك مناسبة بين هذه الصفات وبين هذه المكانة والمهام الخاصة الموكولة إلى صاحبها.
والرسول مكلف بتبليغ الرسالة، والدعوة إليها، والجهاد فى سبيل إقامتها وتطبيقها.. وله على الناس طاعة هى جزء من طاعة الله سبحانه وتعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)(1)(قل أطيعوا الله والرسول)(2)(من يطع الرسول فقد أطاع الله)(3)(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله)(4) ولذلك كانت عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ضرورة من ضرورات صدقهم والثقة فى هذا البلاغ الإلهى الذى اختيروا ليقوموا به بين الناس.. وبداهة العقل - فضلاً عن النقل - تحكم بأن مُرْسِل الرسالة إذا لم يتخير الرسول الذى يضفى الصدق على رسالته، كان عابثًا.. وهو ما يستحيل على الله، الذى يصطفى من الناس رسلاً تؤهلهم العصمة لإضفاء الثقة والصدق على البلاغ الإلهى.. والحُجة على الناس بصدق هذا الذى يبلغون.
وفى التعبير عن إجماع الأمة على ضرورة العصمة للرسول فيما يبلغ عن الله، يقول الإمام محمد عبده عن عصمة الرسل - كل الرسل -:".. ومن لوازم ذلك بالضرورة: وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم، وصحة عقولهم، وصدقهم فى أقوالهم، وأمانتهم فى تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهى بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية.. إن من حكمة الصانع الحكيم - الذى أقام الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعدُّ لها، بمحض فضله، بعض مَنْ يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطرة السليمة، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون فى مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهم فى الدنيا كأنهم ليسو من أهلها، هم وفد الآخرة فى لباس من ليس من سكانها.. أما فيما عدا ذلك -[أى الاتصال بالسماء والتبليغ عنها]- فهم بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام، ويمرضون وتمتد إليهم أيدى الظلمة، وينالهم الاضطهاد، وقد يقتلون "(5) .
فالعصمة - كالمعجزة - ضرورة من ضرورات صدق الرسالة، ومن مقتضيات حكمة من أرسل الرسل عليهم السلام..
وإذا كان الرسول - كبشر - يجوز على جسده ما يجوز على أجساد البشر.. وإذا كان الرسول كمجتهد قد كان يمارس الاجتهاد والشورى وإعمال العقل والفكر والاختيار بين البدائل فى مناطق وميادين الاجتهاد التى لم ينزل فيها وحى إلهى.. فإنه معصوم فى مناطق وميادين التبليغ عن الله سبحانه وتعالى لأنه لو جاز عليه الخطأ أو السهو أو مجانبة الحق والصواب أو اختيار غير الأولى فى مناطق وميادين التبليغ عن الله لتطرق الشك إلى صلب الرسالة والوحى والبلاغ، بل وإلى حكمة من اصطفاه وأرسله ليكون حُجة على الناس.. كذلك كانت العصمة صفة أصيلة وشرطًا ضروريًا من شروط رسالة جميع الرسل عليهم السلام.. فالرسول فى هذا النطاق - نطاق التبليغ عن الله - (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى)(6) . وبلاغة ما هو بقول بشر، ولذلك كانت طاعته فيه طاعة لله، وبغير العصمة لا يتأتى له هذا المقام.
أما اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا وحى فيه، والتى هى ثمرة لإعماله لعقله وقدراته وملكاته البشرية، فلقد كانت تصادف الصواب والأولى، كما كان يجوز عليها غير ذلك.. ومن هنا رأينا كيف كان الصحابة، رضوان الله عليهم فى كثير من المواطن وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه - قبل الإدلاء بمساهماتهم فى الرأى - هذا السؤال الذى شاع فى السُّنة والسيرة:
" يا رسول الله، أهو الوحى؟ أم الرأى والمشورة؟.. "
فإن قال: إنه الوحى. كان منهم السمع والطاعة له، لأن طاعته هنا هى طاعة لله.. وهم يسلمون الوجه لله حتى ولو خفيت الحكمة من هذا الأمر عن عقولهم، لأن علم الله - مصدر الوحى - مطلق وكلى ومحيط، بينما علمهم نسبى، قد تخفى عليه الحكمة التى لا يعلمها إلا الله.. أما إن قال لهم الرسول - جوابًا عن سؤالهم -: إنه الرأى والمشورة.. فإنهم يجتهدون، ويشيرون، ويصوبون.. لأنه صلى الله عليه وسلم هنا ليس معصومًا، وإنما هو واحد من المقدمين فى الشورى والاجتهاد.. ووقائع نزوله عن اجتهاده إلى اجتهادات الصحابة كثيرة ومتناثرة فى كتب السنة ومصادر السيرة النبوية - فى مكان القتال يوم غزوة بدر.. وفى الموقف من أسراها.. وفى مكان القتال يوم موقعة أُحد.. وفى مصالحة بعض الأحزاب يوم الخندق.. إلخ.. إلخ.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد الله له أن يكون القدوة والأسوة للأمة (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا)(7) .
وحتى لا يقتدى الناس باجتهاد نبوى لم يصادف الأولى، كان نزول الوحى لتصويب اجتهاداته التى لم تصادف الأولى، بل وعتابه - أحيانًا - على بعض هذه الاجتهادات والاختيارات من مثل:(عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى)(8) . ومن مثل: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأنى العليم الخبير)(9) . ومن مثل: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)(10) .
وغيرها من مواطن التصويب الإلهى للاجتهادات النبوية فيما لم يسبق فيه وحى، وذلك حتى لا يتأسى الناس بهذه الاجتهادات المخالفة للأولى.
فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم، فيما يبلغ عن الله شرط لازم لتحقيق الصدق والثقة فى البلاغ الإلهى، وبدونها لا يكون هناك فارق بين الرسول وغيره من الحكماء والمصلحين، ومن ثم لا يكون هناك فارق بين الوحى المعصوم والمعجز وبين الفلسفات والإبداعات البشرية التى يجوز عليها الخطأ والصواب.. فبدون العصمة تصبح الرسالة والوحى والبلاغ قول بشر، بينما هى - بالعصمة - قول الله سبحانه وتعالى الذى بلغه وبينه المعصوم عليه الصلاة والسلام.. فعصمة المُبَلِّغ هى الشرط لعصمة البلاغ.. بل إنها - أيضًا - الشرط لنفى العبث وثبوت الحكمة لمن اصطفى الرسول وبعثه وأوحى إليه بهذا البلاغ.
(1) النساء: 59.
(2)
آل عمران: 32.
(3)
النساء: 80.
(4)
آل عمران: 31.
(5)
[الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده] ج2 ص 415، 416، 420، 421. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة القاهرة سنة 1993م.
(6)
النجم: 3-4.
(7)
الأحزاب: 21.
(8)
عبس: 1-10.
(9)
التحريم: 1-3.
(10)
الأنفال: 67-68.
48- دعوى: خلو الكتب السابقة من البشارة برسول الإسلام
زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول. وبنوا هذا الزعم على أربع شعب هى:
1-
إن العهد والنبوة والكتاب محصورة فى نسل إسحق لا إسماعيل.؟!
2-
إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يأت بمعجزات.؟!
3-
إن القرآن من نوادر الأعمال الإنسانية، فليس هو معجزاً (1) .؟!
4-
إن الكتب السابقة - التوراة وملحقاتها والأناجيل - خلت من البشارة برسول الإسلام.؟!
الرد على الشبهة:
ولكن قبل أن نواجهها مواجهة مباشرة أريد أن أقدم كلمة موجزة بين يدى هذه المواجهة، رأيت أن تقديمها من أوجب الواجبات فى هذا المجال.
وجود " البشارات " وعدمها سواء..؟
أجل: إن وجود البشارات وعدمها فى الكتب المشار إليها آنفا سواء، وجودها مثل عدمها، وعدمها مثل وجودها. فرسالة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليست فى حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل " الخارجى " بطلت - لا سمح الله - تلك الرسالة؛ فهى رسالة دليلها فيها، ووجود البشارات بها فى كتب متقدمة - زمنا - عليها لا يضيف إليها جديداً، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط.
فهى حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغنىعما سواها. ودليلها قائم خالد صالح للفحص فى كل زمان ومكان، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب، ظهر ولم يختف، قوى ولم يضعف. علا ولم يهبط، إنه دليل صدق الأنبياء كلهم. فكل الأنبياء مضوا ولم يبق من أدلة صدقهم إلا ما جاء فى هذا الدليل " القرآن العظيم " حيث شهد لهم بالصدق والوفاء وأنهم رسل الله المكرمون..
فلا يظنن أحدُ أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن فى حاجة إليها لإثبات صدق رسول الإسلام فى دعواه الرسالة. فرسول الإسلام ليس فى حاجة إلى " تلك البشارات " حتى ولو سلم لنا الخصوم بوجودها فله من أدلة الصدق ما لم يحظ به رسول غيره.
وستعالج البشارة به صلى الله عليه وسلم على قسمين:
1-
بشاراته صلى الله عليه وسلم فى التوراة.
2-
بشاراته صلى الله عليه وسلم فى الإنجيل.
أولاً: البشارات فى التوراة
تعددت البشارات برسول الإسلام فى التوراة وملحقاتها، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح، وصيروها نصوصاً احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها " الأصلى " من حملها على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم لأن حملها على غيره متعذر أو متعسر أو محال.
فهى أشبه ما تكون برسالة مغلقة مُحى " عنوانها " ولكن صاحب الرسالة قادر - بعد فضها - أن يثبت اختصاصها به، لأن الكلام " الداخلى " الذى فيها يقطع بأنها " له " دون سواه؛ لما فيها من " قرائن " وبينات واضحة ونعرض - فيما يلى - بعضاً منها:
" وهذه هى البركة التى بارك بها موسى رجل الله بنى إسرائيل قبل موته ".
فقال:
" جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران "(2) . فى هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات:
الأولى: نبوة موسى عليه السلام التى تلقاها على جبل سيناء.
الثانية: نبوة عيسى عليه السلام وساعير هى قرية مجاورة لبيت المقدس، حيث تلقى عيسى عليه السلام أمر رسالته.
الثالثة: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبل فاران هو المكان الذى تلقى فيه عليه الصلاة والسلام أول ما نزل عليه من الوحى وفاران هى مكة المكرمة مولد ومنشأ ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه العبارة - مرة أخرى - تضمنت خبراً وبشارتين:
فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً.
والبشارتان:
الأولى: خاصة بعيسى عليه السلام. والثانية خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وموقف اليهود منهما النفى: فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام.
أما موقف النصارى فإن النفى - عندهم - خاص ببشارة رسول الإسلام. ولهم فى ذلك مغالطات عجيبة، حيث قالوا إن " فاران " هى " إيلات " وليست مكة. وأجمع على هذا " الباطل " واضعو كتاب: قاموس الكتاب المقدس. وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن " فاران " هى مكة المكرمة، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له..؟! ، أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس، ولم يقتصر ورود ذكر " فاران " على هذا الموضع من كتب العهد القديم، فقد ورد فى قصة إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر حيث تقول التوراة: إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هى وابنها فنزلت وسكنت فى " برية فاران "(3) . على أنه يلزم من دعوى واضعى قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد فى التوراة. لأنه لم يبعث نبى من " إيلات " حتى تكون البشارة صادقة. ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام؛ لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات.
فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم، وجبل فاران هو جبل " النور " الذى به غار حراء، الذى تلقى فيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بدء الوحى.
وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة " فاران " أشهر من الشمس.
وترتيب الأحداث الثلاثة فى العبارة المذكورة:
جاء من سيناء
وأشرق من ساعير
وتلألأ من فاران. هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران " تبشير قطعى برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وفى بعض " النسخ " كانت العبارة: " واستعلن من جبل فاران " بدل " تلألأ ".
وأياً كان اللفظ فإن " تلألأ " و " استعلن " أقوى دلالة من " جاء " و " أشرق " وقوة الدلالة هنا ترجع إلى " المدلولات " الثلاثة. فالإشراق جزء من مفهوم " المجئ " وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى عليهما السلام .
أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام، رسولا ورسالة وأمة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذه المغالطة (فاران هى إيلات) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجرأم إسماعيل عندما أجهدها العطش هى وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه " سارة " طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " فى المكان المعروف الآن " ببئر سبع "؟! وأنها سميت بذلك لذلك..؟! وكما كذبت فاران دعوى " إيلات " كذَّبت " زمزم الطهور " دعوى " بئر سبع "؟
وستظل فاران - مكة المكرمة - وزمزم الطهور " عملاقين " تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى.
ويجئ نص آخر فى التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مهما غالط المغالطون. وهو قول الله لموسى حسب ما تروى التوراة:
" أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه "(4) .
حدث هذا حسب روايات التوراة وعداً من الله لموسى فى آخر عهده بالرسالة، وكان يهمه أمر بنى إسرائيل من بعده، فأعلمه الله - حسب هذه الرواية التوراتية - أنه سيبعث فيهم رسولا مثل موسى عليه السلام.
ولقوة دلالة النص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد وقف أهل الكتابين - اليهود والنصارى - موقفين مختلفين هدفهما واحد، وهو أن النص ليس بشارة برسول الإسلام.
أما اليهود فلهم فيه رأيان:
الأول: أن العبارة نفسها ليست خبراً بل هى نفى، ويقدرون قبل الفعل " أقيم " همزة استفهام يكون الاستفهام معها " إنكارياً " وتقدير النص عندهم هكذا " أأقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك..؟!
بطلان هذا الرأى
وهذا الرأى باطل ولن نذهب فى بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها. وذلك؛ لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكارى محذوفة هى فى قوة المذكور لكان الكلام نفياً فعلاً.. ولو كان الكلام نفياً لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك:
" ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه "؟! فهذا المقطع إثبات قطعاً فهو مرتب على إقامة النبى الذى وعد به المقطع الذى قبله. فدل هذا " العطف " على أن المقطع السابق وعد خبرى ثابت لا نفى. ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب إلى تقدير الاستفهام..؟!
الثانى: وقد أحس اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا لا مانع أن يكون النص خبراً ووعداً مثبتاً، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم عليه السلام ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، بل المراد به نبى من أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى، أو صموئيل..؟!
موقف النصارى:
أما النصارى فيحملون البشارة فى النص على عيسى عليه السلام وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، وقد علمنا قبلا أن اليهود ينفون أن تكون لعيسى عليه السلام.
وللنصارى مغالطات عجيبة فى ذلك إذ يقولون إن النبى الموعود به ليس من بنى إسماعيل بل من بنى إسرائيل. ومحمد إسماعيلى فكيف يرسل الله إلى بنى إسرائيل رجلاً ليس منهم.؟! كما قالوا إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون مثله. وقد رددنا على هذه الفرية فيما تقدم.
الحق الذى لا جدال فيه:
والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل. باطل. ولن نذهب فى بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه. أما الحق الذى لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وإليكم البيان:
إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبى الموعود به فيه بشرطين:
أحدهما: أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل.
وثانيهما: أنه مثل موسى عليه السلام صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله وهذان الشرطان لا وجود لهما لا فى يوشع بن نون، ولا فى صموئيل كما يدعى اليهود فى أحد قوليهم.
ولا فى عيسى عليه السلام كما يدعى النصارى.
أما انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بنى إسرائيل وليسو من وسط إخوة بنى إسرائيل. ولو كان المراد واحداً منهم لقال فى الوعد: أقيم لهم نبياً منهم..؟! هذا هو منهج الوحى فى مثل هذه الأمور كما قال فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم:
(هو الذى بعث فى الأميين رسولاً منهم
…
) (5) . وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم
…
) (6) .
وأما انتفاء الشرط الثانى، فلأن: لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل " موسى " عليه السلام.
فموسى كان صاحب شريعة، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة، وإنما كانوا على شريعة موسىعليه السلام. وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هى الأصل. إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام!! فالمثلية بين هؤلاء - وهى أحد شرطى البشارة - وبين موسى عليه السلام لا وجود لها.؟!
الشرطان متحققان فى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم
وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفى الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:
فهو من نسل إسماعيل، وإسماعيل أخو إسحق، الذى هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل. فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل - بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها. وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطى البشارة:
ومحمد عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها - جمعت فأوعت - مثلما كان موسى - أكبر رسل بنى إسرائيل - صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التى لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام.
وبهذا يتحقق الشرط الثانى من شرطى البشارة وهو " المثليه " بين موسى ومحمد (عليهما صلوات الله وسلامه) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم.
فى المزامير المنسوبة إلى داود عليه السلام وردت كثير من العبارات التى لا يصح حمل معناها إلا على رسول الإسلام. ومن ذلك قول داود كما تروى التوراة:
" أنت أبرع جمالاً من بنى البشر. انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار، جلالك وبهاؤك. وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة.. بتلك المسنونة فى قلب أعداء الملك - يعنى الله - شعوب تحتك يسقطون.. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك "(7) .
اسمعى يانيت وأميلى أذنك، وانسى شعبك وبيت أبيك، فيشتهى الملك الملك حسنك؛ لأنه هو سيدك فاسجدى له. وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية. كلها مجد ابنة الملك فى خدرها. منسوجة بذهب ملابسها مطرزة، تحضر إلى الملك فى إثرها عذارى صاحباتها مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك. عوضاً عن آبائك يكون بنوك نقيمهم رؤساء فى كل الأرض اذكر اسمك فى كل دور فدور من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والآبد "
وقفة مع هذا الكلام
فى المقطع الأول (أ) لا تنطبق الأوصاف التى ذكرها داود إلا على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فهو الذى قاتل بسيفه فى سبيل الله وسقطت أمامه شعوب عظيمة كالفرس والروم.
وهو الممسوح بالبركة أكثر من رفقائه الأنبياء؛ لأنه خاتم النبيين، ورسالته عامة خالدة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(8) .
ولم يترك رسول هدى وبيانا مثلما ترك رسول الإسلام فى القرآن الحكيم، وفى أحاديثه وتوجيهاته، التى بلغت مئات الآلاف، وتعددت المصادر التى سجلتها، وفيها من روائع البيان، وصفاء الألفاظ، وشرف المعانى ما ليس فى غيرها.
أما المقطع الثانى (ب) فهو أوصاف للكعبة الشريفة. فهى التى تترضاها الأمم بالهدايا. وهى ذات الملابس المنسوجة بالذهب والمطرزة، وهى التى يذكر اسمها فى كل دور فدور وتأتيها قوافل" الحجيج " رجالاً ونساءً من كل مكان فيدخل الجميع فى " قصر الملك " ويحمدها الناس إلى الأبد؛ لأن الرسالة المرتبطة بها رسالة عامة: لكل شعوب الأرض الإنس والجن. بل والملائكة. وفى مواسم الحج يأتيها القاصدون من جميع بقاع الأرض مسلمين، ورعايا مسلمين من بلاد ليست مسلمة.
خالدة: لم ينته العمل بها بوفاة رسولها، كما هو الحال فيما تقدم. وإنما هى دين الله إلى الأبد الأبيد.
وأشعيا وسفره من أطول أسفار العهد القديم ملئ بالإشارات الواضحة التى تبشر برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولولا المنهج الذى أخذنا به هنا وهو عدم التطويل لذكرنا من ذلك الكثير؛ ولذا فإننا نكتفى بهذا المقطع لدلالته القوية على ما نقول:
" قومى استنيرى؛ لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك.. لأنه ها هى الظلمة تغطى الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب، ومجده عليك يرى. فتسير الأمم فى نورك، والملوك فى ضياء إشراقك.
ارفعى عينيك حواليك وانظرى. قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك. يأتى بنوك من بعيد، وتحمل بناتك على الأيدى، حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع؛ لأنه تحول إليك ثروة البحر، ويأتى إليك غنى الأمم تغطيك كثرة الجمال بكران مديان، وعيفة كلها تأتى من شبا. تحمل ذهبا ولبانا، وتبشر بتسابيح الرب. كل غنم قيدار تجتمع إليك. كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحى، وأزين بيت جمالى.
من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها. إن الجزائر تنتظرنى وسفن ترشيش فى الأول لتأتى من بعيد، وفضتهم وذهبهم معهم لا سم الرب إلهك
…
(9) .
وبنو الغريب يبنون أسوارك، وملوكهم يخدمونك.. وتفتح أبوابك دائما نهاراً وليلاً لا تغلق، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم
…
(10) .
دلالة هذه النصوص:
بلا أدنى ريب فإن هذا الكلام المنسوب إلى أشعيا وصف لمكة المكرمة وكعبتها الشامخة.
فالمقطع الأول إنما هو حديث عن موسم الحج المبارك فيه يجتمع بنوها حولها من كل مكان وفيه لمحة قوية جداًُ إلى نحر الهدى صبيحة العيد. ألم يشر النص إلى غنم قيدار، وقيدار هوولد إسماعيل عليه السلام الذى تشعبت منه قبائل العرب. ثم ألم ينص على المذبح الذى تنحر عليه الذبائح؟
كما أشار النص ثلاث إشارات تعد من أوضح الأدلة على أن المراد بهذا النص مكة المكرمة. وتلك الإشارات هى طرق حضور الحجاج إليها. ففى القديم كانت وسائل النقل: ركوب الجمال. ثم السفن. أما فى العصر الحديث فقد جدت وسيلة النقل الجوى " الطائرات " وبشارة أشعيا تضمنت هذه الوسائل الثلاث على النحو الآتى:
1-
الجمال، قال فيها: تغطيك كثرة الجمال.؟!
2-
السفن، قال فيها: وسفن ترشيش تأتى ببنيك من بعيد؟!
3-
النقل الجوى، وفيه يقول: من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها.؟!!
أليس هذا أوضح من الشمس فى كبد السماء.
على أن النص ملئ بعد ذلك بالدقائق والأسرار، ومنها أن مكة مفتوحة الأبواب ليلاً ونهاراً لكل قادم فى حج أو عمرة..؟!
ومنها أن خيرات الأمم تجبى إليها من كل مكان، والقرآن يقرر هذا المعنى فى قول الله تعالى:
(أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء)(11) .
ومنها أن بنى الغريب (يعنى غير العرب) يبنون أسوارها. وكم من الأيدى العاملة الآن، وذوى الخبرات يعملون فيها ويشيدون قلاعها فوق الأرض وتحت الأرض ومنها أنه ما من عاصمة من عواصم العالم إلا دخلت فى محنة من أهلها أو من غير أهلها إلا هذه " العاصمة المقدسة " فظلت بمأمن من غارات الغائرين وكيد الكائدين، ومثلها المدينة المنورة.
ومنها كثرة الثروات التى مَنَّ الله بها عليها. أليس البترول من ثروات البحر العظمى التى تفجرت أرض الحجاز وشبه الجزيرة منه عيوناً دفاقة بمعدل لم تصل إليه أمة من الأمم. أضف إلى ذلك سبائك الذهب والفضة.
والحديث عن مكة المكرمة حديث عن رسول الإسلام؛ لأن مجدها لم يأت إلا على يدى بعثته صلى الله عليه وسلم.
هذه الحقائق لا تقبل الجدل. ومع هذا فإن أهل الكتاب (وخاصة اليهود) يحملون هذه الأوصاف على مدينة " صهيون " ولهذا فإنهم عمدوا إلى النص وعدلوه ليصلح لهذا الزعم.
ولكننا نضع الأمر بين يدى المنصفين من كل ملة. أهذه الأوصاف يمكن أن تطلق على مدينة " صهيون ".
لقد خرب " بيت الرب " فى القدس مراراً وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور. أما الكعبة الشريفة والمسجد الحرام فلم يصل أحد إليهما بسوء، ثم أين ثروات البحر والبر التى تجبى إلى تلك المدينة وأهلها (إلى الآن) يعيشون عالة على صدقات الأمم.
وأين هى المواكب التى تأتى إليها براً وبحراً وجَوّاً، وهل أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً، وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها.
وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها. وأين هو التسبيح الذى يشق عنان السماء منها.. وأين.. وأين..؟
إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق، ونحن يكفينا أن نقيم هذه الأدلة من كتبهم على صدق الدعوى، ولا يهمنا أن يذعن القوم لما نقول فحسبك من خصمك أن تثبت باطل ما يدعيه أمام الحق الذى تدافع عنه.
والفاصل بيننا ـ فى النهاية ـ هو الله الذى لا يُبدل القول لديه.
وتنسب التوراة إلى نبى يدعى " حبقوق " من أنبياء العهد القديم، وله سفر صغير قوامه ثلاثة إصحاحات. تنسب إليه التوراة نصوصاً كان يصلى بها. تضمنها الإصحاح الثالث من سفره. وهذا الإصحاح يكاد يكون كله بشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وإليكم مقاطع منه: " الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران ـ سلاه ـ جلاله غطى السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه وكان لمعان كالنور له من يديه شعاع، وهناك استتار قدرته.
قدامه ذهب الوبأ. وعند رجليه خرجت الحمى. وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القوم.
مسالك الأزل
يسخط دست الأمم، خرجت لخلاص شعبك 000 سحقت رأس بيت الشرير معرياً الأساس حتى العنق 000 سلكت البحر بخيلك.. (12) .
دلالات هذه الإشارات:
لا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات ومعانى التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فالجهتان المذكورتان
فى مطلع هذا المقطع وهما: تيمان: يعنى اليمن، وجبل فاران: يعنى جبل النور الذى بمكة المكرمة التى هى فاران. هاتان الجهتان عربيتان. وهما رمز لشبه الجزيرة العربية التى كانت مسرحاً أولياً لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فليس المراد إذن نبياً من بنى إسرائيل؛ لأنه معلوم أن رسل بنى إسرائيل كانت تأتى من جهة الشام شمالاً. لا من جهة بلاد العرب. وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشارة المماثلة، التى تقدم ذكرها من سفر التثنية، وقد ذكرت أن الله: تلألأ أو استعلن من جبل فاران.
بيد أن بشارة التثنية شملت الإخبار بمقدم موسىعليه السلام والتبشير بعيسى عليه السلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم أما بشارة حبقوق فهى خاصة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولو لم يكن فى كلام حبقوق إلا هذا " التحديد " لكان ذلك كافياً فى اختصاص بشارته برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى:
منها: الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض..؟!
ومنها: دكه صلى الله عليه وسلم لعروش الظلم والطغيان وقهر الممالك الجائرة.
ومنها: أن خيل جيوشه ركبت البحر، وهذا لم يحدث إلا فى ظل رسالة الإسلام.
على أن كلام حبقوق ملئ بالرمز والإشارات مما يفيدنا فى هذا المجال ولكننا نتجاوزه لأمرين:
أحدهما: أن فى الإشارات الصريحة غناء عنها.
وثانيهما: عدم التطويل ـ هنا ـ كما اتفقنا.
بشاراته صلى الله عليه وسلم فى العهد الجديد
أسفار العهد الجديد (الأناجيل والرسائل) حافلة بالنصوص التى يتعين أن تكون " بشارات " برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
تلك البشارات تعلن أحياناً فى صورة الوعد بملكوت الله أو ملكوت السماوات. وأحيانا أخرى بالروح القدس. ومرات باسم المعزى أو الفارقليط، وهى كلمة يونانية سيأتى فيما بعد معناها، تلك هى صورة البشارات فى الأناجيل فى صيغها المعروفة الآن.
ففى إنجيل متى وردت هذه العبارة مسندة إلى يحيى عليه السلام المسمى فى الأناجيل: يوحنا المعمدان. وفيها يقول: " توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات "(13) .
فمن هو ملكوت السماوات الذى بشر به يحيى؟! هل هو عيسى عليه السلام كما يقول النصارى..؟!
هذا احتمال.. ولكن متَّى نفسه يدفعه حيث روى عن عيسى عليه السلام نفس العبارة: " توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات "(14) .
فلو كان المراد بملكوت السماوات ـ هذه ـ عيسى عليه السلام لما وردت هذه " البشارة " على لسان عيسى؛ إذ كيف يبشر بنفسه، وهو قائم موجود، والبشارة لا تكون إلا بشئ محبوب سيأتى، كما أن الإنذار ـ قسيمه ـ لا يكون إلا بشىء " مكروه " قد يقع. فكلاهما: التبشير والإنذار ـ أمران مستقبلان.
إن ورود هذه العبارة عن عيسى نفسه تخصيص لذلك العموم المستفاد من عبارة يحيى عليهما السلام. فدل ذلك على أن المراد بملكوت السماوات رسول آخر غير عيسى. ولم يأت بعد عيسى ـ باعتراف الجميع ـ رسول غير رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فدل ذلك على أنه هو المراد بملكوت السماوات فى عبارة عيسى عليه السلام قولاً واحداً ـ وباحتمال أرجح فى عبارة يحيى،إذ لا مانع عندنا ـ أن يكون يحيى عليه السلام قد بشر بها بعيسى عليه السلام.
أما بشارة عيسى فلا موضع لها إلا الحمل ـ القطعى ـ على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وفى صيغة الصلاة التى علمها المسيح لتلاميذه ـ كما يروى مَتَّى نفسه ـ بشارة أخرى بنبى الإسلام. وهذا هو نص مَتَّى فى هذا " فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذى فى السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك "(15) .
ووردت هذه الصيغة فى إنجيل لوقا هكذا:
" متى صليتم فقولوا: أبانا الذى فى السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك.. "(16) .
ويذكر لوقا أن المسيح جمع تلاميذه، وعلمهم كيف يقهرون الشياطين، ويشفون الأمراض ثم قال:" وأرسلهم ليكرزوا ـ أى يبشروا ـ بملكوت الله "(17) .
أما مرقس فيسند هذه البشارة إلى المسيح نفسه إذ يقول: " جاء يسوع إلى الجبل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله "(18) .
فهؤلاء ثلاثة من التلامذة يتفقون على أن يحيى وعيسى عليهما السلام قد بشرا بملكوت الله الذى اقترب. فمن المراد بملكوت الله إذا لم يكن هو رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم؟
وأكاد أجزم بأن عبارة " المسيح، قد كمل الزمان " لا تعنى سوى انتهاء عصر الرسالات الموقوتة وإقبال الرسالة الخالدة..!
ـ 3 ـ
أما يوحنا صاحب رابع الأناجيل. فإنه يذكر هذه البشارات فى مواضع متعددة من إنجيله. ومن ذلك ما يرويه عن المسيح عليه السلام " الذى لا يحبنى لا يحفظ كلامى، والكلام الذى تسمعونه ليس لى بل للأب الذى أرسلنى. بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزى (اسم فاعل من الفعل المضعف العين عزى) (19) الروح القدس، الذى سيرسله الأب باسمى فهو يعلمكم كل شىء ويذكركم بما قلته لكم "(20) .
كما يروى يوحنا قول المسيح ـ الآتى ـ مع تلاميذه: " إنه خير لكم أن انطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر وعلى دينونة "(21) .
ويروى كذلك قول المسيح لتلاميذه: " وأما إذا جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه. بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية "..؟! (22) .
فمن هو المعزى أو روح القدس أو روح الحق الذى بشر به المسيح عليه السلام حسبما يروى يوحنا..؟!
إن المسيح يقول:
إن ذلك المُعَرِّى أو الروح القدس لا يأتى إلا بعد ذهاب المسيح، والمسيح ـ نفسه ـ يُقِرُّ بأن ذلك المُعَرِّى أو الروح أَجَلُّ منه شأنا، وأعم نفعاً وأبقى أثراً، ولذلك قال لتلاميذه: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَرِّى.
وكلمة " خير " أفعل تفضيل بمعنى أكثر خيراً لكم ذهابى ليأتيكم المعزى ولو كان " المُعَزَّى " مساويا للمسيح فى الدرجة لكانا مستويين فى الخيرية ولما ساغ للمسيح أن يقول خير لكم أن أنطلق.
ومن باب أولى لو كان " المعزَّى " أقل فضلاً من المسيح. فعبارة المسيح دليل قاطع على أنه بشر بمن هو أفضل منه، لا مساوٍ له ولا أقل.
ثم يصف المسيح ذلك المُعَرَّى أو الروح بأوصاف ليست موجودة فى المسيح نفسه عليه السلام. ومن تلك الأوصاف:
أـ إنه يعلم الناس كل شىء. وهذا معناه شمول رسالته لكل مقومات الإصلاح فى الدنيا والدين. وذلك هو الإسلام.
ب ـ إنه يبكت العالم على خطية. والشاهد هنا كلمة " العالم " وهذا معناه شمول الإسلام لكل أجناس البشر، عربا وعجماً، فى كل زمان ومكان. ولم توصف شريعة بهذين الوصفين إلا الإسلام.
جـ ـ إنه يخبر بأمور آتية، ويذكر بما مضى. وقد تحقق هذا فى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأخبر بأمور آتية لم يخبر بها من سبقه أو أخبروا ولكن ليس على وجه التفصيل والتأكيد الذى كان على يديه صلى الله عليه وسلم فكم فى القرآن من أمور أخبر بها قبل أن تقع فوقعت كما أخبر، وكم فيه من الإخبار بما سيكون فى الحياة الآخرة من أوصاف الجنة، والنار، والبعث، وعلامات الساعة، وتخاصم أهل النار، وحوار أصحاب الجنة مع " رجال الأعراف "، وندم من باعوا دينهم بدنياهم. إلخ.. إلخ.
وذكر بما مضى من أحوال الأمم، وقيام الحضارات ثم سقوطها وأحوال المرسلين وما بلغوا به أقوامهم والشهادة لهم بالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء، ومسلك بعض الأقوام من رسلهم والصراع الذى دار بين المحقين وأهل الباطل، وعاقبة بعض المكذبين.. إلخ..إلخ.
ثم استوعبت رسالته الحياة كلها فأرست قواعد الاعتقاد الصحيح وسنت طرق العبادة المثمرة، ووضعت أصول التشريع فى كل ما هو متعلق بالحياة عاجلها وآجلها، ووضحت العلاقة السليمة بين المخلوق والخالق، وبين الناس بعضهم بعضاً. وحررت العقول، وطهرت القلوب ورسمت طريق الهدى لكل نفس ولكل جماعة ولكل أمة. أى أنها أرشدت إلى كل شىء. وعلمت كل شىء مما يحتاج تعلمه إلى وحى وتوقيف..!
ذلك هو الإسلام، ولا شىء غير الإسلام.
وشهدت ـ فيما شهدت ـ للمسيح عليه السلام بأنه رسول كريم أمين أدى رسالته وبشر وأنذر بنى إسرائيل. وأنه عبده ورسوله (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون)(23) .
وشهادة رسول الإسلام لعيسى عليه السلام منصوص عليها فى بشارات عيسى نفسه به صلى الله عليه وسلم . فاسمع إلى يوحنا وهو يروى عن المسيح عليه السلام قوله الآتى. " ومتى جاء المعزَّى الذى سأرسله " أنا " إليكم من الأب روح الحق من عند الأب ينبثق فهو يشهد لى.. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معى من الابتداء "(24) .
روح القدس هذا، أو المعزَّى، أو روح الحق لا يمكن أن يكون عيسى؛ لأن عيسى لم يبشر بنفسه، وهو كان موجوداً ساعة قال هذا ولا يمكن أن يكون المراد به نبياً بعد عيسى غير محمد صلى الله عليه وسلم لأننا متفقون على أن عيسى لم يأت بعده نبى قبل رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فتعين أن يكون روح القدس، أو المعزَّى، أو روح الحق تبشيرا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ فيه تجتمع تلك الأوصاف، كما يتحقق فيه معنى " الأفضلية " إذ هو خاتم النبيين، الذى جاء بشريعة خالدة عامة، وعلى هذا حملنا قبلا قول عيسى: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّى "
وهذا إقرار من عيسى بأن المبشر به أفضل من المُبَشِّر وكفى بذلك شواهد.
أما البشارة باسم " الفارقليط " فقد خلت منها الترجمات العربية المعاصرة للكتاب المقدس. ومعلوم أن الكتاب المقدس خضع للترجمات وطبعات متعددة؛ لدرجة أن الترجمات العربية لتختلف من نسخة إلى أخرى اختلافا بيناً.
وتحت يدى ـ الآن ـ نسختان من الطبعات العربية كلتاهما خاليتان من كلمة الفارقليط، وموضوع مكانها كلمة المعزى.
بيد أننى وجدت أن ابن القيم، وابن تيمية، كل منهما قد نقل عن نسخ خطية كانت معاصرة لهما نصوصاً فيها التصريح باسم" الفارقليط " كما أن الشيخ رحمت الله الهندى رحمه الله نقل فى كتابه " إظهار الحق " نصوصاً " عن ترجمات عربية ترجع إلى أعوام: 1821 ـ 1831 ـ 1844م وتمت فى لندن
معنى " الفارقليط ":
كلمة يونانية معناها واحد مما يأتى:
الحامد ـ الحماد ـ المحمود ـ الأحمد.
أو معناها كل ما تقدم. فمعنى " فارقليط " يدور حول الحمد وجميع مشتقاته المشار إليها.
وكل واحد منها يصح إطلاقه على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فهو الحامد والحمّاد والمحمود والأحمد، والمحمد.
وفى الطبعات ـ اللندنية ـ المتقدم ذكرها ورد النص هكذا: " إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليط آخر، ليثبت معكم إلى الأبد ".
" الفارقليط " روح القدس الذى يرسله الآب باسمى هو يعلمكم كل شىء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم " (25) .
ومقارنة هذين النصين بالنص المقابل لهما الذى نقلناه آنفا عن إنجيل يوحنا من الطبعات العربية الحديثة تريك أن الطبعات الحديثة حذفت كلمة " الفارقليط " ووضعت مكانها كلمة " المعزى " كما تريك أن الطبعات الحديثة حذفت جملة: " ليثبت معكم إلى الأبد " وهو نص على خلود الإسلام على أنهم عادوا واعترفوا بأن كلمة " المعزى " التى فى الطبعات الحديثة للكتاب المقدس أصلها مترجم عن كلمة يونانية لفظاً ومعنى وهى " باراكليتس " ومعناها المعزى، وليست " فارقليط " أو " بارقليط " التى معناها الحماد والحامد 000 والتى يتمسك بها المسلمون..؟!
وهذه المحاولات مردودة لسببين:
أولهما: ليس نحن ـ المسلمين ـ الذين قاموا بعمل بالطبعات القديمة التى فيها " الفارقليط " وإنما طبعها النصارى قديماً. فعملهم حجة على الطبعات الحديثة وهم غير متهمين فى عملهم هذا.
وثانيهما: ولو كانت الكلمة " هى: الباراكليتس " فلماذا خلت منها الطبعات القديمة والنسخ المخطوطة؟!
بل ولماذا خلت منها الطبعات الحديثة..؟!
وأيا كان المدار: فارقليط، أو باراكليتس، أو المعزى، أو الروح القدس فنحن لا نعول على الكلمة نفسها بقدر ما نعول على الأوصاف التى أجريت عليها. مثل يعلمكم كل شىء ـ يمكث معكم إلى الأبد. فهذه الأوصاف هى لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ومهما اجتهدتم فى صرفها عنه فلن تنصرف.
ولهم " شبهة " أخرى يحلو لهم تردادها وهى: محمد صلى الله عليه وسلم عربى الجنس واللسان، فكيف يرسله الله إلى أمم وأجناس غير عربية.. وكيف يكلف الله الناس برسالة لا يعرفون لغتها ولا عهد لهم بالتحدث معها. وكيف يستطيعون أن يفهموا القرآن، وتوجيهات رسول الإسلام، وهما باللغة العربية.؟!
رد الشبهة نرد عليها من طريقين:
الأول: وهو مستمد من واقع القوم أنفسهم. فهم يدعون تبعاً لما قال " بولس " أن عيسى عليه السلام مرسل لخلاص العالم كله. وأنه أمر حوارييه أن يكرزوا كل العالم برسالة الخلاص، وفى أيامنا هذه كثرت المنشورات التى تقول: المسيح مخلص العالم. وهنا نسأل القوم سؤالاً: أية لغة كانت لغة المسيح عليه السلام وحوارييه؟! هل هى العبرانية أم اليونانية؟! وأيا كان الجواب فإن المسيح كان يتكلم لغة واحدة. وأوحى إليه
الإنجيل بلغة واحدة.. فعلى أى أساس إذن قلتم: إنه منقذ لكل العالم؟! هل كل العالم كان وما يزال يعرف لغة المسيح؟! أم أن العالم أيام المسيح كان يتكلم بعدة لغات.. والآن يتكلم بمئات اللغات..؟! فإن كنتم قد ادعيتم أن المسيح هو منقذ كل العالم مع تسليمكم بأنه كان يتكلم بلغة واحدة فلماذا تنكرون على رسول الإسلام أن يكون مرسلاً لكل العالم.؟! وما الفرق بين رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام حتى تحظروا عليه ما استبحتموه للمسيح؟! أهذا عدل.. أهذا إنصاف!!
وإن تنازلتم عن عالمية المسيح فأنتم مدينون..؟!
الثانى: وهو مستمد من طبيعة الإسلام. ومن تاريخه الطويل الحافل بكل عجيب.
نعم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عربى اللسان، والجنس، والقرآن العظيم الذى جاء به عربى اللسان، عالمى التوجيه والتشريع والسلطان. ووحدة اللغة فى الإسلام مثل وحدة العقيدة فيه. ولم يحل دون انتشار الإسلام بين الأمم والشعوب غير العربية أن لغة رسالته عربية ورسوله عربى ورواده الأوائل عرب. هذه الاعتبارات لم تحل دون نشر الإسلام لجميع شعوب الأرض باختلاف لغاتها وعقائدها وأجناسها. وكان سلوك الدعوة إلى الإسلام حكيما، وهذه أبرز ملامحه.
أولاً: إن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم أرسل رسله يحملون رسائله وكتبه إلى كل رؤساء القبائل وملوك الأمم والشعوب، وقد بدأت هذه الطريقة بعد وقوع صلح الحديبية، وكل حامل رسالة أو كتاب إلى رئيس أو ملك كان على علم بلغة من هم المبعوث إليهم.
فقد أرسل النبى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبى.
وأرسل إلى المقوقس عظيم القبط بمصر حاطب بن أبى بلتعة. وأرسل إلى كسرى عبد الله بن حذافة السهمى.
وأرسل إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى شجاع بن ذهب الأسدى. وكان هؤلاء الرسل عالمين بلغات من أرسلوا إليهم.
كما كان صلى الله عليه وسلم يحتفظ بمترجمين يترجمون له ما يرد من رسائل لغتها غير العربية.
ثانياً: إن الملوك والرؤساء كان لديهم مترجمون ـ كذلك ـ يترجمون لهم ما يرد من رسول الإسلام أو يقومون بالترجمة من العربية إلى غيرها، ومن غير العربية إلى العربية فى حالة ما إذا كان " المرسل " وفداً يحمل رسائل شفوية للتبليغ.
ثالثاً: إن اليهود وكثيراً من النصارى كانوا يعرفون اللسان العربى، ومن النصارى من هم عرب خلص كنصارى نجران، كما أن العجم من الفرس والروم كان من بينهم عرب يعايشونهم ويقيمون بينهم.
رابعاً: كان صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على تعلم لغات الأمم ومما يروى عنه ـ عليه الصلاة السلام ـ قوله: من تعلم لغة قوم أمن غوائلهم.
خامساً: لما اجتازت الدعوة مرحلة الدعوة بالرسالة والكتاب والوفد، والبعث، ودخلت فى مرحلة الفتح كان الجنود المسلمون ينشرون اللغة العربية كما ينشرون الإسلام نفسه. وما من أرض حل بها الإسلام إلا وقد حلت بها اللغة العربية تعضده، وتؤازره فى انسجام عجيب، فقضت اللغة العربية على لغات الأمم والشعوب وحلت هى محلها. قضت على القبطية فى مصر وعلى الفارسية فى الشام وعلى البربرية فى شمال غرب أفريقيا كما قضت على السريانية وغيرها من اللغات، وأصبحت هى لغة الحياة والإدارة والكتابة والنشر والتأليف.
سادساً: قام العرب المسلمون بترجمة ما دعت إليه المصلحة من تراث الأمم المفتوحة، ففتحوا نوافذ الفكر، والثقافة، والمعرفة لمن لا يعرف غير العربية من العرب المسلمين. كما ترجموا من الفكر الإسلامى ما يصلح ضرورة لغير العرب من المسلمين فنقلوه من العربية إلى غير العربية وفاءً بحق الدعوة والتبليغ.
سابعاً: أقبل غير العرب من الذين دخلوا الإسلام على تعلم العربية وتركوا لغاتهم الأصلية وأصبحوا عربى اللسان واللغة. ومن هؤلاء أعلام لا يحصون كان لهم فضل عظيم فى إنماء الفكر الإسلامى منهم اللغويون، والنحويون، والبيانيون، والفقهاء، والأصوليون، والمفسرون، والمحدثون، والمتكلمون، والفلاسفة، والمناطقة، والرياضيون، والأطباء، والفلكيون، بل والشعراء والأدباء والرحالة والجغرافيون، وغيرهم، وغيرهم.
إن كل مجال من مجالات النشاط العلمى فى الإسلام نبغ فيه كثير من غير العرب بعد تعلمهم اللغة العربية التى كانوا فيها مثل أنجب وأحذق وأمهر أبنائها. ولو رحنا نحصى هؤلاء لضاق بنا السهل والوعر، فلتكن الإشارة إليهم نائباً عن ذلك التفصيل غير المستطاع.
إن وحدة اللغة فى الإسلام لم تحل دون نشر الإسلام، فلم يمض طويل من الزمن حتى بلغت الدعوة مشارق الأرض ومغاربها.
وصلت إلى الهند والصين فى أقصى الشرق، وإلى شواطئ المحيط الأطلسى فى أقصى الغرب وإلى بلاد النوبة جنوباً وإلى جبال البرانس جنوبى فرنسا شمالاً. وتوطدت فى قلب الكون:
الحجاز واليمن والشام وفارس وبلاد ما بين النهرين وما وراء النهرين ومصر وجنوب الوادى، وتركت اللغة العربية الواحدة آثارها فى كل قطر أشرقت فيه شمس الإسلام، وحتى ما فارقه الإسلام ـ كأسبانيا ـ ما تزال حضارة الإسلام وآثار العربية تغزو كل بيت فيها. وكما استوعب الإسلام مناهج الإصلاح فى كل مجالات الحياة الإنسانية استوعبت شقيقته الكبرى " اللغة العربية " كل أنماط التعبير ووسعت بسلطانها كل وسائل التسجيل والتدوين.. وامتلكت ناصية البيان الرائع الجميل، فهى لغة علم، ولغة فن ومشاعر، ووجدان. وقانون وسلام وحرب، ودين ودنيا.
إن أكثر من ألف مليون مسلم ينتشرون فى ربوع الأرض الآن لم يعجز الكثير منهم من غير العرب عن حفظ كتاب الله " القرآن العظيم " ويتلونه كما أنزل بلسان عربى فصيح. فإذا عاد إلى حديثه اليومى لجأ إلى لغة أمه وأبيه وبيئته.
ومسلم غير عربى استطاع أن يحفظ أو يقرأ القرآن بلغته العربية الفصحى لهو قادر ـ لو أدى المسلمون العرب واجبهم نحو لغة التنزيل ـ أن يقرأ بها كتب الحديث، والفقه، والتشريع، والنحو، والصرف، والبلاغة، والأدب وسائر العلوم والفنون.
ولكنه ذنب العرب المسلمين لا ذنب اللغة. فهى مطواعة لمن يريد أن يتقنها إن وجد معلماً مخلصاً. والأمل كبير ـ الآن ـ فى أن يلتقى كل المسلمين على لغة واحدة، كما التقوا على عقيدة واحدة.
إن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم عالمى الدعوة وإن كان عربى اللسان والجنس.
وإن الإسلام الحنيف عالمى التوجيه والسلطان وإن كانت لغة تنزيله عربية ورسوله عربياً، ورواده الأوائل عرباً.
(1) رددنا على هذه الادعاءات فى " الإسلام فى مواجهة الاستشراق فى العالم " مرجع سبق ذكره.
(2)
سفر التثنية: الإصحاح (33) الفقرات (1-2) .
(3)
سفر التكوين (21 - 21) .
(4)
سفر التثنية: الإصحاح (18) الفقرات (18 - 19) .
ويكون المعنى عليه: كيف أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم؟ أى لا أفعل هذا.
(5)
الجمعة: 2.
(6)
البقرة: 129.
(7)
المزمور (45) الفقرات (2 - 17) مع الحذف اليسير. (8) الأنبياء: 107.
(9)
مكان النقط هنا كلام لم نذكره هو " قدوس إسرائيل لأنه مجدك "؟! وهذا مقطع مضاف بكل تأكيد والهدف منه صرف الكلام عن معناه الظاهر!!
(10)
سفر أشعياء الأصحاح (60) الفقرات (4-12) مع حذف يسير.
(11)
القصص: 57.
(12)
(3 ـ3 ـ15) مع الحذف.
(13)
الإصحاح (3) الفقرة (2) .
(14)
الإصحاح (4) الفقرة (17) .
(15)
الإصحاح (6) الفقرة (9ـ10) .
(16)
الإصحاح (11) الفقرة (2) .
(17)
الإصحاح (9) الفقرة (2) .
(18)
الإصحاح (1) الفقرة (14 ـ15) .
(19)
هذا إيضاح وليس من النص.
(20)
الإصحاح (14) الفقرات (24 ـ 26) .
(21)
الإصحاح (16) الفقرتان (7 ـ8) .
(22)
الإصحاح (16) الفقرة (13) .
(23)
مريم: 34.
(24)
الإصحاح (15) فقرتا (26 ـ 27) .
(25)
انظر كتاب " إظهار الحق " ص 528 للشيخ رحمت الله الهندى تحقيق الدكتور أحمد حجازى السقا. نشر دار التراث.
49- قوم النبى محمد صلى الله عليه وسلم زناة من أصحاب الجحيم
!
الرد على الشبهة:
ما ذنب النبى محمد صلى الله عليه وسلم أن يقع قومه ومن أرسل إليهم فى خطيئة الزنا أو أن يكونوا من أصحاب الجحيم؟ مادام هو صلوات الله وسلامه عليه قد برئ من هذه الخطيئة ولاسيما فى مرحلة ما قبل النبوة، وكانت مرحلة الشباب التى يمكن أن تكون إغراء له ولأمثاله أن يقعوا فى هذه الخطيئة؛ لاسيما وأن المجتمع الجاهلى كان يشجع على ذلك وكان الزنا فيه من الأمور العادية التى يمارسها أهل الجاهلية شبانًا وشيبًا أيضًا. وكان للزنا فيه بيوت قائمة يعترف المجتمع بها، وتُعلق على أبوابها علامات يعرفها بها الباحثون عن الخطيئة، وتعرف بيوت البغايا باسم أصحاب الرايات.
ومع هذا الاعتراف العلنى من المجتمع الجاهلى بهذه الخطيئة، ومع أن ممارستها للشباب وحتى للشيب لم تكن مما يكره المجتمع أو يعيب من يمارسونه؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يقع فيها أبدًا بل شهدت كل كتب السير والتواريخ له صلى الله عليه وسلم بالطهارة والعفة وغيرهما من الفضائل الشخصية التى يزدان بها الرجال وتحسب فى موازين تقويمهم وتقديرهم، وأرسله الله سبحانه ليغير هذا المنكر. هذه واحدة والثانية: أن الرسالة التى دعا بها ودعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم حرّمت الزنا تحريماً قاطعاً وحملت آياتها فى القرآن الكريم عقاباً شديداً للزانى والزانية يبدأ بعقوبة بدنية هى أن يجلد كل منهما مائة جلدة قاسية يتم تنفيذها علناً بحيث يشهدها الناس لتكون عبرة وزجراً لهم عن التورط فيها
كما تقول الآية الكريمة: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)(1) .
فإذا كان الزانيان محصنين أى كل منهما متزوج ارتفعت العقوبة إلى حدّ الإعدام رمياً بالحجارة حتى الموت.
ولا تقف العقوبة عند ذلك بل نرى أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تضع مَنْ يمارسون هذه الخطيئة فى مرتبة دونية من البشر حتى لكأنهم صنف منحط وشاذ عن بقية الأطهار الأسوياء فتقول الآية الكريمة عنهم: (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين)(2) .
من الذى يحمل المسئولية عن الخطيئة؟
فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد طهر من هذه الخطيئة فى المجتمع الذى كان يراها عادية ومألوفة، ثم كانت رسالته صلى الله عليه وسلم تحرمها التحريم القاطع والصريح، وتضع مرتكبيها فى مرتبة الانحطاط والشذوذ عن الأسوياء من البشر..
فلِمَ يُعَيّر محمد صلى الله عليه وسلم بأن بعض قومه زناة؟ وهل يصح فى منطق العقلاء أن يعيبوا إنساناً بما فى غيره من العيوب؟ وأن يحملوه أوزار الآخرين وخطاياهم؟.
وهنا يكون للمسألة وجه آخر يجب التنويه إليه وهو خاص بالمسئولية عن الخطيئة أهى فردية خاصة بمن يرتكبونها؟ أم أن آخرين يمكن أن يحملوها نيابة عنهم ويؤدون كفارتها؟ !
أن الإسلام يمتاز بأمرين مهمين:
أولهما: أن الخطيئة فردية يتحمل من وقع فيها وحده عقوبتها ولا يجوز أن يحملها عنه أو حتى يشاركه فى حملها غيره وصريح آيات القرآن يقول: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليه ما اكتسبت)(3) . ثم: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)(4) . وورد هذا النص فى آيات كثيرة.
أما الأمر الثانى: فيما أقره الإسلام فى مسألة الخطيئة فهو أنها لا تورث، ولا تنقل من مخطئ ليتحمل عنه وزره آخر حتى ولو بين الآباء وأبنائهم وفى هذا يقول القرآن الكريم:(واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً)(5) .
(هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)(6) .
(ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب)(7) .
(يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها)(8) .
(ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)(9) .
(كل نفس بما كسبت رهينة)(10) .
وغير هذا كثير مما يؤكد ما أقرَّه الإسلام من أن الخطايا فردية وأنها لا تورث ولا يجزى فيها والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً.
وما دام الأمر فلا أن فلم يلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا يعاب شخصه أو تعاب رسالته بأن بعض أهله أو حتى كلهم زناة مارسوا الخطيئة التى كان يعترف بها مجتمعه ولا يجزى فيها شيئاً أو ينقص الشرف والمروءة أو يعاب بها عندهم من يمارسها.
وحسب محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يقع أبداً فى هذه الخطيئة لا قبل زواجه ولا بعده، ثم كانت رسالته دعوة كبرى إلى التعفف والتطهر وإلى تصريف الشهوة البشرية فى المصرف الحلال الذى حض الإسلام عليه وهو النكاح الشرعى الحلال، ودعا المسلمين إلى عدم المغالاة فى المهور تيسيراً على الراغبين فى الحلال، حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزوج الرجل بأقل وأيسر ما يملك من المال، وأثر عنه صلى الله عليه وسلم أن شاباً جاءه يرغب إليه فى الزواج وما كان معه ما يفى بالمراد فقال له صلى الله عليه وسلم:[التمس ولو خاتماً من حديد](11) .
أكثر من هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يزوج بعض الصحابة بما يحفظ من القرآن الكريم.
لهذا لم تقع خطايا الزنا فى المجتمع فى العهد النبوى كله إلا فى ندرة نادرة، ربما لأن الحق سبحانه شاء أن تقع وأن يقام فيها الحد الشرعى ليسترشد بها المجتمع فى مستقبل الأيام؛ كتشريع تم تطبيقه فى حالات محددة يكون هادياً ودليلاً فى القضاء والحكم.
هذا عن اتهام محمد صلى الله عليه وسلم بأن أهله زناة، وهو كما أوضحنا اتهام متهافت لا ينال من مقام النبوة ولا يرتقى إلى أقدام صاحبها صلى الله عليه وسلم. وقد أتينا عليه بما تستريح إليه ضمائر العقلاء وبصائر ذوى القلوب النقية.
أما عن اتهامه صلى الله عليه وسلم بأن أهله من أصحاب الجحيم، فهى شهادة لجلال التشريع الذى أنزله الحق - على محمد فأكمل به الدين وأتم به النعمة.
بل إن ما يعيبون به محمداً صلى الله عليه وسلم من أن أهله من أصحاب الجحيم ليس أبداً عيبًا فى منطق العقلاء ذوى النصفة والرشد؛ بل إنه وسام تكريم لمحمد صلى الله عليه وسلم ولرسالته الكاملة والخاتمة فى أن التشريع الذى نزلت به سوَّى بين من هم أقرباء محمد صلى الله عليه وسلم وبين من هم غرباء عنه فى جميع الأحكام ثواباً وعقوبة.
بل إن التشريع الذى نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نص صراحة على التزام العدل خاصة حين يكون أحد أطرافه ذا قربى فقال القرآن: (ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)(12) . وقوله: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)(13) .
أما فى السنة النبوية فحديث المرأة المخزومية ـ من بنى مخزوم ذوى الشرف والمكانة ـ التى ارتكبت جريمة السرقة وهى جريمة عقوبتها حدّ السرقة وهو قطع يد السارق كما تنص عليه آيات القرآن، وشغل بأمرها مجتمع المدينة لئلا يطبق عليها الحدّ فتقطع يدها وهى ذات الشرف والمكانة فسعوا لدى أسامة بن زيد - حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لها لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:[أتشفع فى حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها](14) .
وعليه فكون بعض آل محمد وذوى قرباه من أصحاب الجحيم كأبى لهب عمه الذى نزلت فيه سورة المسد: (تبت يدا أبى لهب وتب)(15) وغيره ممن كان نصيرًا لهم مع بقائه على شركه..
كون هؤلاء من أصحاب الجحيم لأنهم بقوا على شركهم ولم تنفعهم قرابتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم هو فى الواقع شهادة تقدير تعطى لمحمد ورسالته التى سوَّت فى العدل بين القريب وبين الغريب، ولم تجعل لعامل القرابة أدنى تأثير فى الانحياز ضد الحق لصالح القريب على الغريب. وما قاله المبطلون هو فى الحق وسام وليس باتهام.
وصلى الله وسلم على النبى العظيم.
(1) النور: 2.
(2)
النور: 3.
(3)
البقرة: 286.
(4)
الأنعام: 164.
(5)
البقرة 48.
(6)
يونس: 30.
(7)
إبراهيم: 51.
(8)
النحل: 111.
(9)
الجاثية: 22.
(10)
المدثر: 38.
(11)
رواة البخارى [كتاب النكاح] .
(12)
التوبة: 113.
(13)
الأنعام: 152.
(14)
رواة البخارى [كتاب أحاديث الأنبياء] .
(15)
المسد: 1.
50- مات النبى صلى الله عليه وسلم بالسم
الرد على الشبهة:
حين تصاب القلوب بالعمى بسبب ما يغشاها من الحقد والكراهية يدفعها حقدها إلى تشويه الخصم بما يعيب، وبما لا يعيب، واتهامه بما لا يصلح أن يكون تهمة، حتى إنك لترى من يعيب إنساناً مثلاً بأن عينيه واسعتان أو أنه أبيض اللون طويل القامة، أو مثلاً قد أصيب بالحمى ومات بها، أو أن فلاناً من الناس قد ضربه وأسال دمه؛ فهذا كأن أو أن تعيب الورد بأن لونه أحمر مثلاً؛ وغير ذلك مما يستهجنه العقلاء ويرفضونه ويرونه إفلاسًا وعجزًا.
أن محمداً صلى الله عليه وسلم قدمت له امرأة من نساء اليهود شاة مسمومة فأكل منها فمات صلى الله عليه وسلم.
وينقلون عن تفسير البيضاوى:
أنه لما فتحت خيبر واطمأن الناس سألت زينب بنت الحارس - وهى امرأة سلام بن مشكم (اليهودى) - عن أى الشاة أحب إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: إنه يحب الذراع لأنه أبعدها عن الأذى فعمدت إلى عنزة لها فذبحتها ثم عمدت إلى سمّ لا يلبث أن يقتل لساعته فسمَّت به الشاة، وذهبت بها جارية لها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا محمد هذه هدية أهديها إليك.
وتناول محمد الذراع فنهش منها.. فقال صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع والكتف تخبرنى بأنها مسمومة؛ ثم سار إلى اليهودية فسألها لم فعلت ذلك؟ قالت: نلت من قومى ما نلت
…
وكان ذلك بعد فتح " خيبر " أحد أكبر حصون اليهود فى المدينة وأنه صلى الله عليه وسلم قد عفا عنها.
ثم يفصحون عن تفسير البيضاوى:
أنه صلى الله عليه وسلم لما اقترب موته قال لعائشة ـ رضى الله عنها ـ يا عائشة هذا أوان انقطاع أبهرى (1) .
فليس فى موته صلى الله عليه وسلم بعد سنوات متأثرًا بذلك السُّم إلا أن جمع الله له بين الحسنيين، أنه لم يسلط عليه من يقتله مباشرة وعصمه من الناس وأيضًا كتب له النجاة من كيد الكائدين وكذلك كتب له الشهادة ليكتب مع الشهداء عند ربهم وما أعظم أجر الشهيد.
وأيضًا.. لا شك أن عدم موته بالسم فور أكله للشاة المسمومة وحياته بعد ذلك سنوات يُعد معجزة من معجزاته، وعَلَمًا من أعلام نبوته يبرهن على صدقه، وعلى أنه رسول من عند الله حقًا ويقينًا.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يموت فى الأجل الذى أجله له رغم تأثره بالسم من لحظة أكله للشاة المسمومة حتى موته بعد ذلك بسنوات.
(1) الأبهران عرقان متصلان بالقلب وإذا قطعا كانت الوفاة.
51- تعدد زوجات النبى محمد صلى الله عليه وسلم
قالوا إنه صلى الله عليه وسلم:
* تزوج زوجة ابنه بالتبنى (زيد بن حارثة) .
* أباح لنفسه الزواج من أى امرأة تهبه نفسها (الخلاصة أنه شهوانى) .
الرد على الشبهة:
الثابت المشهور من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يتزوج إلا بعد أن بلغ الخامسة والعشرين من العمر.
والثابت كذلك أن الزواج المبكر كان من أعراف المجتمع الجاهلى رغبة فى الاستكثار من البنين خاصة ليكونوا للقبيلة عِزًّا ومنعة بين القبائل.
ومن الثابت كذلك فى سيرته الشخصية صلى الله عليه وسلم اشتهاره بالاستقامة والتعفف عن الفاحشة والتصريف الشائن الحرام للشهوة، رغم امتلاء المجتمع الجاهلى بشرائح من الزانيات اللاتى كانت لهن بيوت يستقبلن فيها الزناة ويضعن عليها " رايات " ليعرفها طلاب المتع المحرمة.
ومع هذا كله ـ مع توفر أسباب الانحراف والسقوط فى الفاحشة فى مجتمع مكة ـ لم يُعرَف عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلا التعفف والطهارة بين جميع قرنائه؛ ذلك لأن عين السماء كانت تحرسه وتصرف عنه كيد الشيطان.
ويُرْوَى فى ذلك أن بعض أترابه الشباب أخذوه ذات يوم إلى أحد مواقع المعازف واللهو فغشَّاه الله بالنوم فما أفاق منه إلا حين أيقظه أترابه للعودة إلى دورهم.
هذه واحدة..
أما الثانية فهى أنه حين بلغ الخامسة والعشرين ورغب فى الزواج لم يبحث عن " البكر " التى تكون أحظى للقبول وأولى للباحثين عن مجرد المتعة. وإنما تزوج امرأة تكبره بحوالى خمسة عشر عامًا، ثم إنها ليست بكرًا بل هى ثيب، ولها أولاد كبار أعمار أحدهم يقترب من العشرين؛ وهى السيدة خديجة وفوق هذا كله فمشهور أنها هى التى اختارته بعد ما لمست بنفسها ـ من خلال مباشرته لتجارتها ـ من أمانته وعفته وطيب شمائله صلى الله عليه وسلم.
والثالثة أنه صلى الله عليه وسلم بعد زواجه منها دامت عشرته بها طيلة حياتها ولم يتزوج عليها حتى مضت عن دنياه إلى رحاب الله. وقضى معها - رضى الله عنها - زهرة شبابه وكان له منها أولاده جميعًا إلا إبراهيم الذى كانت أمه السيدة " مارية " القبطية.
والرابعة أنه صلى الله عليه وسلم عاش عمره بعد وفاتها - رضى الله عنها - محبًّا لها يحفظ لها أطيب الذكريات ويعدد مآثرها وهى مآثر لها خصوص فى حياته وفى نجاح دعوته فيقول فى بعض ما قال عنها: [صدقتنى إذ كذبنى الناس وأعانتنى بمالها] . بل كان صلى الله عليه وسلم لا يكف عن الثناء عليها والوفاء لذكراها والترحيب بمن كن من صديقاتها، حتى أثار ذلك غيرة السيدة عائشة - رضى الله عنها.
أما تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم فكان كشأن غيره من الأنبياء له أسبابه منها:
أولاً: كان عُمْرُ محمد صلى الله عليه وسلم فى أول زواج له صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة تجاوز الخمسين وهى السنّ التى تنطفىء فيها جذوة الشهوة وتنام الغرائز الحسية بدنيًّا، وتقل فيها الحاجة الجنسية إلى الأنثى وتعلو فيها الحاجة إلى من يؤنس الوحشة ويقوم بأمر الأولاد والبنات اللاتى تركتهم خديجة - رضى الله عنها -.
وفيما يلى بيان هذا الزواج وظروفه.
الزوجة الأولى: سودة بنت زمعة: كان رحيل السيدة خديجة - رضى الله عنها - مثير أحزان كبرى فى بيت النبى صلى الله عليه وسلم وفى محيط الصحابة - رضوان الله عليهم - إشفاقًا عليه من الوحدة وافتقاد من يرعى شئونه وشئون أولاده. ثم تصادف فقدانه صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب نصيره وظهيره وسُمِّىَ العام الذى رحل فيه نصيراه خديجة وأبو طالب عام الحزن.
فى هذا المناخ.. مناخ الحزن والوحدة وافتقاد من يرعى شئون الرسول وشئون أولاده سعت إلى بيت الرسول واحدة من المسلمات تُسمى خولة بنت حكيم السلمية وقالت: له يا رسول الله كأنى أراك قد دخلتك خلّة لفقد خديجة فأجاب صلى الله عليه وسلم: [أجل كانت أم العيال وربة البيت]، فقالت يا رسول الله: ألا أخطب عليك؟.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ولكن - من بعد خديخة؟! فذكرت له عائشة بنت أبى بكر فقال الرسول: لكنها ما تزال صغيره فقالت: تخطبها اليوم ثم تنتظر حتى تنضج.. قال الرسول ولكن من للبيت ومن لبنات الرسول يخدمهن؟ فقالت خولة: إنها سودة بنت زمعة، وعرض الأمر على سودة ووالدها: فتم الزواج ودخل بها صلى الله عليه وسلم بمكة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن سودة هذه كانت زوجة للسكران بن عمرو وتوفى عنها زوجها بمكة فلما حلّت تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت أول امرأة تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، وكان ذلك فى رمضان سنة عشر من النبوة.
وعجب المجتمع المكى لهذا الزواج لأن " سودة " هذه ليست بذات جمال ولا حسب ولا تصلح أن تكون خلفًا لأم المؤمنين خديجة التى كانت عند زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها جميلة وضيئة وحسيبة تطمح إليها الأنظار.
وهنا أقول للمرجفين الحاقدين: هذه هى الزوجة الأولى للرسول بعد خديجة، فهى مؤمنة هاجرت الهجرة الأولى مع من فرّوا بدينهم إلى الحبشة وقد قَبِلَ الرسول زواجها حماية لها وجبرًا لخاطرها بعد وفاة زوجها إثر عودتهما من الحبشة.
وليس الزواج بها سعارَ شهوة للرسول ولكنه كان جبرًا لخاطر امرأة مؤمنة خرجت مع زوجها من أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة ولما عادا توفى زوجها وتركها امرأة تحتاج هى وبنوها إلى من يرعاهم.
الزوجة الثانية بعد خديجة: عائشة بنت أبى بكر الذى يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن من آمن الناس علىّ فى ماله وصحبته أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام..".
ومعروف من هو أبو بكر الذى قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم متحدثاً عن عطائه للدعوة " ما نفعنى مالٌ قط ما نفعنى مال أبى بكر "، وأم عائشة هى أم رومان بنت عامر الكنانى من الصحابيات الجليلات، ولما توفيت نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبرها واستغفرلها وقال:" اللهم لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفى رسولك صلى الله عليه وسلم "، وقال عنها يوم وفاتها:
" من سرّه أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان " ولم يدهش مكة نبأ المصاهرة بين أعز صاحبين؛ بل استقبلته كما تستقبل أمرًا متوقعاً؛ ولذا لم يجد أى رجل من المشركين فى هذا الزواج أى مطعن - وهم الذين لم يتركوا مجالاً للطعن إلا سلكوه ولو كان زورًا وافتراء.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بفتاة بينه وبينها قرابة خمسين عامًا ليس بدعا ولا غريبًا لأن هذا الأمر كان مألوفًا فى ذلك المجتمع. لكن المستشرقين ومن تحمل قلوبهم الحقد من بعض أهل الكتاب - على محمد صلى الله عليه وسلم جعلوا من هذا الزواج اتهامًا للرسول وتشهيرًا به بأنه رجل شهوانى غافلين بل عامدين إلى تجاهل ما كان واقعًا فى ذلك المجتمع من زواج الكبار بالصغيرات كما فى هذه النماذج:
- فقد تزوج عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم من هالة بنت عم آمنة التى تزوجها أصغر أبنائه عبد الله ـ والد الرسول صلى الله عليه وسلم.
- وتزوج عمر بن الخطاب ابنة على بن أبى طالب وهو أكبر سنًّا من أبيها.
ـ وعرض عمر على أبى بكر أن يتزوج ابنته الشابة " حفصة " وبينهما من فارق السن مثل الذى بين المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين " عائشة "(1) .
كان هذا واقع المجتمع الذى تزوج فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة. لكن المستشرقين والممتلئة قلوبهم حقدًا من بعض أهل الكتاب لم ترَ أعينهم إلا زواج محمد بعائشة والتى جعلوها حدث الأحداث - على حد مقولاتهم - أن يتزوج الرجل الكهل بالطفلة الغريرة العذراء (2) .
قاتل الله الهوى حين يعمى الأبصار والبصائر!
الزوجة الثالثة: حفصة بنت عمر الأرملة الشابة:
توفى عنها زوجها حنيس بن حذافة السهمى وهو صحابى جليل من أصحاب الهجرتين - إلى الحبشة ثم إلى المدينة - ذلك بعد جراحة أصابته فى غزوة أُحد حيث فارق الحياة وأصبحت حفصة بنت عمر بن الخطاب أرملة وهى شابة.
وكان ترمّلها مثار ألم دائم لأبيها عمر بن الخطاب الذى كان يحزنه أن يرى جمال ابنته وحيويتها تخبو يومًا بعد يوم..
وبمشاعر الأبوة الحانية وطبيعة المجتمع الذى لا يتردد فيه الرجل من أن يخطب لابنته من يراه أهلاً لها..
بهذه المشاعر تحدث عمر إلى الصديق " أبى بكر " يعرض عليه الزواج من حفصة لكن أبا بكر يلتزم الصمت ولا يرد بالإيجاب أو بالسلب.
فيتركه عمر ويمضى إلى ذى النورين عثمان بن عفان فيعرض عليه الزواج من حفصة فيفاجئه عثمان بالرفض..
فتضيق به الدنيا ويمضى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بما حدث فيكون رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه هو قوله: [يتزوج حفصةَ خيرٌ من عثمان ويتزوج عثمان خيرًا من حفصة](3) .
وأدركها عمر - رضى الله عنه - بفطرته إذ معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما استشعره عمر هو أن من سيتزوج ابنته حفصة هو الرسول نفسه وسيتزوج عثمان إحدى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم.
وانطلق عمر إلى حفصة والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة وارتياح القلب إلى أن الله قد فرّج كرب ابنته.
الزوجة الرابعة: أم سلمة بنت زاد الراكب:
من المهاجرين الأولين إلى الحبشة وكان زوجها (أبو سلمة) عبد الله ابن عبد الأسد المخزومى أول من هاجر إلى يثرب (المدينة) من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. جاءت إلى بيت النبى صلى الله عليه وسلم كزوجة بعد وفاة " أم المساكين زينب بنت خزيمة الهلالية " بزمن غير قصير.
سليلة بيت كريم، فأبوها أحد أجواد قريش المعروفين بلقب زاد الراكب؛ إذ كان لا يرافقه أحد فى سفر إلا كفاه زاده.
وزوجها الذى مات عنها صحابى من بنى مخزوم ابن عمة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ذو الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة. وكانت هى وزوجها من السابقين إلى الإسلام. وكانت هجرتهما إلى المدينة معًا وقد حدث لها ولطفلها أحداث أليمة ومثيرة ذكرتها كتب السير. رضى الله عن أم سلمة.. ولا نامت أعين المرجفين.
الزوجة الخامسة: زينب بنت جحش:
لم أرَ امرأة قط خيرًا فى الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد تبديلا إلا لنفسها فى العمل الذى تتصدق وتتقرب به إلى الله عز وجل؟ (4) .
هكذا تحدثت أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها- عن " ضرّتها " زينب بنت جحش. أما المبطلون الحاقدون من بعض أهل الكتاب فقالوا:
أُعْجِب محمد صلى الله عليه وسلم وحاشا له - بزوجة متبناه " زيد بن حارثة " فطلقها منه وتزوجها.
ويرد الدكتور هيكل فى كتابه " حياة محمد "(5) صلى الله عليه وسلم على هذا فيقول: إنها شهوة التبشير المكشوف تارة والتبشير باسم العلم تارة أخرى، والخصومة القديمة للإسلام تأصلت فى النفوس منذ الحروب الصليبية هى التى تملى على هؤلاء جميعًا ما يكتبون.
والحق الذى كنا نود أن يلتفت إليه المبطلون الحاقدون على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم.. هو أن زواج محمد صلى الله عليه وسلم من زوجة ابنه بالتبنى زيد بن حارثة إنما كان لحكمة تشريعية أرادها الإسلام لإبطال هذه العادة ـ عادة التبنى ـ التى هى فى الحقيقة تزييف لحقائق الأمور كان لها فى واقع الناس والحياة آثار غير حميدة.
ولأن هذه العادة كانت قد تأصلت فى مجتمع الجاهلية اختارت السماء بيت النبوة بل نبى الرسالة الخاتمة نفسه صلى الله عليه وسلم ليتم على يديه وفى بيته الإعلان العلمى عن إبطال هذه العادة.
وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة الآيات القرآنية التى جاءت إعلاناً عن هذا الحكم المخالف لعادات الجاهلية وتفسيرًا للتشريع الجديد فى هذه ـ المسألة وفى موضوع الزواج بزينب حيث تقول:
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)(6) .
(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم)(7) .
(وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً)(8) .
مرة أخرى نذكر بأن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب لم تكن وراءه أبدًا شهوة أو رغبة جنسية وإنما كان أمرًا من قدر الله وإرادته لإبطال عادة التبنى من خلال تشريع يتردد صداه بأقوى قوة فى المجتمع الجاهلى الذى كانت عادة التبنى أصلاً من أصوله وتقليدًا مستقرًا فيه، فكان السبيل لأبطالها أن يتم التغيير فى بيت النبوة وعلى يد الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم.
وقد فطنت السيدة " زينب بنت جحش " نفسها إلى هذا الأمر فكانت تباهى به ضراتها وتقول لهن: " زوجكن أهاليكن وزوجنى ربى من فوق سبع سمَوات "(9) .
أما لماذا كان زيد بن حارثة نفسه يتردد على الرسول معربًا عن رغبته فى تطليق زينب؛ فلم يكن - كما زعم المرجفون - أنه شعر أن الرسول يرغب فيها فأراد أن يتنازل عنها له..
ولكن لأن حياته معها لم تكن على الوفاق أو التواد المرغوب فيه؛ ذلك أن زينب بنت جحش لم تنس أبدًا ـ وهى الحسيبة الشريفة والجميلة أيضًا أنها أصبحت زوجًا لرجل كان رقيقًا عند بعض أهلها وأنه ـ عند الزواج بها ـ كان مولىً للرسول صلى الله عليه وسلم أعتقه بعد ما اشتراه ممن أسره من قريش وباعه بمكة.
فهو ـ وإن تبناه محمد وبات يسمى زيد بن محمد فى عرف المجتمع المكى كله، لكنه عند العروس الحسيبة الشريفة والجميلة أيضا ما يزال ـ كما كان بالأمس - الأسير الرقيق الذى لا يمثل حُلم من تكون فى مثل حالها من الحسب والجمال وليس هذا بغريب بل إنه من طبائع الأشياء.
ومن ثم لم تتوهج سعادتها بهذا الزواج، وانعكس الحال على زيد بن حارثة فانطفأ فى نفسه توهج السعادة هو الآخر، وبات مهيأ النفس لفراقها بل لقد ذهب زيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو زينب إليه كما جاء فى البخارى من حديث أنس قال: جاء زيد يشكو إلى الرسول فجعل صلى الله عليه وسلم يقول له: [أمسك عليك زوجك واتق الله](10) قال أنس: لو كان النبى كاتمًا شيئًا لكتم هذا الحديث.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول له كما حكته الآية: أمسك عليك زوجك ولا تسارع بتطليقها.
وزينب بنت جحش هى بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم كما سبقت الإشارة - وهو الذى زوجها لمولاه " زيد " ولو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه؛
وخاصة أنه رآها كثيراً قبل فرض الحجاب، وكان النساء فى المجتمع الجاهلى غير محجبات فما كان يمنعه - إذًا - من أن يتزوجها من البداية؟! ؛ ولكنه لم يفعل.
فالأمر كله ليس من عمل الإرادة البشرية لهم جميعًا: لا لزينب ولا لزيد ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه أمر قدرى شاءته إرادة الله لإعلان حكم وتشريع جديدين فى قضية إبطال عادة " التبنى " التى كانت سائدة فى المجتمع آنذاك.
يؤكد هذا ويدل عليه مجموع الآيات الكريمة التى تعلقت بالموضوع فى سورة الأحزاب.
أما الجملة التى وردت فى قوله تعالى: (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)(11) . فإن ما أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم هو كتم ما كان الله قد أخبره به من أن زينب ـ يومًا ما ـ ستكون زوجًا له؛ لكنه لم يصرح به خشية أن يقول الناس: إنه تزوج زوجة ابنه بالتبنى (12) .
الزوجة السادسة: جويرية بنت الحارث الخزاعية:
الأميرة الحسناء التى لم تكن امرأة أعظم بركة على قومها منها فقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم بعد زواجه بها أهل مائة بيت من بنى المصطلق (التى هى منهم) .
كانت ممن وقع فى الأسر بعد هزيمة بنى المصطلق من اليهود فى الغزوة المسماة باسمهم. وكاتبها من وقعت فى أسره على مال فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: " أو خير من ذلك؟.
قالت: وما هو؟ قال: أقضى عنك كتابتك وأتزوجك.
قالت: وقد أفاقت من مشاعر الهوان والحزن: نعم يا رسول الله.
قال: قد فعلت " (13) .
وذاع الخبر بين المسلمين: أن رسول صلى الله عليه وسلم قد تزوج بنت الحارث بن ضرار زعيم بنى المصطلق وقائدهم فى هذه الغزوة..
معنى هذا أن جميع من بأيديهم من أسرى بنى المصطلق قد أصبحوا بعد هذا الزواج كأنهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تيار من الوفاء والمجاملة من المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم تجسد فى إطلاق المسلمين لكل من بأيديهم من أسرى بنى المصطلق وهم يقولون: أصهار رسول الله، فلا نبقيهم أسرى.
ومع أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأسيرة بنت سيد قومها والذى جاءته ضارعة مذعورة مما يمكن أن تتعرض له من الذل من بعد عزة.. فإذا هو يرحمها بالزواج، ثم يتيح لها الفرصة لأن تعلن إسلامها وبذا تصبح واحدة من أمهات المؤمنين.
ويقولون: إنه نظر إليها.
وأقول: أما أنه نظر إليها فهذا لا يعيبه ـ وربما كان نظره إليها ضارعة مذعورة - هو الذى حرك فى نفسه صلى الله عليه وسلم عاطفة الرحمة التى كان يأمر بها بمن فى مثل حالتها ويقول: [ارحموا عزيز قوم ذل] ، فرحمها وخيرها فاختارت ما يحميها من هوان الأسر ومذلة الأعزة من الناس.
على أن النظر شرعًا مأذون به عند الإقدام على الزواج - كما فى هذه الحالة - وكما أمر به صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عند رغبته فى الزواج - قائلاً له: [انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما](14) .
وقد توفيت فى دولة بنى أمية وصلى عليها عبد الملك بن مروان وهى فى السبعين من العمر - رضى الله عنها.
الزوجة السابعة: صفية بنت حُيىّ ـ عقيلة بنى النضير:
إحدى السبايا اللاتى وقعن فى الأسر بعد هزيمة يهود بنى النضير أمام المسلمين فى الوقعة المسماة بهذا الاسم، كانت من نصيب النبى صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها: فماذا فى ذلك؟ ولم يكن عتقه إياها وتزوجها بدعًا فى ذلك؛ وإنما كان موقفًا جانب الإنسانية فيه هو الأغلب والأسبق.
فلم يكن هذا الموقف إعجابًا بصفية وجمالها؛ ولكنه موقف الإنسانية النبيلة التى يعبر عنها السلوك النبيل بالعفو عند المقدرة والرحمة والرفق بمن أوقعتهن ظروف الهزيمة فى الحرب فى حالة الاستضعاف والمذلة لا سيما وقد أسلمن وحسن إسلامهن.
فقد فعل ذلك مع " صفية بنت حُيىّ " بنت الحارس عقيلة بنى النضير (اليهود) أمام المسلمين فى الموقعة المعروفة باسم (غزوة بنى قريظة) بعد انهزام الأحزاب وردّهم مدحورين من وقعة الخندق.
الزوجة الثامنة: أم حبيبة بنت أبى سفيان نجدة نبوية لمسلمة فى محنة:
إنها أم حبيبة " رملة " بنت أبى سفيان كبير مشركى مكة وأشد أهلها خصومة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه.
كانت زوجًا لعبيد الله بن جحش وخرجا معًا مهاجرين بإسلامهما فى الهجرة الأولى إلى الحبشة، وكما هو معروف أن الحبشة فى عهد النجاشى كانت هى المهجر الآمن للفارين بدينهم من المسلمين حتى يخلصوا من بطش المشركين بهم وعدوانهم عليهم؛ فإذا هم يجدون فى - ظل النجاشى - رعاية وعناية لما كان يتمتع به من حس إيمانى جعله يرحب بأتباع النبى الجديد الذى تم التبشير بمقدمه فى كتبهم على لسان عيسى بن مريم- عليه السلام كما تحدث القرآن عن ذلك فى صورة الصف فى قوله:(وإذ قال عيسى بن مريم يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدى من التوراة ومبشرًا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد)(15) .
لكن أم حبيبة بنت أبى سفيان كانت وحدها التى تعرضت لمحنة قاسية لم يتعرض لمثلها أحد من هؤلاء المهاجرين الأوائل إلى الحبشة؛ ذلك أن زوجها عبيد الله بن جحش قد أعلن ارتداده عن الإسلام ودخوله فى النصرانية وما أصعب وأدق حال امرأة باتت فى محنة مضاعفة: محنتها فى زوجها الذى ارتد وخان.. ومحنتها السابقة مع أبيها الذى فارقته مغاضبة إياه فى مكة منذ دخلت فى دين الله (الإسلام) ..
وفوق هاتين المحنتين كانت محنة الاغتراب حيث لا أهل ولا وطن ثم كانت محنة حملها بالوليدة التى كانت تنتظرها والتى رزقت بها من بعد وأسمتها " حبيبة ".. كان هذا كله أكبر من عزم هذه المسلمة الممتحنة من كل ناحية والمبتلاة بالأب الغاضب والزوج الخائن!!
لكن عين الله ثم عين محمد صلى الله عليه وسلم سخرت لها من لطف الرعاية وسخائها ما يسّر العين ويهون الخطب، وعادت بنت أبى سفيان تحمل كنية جديدة، وبدل أن كانت " أم حبيبة " أصبحت " أم المؤمنين " وزوج سيد المسلمين - صلوات الله وسلامه عليه.
والحق أقول: لقد كان نجاشى الحبشة من خلّص النصارى فأكرم وفادة المهاجرين عامة وأم المؤمنين بنت أبى سفيان بصفة خاصة. فأنفذ فى أمرها مما بعث به إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها له.
وكانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة بنت أبى سفيان نعم الإنقاذ والنجدة لهذه المسلمة المبتلاة فى الغربة؛ عوضتها عن الزوج الخائن برعاية سيد البشر صلى الله عليه وسلم؛ وعوضتها عن غضب الأب " أبى سفيان " برعاية الزوج الحانى الكريم صلوات الله عليه.
كما كانت هذه الخطبة فى مردودها السياسى ـ لطمة كبيرة لرأس الكفر فى مكة أبى سفيان بن حرب الذى كان تعقيبه على زواج محمد لابنته هو قوله: " إن هذا الفحل لا يجدع أنفه "؛ كناية عن الاعتراف بأن محمدًا لن تنال منه الأيام ولن يقوى أهل مكة - وهو على رأسهم - على هزيمته والخلاص منه لأنه ينتقل كل يوم من نصر إلى نصر.
كان هذا الاعتراف من أبى سفيان بخطر محمد وقوته كأنه استشفاف لستر الغيب أو كما يقول المعاصرون: تنبؤ بالمستقبل القريب وتمام الفتح.
فما لبث أن قبل أبو سفيان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إياه إلى الإسلام وشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وتقدم أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله قائلاً: " إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فهلا جعلت له ما يحل عقدته ويسكن حقده وغيظه، فقال صلوات الله وسلامه عليه فى ضمن إعلانه التاريخى الحضارى العظيم لأهل مكة عند استسلامهم وخضوعهم بين يديه:
* من دخل داره فهو آمن.
* ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.
* ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن " (16) .
وانتصر الإسلام وارتفع لواء التوحيد ودخل الناس فى دين الله أفواجًا. وفى مناخ النصر العظيم.. كانت هى سيدة غمرتها السعادة الكبرى بانتصار الزوج ونجاة الأب والأهل من شر كان يوشك أن يحيط بهم.
تلكم هى أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبى سفيان التى أحاطتها النجدة النبوية من خيانة الزوج وبلاء الغربة ووضعتها فى أعز مكان من بيت النبوة.
الزوجة التاسعة: ميمونة بنت الحارث الهلالية أرملة يسعدها أن يكون لها رجل:
آخر أمهات المؤمنين.. توفى عنها زوجها أبو رهم بن عبد العزّى العامرى؛ فانتهت ولاية أمرها إلى زوج أختها العباس الذى زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث بنى بها الرسول ـ فى " سرف " قرب " التنعيم" على مقربة من مكة حيث يكون بدء الإحرام للمعتمرين من أهل مكة والمقيمين بها.
وقيل: إنه لما جاءها الخاطب بالبشرى قفزت من فوق بعيرها وقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنها هى التى وهبت نفسها للنبى والتى نزل فيها قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين..)(17) .
كانت آخر آمهات المؤمنين وآخر زوجاته صلوات الله وسلامه عليه.
(1) تراجم لسيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطئ: ص 250 وما بعدها.
(2)
المصدر السابق.
(3)
انظر سيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطىء ص 324
(4)
صحيح مسلم كتاب الفضائل.
(5)
حياة محمد ص 29.
(6)
الأحزاب: 40.
(7)
الأحزاب: 5.
(8)
الأحزاب: 37.
(9)
رواه البخارى (كتال التوحيد 6108) .
(10)
رواه االبخارى (كتاب التوحيد) .
(11)
الأحزاب: 37.
(12)
انظر فتح البارى 8 / 371 عن سيدات بيت النبوة لبنت الشاطئ ص 354.
(13)
رواه البخارى: فتح البارى _ كتال النكاح باب 14.
(14)
رواه البخارى: فتح البارى ـ كتاب النكاح باب 36.
(15)
الصف: 6.
(16)
رواه البخارى - فتح البارى - " كتاب المغازى ".
(17)
الأحزاب: 50.
52- محاولة النبى محمد صلى الله عليه وسلم الانتحار
الرد على الشبهة:
الحق الذى يجب أن يقال.. أن هذه الرواية التى استندتم إليها ـ يا خصوم الإسلام ـ ليست صحيحة رغم ورودها فى صحيح البخارى ـ رضى الله عنه ـ؛ لأنه أوردها لا على أنها واقعة صحيحة، ولكن أوردها تحت عنوان " البلاغات " يعنى أنه بلغه هذا الخبر مجرد بلاغ، ومعروف أن البلاغات فى مصطلح علماء الحديث: إنما هى مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة السند أو المتن (1) .
وقد علق الإمام ابن حجر العسقلانى فى فتح البارى (2) بقوله:
" إن القائل بلغنا كذا هو الزهرى، وعنه حكى البخارى هذا البلاغ، وليس هذا البلاغ موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الكرمانى: وهذا هو الظاهر ".
هذا هو الصواب، وحاش أن يقدم رسول الله ـ وهو إمام المؤمنين ـ على الانتحار، أو حتى على مجرد التفكير فيه.
وعلى كلٍ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم كان بشراً من البشر ولم يكن ملكاً ولا مدعيًا للألوهية.
والجانب البشرى فيه يعتبر ميزة كان صلى الله عليه وسلم يعتنى بها، وقد قال القرآن الكريم فى ذلك:(قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً)(3) .
ومن ثم فإذا أصابه بعض الحزن أو الإحساس بمشاعر ما نسميه - فى علوم عصرنا - بالإحباط أو الضيق فهذا أمر عادى لا غبار عليه؛ لأنه من أعراض بشريته صلى الله عليه وسلم.
وحين فتر (تأخر) الوحى بعد أن تعلق به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المكان الذى كان ينزل عليه الوحى فيه يستشرف لقاء جبريل، فهو محبّ للمكان الذى جمع بينه وبين حبيبه بشىء من بعض السكن والطمأنينة، فماذا فى ذلك أيها الظالمون دائماً لمحمد صلى الله عليه وسلم فى كل ما يأتى وما يدع؟
وإذا كان أعداء محمد صلى الله عليه وسلم يستندون إلى الآية الكريمة: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)(4) .
فالآية لا تشير أبداً إلى معنى الانتحار، ولكنها تعبير أدبى عن حزن النبى محمد صلى الله عليه وسلم بسبب صدود قومه عن الإسلام، وإعراضهم عن الإيمان بالقرآن العظيم؛ فتصور كيف كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى الله، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.
وهذا خاطر طبيعى للنبى الإنسان البشر الذى يعلن القرآن على لسانه صلى الله عليه وسلم اعترافه واعتزازه بأنه بشر فى قوله - رداً على ما طلبه منه بعض المشركين-: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أوتأتى بالله والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى فى السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) . فكان رده: (سبحان ربى) متعجباً مما طلبوه ومؤكداً أنه بشرٌ لا يملك تنفيذ مطلبهم: (هل كنت إلا بشراً رسولاً)(5) .
أما قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليست له معجزة فهو قول يعبر عن الجهل والحمق جميعاً.
حيث ثبت فى صحيح الأخبار معجزات حسية تمثل معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاءت الرسل بالمعجزات من عند ربها؛ منها نبع الماء من بين أصابعه، ومنها سماع حنين الجذع أمام الناس يوم الجمعة، ومنها تكثير الطعام حتى يكفى الجم الغفير، وله معجزة دائمة هى معجزة الرسالة وهى القرآن الكريم الذى وعد الله بحفظه فَحُفِظَ، ووعد ببيانه؛ لذا يظهر بيانه فى كل جيل بما يكتشفه الإنسان ويعرفه.
(1) انظر صحيح البخارى ج9 ص 38، طبعة التعاون.
(2)
فتح البارى ج12 ص 376.
(3)
الإسراء: 93.
(4)
الشعراء: 3.
(5)
الإسراء: 93.
53- ولادة النبى محمد صلى الله عليه وسلم عادية
الرد على الشبهة:
لأن ولادة السيد المسيح عليه السلام تمت على هبة من الله تبارك وتعالى للسيدة العذراء مريم عليها السلام وليس من خلال الزواج بينها وبين رجل. فبعض أهل الكتاب (النصارى منهم خاصة) يتصورون أن كل نبى لا بد أن يولد بمثل هذه الطريقة.
وإذا كانت ولادة محمد صلى الله عليه وسلم مثل غيره من ملايين خلق الله فإن هذا عندهم مما يعيبونه به صلى الله عليه وسلم ويطعنون فى صحة نبوته.
1-
فلم يدركوا أن بشرية محمد صلى الله عليه وسلم هى واحدة من القسمات التى شاركه فيها كل رسل الله تعالى منذ نوح وإبراهيم وغيرهما من بقية رسل الله إلى موسى عليه السلام الذين ولدوا جميعاً من الزواج بين رجل وامرأة. ولم يولد من غير الزواج بين امرأة ورجل إلا عيسى عليه السلام وكان هذا خصوصية له لم تحدث مع أى نبى قبله، ولم تحدث كذلك مع محمد صلى الله عليه وسلم.
2-
كانت ولادة محمد صلى الله عليه وسلم إعلاناً لكونه بشراً من البشر يولد كما يولد البشر ويجرى عليه من الأحوال فى أكله وشربه، وفى نومه وصحوه، وفى رضاه وغضبه وغير ذلك مما يجرى على البشر كالزواج والصحة والمرض والموت أيضاً.
3-
كان محمد صلى الله عليه وسلم يعتز بهذه البشرية ويراها سبيله إلى فهم الطبيعة البشرية وإدراك خصائصها وصفاتها فيتعامل معها بما يناسبها، وقد اعتبر
القرآن ذلك ميزة له فى قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)(1) .
كما أعلن محمد صلى الله عليه وسلم اعتزازه بهذه البشرية وعجزها حين أعلن قومه أنهم لن يؤمنوا به إلا إذا فجر لهم ينابيع الماء من الأرض، أو أن يكون له بيت من زخرف، أو أن يروه يرقى فى السماء وينزل عليهم كتاباً يقرأونه، فكان رده صلى الله عليه وسلم كما حكاه القرآن:(قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً)(2) .
4-
لقد قرر القرآن قاعدة كون الرسل من جنس من يرسلون إليهم؛ بمعنى أن يكون المرسلون إلى الناس بشراً من جنسهم، ولو كان أهل الأرض من جنس غير البشر لكانت رسل الله إليهم من نفس جنسهم وذلك فى قوله تعالى:(قل لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً)(3) .
وعلى المعنى نفسه جاءت دعوة إبراهيم عليه السلام: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك)(4) . وقوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا)(5) . وقوله تعالى (لقد مَنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم)(6) . وقوله تعالى (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله..)(7) . وقوله تعالى (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم)(8) .
وغير هذا كثير مما أكده القرآن وهو المنطق والحكمة التى اقتضتها مشيئته ـ تعالى ـ لما هو من خصائص الرسالات التى توجب أن يكون المرسل إلى الناس من جنسهم حتى يحسن إبلاغهم بما كلفه الله بإبلاغه إليهم وحتى يستأنسوا به ويفهموا عنه.
ومن هنا تكون " بشرية الرسول " بمعنى أن يجرى عليه ما يجرى على الناس من البلاء والموت ومن الصحة والمرض وغيرها من الصفات البشرية فيكون ذلك أدعى لنجاح البلاغ عن الله.
(1) التوبة: 128.
(2)
الإسراء: 93.
(3)
الإسراء: 95.
(4)
البقرة: 195.
(5)
البقرة 151.
(6)
آل عمران: 164.
(7)
المؤمنون: 32.
(8)
الجمعة: 2.
54- يحتاج محمد صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة عليه
الرد على الشبهة:
الحق أن الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم من ربه ومن المؤمنين ليست دليل حاجة بل هى مظهر تكريم واعتزاز وتقدير له من الحق سبحانه وتقدير له من أتباعه، وليست كما يزعم الظالمون لسد حاجته عند ربه لأن ربه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
لأن أى مقارنة منصفة بين ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وبين غيره من أنبياء الله ورسله ترتفع به ليس فقط إلى مقام العصمة؛ بل إلى مقام الكمال الذى أتم به الله الرسالات، وأتم به التنزيل، وأتم به النعمة، فلم تعد البشرية بعد رسالته صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى رسل ورسالات.
لذلك فإن رسالته صلى الله عليه وسلم وهى الخاتمة والكاملة حملت كل احتياجات البشرية وما يلزمها من تشريعات ونظم ومعاملات وما ينبغى أن تكون عليه من أخلاق وحضارة مما افتقدت مثل كماله كل الرسالات السابقة.
وحسب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أنها جاءت رحمة عامة للبشرية كلها كما قال القرآن: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(1) . فلم تكن كما جاء ما قبلها رسالة خاصة بقوم رسولهم كما قال تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله)(2) .
(وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم اعبدوا الله)(3) .
(وإلى مدين أخاهم شعيبًا قال يا قوم اعبدوا الله)(4) .
وهكذا كل رسول كان مرسلاً إلى قومه..
لت كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالمين وإلى الناس كافة كما جاء فى قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(5) ، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً)(6) .
ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت فوق كونها عالمية فقد كانت هى الخاتمة والكاملة التى ـ كما أشرنا ـ تفى باحتياجات البشر جميعاً وتقوم بتقنين وتنظيم شئونهم المادية والمعنوية عبر الزمان والمكان بكل ما فيه خيرهم فى الدنيا والآخرة.
وفى هذا قال الله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)(7) .
وقال فى وصفه لإكمال الدين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم (الإسلام) : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا)(8) .
إن عموم رسالة محمد إلى العالمين، وبإعتبارها الرسالة الكاملة والخاتمة؛ يعنى امتداد دورها واستمرار وجودها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مصداقاً لقوله تعالى:(هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)(9) .
(1) الأنبياء: 107.
(2)
الأعراف: 65.
(3)
الأعراف: 72.
(4)
الأعراف: 85.
(5)
الأنبياء: 107.
(6)
سبأ: 28.
(7)
الأحزاب: 40.
(8)
المائدة: 3.
(9)
التوبة: 33 ـ الفتح: 28 ـ والصف: 9.
55- محمد صلى الله عليه وسلم أُمّى فكيف علّم القرآن
؟
الرد على الشبهة:
والأمى إما أن يكون المراد به من لا يعرف القراءة والكتابة أخذًا من " الأمية "، وإما أن يكون المراد به من ليس من اليهود أخذًا من " الأممية " حسب المصطلح اليهودى الذى يطلقونه على من ليس من جنسهم.
فإذا تعاملنا مع هذه المقولة علمنا أن المراد بها من لا يعرف القراءة والكتابة فليس هذا مما يعاب به الرسول، بل لعله أن يكون تأكيدًا ودليلاً قويًا على أن ما نزل عليه من القرآن إنما هو وحى أُوحى إليه من الله لم يقرأه فى كتاب ولم ينقله عن أحد ولا تعلمه من غيره. بهذا يكون الاتهام شهادة له لا عليه (.
وقد رد القرآن على هذه المقولة ردًا صريحًا فى قوله:
(وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذى يعلم السّر فى السموات والأرض إنه كان غفورًا رحيمًا)(1) .
وحسب النبى الأمى الذى لا يعرف القراءة ولا الكتابة أن يكون الكتاب الذى أنزل عليه معجزًا لمشركى العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة؛ بل ومتحديًا أن يأتوا بمثله أو حتى بسورة من مثله.
كفاه بهذا دليلاً على صدق رسالته وأن ما جاء به ـ كما قال بعض كبارهم ـ " ليس من سجع الكهان ولا من الشعر ولا من قول البشر ".
أما إذا تعاملنا مع مقولتهم عن محمد (أنه " أُمّى " على معنى أنه من الأمميين ـ أى من غير اليهود ـ فما هذا مما يعيبه. بل إنه لشرف له أنه من الأمميين أى أنه من غير اليهود.
ذلك لأن اعتداد اليهود بالتعالى على من عداهم من " الأمميين " واعتبار أنفسهم وحدهم هم الأرقى والأعظم وأنهم هم شعب الله المختار ـ كما يزعمون.
كل هذا مما يتنافى تمامًا مع ما جاء به محمد (من المساواة الكاملة بين بنى البشر رغم اختلاف شعوبهم وألوانهم وألسنتهم على نحو ما ذكره القرآن؛ الذى اعتبر اختلاف الأجناس والألوان والألسنة هو لمجرد التعارف والتمايز؛ لكنه ـ أبدًا ـ لا يعطى تميزًا لجنس على جنس، فليس فى الإسلام ـ كما يزعم اليهود ـ أنهم شعب الله المختار.
ولكن التمايز والتكريم فى منظور الإسلام؛ إنما هو بالتقوى والصلاح كما فى الآية الكريمة: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)(2) .
(1) الفرقان: 5-6.
(2)
الحجرات: 13.
56- محمد صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله
الرد على الشبهة:
استند الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم فى توجيه هذا الاتهام إلى ما جاء فى مفتتح سورة التحريم من قوله تعالى: (يا أيها النبى لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم)(1) .
وهذه الآية وآيات بعدها تشير إلى أمر حدث فى بيت النبى صلى الله عليه وسلم عاتبته نساؤه وتظاهرن عليه بدوافع الغيرة المعروفة عن النساء عامة إذ كان صلى الله عليه وسلم قد دخل عند إحداهن وأكل عندها طعامًا لا يوجد فى بيوتهن، فأسر إلى إحداهن بالأمر فأخبرت به أخريات فعاتبنه فحرّم صلى الله عليه وسلم تناول هذا الطعام على نفسه ابتغاء مرضاتهن.
والواقعة صحيحة لكن اتهام الرسول بأنه يحرّم ما أحل الله هو تصيّد للعبارة وحمل لها على ما لم ترد له..
فمطلع الآية (لم تحرم ما أحل الله لك (هو فقط من باب " المشاكلة " لما قاله النبى لنسائه ترضية لهن؛ والنداء القرآنى ليس اتهامًا له صلى الله عليه وسلم بتحريم ما أحل الله؛ ولكنه من باب العتاب له من ربه سبحانه الذى يعلم تبارك وتعالى أنه صلى الله عليه وسلم يستحيل عليه أن يحرّم شيئًا أو أمرًا أو عملاً أحلّه الله؛ ولكنه يشدد على نفسه لصالح مرضاة زوجاته من خلقه العالى الكريم.
ولقد شهد الله للرسول بتمام تبليغ الرسالة فقال: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين)(2) .
وعليه فالقول بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله من المستحيلات على مقام نبوته التى زكاها الله تبارك وتعالى وقد دفع عنه مثل ذلك بقوله: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى)(3) .
فمقولة بعضهم أنه يحرّم هو تحميل اللفظ على غير ما جاء فيه، وما هو إلا وعد أو عهد منه صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه فهو بمثابة يمين له كفارته ولا صلة له بتحريم ما أحل الله.
(1) التحريم: 1.
(2)
الحاقة: 44- 47.
(3)
النجم: 3- 4.
57- تعلّم محمد صلى الله عليه وسلم من غيره
الرد على الشبهة:
وهى من أسوأ المفتريات على محمد صلى الله عليه وسلم الذى قال ربه عز وجل عنه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى)(1) .
لكن الحقد حين يتمكن من قلوب الحاقدين يدفعهم إلى المنكر من القول ومن الزور، حتى إنهم ليتجرأون على قولٍ لا يقبله عقل عاقل، ولا يجرؤ على مثله إلا المفترون.
فى هذه المقولة زعموا أنه حين كان ينزل عليه الوحى بالآيات التى أثبت العلم الحديث المعاصر أنها من أبرز آيات الإعجاز العلمى فى القرآن فيما تتصل بمراحل خلق الإنسان من سلالة من طين ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة ثم يكون إنشاؤه خلقًا آخر..
زعموا أن كاتب وحيه قال مادحًا مَنْ هذا خلقه: (تبارك الله أحسن الخالقين)(2) .
ثم أفرطوا فى زعمهم فقالوا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قال له: اكتبها فهكذا نزلت علىّ..؟! وهنا لابد من وقفة:
فأولاً: مما هو ثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحى يأخذ العرق يتصبب من جسده ويكون فى غيبة عمن حوله.. فإذا انقضى الوحى أخذ فى ذكر وتلاوة ما نزل عليه من القرآن، وهذا ما تقرره كل كتب السيرة.
ثانياً: معنى ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم لا يأخذ فى الإملاء على كاتب وحيه إلا بعد اكتمال نزول الوحى واكتمال نزول الآيات المتعلقة بمراحل خلق الإنسان فى سورة " المؤمنون ".
ثالثًا: وبهذا يتضح كذب المقولة أن كاتب وحيه صلى الله عليه وسلم هو الذى أملاها عليه وأنه أمر بإثباتها.
رابعًا: أن لفظة " تبارك الله " تكررت فى القرآن الكريم تسع مرات، تلتقى جميعها فى مواضع يكون الحديث فيها عن قدرة الخالق فيما خلق من مثل قوله تعالى:
(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)(3) .
(تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا)(4) . (تبارك الذى جعل فى السماء بروجا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا)(5) .
(تبارك الذى له ملك السموات والأرض وما بينهما)(6) .
(تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير)(7) .
فلماذا تعلم محمد صلى الله عليه وسلم من كاتب وحيه آية " المؤمنون " دون غيرها مما جاء فى بقية السور؟!!
(1) النجم: 3ـ4.
(2)
المؤمنون: 14.
(3)
الأعراف: 55.
(4)
الفرقان: 1.
(5)
الفرقان: 61.
(6)
الزخرف: 85.
(7)
الملك: 1.
58- محمد صلى الله عليه وسلم يعظم الحجر الأسود
الرد على الشبهة:
إنهم فى هذه المقولة ـ يريدون أن يتهموه بأنه كان يعظم الحجر الأسود ـ بل ويعظم الكعبة كلها بالطواف حولها وهى حجر لا يختلف فى زعمهم عن الأحجار التى كانت تصنع منها الأوثان فى الجاهلية وكأن الأمر سواء!!
وحقيقة الأمر أن من بعض ما استبقاه الإسلام من أحوال السابقين ما كان فيه من تعاون على خير أو أمر بمعروف ونهى عن منكر، من ذلك ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على حلف كان فى الجاهلية يسمى " حلف الفضول " وهو عمل إنسانى كريم كان يتم من خلاله التعاون على نصرة المظلوم، وفداء الأسير، وإعانة الغارمين، وحماية الغريب من ظلم أهل مكة وهكذا..
وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الحلف وقال: لو دعيت إلى مثله لأجبت.
وأيضًا كان مما استبقاه الإسلام من فضائل السابقين مما ورثوه عن إبراهيم عليه السلام تعظيمهم للبيت الحرام وطوافهم به؛ بل وتقبيلهم للحجر الأسود.
وهناك بعض مرويات تقول إن هذا الحجر من أحجار الجنة.
وهنا فقط لا يكون أمامنا إلا ما ثبت من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل الحجر الأسود عند طوافه بالبيت، وهو ما تنطق به الرواية عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أنه قال عن تقبيله لهذا الحجر:(والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) .
وهنا نقول:
من المستحيل أن يكون تقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم للحجر الأسود من باب المجاراة أو المشاكلة لعبدة الأصنام فيما كانوا يفعلون.
ومستحيل أيضًا أن يكون صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك - أى تقبيل الحجر الأسود - دون وحى أو إلهام وجهه صلى الله عليه وسلم إلى تقبيل الحجر بعيدًا بعيدًا عن أى شبهة وثنية أو مجاراة لعبدة الأصنام.
ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: [خذوا عنى مناسككم] فقد أصبح تقبيل الحجر الأسود من بعض مناسك الحجاج والعمار للبيت الحرام.
كما أن تعظيم الحجر الأسود هو امتثال لأوامر الله الذى أمر بتعظيم هذا الحجر بالذات، وهو سبحانه الذى أمر برجم حجر آخر كمنسك من مناسك الحج فالأمر بالنسبة للتعظيم أو الرجم لا يعدو كونه إقرارًا بالعبودية لله تعالى وامتثالاً لأوامره عز وجل واستسلامًا لأحكامه.
59- كاد محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتن
الرد على الشبهة:
أخذوا ذلك من فهم مغلوط لآيات سورة الإسراء: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذًا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلاً * إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرًا)(1) .
بعض ما قيل فى سبب نزول هذه الآية أن وفد ثقيف قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم أجّلنا سنة حتى نقبض ما يهدى لآلهتنا من (الأصنام) فإذا قبضنا ذلك كسرناها وأسلمنا، فهَمّ صلى الله عليه وسلم بقبول ذلك فنزلت الآية.
قوله تعالى: " كدت تركن إليهم " أى هممت أو قاربت أن تميل لقبول ما عرضوه عليك لولا تثبيت الله لك بالرشد والعصمة، ولو فعلت لعذبناك ضعف عذاب الحياة وعذاب الممات؛ يعنى: قاربت أن تستجيب لما عرضوه لكنك بتثبيت الله لم تفعل لعصمة الله لك.
وكل مَنْ هُمْ على مقربة من الثقافة الإسلامية يعرفون أن " الهمّ " أى المقاربة لشىء دون القيام به أو الوقوع فيه لا يعتبر معصية ولا جزاء عليه وهو مما وضع عن الأمة وجاء به ما صح عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله:
(وضع عن أمتى ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به) ، وعليه.. فإنه لا إثم ولا شىء يؤخذ على محمد صلى الله عليه وسلم فى ذلك.
(1) الإسراء: 73-75.
60- قاتل محمد صلى الله عليه وسلم فى الشهر الحرام
الرد على الشبهة:
وذلك لما ورد فى آيات سورة البقرة:
(يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتال فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)(1) .
والمسلمون جميعاً وعلى رأسهم إمامهم ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم هم أحفظ الناس لحرمة الأشهر الحرم وعدم القتال فيها واعتبار القتال فيها حدثًا كبيرًا أو كأنه كبيرة من الكبائر..
لكن ما الذى يفعله المسلمون إذا ما ووجهوا من أعدائهم من المشركين بالقتال والعدوان على الأنفس والأموال والأعراض، ليس هذا فحسب بل ماذا يفعل المسلمون إذا فوجئوا بمن يخرجهم من المسجد الحرام وهم أهله وهم أولى به من غيرهم؟!
إن قانون " الدفع الحضارى " الذى يقره القرآن الكريم لحماية الكون من إفساد المتجبرين والظلمة، ثم لحماية بيوت العبادة للمسلمين والنصارى واليهود أيضًا، والذى عبرت عنه الآيتان الكريمتان:(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)(2) . وقوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز)(3) . هذا القانون القرآنى ـ وليس قانون من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ـ هو وحده الذى يحمى الكون والناس من إفساد المتجبرين وظلم الظالمين.
وذلك على أساس أن من يمكن الله لهم فى الأرض بما يمنحهم من القوة والثروة والعلم يجب - وبحسب القانون القرآنى - أن يكونوا صالحين وأخيارًا؛ بمعنى: أن يستخدموا قوتهم وثروتهم وعلمهم لا فى الطغيان والتجبر ولكن فى حماية القيم النبيلة التى تحمى بها العدل والحق وتمكن لكل ما هو خير، وتنفى كل ما هو شر حتى تنعم البشرية بالأمن والاستقرار، وتعتدل أمور الحياة والناس.
وهذا ما جاءت الآية التالية للآيتين السابقتين لتقره حيث يقول: (الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)(4) .
ولأن إقرار حقوق عباد الله فى أرض الله وحماية المستضعفين من بطش المتجبرين لا يقل حرمة عند الله من حرمة الأشهر الحرم فقد أبيح القتال فيها لمن ظُلموا من المسلمين ومن فُتنوا فى دينهم وأُخرجوا من ديارهم ظلمًا وعدوانًا.
وهذا ما تقرره الآية: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)(5) .
(1) البقرة: 217.
(2)
البقرة: 251.
(3)
الحج: 40.
(4)
الحج: 41.
(5)
البقرة: 217.
61- محمد صلى الله عليه وسلم مذنب كما فى القرآن
الرد على الشبهة:
أخذوها من فهمهم الخاطئ فى مفتتح سورة " الفتح ": (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا)(1) . فقالوا: كتاب محمد يعترف عليه ويصفه بأنه مذنب!!
وسيرة محمد سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كتاب كبير مفتوح استوفى فيه كُتَّاب سيرته كل شىء فى حياته. فى صحوه ونومه وفى حربه وسلمه، وفى عبادته وصلواته، فى حياته مع الناس بل وفى حياته بين أهله فى بيته.
ليس هذا فحسب بل إن صحابته حين كانوا يروون عنه حديثًا أو يذكرون له عملاً يصفونه صلى الله عليه وسلم وصفًا بالغ الدقة وبالغ التحديد لكافة التفاصيل حتى ليقول أحدهم: قال صلى الله عليه وسلم كذا وكان متكئاً فجلس، أو قال كذا وقد امتلأ وجهه بالسرور وهذا ما يمكن وصفه بلغة عصرنا: إنه تسجيل دقيق لحياته صلى الله عليه وسلم بالصوت والصورة..
ثم جاء القرآن الكريم فسجل له شمائله الكريمة فقال عنه: إنه الرحمة المهداة إلى عباد الله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(2) . ووصفه بأنه الرؤوف الرحيم بمن أرسل إليهم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)(3) . ثم لخص القرآن مجمل شمائله صلى الله عليه وسلم فى قوله: (وإنك لعلى خلق عظيم)(4) .
أكثر من هذا أن تكفل القرآن بإذاعة حتى ما هو من خلجات الرسول وحديث نفسه الذى بينه وبين الله مما لا يطلع الناس عليه على نحو ما جاء فى سورة الأحزاب فى أمر الزواج بزينب بنت جحش والذى كان القصد التشريعى فيه إبطال عادة التبنى من قوله تعالى: (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذ قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً)(5) .
أقول: مع أن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم هى كتاب مفتوح لم يخف التاريخ منه شيئاً بل وتدخل القرآن ليكشف حتى ما يحدث به نفسه صلى الله عليه وسلم مما لا يطلع عليه الناس، ولم يذكر له صلى الله عليه وسلم ذلةً ولا ذنبًا فى قول أو عمل.
أفبعد هذا لا يتورع ظالموه من أن يقولوا أنه " مذنب "؟ !!!
ولو كان هؤلاء الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم على شىء من سلامة النظر وصفاء القلوب لانتبهوا إلى بقية سورة الفتح، والتى كانت كلها تثبيتاً للمؤمنين وللرسول وتبشيرًا لهم بالتأييد والنصر.. لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كما ادعيتم - من المذنبين والعاصين لكان من المستحيل أن يجعله الله تعالى ممن يؤيدهم بنوره ويتم عليهم نعمته ويهديهم صراطًا مستقيماً؛ لأن النصر يكون للصالحين لا للمذنبين.
ونقف أمام الذنب فى منطوق الآية: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (فالذنب هنا ليس مما تعارف عليه الناس من الخطأ والآثام؛ لأن سنة الله تبارك وتعالى هى عصمة جميع أنبيائه وفى قمتهم خاتمهم صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يعرفه ويقره ويقرره أتباع كل الرسالات إلا قتلة الأنبياء ومحرّفى الكلم عن مواضعه من اليهود الذين خاضوا فى رسل الله وأنبيائه بما هو معروف.
فالذنب هو ما يمكن اعتباره ذنباً على مستوى مقام نبوته صلى الله عليه وسلم ذنبًا مما تقدره الحكمة الإلهية ـ لا ما تحدده أعراف الناس.
ومع هذا كله فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كانت محل تقدير قومه وإكبارهم له لما اشتهر به صلى الله عليه وسلم من العفة والطهر والتميز عن جميع أترابه من الشباب حتى كان معروفًا بينهم بالصادق الأمين.
أفبعد هذا لا يستحى الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم والحاقدون عليه من أهل الكتاب أن يقولوا: إنه مذنب؟!!
(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا)(6) .
(1) الفتح: 2.
(2)
الأنبياء 117.
(3)
التوبة: 128.
(4)
القلم: 5.
(5)
الأحزاب: 37.
(6)
الكهف: 5.
62- الشيطان يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم
الرد على الشبهة:
الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم يستندون فى هذه المقولة إلى أكذوبة كانت قد تناقلتها بعض كتب التفسير من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى الصلاة بالناس سورة " النجم: فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى* ومناة الثالثة الأخرى)(1) ؛ تقول الأكذوبة:
إنه صلى الله عليه وسلم قال: ـ حسب زعمهم ـ تلك الغرانيق (2) العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
ثم استمر صلى الله عليه وسلم فى القراءة ثم سجد وسجد كل من كانوا خلفه من المسلمين وأضافت الروايات أنه سجد معهم من كان وراءهم من المشركين!!
وذاعت الأكذوبة التى عرفت بقصة " الغرانيق " وقال ـ من تكون أذاعتها فى صالحهم ـ: إن محمداً أثنى على آلهتنا وتراجع عما كان يوجهه إليها من السباب. وإن مشركى مكة سيصالحونه وسيدفعون عن المؤمنين به ما كانوا يوقعونه بهم من العذاب.
وانتشرت هذه المقولة حتى ذكرها عدد من المفسرين حيث ذكروا أن المشركين سجدوا كما سجد محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ما ذكرت آلهتنا بخير قبل اليوم ولكن هذا الكلام باطل لا أصل له.
وننقل هنا عن الإمام ابن كثير فى تفسيره الآيات التى اعتبرها المرتكز الذى استند إليه الظالمون للإسلام ورسوله وهى فى سورة الحج حيث تقول:
(وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم)(3) وبعد ذكره للآيتين السابقتين يقول: " ذكر كثير من المفسرين هنا قصة " الغرانيق وما كان من رجوع كثير ممن هاجروا إلى الحبشة " ظنًّا منهم أن مشركى مكة قد أسلموا.
ثم أضاف ابن كثير يقول: ولكنها - أى قصة " الغرانيق " - من طرق كثيرة مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح، ثم قال ابن كثير:(4) عن ابن أبى حاتم بسنده إلى سعيد بن جبير قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة " سورة النجم " فلما بلغ هذا الموضع. (أفرأيتم اللات والعزّى * ومناة الثالثة الأخرى (. قال بن جبير: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.
فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم.. فأنزل الله هذه الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عزيز حكيم (ليقرر العصمة والصون لكلامه سبحانه من وسوسة الشيطان.
وربما قيل هنا: إذا كان الله تعالى ينسخ ما يلقى الشيطان ويحكم آياته فلماذا لم يمنع الشيطان أصلاً من إلقاء ما يلقيه من الوساوس فى أمنيات الأنبياء
والجواب عنه قد جاء فى الآيتين اللتين بعد هذه الآية مباشرة:
أولاً: ليجعل ما يلقيه الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض من المنافقين والقاسية قلوبهم من الكفار وهو ما جاء فى الآية الأولى منهما: (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض)(5) .
ثانياً: لميز المؤمنين من الكفار والمنافقين فيزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم؛ وهو ما جاء فى الآية الثانية: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادى الذين آمنوا إلى صراط مستقيم)(6) .
هذا: وقد أبطل العلماء قديمًا وحديثًا قصة الغرانيق. ومن القدماء الإمام الفخر الرازى الذى قال ما ملخصه (7) :
" قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق وقد استدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول؛ أما القرآن فمن وجوه: منها قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين)(8) .
وقوله سبحانه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى (. (9) وقوله سبحانه حكاية عن رسوله صلى الله عليه وسلم: (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ)(10) .
وأما بطلانها بالسنة فيقول الإمام البيهقى:
روى الإمام البخارى فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ سورة " النجم " فسجد وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيها حديث " الغرانيق " وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة ليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
فأما بطلان قصة " الغرانيق " بالمعقول فمن وجوه منها:
أـ أن من جوّز تعظيم الرسول للأصنام فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه صلى الله عليه وسلم كان لنفى الأصنام وتحريم عبادتها؛ فكيف يجوز عقلاً أن يثنى عليها؟
ب ـ ومنها: أننا لو جوّزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه صلى الله عليه وسلم فإنه لا فرق - فى منطق العقل - بين النقصان فى نقل وحى الله وبين الزيادة فيه.
(1) النجم: 19 -20.
(2)
المراد بالغرانيق: الأصنام؛ وكان المشركون يسمونها بذلك تشبيهًا لها بالطيور البيض التى ترتفع فى السماء.
(3)
الحج: 52.
(4)
عن: التفسير الوسيط للقرآن لشيخ الأزهر د. طنطاوى ج9 ص 325 وما بعدها.
(5)
الحج: 53.
(6)
الحج: 54.
(7)
التفسير السابق: ص 321.
(8)
الحاقة: 44 ـ 47.
(9)
النجم: 3- 4.
(10)
يونس: 15.
68- القرآن يتناقض مع العلم
إنه جاء فى القرآن أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن. فكيف يقول عن أرضنا وهى واحدة من ملايين الكواكب ـ إنه يوجد سبعة مثلها؟
وفى القرآن: (أن السماء سقفاً محفوظاً)، وأن الله يمسكها لئلا تقع. فكيف يقول عن الفضاء غير المتناهى: إنه سقف قابل للسقوط؟
وفى القرآن أن الله زين السماء الدنيا بمصابيح. فكيف يقول عن ملايين الكواكب التى تسبح فى هذا الفضاء غير المتناهى إنها مصابيح؟
الرد على الشبهة:
هذا السؤال مكون من ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول: هو أنه ليس فى العالم سبعة أرضين. فكيف يقول عن الأرض: إنها سبعة كما أن السموات سبعة؟ وقول المؤلف إن الأرض سبعة؛ أخذه من بعض مفسرى القرآن الكريم. وهو يعلم أن المفسرين مجتهدون، ويصيبون ويخطئون. والرد عليه فى هذا الجزء من السؤال هو: أن نص الآية هو: (الله الذى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علماً)(1) .
إنه أتى بـ (مِنْ) التى تفيد التبعيض؛ لينفى العدد فى الأرض. وليثبت المثلية فى قدرته. فيكون المعنى: أنا خلقت سبع سموات بقدرتى، وخلقت من الأرض مثل ما خلقت أنا السماء بالقدرة. ولهذا المعنى علّل بقوله: (لتعلموا أن الله على كل شىء قدير (.
وبيان التبعيض فى الأرض: هو أن السماء محكمة، وأن الأرض غير محكمة. وهى غير محكمة لحدوث الزلازل فيها، وللنقص من أطرافها. وقد عبّر عن التبعيض فى موضع آخر فقال:(أفلا يرون أنا نأتى الأرض ننقصها من أطرافها)(2) . والنقص من الأطراف يدل على أن الباقى من الأرض ممسوك بقدرة الله، كما يمسك السماء كلها.
والجزء الثانى: هو أن السماء سقف قابل للسقوط. والرد عليه فى هذا الجزء من السؤال هو: أن كل لغة فيها الحقيقة وفيها المجاز. والتعبير على المجاز. فإن السماء شبه سقف البيت، والمانع للسقف من السقوط على الحقيقة هو الأعمدة، وعلى المجاز هو الله؛ لأن كل شىء بقدرته. ولذلك نظير فى التوراة وفى الإنجيل:" بالكسل يهبط السقف ". وفى ترجمة أخرى: " من جراء الكسل ينهار السقف. وبتراخى اليدين يسقط البيت "[جامعة 10: 18] يريد أن يقول: إن الكسل يؤدى إلى الفقر، والفقر يؤدى إلى خراب البيوت. وعبر عن الخراب بانهيار السقف. والسقف لا ينهار بالكسل، وإنما بهدّ الأعمدة التى تحمله. وفى سفر الرؤية:" فسقط من السماء كوكب "[رؤ 8: 10] كيف يسقط كوكب من السماء بغير إرادة الله؟ وفى سفر الرؤية: " ونجوم السماء سقطت " (رؤ 6: 13] ، ويقول عيسى عليه السلام: إن العصفور لا يقع إلى الأرض إلا بإرادة الله: " أما يباع عصفوران بفَلْس واحد. ومع ذلك لا يقع واحد منهما إلى الأرض خفية عن أبيكم "[متى 10: 29] . وفى الرسالة إلى العبرانيين: " حقاً ما أرهب الوقوع فى يدى الله الحى؟ "[عب 10: 31] .
والجزء الثالث: وهو أنه كيف يقول عن الكواكب إنها مصابيح؟ والمؤلف دل بقوله هذا على إنكار الواقع والمشاهد فى الحياة الدنيا، ودل أيضاً بقوله هذا على جهله بالتوراة وبالإنجيل. ففى سفر الرؤية:" كوكب عظيم متقد كمصباح "[رؤ 8: 10]، "وأمام العرش سبعة مصابيح " [رؤ 4: 5] ، وجاء المصباح على المجاز فى قول صاحب الأمثال:" الوصية مصباح والشريعة نور "[أم 6: 23] .
(1) الطلاق: 12.
(2)
الأنبياء: 44.
69- كيف يكون العلم كفرًا
؟
يعترض على قوله: (إنما النسئ زيادة فى الكفر)(1) أن النسئ الذى فى السنة القبطية من الحساب الفلكى.. فكيف يكون العلم كفراً؟
الرد على الشبهة:
أن النسئ فى الآية هو ما كان يفعله المشركون من تبديل الأشهر الحرم مكان الأشهر الحلال ليستحلوا بذلك القتال فيها، ولا علاقة له بالأيام التى تضبط السنة القبطية للزراعة، ومن هنا يتبين مدى محاولة التلبيس والتدليس الذى يضحك منها العارفون مع حزنهم أن يصل الترصد ضد كلام الله سبحانه والعمل على أن لا يصل إلى الخلق باعتباره ـ الكلمة الأخيرة للعالمين ـ إلى هذا الحد الرخيص من التلاعب بالألفاظ والمصطلحات.
(1) التوبة: 37.
84- مريم تلد فى البرية ووليدها يكلمها من تحتها
لقد ولدت مريم السيد المسيح فى بيت لحم كما تنبأ أنبياء التوراة بذلك قبل حدوثه بمئات السنين، وليس بجوار جذع نخلة. ووضعت مريم وليدها فى مذود [لوقا 2: 2ـ20] وغريب أن يكلمها وليدها من تحتها: أن تهز جذع النخلة وتأكل من البلح وتشرب من الجدول. فإذا مرّ بها أحد تقول: (إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا)(1) فأين الصوم وهى الآكلة الشاربة المتكلمة؟
الرد على الشبهة:
1 ـ ولادة المسيح فى بيت لحم ـ كما قال المؤلف ـ تدل على أن مريم من سكان الخليل التى هى حبرون، ولا تدل على أنها من سكان الناصرة. ففى خريطة فلسطين تجد بيت لحم تحت أورشليم، وبعدها حبرون. وعلى هذا تكون مريم بعد حملها بالمسيح وإحساسها بدنو الوضع. قد اتجهت إلى حَبرون (فأجاءها المخاض (عند بيت لحم. ولو كانت من الناصرة وأحست بالحمل وبالوضع. لاتجهت إلى الناصرة. وعندئذ يكون الوضع فى مكان بين أورشليم وبين الناصرة. فقولهم بالمخاض فى بيت لحم يصدق القرآن فى أنها كانت من نسل هارون الساكنين فى حبرون.
2 ـ وقول المعترض: إن التوراة تنبأت بولادة المسيح فى بيت لحم. يقصد به ما جاء فى سفر ميخا وهو " أما أنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكونى بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لى الذى يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل "[ميخا 5: 2] .
والنبوءة موضوعة وليست من النص الأصلى. بدليل: أن المسيح كان من الهارونيين من جهة أمه، وبيت لحم من مدن سبط يهوذا. ولو كان له أب لأمكن للنصارى نسبته إلى سبط أبيه. ولكنه لا أب له؛ فكيف ينتسب إلى سبط يهوذا أو غير سبط يهوذا؟ وبدليل: أن المتسلط على إسرائيل وهو النبى الأمى الآتى على مثال موسى. يكون ملكاً وفاتح بلاد. ولم يكن المسيح ملكاً ولا فاتح بلاد.. وبدليل: أن سفر ميخا مرفوض من السامريين. وبدليل أن شراح سفر ميخا يصرحون بالتناقض فيه. والنبوءة من مواضع التناقض التى صرحوا بها. يقول الشراح: "هناك تعليمان متشابكان فى كتاب ميخا: الأول: الله يدين شعبه ويعاقبه [ف1 ـ 3: 6: 1 ـ 7: 7] الله يعد شعبه بالخلاص [ف 4ـ 5 و 7: 8ـ20] حين يُعيده إلى حاله السابقة ويجعله بقيادة رئيس من نسل داود [5: 1ـ4] .
3 ـ وقد جاء فى إنجيل متى الأبوكريفى معجزة النخلة.
4 ـ وكلام المسيح فى المهد جاء فى برنابا وفى إنجيل الطفولية العربى، وجاء فى تاريخ يوسيفوس.
5 ـ وقال المعترض: إن المسيح كلم أمه من تحتها: أن تهز جذع النخلة.. إلخ. وهو قد قال بذلك على قراءة " مِن تحتها " والحق: أن الذى ناداها هو ملاك الله نفسه. وسياق الكلام يدل على أنه الملاك. فإنه قد قال لها: (كذلك قال ربك هو علىّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً)(2)، ولما حملته وانتبذت به وأجاءها المخاض وتمنّت الموت؛ عاد إلى خطابه معها فقال:(ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلى واشربى وقرى عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولى إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا)(3) .
وأما كلام المسيح فهو لم يقل إلا (إنى عبد الله أتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة مادمت حيًّا وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جباراً شقيا والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا)(4) .
6 ـ المعترض قد غالط فى نقل المعنى بقوله: " وغريب أن يكلمها وليدها من تحتها: أن تهز جذع النخلة وتأكل من البلح وتشرب من الجدول؛ فإذا مر بها أحد تقول: (إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا) (5) فأين الصوم وهى الآكلة الشاربة المتكلمة؟ ".
ووجه المغالطة: أنه يقول فإذا مر بها أحد تقول.. إلخ. والمعنى الصحيح: أنها لا تقول لكل أحد يمر عليها إنها صائمة عن الطعام والشراب. وإنما تقول: لا أتكلم مع أحد فى أمر ابنى فى هذه الأيام. فجملة (فإما ترين من البشر.. (جملة مستأنفة لا صلة لها بالطعام وبالشراب. وقولها: (إنى نذرت للرحمن صوما (تعنى به المعنى المجازى وهو الإمساك عن الكلام بدليل: (فلن أكلم (ولم تقل فلن آكل.
(1) مريم: 26.
(2)
مريم: 21.
(3)
مريم: 24ـ26.
(4)
مريم: 30ـ33.
(5)
مريم: 26.
111- حتى لقمان نبى
إنه جاء فى القرآن (ولقد آتينا لقمان الحكمة..)(1) . ونقل عن البيضاوى المفسر أنه كان معاصراً لداود عليه السلام وحرف المؤلف قول البيضاوى وهو أنه من أولاد آزر ابن أخت أيوب إلا أن لقمان كان معاصراً لأيوب. ووجه نقده على هذا بقوله كيف يكون معاصراً لأيوب وداود، وبين أيوب وداود ما يقرب من 900 سنة؟ والبيضاوى لا يقصد معاصرته وإنما يقصد نسبه. ولم يقل البيضاوى إن لقمان كان نبيًّا ولم يقل القرآن وإنما قال (ولقد آتينا لقمان الحكمة (ولكن المؤلف وجه الإشكال على النبوة فقال: فكيف يكون لقمان نبيًّا؟
الرد على الشبهة:
إنه قال كيف يكون لقمان نبياً؟ وليس فى القرآن أنه كان نبيًّا وإنما كان حكيماً. واسمه " لوكيوس " فى اليونانى و " لقمان " فى العبرانية. وفى سفر أعمال الرسل: " وكان فى أنطاكية فى الكنيسة هناك أنبياء ومعلمون برنابا وسمعان الذى يدعى نيجر ولوكيوس القيروانى ومناين.. "[أع 13: 1] وفى سفر الرسالة إلى أهل روما: أنه كان معاصراً لبولس، وصديقا له:" يسلم عليكم تيموثاوس العامل معى، ولوكيوس وياسون.. "[رو 16: 21] .
واللغة اليونانية تضيف حرف السين فى آخر الاسم مثل يوسيفوس ـ هيرودس ـ أغسطس قيصر. بير كلينوس وهو اسم أحمد رسول الله فى إنجيل يوحنا. وفى العبرانية " يونان " بالألف والنون. وفى اليونانية " يونس ".
(1) لقمان: 12.
120- تحليل الإغراء بالمال
إن فى القرآن أن من مصارف الزكاة (والمؤلفة قلوبهم) وهذا إغراء بالمال للدخول فى الإسلام.
الرد على الشبهة:
إذا كان الإحسان إلى الناس إغراء لهم بالدخول فى الإسلام. فما بال النصارى ينشئون المستشفيات والمبرات الخيرية فى بلاد المسلمين وفى غير بلاد المسلمين لغرض التنصير والصد عن سبيل الله؟ وفى الدين الإسلامى أخذ الجزية من اليهود والنصارى إذا أصروا على ما نشأوا عليه. ولو كان التأليف إغراء؛ لما أخذ المسلمون منهم أموال الجزية. ذلك قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(1) .
وهل يسمى النصارى مكارم الأخلاق إغراء؟ والمؤلفة قلوبهم هم الذين ألف الله بين قلوبهم لقوله: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم)(2) وللتأليف أسبابه. ومنها الإنفاق على طلاب العلم الذين يتولون هدايتهم إلى الله. وذلك بفتح دور للعلم فيها ليتعلم الطلاب لغات الأمم، ثم ينتشرون لتعليمهم وإزالة شبه الشيطان عن دينهم، ووضع القرآن بينهم، وما شابه ذلك. وهذا يُنفق عليه من أموال الزكاة.
(1) التوبة: 29.
(2)
الأنفال: 63.
121- تحليل القتل
إن فى القرآن شريعة القتال من أجل إسلام الأُمم. وهذا يُعدّ إكراهاً للناس على قبول الدين بالسيف.
الرد على الشبهة:
إن إبراهيم عليه السلام كان يدعو إلى الله، ومن يستجيب له يكون مساوياً لجميع المؤمنين بالله. ومن لا يستجيب له ويصد عن سبيل الله؛ كان يحاربه، وإبراهيم هو أب اليهود والنصارى والمسلمين. ففى سفر التكوين:" بعد هذه الأمور صار كلام الرب إلى أبرام فى الرؤيا قائلاً: لا تخف. أنا تُرس لك، أجرك كثيرًا جدًا "[تك 1:15] أى حارب أعداء الله وأنا أحميك كما يحمى الترس الجندى من ضربات السيوف. وفى سفر الزبور نبوءة صلى الله عليه وسلم ومن أوصافه فيها: " أما أنت يا رب فترس لى، مجدى ورافع رأسى.. "[مز: 3] ويقول النصارى إن نبوءة عن المسيح ، وهم يعلمون أن المسيح لم يحارب ولم يفتح بلاداً. وفى هذه النبوءة يصرخ النبى إلى الله أن ينصره، وقد أجابه من جبل قدسه " بصوتى إلى الرب أصرخ فيجيبنى من جبل قدسه " وجبل قدسه فى مكة المكرمة.
وفى التوراة أنه لا يحل لليهود أن يملك عليهم وثنى. فلو فرضنا أن ملكاً وثنياً قصد ديارهم وملك عليهم؛ تفرض أنهم مأمورون بقتاله، ذلك قوله:
" لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيًّا ليس هو أخاك "[تث 15:17] وفى التوراة: " إذا خرجت للحرب على عدوك، ورأيت خيلاً ومراكب قوماً أكثر منك؛ فلا تخف منهم؛ لأن معك الرب إلهك"[تث 20: 1] وهو معهم إذا كانوا يحاربون من أجل دينه، ونبذ عبادة الأوثان. وذلك لأن داود عليه السلام وهو يحارب جالوت؛ قال له: ́فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل، وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلّص الرب؛ لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا " [صموئيل الأول 17: 46ـ47] .
وفى سفر المكّابيين الثانى فى قصة الأم وأولادها السبعة أنها كانت تحرض أولادها على الشهادة فى سبيل الله. ومن كلامها: " لا أعلم كيف نشأتم فى أحشائى. فأنا لم أمنحكم الروح والحياة، ولا أنا كونت أعضاء جسد كل واحد منكم، بل الذى فعل ذلك هو خالق العالم. فهو الذى جبل الإنسان وأبدع كل شىء. وهو لذلك سيعيد إليكم برحمته الروح والحياة. لأنكم الآن تضحون بأنفسكم فى سبيل شريعته "[2مك 7: 22ـ23] . وفى إنجيل لوقا: أن المسيح أرسل تلاميذه إلى مدن بنى إسرائيل وأمرهم أن لا يحملوا زاداً ولا مالاً ولا يلبسوا أحذية. وأن يبشروا باقتراب ملكوت الله. فلما رجعوا " قال لهم: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية. هل أعوزكم شىء؟ فقالوا: لا. فقال لهم: لكن الآن من له كيس؛ فليأخذه، ومزود كذلك. ومن ليس له فليبع ثوبه، ويشتر سيفاً "[لو 22: 35ـ36] فقد أمرهم بشراء السيوف للحرب. وما يزال النصارى إلى هذا اليوم يحاربون أعداءهم.
وفى إنجيل متى يقول المسيح: " سمعتم أنه قبل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً "[متى 5: 38ـ39] .
يريد أن يقول: إن التوراة مكتوب فيها العين بالعين والسن بالسن [خر 21: 24] وأنا أقول لكم: " لا تقاوموا الشر " فى هذا الزمان الفاسد الذى ليس فيه قاضٍ عادل ولا ملك منصف. كما قال صاحب سفر الأمثال فى زمانه: " لا تقل كما فعل بى هكذا افعل به. أرد على الإنسان مثل عمله "[أم 24: 29] فهو وصاحب سفر الأمثال لم يخالفا شريعة موسى فى أوقات العدل. وهما ينصحان أنه إذا عم الظلم. فإنه يجب على المظلوم أن يفوض أمره إلى الله. وقد وافق هو النبى إشعياء ومؤلف سفر مراثى إرمياء على قولهما فى أيام الفساد واشتداد الظلم: " من لطمك على خدك الأيمن، فحول له الآخر أيضاً " وهذا يدل على أنه فى إرشاداته ونصحه لم يأت بجديد، مع قوله:" ما جئت لأنقصن الناموس أو الأنبياء "[متى 5: 17] .
ففى سفر إشعياء: " بذلت ظهرى للضاربين، وخدى للناتفين. وجهى لم أستر عن العار والبصق "[إش 50: 6] وفى سفر المراثى: " يعطى خده لضاربه، يشبع عارا "[مرا 3: 30] .
122- تحليل النهب
إن الله حلل الغنائم، وهذا أمر بقتل الناس ونهب أموالهم.
الرد على الشبهة:
إن تحليل الغنائم فى التوراة. ففى سفر التثنية: " وغنيمة المدن التى أخذنا.. الجميع دفعه الرب إلهنا أمامنا "[تث 2: 35ـ36]، وفى سفر التكوين فى صفات بنيامين:" فى الصباح يأكل غنيمة، وعند المساء يقسم نهباً "[تك 49: 27] أى محارب.
ومن أوصاف محمد رسول الله فى التوراة أنه يقسم غنائم. ففى نبوءة العبد المتألم: " ومع العظماء يقسم غنيمة "[إش 53: 12] ولكن النصارى يفسرونها على المسيح مع أنه لم يحارب أحداً. وفى المزمور الثامن والستين عن محمد صلى الله عليه وسلم: " الملازمة البيت تقسم الغنائم "[مز 68: 12] .
123- تحليل الحلف
إن فى القرآن أن صاحب القرآن يقسم بالفجر والليالى العشر. فلماذا يحلف؟ وهل يحتاج صاحب القول الصادق إلى قسم يؤكد به كلامه؟
الرد على الشبهة:
إن المعترض يعنى بصاحب القرآن محمداً صلى الله عليه وسلم ولا يعنى مُنَزِّلة وهو الله عز وجل والقسم من الله نفسه بمخلوقاته هو للدلالة على عظمها وأهميتها ومنافعها للناس. وفى التوراة: " الذى حلف الرب لهم أنه "[يشوع 5: 6]" حلف الرب بيمينه "[إشعياء 62: 8] وفى الإنجيل " ومن حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه، ومن حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه "[متى 23: 21ـ22] وفى الزبور: " أقسم الرب ولن يندم "[مز 110: 4] وفى سفر التكوين: " بذاتى أقسمت، يقول الرب "[تك 22: 16] وفى سفر أعمال الرسل أن كاهناً وأولاده كانوا يقسمون باسم يسوع المسيح " قائلين نقسم عليك بيسوع "[أع 19: 13] .
124- تحليل الانتقام
يقول المؤلف: إن القرآن يحلل الانتقام بقوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)(1) .
الرد على الشبهة:
قد بينا فى إجابة السؤال الرابع من الجزء الثالث معنى قول المسيح " لطمك على خدك الأيمن فَحَوِّل له الآخر أيضاً ".
ونبين هنا: أن رد الاعتداء ليس فرضاً على المسلمين. فالفرض هو إما رد الاعتداء، وإما الصفح عن الجانى. ورد الاعتداء فرض فى التوراة والصفح عن الجانى فى العدل مرفوض فى التوراة. ففى التوراة:" وإن حصلت أذية؛ تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسِنًّا بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكيًّا بكى وجرحاً بجرح ورضاً برضى "[خر 21: 23ـ25] .
وليس عندهم دفع الدية فى مقابل العفو عن القاتل. أما فى القرآن الكريم ففيه (فمن عُفى له من أخيه شىء؛ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة)(2) أى تخفيف من الحكم القديم الذى كان فى التوراة وهو عدم قبول الدية.
(1) البقرة: 194.
(2)
البقرة: 178.
125- تحليل الشهوات
1 ـ إن القرآن أباح للمسلمين أكثر من زوجة.
2 ـ إن الله فى الجنة سيرزق المؤمنين بنساء من الحور العين. وليست الجنة مكاناً للشهوات الحسية، ولا يبيح دين من عند الله تعدد الزوجات.
الرد على الشبهة:
إن هذه الشبهة مكونة من جزأين:
الجزء الأول: تعدد الزوجات،
والجزء الثانى: إباحة الشهوات الحسية فى الجنة.
والرد على الجزء الأول هو:
إن إبراهيم عليه السلام كان متزوجاً من سارة وهاجر وقطورة. وهو أب لليهود والنصارى والمسلمين. وأيضاً كانت له سرارى كثيرة لقوله: " وأما بنو السرارى اللواتى كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقاً إلى أرض المشرق وهو بعد حى "[تك 25: 6] وموسى كان متزوجاً من مديانية وحبشية [عدد 12: 1] ويعقوب عليه السلام كان متزوجاً من حرتين وأمنين وهما ليئة وراحيل وزلفة وبلهة [تك 29 وما بعده] وكان لداود نساء هن: أخينوعم اليزرعبلية ـ أبيجايل ـ معكة ـ حجيث ـ أبيطال ـ عجلة. الجميع ستة عدا بثشبع امرأة أورياالحثى التى أنجب منها سليمان عليه السلام[صموئيل الثانى 3: 1ـ5] وكان لسليمان " سبع مائة من النساء السيدات، وثلاث مائة من السرارى "[الملوك الأول 11: 3] .
وفى الإنجيل أنه كان للمسيح أربع إخوة هم: يعقوب وموسِى ويهوذا وسمعان [مرقس 6: 3] واتفق النصارى على أن مريم أتت به بغير زرع بشر. وإذ هذا حاله. فهل هؤلاء الأربعة على الحقيقة إخوة أم على المجاز؟ اختلفوا. لأن متى قال عن يوسف النجار: " ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر "[مز 1: 24] فيكون قد عرفها بعد ولادته. وإن منهم لفريقاً يقولون: " إنها ظلت عذراء إلى أن ماتت، وإن الأربعة أولاد ليوسف عن زوجة سابقة له على مريم ". وعلى أية حال فإن غرضنا وهو إثبات تعدد الزوجات بإخوة المسيح الأربعة. وفى تفاسير الإنجيل أنه كان له أختان أيضاً هما أستير وثامار؛ يكون ملزماً لهم بإثبات التعدد.
والرد على الجزء الثانى هو:
إن التوراة تصرح بالبعث الجسدى والروحى معاً. فيكون النعيم حسيًّا، والعذاب حسيًّا. والإنجيل يصرح بالبعث الجسدى والروحى معاً. ولكن بُولُوس صرح بالبعث الروحى لغرض اللغو فى حقيقة ملكوت السماوات. ولسنا ههنا بصدد مناقشته. وإنما نحن ههنا بصدد إثبات البعث الجسدى والروحى. ففى إنجيل مرمقس يقول المسيح:" وإن أعثرتك يدك فاقطعها، خير لك أن تدخل الحياة أقطع من أن يكون لك يدان وتمضى إلى جهنم. إلى النار التى لا تطفأ. حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ.. إلخ "[مر 9: 43ـ44] وفى إنجيل متى " وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك؛ لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائه، ولا يلقى جسدك كله فى جهنم "[متى 5: 30] .
وفى سفر إشعياء عن المُسرّات فى الجنة: " لم تر عينا إنسان ولم تسمع أذناه ولم يدرك قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه "[إش 64: 4] واستدل به بولس فى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس [2: 9]، وفى سفر أيوب:" أعلم أن إلهى حى، وأنى سأقوم فى اليوم الأخير بجسدى وسأرى بعينى الله مخلّصى "[أى 19: 25ـ27] وفى ترجمة البروتستانت: " وبدون جسدى ".
وفى سفر إشعياء عن عذاب جهنم: " يجلس خدمى على مائدتى فى بيتى، ويتلذذون بابتهاج مع حبور ومع صوت الأعواد والأراغن ولا أدعهم يحتاجون شيئاً ما، أما أنتم أعدائى فتطرحون خارجاً عنى حيث تموتون فى الشقاء، وكل خادم لى يمتهنكم "[إش 60: 13] .
126- الحدود فى الإسلام
الرد على الشبهة:
إن الدارس للإسلام وأحكامه يدرك حقائق أساسية لتشريع الحدود فى الإسلام نحاول أن نشير إلى بعضها بإيجاز:
أولاً: الحدود فى الإسلام إنما هى زواجر تمنع الإنسان المذنب أن يعود إلى هذه الجريمة مرة أخرى.
وهى كذلك تزجر غيره عن التفكير فى مثل هذه الفعلة وتمنع من يفكر من أن يقارف الذنب، وهى أيضًا نكال " مانع " من الجريمة على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
ثانيًا: إن من المقرر لدى علماء الإسلام قاعدة " درء الحدود بالشبهات " أى جعل الظن والشك فى صالح المتهم.
ثالثًا: ليس المراد بالحدود التشفى والتشهى وإيقاع الناس فى الحرج وتعذيبهم بقطع أعضائهم أو قتلهم أو رجمهم.
إنما المراد هو أن تسود الفضيلة، ومن هنا نجد الشرع الشريف ييسر فى هذه الحدود.
فإذا اشتدت الظروف فى حالات الجوع والخوف والحاجة تعطل الحدود، كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى عام الرمادة.
ومن التيسير أيضًا أن الإسلام يأمر بالستر قبل الوصول إلى الحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ يشهد على الزنا [لو سترته بثوبك كان خيرًا لك](1) .
رابعًا: الشريعة الإسلامية شريعة عامة لكل زمان ومكان، والناس مختلفون فى ضبط نفوسهم، فلابد من وجود عقاب رادع يضبط أصحاب النفوس الضعيفة من الوقوع فى الجرائم والحدود والردة عن الإسلام حتى يسلم المجتمع من الفساد ظاهرًا وباطنًا.
خامسًا: الحدود إنما هى جزء من النظام الإسلامى العام، فلابد من فهم النظام ككل حتى تفهم الحدود ولا يمكن تطبيق الحدود إلا مع تطبيق النظام الإسلامى ككل وإلا لا ينسجم الأمر ولا تستقيم حكمة الله من تشريعه.
سادسًا: الحدود دعوة صريحة للتخلق بالأخلاق الحسنة التى هى من مقاصد الدين وهى أيضًا طريق إلى التوبة إلى الله، فالمذنب إذا عوقب بعقاب الشارع الذى هو منسجم مع تكوينه وواقع وفق علم الله تعالى به وبنفسيته فإن هذا يخاطب قلبه ومشاعره بوجوب الرجوع إلى ربه.
ويكفى ارتداع المسلم عن الجريمة ودخوله فى رحمة ربه معرفته بأن ربه هو الذى شرع له هذا الحكم، فإن هذا وحده من شأنه أن يجعله يتوب وينجذب إلى ربه ويصير مؤمنًا بالله جل جلاله خاصة إذا علم أن هذا الحد يكفر عنه هذا الذنب.
سابعًا: الإسلام دين، والحدود والتعاذير إنما هى فى كل دين بل وفى كل نظام قانونى ومن أراد على ذلك مثال فالتوراة مثلاً تأمر بحرق الزانية والزانى إذا كانت ابنة كاهن.
ذلك قولهم " وإذا تدنست ابنة كاهن بالزنا فقد دنست أباها، بالنار تحرق [اللاويين 21: 9] .
ومن النظم القانونية من يأمر بقتل الخارج على النظام إلى غير ذلك.
ثامنًا: الحدود عقوبات واعية تتناسب مع النفس البشرية والعقوبات البديلة خالية من هذه القيم.
(1) رواه أبو داود.
127- حد السرقة
الرد على الشبهة:
إن النظام الإسلامى كلٌ متكامل، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر فى طبيعة النظام وأصوله ومبادئه، كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملاً ويعمل به جملة واحدة هذا بصفة عامة.
أما بالنسبة لحد السرقة:
فإن الإسلام يقرر حق كل فرد فى الحياة وحقه فى كل الوسائل لحفظ حياته، ومن حق كل إنسان أن يحصل على هذه الوسائل:
أولاً عن طريق العمل مادام قادراً على العمل، فإن لم يستطع أن يحصِّل أسباب الحياة فعلى المجتمع المسلم أن يوفر له ما يحفظ حياته أولاً من النفقة التى تفرض له شرعاً على القادرين فى أسرته.
ثانياً على القادرين من أهل محلته.
ثالثاً من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له فى الزكاة فى نظام تكافلى للرعاية الاجتماعية والأمن الاجتماعى.
والإسلام كذلك يتشدد فى تحديد وسائل جمع المال فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا على حلال، ومن ثم لا تثير الملكية الفردية فى المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون حيث يمكن لكل أحد أن يصبح غنيًّا بالوسائل المشروعة المتاحة والسوق التنافسية الشريفة. والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم، فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب لا إلى السرقة، وبذلك يحفظ مصالح الفرد والمجتمع معاً.
إذن فلماذا يسرق السارق فى ظل هذا النظام؟
إنه لا يسرق إلا للطمع فى الثراء من غير طريق العمل، والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذى يروع الجماعة المسلمة فى دار الإسلام، ويحرمها الطمأنينة التى من حقها أن تستمتع بها، ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال.
فإذا سرق إنسان بعد هذا فإنه لا يسرق وله عذر، ولا ينبغى لأحد أن يرأف به متى ثبت عليه الجريمة وأحيل أمره إلى النظام.
ونفس الإنسان فطرت على حب المال ولعل هذا هو الذى يدفع معظم الناس إلى العمل والكد. والإسلام دائماً يقوّم دوافع النفس حتى تنضبط إما بالترغيب أو بالترهيب. من هنا حض الإسلام على الكسب الحلال ورغّب فيه ورهّب من السرقة بهذه العقوبة، حتى يستقيم المجتمع بما فيه من بار وفاجر. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم [إن الله ليدع بالسلطان ما لا يدع بالقرآن] .
ولما كان قطع يد السارق يفضحه ويسمه بسمة السرقة ويطلع الناس على ما كان منه. فقد أقام الإسلام حراسة على من يتهم بالسرقة، فلا تقطع يده مع وجود شبهة فى أنه سرق كما لا تقطع يده فى الشىء المسروق إذا كان تافهاً لا يعتد به، أو كان فى غير حرز بل إن السارق فى تلك الحالة يعزر بالضرب أو الحبس، ولا تقطع يده.
ومن تلك الضوابط التى وضعتها الشريعة لإقامة حد القطع على السارق:
أولاً: أن يكون المسروق شيئاً ذا قيمة أى أن له اعتباراً اقتصاديٍّا فى حياة الناس. عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: [تقطع اليد ـ أى يد السارق ـ بربع دينار فصاعداً](1) .
ثانياً: أن يكون المسروق محروزاً، أى محفوظاً فى حرز.
ثالثاً: أن ما أخذ للأكل بالفم من التمر فهذا لا قطع فيه ولا تعزير.
رابعاً: السرقة فى أوقات المجاعات لا قطع فيها ولذلك أبطل عمر ـ رضى الله عنه ـ القطع فى عام الرمادة حينما عمت المجاعة.
خامساً: العبد إذا سرق شىء ينظر هل سيده يطعمه أم لا؟ فإن كان لا، غرم سيده ضعف ثمن المسروق كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى غلمان ابن حاطب بن أبى بلتعة حينما سرقوا ناقة رجل من مزينة فقد أمر بقطعهم ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم درأ عنهم الحد وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديباً له.
والقاعدة أن الحدود تُدْرَء بالشبهات.
وهكذا ينبغى أن تفهم حدود الإسلام فى ظل نظامه المتكامل الذى يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة.
فالحدود تمنع من وقوع الجريمة ولذلك نرى على مر التاريخ الإسلامى وعلى مساحة واسعة من بلاد المسلمين أن حد السرقة لم يطبق إلا فى أضيق الحدود وبعدد محدود جداً لا يتجاوز العشرات مع كل هذه الملايين من البشر حيث استقر فى وجدان المسلمين أن السرقة جريمة من الجرائم السيئة التى تهدد الأمن الاجتماعى والمجتمع فى ذاته بحيث تستحق مثل هذه العقوبة البدنية التى تشبه عقوبة الإعدام وعلى قدر عظم الذنب والجرم يكون عظم العقاب.
وبعض المعاصرين ينطلقون من نموذج معرفى آخر يقدم بدن الإنسان فى ذاته بغض النظر عن أفعاله وجرائمه. وقد خفى عليهم كل هدى سليم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
(1) رواه أبو داود.
128- حد الزنا
الرد على الشبهة:
إن جريمة الزنا لهى من أقذر الجرائم حتى أنكرها كل دين، بل وأنكرها العقلاء والراشدون من الناس، كما أنكرها أصحاب المدنية الغربية جهرًا وإن قبلوها سرًا وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج ومن اختلاط للأنساب وحل لروابط الأسرة وقتل لما فى قلوب الآباء من عطف وحنان على الأبناء، ورعاية وبذلٍ سخى لهم بما يبلغ حد التضحية بالراحة والنفس، الأمر الذى لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء وذلك لا يكون إلا إذا وقع فى قلوب الآباء وقوعًا محققًا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم.
ثم لعلك لا تعجب لما تقرأ من الأخبار الواردة إلينا من أمريكا وأوروبا عن آباء قتلوا أولادهم بأيديهم وأتوا على الأسرة كلها فى لحظة واحدة دون أن ينبض فيهم شعور بالتردد قبل الجريمة أو الندم بعدها، وذلك شفاء لما فى نفوسهم من شكوك فى صحة نسب هؤلاء الأبناء إليهم حتى لقد تحولت هذه الشكوك إلى عواطف من الجنون الذى أفقد هؤلاء الآباء كل شعور إنسانى نحو الأبناء المشكوك فى نسبهم، وهيهات أن يخلو شعور أوروبى من الشك فى نسبة أبنائه إليه مع هذه الإباحية المطلقة للجمع بين النساء والرجال فى أى مكان وأى زمان.
فإن أراد الإسلام أن يحارب هذه الجريمة برصد هذه العقوبة الرادعة ـ الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن ـ كان ذلك عند أعداء الإسلام تهمة شنيعة يرمونه بها ويحاكمونه عليها ليخرجوه من حدود الإنسانية المتحضرة إلى عالم سكان الأدغال ورعاة الإبل والشياه فى الصحارى.
ويقولون: كيف يحكم الإسلام بإهدار آدمية الإنسان حتى يأمر بجلده على مرائى ومسمع من الناس؟ ثم كيف تصل الوحشية فى قسوتها إلى أن يُلقى بالإنسان فى حفرة ثم تتناوله الأيدى رجماً بالحجارة إلى أن يموت.
هكذا يقولون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً)(1) .
ولا ننكر أن فى شريعة الإسلام حكم الجلد والرجم يقول الله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)(2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة](3) .
والنظام الإسلامى كل متكامل لا تفهم جزئياته إلا فى نسق واحد.
فإن الإسلام قد حرّم النظر إلى " الأجنبيات " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه إيماناً يجد حلاوته فى قلبه](4) . وكذلك أمر النساء ألا يظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يُخشى منهم فتنة. قال الله تعالى: (يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن)(5)، وقال:
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)(6) . وأمر أيضاً ألا يختلى رجل بامرأة لا تحل له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما] .
وحرم أيضاً أن يمس الرجل امرأة لا تحل له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لئن تضرب بمخيط فى رأسك فتدمى به رأس خير لك من أن تمس امرأة لا تحل لك] . وقبل هذا كله فقد استطاع الإسلام أن يربى الضمير فى الرجل والمرأة على حد سواء على ضوء ما جاء فى قصة ماعزو الغامدية.
والإسلام كذلك حض الشباب على إخراج هذه الشهوة فى منفذها الشرعى بالزواج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء](7) أى قاطع للشهوة.
وكذلك رخص للرجل أن يتزوج بامرأة واحدة أو اثنين أو ثلاثة أو أربع مادام يملك النفقة ويستطيع العدل.
وأمر أولياء الأمور أن لا يغالوا فى مهور بناتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير](8) . وأمر الأغنياء أن يساعدوا الشباب فى نفقات الزواج. وقد قام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بتزويج الشباب والفتيات من بيت مال المسلمين.
هذا كله هو بعض ملامح الإسلام فى تيسير أمر إخراج هذه الشهوة بطريق مشروع، والحقيقة أن مثل هذه الشنيعة لا تحصل فى المجتمع المسلم ـ الذى تسوده الفضيلة ـ إلا بعد تدبير عظيم من كلا الطرفين يدل على إجرام كلا الطرفين ولكن مع كل هذا فإن شريعة الإسلام قد وضعت شروط من الصعب جدًا توافرها قبل إيقاع العقوبة.
فإن لم تتوفر مجتمعة لا يقام الحد على صاحب هذه الفعلة جلداً كان أو رجماً وهذه هى الشروط:
1 ـ لابد حتى تثبت الجريمة من شهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا من الرجل والمرأة ما يكون بين الرجل وزوجته من اتصال مباشر، الأمر الذى لا يكاد يراه أحدٌ من البشر.
وكأن الشريعة لا ترصد هذه العقوبة على هذه الفعلة بوصفها ولكنها ترصدها على شيوع هذه الفعلة على الملأ من الناس بحيث لا يبغى بين الناس من يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
2 ـ إن الشريعة الإسلامية تقرر درء الحدود بالشبهات بمعنى أن أى شك فى شهادة الشهود يفسر لصالح المتهم فيسقط بذلك الحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ادرءوا الحدود بالشبهات](9) .
3 ـ فرضت الشريعة عقوبة الجلد ثمانين جلدة على من قذف محصنة ثم لم يأت بأربعة يشهدون بأنهم رأوا منها ومن المقذوف بها ما يكون بين الزوج وزوجته قال الله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون)(10) .
4 ـ رغبت الشريعة الإسلامية فى التستر على عورات المسلمين وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش وإن كانت وقعت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[لرجل جاء يشهد: هلا سترتهما بثوبك] يقول الله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)(11) .
أبعد هذا كله يتخرص متخرص ويقول: إن الإسلام يظلم الإنسان ويهدر أدميته حين يأخذ أولئك الذين يأتون الفاحشة على أعين بما يأخذهم به من جلد بالسياط. وفضح بين الملأ من الناس.
أفلا يسأل هؤلاء المتخرصون أنفسهم ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يعالى بها بعض الآدميين من غير استحياء ثم لا يضرب على أيديهم أحد. إن إنساناً توفرت له كل هذه الميسرات وتجرأ على الترتيب لهذه الفعلة الشنيعة. ثم افتضح حاله حين يراه هذا العدد فى هذا الوضع. إن إنساناً فى مثل هذا الحال لهو إنسان مفسد ضال مضل ولو لم يتم بتره أو تربيته فإن هذا يشكل خطراً على المجتمع كله.
والمتحدثون عن حقوق الإنسان يقولون لا بأس من أن يحبس قترة من الزمن ثم يخرج لكى يمارس عمله ولا يعلمون أن مثل هذا الحبس سوف يمكنه من أن يخالط من هو أجرم منه ليتعلم منه ويعلمه ويخرجان إلى المجتمع بعد أن أصبحا إمامين فى الضلال ليضلا الناس عن طريق رب الناس وهذا هو المشاهد.
فضلاً عن الذى يترتب على الحد من تكفير لهذا الذنب.
وإن المتتبع لا يجد هذه العقوبة قد نفذت " حال تنفيذ العقوبات " إلا فى أعداد محدودة ولا ضرر فى هذا مادام قد وفر الأمن والاستقرار للمجتمع.
(1) الكهف: 5.
(2)
النور: 2.
(3)
رواه مسلم.
(4)
رواه الحاكم فى المستدرك.
(5)
الأحزاب: 59.
(6)
النور: 31.
(7)
رواه البخارى.
(8)
رواه ابن ماجه.
(9)
رواه الترمذى.
(10)
النور: 4.
(11)
النور: 19.
129- حد الردة
الرد على الشبهة:
إن الإسلام يقرر حرية اختيار الدين، فالإسلام لا يكره أحداً على أن يعتنق أى دين يقول الله تعالى (لا إكراه فى الدين)(1) .
غاية ما هنالك أن الإسلام لا يقبل الشرك بالله ولا يقبل عبادة غير الله وهذا من صلب حقيقة الإسلام باعتبار كونه دين من عند الله جل وعلا، ومع ذلك يقبل النصارى واليهود ولا يقاتلهم على ما هم عليه ولكن يدعوهم إلى الإسلام. كما أن الإسلام لا يبيح الخروج لمن دخل فى دين الله لا يكلف أحداً أن يجهر بنصرة الإسلام، ولكنه لا يقبل من أحدٍ أن يخذل الإسلام، والذى يرتد عن الإسلام ويجهر بذلك فإنه يكون عدوًّا للإسلام والمسلمين ويعلن حرباً على الإسلام والمسلمين ولا عجب أن يفرض الإسلام قتل المرتد، فإن كل نظام فى العالم حتى الذى لا ينتمى لأى دين تنص قوانينه أن الخارج عن النظام العام له عقوبة القتل لا غير فيما يسمونه بالخيانة العظمى.
وهذا الذى يرتد عن الإسلام فى معالنة وجهر بارتداده، إنما يعلن بهذا حرباً على الإسلام ويرفع راية الضلال ويدعو إليها المنفلتين من غير أهل الإسلام وهو بهذا محارب للمسلمين يؤخذ بما يؤخذ به المحاربون لدين الله.
والمجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان. فالعقيدة أساس هويته ومحور حياته وروح وجوده، ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس أو يمس هذه الهوية. ومن هنا كانت الردة المعلنة كبرى الجرائم فى نظر الإسلام لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوى، وخطرعلى الضرورة الأولى من الضرورات الخمس " الدين والنفس والنسل والعقل والمال ".
والإسلام لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يُدخل فيه اليوم ويُخرج منه غداً على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: (آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)(2) .
والردة عن الإسلام ليست مجرد موقف عقلى، بل هى أيضاً تغير للولاء وتبديل للهوية وتحويل للانتماء. فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التى كان عضواً فى جسدها وينقم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها ويعبر عن ذلك الحديث النبوى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه:[التارك لدينه المفارق للجماعة](3) ، وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ، فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة.
ومهما يكن جرم المرتد فإن المسلمين لا يتبعون عورات أحدٍ ولا يتسورون على أحدٍ بيته ولا يحاسبون إلا من جاهر بلسانه أو قلمه أو فعله مما يكون كفراً بواحاً صريحاً لا مجال فيه لتأويل أو احتمال فأى شك فى ذلك يفسر لمصلحة المتهم بالردة.
إن التهاون فى عقوبة المرتد المعالن لردته يعرض المجتمع كله للخطر ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه. فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره، وخصوصاً من الضعفاء والبسطاء من الناس، وتتكون جماعة مناوئة للأمة تستبيح لنفسها الاستعانة بأعداء الأمة عليها وبذلك تقع فى صراع وتمزق فكرى واجتماعى وسياسى، وقد يتطور إلى صراع دموى بل حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس.
وجمهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد قبل تنفيذ العقوبة فيه بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية هو إجماع الصحابة ـ رضى الله عنه ـ وبعض الفقهاء حددها بثلاثة أيام وبعضهم بأقل وبعضهم بأكثر ومنهم من قال يُستتاب أبداً، واستثنوا من ذلك الزنديق؛ لأنه يظهر خلاف ما يبطن فلا توبة له وكذلك سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم لحرمة رسول الله وكرامته فلا تقبل منه توبة وألَّف ابن تيمية كتاباً فى ذلك أسماه " الصارم المسلول على شاتم الرسول ".
والمقصود بهذه الاستتابة إعطاؤه فرصة ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة وتقوم عليه الحُجة ويكلف العلماء بالرد على ما فى نفسه من شبهة حتى تقوم عليه الحُجة إن كان يطلب الحقيقة بإخلاص وإن كان له هوى أو يعمل لحساب آخرين، يوليه الله ما تولى.
(1) البقرة: 156.
(2)
آل عمران: 72.
(3)
رواه مسلم.
130- أن ميراث الأنثى نصف ميراث الذكر
الرد على الشبهة:
صحيح وحق أن آيات الميراث فى القرآن الكريم قد جاء فيها قول الله سبحانه وتعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين)(1) ؛ لكن كثيرين من الذين يثيرون الشبهات حول أهلية المرأة فى الإسلام، متخذين من التمايز فى الميراث سبيلاً إلى ذلك لا يفقهون أن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفًا عامًا ولا قاعدة مطّردة فى توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث. فالقرآن الكريم لم يقل: يوصيكم الله فى المواريث والوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.. إنما قال: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) .. أى أن هذا التمييز ليس قاعدة مطّردة فى كل حالات الميراث، وإنما هو فى حالات خاصة، بل ومحدودة من بين حالات الميراث.
بل إن الفقه الحقيقى لفلسفة الإسلام فى الميراث تكشف عن أن التمايز فى أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة.. وإنما لهذه الفلسفة الإسلامية فى التوريث حِكَم إلهية ومقاصد ربانية قد خفيت عن الذين جعلوا التفاوت بين الذكور والإناث فى بعض مسائل الميراث وحالاته شبهة على كمال أهلية المرأة فى الإسلام. وذلك أن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات فى فلسفة الميراث الإسلامى ـ إنما تحكمه ثلاثة معايير:
أولها: درجة القرابة بين الوارث ذكرًا كان أو أنثى وبين المُوَرَّث المتوفَّى فكلما اقتربت الصلة.. زاد النصيب فى الميراث.. وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب فى الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين..
وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمنى للأجيال.. فالأجيال التى تستقبل الحياة، وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها فى الميراث أكبر من نصيب الأجيال التى تستدبر الحياة. وتتخفف من أعبائها، بل وتصبح أعباؤها ـ عادة ـ مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات.. فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه ـ وكلتاهما أنثى ـ.. وترث البنت أكثر من الأب! - حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها.. وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التى للابن، والتى تنفرد البنت بنصفها! ـ.. وكذلك يرث الابن أكثر من الأب ـ وكلاهما من الذكور..
وفى هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث فى الإسلام حِكَم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين!..
وهى معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق..
وثالثها: العبء المالى الذى يوجب الشرع الإسلامى على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين.. وهذا هو المعيار الوحيد الذى يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى.. لكنه تفاوت لا يفضى إلى أى ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها.. بل ربما كان العكس هو الصحيح!..
ففى حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون فى درجة القرابة.. واتفقوا وتساووا فى موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال - مثل أولاد المتوفَّى، ذكوراً وإناثاً - يكون تفاوت العبء المالى هو السبب فى التفاوت فى أنصبة الميراث.. ولذلك، لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى فى عموم الوارثين، وإنما حصره فى هذه الحالة بالذات، فقالت الآية القرآنية:(يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) .. ولم تقل: يوصيكم الله فى عموم الوارثين.. والحكمة فى هذا التفاوت، فى هذه الحالة بالذات، هى أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى ـ هى زوجه ـ مع أولادهما.. بينما الأنثى الوارثة أخت الذكرـ إعالتها، مع أولادها، فريضة على الذكر المقترن بها.. فهى ـ مع هذا النقص فى ميراثها بالنسبة لأخيها، الذى ورث ضعف ميراثها، أكثر حظًّا وامتيازاً منه فى الميراث.. فميراثها ـ مع إعفائها من الإنفاق الواجب ـ هو ذمة مالية خالصة ومدخرة، لجبر الاستضعاف الأنثوى، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات.. وتلك حكمة إلهية قد تخفى على الكثيرين..
وإذا كانت هذه الفلسفة الإسلامية فى تفاوت أنصبة الوارثين والوارثات وهى التى يغفل عنها طرفا الغلو، الدينى واللادينى، الذين يحسبون هذا التفاوت الجزئى شبهة تلحق بأهلية المرأة فى الإسلام فإن استقراء حالات ومسائل الميراث ـ كما جاءت فى علم الفرائض (المواريث) ـ يكشف عن حقيقة قد تذهل الكثيرين عن أفكارهم المسبقة والمغلوطة فى هذا الموضوع.. فهذا الاستقراء لحالات ومسائل الميراث، يقول لنا:
1 ـ إن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
2 ـ وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تماماً.
3 ـ وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
4 ـ وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال.
أى أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترث هى ولا يرث نظيرها من الرجال، فى مقابلة أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل.. (2) "!!.
تلك هى ثمرات استقراء حالات ومسائل الميراث فى علم الفرائض (المواريث) ، التى حكمتها المعايير الإسلامية التى حددتها فلسفة الإسلام فى التوريث.. والتى لم تقف عند معيار الذكورة والأنوثة، كما يحسب الكثيرون من الذين لا يعلمون!..
وبذلك نرى سقوط الشبهة الأولى من الشبهات الخمس المثارة حول أهلية المرأة، كما قررها الإسلام.
(1) النساء: 11.
(2)
د. صلاح الدين سلطان "ميراث المرأة وقضية المساواة " ص10، 46، طبعة القاهرة، دار نهضة مصر سنة 1999م ـ " سلسلة فى التنوير الإسلامى ".
131- أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل
الرد على الشبهة:
أما الشبهة الثانية والزائفة التى تثار حول موقف الإسلام من شهادة المرأة.. التى يقول مثيروها: إن الإسلام قد جعل المرأة نصف إنسان، وذلك عندما جعل شهادتها نصف شهادة الرجل، مستدلين على ذلك بآية سورة البقرة:(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذى عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دُعُوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شىء عليم)(1) .
ومصدر الشبهة التى حسب مثيروها أن الإسلام قد انتقص من أهلية المرأة، بجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل:[فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان] هو الخلط بين " الشهادة " وبين " الإشهاد " الذى تتحدث عنه هذه الآية الكريمة.. فالشهادة التى يعتمد عليها القضاء فى اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارًا لصدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها.. وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضى لصدق الشهادة بصرف النظرعن جنس الشاهد، ذكرًا كان أو أنثى، وبصرف النظر عن عدد الشهود.. فالقاضى إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين، أو امرأتين، أو رجل وامرأة، أو رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين، أو رجل واحد أو امرأة واحدة.. ولا أثر للذكورة أو الأنوثة فى الشهادة التى يحكم القضاء بناءً على ما تقدمه له من البينات..
أما آية سورة البقرة، والتى قالت:[واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى] فإنها تتحدث عن أمر آخر غير" الشهادة " أمام القضاء.. تتحدث عن " الإشهاد " الذى يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دَيْنه، وليس عن " الشهادة " التى يعتمد عليها القاضى فى حكمه بين المتنازعين.. فهى - الآية - موجهة لصاحب الحق الدَّيْن وليس إلى القاضى الحاكم فى النزاع.. بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق دَيْن ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود فى كل حالات الدَّيْن.. وإنما توجهت بالنصح والإرشاد فقط النصح والإرشاد إلى دائن خاص، وفى حالات خاصة من الديون، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية.. فهو دين إلى أجل مسمى.. ولابد من كتابته.. ولابد من عدالة الكاتب. ويحرم امتناع الكاتب عن الكتابة..ولابد من إملاء الذى عليه الحق.. وإن لم يستطع فليملل وليه بالعدل.. والإشهاد لا بد أن يكون من رجلين من المؤمنين.. أو رجل وامرأتين من المؤمنين.. وأن يكون الشهود ممن ترضى عنهم الجماعة.. ولا يصح امتناع الشهود عن الشهادة.. وليست هذه الشروط بمطلوبة فى التجارة الحاضرة.. ولا فى المبايعات..
ثم إن الآية ترى فى هذا المستوى من الإشهاد الوضع الأقسط والأقوم.. وذلك لا ينفى المستوى الأدنى من القسط..
ولقد فقه هذه الحقيقة حقيقة أن هذه الآية إنما تتحدث عن " الإشهاد" فى دَيْن خاص، وليس عن الشهادة.. وإنها نصيحةوإرشاد لصاحب الدَّيْن ذى المواصفات والملابسات الخاصة وليست تشريعاً موجهاً إلى القاضى الحاكم فى المنازعات.. فقه ذلك العلماء المجتهدون..
ومن هؤلاء العلماء الفقهاء الذين فقهوا هذه الحقيقة، وفصّلوا القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية [661728 هجرية /1263 1328] وتلميذه العلامة ابن القيم [691751 هجرية / 1292 1350م] من القدماء والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده [12651323 هجرية] والإمام الشيخ محمود شلتوت [13101383 هجرية /18931963م] من المحدثين والمعاصرين فقال ابن تيمية فيما يرويه عنه ويؤكد عليه ابن القيم:
قال عن " البينة " التى يحكم القاضى بناء عليها.. والتى وضع قاعدتها الشرعية والفقهية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه " رواه البخارى والترمذى وابن ماجه:
" إن البينة فى الشرع، اسم لما يبيّن الحق ويظهره، وهى تارة تكون أربعة شهود، وتارة ثلاثة، بالنص فى بينة المفلس، وتارة شاهدين، وشاهد واحد، وامرأة واحدة، وتكون نُكولاً (2) ، ويمينًا، أو خمسين يميناً أو أربعة أيمان، وتكون شاهد الحال.
فقوله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعى "، أى عليه أن يظهر ما يبيّن صحة دعواه، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حُكِم له.. " (3) فكما تقوم البينة بشهادة الرجل الواحد أو أكثر، تقوم بشهادة المرأة الواحدة، أو أكثر، وفق معيار البينة التى يطمئن إليها ضمير الحاكم - القاضى -..
ولقد فصّل ابن تيمية القول فى التمييز بين طرق حفظ الحقوق، التى أرشدت إليها ونصحت بها آية الإشهاد - الآية 282 من سورة البقرة وهى الموجهة إلى صاحب " الحق الدَّين " وبين طرق البينة، التى يحكم الحاكم القاضى بناء عليها.. وأورد ابن القيم تفصيل ابن تيمية هذا تحت عنوان [الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه] .. فقال:
" إن القرآن لم يذكر الشاهدين، والرجل والمرأتين فى طرق الحكم التى يحكم بها الحاكم، وإنما ذكر النوعين من البينات فى الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه، فقال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)(4) .. فأمرهم، سبحانه، بحفظ حقوقهم بالكتاب (5) ، وأمر من عليه الحق أن يملى الكاتب، فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه أملى عنه وليه، ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين، فإن لم يجد فرجل وامرأتان، ثم نهى الشهداء المتحملين للشهادة عن التخلف عن إقامتها إذا طُلبوا لذلك، ثم رخّص لهم فى التجارة الحاضرة ألا يكتبوها، ثم أمرهم بالإشهاد عند التبايع، ثم أمرهم إذا كانوا على سفر ولم يجدوا كاتباً، أن يستوثقوا بالرهان المقبوضة.
كل هذا نصيحة لهم، وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم، وما تحفظ به الحقوق شئ وما يحكم به الحاكم [القاضى] شئ، فإن طرق الحكم أوسع من الشاهد والمرأتين، فإن الحاكم يحكم بالنكول، واليمين المردودة ولا ذكر لهما فى القرآن وأيضاً: فإن الحاكم يحكم بالقرعة بكتاب الله وسنة رسوله الصريحة الصحيحة.. ويحكم بالقافة (6) بالسنة الصريحة الصحيحة التى لا معارض لها ويحكم بالقامة (7) بالسنة الصحيحة الصريحة، ويحكم بشاهد الحال إذا تداعى الزوجان أو الصانعان متاع البيت والدكان، ويحكم، عند من أنكر الحكم بالشاهد واليمين بوجود الآجر فى الحائط، فيجعله للمدعى إذا كان جهته وهذا كله ليس فى القرآن، ولا حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه..
فإن قيل: فظاهر القرآن يدل على أن الشاهد والمرأتين بدلٌ عن الشاهدين، وأنه لا يُقْضَى بهما إلا عند عدم الشاهدين.
قيل: القرآن لا يدل على ذلك، فإن هذا أمر لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم، فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها.. وهو سبحانه لم يذكر ما يحكم به الحاكم، وإنما أرشدنا إلى ما يحفظ به الحق، وطرق الحكم أوسع من الطرق التى تُحفظ بها الحقوق " (8) ..
وبعد إيراد ابن القيم لهذه النصوص نقلاً عن شيخه وشيخ الإسلام ابن تيمية علق عليها، مؤكداً إياها، فقال:" قلت [أى ابن القيم] : وليس فى القرآن ما يقتضى أنه لا يُحْكَم إلا بشاهدين،أو شاهد وامرأتين، فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النِّصاب، ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به، فضلاً عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك. ولهذا يحكم الحاكم بالنكول، واليمين المردودة، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهن، وبمعاقد القُمُط (9) ، ووجوه الآجرّ، وغير ذلك من طرق الحكم التى تُذكر فى القرآن..فطرق الحكم شئ، وطرق حفظ الحقوق شئ آخر، وليس بينهما تلازم، فتُحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم مما يعلم صاحب الحق أنه يحفظ به حقه، ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه، ولا خطر على باله.. "(10) .
فطرق الإشهاد، فى آية سورة البقرة التى تجعل شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد هى نصيحة وإرشاد لصاحب الدَّين ذى الطبيعة الخاصة -.. وليست التشريع الموجه إلى الحاكم القاضى والجامع لطرق الشهادات والبينات.. وهى أيضاً خاصة بدَيْن له مواصفاته وملابساته، وليست التشريع العام فى البينات التى تُظهر العدل فيحكم به القضاة..
* وبعد هذا الضبط والتمييز والتحديد.. أخذ ابن تيمية يعدد حالات البينات والشهادات التى يجوز للقاضى الحاكم الحكم بناء عليها.. فقال: " إنه يجوز للحاكم -[القاضى]- الحكم بشهادة الرجل الواحد إذا عرف صدقه فى غير الحدود، ولم يوجب الله على الحاكم ألا يحكم إلا بشاهدين أصلاً، وإنما أمر صاحب الحق أن يحفظ حقه بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين، وهذا لا يدل علىأن الحاكم لا يحكم بأقل من ذلك، بل قد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالشاهد واليمين، وبالشاهد فقط، وليس ذلك مخالفاً لكتاب الله عند من فهمه، ولا بين حكم الله وحكم رسوله خلاف.. وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابى وحده على رؤية هلال رمضان، وتسمية بعض الفقهاء ذلك إخباراً، لا شهادة، أمر لفظى لا يقدح فى الاستدلال، ولفظ الحديث يردّ قوله، وأجاز صلى الله عليه وسلم شهادة الشاهد الواحد فى قضية السَّلَب (11) ، ولم يطالب القاتل بشاهد آخر، واستحلفه، وهذه القصة [وروايتها فى الصحيحين] صريحة فى ذلك.. وقد صرح الأصحاب: أنه تُقبل شهادة الرجل الواحد من غير يمين عند الحاجة، وهو الذى نقله الخِرَقى [334 هجرية 945م] فى مختصره،فقال: وتِقبل شهادة الطبيب العدل فى الموضحة (12) إذا لم يقدر على طبيبين، وكذلك البيطار فى داء الدابة.."(13) .
* وكما تجوز شهادة الرجل الواحد فى غير الحدود.. وكما تجوز شهادة الرجال وحدهم في الحدود، تجوز عند البعض شهادة النساء وحدهن فى الحدود.. وعن ذلك يقول ابن تيمية، فيما نقله ابن القيم:" وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم شهادة المرأة الواحدة فى الرضاع، وقد شهدت على فعل نفسها، ففى الصحيحين عن عقبة ابن الحارث: " أنه تزوج أم يحيى بنت أبى إهاب، فجاءت أَمَةٌ سوداء، فقالت: قد أرضعتكما. فذكرتُ ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنى، قال: فتنحيتُ فذكرتُ ذلك له، قال: فكيف؟ وقد زعمتْ أنْ قد أرضعتكما! ".
وقد نص أحمد على ذلك فى رواية بكر بن محمد عن أبيه، قال: فى المرأة تشهد على مالا يحضره الرجال من إثبات استهلال الصبى (14) ، وفى الحمّام يدخله النساء، فتكون بينهن جراحات.
وقال إسحاق بن منصور: قلتُ لأحمد فى شهادة الاستدلال: " تجوز شهادة امرأة واحدة فى الحيض والعدة والسقط والحمّام، وكل مالا يطلع عليه إلا النساء ".
فقال: "تجوز شهادة امرأة إذا كانت ثقة، ويجوز القضاء بشهادة النساء منفردات فى غير الحدود والقصاص عند جماعة من الخَلَف والسلف ". وعن عطاء [27-114 هجرية /647 732م] أنه أجاز شهادة النساء فى النكاح. وعن شريح [78 هجرية / 697م] أنه أجاز شهادة النساء فى الطلاق. وقال بعض الناس: تجوز شهادة النساء فى الحدود. وقال مهنا: قال لى أحمد بن حنبل: قال أبو حنيفة: تجوز شهادة القابلة وحدها، وإن كانت يهودية أو نصرانية.." (15) .
ذلك أن العبرة هنا فى الشهادة إنما هى الخبرة والعدالة، وليست العبرة بجنس الشاهد ذكراً كان أو أنثى ففى مهن مثل الطب.. والبيطرة.. والترجمة أمام القاضى.. تكون العبرة "بمعرفة أهل الخبرة "(16) .
* بل لقد ذكر ابن تيمية فى حديثه عن الإشهاد الذى تحدثت عنه آية سورة البقرة أن نسيان المرأة، ومن ثم حاجتها إلى أخرى تذكرها (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى (ليس طبعًا ولا جبلة فى كل النساء، وليس حتمًا فى كل أنواع الشهادات.. وإنما هو أمر له علاقة بالخبرة والمران، أى أنه مما يلحقه التطور والتغيير.. وحكى ذلك عنه ابن القيم فقال:
" قال شيخنا ابن تيمية، رحمه الله تعالى: قوله تعالى:: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى (فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل واحد إنما هو لإذكار إحداهما للأخرى، إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما فيه الضلال فى العادة، وهو النسيان وعدم الضبط.. فما كان من الشهادات لا يُخافُ فيه الضلال فى العادة لم تكن فيه على نصف الرجل.."(17) .
فحتى فى الإشهاد، يجوز لصاحب الدَّيْن أن يحفظ دَينه وفق نصيحة وإرشاد آية سورة البقرة بإشهاد رجل وامرأة، أو امرأتين، وذلك عند توافر الخبرة للمرأة فى موضوع الإشهاد.. فهى فى هذا الإشهاد ليست شهادتها دائماً على النصف من شهادة الرجل..
ولقد كرر ابن القيم وأكد هذا الذى أشرنا إلى طرف منه، فى غير كتابه [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] فقال فى كتابه " إعلام الموقعين عند رب العالمين" أثناء حديثه عن " البينة " وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" البينة على المدعى واليمين على من أنكر " خلال شرحه لخطاب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى [21ق هجرية 44 هجرية 602- 665م] فى قواعد القضاء وآدابه - قال: " إن البينة فى كلام الله ورسوله، وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق.. ولم يختص لفظ البينة بالشاهدين.. وقال الله فى آية الدَّيْن: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان (فهذا فى التَّحمل والوثيقة التى يحفظ بها صاحب المال حقه، لا فى طرق الحكم وما يحكم به الحاكم، فإن هذا شئ وهذا شئ، فذكر سبحانه ما يحفظ به الحقوق من الشهود، ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك.. فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق.. وقال سبحانه: (ممن ترضون من الشهداء (لأن صاحب الحق هو الذى يحفظ ماله بمن يرضاه.. ".
وعلل ابن تيمية حكمة كون شهادة المرأتين فى هذه الحالة تعدلان شهادة الرجل الواحد، بأن المرأة ليست مما يتحمل عادة مجالس وأنواع هذه المعاملات.. لكن إذا تطورت خبراتها وممارساتها وعاداتها، كانت شهادتها حتى فى الإشهاد على حفظ الحقوق والديون مساوية لشهادة الرجل.. فقال:
" ولا ريب أن هذه الحكمة فى التعدد هى فى التحمل، فأما إذا عقلت المرأة، وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها فإن المقصود حاصل بخبرها كما يحصل بأخبار الديانات، ولهذا تُقبل شهادتها وحدها فى مواضع، ويُحكم بشهادة امرأتين ويمين الطالب فى أصح القولين، وهو قول مالك [93-179 هجرية 712-795م] وأحد الوجهين فى مذهب أحمد.. "
والمقصود أن الشارع لم يَقِف الحكم فى حفظ الحقوق البتة على شهادة ذكرين، لا فى الدماء ولا فى الأموال ولا فى الفروج ولا فى الحدود.. وسر المسألة ألا يلزم من الأمر بالتعدد فى جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد فى جانب الحكم والثبوت، فالخبر الصادق لا تأتى الشريعة برده أبداً.
وهذا الذى قاله ابن تيمية وابن القيم فى حديثهما عن آية سورة البقرة هو الذى ذكره الإمام محمد عبده، عندما أرجع تميز شهادة الرجال على هذا الحق الذى تحدثت عنه الآية على شهادة النساء، إلى كون النساء فى ذلك التاريخ كن بعيدات عن حضور مجالس التجارات، ومن ثم بعيدات عن تحصيل التحمل والخبرات فى هذه الميادين.. وهو واقع تاريخى خاضع للتطور والتغير، وليس طبيعة ولا جبلة فى جنس النساء على مر العصور.. ولو عاش الإمام محمد عبده إلى زمننا هذا، الذى زخر ويزخر بالمتخصصات فى المحاسبة والاقتصاد وإدارة الأعمال، وب " سيدات الأعمال " اللائى ينافسن " رجال الأعمال " لأفاض وتوسع فيما قال، ومع ذلك، فحسبه أنه قد تحدث قبل قرن من الزمان فى تفسيره لآية سورة البقرة هذه رافضاً أن يكون نسيان المرأة جبلة فيها وعامًّا فى كل موضوعات الشهادات، فقال:
" تكلم المفسرون فى هذا، وجعلوا سببه المزاج، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها ضعيفة،ولا تكون كذلك فى الأمور المنزلية التى هى شغلها، فإنها أقوى ذاكرة من الرجل، يعنى أن من طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكرهم للأمور التى تهمهم ويكثر اشتغالهم بها "(18) .
ولقد سار الشيخ محمود شلتوت الذى استوعب اجتهادات ابن تيمية وابن القيم ومحمد عبده مع هذا الطريق، مضيفاً إلى هذه الاجتهادات علماً آخر عندما لفت النظر إلى تساوى شهادة الرجل فى " اللعان ".. فكتب يقول عن شهادة المرأة وكيف أنها دليل على كمال أهليتها، وذلك على العكس من الفكر المغلوط الذى يحسب موقف الإسلام من هذه القضية انتقاصًا من إنسانيتها.. كتب يقول:
إن قول الله سبحانه وتعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان (ليس وارداً فى مقام الشهادة التى يقضى بها القاضى ويحكم، وإنما هو فى مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل (يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولايأب كاتب أن يكتب كما علمه الله (إلى أن قال: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)(19) .
فالمقام مقام استيثاق على الحقوق، لا مقام قضاء بها. والآية ترشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذى تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهم.
وليس معنى هذا أن شهادة المرأة الواحدة أو شهادة النساء اللاتى ليس معهن رجل، لايثبت بها الحق، ولا يحكم بها القاضى، فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو " البينة ".
وقد حقق العلامة ابن القيم أن البينة فى الشرع أعم من الشهادة، وأن كل ما يتبين به الحق ويظهره، هو بينة يقضى بها القاضى ويحكم. ومن ذلك: يحكم القاضى بالقرائن القطعية، ويحكم بشهادة غير المسلم متى وثق بها واطمأن إليها.
واعتبار المرأتين فى الاستيثاق كالرجل الواحد ليس لضعف عقلها، الذى يتبع نقص إنسانيتها ويكون أثراً له، وإنما هو لأن المرأة كما قال الشيخ محمد عبده " ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك فى الأمور المنزلية التى هى شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التى تهمهم ويمارسونها، ويكثر اشتغالهم بها.
والآية جاءت على ما كان مألوفاً فى شأن المرأة، ولا يزال أكثر النساء كذلك، لا يشهدن مجالس المداينات ولا يشتغلن بأسواق المبايعات، واشتغال بعضهن بذلك لا ينافى هذا الأصل الذى تقضى به طبيعتها فى الحياة.
وإذا كانت الآية ترشد إلى أكمل وجوه الاستيثاق، وكان المتعاملون فى بيئة يغلب فيها اشتغال النساء بالمبايعات وحضور مجالس المداينات، كان لهم الحق فى الاستيثاق بالمرأة على نحو الاستيثاق بالرجل متى اطمأنوا إلى تذكرها وعدم نسيانها على نحو تذكر الرجل وعدم نسيانه.
هذا وقد نص الفقهاء على أن من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها، وهى القضايا التى لم تجر العادة بإطلاع الرجال على موضوعاتها، كالولادة والبكارة، وعيوب النساء والقضايا الباطنية.
وعلى أن منها ما تقبل فيه شهادة الرجل وحده، وهى القضايا التى تثير موضوعاتها عاطفة المرأة ولا تقوى على تحملها، على أنهم قدروا قبول شهادتها فى الدماء إذا تعينت طريقاً لثبوت الحق واطمئنان القاضى إليها. وعلى أن منها ما تقبل شهادتهما معاً.
ومالنا نذهب بعيداً، وقد نص القرآن على أن المرأة كالرجل سواء بسواء فى شهادات اللعان، وهو ما شرعه القرآن بين الزوجين حينما يقذف الرجل زوجه وليس له على ما يقول شهود (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين)(20) .
أربع شهادات من الرجل، يعقبها استمطار لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويقابلها ويبطل عملها، أربع شهادات من المرأة يعقبها استمطار غضب الله عليها إن كان من الصادقين.. فهذه عدالة الإسلام فى توزيع الحقوق العامة بين الرجل والمرأة، وهى عدالة تحقق أنهما فى الإنسانية سواء.. (21) .
هكذا وضحت صفحة الإسلام.. وصفحات الاجتهاد الإسلامى فى قضية مساواة شهادة المرأة وشهادة الرجل، طالما امتلك الشاهد أو الشاهدة مقومات ومؤهلات وخبرة هذه الشهادة.. لأن الأهلية الإنسانية بالنسبة لكل منهما واحدة، ونابعة من وحدة الخلق، والمساواة فى التكاليف، والتناصر فى المشاركة بحمل الأمانة التى حملها الإنسان، أمانة استعمار وعمران هذه الحياة.
*وأخيراً وليس آخراً فإن ابن القيم يستدل بالآية القرآنية: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)(22) . على أن المرأة كالرجل فى هذه الشهادة على بلاغ الشريعة ورواية السنة النبوية.. فالمرأة كالرجل فى " رواية الحديث "، التى هى شهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وإذا كان ذلك مما أجمعت عليه الأمة، ومارسته راويات الحديث النبوى جيلاً بعد جيل " والرواية شهادة " فكيف تقبل الشهادة من المرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقبل على واحد من الناس؟.. إن المرأة العدل [بنص عبارة ابن القيم] كالرجل فى الصدق والأمانة والديانة (23) .
ذلكم هو منطق شريعة الإسلام وكلها منطق وهذا هوعدلها بين النساء والرجال وكلها عدل وكما يقول ابن القيم:" وما أثبت الله ورسوله قط حكماً من الأحكام يُقطع ببطلان سببه حسًّا أو عقلاً، فحاشا أحكامه سبحانه من ذلك، فإنه لا أحسن حكمًا منه سبحانه وتعالى ولا أعدل. ولا يحكم حكماً يقول العقل: ليته حكم بخلافه، بل أحكامه كلها مما يشهد العقل والفِطَر بحسنها، ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها، وأنه لا يصلح فى موضعها سواها "(24) .
هذا.. ولقد تعمدنا فى إزالة هذه الشبهة أمران:
أولهما: أن ندع نصوص أئمة الاجتهاد الإسلامى هى التى تبدد غيوم هذه الشبهة، لا نصوصنا نحن.. وذلك حتى لا ندع سبيلاً لشبهات جديدة فى هذا الموضوع!
وثانيهما: أن تكون هذه النصوص للأئمة المبرزين فى إطار السلف والسلفيين.. وذلك حتى نقطع الطريق على أدعياء السلفية الذين حملوا العادات الراكدة لمجتمعاتهم على دين الإسلام، فاستبدلوا هذه العادات بشريعة الإسلام!.. وحتى نقطع الطريق كذلك على غلاة العلمانيين والعلمانيات، الذين استبدلوا البدع الفكرية الوافدة بحقائق وحقيقة الإسلام، والذين يتحسسون مسدساتهم إذا ذكرت مصطلحات السلفية والسلفيين!..
فإنصاف المرأة، وكمال واكتمال أهليتها هو موقف الإسلام، الذى نزل به الروح الأمين على قلب الصادق الأمين.. وهو موقف كل تيارات الاجتهاد الإسلامى، على امتداد تاريخ الإسلام.
(1) البقرة: 282.
(2)
النكول: هو الامتناع عن اليمين.
(3)
ابن القيم [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص34. تحقيق محمد جميل غازى. طبعة القاهرة سنة 1977م.
(4)
سورة البقرة: 282.
(5)
أى الكتابة.
(6)
القافة: مفردها قائف هو الذى يعرف الآثار آثار الأقدام ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه..
(7)
القامة: الأيمان، تقسم على أهل المحلة الذين وجد المقتول فيهم.
(8)
[الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 103-105، 219،236.
(9)
مفردها قمط بكسر القاف وسكون الميم: ما تشد به الإخصاص ومكونات البناء ولبناته.
(10)
[الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 198.
(11)
السَّلب بفتح السين مشددة، وفتح اللام -: هو متاع القتيل وعدته، يأخذه قاتله.. وفى الحديث:" من قتل قتيلاً فله سَلَبُهُ ".
(12)
الموضحة: هى الجراحات التى هى دون قتل النفس.
(13)
[الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 98، 113، 123.
(14)
استهلال الصبى: هو أن يحدث منه ما يدل على حياته ساعة الولادة من رفع صوت أو حركة عضو أو عين، وهو شرط لتمتعه بحقوق الأحياء.
(15)
[الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 115-117.
(16)
المصدر السابق. ص 188، 193.
(17)
[إعلام الموقعين عن رب العالمين] ج1 ص 90-92، 94-95،103،104. طبعة بيروت سنة 1973م.
(18)
[الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده] ج4 ص732. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة القاهرة سنة 1993م.
(19)
البقرة: 282.
(20)
النور:69.
(21)
[الإسلام عقيدة وشريعة] ص 239- 241. طبعة القاهرة سنة 1400 هجرية سنة 1980م.
(22)
البقرة: 143.
(23)
[الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص236، 244.
(24)
المصدر السابق، ص329.
132- أن النساء ناقصات عقل ودين
الردعلى الشبهة:
المصدر الحقيقى لهذه الشبهة هو العادات والتقاليد الموروثة، والتى تنظر إلى المرأة نظرة دونية.. وهى عادات وتقاليد جاهلية، حرر الإسلام المرأة منها.. لكنها عادت إلى الحياة الاجتماعية، فى عصور التراجع الحضارى مستندة كذلك إلى رصيد التمييز ضد المرأة الذى كانت عليه مجتمعات غير إسلامية، دخلت فى إطار الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، دون أن تتخلص تماماً من هذه المواريث.. فسرعة الفتوحات الإسلامية التى اقتضتها معالجة القوى العظمى المناوئة للإسلام قوى الفرس والروم وما تبعها من سرعة امتداد الدولة الإسلامية، قد أدخلت فى الحياة الإسلامية شعوباً وعادات وتقاليد لم تتح هذه السرعة للتربية الإسلامية وقيمها أن تتخلص تلك الشعوب من تلك العادات والتقاليد، والتى تكون عادة أشد رسوخاً وحاكمية من القيم الجديدة.. حتى لتغالب فيه هذه العادات الموروثة العقائد والأنساق الفكرية والمثل السامية للأديان والدعوات الجديدة والوليدة، محاولة التغلب عليها!.
ولقد حاولت هذه العادات والتقاليد بعد أن ترسخت وطال عليها الأمد، فى ظل عسكرة الدولة الإسلامية فى العهدين المملوكى والعثمانى أن تجد لنظرتها الدونية للمرأة " غطاء شرعيًّا " فى التفسيرات المغلوطة لبعض الأحاديث النبوية وذلك بعد عزل هذه الأحاديث عن سياقها، وتجريدها من ملابسات ورودها، وفصلها عن المنطق الإسلامى منطق تحرير المرأة كجزء من تحريره للإنسان، ذكراً كان أو أنثى هذا الإنسان فلقد جاء الإسلام ليضع عن الناس إصرهم والأغلال التى كانت عليهم، وليحيى ملكات وطاقات الإنسان مطلق جنس ونوع الإنسان وليشرك الإناث والذكور جميعاً فى حمل الأمانة التى حملها الإنسان، وليكون بعضهم أولياء بعض فى النهوض بالفرائض الاجتماعية، الشاملة لكل ألوان العمل الاجتماعى والعام..
لكن العادات والتقاليد الجاهلية فى احتقار المرأة، والانتقاص من أهليتها، وعزلها عن العمل العام، وتعطيل ملكاتها وطاقاتها الفطرية قد دخلت فى حرب ضروس ضد القيم الإسلامية لتحرير المرأة.. وسعت إلى التفسيرات الشاذة والمغلوطة لبعض الأحاديث النبوية والمأثورات الإسلامية كى تكون " غطاءً شرعياً " لهذه العادات والتقاليد..
فبعد أن بلغ التحرير الإسلامى للمرأة إلى حيث أصبحت به وفيه:
* طليعة الإيمان بالإسلام.. والطاقة الخلاقة الداعمة للدين ورسوله صلى الله عليه وسلم كما كان حال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد [68 3ق هجرية / 556 620م] رضى الله عنها.. حتى لقد كان عام وفاتها عام حزن المسلمين ورسول الإسلام ودعوة الإسلام..
* وطليعة شهداء الإسلام.. كما جسدتها شهادة سمية بنت خياط [7ق هجرية 615م] ، أم عمار بن ياسر [57 ق هجرية 37 هجرية /567 657م] ..
* وطليعة المشاركة فى العمل العام السياسى منه، والشورى، والفقهى، والدعوى، والأدبى، والاجتماعى. بل والقتالى - كما تجسدت فى كوكبة النخبة والصفوة النسائية التى تربت فى مدرسة النبوة..
بعد أن بلغ التحرير الإسلامى للمرأة هذه الآفاق.. أعادت العادات والتقاليد المرأة أو حاولت إعادتها إلى أسر وأغلال منظومة من القيم الغربية عن الروح الإسلامية.. حتى أصبحت المفاخرة والمباهاة بأعراف ترى:
* أن المرأة الكريمة لا يليق بها أن تخرج من مخدعها إلا مرتان: أولاهما: إلى مخدع الزوجية.. وثانيتهما: إلى القبر الذى تُدفن فيه!..
* فهى عورة، لا يسترها إلا " القبر "!.
ولم أر نعمة شملت كريماً *** كنعمة عورة سُترت بقبر!
وإذا كان الإسلام قد حفظ حياتها من الوأد المادى القتل فإن المجد والمكرمات فى تلك العادات هى فى موتها!
ومن غاية المجد والمكرمات *** بقاء البنين وموت البنات!
تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا *** والموت أكرم نزّال على الحرم!
* وشوراها شؤم يجب اجتنابها.. وإذا حدثت فلمخالفتها، وللحذر من الأخذ بها!.
والأكثر خطورة من هذه الأعراف والعادات والتقاليد، التى سادت أوساطا ملحوظة ومؤثرة فى حياتنا الاجتماعية، إبان مرحلة التراجع الحضارى، هى التفسيرات المغلوطة لبعض المرويات الإسلامية بحثاً عن مرجعية إسلامية وغطاء شرعى لقيم التخلف والانحطاط التى سادت عالم المرأة فى ذلك التاريخ.. لقد كان الحظ الأوفر فى هذا المقام للتفسير الخاطىء الذى ساد وانتشر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى ومسلم عن نقص النساء فى العقل والدين.. وهو حديث رواه الصحابى الجليل أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه فقال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أضحى أو فِطْر إلى المصلى فمرّ على النساء، فقال:
- " يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ".
- قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟.
- قال: " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل "؟.
- قلن: بلى.
- قال: " فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟ ".
- قلن: بلى.
- قال: " فذلك من نقصان دينها ".
ذلكم هو الحديث الذى اتّخذَ تفسيره الملغوط ولا يزال " غطاء شرعيًّا " للعادات والتقاليد التى تنتقص من أهلية المرأة.. والذى ينطلق منه نفر من غلاة الإسلاميين فى " جهادهم " ضد إنصاف المرأة وتحريرها من أغلال التقاليد الراكدة.. وينطلق منه المتغربون وغلاة العلمانيين فى دعوتهم إلى إسقاط الإسلام من حسابات تحرير المرأة، وطلب هذا التحرير فى النماذج الغربية الوافدة..
الأمر الذى يستوجب إنقاذ المرأة من هذه التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث.. بل إنقاذ هذا الحديث الشريف من هذه التفسيرات!..
وذلك من خلال نظرات فى " متن " الحديث و " مضمونه " نكثفها فى عدد من النقاط:
أولاها: أن الذاكرة الضابطة لنص هذا الحديث قد أصابها ما يطرح بعض علامات الاستفهام.. ففى رواية الحديث شك من الرواى حول مناسبة قوله.. هل كان ذلك فى عيد الأضحى؟ أم فى عيد الفطر؟.. وهو شك لا يمكن إغفاله عند وزن المرويات والمأثورات.
وثانيتها: أن الحديث يخاطب حالة خاصة من النساء، ولا يشرّع شريعة دائمة ولا عامة فى مطلق النساء.. فهو يتحدث عن "واقع " والحديث عن " الواقع " القابل للتغير والتطور شىء، والتشريع " للثوابت " عبادات وقيمًا ومعاملات شىء آخر..
فعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إنا أمة أُمية، لا نكتب ولا نحسب ". رواه البخارى ومسلم والنسائى وأبو داود والإمام أحمد فهو يصف " واقعاً "، ولا يشرع لتأييد الجهل بالكتابة والحساب، لأن القرآن الكريم قد بدأ بفريضة " القراءة " لكتاب الكون ولكتابات الأقلام (اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم)(1) ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذى وصف " واقع " الأمية الكتابية والحسابية، وهو الذى غير هذا الواقع، بتحويل البدو الجهلاء الأميين إلى قراء وعلماء وفقهاء، وذلك امتثالاً لأمر ربه، فى القرآن الكريم، الذى علمنا أن من وظائف جعل الله سبحانه وتعالى القمر منازل أن نتعلم عدد السنين والحساب (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نوراًوقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) (2) . فوصف " الواقع " - كما نقول الآن مثلاً:" نحن مجتمعات متخلفة " لا يعنى شرعنة هذا " الواقع " ولا تأييده، فضلاً عن تأبيده، بأى حال من الأحوال.
وثالثتها: أن فى بعض روايات هذا الحديث وخاصة رواية ابن عباس رضى الله عنهما ما يقطع بأن المقصود به إنما هى حالات خاصة لنساء لهن صفات خاصة، هى التى جعلت منهن أكثر أهل النار، لا لأنهن نساء، وإنما لأنهن كما تنص وتعلل هذه الرواية " يكفرن العشير "، ولو أحسن هذا العشير إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منه هِنَةً أو شيئاً لا يعجبها، كفرت كفر نعمة بكل النعم التى أنعم عليها بها، وقالت بسبب النزق أو الحمق أو غلبة العاطفة التى تنسيها ما قدمه لها هذا العشير من إحسان:" ما رأيت منك خيراً قط "! رواه البخارى ومسلم والنسائى ومالك فى الموطأ..
فهذا الحديث إذن وصف لحالة بعينها، وخاص بهذه الحالة.. وليس تشريعاً عامًّا ودائماً لجنس النساء..
ورابعتها: أن مناسبة الحديث ترشح ألفاظه وأوصافه لأن يكون المقصود من ورائها المدح وليس الذم.. فالذين يعرفون خُلق من صنعه الله على عينه، حتى جعله صاحب الخُلق العظيم (وإنك لعلى خلق عظيم)(3) ..
والذين يعرفون كيف جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من " العيد " الذى قال فيه هذا الحديث " فرحة " أشرك فى الاستمتاع بها مع الرجال كل النساء، حتى الصغيرات، بل وحتى الحُيَّض والنفساء!.. الذين يعرفون صاحب هذا الخلق العظيم، ويعرفون رفقه بالقوارير، ووصاياه بهن حتى وهو على فراش المرض يودع هذه الدنيا.. لا يمكن أن يتصوروه صلى الله عليه وسلم ذلك الذى يختار يوم الزينة والفرحة ليجابه كل النساء ومطلق جنس النساء بالذم والتقريع والحكم المؤبد عليهن بنقصان الأهلية، لنقصانهن فى العقل والدين!..
وإذا كانت المناسبة يوم العيد والزينة والفرحة لا ترشح أن يكون الذم والغم والحزن والتبكيت هو المقصود.. فإن ألفاظ الحديث تشهد على أن المقصود إنما كان المديح، الذى يستخدم وصف " الواقع " الذى تشترك فى التحلى بصفاته غالبية النساء.. إن لم يكن كل النساء..
فالحديث يشير إلى غلبة العاطفة والرقة على المرأة، وهى عاطفة ورقة صارت " سلاحاً " تغلب به هذه المرأة أشد الرجال حزماً وشدة وعقلاً.. وإذا كانت غلبة العاطفة إنما تعنى تفوقها على الحسابات العقلية المجردة والجامدة، فإننا نكون أمام عملة ذات وجهين، تمثلها المرأة.. فعند المرأة تغلب العاطفة على العقلانية، وذلك على عكس الرجل، الذى تغلب عقلانيته وحساباته العقلانية عواطفه.. وفى هذا التمايز فقرة إلهية، وحكمة بالغة، ليكون عطاء المرأة فى ميادين العاطفة بلا حدود وبلا حسابات.. وليكون عطاء الرجل فى مجالات العقلانية المجردة والجامدة مكملاً لما نقص عند " الشق اللطيف والرقيق! "..
فنقص العقل الذى أشارت إليه كلمات الحديث النبوى الشريف هو وصف لواقع تتزين به المرأة السوية وتفخر به، لأنه يعنى غلبة عاطفتها على عقلانيتها المجردة.. ولذلك، كانت " مداعبة " صاحب الخُلق العظيم الذى آتاه ربه جوامع الكلم للنساء، فى يوم الفرحة والزينة، عندما قال: لهن: " إنهن يغلبن بسلاح العاطفة وسلطان الاستضعاف أهل الحزم والألباب من عقلاء الرجال، ويخترقن بالعواطف الرقيقة أمنع الحصون!:
- " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن "
فهو مدح للعاطفة الرقيقة التى تذهب بحزم ذوى العقول والألباب.. ويا بؤس وشقاء المرأة التى حرمت من شرف امتلاك هذا السلاح الذى فطر الله النساء على تقلده والتزين به فى هذه الحياة! بل وأيضاً يا بؤس أهل الحزم والعقلانية من الرجال الذين حرموا فى هذه الحياة من الهزيمة أمام هذا السلاح.. سلاح العاطفة والاستضعاف!..
وإذا كان هذا هو المعنى المناسب واللائق بالقائل وبالمخاطب وبالمناسبة وأيضاً المحبب لكل النساء والرجال معاً الذى قصدت إليه ألفاظ " نقص العقل " فى الحديث النبوى الشريف.. فإن المراد " بنقص الدين " هو الآخر وصف الواقع غير المذموم، بل إنه الواقع المحمود والممدوح!..
فعندما سألت النسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقصود من نقصهن فى الدين، تحدث عن اختصاصهن " برخص " فى العبادات تزيد على " الرخص " التى يشاركن فيها الرجال.. فالنساء يشاركن الرجال فى كل " الرخص " التى رخّص فيها الشارع 00 من إفطار الصائم فى المرض والسفر.. إلى قصر الصلاة وجمعها فى السفر.. إلى إباحة المحرمات عند الضرورات.. إلخ.. إلخ 00ثم يزدن عن الرجال فى " رخص" خاصة بالإناث، من مثل سقوط فرائض الصلاة والصيام عن الحيَّض والنفساء.. وإفطار المرضع، عند الحاجة، فى شهر رمضان.. إلخ.. إلخ..
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يحب أن تُؤتَى رخصه كما يحب أن تُؤتَى عزائمه، فإن التزام النساء بهذه " الرخص " الشرعية هو الواجب المطلوب والمحمود، وفيه لهن الأجر والثواب.. ولا يمكن أن يكون بالأمر المرذول والمذموم.. ووصف واقعه فى هذا الحديث النبوى مثله كمثل وصف الحديث لغلبة العاطفة الرقيقة الفياضة على العقلانية الجامدة، عند النساء، هو وصف لواقع محمود.. ولا يمكن أن يكون ذمًّا للنساء، ينتقص من أهلية المرأة ومساواتها للرجال، بأى حال من الأحوال.
إن العقل ملكة من الملكات التى أنعم الله بها على الإنسان، وليس هناك إنسان رجلاً كان أو امرأة يتساوى مع الآخر مساواة كلية ودقيقة فى ملكة العقل ونعمته.. ففى ذلك يتفاوت الناس ويختلفون.. بل إن عقل الإنسان الواحد وضبطه ذكراً كان أو أنثى يتفاوت زيادة ونقصاً بمرور الزمن، وبما يكتسب من المعارف والعلوم والخبرات.. وليست هناك جبلة ولا طبيعة تفرق بين الرجال والنساء فى هذا الموضوع..
وإذا كان العقل فى الإسلام هو مناط التكليف، فإن المساواة بين النساء والرجال فى التكليف والحساب والجزاء شاهدة على أن التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث النبوى الشريف، هى تفسيرات ناقصة لمنطق الإسلام فى المساواة بين النساء والرجال فى التكليف.. ولو كان لهذه التفسيرات المغلوطة نصيب من الصحة لنقصت تكاليف الإسلام للنساء عن تكليفاته للرجال، ولكانت تكاليفهن فى الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة وغيرها على النصف من تكاليف الرجال!.
ولكنها " الرخصة "، التى يُؤجر عليها الملتزمون بها والملتزمات، كما يُؤجرون جميعاً عندما ينهضون بعزائم التكاليف.. إن النقص المذموم فى أى أمر من الأمور هو الذى يمكن إزالته وجبره وتغييره، وإذا تغير وانجبر كان محموداً.. ولو كانت " الرخص " التى شرعت للنساء بسقوط الصلاة والصيام للحائض والنفساء مثلاً نقصًا مذمومًا، لكان صيامهن وصلاتهن وهن حُيّض ونفساء أمرًا مقبولاً ومحمودًا ومأجورًا.. لكن الحال ليس كذلك، بل إنه على العكس من ذلك.
وأخيرًا، فهل يعقل عاقل.. وهل يجوز فى أى منطق، أن يعهد الإسلام، وتعهد الفطرة الإلهية بأهم الصناعات الإنسانية والاجتماعية صناعة الإنسان، ورعاية الأسرة، وصياغة مستقبل الأمة إلى ناقصات العقل والدين، بهذا المعنى السلبى، الذى ظلم به غلاة الإسلاميين وغلاة العلمانيين الإسلام، ورسوله الكريم، الذى حرر المرأة تحريره للرجل، عندما بعثه الله بالحياة والإحياء لمطلق الإنسان (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)(4) فوضع بهذا الإحياء، عن الناس كل الناس ما كانوا قد حُمِّلوا من الآصار والأغلال (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم..)(5) .
إنها تفسيرات مغلوطة، وساقطة، حاول بها أسرى العادات والتقاليد إضفاء الشرعية الدينية على هذه العادات والتقاليد التى لا علاقة لها بالإسلام.. والتى يبرأ منها هذا الحديث النبوى الشريف..
وإذا كان لنا فى ختام إزالة هذه الشبهة أن نزكى المنطق الإسلامى الذى صوبنا به معنى الحديث النبوى الشريف، وخاصة بالنسبة للذين لا يطمئنون إلى المنطق إلا إذا دعمته وزكته " النصوص "، فإننا نذكر بكلمات إمام السلفية ابن القيم، التى تقول:" إن المرأة العدل كالرجل فى الصدق والأمانة والديانة "(6) .
وبكلمات الإمام محمد عبده، التى تقول:
" إن حقوق الرجل والمرأة متبادلة، وإنهما أكفاء.. وهما متماثلان فى الحقوق والأعمال، كما أنهما متماثلان فى الذات والإحساس والشعور والعقل، أى أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر فى مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويُسَرُّ به، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه.. (7) ".
وبكلمات الشيخ محمود شلتوت، التى تقول:
" لقد قرر الإسلام الفطرة التى خلقت عليها المرأة.. فطرة الإنسانية ذات العقل والإدراك والفهم.. فهى ذات مسئولية مستقلة عن مسئولية الرجل، مسئولة عن نفسها، وعن عبادتها، وعن بيتها، وعن جماعتها.. وهى لا تقل فى مطلق المسئولية عن مسئولية أخيها الرجل، وإن منزلتها فى المثوبة والعقوبة عند الله معقودة بما يكون منها من طاعة أو مخالفة، وطاعة الرجل لا تنفعها وهى طالحة منحرفة، ومعصيته لا تضرها، وهى صالحة مستقيمة (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرا)(8)(فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)(9) .
وليقف المتأمل عند هذا التعبير الإلهى " بعضكم من بعض "، ليعرف كيف سما القرآن بالمرأة حتى جعلها بعضاً من الرجل، وكيف حدَّ من طغيان الرجل فجعله بعضاً من المرأة. وليس فى الإمكان ما يُؤدَّى به معنى المساواة أوضح ولا أسهل من هذه الكلمة التى تفيض بهاطبيعة الرجل والمرأة، والتى تتجلى فى حياتهما المشتركة، دون تفاضل وسلطان (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن)(10) .
وإذا كانت المرأة مسئولة مسئولية خاصة فيما يختص بعبادتها ونفسها، فهى فى نظر الإسلام أيضاً مسئولة مسئولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والإرشاد إلى الفضائل، والتحذير من الرذائل. وقد صرح القرآن بمسئوليتها فى ذلك الجانب، وقرن بينها وبين أخيها الرجل فى تلك المسئولية، كما قرن بينها وبينه فى مسئولية الانحراف عن واجب الإيمان والإخلاص لله وللمسلمين (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)(11)(المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون * وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم)(12) .
فليس من الإسلام أن تلقى المرأة حظها من تلك المسئولية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهى أكبر مسئولية فى نظر الإسلام على الرجل وحده، بحجة أنه أقدر منها عليها، أو أنها ذات طابع لا يسمح لها أن تقوم بهذا الواجب، فللرجل دائرته، وللمرأة دائرتها، والحياة لا تستقيم إلا بتكاتف النوعين فيما ينهض بأمتهما، فإن تخاذلا أو تخاذل أحدهما انحرفت الحياة الجادة عن سبيلها المستقيم..
والإسلام فوق ذلك لم يقف بالمرأة عند حد اشتراكها مع أخيها الرجل فى المسئوليات جميعها خاصها وعامها بل رفع من شأنها، وكرر تلقاء تحملها هذه المسئوليات احترام رأيها فيما تبدو وجاهته، شأنه فى رأى الرجل تماماً سواءً بسواء. وإذا كان الإسلام جاء باختيار آراء بعض الرجال، فقد جاء أيضاً باختيار رأى بعض النساء.
وفى سورة المجادلة احترم الإسلام رأى المرأة، وجعلها مجادلة ومحاورة للرسول، وجمعها وإياه فى خطاب واحد (والله يسمع تحاوركما)(13) وقرر رأيها، وجعله تشريعاً عامًّا خالداً.. فكانت سورة المجادلة أثراً من آثار الفكر النسائى، وصفحة إلهية خالدة نلمح فيها على مر الدهور صورة احترام الإسلام لرأى المرأة، فالإسلام لا يرى المرأة مجرد زهرة، ينعم الرجل بشم رائحتها، وإنما هى مخلوق عاقل مفكر، له رأى، وللرأى قيمته ووزنه.
وليس هناك فارق دينى بين المرأة والرجل فى التكليف والأهلية، سوى أن التكليف يلحقها قبل أن يلحق الرجل، وذلك لوصولها - بطبيعتها - إلى مناط التكليف، وهو البلوغ، قبل أن يصل إليه الرجل (14) .
هكذا تضافرت الحجج المنطقية مع نصوص الاجتهاد الإسلامى على إزالة شبهة الانتقاص من أهلية المرأة، بدعوى أن النساء ناقصات عقل ودين..
وهكذا وضحت المعانى والمقاصد الحقة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى اتخذت منه التفسيرات المغلوطة " غطاءً شرعيًّا " للعادات والتقاليد الراكدة، تلك التى حملها البعض من غلاة الإسلاميين على الإسلام، زوراً وبهتانًا.. والتى حسبها غلاة العلمانيين ديناً إلهيًّا، فدعوا - لذلك - إلى تحرير المرأة من هذا الإسلام!.
لقد صدق الله العظيم إذ يقول: (سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد)(15) .
إننا نلح منذ سنوات طوال وقبلنا ومعنا الكثيرون من علماء الإسلام ومفكريه على أن هذا الدين الحنيف إنما يمثل ثورة كبرى لتحرير المرأة، لكن الخلاف بيننا وبين الغرب والمتغربين هو حول " نموذج "هذا التحرير.. فهم يريدون المرأة ندًّا مساوياً للرجل.. ونحن مع الإسلام نريد لها " مساواة الشقين المتكاملين، لا الندين المتماثلين ".. وذلك، لتتحرر المرأة، مع بقائها أنثى، ومع بقاء الرجل رجلاً، كى يثمر هذا التمايز الفطرى بقاء، ويجدد القبول والرغبة والجاذبية والسعادة بينهما سعادة النوع الإنسانى.
ونلح على أن هذا " التشابه.. والتمايز " بين النساء والرجال، هو الذى أشار إليه القرآن الكريم عندما قرن المساواة بالتمايز، فقالت آياته المحكمات:(ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)(16)(وليس الذكر كالأنثى)(17) .
نلح على ذلك المنهاج فى التحرير الإسلامى للمرأة.. ولقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يشهد شاهد من أهلها على صدق هذا المنهاج الإسلامى، فتنشر صحيفة [الأهرام] تقريراً علمياً عن نتائج دراسة علمية استغرقت أبحاثها عشرين عاماً، وقام بها فريق من علماء النفس فى الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا بها تكشف عن مصداقية حقائق هذا المنهاج القرآنى فى تشابه الرجال والنساء فى اثنين وثلاثين صفة.. وتميّز المرأة عن الرجل فى اثنتين وثلاثين صفة.. وتميز الرجل عن المرأة كذلك فى اثنتين وثلاثين صفة-فهناك التشابه:(ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف) ، (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها)(18)(بعضكم من بعض)(19) . وهناك التمايز الفطرى (وليس الذكر كالأنثى) .. فهما يتشابهان فى نصف الصفات، ويتمايزان فى نصفها الآخر..
فالنموذج الأمثل لتحررهما معاً هو " مساواة الشقين المتكاملين، لا الندين المتماثلين ".. ولذلك، آثرت أن أقدم للقارئ خلاصة هذه الدراسة العلمية، كما نشرتها [الأهرام]-- تحت عنوان [اختلاف صفات الرجل عن المرأة لمصلحة كليهما]- ونصها:
" فى دراسة قام بها علماء النفس فى الولايات المتحدة الأمريكية، على مدى عشرين عاماً، تم حصر عدد الصفات الموجودة فى كل من الرجل والمرأة، ووجد أن هناك 32 صفة مشتركة فى كل منهما، وأن 32 صفة أخرى موجودة فى الرجل، و32 صفة أخرى موجودة عند المرأة، بدرجات مختلفة فى الشدة، ومن هنا جاءت الفروق بين صفات الرجولة والأنوثة.
وتوصل العلماء من خلال هذه التجارب إلى أن وجود نصف عدد الصفات مشتركة فى كل من الرجل والمرأة يعمل على وجود الأسس المشتركة بينهما، لتسهيل التفاهم والتعامل مع بعضهما البعض..
أما وجود عدد آخر من الصفات متساوياً بينهما ومختلفاً عند كل منهما فى الدرجة والشهرة فمعناه تحقيق التكامل بينهما. كما توصلوا إلى أنه كى يعيش كل من الرجل والمرأة فى انسجام وتناغم تام، لابد أن يكون لدى كل منهما الصفات السيكولوجية المختلفة، فمثلاً الرجل العصبى الحاد المزاج لا يمكنه أن يتعايش مع امرأة عصبية حادة المزاج، والرجل البخيل عليه ألا يتزوج امرأة بخيلة، والرجل المنطوى، الذى لا يحب الناس، لا يجوز أن يتزوج من امرأة منطوية ولا تحب الناس. وهكذا.
وكان من نتائج هذه الدراسات الوصول إلى نتيجة مهمة، ألا وهى أن كل إنسان يحب ألا يعيش مع إنسان متماثل معه فى الصفات وكل شىء، أى صورة طبق الأصل من صفاته الشخصية، ومن هنا جاءت الصفات المميزة للرجولة متمثلة فى: قوة العضلات وخشونتها والشهامة، والقوة فى الحق، والشجاعة فى موضع الشجاعة، والنخوة، والاهتمام بمساندة المرأة وحمايتها والدفاع عنها وجلب السعادة لها. كما تتضمن أيضاً صفات الحب، والعطاء، والحنان، والكرم، والصدق فى المشاعر وفى القول وحسن التصرف.. إلخ.
أما عن صفات الأنوثة، فهى تتميز بالدفء، والنعومة، والحساسية، والحنان، والتضحية، والعطاء، وحب الخير، والتفانى فى خدمة أولادها، والحكمة، والحرص على تماسك الأسرة وترابطها، وحب المديح، والذكاء، وحسن التصرف، وغير ذلك من الصفات..
ولذلك، فمن المهم أن يكون لدى كل من الرجل والمرأة دراية كافية بطبيعة الرجل وطبيعة المرأة، وبذلك يسهل على كل منهما التعامل مع الطرف الآخر فى ضوء خصائص كل منهما.. فعندما يعرف الرجل أن المرأة مخلوق مشحون بالمشاعر والأحاسيس والعواطف، فإنه يستطيع أن يتعامل معها على هذا الأساس. وبالمثل، إذا عرفت المرأة طبيعة الرجل، فإن هذا سيساعدها أيضاً على التعامل معه.. (20) .
تلك هى شهادة الدراسة العلمية، التى قام بها فريق من علماء النفس فى الولايات المتحدة الأمريكية والتى استغرق البحث فيها عشرون عاماً.. والتى تصدق على صدق المنهاج القرآنى فى علاقة النساء بالرجال: الاشتراك والتماثل فى العديد من الصفات.. والتمايز فى العديد من الصفات، لتكون بينهما " المساواة " و " التمايز " فى ذات الوقت..
ومرة أخرى لا أخيرة صدق الله العظيم إذ يقول: (سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد)(21) .
(1) العلق: 1-5.
(2)
سورة يونس: الآية 5.
(3)
القلم: 4.
(4)
الأنفال: 24.
(5)
الأعراف: 157.
(6)
[الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 236.
(7)
[الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده] ج4 ص 606. دراسة وتحقيق د. محمد عمارة. طبعة القاهرة 1993م.
(8)
النساء: 124.
(9)
آل عمران: 195.
(10)
النساء: 32.
(11)
التوبة: 71.
(12)
التوبة: 67- 68.
(13)
المجادلة: 1.
(14)
[الإسلام عقيدة وشريعة] ص 223-228. طبعة القاهرة سنة 1400 هجرية -1980م.
(15)
فصلت: 53.
(16)
سورة البقرة: 228.
(17)
سورة آل عمران: 36.
(18)
سورة الأعراف: 189.
(19)
سورة آل عمران: 195.
(20)
[الأهرام] فى 29- 4-2001- ص 2.
(21)
فصلت: 53
135- قضية الحِجاب
الرد على الشبهة:
السياق القرآنى لآية الخمار يبين أن العلة هى العفاف وحفظ الفروج، حيث يبدأ بالحديث عن تميز الطيبين والطيبات عن الخبيثين والخبيثات.. وعن آداب دخول بيوت الآخرين، المأهول منها وغير المأهول.. وعن غض البصر.. وحفظ الفروج، لمطلق المؤمنين والمؤمنات..وعن فريضة الاختمار، حتى لا تبدو زينة المرأة ـ مطلق المرأة ـ إلا لمحارم حددتهم الآية تفصيلاً. فالحديث عن الاختمار حتى فى البيوت، إذا حضر غير المحارم.. ثم يواصل السياق القرآنى الحديث عن الإحصان بالنكاح (الزواج) وبالاستعفاف للذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله:
(الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم * يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تَذكَّرون * فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم * ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون * قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون * وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذى آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم)(1) .
فنحن أمام نظام إسلامى، وتشريع إلهى مفصل، فى العفة وعلاقتها بستر العورات عن غير المحارم. وهو تشريع عام، فى كل مكان توجد فيه المرأة مع غير محرم.
بل إن ذات السورة ـ (النور) تستأنف التشريع لستر العورات داخل البيوت ـ نصاً وتحديداً ـ فتقول آياتها الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاثُ عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم * والقواعد من النساء اللاتى لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم)(2) .
فنحن أمام تشريع لستر العورات، حتى داخل البيوت، عن غير المحارم ـ الذين حددتهم الآيات ـ ومنهم الصبيان إذا بلغوا الحلم.. فحيث أمر الله بالعفاف وحرم الزنا وأقر الزواج وأباح إمكانية التعدد فكان لابد لكمال التشريع من الأمر بدرء ما يوصل إلى عكس ذلك كله فأمر بالحجاب وبغض البصر وبعدم الخلوة وهو أَمْرٌ له سبحانه فى كل دين.
(1) النور: 26- 33.
(2)
النور: 68: 70.
136- الرِّق
الرد على الشبهة:
الرِّق لغة: هو الشئ الرقيق، نقيض الغليظ والثخين.
واصطلاحًا: هو المِلْك والعبودية، أى نقيض العِتْق والحرية.
والرقيق بمعنى العبد يطلق على المفرد والجمع، وعلى الذكر والأنثى أما العبد، فهو: الرقيق الذكر، ويقابله: الأَمَة للأنثى. ومن الألفاظ الدالة على الرقيق الذكر لفظى: الفتى أو الغلام.. وعلى الأنثى لفظى: الفتاة، والجارية. أما القنّ فهو أخص من العبد، إذ هو الذى مُلِك هو وأبواه.
ومالك الرقيق هو: السيد، أو المولى.
والرق نظام قديم قدم المظالم والاستعباد والطبقية والاستغلال فى تاريخ الإنسان، وإليه أشار القرآن الكريم فى قصة يوسف عليه السلام:(وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بُشْرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً)(1) وكان الاسترقاق من عقوبات السرقة عند العبرانيين القدماء، وعندما سئل إخوة يوسف عن جزاء السارق لصواع الملك (قالوا جزاؤه من وُجد فى رحله فهو جزاؤه..)(2) .
وفى الحضارات القديمة كان الرق عماد نظام الإنتاج والاستغلال، وفى بعض تلك الحضارات كالفرعونية المصرية والكسروية الفارسية كان النظام الطبقى المغلق يحول دون تحرير الأرقاء، مهما توفرت لأى منهم الرغبة أو الإمكانات.. وفى بعض تلك الحضارات كالحضارة الرومانية كان السادة هم الأقلية الرومانية، وكانت الأغلبية فى الامبراطورية برابرة أرقاء، أو فى حكم الأرقاء.. وللأرقاء فى تلك الحضارات ثورات من أشهرها ثورة " اسبارتاكوس "[7371ق م] .
وعندما ظهر الإسلام كانت للمظالم الاجتماعية والتمييز العرقى والطبقى منابع وروافد عديدة تغذى " نهر الرق " فى كل يوم بالمزيد من الأرقاء.. وذلك من مثل:
1-
الحرب، بصرف النظر عن حظها من الشرعية والمشروعية، فالأسرى يتحولون إلى أرقاء، والنساء يتحولن إلى سبايا وإماء..
2-
والخطف، يتحول به المخطوفون إلى رقيق..
3-
وارتكاب الجرائم الخطيرة كالقتل والسرقة والزنا كان يحكم على مرتكبيها بالاسترقاق..
4-
والعجز عن سداد الديون، كان يحوِّل الفقراء المدينين إلى أرقاء لدى الأغنياء الدائنين..
5-
وسلطان الوالد على أولاده، كان يبيح له أن يبيع هؤلاء الأولاد، فينتقلون من الحرية إلى العبودية.
6-
وسلطان الإنسان على نفسه، كان يبيح له بيع حريته، فيتحول إلى رقيق..
7-
وكذلك النسل المولود من كل هؤلاء الأرقاء يصبح رقيقا، حتى ولو كان أباه حرا..
ومع كثرة واتساع هذه الروافد التى تمد نهر الرقيق فى كل وقت بالمزيد والمزيد من الأرقاء، كانت أبواب العتق والحرية إما موصدة تماما، أو ضيقة عسيرة على الولوج منها..
وأمام هذا الواقع، اتخذ الإسلام، إبان ظهوره، طريق الإصلاح الذى يتغيا تحرير الأرقاء، وإلغاء نظام العبودية، وطى صفحته من الوجود، لكن فى " واقعية ثورية " إذا جازالتعبير.. فهو لم يتجاهل الواقع ولم يقفز عليه.. وأيضا لم يعترف به على النحو الذى يبقيه ويكرسه..
لقد بدأ الإسلام فأغلق وألغى وحرّم أغلب الروافد التى كانت تمد نهر الرقيق بالمزيد من الأرقاء.. فلم يبق منها إلا أسرى الحرب المشروعة والشرعية، والنسل إذا كان أبواه من الأرقاء.. وحتى أسرى الحرب المشروعة فتح الإسلام أمامهم باب العتق والحرية المنّ أو الفداء:(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها..)(3) فعندما تضع الحرب أوزارها، يتم تحرير الأسرى، إما بالمن عليهم بالحرية وإما بمبادلتهم بالأسرى المسلمين لدى الأعداء..
ومع إغلاق الروافد روافد الاسترقاق ومصادره التفت الإسلام إلى " كتلة " واقع الأرقاء، فسعى إلى تصفيتها بالتحرير، وذلك عندما عدد ووسع مصابّ نهر الرقيق..ولقد سلك الإسلام إلى ذلك المقصد سبيل منظومة القيم الإسلامية. وسبيل العدالة الاجتماعية الإسلامية. فحبب إلى المسلمين عتق الأرقاء تطوعا، إذ فى عتق كل عضو من أعضاء الرقيق عتق لعضو من أعضاء سيده من النار، فتحرير الرقيق سبيل لتحرير الإنسان من عذاب النار يوم القيامة.. كما جعل الإسلام عتق الأرقاء كفارة للكثير من الذنوب والخطايا.. وجعل للدولة والنظام العام مدخلاً فى تحرير الأرقاء عندما جعل هذا التحرير مصرفا من المصارف الثمانية لفريضة الزكاة فهو جزء من أحد أركان الإسلام (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)(4) . كما جعل الحرية هى الأصل الذى يولد عليه الناس، والرق هو الاستثناء الطارئ الذى يحتاج إلى إثبات، فمجهولوا الحكم هم أحرار، وعلى مدعى رقهم إقامة البينات، وأولاد الأمة من الأب الحر هم أحرار و" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ! "..
كذلك، ذهب الإسلام فساوى بين العبد والحر فى كل الحقوق الدينية، وفى أغلب الحقوق المدنية، وكان التمييز فقط، فى أغلب حالاته بسبب التخفيف عن الأرقاء مراعاة للاستضعاف والقيود التى يفرضها الاسترقاق على الإرادة والتصرف.. فالمساواة تامة فى التكاليف الدينية، وفى الحساب والجزاء.. وشهادة الرقيق معتبرة فى بعض المذاهب الإسلامية عند الحنابلة وله حق الملكية فى ماله الخاص، وإعانته على شراء حريته بنظام المكاتبة والتدبير مرغوب فيها دينياً (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذى آتاكم)(6) . والدماء متكافئة فى القصاص..
وبعد أن كان الرق من أكبر مصادر الاستغلال والثراء لملاك العبيد، حوّله الإسلام بمنظومة القيم التى كادت أن تسوى بين العبد وسيده إلى ما يشبه العبء المالى على ملاك الرقيق.. فمطلوب من مالك الرقيق أن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل مالا يطيق.. بل ومطلوب منه أيضاً إلغاء كلمة " العبد " والأمة " واستبدالها بكلمة " الفتى " و " الفتاة ".
بل لقد مضى الإسلام فى هذا السبيل إلى ما هو أبعد من تحرير الرقيق، فلم يتركهم فى متاهة عالم الحرية الجديد دون عصبية وشوكة وانتماء، وإنما سعى إلى إدماجهم فى القبائل والعشائر والعصبيات التى كانوا فيها أرقاء، فأكسبهم عزتها وشرفها ومكانتها ومنعتها وما لها من إمكانات، وبذلك أنجز إنجازاً عظيماً وراء وفوق التحرير عندما أقام نسيجاً اجتماعياً جديداً التحم فيه الأرقاء السابقون بالأحرار، فأصبح لهم نسب قبائلهم عن طريق " الولاء "، الذى قال عنه الرسول (:[الولاء لُحْمَةٌ كلُحْمَة النسب] رواه الدارمى. حتى لقد غدا أرقاء الأمس " سادة " فى أقوامهم، بعد أن كانوا " عبيداً " فيهم.. وقال عمر بن الخطاب وهو من هو فى الحسب والنسب عن بلال الحبشى، الذى اشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه:" سيدنا أعتق سيدنا "!.. كما تمنى عمر أن يكون سالم مولى أبى حذيفة حياً فيختاره لمنصب الخلافة.. فالمولى، الذى نشأ رقيقاً، قد حرره الإسلام، فكان إماماً فى الصلاة وأهلاً بخلافة المسلمين.
ولقد ساعد على هذا الاندماج فى النسيج العربى فضلاً عن الإسلامى ذلك المعيار الذى حدده الإسلام للعروبة وهو معيار اللغة وحدها، فباستبعاد " العرق.. والدم " غدت الرابطة اللغوية والثقافية انتماءً واحداً للجميع، بصرف النظر عن ماضى الاسترقاق وعن هذا المعيار للعروبة تحدث الرسول (فى معرض النقد والرفض للذين أرادوا إخراج الموالى، ذوى الأصول العرقية غير العربية، من إطار العروبة، فقال:[أيها الناس، إن الرب واحد، والأب واحد.. وليست العربية بأحدكم من أب أو أم، وإنما هى اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربى..] ..
هكذا كان الإسلام إحياء وتحريراً للإنسان، مطلق الإنسان، يضع عن الناس إصرهم والأغلال التى كانت عليهم، ويحرر الأرقاء، لأن الرق فى نظره " موت "، والحرية " حياة وإحياء ".. ولقد أبصر هذه الحكمة الإسلامية الإمام النسفى [710هجرية /1310م] وهو يعلل جعل الإسلام كفارة القتل الخطأ تحرير رقبة:(ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة)(6) .. فقال: إن القاتل " لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمة أن يدخل نفساً مثلها فى جملة الأحرار، لأن اطلاقها من قيد الرق كإحيائها، من قِبَل أن الرقيق ملحق بالأموات، إذ الرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكماً.."(7) .. فالإسلام قد ورث نظام الرق عن المجتمعات الكافرة فهو من آثار الكفر، ولأنه موت لروح وملكات الأرقاء، وسعى الإسلام إلى إلغائه، وتحرير أى إحياء موات هؤلاء الأرقاء، كجزء من الإحياء الإسلامى العام (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)(8) .
ومع أن مقاصد الإسلام فى تصفية نهر الرقيق بإغلاق روافده وتجفيف منابعه، وتوسيع مصباته لم تبلغ كامل آفاقها، إذ انتكس "الواقع التاريخى" للحضارة الإسلامية، بعد عصر الفتوحات، وسيطرة العسكر المماليك على الدولة الإسلامية.. إلا أن. حال الأرقاء فى الحضارة الإسلامية قد ظلت أخف قيوداً وأكثر عدلاً بما لا يقارن من نظائرها خارج الحضارة الإسلامية، بما فى ذلك الحضارة الغربية، التى تزعمت فى العصر الحديث الدعوة إلى تحرير الأرقاء..
فلقد اقترن عصر النهضة الأوروبية بزحفها الاستعمارى على العالمين القديم والجديد، وبعد أن استعبد المستعمرون الأسبان والبرتغاليون والإنجليز والفرنسيون سكان أمريكا الأصليين، وأهلكوهم فى سخرة البحث عن الذهب وإنشاء المزارع، مارسوا أكبر أعمال القرصنة والخطف فى التاريخ، تلك التى راح ضحيتها أكثر من أربعين مليوناً من زنوج إفريقيا، سلسلوا بالحديد، وشحنوا فى سفن الحيوانات، لتقوم على دمائهم وعظامهم المزارع والمصانع والمناجم التى صنعت رفاهية الرجل الأبيض فى أمريكا وأوروبا.. ولا يزال أحفادهم يعانون من التفرقة العنصرية فى الغرب حتى الآن.
وعندما سعت أوروبا فى القرن التاسع عشر إلى إلغاء نظام الرق، وتحريم تجارته، لم تكن دوافعها فى أغلبها روحية ولا قيمية ولا إنسانية، وإنما كانت فى الأساس دوافع مادية، لأن نظامها الرأسمالى قد رأى فى تحرير الرقيق سبيلاً لجعلهم عمالاً أكثر مهارة، وأكثر قدره على النهوض باحتياجات العمل الفنى فى الصناعات التى أقامها النظام الرأسمالى.. فلقد غدا الرق بمعايير الجدوى الاقتصادية عبئاً على فائض رأس المال الذى هو معبود الحضارة الرأسمالية المادية وأصبحت حرية الطبقة العاملة أعون على تنمية مبادراتها ومهاراتها فى عملية الإنتاج..
ولقد كان ذات القرن الذى دعت فيه أوروبا لتحرير الرقيق هو القرن الذى استعمرت فيه العالم، فاسترقّت بهذا الاستعمار الأمم والشعوب استرقاقاً جديداً، لا تزال الإنسانية تعانى منه حتىالآن..
(1) يوسف: 1921.
(2)
يوسف: 75.
(3)
محمد: 4.
(4)
التوبة: 60.
(5)
النور: 33.
(6)
النساء: 92.
(7)
[تفسير النسفى] طبعة القاهرة، الأولى.
(8)
الأنفال: 24
138- هل تحريم زواج المسلمة بغير المسلم يُعد نزعة عنصرية
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ صحيح أن الإسلام يجيز زواج المسلم من غير المسلمة (مسيحية أو يهودية) ولا يجيز زواج المسلمة من غير المسلم. وللوهلة الأولى يُعد ذلك من قبيل عدم المساواة، ولكن إذا عرف السبب الحقيقى لذلك انتفى العجب، وزال وَهْمُ انعدام المساواة. فهناك وجهة نظر إسلامية فى هذا الصدد توضح الحكمة فى ذلك. وكل تشريعات الإسلام مبنية على حكمة معينة ومصلحة حقيقية لكل الأطراف.
2 ـ الزواج فى الإسلام يقوم على " المودة والرحمة " والسكن النفسى. ويحرص الإسلام على أن تبنى الأسرة على أسس سليمة تضمن الاستمرار للعلاقة الزوجية. والإسلام دين يحترم كل الأديان السماوية السابقة ويجعل الإيمان بالأنبياء السابقين جميعًا جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية. وإذا تزوج مسلم من مسيحية أو يهودية فإن المسلم مأمور باحترام عقيدتها، ولا يجوز له ـ من وجهة النظر الإسلامية ـ أن يمنعها من ممارسة شعائر دينها والذهاب من أجل ذلك إلى الكنيسة أو المعبد. وهكذا يحرص الإسلام على توفير عنصر الاحترام من جانب الزوج لعقيدة زوجته وعبادتها. وفى ذلك ضمان وحماية للأسرة من الانهيار.
3 ـ أما إذا تزوج غير مسلم من مسلمة فإن عنصر الاحترام لعقيدة الزوجة يكون مفقودًا. فالمسلم يؤمن بالأديان السابقة، وبأنبياء الله السابقين، ويحترمهم ويوقرهم، ولكن غير المسلم لا يؤمن بنبى الإسلام ولا يعترف به، بل يعتبره نبيًّا زائفًا وَيُصَدِّق ـ فى العادة ـ كل ما يشاع ضد الإسلام وضد نبى الإسلام من افتراءات وأكاذيب، وما أكثر ما يشاع.
وحتى إذا لم يصرح الزوج غير المسلم بذلك أمام زوجته فإنها ستظل تعيش تحت وطأة شعور عدم الاحترام من جانب زوجها لعقيدتها. وهذا أمر لا تجدى فيه كلمات الترضية والمجاملة. فالقضية قضية مبدأ. وعنصر الاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة أساس لاستمرار العلاقة الزوجية.
4 ـ وقد كان الإسلام منطقيًّا مع نفسه حين حرّم زواج المسلم من غير المسلمة التى تدين بدين غير المسيحية واليهودية، وذلك لنفس السبب الذى من أجله حرّم زواج المسلمة بغير المسلم.
فالمسلم لا يؤمن إلا بالأديان السماوية وما عداها تُعد أديانًا بشرية. فعنصر التوقير والاحترام لعقيدة الزوجة فى هذه الحالة ـ بعيدًا عن المجاملات ـ يكون مفقودًا. وهذا يؤثر سلبًا على العلاقة الزوجية، ولا يحقق " المودة والرحمة " المطلوبة فى العلاقة الزوجية.
139- هل صحيح أن الإسلام ضد حرية الاعتقاد
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ لقد كفل الإسلام للإنسان حرية الاعتقاد. وجاء ذلك فى وضوح تام فى القرآن الكريم: (لا إكراه فى الدين)(1) . فلا يجوز إرغام أحد على ترك دينه واعتناق دين آخر. فحرية الإنسان فى اختيار دينه هى أساس الاعتقاد. ومن هنا كان تأكيد القرآن على ذلك تأكيدًا لا يقبل التأويل فى قوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(2) .
2 ـ وقد أقر النبى صلى الله عليه وسلم الحرية الدينية فى أول دستور للمدينة حينما اعترف لليهود بأنهم يشكلون مع المسلمين أمة واحدة.
ومن منطلق الحرية الدينية التى يضمنها الإسلام كان إعطاء الخليفة الثانى عمر بن الخطاب للمسيحيين من سكان القدس الأمان " على حياتهم وكنائسهم وصلبانهم، لا يضار أحد منهم ولا يرغم بسبب دينه ".
3 ـ لقد كفل الإسلام أيضًا حرية المناقشات الدينية على أساس موضوعى بعيد عن المهاترات أو السخرية من الآخرين. وفى ذلك يقول القرآن: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن)(3) . وعلى أساس من هذه المبادئ السمحة ينبغى أن يكون الحوار بين المسلمين وغير المسلمين، وقد وجه القرآن هذه الدعوة إلى الحوار إلى أهل الكتاب فقال:(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله * فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)(4) . ومعنى هذا أن الحوار إذا لم يصل إلى نتيجة فلكل دينه الذى يقتنع به. وهذا ما عبرت عنه أيضًا الآية الأخيرة من سورة (الكافرون) التى ختمت بقوله تعالى للمشركين على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: (لكم دينكم ولى دين)(5) .
4 ـ الاقتناع هو أساس الاعتقاد: فالعقيدة الحقيقية هى التى تقوم على الإقناع واليقين، وليس على مجرد التقليد أو الإرغام. وكل فرد حر فى أن يعتقد ما يشاء وأن يتبنى لنفسه من الأفكار ما يريد، حتى ولو كان ما يعتقده أفكارًا إلحادية. فلا يستطيع أحد أن يمنعه من ذلك طالما أنه يحتفظ بهذه الأفكار لنفسه ولا يؤذى بها أحدًا من الناس. أما إذا حاول نشر هذه الأفكار التى تتناقض مع معتقدات الناس، وتتعارض مع قيمهم التى يدينون لها بالولاء، فإنه بذلك يكون قد اعتدى على النظام العام للدولة بإثارة الفتنة والشكوك فى نفوس الناس. وأى إنسان يعتدى على النظام العام للدولة فى أى أمة من الأمم يتعرض للعقاب، وقد يصل الأمر فى ذلك إلى حد تهمة الخيانة العظمى التى تعاقب عليها معظم الدول بالقتل. فقتل المرتد فى الشريعة الإسلامية ليس لأنه ارتد فقط ولكن لإثارته الفتنة والبلبلة وتعكير النظام العام فى الدولة الإسلامية. أما إذا ارتد بينه وبين نفسه دون أن ينشر ذلك بين الناس ويثير الشكوك فى نفوسهم فلا يستطيع أحد أن يتعرض له بسوء، فالله وحده هو المطلع على ماتخفى الصدور.
وقد ذهب بعض العلماء المحدثين إلى أن عقاب المرتد ليس فى الدنيا وإنما فى الآخرة، وأن ما حدث من قتل للمرتدين فى الإسلام بناء على بعض الأحاديث النبوية فإنه لم يكن بسبب الارتداد وحده، وإنما بسبب محاربة هؤلاء المرتدين للإسلام والمسلمين (6) .
(1) البقرة: 256.
(2)
الكهف: 29.
(3)
النحل: 125.
(4)
آل عمران: 64.
(5)
الكافرون: 6.
(6)
راجع: الحرية الدينية فى الإسلام للشيخ عبد المتعال الصعيدى ص 3،72، 73، 88 ـ دار الفكر العربى ـ الطبعة الثانية (دون تاريخ) .
140- ما موقف الإسلام من الديمقراطية وحقوق الإنسان
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ يُعد الإسلام أول من نادى بحقوق الإنسان وشدد على ضرورة حمايتها. وكل دارس للشريعة الإسلامية يعلم أن لها مقاصد تتمثل فى حماية حياة الإنسان ودينه وعقله وماله وأسرته. والتاريخ الإسلامى سجل للخليفة الثانى عمر بن الخطاب مواجهته الحاسمة لانتهاك حقوق الإنسان وقوله فى ذلك: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا "؟.
2 ـ تنبنى حقوق الإنسان فى الإسلام على مبدأين أساسيين هما: مبدأ المساواة بين كل بنى الإنسان، ومبدأ الحرية لكل البشر. ويؤسس الإسلام مبدأ المساواة على قاعدتين راسختين هما: وحدة الأصل البشرى، وشمول الكرامة الإنسانية لكل البشر. أما وحدة الأصل البشرى فإن الإسلام يعبر عنها بأن الله قد خلق الناس جميعًا من نفس واحدة. فالجميع إخوة فى أسرة إنسانية كبيرة لا مجال فيها لامتيازات طبقية. والاختلافات بين البشر لا تمس جوهر الإنسان الذى هو واحد لدى كل البشر. ومن هنا فهذه الاختلافات ينبغى ـ كما يشير القرآن الكريم ـ أن تكون دافعًا إلى التعارف والتآلف والتعاون بين الناس وليس منطلقًا للنزاع والشقاق:(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا * إن أكرمكمعند الله أتقاكم)(1) .
أما القاعدة الأخرى للمساواة فهى شمول الكرامة الإنسانية لكل البشر. وقد نص القرآن على ذلك فى قوله: (ولقد كرمنا بنى آدم)(2) . فالإنسان بهذا التكريم جعله الله خليفة فى الأرض، وأسجد له ملائكته، وجعله سيدًا فى هذا الكون، وسخر له ما فى السموات وما فى الأرض. فالإنسان بذلك له مكانته ومكانه المفضل بين الخلق جميعًا. وقد منح الله هذه الكرامة لكل الناس بلا استثناء لتكون سياجًا من الحصانة والحماية لكل فرد من أفراد الإنسان، لا فرق بين غنى وفقير وحاكم ومحكوم. فالجميع أمام الله وأمام القانون وفى الحقوق العامة سواء.
أما المبدأ الثانى الذى ترتكز عليه حقوق الإنسان فهو مبدأ الحرية. فقد جعل الله الإنسان كائنًا مكلفًا ومسئولاً عن عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية. وليست هناك مسئولية دون حرية، حتى فى قضية الإيمان والكفر التى جعلها الله مرتبطة بمشيئة الإنسان (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(3) . وهكذا تشمل الحرية كل الحريات الإنسانية دينية كانت أم سياسية أم فكرية أم مدنية.
3 ـ الحكم فى تعاليم الإسلام لابد أن يقوم على أساس من العدل والشورى. وقد أمر الله الناس فى القرآن بالعدل وألزمهم بتطبيقه (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)(4) . (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(5) . والآيات فى ذلك كثيرة. أما الشورى فهى مبدأ أساسى ملزم. وكان النبى (يستشير أصحابه ويأخذ برأى الأغلبية وإن كان مخالفًا لرأيه. وأظهر مثل على ذلك خروج المسلمين إلى غزوة أُحد. فقد كان الرسول يرى عدم الخروج، ولكن الأكثرية كانت ترى الخروج. فنزل على رأيهم وخرج، وكانت الهزيمة للمسلمين. ومع ذلك شدد القرآن على ضرورة الشورى فقال مخاطبًا النبى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر)(6) . ولا يلتفت فى هذا الصدد إلى رأى قلة من الفقهاء الذين يزعمون أن الشورى غير ملزمة. فهذا الزعم مخالف للنصوص الدينية الصريحة.
وقد ترك الإسلام للمسلمين حرية اختيار الشكل الذى تكون عليه الشورى طبقًا للمصلحة العامة. فإذا كانت المصلحة تقتضى أن تكون الشورى بالشكل المعروف الآن فى الدول الحديثة فالإسلام لا يعترض على ذلك. وكل ما فى الأمر هو التطبيق السليم مع المرونة طبقًا لظروف كل عصر وما يستجد من تطورات محلية أو دولية.
ومن ذلك يتضح مدى حرص الإسلام على حقوق الإنسان وصيانتها، وحرصه على التطبيق السليم لمبدأ الشورى أو الديمقراطية بالمفهوم الحديث.
4 ـ الإسلام أتاح الفرصة لتعددية الآراء، وأباح الاجتهاد حتى فى القضايا الدينية طالما توافرت فى المجتهد شروط الاجتهاد. وجعل للمجتهد الذى يجتهد ويخطئ أجرًا وللذى يجتهد ويصيب أجران. والدارس لمذاهب الفقه الإسلامى المعروفة يجد بينها خلافًا فى وجهات النظر فى العديد من القضايا. ولم يقل أحد: إن ذلك غير مسموح به. ومن هنا نجد أن الإسلام يتيح الفرصة أمام الرأى الآخر ليعبر عن وجهة نظره دون حرج مادام الجميع يهدفون إلى ما فيه خير المجتمع والحفاظ على أمنه واستقراره.
(1) الحجرات: 13.
(2)
الإسراء: 70.
(3)
الكهف: 29.
(4)
النحل: 90.
(5)
النساء: 58.
(6)
آل عمران: 159.
141- ما موقف الإسلام من الفنون
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ الإسلام دين يحب الجمال ويدعو إليه فى كل شىء. والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الله جميل يحب الجمال](1) . والفن هو فى حقيقته إبداع جمالى لا يعاديه الإسلام. وغاية ما فى الأمر أن الإسلام يجعل الأولوية للمبدأ الأخلاقى على المبدأ الجمالى، بمعنى أنه يجعل الثانى مترتبًا على الأول ومرتبطًا به. وهذا هو الموقف المبدئى للإسلام إزاء جميع أشكال الفنون. وهناك معيار إسلامى للحكم على أى فن من الفنون يتمثل فى قاعدة تقول: حَسَنُه حسن وقبيحه قبيح.
والقرآن الكريم فى العديد من آياته يلفت الأنظار إلى ما فى الكون من تناسق وإبداع وإتقان، وما يتضمنه ذلك من جمال وبهجة وسرور للناظرين (2) . ومن هنا لا يعقل أن يرفض الإسلام الفن إذا كان جميلاً. أما إذا اشتمل على القبح بما يعنيه ذلك من قبح مادى ومعنوى فإن الإسلام يرفضه ولا يوافق عليه.
2 ـ وترتيبًا على ما تقدم فإن الفن إذا كان هدفه المتعة الذهنية، وترقيق الشعور، وتهذيب الأحاسيس، فلا اعتراض عليه. ولكن إذا خرج عن ذلك وخاطب الغرائز الدنيا فى الإنسان، وخرج عن أن يكون فنًّا هادفًا فإنه حينئذ لا يساعد على بناء الحياة، بل يعمل على هدمها، وبذلك يخرج عن أن يكون فنًّا، بل يصير نوعًا من اللهو المذموم والعبث المرفوض. وهذا أمر لا يقره الإسلام.
3 ـ إذا كانت الموسيقى والغناء تحمل إلينا ألحانًا جميلة وكلمات مهذبة وأنغامًا راقية، وأصواتًا جميلة، فذلك لا يرفضه الإسلام طالما كان فى إطار المبدأ الأخلاقى، أى طالما كان هدف الفن هو السمو بالإنسان وبأحاسيسه ووجدانه ومشاعره. وقد امتدح النبى صلى الله عليه وسلم صوت أبى موسى الأشعرى ـ وكان صوته جميلاً ـ وهو يتغنى بالقرآن. وكان النبى يختار من بين أصحابه للأذان أجملهم صوتًا. وقد سمع النبى صلى الله عليه وسلم صوت الدف والمزمار دون تحرج. وفى يوم عيد دخل أبو بكر على ابنته عائشة زوجة الرسول ولديها جاريتان تغنيان وتضربان بالدفوف فاعترض أبو بكر على ذلك. ولكن النبى صلى الله عليه وسلم رفض ما أبداه أبو بكر من احتجاج فى هذا الصدد قائلاً:[دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد](3) . وقد أوصى النبى صلى الله عليه وسلم نفسه السيدة عائشة أن ترسل من يغنى فى حفل زفاف قريبة لها زُفت إلى رجل من الأنصار.
وهناك مرويات أخرى عديدة عن النبى صلى الله عليه وسلم تبين أن الغناء والموسيقى ليسا من المحرمات فى الإسلام ما لم يصحبهما أمور منكرة غير أخلاقية (4) .
4 ـ أما الرقص: فالإسلام يفرق فيه بين رقص المرأة ورقص الرجل. فالرقصات الشعبية التى يؤديها الرجال مثلاً لا ضير فيها، وقد سمح النبى صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة بمشاهدة الأحباش وهم يرقصون فى يوم عيد.
ورقص المرأة أمام النساء لا حرج فيه. أما رقصها أمام الرجال فذلك لا يقره الإسلام لما فيه من محاذير كثيرة.
5 ـ أما التمثيل فإنه ليس حرامًا مادام فى إطار المبدأ الأخلاقى، ولا ينكر أحد ما للتمثيل الهادف من دور فعال فى معالجة الكثير من المشكلات والقضاء على العديد من السلبيات فى المجتمع. ولا حرج أيضًا أن يشتمل التمثيل على ألوان من اللهو البرئ والترويح المقبول والترفيه الذى لا يخرج عن نطاق المعقول. وكذلك التصوير لا ضير فيه، بل أصبح فى حياتنا المعاصرة يمثل فى أحيان كثيرة ضرورة لا غنى عنها.
6 ـ أما النحت أو التماثيل المجسمة فهناك نصوص واضحة فى تحريمها. ويرجع السبب فى تحريم الإسلام لذلك بالدرجة الأولى إلى ما يخشى من توقير هذه التماثيل أو عبادتها كما كان يفعل عباد الأصنام قديمًا. فإذا لم يكن ذلك واردًا على الإطلاق نظرًا لارتفاع درجة الوعى لدى الناس فلا ضرر منه ولا حرج فيه لانعدام سبب التحريم. غير أن الإسلام من باب سد الذرائع لا يريد أن يفتح هذا الباب لما يمكن أن يترتب عليه من محاذير فى أزمنة مستقبلية. فالإسلام يشرع لكل الأجيال ولمختلف العصور. وما يستبعد فى بيئة قد يقبل فى أخرى، وما يعتبر مستحيلاً فى عصر قد يصبح حقيقة واقعة فى عصر آخر قريب أو بعيد.
(1) رواه مسلم فى كتاب الإيمان.
(2)
انظر: الحجر: 16، النحل: 6، فصلت:12.
(3)
متفق عليه.
(4)
راجع: الحلال والحرام فى الإسلام للدكتور القرضاوى ص 291 وما بعدها ـ الدوحة، قطر 1978م، والشيخ محمد الغزالى: مائة سؤال عن الإسلام ج1 ص 174 وما بعدها.
142- ما أسباب تفرق المسلمين رغم دعوة الإسلام للوحدة
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ لا ينكر أحد أن الشعوب الإسلامية فى عصرنا الحاضر متفرقة ومتنازعة فيما بينها، فهذا واقع ملموس لا يحتاج إلى برهان. ولكن هذا يُعد مرحلة فى تاريخ المسلمين شأنهم فى ذلك شأن بقية الشعوب والأمم الأخرى. ولا يعنى ذلك أنهم سيظلون كذلك إلى الأبد. وكما استطاعت الشعوب الأوروبية أن تتغلب على عوامل الفرقة والتنازع فيما بينها والتى أدت إلى حربين عالميتين شهدهما القرن العشرون ـ فإن الشعوب الإسلامية سوف تستطيع فى مستقبل الأيام أن تتغلب أيضًا على عوامل الفرقة فيما بينها، والبحث عن صيغة ملائمة للتعاون المثمر من أجل مصلحة المجتمعات الإسلامية كلها.
وهناك محاولات مستمرة فى هذا الصدد وإن كانت بطيئة وذات تأثير محدود ومتواضع مثل منظمة المؤتمر الإسلامى التى تضم كل الدول الإسلامية، إلا أنه يمكن تطوير العمل فى هذه المنظمة وغيرها من منظمات إسلامية أخرى للوصول بها إلى مرحلة متقدمة من التعاون الأوثق. وللأمة الإسلامية فى تعاليم الإسلام فى الوحدة والتعاون والتآلف والتكافل أعظم سند يضمن لها نجاح هذه المحاولات فى مستقبل الأيام.
2 ـ فالإسلام فى مصادره الأصلية يدعو إلى الوحدة والتضامن ويحذر من الفرقة والتنازع (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا)(1) ، ويدعو إلى الشعور بآلام الآخرين والمشاركة فى تخفيفها، ويجعل الأمة كلها مثل الجسد الواحد ـ كما يقول النبى صلى الله عليه وسلم[إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى] (2) . ويعتبر الإسلام رابطة العقيدة بمنزلة رابطة الأخوة:(إنما المؤمنون إخوة)(3) . وحينما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، فأصبحوا إخوة متحابين متضامنين فى البأساء والضراء. وآيات القرآن وأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك أكثر من أن تحصى.
3 ـ هناك أسباب خارجية كثيرة أدت إلى الانقسام والفرقة بين المسلمين فى العصر الحديث. وترجع هذه الأسباب فى قدر كبير منها إلى الفترة التى هيمن فيها الاستعمار على بلاد العالم الإسلامى. وعندما رحل ترك مشكلات عديدة كان هو سببًا فيها مثل مشكلات الحدود، وكانت القاعدة التى على أساسها خطط لسياساته هى مبدأ:" فَرِّق تَسُد ". ومن هنا عمل على إحياء العصبيات العرقية بين شعوب البلاد المستعمَرة. وقام بنهب خيرات هذه البلاد، وأدى ذلك إلى إفقارها وتخلفها الحضارى الذى لا تزال آثاره باقية حتى اليوم. ولا تزال معظم شعوب العالم الإسلامى تعانى من المشكلات التى خلفها الاستعمار.
4 ـ انشغل المسلمون بالمشكلات الكثيرة التى خلفها الاستعمار وغفلوا عن تعاليم الإسلام فى الوحدة والتضامن.
ولكن الشعوب الإسلامية لا تزال تحن إلى وحدة جهودها، وتضامنها فيما بينها، وتجميع قواها فى سبيل الخير لهذه الشعوب جميعها. ولا يزال المسلم فى أى بلد إسلامى يشعر بآلام المسلمين فىمناطق العالم المختلفة بوصفه جزءاً من الأمة الإسلامية. وهذا من شأنه أن يعمل على توفير أساس راسخ لمحاولات إعادة التضامن والوحدة بين أقطار العالم الإسلامى، بمعنى توحيد الجهود والتكامل فيما بينها فى ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة والأمن، وتبادل الخبرات والمنافع، وكل ما يعود على المسلمين بالخير، مما يجعلهم أقدر على القيام بدور فعّال فى ترسيخ قواعد السلام والأمن فى العالم كله.
(1) آل عمران: 103.
(2)
رواه الإمام مسلم وغيره (راجع: فيض القدير ج5 ص 514 وما بعدها) .
(3)
الحجرات: 10.
143- هل الإسلام مسئول عن تخلف المسلمين
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ حقائق التاريخ تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام قد استطاع بعد فترة زمنية قصيرة من ظهوه أن يقيم حضارة رائعة كانت من أطول الحضارات عمرًا فى التاريخ. ولا تزال الشواهد على ذلك ماثلة للعيان فيما خلفه المسلمون من علم غزيز فى شتى مجالات العلوم والفنون، وتضم مكتبات العالم آلافًا مؤلفة من المخطوطات العربية الإسلامية تبرهن على مدى ما وصل إليه المسلمون من حضارة عريقة. يضاف إلى ذلك الآثار الإسلامية المنتشرة فى كل العالم الإسلامى والتى تشهد على عظمة ما وصلت إليه الفنون الإسلامية.
وحضارة المسلمين فى الأندلس وما تبقى من معالمها حتى يومنا هذا شاهد على ذلك فى أوروبا نفسها. وقد قامت أوروبا بحركة ترجمة نشطة فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر لعلوم المسلمين. وكان ذلك هو الأساس الذى بنت عليه أوروبا حضارتها الحديثة.
2 ـ يشتمل القرآن الكريم على تقدير كبير للعلم والعلماء وحث على النظر فى الكون ودراسته وعمارة الأرض. والآيات الخمس الأولى التى نزلت من الوحى الإلهى تنبه إلى أهمية العلم والقراءة والتأمل (1) . وهذا أمر كانت له دلالة هامة انتبه إليها المسلمون منذ البداية. وهكذا فإن انفتاح الإسلام على التطور الحضارى بمفهومه الشامل للناحيتين المادية والمعنوية لا يحتاج إلى دليل.
3 ـ أما تخلف المسلمين اليوم فإن الإسلام لا يتحمل وزره، لأن الإسلام ضد كل أشكال التخلف. وعندما تخلف المسلمون عن إدراك المعانى الحقيقية للإسلام تخلفوا فى ميدان الحياة. ويعبر مالك بن نبى ـ المفكر الجزائرى الراحل ـ عن ذلك تعبيرًا صادقًا حين يقول:" إن التخلف الذى يعانى منه المسلمون اليوم ليس سببه الإسلام، وإنما هو عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه لا لتمسكهم به كما يظن بعض الجاهلين ". فليست هناك صلة بين الإسلام وتخلف المسلمين.
4 ـ لا يزال الإسلام وسيظل منفتحًا على كل تطور حضارى يشتمل على خير الإنسان. وعندما يفتش المسلمون عن الأسباب الحقيقية لتخلفهم فلن يجدوا الإسلام من بين هذه الأسباب، فهناك أسباب خارجية ترجع فى جانب كبير منها إلى مخلفات عهود الاستعمار التى أعاقت البلاد الإسلامية عن الحركة الإيجابية، وهذا بدوره ـ بالإضافة إلى بعض الأسباب الداخلية ـ أدى أيضًا إلى نسيان المسلمين للعناصر الإيجابية الدافعة لحركة الحياة فى الإسلام.
5 ـ لا يجوز الخلط بين الإسلام والواقع المتدنى للعالم الإسلامى المعاصر. فالتخلف الذى يعانى منه المسلمون يُعد مرحلة فى تاريخهم، ولا يعنى ذلك بأى حال من الأحوال أنهم سيظلون كذلك إلى نهاية التاريخ. ولا يجوز اتهام الإسلام بأنه وراء هذا التخلف، كما لا يجوز اتهام المسيحية بأنها وراء تخلف دول أمريكا اللاتينية.
إن الأمانة العلمية تقتضى أن يكون الحكم على موقف الإسلام من الحضارة مبنيًّا على دراسة موضوعية منصفة لأصول الإسلام وليس على أساس إشاعات واتهامات وأحكام مسبقة لا صلة لها بالحقيقة.
(1) العلق: 1ـ5.
144- هل صحيح أن الصوم يقلل حركة الإنتاج
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ الصوم من العبادات التى لم ينفرد بها الإسلام. فقد أخبر القرآن الكريم أن الصوم كان مفروضًا أيضًا على الأمم السابقة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)(1) . ولا تزال هناك ديانات أخرى حتى يومنا هذا تَعرِف شعيرة الصوم. ولكن هناك فرقًا واضحًا بين الصوم فى الإسلام والصوم فى غيره من الديانات. ويتمثل هذا الفرق فى أن الصوم فى الإسلام يأتى فى شهر معين من العام طبقًا للتقويم الهجرى، ويبدأ صيام كل يوم بالامتناع التام عن الطعام والشراب وعن كل الشهوات من طلوع الفجر حتى غروب الشمس. وهذا يعنى أن المسلم يقضى نهار يومه كله ـ وهو وقت العمل المعتاد ـ وهو صائم على النحو المشار إليه. ولعل هذا هو السبب الذى من أجله يتوهم البعض أن الصوم الإسلامى بهذه الطريقة يقلل حركة الإنتاج لدى الفرد والمجتمع.
2 ـ والصوم فى حقيقة الأمر برئ من هذه التهمة. فالصوم يفترض فيه أنه يعمل على تصفية النفوس والتسامى بالأرواح. وهذا من شأنه أن يمد الفرد بطاقة روحية تجعله أقدر على الإنتاج والعمل أكثر مما لو لم يكن صائمًا. وهذه الطاقة الروحية قوة لا يستهان بها. وقد حارب المسلمون فى غزوة بدر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وهم صائمون وانتصروا، وحارب الجنود المصريون عام 1973م وهم صائمون حيث كان ذلك فى شهر رمضان وانتصروا. ولم يقلل الصوم من نشاطهم، بل كان العكس هو الصحيح تمامًا.
3 ـ ما نراه فى بعض البلاد الإسلامية من قلة الإنتاج فى شهر الصوم يرجع إلى أسباب أخرى غير الصوم. فمن عادة الكثيرين أن يظلوا متيقظين فى شهر الصوم معظم الليل. ولا يأخذون قسطًا كافيًا من النوم، فنجدهم ـ نظرًا لذلك ـ متعبين أثناء النهار. ومن هنا يقل إنتاجهم، ويقبلون على أعمالهم ببطء وفى تثاقل. ويعتذرون عن ذلك بأنهم صائمون. وقد يكون اعتذارهم هذا فى أول النهار. فلو كان للصوم أى تأثير على النشاط ـ كما يزعمون ـ فإن ذلك لا يكون فى أول النهار، بل يكون فى فترة متأخرة منه.
4 ـ لقد ثبت أن للصوم فوائد كثيرة صحية وروحية واجتماعية وتربوية. فالمفروض أنه فرصة سنوية للمراجعة والتأمل والتقييم والنقد الذاتى على المستويين الفردى والاجتماعى بهدف القضاء على السلبيات والتخلص من الكثير من الأمراض الاجتماعية، وهذا من شأنه أن يدفع حركة المجتمع بخطى أسرع، وبإخلاص أكثر، وبوعى أفضل.
(1) البقرة: 183.
145- هل صحيح أن الزكاة تتيح للغنى فرصة عند الله أفضل من فرصة الفقير
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ تُعد الزكاة فى الإسلام أول ضريبة نظامية فى تاريخ الاقتصاد فى العالم. فالذى كان يحدث قبل ذلك هو أن الحكام كانوا يفرضون الضرائب حسب أهوائهم، وبقدر حاجتهم إلى الأموال تحقيقًا لأغراضهم الشخصية. وكان عبء هذه الضرائب يقع على كاهل الفقراء أكثر مما يقع على كاهل الأغنياء، أو يقع على كاهل الفقراء وحدهم. ولما جاء الإسلام وفرض الزكاة قام بتنظيم جمعها وحدد لها نسبة معينة، وجعلها تقع على عاتق الأغنياء والمتوسطين، وأعفى منها الفقراء (1) . وتشريع الزكاة ليس فقط نظامًا ماليًّا، وإنما هو فى الوقت نفسه عبادة كالصلاة والصيام والحج، يؤديها المسلم القادر على دفعها، ليس خوفًا من السلطة التنفيذية، ولكن تقربًا إلى الله واستجابة لتعاليم دينه.
2 ـ شعر الفقراء فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بعجزهم عن أداء الزكاة مثل الأغنياء. ورأوا أن هذا من شأنه أن يعطى للأغنياء ميزة الحصول على الثواب من الله بأدائهم للزكاة وحرمان الفقراء من هذا الثواب مع أنه لا ذنب لهم فى فقرهم. وقام الفقراء بعرض ما يشعرون به على النبى صلى الله عليه وسلم، فأوصاهم بالتسبيح والتحميد والتكبير (أى بقول سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر) ثلاثًا وثلاثين مرة عقب كل صلاة، وبين لهم أن هذا من شأنه أن يرفع من درجاتهم عند الله ويجعل منزلتهم عنده لا تقل عن منزلة الأغنياء الذين يؤدون الزكاة (2) .
3 ـ المعيار الذى اعتمده القرآن فى المفاضلة بين الناس بصفة عامة هو معيار التقوى والعمل الصالح كما جاء فى القرآن الكريم: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(3) . والتقوى مفهوم عام يشمل كل عمل يقوم به الإنسان ـ أيًّا كان هذا العمل دينيًا أم دنيويًا ـ طالما قصد به وجه الله ونفع الناس ودفع الأذى عنهم. فالقرب من الله لا يتوقف على أداء الزكاة أو غيرها من الشعائر الإسلامية فحسب، بل يتوقف أيضًا على التوجه العام من جانب الإنسان فى كل ما يقوم به فى حياته من أعمال، وما يصدر عنه من سلوك وما يخرج من فمه من أقوال. والإسلام يعلق أهمية كبيرة على النية. فالأعمال بالنيات كما يقول النبى عليه الصلاة والسلام[إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى](4) . وهذا يعنى أن الفقير الذى لا يستطيع إخراج الزكاة ويتمنى أن لو كان لديه مال ليزكى به فإنه يثاب على هذه النية مادامت صادقة. وقد يُخرج الغنى الزكاة ويقصد من وراء ذلك التظاهر أمام الناس والحصول على مكانة بينهم فلا يثاب على ذلك بشىء.
(1) راجع: محمد قطب: شبهات حول الإسلام ـ ص91 ـ مكتبة وهبة سنة 1960م.
(2)
فتح البارى بشرح صحيح البخارى ج2 ص 325 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى. المطبعة السلفية.
(3)
الحجرات: 13.
(4)
البخارى. باب الوحى رقم 1، والإيمان 41، والنكاح 5، والطلاق 11، والترمذى فضائل الجهاد 16، والنسائى طهارة 59.
146- لماذا حرّم الإسلام أكل لحم الخنزير
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ لم يكن الإسلام أول الأديان التى حرمت أكل لحم الخنزير. فالديانة اليهودية تحرِّم أكل لحم الخنزير. ولا يوجد حتى الآن يهودى فى أوروبا وأمريكا يأكل لحم الخنزير إلا فيما ندر. ولم يعب أحد على اليهود ذلك، بل يحترم الغرب العادات الدينية لليهود. وعندما جاء السيد المسيح عليه السلام صرح ـ كما جاء فى الإنجيل ـ بأنه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله، أى أنه لم يأت ليغير التشريعات اليهودية. ومن بينها بطبيعة الحال تحريم أكل لحم الخنزير. والأمر المنطقى بناء على ذلك أن يكون الخنزير محرمًا فى المسيحية أيضًا (1) .
2 ـ عندما جاء الإسلام حرّم أيضًا أكل لحم الخنزير. وهذا التحريم امتداد لتحريمه فى الديانات السماوية السابقة. وقد نص القرآن الكريم عليه صراحة فى أربعة مواضع (2) . وهناك من ناحية أخرى ـ بجانب هذا التحريم الدينى ـ أسباب ومبررات أخرى تؤكد هذا التحريم. ومن ذلك ما أثبته العلماء المسلمون من أن أكل لحم الخنزير ضار بالصحة ولا سيما فى المناطق الحارة. وفضلاً عن ذلك فإن الآيات القرآنية التى ورد فيها تحريم لحم الخنزير قد جمعت هذا التحريم مع تحريم أكل الميتة والدم. وضرر أكل الميتة والدم محقق لما يتجمع فيهما من ميكروبات ومواد ضارة، مما يدل على أن الضرر ينسحب أيضًا على أكل لحم الخنزير.
وإذا كانت الوسائل الحديثة قد تغلبت على ما فى لحم الخنزير ودمه وأمعائه من ديدان شديدة الخطورة (الدودة الشريطية وبويضاتها المتكلسة) فمن الذى يضمن لنا بأنه ليست هناك آفات أخرى فى لحم الخنزير لم يكشف عنها بعد؟ فقد احتاج الإنسان قرونًا طويلة ليكشف لنا عن آفة واحدة. والله الذى خلق الإنسان أدرى به ويعلم ما يضره وما ينفعه. ويؤكد لنا القرآن هذه الحقيقة فى قوله: (وفوق كل ذى علم عليم)(3) .
3 ـ يحسب الإسلام حساب الضرورات فيبيح فيها المحرمات. وفى ذلك قاعدة مشهورة تقول: " الضرورات تبيح المحظورات ". ومن هنا فإن المسلم إذا ألجأته الضرورة الملحة ـ التى يخشى منها على حياته ـ لتناول الأطعمة المحرمة ومنها الخنزير فلا حرج عليه. كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)(4) . ولكن هذه الإباحة لا يجوز أن تتعدى حدود تلك الضرورة وإلا كان المسلم آثماً.
(1) راجع: الحلال والحرام للدكتور القرضاوى ص42 ـ قطر 1978م.
(2)
البقرة: 173، والمائدة: 3، والأنعام: 145، والنحل: 115
(3)
يوسف: 76.
(4)
البقرة: 173.
147- لماذا حرّم الإسلام الحرير والذهب على الرجال
؟
الرد على الشبهة:
1 ـ يعتمد القول بتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب للرجال فى الإسلام على العديد من المرويات عن النبى صلى الله عليه وسلم كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء ـ وتتلخص وجهة نظرهم فى أن من طبيعة الرجل الصلابة والقوة. والإسلام يريد أن يتربى الرجال بعيدًا عن مظاهر الضعف، وبعيدًا أيضًا عن مظاهر الترف الذى يحاربه الإسلام ويعده مظهرًا من مظاهر الظلم الاجتماعى، وذلك حتى يكون الرجل قادرًا على الكفاح والانتصار فى معارك الحياة وميادين القتال أيضًا إذا اقتضى الأمر. ولما كان التزين بالذهب وارتداء الحرير يُعدان من مظاهر الترف فقد حرمهما الإسلام على الرجال. ولكنه أباحهما للمرأة مراعاة لمقتضى أنوثتها وما فطرت عليه من حب للزينة (1) .
2 ـ وعلى الرغم من هذا التحريم فإنه إذا كانت هناك ضرورة صحية تقضى بلبس الرجل للحرير فإن الإسلام يبيح له ذلك ولا يمنعه. فقد أذن النبى صلى الله عليه وسلم لكل من عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام فى لبس الحرير لأنهما كانا يشكوان من حكة فى جسمهما (2) .
3 ـ وقد ذهب الإمام الشوكانى (توفى حوالى عام 1840م) فى كتابه الشهير " نيل الأوطار " إلى القول بأن أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى النهى عن لبس الحرير تدل على الكراهية فقط وليس على التحريم. والكراهية هنا درجة أخف من التحريم. ويقوى الشوكانى رأيه هذا بأن هناك ما لا يقل عن عشرين صحابيًّا منهم أنس والبراء بن عازب قد لبسوا الحرير. ومن غير المعقول أن يقدم هؤلاء الصحابة على ما هو محرّم، كما يبعد أيضًا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه (3) .
4 ـ أما التختم بالذهب أى اتخاذه كخاتم ونحوه للرجال فقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريمه أيضًا اعتمادًا على بعض الأحاديث النبوية. ولكن هناك جماعة من العلماء ذهبوا إلى القول بكراهة التختم بالذهب للرجال كراهة تنزيه فقط. وكراهة التنزيه بعيدة عن التحريم وقريبة من الإباحة أو الجواز، واعتمدوا فى ذلك أيضًا على أن هناك عددًا من الصحابة قد تختموا بالذهب منهم سعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وصهيب، وحذيفة، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب. الذين فهموا أن النهى للتنزيه وليس للتحريم (4) .
(1) راجع: الحلال والحرام فى الإسلام للدكتور القرضاوى ص 80 وما بعدها ـ الدوحة ـ قطر 1978م.
(2)
راجع: نيل الأوطار للشوكانى ج2 ص81 ـ دار الجيل، بيروت 1973م.
(3)
نيل الأوطار ج2 ص73 وما بعدها. راجع أيضًا: فقه السنة للشيخ سيد سابق ج3 ص 481 وما بعدها. بيروت 1971م.
(4)
راجع: فقه السنة للشيخ سيد سابق ـ المجلد الثالث ص 482 وما بعدها، 488 وما بعدها.