المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌18- الإتيان باسم الموصول العائد على الجمع مفردا - شبهات المشككين

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌1- جمع القرآن

- ‌2- تعدد مصاحف القرآن

- ‌3- تعدد قراءات القرآن

- ‌4- الكلام الأعجمى

- ‌5- الكلام العاطل

- ‌6- الكلام المتناقض

- ‌7- الكلام المفكك

- ‌8- الكلام المكرر

- ‌9- الكلام المنسوخ

- ‌10- الكلام الغريب

- ‌12- رفع المعطوف على المنصوب

- ‌13- نصب المعطوف على المرفوع

- ‌14- نصب الفاعل

- ‌15- تذكير خبر الاسم المؤنث

- ‌16- تأنيث العدد، وجمع المعدود

- ‌17- جمع الضمير العائد على المثنى

- ‌18- الإتيان باسم الموصول العائد على الجمع مفرداً

- ‌19- جزم الفعل المعطوف على المنصوب

- ‌20- جَعْلُ الضمير العائد على المفرد جمعاً

- ‌21- الإتيان بجمع كثرة فى موضع جمع القلة

- ‌22- الإتيان بجمع قلة فى موضع جمع الكثرة

- ‌23- جَمْعُ اسمِ عَلَمٍ يجب إفراده

- ‌24- الإتيان بالموصول بدل المصدر

- ‌25- وضع الفعل المضارع موضع الماضى

- ‌26- عدم الإتيان بجواب " لمَّا

- ‌27- الإتيان بتركيب أدى إلى اضطراب المعنى

- ‌28- صَرْفُ الممنوع من الصرف

- ‌29- الإتيان بتوضيح الواضح

- ‌30- الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى

- ‌31- الإتيان بفاعلين لفعل واحد

- ‌32- الإتيان بالضمير العائد على المثنى مفردًا

- ‌33- الإتيان بالجمع مكان المثنى

- ‌34- نصبُ المضاف إليه

- ‌35- هل تناقض القرآن فى مادة خلق الإنسان

- ‌36- حول موقف القرآن من الشرك بالله

- ‌37- حول عصيان إبليس وهو من الملائكة الذين لا يعصون الله

- ‌38- حول عصيان البشر: مع أنهم من المخلوقات الطائعة القانتة لله

- ‌39- حول مدة خلق السموات والأرض

- ‌40- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس فى أسماء بعض الشخصيات التاريخية

- ‌41- حول تسمية القرآن الكريم مريم " أخت هارون

- ‌42- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس فى عصر نمرود

- ‌43- حول الإسكندر ذى القرنين

- ‌44- حول غروب الشمس فى عين حمئة ومخالفة ذلك للحقائق العلمية

- ‌45- حول حفظ الله للذكر وهل الذكر هو كل القرآن؟ أم بعض القرآن

- ‌46- حول تاريخية أو خلود أحكام القرآن الكريم

- ‌47- حول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القرآن من العصمة

- ‌48- دعوى: خلو الكتب السابقة من البشارة برسول الإسلام

- ‌49- قوم النبى محمد صلى الله عليه وسلم زناة من أصحاب الجحيم

- ‌50- مات النبى صلى الله عليه وسلم بالسم

- ‌51- تعدد زوجات النبى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌52- محاولة النبى محمد صلى الله عليه وسلم الانتحار

- ‌53- ولادة النبى محمد صلى الله عليه وسلم عادية

- ‌54- يحتاج محمد صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة عليه

- ‌55- محمد صلى الله عليه وسلم أُمّى فكيف علّم القرآن

- ‌56- محمد صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله

- ‌57- تعلّم محمد صلى الله عليه وسلم من غيره

- ‌58- محمد صلى الله عليه وسلم يعظم الحجر الأسود

- ‌59- كاد محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتن

- ‌60- قاتل محمد صلى الله عليه وسلم فى الشهر الحرام

- ‌61- محمد صلى الله عليه وسلم مذنب كما فى القرآن

- ‌62- الشيطان يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌63- حول الاستغناء بالقرآن عن السنة وعلاقة السنة بالقرآن

- ‌64- حول تناقض النقل - القرآن - مع العقل

- ‌65- الإسلام انتشر بالسيف، ويحبذ العنف

- ‌66- هل الجبال تحفظ توازن الأرض؟ والأرض تدور حول نفسها

- ‌67- هل النجوم رجوم الشياطين

- ‌68- القرآن يتناقض مع العلم

- ‌69- كيف يكون العلم كفرًا

- ‌70- رىّ مصر بالغيث

- ‌71- الرعد ملك من الملائكة

- ‌72- الوادى طوى

- ‌73- هل الزيتون يخرج من طور سيناء

- ‌74- جبل قاف المحيط بالأرض كلها

- ‌75- هامان وزير فرعون

- ‌76- قارون وهامان مصريان

- ‌77- العجل الذهبى من صنع السامرى

- ‌78- أبو إبراهيم آزر

- ‌79- مريم العذراء بنت عمران

- ‌80- يوسف همّ بالفساد

- ‌81- نوح يدعو للضلال

- ‌82- فرعون ينجو من الغرق

- ‌83- انتباذ مريم

- ‌84- مريم تلد فى البرية ووليدها يكلمها من تحتها

- ‌85- لكل أمة رسول منها إليها

- ‌86- خَلْط الأسماء

- ‌87- أخنوخ وليس إدريس

- ‌88- نوح لم يتبعه الأراذل

- ‌89- تهاويل خيالية حول برج بابل

- ‌90- اختراع طفل ينطق بالشهادة

- ‌91- الكعبة بيت زحل

- ‌92- إسماعيل بين الأنبياء

- ‌93- أبناء يعقوب يطلبون أن يلعب يوسف معهم

- ‌94- وليمة نسائية وهمية

- ‌95- عدم سجن بنيامين

- ‌96- قميص سحرى

- ‌97- ابنة فرعون أو زوجته

- ‌98- طرح الأولاد فى النهر صدر قبل ولادة موسى لا بعد إرساليته

- ‌99- صَدَاق امرأة موسى

- ‌100- لم ترث إسرائيل مصر

- ‌101- ضربات مصر عشر لا تسع

- ‌102- الطوفان على المصريين

- ‌103- صخرة حوريب وليست آبار إيلّيم

- ‌104- لوحا الشريعة

- ‌105- هل طلبوا رؤية الله

- ‌106- سليمان أو أبشالوم

- ‌107- هاجر أو السيدة العذراء

- ‌108- لم تنزل مائدة من السماء

- ‌109- قصة ذى الكفل

- ‌110- أصحاب الرس

- ‌111- حتى لقمان نبى

- ‌112- الكعبة مقام إبراهيم

- ‌113- فرعون بنى برج بابل بمصر

- ‌114- شاول الملك أو جدعون القاضى

- ‌115- يتكلم فى المهد

- ‌116- يصنع من الطين طيراً

- ‌117- إنكار الصَّلب

- ‌118- تحليل إنكار الله

- ‌119- تحليل الحنث فى القَسَم

- ‌120- تحليل الإغراء بالمال

- ‌121- تحليل القتل

- ‌122- تحليل النهب

- ‌123- تحليل الحلف

- ‌124- تحليل الانتقام

- ‌125- تحليل الشهوات

- ‌126- الحدود فى الإسلام

- ‌127- حد السرقة

- ‌128- حد الزنا

- ‌129- حد الردة

- ‌130- أن ميراث الأنثى نصف ميراث الذكر

- ‌131- أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل

- ‌132- أن النساء ناقصات عقل ودين

- ‌133- ما أفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة

- ‌134- الرجال قوَّامون على النساء

- ‌135- قضية الحِجاب

- ‌136- الرِّق

- ‌137- التَّسَرِّى

- ‌138- هل تحريم زواج المسلمة بغير المسلم يُعد نزعة عنصرية

- ‌139- هل صحيح أن الإسلام ضد حرية الاعتقاد

- ‌140- ما موقف الإسلام من الديمقراطية وحقوق الإنسان

- ‌141- ما موقف الإسلام من الفنون

- ‌142- ما أسباب تفرق المسلمين رغم دعوة الإسلام للوحدة

- ‌143- هل الإسلام مسئول عن تخلف المسلمين

- ‌144- هل صحيح أن الصوم يقلل حركة الإنتاج

- ‌145- هل صحيح أن الزكاة تتيح للغنى فرصة عند الله أفضل من فرصة الفقير

- ‌146- لماذا حرّم الإسلام أكل لحم الخنزير

- ‌147- لماذا حرّم الإسلام الحرير والذهب على الرجال

الفصل: ‌18- الإتيان باسم الموصول العائد على الجمع مفردا

‌17- جمع الضمير العائد على المثنى

منشأ هذه الشبهة:

هو قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم)(1) .

يقولون:

كان يجب أن يثنى الضمير العائد على المثنى، فيقول:" خصمان اختصما فى ربهما "!.

الرد على الشبهة:

أشرنا من قبل إلى طريقتين من طرق التعبير اللغوى الفصيح، وهما:

- طريقة مراعاة اللفظ.

- وطريقة مراعاة المعنى

فحيث جمع القرآن الضمير العائد على المثنى، فهو من استعمالات الطريقة الثانية، التى يراعى فيها جانب المعنى على جانب اللفظ.

وينبغى أن نعرف أن المثنى نوعان:

- مثنى حقيقى، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى:(قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما)(2) .

ف " رجلان " مثنى حقيقى؛ لأن واحده فرد فى الوجود؛ أو ذات واحدة؛ هذا هو المثنى الحقيقى. وإذا وُصِفَ أو استؤنف الحديث عنه وجب تثنية الضمير العائد عليه.

* أما النوع الثانى من المثنى، فهو المثنى اللفظى ومثاله من القرآن قوله تعالى:(مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)(3) .

وهذا النوع من المثنى ضابطه أن واحده جمع فرد من عدة أفراد، وليس فرداً واحداً.

والنوع الأول (المثنى الحقيقى) يسمى مثنى لفظاً ومعنى.

أما الثانى (المثنى غير الحقيقى) فيسمى مثنى فى اللفظ، وجمعاً فى المعنى. وفى وصفه أو استئناف الحديث عنه يجوز أن يراعى فيه جانب اللفظ، أو جانب المعنى.

ومنه ما ورد فى آية " الحج ": " هذان خصمان " لما كان معناه جمعاً روعى فيه جانب المعنى فقال عز وجل: " اختصموا فى ربهم " ومعروف أن مفرد الخصمين خصم، وهو اسم جنس يندرج تحته - هنا - أفراد كثيرون وبهذا نزل القرآن فى هذه الآية، فتحدث عن الخصمين بضمير " الجمع " الذى هو " واو الجماعة " " اختصموا " ثم بضمير الجماعة " هم " فى قوله تعالى:" فى ربهم ".

ونظيره فى القرآن قوله تعالى:

(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)(4) . أعاد الضمير جمعاً " اقتتلوا " هذا فى جملة الخبر، مع أن المبتدأ مثنى " طائفتان " وذلك لأن هذا اللفظ مثنى غير حقيقى، بل هو مثنى فى اللفظ، جمع فى المعنى.

وفى هذه الآية راعى النظم القرآنى المعجز المعنى فى جملة الخبر وحدها " اقتتلوا " ثم راعى اللفظ فى بقية الآية هكذا:

(فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما (.

وكلا المنهجين فصيح صحيح بليغ.

والذى سوَّغ مراعاة المعنى فى " اقتتلوا " وقوعه بعد جمعٍ، هو " المؤمنين "، وليس فوق ذلك درجة من الصحة والإصابة، وإن كره الحاقدون.

والخلاصة:

أن " اختصموا " و " فى ربهم " الذوق السليم يشهد أن " اختصموا " أبلغ من اختصما، وأن " ربهم " أبلغ من ربهما.

لأن " اختصموا " يفيد تبادل الخصومة بين جميع أفراد ال " خصمان " من أول وهلة، وكذلك " ربهم؛ إن ضمير الجمع فيه " هم " يفيد من أول وهلة ربوبية الله لكل فرد منهم.

والاختصام هو الحدث الرئيسى فى هذه الواقعة. فعُبِّر عنه بهذا اللفظ الفخم " اختصموا " ومحال أن يستقيم لو قيل بعده " فى ربهما " فسبحان من هذا كلامه، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

(1) الحج: 19.

(2)

المائدة: 23.

(3)

هود: 24.

(4)

الحجرات: 9.

ص: 142

‌18- الإتيان باسم الموصول العائد على الجمع مفرداً

منشأ هذه الشبهة:

ومنشأ هذه الشبهة - عندهم - قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذى خاضوا أولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون)(1) .

والشاهد - عندهم - فى الآية هو قوله تعالى: " وخضتم كالذى خاضوا " وآثرنا ذكر الآية بتمامها لأن الرد على هذه الشبهة يقتضى النظر فى الآية كلها لا فى الجزء الذى استشهدوا به وحده.

وكان تعليقهم على قوله عز وجل: (وخضتم كالذى خاضوا (هو قولهم: " وكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول: (خضتم كالذين خاضوا (!

الرد على الشبهة:

هذه الآية - بتمامها - وردت فى سياق الحديث عن المنافقين؛ لأن ما قبلها هو قوله عز وجل: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم)(2) .

والآية مسوقة لتهديد المنافقين والكفار، لعلهم يقلعون عما هم فيه من نفاق وكفر.

وقد أدير الحديث فيها على تشبيه المخاطبين (المنافقين والكفار) بالأمم الغابرة، كانت أشد منهم قوة، وأكثر مالاً وولدا، وانغمسوا فى شهواتهم الفانية، فسار المنافقون والكفار سيرتهم فركنوا إلى متع الحياة الدنيا الفانية، ولم يبتغوا ما عند الله، وأن المنافقين والكفار فعلوا كل ما فعله من قبلهم من المعاصى والسيئات.

ثم بين الله عز وجل أنهم الخاسرون فى الدنيا والآخرة فالذى معنا فى الآية فريقان:

- فريق سابق فى الزمن، لم يكن موجوداً فى عصر نزول القرآن.

- فريق كان حاضراً فى عصر نزول القرآن، وهم الذين خاطبهم الله فى هذه الآية الكريمة. وليس فى هذه الآية فريق ثالث تحدثت عنه الآية.

ومن هذا يتضح أن تعقيب خصوم القرآن على هذه الآية، بأن الصواب أن يقال:" وخضتم كالذين خاضوا " فاسد من كل الوجوه؛ لأن معنا فى الآية فريقان لا ثلاثة، ولو قيل:" خضتم كالذين خاضوا " لانفكت رابطة الكلام، ولبرز فى النظم طرف ثالث لا وجود له فى سياق الآية.

بيان ذلك:

أن المقارنة جرت فى الآية بين الفريقين " المنافقين والكفار " و " الأمم الغابرة ". ودارت المقارنة على هذا المنهج:

- فاستمتعوا بخلاقهم.

- فاستمتعتم بخلاقكم.

- كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم.

- وخضتم كالذى خاضوا.

والمعنى: وخضتم خوضاً مثل خوضهم (3) .

فالذى فى الآية اسم موصول مفرد، يعود على المصدر المفهوم من الفعل الماضى " خضتم " فشبه الله عز وجل خوض المنافقين بخوض الذين من قبلهم. وهذا هو النسق الذى دارت عليه المقارنة فى الآية تشبيه سلوك اللاحقين بسلوك السابقين من الأمم الغابرة، التى عتت عن أمر ربها وعصت رسله.

واختار الإمام الشوكانى أن المعنى: " كالخوض الذى خاضوا "(4)، ومن قبله قال الإمام الزمخشرى:" وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا "(5) .

هذا هو الحق فى هذه العبارة، لا كما قال خصوم القرآن الكارهون لما أنزل الله عز وجل.

(1) التوبة: 69.

(2)

التوبة: 68.

(3)

انظر: الدر المصون (6/84) .

(4)

فتح القدير (2/433) .

(5)

الكشاف (2/201) .

ص: 141

‌21- الإتيان بجمع كثرة فى موضع جمع القلة

منشأ هذه الشبهة:

هو قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون)(1) .

أخذوا من هذه الآية كلمة " معدودة " وتوهموا أن القرآن أخطأ فيها؛ لأنها ـ عندهم ـ جمع كثرة، والمقام الذى استعملت فيه يتطلب جمع القلة، ثم علقوا قائلين:

" وكان يجب أن يجمعها جمع قلة، حيث إنهم أرادوا القلة، فيقول: أياماً معدودات ".

هكذا عبروا عن جهلهم، وهم يحسبون ـ أو لا يحسبون ـ أنهم العلماء الأفذاذ الذين يعلمون ما لم يعلمه أحد ـ حتى الله ـ من شئون اللغة والبيان، وهم ـ بحق ـ لا يكادون يفقهون حديثاً.

الرد على الشبهة:

هذه الآية نزلت تحكى قولاً قاله اليهود، يكشف عن الغرور الذى ملأ أنفسهم، فقد زعموا أنهم إذا دخلوا النار، فإنها لا تمسهم إلا مساً خفيفاً، وأنهم لن يُخلدوا فيها، بل يقضون عدة أيام.

وهذا تطاول منهم، لأن شئون الآخرة لا يعلمها إلا الله.

لذلك كذَّبهم الله، وألزمهم الحُجة البالغة له عليهم وحصر مصدر هذا الذى ادعوه فى أمرين:

الأول: أن يكون عندهم من الله عهد بما قالوا، والله لا يخلف عهده، وهم فى الواقع لا عهد عندهم من الله يحدد فيه مدة مكثهم فى النار، ودرجة العذاب الذى سيصيبهم فيها.

الثانى: أو هُمْ يفترون على الله عز وجل، وماداموا ليس عندهم عهد من الله، فهم ـ إذاً ـ كاذبون والذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.

أما مسألة الكثرة والقلة، التى بنى عليها هؤلاء الكارهون لما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم، فلا اعتبار لها هنا، وهم وإن حفظوا شيئاً فقد غابت عنهم أشياء. ولذلك أوقعهم جهلهم فيما حاولوا أن يفروا منه؛ لأنهم قالوا إن معدودة، جمع كثرة، واستعمال جمع الكثرة ـ هنا ـ خطأ؟ ؛ لأن اليهود أرادوا جمع القلة ـ أى أنهم يمكثون فى النار أياماً قليلة. فجاء تعبير القرآن غير وافٍ بالمعنى الذى كانوا يقصدونه، وكان الواجب على القرآن أن يقول: أياماً معدودات، بدلاً من (أياماً معدودة (هذا هو قولهم، وهو محض الخطأ لو كانوا يعلمون وذلك للاعتبارات الآتية:

فأولاً: لأن " معدودة " ليست جمعاً بل مفردًا، ليست جمع كثرة ولا جمع قلة. وهؤلاء " العباقرة " جعلوها جمع كثرة، بسبب جهلهم باللغة العربية، لغة الإعجاز.

وثانياً: أن " معدودات " التى يقولون إنها الصواب وكان حق القرآن أن يعبر بها بدلاً من " معدودة " ظانين أن " معدودات " جمع قلة. وهى ليست جمع قلة كما توهموا، فهى على وزن " مفعولات " وهذا الوزن ليس من

أوزان جموع القلة (2) بل من أوزان جموع الكثرة ولا ينفعهم قولهم إن اليهود أرادوا القلة، لأن هذه القلة يدل عليها سياق الكلام لا المفردات المستعملة فى التركيب.

وثالثاً: إن هذا التعبير لا ينظر فيه إلى جانب قلة أو كثرة، ولكن ينظر فيه من جانب آخر ليس عند هؤلاء الأدعياء شرف الاتصاف به؛ لأنهم دخلاء على لغة الإعجاز والتنزيل.

هذا الجانب هو: معاملة غير العاقل معاملة العاقل أو عدم معاملته (3) .

ووصف الأيام بـ " معدودة " فى ما حكاه الله عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها، لأن الأيام لا تعقل فأجرى عليها الوصف الذى لغير العقلاء، وما جاء على الأصل فلا يسأل عنه، ولكنهم لجهلهم المركب بلغة الإعجاز حسبوا الصواب خطأ، والخطأ صواباً. لأنهم زجوا بأنفسهم فيما لا ناقة لهم فيه ولا جمل.

أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل، فلها دواعٍ بلاغية لا يعرف عنها مثيرو هذه الشبهات كثيراً ولا قليلاً.

وهى فى النظم القرآنى من الكثرة بمكان، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل لداع بلاغى يقتضى ذلك التنزيل.

وإذا كان القرآن قد عبَّر فى وصف " أياماً " فى آية البقرة هذه بـ " معدودة " وهو وصف غير العاقل جارٍ على الأصل، فإنه عبَّر عن وصفها بـ " معدودات " فى موضع آخر، هو قوله تعالى:

(ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون)(4) .

فكان ينبغى أن يسأل هؤلاء عن اختلاف التعبير فى الموضعين بدل أن يخطِّئوا الصواب وهم جاهلون. وها نحن نضع بين أيديهم الحق ناصع البياض.

فى آية البقرة جاء وصف " أياماً " ـ " معدودة " بصيغة الإفراد، وليس جمع كثرة كما زعموا.

وفى آية آل عمران جاء وصف " أياماً " ـ " معدودات " جمعاً لا إفراداً.

فلماذا ـ إذاً ـ اختلفت صيغة الوصف، والموصوف واحد، هو " أياماً "؟

إذا قارنَّا بين الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز هكذا:

" وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة.. ".

ووجدنا آية آل عمران مبنية على الإطناب هكذا:

" ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ".

وازن بين صدر آية البقرة " وقالوا ".

وبين صدر آية آل عمران " ذلك بأنهم قالوا ".

تجد أن جملة " ذلك بأنهم " هذه العبارة اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد، الرابط بين الكلامين السابق عليه، واللاحق به.

ثم تجد " الباء " الداخلة على " إن " فى " بأنهم ".

ثم " إن " التى تفيد التوكيد، ثم ضمير الجماعة " هم ".

هذه الأدوات لم يقابلها فى آية البقرة، إلا واو العطف " وقالوا " إذاً المقامان مختلفان، أحدهما إيجاز، والثانى إطناب.

وهذا يبين بكل قوة ووضوح لماذا كان " معدودة ". فى آية البقرة؟ و " معدودات " فى آية آل عمران؟

كان وصف " أياماً " فى آية البقرة " معدودة " لأن المقام فيها مقام إيجاز كما تقدم فناسب هذا المقام الإيجازى أن يكون الوصف موجزاً هكذا " معدودة ".

وكان الوصف فى آية آل عمران مطنباً " معدودات " بزيادة " الألف " ليناسب مقام الآية الإطنابى كما تقدم (5) .

فانظر إلى هذه الدقائق واللطائف البيانية المعجزة التى عميت عنها مدارك " الخواجات " المتعالمين.

(1) البقرة: 80.

(2)

أوزان جموع القلة هى: فِعْلَة ـ أفْعَال ـ أفعُل ـ أفْعِلَة.

(3)

غير العاقل هو ماعدا الإنسان من مخلوقات الله الأرضية.

(4)

آل عمران: 24.

(5)

انظر: ملاك التأويل، القاطع لذوى الإلحاد والتعطيل فى توجيه المتشابه من آى التنزيل (1/281) للعلامة أحمد بن الزبير القرناطى. دار النهضة العربية.

ص: 143