الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 27 -
جزء جمع فيه ما رثي به أبو العلاء المعري
فراغ
توفي أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري يوم الجمعة لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول من سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وقام على قبره أربعة وثمانون شاعرا ينشدون مراثي فيه (1) ، وقد جمعت هذه المراثي معا، والقائم بجمعها هو ابن البليغ المعري، واسم البليغ أسعد بن عليّ وكنيته أبو الماجد (2) .
وقد احتفظ ابن العديم بمختارات من ذلك الجزء لسبعة شعراء، وليس الاحتفاظ بشعرهم مبنيا على قيمته الفنية بل على دلالته التاريخية، فقد كانت المعرة في عصر أبي العلاء تجيش بالشعر، ولكن تأثير أبي العلاء في تلك الحركة الشعرية كان ضئيلا، كما أن تأثر المراثي الواردة هنا بطريقته في الرثاء يكاد يكون معدوما، فمن يتذكر " غير مجد " ورثاءه في أبيه ورثاءه للشريف والد الرضي والمرتضى يدرك أن الخيال الشعري يصنع أكثر مما تستطيعه العاطفة، وخاصة إذا استولى ذلك الخيال على البعدين اللغوي والفكري يتصرف بهما كيف شاء.
- 1 - (3)
قال أحمد بن حمزة بن حماد أبو الفضل يرثيه (4) :
(1) معجم الأدباء 3: 126.
(2)
الخريدة (قسم الشام) 2: 105.
(3)
بغية الطلب 1: 66.
(4)
توفي سنة 449 وهو العام الذي توفي فيه أبو العلاء.
لعظيم هذا الرزء حار لساني
…
ونأى وخان لما أجن جناني
هدم الردى من كان يبني جاهدا
…
مجدا لأهل معرة النعمان
أترى يد الدنيا تجود بمثله
…
هيهات ليس يرى له من ثان
شرف العلوم وتاج أرباب العلا
…
كنف العديم ومعدن الإحسان
أسفي عليه مجدد ما ينقضي
…
أو ينقضي عمري ووقت زماني
ما كنت أدري قبل ميتة أحمد
…
أن البحار تلف في الأكفان
حتى رأيت أبا العلاء موسدا
…
فرويت ذاك رواية بعيان
لله ما يحوي الثرى من جسمه
…
ويضم من شرف بغير بنان
فخر لو آن الفخر ينطق لانبرى
…
منه التفاخر ناطقا ببيان
إني وإن أوردت معنى حازه
…
علمي لقد خلفت فيه معاني
يا موت أنت سقيتني كأس الردى
…
وملأت قلبي غلة الأحزان
وقصدت سيدنا فأمسى ثاويا
…
ما بيننا فهو البعيد الداني - 2 - (1)
قال أحمد بن خلف أبو العباس المعري المعروف بالممتع يرثيه (2) :
قبر تضمن شخص العالم العلم
…
يجل عن لامس أو لاثم بفم
جادت عليه غوادي الدمع واتصلت
…
بها السواري فأغنته عن الديم
وآلت الشمس لا تنفك كاسفة
…
فسودت غرر الأيام بالظلم
فلو تكون على هاماتنا لمما
…
لما ألم بياض الشيب باللمم
تبغي السرور من الدنيا وقد قدرت
…
بها الهموم على الأقدار والهمم
وما تزال بنا الآمال مائلة
…
إلى المطامع في وجد وفي عدم
إذا الشبيبة بانت عن أخي أرب
…
فلا مآرب بعد الشيب والهرم
(1) بغية الطلب 1: 78.
(2)
أديب شاعر فاضل سمع الحديث من أبي العلاء المعري وغيره، وذكره أبو العلاء في رسالة الغفران.
تبكي الأقارب منا والبكاء على
…
نفوسنا واجب إذ نفتدي بهم
فليت ذا الحلم منا حين نفقده
…
مخبر بالذي يلقاه في الحلم
وليت من بديار الشام منزله
…
ليوم رب العلا والمجد لم يشم
في كل قلب يمان نازح ألم
…
فلا يلام حليف القرب في الألم
وفي تهامة أحشاء حشين أسى
…
وأعين كحلت بالسهد لا التهم
وقاطنون رأوا تحريم أمنهم
…
على النفوس وما بانوا عن الحرم
لا ينعمون بحال يظفرون بها
…
من الزمان وهم حالون بالنعم
قوم إلى شرف الآباء نسبتهم
…
فطيب فرعهم الزاكي بأصلهم
يرون موت ابن عبد الله عندهم
…
نظير موت ابن عبد الله جدهم
وما العراق بمذموم على جذل
…
لوصف أكثره بالغدر في الذمم
أبان صفحة أهل العلم فيه لمن
…
رأى التصفح من عرب ومن عجم
وبث من علمه كتبا مصححة
…
بها أبان لهم تصحيف كتبهم
وكان أحدث ما أملاه بينهم
…
يفوق أفضل ما أملى أولوا القدم
فسلمت لسليمان وأسرته
…
بنو الأكرام طرف العلم بالكرم
فما يصنف علم مثل علمهم
…
ولا يشرف بيت مثل بيتهم
تميزوا بخلال لا نظير لها
…
مع الخلال جلال الحكم والحكم
وقد تضمن عبد الله فخرهم
…
فليس يوجد فخر مثل فخرهم يريد أبا محمد عبد الله بن أبي المجد أخي أبي العلاء، وكان قاضي معرة النعمان، والقصيدة طويلة اقتصر منها ابن العديم على هذا القدر، وبعدها في الجزء المذكور، وله فيها أيضا:
أي بحر ما كان يخشى عبابه
…
وبدر المحار يزري حبابه
وطريق إلى العلاء مجوب
…
بأبيه ما ضله مجتابه
يوم أفضى إلى قرار ضريح
…
كل جفن تهمي عليه سحابه
ما الخضم المحيط إلا الذي يع
…
رب فيه عن الأريب ارتيابه
غاض منه ما طبق الأرض إذ فا
…
ض فلم تحم عنه طودا شعابه
فكأن الزمان لم يبق فيه
…
مذ عداه البقاء إلا سرابه
ترب الدهر من وحيد بنيه
…
فبعيد بمثله أترابه
وتألت أن لا أتت بنظير
…
بعده في صفاته أحقابه
وادعى النقض غاية الفضل إلا
…
حكم يدرأ المحال صوابه
ونأى النازح الغريب الذي كا
…
ن إليه نزوحه واغترابه
فعزيز على المحل الذي حو
…
ل عنه أن يغلق الدهر بابه
ولقد كان لا يخاف إذا آ
…
ن أوان الحجاب منه حجابه
ويرى نازلا به كل حين
…
من يروم الركوب يغشى ركابه
طالبا منه ما يهون عليه
…
وهو مستصعب يعز طلابه
فكأن الملوك تصحب للع؟
…
زة في كونها لديه صحابه
أدبتها وهذبت رأيها الثا
…
قب في كل مذهب آدابه
كل ملك يزينه عنه ما يح؟
…
فظ لا تاجه ولا ألقابه
لا يرجيه للثواب وإن كا
…
ن جزيلا على العفاة ثوابه
ورع يؤنس الجليس ولا يؤ
…
نس منه إذا يغيب اغتيابه
لم يخلف من طول دنياه ما يح
…
سب كيلا يطول فيه حسابه
أتنوخ اعقري الجياد وحطي
…
كل عال على السها أطنابه
فلقد راح واغتدى ابن تراب
…
بعد حمر القباب سودا قبابه
وإلى غير ما انتسبت إليه
…
من بني يعرب الكرام انتسابه
كل يوم يروم في الحي كالحو
…
م تراغى قرومه وسقابه
لا تظني حولا يحول فنلقى
…
قاضيا للأسى عليه انقضابه
واضربي في البلاد طولا وعرضا
…
أبدا لن ترى بها أضرابه
غاب عن لدنها السنان فما تح
…
دث نفعا بعد السنان كعابه
وتعرى من المعرة إذ كا
…
ن ذهاب الجمال عنها ذهابه
أو أقيمي بها فأكثر أسبا
…
ب علاها وفخرها أسبابه منها:
بان مني من كان يكثر عني
…
في الخطوب التي تنوب منابه
إن قضى نحبه فإني من لا
…
ينقضي أو إليه يقضى انتحابه
وقليل لذي الكآبة والوج؟
…
د عليه بكاؤه واكتئابه
فوشى قبره الربيع ولا زا
…
ل مربا على ثراه ربابه - 3 - (1)
قال أبو مسلم وادع بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان من جملة قصيدة:
ألا يا شبيه البحر أقسم لو درى
…
بموتك ما جاشت بليل غواربه
ويا من بكى طرف المكارم وحشة
…
له ولسان الفضل والحلم نادبه
ولو نطقت كتب العلوم إذا بكى
…
على فقده من كل علم غرائبه
ولو أن هذا الليل يعلم أنه
…
قضى لقضى ألا تزول غياهبه
ولو علمت شهب الظلام بفقده
…
إذن ندبته في الظلام كواكبه
سقى قبره السحب الغزار وخصه
…
من اله عفو لا يزال يصاحبه
فما زال كل الناس ينهب علمه
…
إلى أن غدا صرف الردى وهو ناهبه
وقد عم أهل الأرض جمعا مصابه
…
كما عمهم إحسانه ومواهبه
رعى الله قبرا أنت يا عم ملحد
…
به وسقاه من حيا المزن صائبه
ولولا توخيك الطهارة شيمة
…
لقلت سقاه من دم الدمع ساكبه - 4 - (2)
وقال أبو يعلى عبد الباقي بن أبي حصين من قصيدة:
نصال الدهر أقصد من سواها
…
وإن أدمت ولم تدم النصال
(1) بغية الطلب 1: 225.
(2)
بغية الطلب 1: 225.
ألم تر كيف لم يأمن شباها
…
أمين الأرض والورع البجال
وسار سريره فوق الهوادي
…
لقد خفت مذ اليوم الجبال
وأقبر في المعرة وهو أولى
…
بقبر في المجرة لا يطال - 5 - (1)
وقال أبو الفتح الحسن بن عبد الله بن أبي حصينة:
العلم بعد أبي العلاء مضيع
…
والأرض خالية الجوانب بلقع
لا عالم فيها يبين مشكلا
…
للسائلين ولا سماع ينفع
وعظ الأنام بما استطاع من الهدى
…
لو كان يعقل جاهل أو يسمع
ومضى وقد ملأ البلاد غرائبا
…
تسري النجوم الظلع
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى
…
أن الثرى فيه الكواكب تودع
جبل ظننت وقد تزعزع ركنه
…
أن الجبال الراسيات تزعزع
وعجبت أن تسع المعرة قبره
…
ويضيق عرض الأرض عنه الأوسع
أسفي عليه وقد مشيت وراءه
…
ومتالع فوق المناكب يرفع
والشمس كاسفة الضياء كئيبة
…
والجو مسود الجوانب أسفع
والأرض عادمة النسيم كأنما
…
سدت منافسها الرياح الأربع
لو فاضت المهجات يوم وفاته
…
ما أستكثرت فيه فكيف الأدمع
إني لمحتشم وقد دخل الثرى
…
ويكون لي كبد ولا تتقطع - 6 - (2)
لأبي المجد ابن أخت الممتع المعري:
صروف الليالي لا يحيط بها خبر
…
تصرفها فينا ويحتكم الدهر
فسيان إذ قصر النفوس مآلها
…
إلى الموت قسرا طال أن قصر العمر
(1) بغية الطلب 1: 228.
(2)
بغية الطلب 9: 187.
سبيل الردى في سائر الخلق واضح
…
ومسلكه إلا بفعل التقى وعر
ولم أر إلا عالما مثل جاهل
…
يضل على علم وبالدهر يغتر
فلولا التساوي مات قوم بدائهم
…
ولكن تساوى في الردى العبد والحر
وما العمر إلا مثل حول قطعته
…
وكان سواء فيه يومك والشهر
حكت سفنا في لج بحر جسومنا
…
تسير بأرواح وغايتها الكسر
وكل طليق في الحياة تظنه
…
طليق حمام لا يفك له أسر
يسر بتشيد المساكن ساكن
…
ومسكنه المسكين لو علم القبر
وليس غناه بالحميد مآله
…
وأحمد منه في عواقبه الفقر
وشرخ شباب المرء في العذر مطمع
…
فأما إذا شاب العذار فلا عذر
بنفسي مفقودا جزعنا لفقده
…
فأصبح إلا فيه يستحسن الصبر
يعز علينا أن نعزي به العلا
…
ويصبح مفجوعا به المجد والفخر
ونفقد من أخلاقه وعلومه
…
رياض ربيع لم يصوح بها الزهر
لئن عدم الأولاد من ظهره لقد
…
حوى بأبي المجد الذي عدم الظهر [يريد بأبي المجد أخاه، لأن أولاد أخيه كانوا يتولون خدمة عمهم أبي العلاء] :
نجوم سماء لا يغض ضياؤها
…
تزايد أنوار الشموس ولا البدر
لها حكم لم يعط لقمان بعضها
…
وأحكام داود الذي عنده الزبر
وفضل سماح تنقص السحب عنده
…
فليس بمحسوب إذا قطر القطر
وحسبهم فخرا بعمهم الذي
…
يفضله بدو البسيطة والحضر
علا علماء الدهر فهي جداول
…
وأنزر ما يبديه من علمه بحر
فتى علمت بغداد غاية علمه
…
وما جهلت من ذاك ما علمت مصر
أقام بها حولين يجني علومه
…
كما جنيت من خير أغراسها التمر
وآب مع الأعراب يزهي بلفظه
…
ويعظم منها في فصاحته الفكر
أقر بنعماه مقيما وظاعنا
…
وكفر أياديه التي سلفت كفر
وأنظم ما عمرت في وصف فضله
…
مراثي، يرويها ويحدو بها السفر
فأيسر ما فيه من الفضل غاية
…
يقصر عن إدراكها النظم والنثر
- 7 - (1)
وقال جامعه ولد البليغ المعري:
قالوا اقتصر في البكاء جهلا
…
والعلم يدعو إلى البكاء
وأي عين تكف دمعا
…
بعد سناها أبي العلاء
وجدي على فقده مقيم
…
ما نجمت أنجم السماء
فما أعزي بني أخيه
…
إذ أنا أخلو من العزاء
ولو تمكنت من فداء
…
ما سبقوني إلى الفداء
فظفروا بالمنى جميعا
…
وبلغوا غاية البقاء
(1) بغية الطلب 9: 219.