الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
24 -
(1)
كتاب الربيع
لغرس النعمة أبي الحسن محمد بن هلال
(1) ترجمته في المنتظم 9: 42 وابن خلكان 6: 101 (ضمن ترجمة أبيه) والوافي 5: 168 وتلخيص مجمع الأدب 2/4: 1163 وراجع مقدمة الهفوات النادرة ومقدمة رسوم دار الخلافة: 21 - 25، واعتماداً على هذين المصدرين رأيت ألا أطيل في ترجمته، بل أكتفي بالحديث عن مؤلفاته.
فراغ
غرس النعمة من أسرة شهيرة، أثل لها مجدها والد جده أبو إسحاق الصابىء، المترسل المعروف، وكان أبوه هلال أول من أعتنق الإسلام من أفراد تلك الأسرة، التي كان لكل فرد منها دورها في الحياة الفكرية والثقافية.
وقد عرف لغرس النعمة ثلاثة مؤلفات وهي:
1 -
الهفوات النادرة الجارية على ألسن المتحفظين والسقطات الآتية من الغارين الغافلين، وقد بدأه ببعض ما وقع هو فيه من هفوات، وجمع فيه طرفاً من الحكايات، ويبدو أنه وصلنا كاملاً (1) .
2 -
التاريخ الكبير:
لأسرة الصابئين دور هام في كتابة التاريخ، فوالد الجد أبو إسحاق كتب التاجي، ووالد هلال أعني المحسن كتب تاريخاً كبيراً يجيء في أربعين مجلداً، ثم حاول غرس النعمة أن يذيل على تاريخ أبيه.
ولندع القفطي يحدثنا عن موضع كتاب غرس النعمة في سياق المؤلفات التاريخية، يقول القفطي: " وإذا أردت التاريخ متصلاً جميلاً فعليك بكتاب أبي جعفر الطبري رضي الله عنه فإنه من أول العالم وإلى سنة تسع وثلاثمائة (309) ومتى شئت أن تقرن به كتاب أحمد بن أبي طاهر وولده عبد الله فنعم ما تفعل لأنهما
(1) نشر بتحقيق الدكتور صالح الشتر، معارضاً على ثلاث نسخ، دمشق 1967م.
قد بالغا في ذكر الدولة العباسية وأتيا من شرح الأحوال بما لم يأت به الطبري بمفرده، وهما في الانتهاء قريبا المدة، والطبري أزيد منهما قليلاً، ثم يتلو ذلك كتاب ثابت فإنه يداخل الطبري في بعض السنين ويبلغ إلى بعض سنة ثلاث وستين وثلاثمائة (363) ، فإن قرنت به كتاب الفرغاني الذي ذيل به كتاب الطبري فنعم الفعل تفعله، فإن في كتاب الفرغاني بسطاً أكثر من كتاب ثابت في بعض الأماكن، ثم كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ، فإنه داخل كتاب خاله ثابت وتمم عليه إلى سنة سبع وأربعين وأربعمائة (447) ولم يتعرض أحد في مدته إلى ما تعرض له من إحكام الأمور والاطلاع على أسرار الدولة، وذلك أنه أخذ ذلك عن جده لأنه كاتب الإنشاء ويعلم الوقائع وتولى هو الإنشاء ويعلم الوقائع وتولى هو الإنشاء أيضاً، فاستعان بعلم الأخبار الواردة على ما جمعه، ثم يتلوه كتاب ولده غرس النعمة محمد بن هلال، وهو كتاب حسن إلى بعد سنة سبعين وأربعمائة بقليل، وقصر في آخر الكتاب لمانع منعه، الله أعلم به، ثم داخله ابن الهمذاني وتمم إلى بعض سنة اثنتي عشرة وخمسمائة (512) وكمل عليه أبو الحسن ابن الزاغوني، فأتى بما لا يشفي الغليل، إذ لم يكن ذلك من صناعته، فأوصله إلى سنة سبع وعشرين وخمسمائة (527) ثم كمل عليه العفيف صدقة الحداد إلى سنة نيف وسبعين وخمسمائة، ثم كمل عليه ابن الجوزي إلى بعد سنة ثمانين، ثم كمل عليه ابن القادسي إلى سنة ست عشرة وستمائة (616) " (1) .
يبدأ كتاب غرس النعمة من سنة 448 (2) ويبدو من النقول التي أخذت عنه أن الإسهاب كان معتمده (3) ، وأنه لم يكن تاريخاً صغيراً، وقد تضاربت الآراء في الثقة به مؤرخاً، فابن الجوزي يروي عن أبي الوفاء ابن عقيل ما بفيد تفرده في هذا الباب وأن وفاته كانت نهاية لهذا النوع من النشاط ببغداد (4) بينما يرى هبة الله بن
(1) تاريخ الحكماء: 110 - 111.
(2)
هكذا قال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان حوادث سنة 448 (رسوم دار الخلافة: 22) .
(3)
نقل عنه ابن خلكان 3: 218 أخباراً تتعلق بالنظامية، ونقل عنه ياقوت 3: 125 وما بعدها أخباراً عن المعري.
(4)
المنتظم 9: 42 والوافي 5: 168.
المبارك السقطي أنه كان يجازف في تاريخه ويذكر ما ليس بصحيح، وأياً كان الأمر فإن ضياع الكتاب قد فوت علينا معرفة الشيء الكثير عن تاريخ الفترة التي تناولها. إن روح القصص التي تتمثل في كتابيه الآخرين ربما غلبت على كتابته التاريخية، ولكن ذلك لا يحول دون الإفادة من المادة التي دونها، لو وصل الكتاب.
ونقل ابن العديم في بغية الطلب هذا النص عن تاريخ غرس النعمة (1)(حوادث449) : " وفي يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول توفي بمعرة النعمان في الشام أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان قال: وأذكر عند ورود الخبر بموته وقد تذاكرنا أمره وإظهاره الإلحاد وكفره ومعنا غلام يعرف بأبي غالب ابن نبهان من أهل الخير والسلامة والعفة والديانة فلما كان من غد يومنا حكى لنا وقد مضى ذلك الحديث فسمعه عرضاً فقال: أريت البارحة في منامي رجلاً ضريراَ وعلى عاتقه أفعيان متدليان إلى فخذيه، وكل منهما يرفع فمه إلى وجهه فيقطع منه لحماً يزدرده، وهو يصيح ويستغيث، فقلت: من هذا وقد أفزعني ما رأيته منه وروعني ما شاهدته عليه، فقيل لي: هذا المعري الملحد، فعجبنا من ذلك واستطرفناه بعقب ما تفاوضناه من أمرنا وتجاريناه ".
3 -
كتاب الربيع:
ابتدأه في سنة 468 (2) ليجعل منه ذيلاً على كتاب " نشوار المحاضرة " الذي صنفه أبو عليّ المحسن التنوخي، ولعله أنفق في تدوين ما فيه من حكايات سنين عديدة، وأمامه أنموذجه المفضل التنوخي الذي قضى في تأليف كتابه عشرين سنة، إلا أنه لم يكن ليضاهي التنوخي في طول المدة لأنه توفي في سنة 480، وعلى حسب هذا التصور يعد كتاب الربيع كتاباً كبيراً في غير مجلد واحد.
ونجده في هذا الكتاب يروي عن قطاع كبير متفاوت من معاصريه من بينهم
(1) بغية الطلب 1: 214، وعنه نقول كثيرة في مرآة الزمان.
(2)
معجم الأدباء 17: 92.
الوزير أبو نصر ابن جهير ووالده هلال وجده المحسن وعن صابئي ماندائي يكنى بأبي سعد، وقد ضمنه حكاية رحلة قام بها ابن بطلان، وجعلها على صورة رسالة موجهة إلى أبي الحسين والد المؤلف، ولا ريب في أن الكتاب في مجموعه معرض لحكايات وطرائف، تفيد كثيراً في تصوير الحياة الاجتماعية شأنه في ذلك شأن كتاب النشوار (1) .
- 1 - (2)
حدثني بعض الخراسانية قال: خرج إلب أرسلان بن داود الملقب عضد الدولة وهو صبي إلى الصيد، فرأى شيخاً ضعيفاً على رأسه شوك قد قطعه وتعب به وهو ذا يقاسي من حمله شدةً وصعوبة، فقال له: يا شيخ، قال: لبيك قال: أتحب أن أريحك مما أنت فيه من هذا الكد والتعب والنصب مع الشيخوخة وكبر السن؟ فظن الشوكي انه يعطيه ما يكفه به عن ذلك ويعينه، فقال: أي والله، فرماه بنشابة قتله مكانه.
- 2 - (3)
أنبأنا عبد اللطيف بن يوسف عن أبي الفتح ابن البطي قال: أنبأنا أبو عبد الله الحميدي عنه قال: حدثني المسعود بن أبي المعالي الفضل وكان أحد [حجاب] البساسيري في المحرم من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة بالرحبة [وكنت] خرجت إليها خوفاً من جريرة فعل البساسيري جالساً في داره وأنا [على] رأسه إذ دخل غلامان بثياب
(1) في بعض المراجع لم يصرح الناقلون أن ما ينقلونه من كتاب الربيع على وجه التحديد، وقد يكون من تاريخ محمد بن هلال، ولهذا أشرت إلى كل حكاية لم يذكر نصاً أنها مأخوذة من كتاب الربيع.
(2)
بغية الطلب 3: 287 (وسويم: 34) .
(3)
بغية الطلب 2: 204 (وسويم: 14) .
حسان فنهض إليهما وخدمهما وقبل أيديهما وأرجلهما و [مشى] بين أيديهما فقالا له: يا [هذا] قصدت البصرة فعضدناك، والأنبار فأعناك، وسنجار فساعدناك، والموصل فقويناك، وبغداد فنصرناك وقا [لا بأيديهما] يضمانها ويبسطانها [ما] معناه، فما آخر ذاك، وإلى (متى) ؟ يكررانه دفعات، فاستطرف ذاك، وجاء خبره بعد أيام [من] الرحبة بقتله وزوال أمره.
- 3 - (1)
حدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر قال: حدثني نصر الدولة أبو نصر ابن مروان صاحب آمد وميافارقين وتلك الثغور وكان ناظراً له إلى حين وفاته قال: كان بعض متقدمي الأكراد معي على الطبق فأخذت حجلة مشوية مما كان بينيدي فأعطيته إياها فأخذها وضحك، فقلت: مم تضحك؟ فقال: خير، فظننت أنه قد عاب عليّ ذلك، فألححت عليه ودافع عن الجواب حتى رفعت يدي وقلت: لا آكل شيئاً حتى تعرفني سبب ضحكك ما هو، فقال: شيء ذكرتنيه الحجلة، وذاك أني كنت أيام الشباب والجهالة قد أخذت بعض التجار في طريق وما كان معه من المتاع وقربته إلى لحف جبل فأردت قتله خوفاً على نفسي منه وان يعرفني من بعد ويطالبني ويعرضني للقبيح ويعترضني، فقال: يا هذا قد أخذت مالي وأفقرتني وأولادي فدعني أرجع إلى عيلتي فأكد عليهم، فلا تحرمهم مالي ونفسي، وبكى وسألني وتضرع إلي فلم أرق له شرهاً إلى ما كان معه، فلما أيس من الحياة، التفت إلى حجلتين على جبل وقال لهما: اشهدا لي عليه عند الله تعالى أنه قاتلي ظلماً. وقتلته، فلما رأيت الحجلة الآن ذكرت ذلك الرجل وحمقه في استشهاده الحجل عليّ، قال ابن مروان: فحين سمعت قوله اهتززت حتى لم أملك نفسي، وتقدمت بأخذه وكتفه ثم ضرب رقبته بين يدي، فلم آكل حتى رأيت رأسه مترأ بين يديه بعد ان قلت له: قد والله شهدت الحجلتان عليك عند من أقادك بالرجل وأخذ له بحقه منك.
(1) بغية الطلب 2: 63.
- 4 - (1)
وحدثني الوزير فخر الدولة قال: كان لبعض الأكراد المتوجهين فرس أعطي به ألف دينار، وجعلها ابن مروان ألف دينار وضيعة، فلم يبعه ولا طابت نفسه بمفارقته، وركب يوماً ابن مروان إلى الصيد فقيل له: أيها الأمير نفق البارحة الفرس الفلاني، فاغتم به وحزن عليه وأحضر صاحبه إليه وعزاه به لعظيم ما كان عنده منه، فوجده لا يقبل العزاء وعنده من الأسف على المال لا على الفرس ما غاظه، فقال له: يا هذا مالك؟ وما فرس حتى يلحقك هذا الأمر العظيم عليه، ولعل الله تعالى قد دفع عنك ما هو أعظم من ذهاب ثمنه منك، فقال: أهي فرس أيها الأمير؟ هي ألف دينار، فقال له: تأخذ ألف دينار وتجعل ثواب الفرس لي؟ فقال: نعم، فتقدم بإطلاقها له، وحضرني وتقدمت بتسليمها إليه، وانصرف بها فلم يصبح ألا أعمى يتلمس الحيطان، وجاءنا الخبر فعجب الأمير والناس أجمعون مما جرى في ذاك، ووقع للأمير أن الله تعالى قد دفع عنه بالألف دينار ما نزل بمن اخذها، وسر بذلك.
- 5 - (2)
وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر ابن جهير قال حدثني نصر الدولة أبو نصر ابن مروان صاحب ديار بكر عند خدمتي له، وقد جرى حديث أبي القاسم ابن المغربي قال: لما خدمني عند مجيئه من مصر وما جرى له مع الحاكم، جاءني يوماً ومعه سدس كاغد، فقال لي: قد أثبت في هذا السدس أسماء أصحابك الذين قد أخذوا أموالك وأخلوا خزانتك من مال يعد فيها لحاجة أو شدة ما قيمته ثلاثمائة وسبعون ألف دينار، شك الوزير في ذلك، وقال: إذا أخذت هذا القدر منهم لم تجحف بأموالهم، وكان كل منهم مرتباً في خدمته ومركزه وولايته، وتكون قد تقضيت من أموالك التي احتجنوها ما جعلته لك خزانة وعدة، فقلت له: يا هذا إنما نصبتك وزيراً لتعطيني وتعطي أصحابي بعمارة بلادي وتوفير أموالي، فأما مصادرة
(1) بغية الطلب 2: 63.
(2)
بغية الطلب: 2: 63.
أصحابي فلو أردت هذا لأخذت أنا أضعافه، وكفاني منك مردك صاحبي هذا الذي هو أهون وأدون من يخدمني ولم أكن محتاجاً فيه إلى مثلك، فقال لي: إذا كان هذا رأيك فأحرسني من أصحابك، ولا تطلعهم على ما قلته في معناهم فتفسد ما بيني وبينهم فقلت: أفعل، وتركني مديدة قريبة وقال لي: قد جرى في الجزيرة خلف بين الضامن لها وبين فلان وتفاقم الأمر فيه إلى أن احتاج إلى مشارفتي له وإصلاحه بنفسي، فتأذن في الانحدار إلى هناك، فمدة الغيبة عشرون يوماً وأعود وقد حسمت مادة ربما طمحت إلى حد يشغل قلبك؟ فعلمت أنه يريد المضي إلى الموصل، وقرواش بن المقلد أمير بني عقيل لما لم ير لشره عندي نفاذاً ولا عليّ نفاقاً، ولم يكن يحسن غيره، فقلت له: افعل ما ترى. وتشاغل بإصلاح أمره للانحدار، فجاءني موسك خالي وقال لي: عرفت أن أبا القاسم المغربي على الانحدار إلى الجزيرة، وكذب فإنه بنية المضي إلى الموصل؟ فقلت: قد عرفت ذلك وعلمته، ودعه يمضي إلى اللعنة فما في مقامه ها هنا لكم فائدة وكان موسك ممن سعى ابن المغربي به وأراد مصادرته وأخذ المال منه قال: وتدعه يمضي وقد أخذ أموالك وسرقها وحصلها واحتجنها، ولم لا تقبض عليه وتأخذ ما أخذ ثم تصرفه إلى اللعنة وسوء المنقلب؟ فضحكت منه وقلت: ليس كل من يأخذ مالي أرتجعه منه، ولعمري إنه خدمنا وانتفع منا وكسب معنا وأخذ ذلك منه لؤم، فأمسك. وانحدر ابن المغربي إلى الجزيرة ومنها إلى الموصل وخدمة قرواش، ثم إنحدر إلى بغداد وخدمة الملك مشرف الدولة أبي عليّ ابن بويه في سنة خمس عشرة وأربعمائة.
- 6 - (1)
حدثني أبي قال: حدثني جدي قال: كان أبو القاسم الجهني القاضي (وأظنه من أهل البصرة وتقلد الحسبة بها ومنها عرف أبا محمد المهلبي وصحبه) يشتمل على آداب يتميز بها، إلا أنه كان فاحش الكذب يورد من الحكايات ما لا يعلق بقبول
(1) معجم الأدباء 13: 123 - 124 (ولم يذكر أنها من كتاب الربيع هي والحكايات التي بعدها حتى رقم: 18) .
ولا يدخل في معقول، وكان أبو محمد قد ألف ذلك منه وقد سلك مسلك الاحتمال، وكنا لا نخلو عن حديثه من التعجب والاستطراف والاستبعاد، وكان ذلك لا يزيده إلا إغراقاً في قوله وتمادياً في فعله، فلما كان في بعض الأيام جرى حديث النعنع وإلى أي حد يطول، فقال الجهني: في البلد الفلاني يتشجر حتى يعمل من خشبه السلاليم، فأغتاظ أبو الفرج الأصبهاني من ذاك وقال: نعم عجائب الدنيا كثيرة، ولا يدفع مثل هذا وليس بمستبدع، وعندي ما هو أعجب من هذا وأغرب، وهو زوج حمام راعبي يبيض في نيف وعشرين يوماً بيضتين فأنتزعهما من تحته وأضع مكانهما صنجة مائة وصنجة خمسين، فإذا انتهى مدة الحضان تفقست الصنجتان عن طست وإبريق، أو سطل وكرنيب. فعمنا الضحك وفطن الجهني لما قصده أبو الفرج من الطنز، وانقبض عن كثير مما كان يحكيه ويتسمح فيه، وإن لم يخل من الأيام من الشيء بعد الشيء منه.
- 7 - (1)
وقال غرس النعمة: كان لوالدي تاجر يعرف بأبي طالب، وكان معروفاً بالكذب، فأذكر وقد حكى في مجلسه والناس حضور عنده: أنه كان في معسكر ابن سبكتكين صاحب خراسان ببخارى معه، وقد جاء من البرد أمر عظيم جمد منه المري حتى قد وفري وعملت منه خفاف، وأن الناس كانوا ينزلون في المعسكر فلا يسمع لهم صوت ولا حديث ولا حركة، حتى ضرب الطبل في أوقات الصلوات، فإذا أصبح الناس وطالعت الشمس وحميت ذاب الكلام فسمعت الأصوات الجامدة منذ أمس من أصوات الطبول والبوقات وحديث الناس وصهيل الخيول ونهيق الحمير ورغاء الإبل.
- 8 - (2)
قال غرس النعمة، حدثني أبو سعد الماندائي قال: دخلت يوماً على
(1) معجم الأدباء 13: 124 - 125.
(2)
معجم الأدباء 14: 115.
القاضي أبي القاسم التنوخي وكانت عينه رمدة أتعرف خبره فقال لي: حدثني من رأيت وما رأيت في طريقك؟ فقلت: رأيت منسفاً فيه نحو عشرين رطلاً رطباً أزاذاً لقاطاً ما رأيت مثله، فقال لغلامه: يا أحمد، عليّ بالمنسف الساعة، فمضى أحمد وابتاعه وجاء به فحل عينه وغسلها من الدواء الذي فيها وقال لي: كل حتى آكل فقلت يا سيدي عينك رمدة فكيف تأكل رطباً؟ فقال: كل فعيني تهدأ والرطب يفنى، فأكل والله منه حتى وقف.
- 9 - (1)
قال غرس النعمة: قال الماندائي: كنت ليلة بائتاً عنده فهبت ريح شديدة فما زال طرف النطع الذي تحته يصعد وينزل ويصفع رأسه فقال: هذا سقوط الساعة أم مصافعة؟ فقلت: ممن يا سيدنا؟ فقال: فضولك، وضحكنا.
- 10 - (2)
قال غرس النعمة وحدثني [الماندائي]، حدثني القاضي قال: كنت يوماً في وقت القيلولة نائماً فاجتاز واحد غث يصيح صياحاً أزعجني وأيقظني: شراك النعال. فقلت لأحمد الغلام: خذ كل نعل لي ولمن في داري وأخرجها إلى هذا الرجل ليرمها ويشتعل بها ففعل، ونمت إلى أن اكتفيت ثم انتبهت وصليت العصر وأعطيته أجرته ومضى، فلما كان من غد في مثل ذلك الوقت جاء وأنا نائم فصاح وأنبهني فقلت للغلام: أدخله فأدخله فقلت: يا ماص كذا وكذا من أمه، أمس في هذا الوقت أصلحت كل نعل لنا، وعدت اليوم تصيح على بابنا، أبلغك أننا البارحة تصافعنا بالنعال وقطعناها، وقد عدت اليوم لعملها وإصلاحها؟ قفاه. فقال يا سيدنا القاضي: أو أتوب ألا أدخل هذا الدرب؟ قلت: فما تتركني أنام ولا أهدأ ولا أستقر؟ فحلف ألا يعود إلى الدرب وأخرجته إلى لعنة الله.
(1) معجم الأدباء 14: 115.
(2)
معجم الأدباء 14: 116 - 117.
قال: ورأيته يوماً عند الرئيس الوالد رضي الله عنهما وهو يشكو إليه قبح أبي القاسم ابن المسلمة رئيس الرؤساء وقصده له وغضه منه، وتناهى غضبه إلى أخذ الدواة من بين يدي الرئيس ورفعها إلى فوق رأسه وقال: والله لقد بال في حجري وعلى ثيابي بعدد الرمل والحصى والتراب، وحط الدواة فضرب بها الأرض فكسرت، فلما رأى ذلك قام وانصرف وقد استحيى وبقينا متعجبين منه.
- 11 - (1)
قال: وحدثني أبو سعد الماندائي قال: كنت مع القاضي التنوخي وقد خرج يوماً من دار الخلافة ليعبر إلى داره بالجانب الغربي، فلما بلغنا مشرعة نهر معلى صاح به الملاحون: يا شيخ يا شيخ تعال هنا تعال هنا، فوقف وقال لهم: كل مردي معكم ومجذاف في كذا وكذا من نسائكم، ما فيكم إلا من يعرفني ويعلم أنني القاضي التنوخي يا كذا وكذا ثم نزل وهو يسبهم ويشتمهم والفلاحون وأنا قد متنا بالضحك.
وجاءه غلام قد تزوج وكتب كتاباً بمهر يشهده فيه واستحيى الغلام من ذلك فجذب طاقة من حصير القاضي وجعل يقطعها لحيائه وخجله، ولحظه القاضي فقال يا هذا: أنا أشهد لك في كتاب يقتضي أن يحمل به إليك القماش والجهاز اللذان يعمران بيتك ويجملان أمرك، وأنت مشغول بقطع حصيري وتخريب بيتي؟ وشق الكتاب قطعاً ولم يشهد فيه ورمى به إليه، فأخذه وأنصرف متعجباً.
- 12 - (2)
وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: شهد القاضي أبو القاسم منذ سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، إلى أن توفي في المحرم سنة سبع وأربعين وأربعمائة،
(1) معجم الأدباء 14: 117 - 118.
(2)
معجم الأدباء 14: 118 - 119.
وكان مولده يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة خمس وستين وثلاثمائة نيفاً وستين سنة ما وقف له على زلة ولا غلطة.
وأذكر له حكاية وهي أنه شهد مع جماعة من الشهود على زوجة أبي الحسن ابن أبي تمام الهاشمي نقيب النقباء في إقرار أقرت به، فلما سمعوا إقرارها من وراء الستارة لم يقنعهم ذاك، وأرادوا من يشهد عندهم أن المقرة هي المذكورة في الكتاب بعينها، وأن يشاهدوها حتى يسلموا له، ويصح أن يشهدوا عليها بالمعرفة، فلم يقدموا على ذلك وخطاب أبي تمام فيه، فخرج ولده منها فقام له التنوخي وأخذه إلى حجره وقبل رأسه وقال له، قليلاً قليلاً: من هذه التي تكلمنا من وراء الستارة وتحدثنا وتشهدنا عليه؟ فقال له: ستي، فالتفت إلى الجماعة وقال لهم: اشهدوا ياسادة، فأنا أشهد عندكم أن المقرة عندنا من وراء الستارة هي المذكورة في الكتاب بعينها، فشهدوا وشهد معهم. وقال من بعد: هذا صبي لا يعرف ما نحن فيه، ولو كان خلف الستارة غير سته لقال، ولما كانت هي بعينها قال: هي ستي، ولعمري لقد كان أبو الحسن أجل من أن يفعل هذا معنا.
- 13 - (1)
قال أبو الحسين: كان لنا غلام يعرف بجميلة فابتاع ألف سابل سرجيناً من فلاح يعرف بالدابة ليحمله إلى قراحنا المشجر في نهر عيسى ليطرح في أصول الشجر، فلما ذكر جميلة ذاك للرئيس رضي الله عنه قال له: اكتب عليه خطاً وأشهد فيه، يعني المعلم في الدار ومن يجري مجراه، فكتب جميلة على الفلاح رقعةً ومضى بها لا يلوي على شيء إلى أن عاد التنوخي بين الصلاتين وهو جائع حاقن تعب، والزمان صائف، فقام إليه ودعا له وقال له: من أنت؟ قال: غلام فلان. قال: مالك؟ قال: شهادة. قال له: اقعد، ودخل فخلع ثيابه ودخل بيت الطهارة وأطال، والغلام يصيح: يا سيدنا أنا قاعد من ضحوة النهار إلى الساعة، فقال له: ويلك؟ اصبر حتى أخرى، اصبر حتى أخرى، اصبر حتى أخرى، ثم توضأ ليصلي فلم
(1) معجم الأدباء 14: 119 - 121.
يهنئه فقال: ادخل دخلت بطنك الشمس، فقد والله حيرتني وجننتني، فلما دخل أعطاه الرقعة فقرأها وقال: ويلك، ما اسم هذا الفلاح؟ فقال: الدابة يا سيدي فقال: وأي شيء يقر به؟ ويلك فما أقف عليه، أرى خمسة آلاف سابل ولا أدري ما بعده، فقال ياسيدنا خمسة آلاف سابل سرقين فقال له: وما السرقين؟ فقال: خرء البقر والغنم. قال: ياماص بظر أمه، أنا شاهد الخرء، ونهض إليه وهو مغتاظ فأخذ ينتف ذقنه ويضرب رأسه وفكه إلى أن جرى الدم من فيه وأخرجه، وجاء إلى الرئيس رحمه الله فحدثه بما جرى عليه فقال: يا هذا، الشهود يستشهدون في الخرا؟ أنت بالله أحمق. وجاءنا القاضي بعد العصر يشكو من جميلة ولزه وتوكله به، ويعتذر مما جره جنونه عليه، وما انتهى معه إليه، فضحكنا عليه، ومرت ساعة لنا طيبة بما أورده عليه.
- 14 - (1)
قال: وحدثني الرئيس أبو الحسين رضي الله عنه قال: حضر عندي القاضي أبو القاسم التنوخي يوماً وقد هرب الكافي أبو عبد الله القنائي ببغداد، وخرج إلى الأنبار ونظر أبي سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم، وكان التنوخي مائلاً إلى بني عبد الرحيم ونابياً عن أضدادهم. فبدأ بذكر القنائي وكان لي صديقاً بقبيح وزاد وخشن وخبط، فغمضت عيني واستلقيت على مخدتي لعله يكف ويقطع، فعلم ذاك مني فقفز إلي يحركني ويقول: والله ما أنت نائم، ولكنك ما تحب أن تسمع في القنائي قبيحاً. فقلت: ما أحب أن أسمع في القنائي ولا في غيره قبيحاً، وقد تناومت لتقطع فلم تفعل، ومضى، وبلغ القنائي المجلس بعينه. وعاد القنائي إلى بغداد ناظراً، ودخل التنوخي إليه مسلماً وخادماً فقال له: يا قاضي، ما فعلت بك قبيحاً يقتضي ذكرك لي وطعنك في، فقال: يا مولانا أنا مجنون. قال: إذا كنت مجنوناً فالمارستان لمثلك عمل، وفي حملك إليه ومداواتك فيه ثواب ومصلحة وكف لك عن الناس وأذاهم بجنونك وخباطك، يا
(1) معجم الأدباء 14: 121 - 122.
أنصاري للعريف على بابه: احمله إلى المارستان واحبسه مع إخوانه المجانين، فأخذ وحمل إلى المارستان وحبس فيه، قال الرئيس: وعرفت القصة فركبت إلى القنائي ولحقني المرتضى والرؤساء من الناس ولم نفارقه حتى أفرج عنه وأطلقه.
- 15 - (1)
واجتاز القاضي أبو القاسم يوماً فرأى في طريقه كلباً رابضاً فقال: اخسأ أخسأ، فلم يبرح، فقال: اخسأ، وعاد عنه ومضى.
- 16 - (2)
قال أبو الحسين: لقيته يوماً بنت ابن العلاف زوجة أبي منصور ابن المزرع وكانت عاهرة إلى الحد الذي تلبس الجبة المضربة، وتتعمم بالقياد وتأخذ السيف والدرقة، وتخرج ليلاً فتمشي مع العيارين، وتشرب إلى أن تسكر وتعود سحراً إلى بيتها، وربما انتهى بها السكر إلى الحد الذي لا تملك معه أمر نفسها فيحملها العيارون إلى دار زوجها على تلك الحال، فقالت له: يا قاضي ما معنى التاء التي تكتبها على الدراهم؟ وكان إليه العيار في دار الضرب، فقال لها: هذا شيء يعملونه كالعلامة، أن التنوخي متولي العيار فيأخذون التاء من أول نسبتي، فقالت: كذبت وأثمت أيها القاضي، تريد أن أقول لك معناها؟ فقال لها: قولي يا ست النساء، فقالت معناها يا قاضي: تنيكها يا قاضي، فضرب حماره ومضى وهو يقول لها: لحية زوجك في حجري، لحية زوجك في حجري.
قال: ولقيه إنسان ومعه كتاب في الطريق فأعطاه إياه وسأله أن يشهد فيه فقال: هات دواة أو محبرة، فقال: ما معي، فقال: ويحك ما صبرت أن أنزل إلى
(1) معجم الأدباء 14: 122 - 123.
(2)
معجم الأدباء 14: 123 - 124.
داري وأشهد عليك بدواتي؟ بل اعترضتني في الطريق وليس معك ما تكتب منه. ويلك، من يريد أن ينيك في الدهليز يجب أن يكون أيره قائماً مثل دستك الهاون، وتركه ومضى.
- 17 - (1)
قال غرس النعمة: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن هلال جدي قال: لما سار عضد الدولة من بغداد عائداً إلى فارس أقام أبو الفتح ابن العميد بعده، ووصل إلى حضرة الطائع لله حتى خلع عليه وحماه وكناه ولقبه ذا الكفايتين، وتنجز منه خلعاً ولقباً لفخر الدولة أبي الحسن، وأقطع من نواحي السواد ضياعاً كثيرة رتب فيها نائباً يستوفي أرتفاعها ويحمله إليه، ودعاه أبو طاهر بن بقية عدة دعوات، وملأ عينه بالهدايا والملاطفات، وقال في بعض الأيام: لا بد أن اخلع على ابن العميد في مجلسي، ودعاه، فلما قعدا وأكل وجلس على الشرب أخذ ابن بقية بيده فرجية ورداء في غاية الحسن والجلالة، ووافى بهما إلى ابن العميد وقال له: قد صرت أيها الأستاذ " جامدارك " فانظر هل ترتضيني لخدمتك؟ وطرح الفرجية عليه، وقدم الرداء بين يديه، فأخذه ولبسه.
- 18 - (2)
حدثني بعض السادة الأصدقاء وأنسيته، وأظنه أبا طاهر محمد بن محمد الكرخي، قال: كانت بنت عضد الدولة لما زفت إلى الطائع بقيت بحالها لا يقربها خوفاً أن تحمل منه فتستولي الديلم على الخلافة، وكان الطائع يحبها حباً شديداً زائداً موفياً، ويقفل عليها باب حجرتها إذا شرب ويقول للخدم: خذوا المفتاح ولا تعطونيه إذا سكرت ورمت الدخول إليها، ولو فعلت مهما فعلت، فأقسم بالله لئن مكنت من ذاك لأقتلن الذي يمكنني منه، فإذا سكر منعه السكر من التماسك وحمله
(1) معجم الأدباء 14: 200 - 201.
(2)
معجم الأدباء 14: 114 - 116.
الحب والهوى على المضي إليها والدخول عليها فيجيء إلى بابها ويأمر بفتحه ويتهدد ويتوعد ولا يقبل منه، ولا يقر له أحد بمعرفة المفتاح أين هو ولا من هو معه، إلى ان ينصرف أو ينام، فذاك كان دأبه ودأبها. وتقدم عضد الدولة إلى أبي عليّ التنوخي في أواخر أيامه بأن يمضي إلى الطائع ويطارحه عن والدة الصبية في المعنى بما يستزيده فيه لها ويبعثه به عليها بأسباب يتوصل إليها وأقوال يصفها ويومئ إلى الغرض فيها رتبها عضد الدولة ولقنه إياها وفهمه فقال: السمع والطاعة، ومضى إلى بيته ولم يقدم على الطائع، وخاف عضد الدولة إن خالف ما رسمه له، فأظهر مرضاً وعاده أصدقاؤه منه، واعتذر به إلى عضد الدولة، فوقع لعضد الدولة باطن الأمر، وأمر بعض الخدم الخواص بالمضي إلى التنوخي لعيادته وتعرف خبره وأن يخرج من عنده ويركب إلى أن يخرج من الدرب، ثم يعود فيدخل عليه هاجماً، فإن كان على حاله في فراشه لم يتغير له أمر أعطاه مائتي دينار أصحبه إياها لنفسه وأظهر أنه عاد لأجلها لأنه نسيها معه، وإن وجده قاعداً أو قائماً عن الفراش قال له: الملك يقول لك: لا تخرج عن دارك إلينا ولا إلى غيرنا، وانصرف. قال الخادم: فدخلت إليه وهو في فراشه وعليه دثاره وخاطبته عن الملك، فشكر وأعاد جواباً ضعيفاً لم أكد أفهمه، وخرجت ثم عدت على ما رسم الملك، فهجمت عليه فوجدته قائماً يمشي حول البستان، فلما رآني اضطرب وتحير فقلت له: الملك يقول لك: لا تبرح دارك لا إلينا ولا إلى غيرنا، وخرجت، فبقي على ذلك إلى ان مات عضد الدولة.
19
- حدثني أبي قال: ركبنا جماعة فينا أبو عليّ ابن الحواري وأبو الحسن الديلمي وأبو طاهر الطيب العلوي وغيرهم إلى دعوة أبي القاسم الوتار فلقينا أبو الحسن البتي وسألنا أن نمضي معه إلى مؤيد الملك أبي عليّ الرخجي وزير الوقت في حاجة له إليه، فرأينا شكح المنجم الأعمى، وكان لا يعرف من النجوم كثير شيء إلا أنه كان فهماً ومهماً، قال: فقلنا له لا بد من أن تأخذ طالع الوقت وتحسب
لنا فيما نمضي وما يجري لنا فيه اليوم، فقال: أنتم بطرون، امضوا في طريقكم، فقلنا: ما نبرح إلا بعد ذلك، فأخذ له طالع الوقت غلام كان معه، فقال: أنتم أضياف، فقلنا: طريق فقال: يقدم إليكم فيها السماء بنجومها وللأستاذ أبي الحسن الذي معكم حاجة لا تنقضي، فقال له البتي: لا بشرك الله بخير، ويلك ما هذا مما تدل عليه النجوم، غير أنك قد رزقت حذقاً ردياً لا حياك الله ولا بياك. ثم فارقناه وقصدنا مؤيد الملك فما قضى الحاجة وخرق الرقعة التي للبتي لما عرضناها عليه، فعرفناه خبر شكح المنجم، وما قاله لنا طلباً لأن يرجع عن فعله فما رجع، ومضينا إلى ابن الوتار ونحن نتوقع السماء التي ذكرها، فقدم إلينا في آخر الطعام مقلي النرجسية وقد صبغ بياض البيض والباقلاء واللحم بالنيل حتى صار كزرقة السماء، وطرح صفار اليض عليه فصار كالنجوم، فعجبنا من ذلك واستطرفناه ولم نشتغل عند ابن الوتار في الدعوة ذلك اليوم إلا بحديث شكح المنجم.
20
- نسخة كتاب ورد من ابن بطلان بعد خروجه من بغداد بصورة ما لقي في سفرته إلى الرئيس هلال بن المحسن بن إبراهيم.
بسم الله الرحمن الرحيم، أنا لما أعتقده من خدمة سيدنا السيد الأجل أطال الله بقاءه وكبت أعداءه دانياً وقاصياً، وأفترضه من طاعته مقيماً وظاعناً أضمرت عند وداعي حضرته العالية، وقد ودعت منها الفضل والسؤدد والمجد والفخر والمحتد، أن أتقرب إليها وأجدد ذكري عندها بالمطالعة مما أستطرفه من أخبار البلاد التي أطرقها، أو أستغربه من غرائب الأصقاع التي أسلكها، خدمة للكتاب الذي هو تأريخ المحاسن والمفاخر، وديوان المعالي والمآثر، ليودعه أدام الله تمكينه منها ما يراه، ويلحق ما يستوفقه ويرضاه. وعلى ذكره فما رأيت أحداً بمصر وهذه الأعمال أكثر من الراغب فيه، وكل رئيس في هذه الديار متشوف إليه متشوق
ولوصوله مترقب متوقع، ولو وصلت منه نسخة لبلغ الجالب لها أمنيته في ربحها ونفعها، وإلى الله تعالى أرغب في نشر فضيلته الباهرة ومحاسنه الزاهرة، بجوده.
وكنت خرجت من بغداد وبدأت بلقاء مشايخ البلاد وخواصها، واستملاء ما عندهم من آثارها وعجائبها، فذكر لي أخبار مستطرفة وعجائب غريبة وأقطاع من الشعر رائقة، ولضيق الوقت وسرعة الرسول أضربت عن أكثره واقتصرت على أقله. وكنت خرجت على اسم الله تعالى وبركته مستهل شهر رمضان سنة أربعين وأربعمائة مصعداً في نهر عيسى على الأنبار، ووصلت إلى الرحبة بعد تسع عشرة رحلة، وهي مدينة طيبة وفيها من أنواع الفواكه ما لا يحصى، وبها تسعة عشر نوعاً من الأعناب، وهي متوسطة بين الأنبار وحلب وتكريت والموصل وسنجار والجزبرة، وبينها وبين قصر الرصافة مسيرة أربعة أيام. وهذا القصر يعني قصر الرصافة حصن دون دار الخلافة ببغداد مبني بالحجارة، وفيه بيعة عظيمة ظاهرها بالفص المذهب أنشأها قسطنطين بن هيلانة، وجدد الرصافة وسكنها هشام بن عبد الملك، وكان يفزع إليها من البق في شاطىء الفرات. وتحت البيعة صهريج في الأرض على مثل بناء الكنيسة معقود على أساطين الرخام مبلط بالمرمر مملوء من ماء المطر، وسكان هذا الحصن بادية أكثرهم نصارى معاشهم تخفير القوافل وجلب المتاع، والصعاليك مع اللصوص. وهذا القصر في وسط برية مستوية السطح لا يرد البصر من جوانبها إلا الأفق.
ورحلنا من الرصافة إلى حلب في أربع رحلات وهي بلد مسور بالحجر الأبيض فيه ستة أبواب، وفي جانب السور قلعة في أعلاها مسجد وكنيستان، وفي إحداهما مكان المذبح الذي كان يقرب عليه إبراهيم عليه السلام وفي أسفل القلعة مغارة كان يخبئ فيها غنمه، وإذا حلبها أضاف بلبنها الناس، فكانوا يقولون حلب أم لا ويسأل بعضهم بعضاً عن ذلك، فسميت حلب. وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير، والفقهاء يفتون على مذهب الإمامية. وشرب أهل البلد من صهاريج فيه مملوءة بماء المطر، وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف، وفي وسط البلد دار علوة صاحبة البحتري. وهو بلد قليل
الفاكهة والبقول والنبيذ إلا ما يأتيه من الروم. وفيها من الشعراء جماعة منهم شاعر يعرف بأبي الفتح بن أبي حصينة ومن جملة شعره قوله:
ولما التقينا للوداع ودمعها
…
ودمعي يفيضان الصبابة والوجدا
بكت لؤلؤاً رطباً ففاضت مدامعي
…
عقيقاً فصار الكل في نحرها عقدا وفيها كلتب نصراني له من قطعة في الخمر أظنه صاعد بن عيسى بن سمان:
خافت صوارم أيدي المازجين لها
…
فألبست جسمها درعاً من الحبب وفيها محدث يعرف بأبي محمد ابن سنان قد ناهز العشرين وعلا في الشعر طبقة المحنكين، فمن قوله:
إذا هجوتكم لم أخش صولتكم
…
وإن مدحت فكبف الري باللهب
فحين لم ألق لا خوفاً ولا طمعاً
…
رغبت في الهجو إشفاقاً من الكذب وفيها شاعر يعرف بأبي المشكور مليح الشعر سريع الجواب حلو الشمائل له في المجون بضاعة قوية وفي الخلاعة يد باسطة وله أبيات إلى والده:
يا أبا العباس والفض؟
…
ل أبو العباس تكنى
أنت مع أمي بلا ش؟
…
ك تحاكي الكركدنا
أنبتت في كل مجرى
…
شعرة في الرأس قرنا فأجابه أبوه:
أنت أولى بأبي المذمو
…
م بين الناس تكنى
ليت لي بنتاً ولا أن؟
…
ت ولو بنت يحنا بنت يحنا مغنية بأنطاكية تحن إلى القرباء وتضيف الغرباء مشهورة بالعهر.
قال: ومن عجائب حلب أن في قيسارية البز عشرين دكاناً للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعاً قدره عشرون ألف دينار مستمر ذلك منذ عشرين سنة وإلى الآن. وما في حلب موضع خراب أصلاً.
وخرجنا من حلب طالبين إنطاكية، وبين حلب وبينها يوم وليلة وبتنا في بلدة للروم تعرف بعم وفيها عين جارية يصاد منها السمك، ويدور عليها رحى، وفيها من الخنازير والنساء والعواهر والزنا والخمور أمر عظيم، وفيها أربع كنائس وجامع يؤذن فيه سراً، والمسافة التي بين حلب وإنطاكية عامرة لا خراب فيها أصلاً ولكنها أرض زرع للحنطة والشعير تحت شجر الزيتون، قراها متصلة ورياضها مزهرة ومياهها متفجرة يقطعها المسافر في بال رخي وأمن وسكون.
وإنطاكية بلد عظيم ذو سور وفصيل، ولسوره ثلثمائة وستون برجاً يطوف عليها بالنوبة أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك يضمنون حراسة البلد سنة ويستبدل بهم في السنة الثانية. وشكل البلد كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل والسور يصعد مع الجبل إلى قلته فتتم دائرة، وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها من البلد صغيرة، وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية، وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب، وفي وسطها بيعة القسيان وكانت دار قسيان الملك الذي أحيا ولده فطرس رئيس الحواريين، عليه السلام، وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون، وعليه كنيسة على أساطين، وكان يدور الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة للحكومة ومعلمو النحو واللغة.
وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة بنجام للساعات يعمل ليلاً ونهاراً دائماً أثنتي عشرة ساعة، وهو من عجائب الدنيا، وفي أعلاه خمس طبقات: في الخامسة منها حمامات وبساتين ومعاصر حسنة تخرقها المياه، وعلة ذلك أن الماء ينزل عليها من الجبل المطل على المدينة، وهناك من الكنائس ما لا يحد كثرة، كلها معمولة بالفص المذهب والفضة والزجاج الملون والبلاط المجزع. وفي البلد بيمارستان يراعي البطريرك المرضى فيه بنفسه، ويدخل المجذمين الحمام في كل سنة فيغسل شعورهم بيده، ومثل ذلك يفعل الملك بالضعفاء كل سنة، ويعينه على خدمتهم الأجلاء من الرؤساء والبطارقة التماس التواضع. وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة أخرى لذاذة وطيبة لأن وقودها الآس، ومياهها تسعى سيحاً بلا كلفة. وفي
بيعة القسيان من الخدم المسترزقة ما لا يحصى، ولها ديوان لدخل الكنيسة وخرجها، وفي الديوان بضعة عشر كتابا، ومنذ سنة وكسر وقعت في الكنيسة صاعقة وكانت حالها أعجوبة، وذلك أنه تكاثرت الأمطار في آخر سنة 1393 للإسكندر الواقع في سنة 442 للهجرة وتواصلت أكثر أيام نيسان، وحدث في الليلة التي صبيحتها يوم السبت الثالث عشر من نيسان رعد وبرق أكثر مما ألف وعهد، وسمع في جملته أصوات رعد كثيرة مهولة أزعجت النفوس، ووقعت في الحال صاعقة على صدفة مخيبة في المذبح الذي للقسيان، ففلقت من وجه النسرانية قطعة تشاكل ما قد نحت بالفأس والحديد الذي تنحت به الحجارة، وسقط صليب حديد كان منصوبا على علو هذه الصدفة، وبقي في المكان الذي سقط فيه، وانقطع من الصدفة أيضا قطعة يسيرة، ونزلت الصاعقة من منفذ في الصدفة وتنزل فيه إلى المذبح سلسلة فضة غليظة يغلق فيها الثميوطون، وسعة هذا المنفذ إصبعان، فتقطعت السلسلة قطعا كثيرة وانسبك بعضها، ووجد ما انسبك منها ملقى على وجه الأرض، وسقط تاج فضة كان معلقا بين يدي مائدة المذبح، وكان من وراء المائدة في غربيها ثلاث كراسي خشبية مربعة مرتفعة ينصب عليها ثلاث صلبان كبار فضة مذهبة مرصعة، وقلع قبل تلك الليلة الصليبان الطرفيان ورفعا إلى خزانة الكنيسة، وترك الوسطاني على حاله، فانكسر الكرسيان الطرفيان وتشظيا وتطايرت الشظايا إلى داخل المذبح وخارجه من غير أن يظهر فيها أثر حريق، كما ظهر في السلسلة، ولم ينل الكرسي الوسطاني ولا الصليب الذي عليه شيء، وكان على كل واحد من الأعمدة الأربعة الرخام التي تحمل القبة الفضة التي تغطي مائدة المذبح ثوب ديباج ملفوف على كل عمود، فتقطع كل واحد منها قطعا كبارا وصغارا، وكانت هذه القطع بمنزلة ما قد عفن وتهرأ ولا يشبه ما قد لامسته نار ولا احتراق، ولم يلحق المائدة ولا شيئا من هذه الملابس التي عليها ضرر، ولا بان فيها أثر، وانقطع بعض الرخام الذي بين يدي مائدة المذبح مع ما تحته من الكلس والنورة كقطع الفاس ومن جملته لوح رخام كبير طفر من موضعه فتكسر إلى علو تربيع القبة الفضة التي تغطي المائدة وبقي هناك على حاله، وتطافر بقية الرخام إلى ما قرب من المواضع وبعد، وكان في الجنبة التي للمذبح بكرة خشب فيها حبل قنب مجاور للسلسة
الفضة التي تقطعت وانسبك بعضها معلق فيها طبق فضة كبير عليه فراخ قناديل زجاج بقي على حاله، ولم ينظف شيء من قناديله ولا غيرها ولا شمعة كانت قريبة من الكرسيين الخشب ولازال منها شيء. وكان جملة هذا الحادث مما يعجب منه.
وشاهد غير واحد في داخل إنطاكية وخارجها في ليلة الاثنين الخامس من شهر آب من السنة المقدم ذكرها في السماء شبه كوة تنور منها نور ساطع لامع ثم انطفأ، وأصبح الناس يتحدثون بذلك، وتوالت الأخبار بعد ذلك بأنه كان في أول نهار يوم الاثنين في مدينة غنجرة وهي داخل بلاد الروم على تسعة عشر يوما من إنطاكية زلزلة مهولة تتابعت في ذلك اليوم وسقط منها أبنية كبيرة وخسف موضع في ظاهرها، وكان هناك كنيسة كبيرة وحصن لطيف غابا حتى لم يبق لهما أثر، ونبع من ذلك الخسف ماء حار شديد الحرارة كثير النبع المتدفق، وغرق منه سبعون ضيعة، وتهارب خلق كثير من تلك الضياع إلى رؤوس الجبال والمواضع المرتفعة العالية فسلموا، وبقي ذلك الماء على وجه الأرض سبعة أيام، وانبسط حول هذه المدينة مسافة يومين ثم نضب، وصار موضعه وحلا، وحضر جماعة ممن شاهد هذه الحال فحدثوا بها أهل إنطاكية على ما سطرته، وحكوا أن الناس كانوا يصعدون أمتعتهم إلى رأس الجبل فيضطرب من عظم الزلزلة فيتدحرج المتاع إلى الأرض.
وفي ظاهر البلد نهر يعرف بالمقلوب يأخذ من الجنوب إلى الشمال وهو مثل نهر عيسى وعليه رحى ويسقي البساتين والأراضي.
وخارج البلد دير سمعان، وهو مثل نصف دار الخليفة يضاف فيها المجتازون، ويقال إن دخله في السنة أربعمائة ألف دينار، ومنه يصعد إلى الجبل اللكام، وفي هذا الجبل من الديارات والصوامع والبساتين والمياه المتفجرة والأنهار الجارية والزهاد والسياح وضرب النواقيس في الأسحار وألحان الصلوات ما يتصور معه الإنسان أنه في الجنة. وفي إنطاكية شيخ يعرف بأبي نصر ابن العطار قاضي القضاة فيها، له يد في العلوم، مليح الحديث والإفهام.
وخرجت من إنطاكية إلى اللاذقية وهي مدينة يونانية لها ميناء وملعب وميدان للخيل مدور، وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كنيسة، وكان في أول الإسلام مسجدا، وهي راكبة البحر، وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وأذان في أوقات الصلوات الخمس. وعادة الروم إذا سمعوا الأذان أن يضربوا الناقوس، وقاضي المسلمين الذي بها من قبل الروم. ومن عجائب هذا البلد المحتسب يجمع القحاب والغرباء والمؤثرين للفساد من الروم في حلقة وينادي على كل واحدة منهن وتتزايد الفسقة فيهن لليلتها تلك، ويؤخذن إلى الفنادق التي هي الحانات لسكن الغرباء بعد أن تأخذ كل واحدة منهن خاتما هو خاتم المطران حجة بيدها من تعقب الوالي لها فإنه متى وجد خاطئا مع خاطئة بغير ختم المطران ألزمه جناية. وفي البلد من الحبساء والزهاد في الصوامع والجبال كل فاضل يضيق الوقت عن ذكر أحوالهم والألفاظ الصادرة عن صفاء عقولهم وأذهانهم (1) .
- 21 - (2)
وحكى غرس النعمة محمد بن الرئيس أبي الحسين هلال بن المحسن ابن إبراهيم الصابئ قال: كان والدي اعتل في المحرم من سنة ست وثلاثين وأربعمائة علة صعبة، وكان أبو الحسن ابن سنان جاريا على عادته في هجرانه، فراسلته وسألته الحضور فوعد وأخلف، ومضت إليه نسوة من أهله وأهلنا قبحوا عليه ما فعله وهو يعد ويخلف، والرئيس أبو الحسين يزيد في مرضه إلى الحد الذي غاص ولم يعقل، وبقي كذلك عشرين يوما في النزع، وقام يكسر طارمة خيش كان فيها وإلى أبواب عرضى يروم قلعها، وذكر النساء أن ذلك نوع من النزع يعرفنه ويعهدنه، وبعدن عن الدار وتركنه واشتغلن باللطم والبكاء عليه، وخرجت إلى دار الرجال وجلست جلوس التعزية، وإذا به قد دخل علينا وكان عندي جماعة من أصدقائنا فبقي داهشا وقال لهم: مات؟ فقالوا: هو في ذلك، فقلت: يا أبا الحسن مات جالينوس وعاش الناس بعده، وأما الرجل فميت، وما بنا إلى رؤيتك
(1) هذه الرسالة لم تكمل، انظر ياقوت 4:1003.
(2)
تاريخ الحكماء: 398 - 402 (ولم يصرح أنها من كتاب الربيع) .
ومشاهدتك من حاجة، فلم يجبني، ونهض فدخل إليه ورآه وصاح بي إليه وقال: دع عنك هذا الكلام الفارغ وأحضر من الغلمان من يمسكه ويصرعه، ففعلنا ذلك، وصاح به: يا سيدنا يا أبا الحسين أنا أبو الحسن ابن سنان وما بك بأس، ولو كان بك بأس ما رأيتني عندك، فساعدنا على الدواء، وأراد بذلك تقوية قلبه، فمد يده إليه وتشبث به وقال ما لم يفهم لأن لسانه ثقل، وأخذ مجسه فلم يجده، وأخذه من كعبه فقال: أريد كبد دجاجة مشوية ومزورة وخبزا، فأحضر ذلك وأطعمه الكبد ثم قال: أردت كمثراة زرجونا وتفاحة فإن وجدتم ذاك كان صالحا، وكنا ننزل في باب المراتب، فأنفذت غلاما إلى الجانب الغربي يلتمس ذاك من الكرخ، فحين خرج إلى باب الدار رأى مركبين لطيفين فيهما الكمثرى والتفاح المطلوبان، وأنه لم يكن بيع منهما شيء ولا بلغ إلى حد البيع، وإنما أهديت إلى أبي عبد الله المردوسي؟ وكان في جوارنا؟ إطرافا له بها، فاتفق من السعادة مصادفتنا لها، فعرف الغلام من حمل إليه ذلك، فأنفذ منهما شيئا وأطعمه كمثراة وتفاحة جعلهما في ماء الورد أولا، وتركه إلى وسط النهار، وأطعمه خبزا بمزورة، وهو صالح الحال منذ أكل الكبد المشوية ورجع مجسه ونبضه وسكن مما لحقه، ونحن قد دهشنا مما اتفق وجرى، والنساء يقبلن رأس ابن سنان ومنهن من تقبل رجله. ثم قال: هؤلاء الأطباء يغدون إليكم ويروحون يأخذون دنانيركم ما يقولون لكم في هذا المرض وبأي شيء يطبونكم، فقلت: أما قولهم فهو: آسقوه ما أردتم فما بقي فيه شيء يرجى، وأما علاجهم، فإن أحدهم سقاه شربة سهلة في ليلة السابع فقال: يكفي هذا هو أصل ما لحقكم، فإنه شغل الطبيعة في ليلة البحران بدواء مسهل وجرها ودفعها عن التمييز البحراني ومنعها، فاختلط الرجل. فقلت: كذا كان، فإنه منذ تلك الليلة اختلط وغاص، فقال لي: اعلم يا سيدي أنني ما تأخرت عنه إلا علما بأنني لا أخاف عليه إلى يومنا هذا، والقطع الذي عليه في مولده فالليلة هو، ولما تعلق قلبي بها جئت فيها، فأما أن يموت وإما أن يصبح معافى لا مرض به، قلت: فما علامة السلامة؟ قال: أن ينام الليلة ولا يقلق، فإن نام أنبهه سحرا حتى يكلمك ويحدثك ويعقل عليك، وأخرجه بالغداة يمشي إلى الدار من العرضى ويجلس ويشرب ماء الشعير من يده، وإن قلق لم يعش الليلة، وجلس عنده لا يأكل ولا
يشرب إلى العتمة. فلما دخل الليل سكن الرئيس من القلق ونام، فقال الطبيب لي: قم أقر الله عينك فقد برئ واطلب شيئا نأكل، فأكلنا ونمنا عنده وهو نائم نوما طبيعيا، والطبيب يوصي كل من هناك بأن يوقضوه نصف الليل، ويعلمنا صحة قوله، فوالله لقد نام الجميع إلى السحر فلم يحسوا بشيء إلا بالعليل يصيح بأبي الحسن: يا أبا الحسن؟ بلسان ثقيل وكلام عليل؟ فوقعت البشائر، وانتبهت والطبيب، فأملى علينا مناما رآه فقال: رأيت الشريف المرتضى أبا القاسم الموسوي نقيب العلويين؟ وكان حيا في الوقت؟ وقد رثى الرئيس بقصيدة عينية لما بلغه وقوع اليأس منه لما كان في نفسه منه، وكأنه وأولاده وخلقاً عظيماً قاصدون مقابر قريش، وقد وقع في نفسي أن القيامة قد قامت، فعدلت إلى المرتضى وجلست عنده وجاءه أبو عبد الله ولده فساره بشيء فقال: هاته، ففلان منا، فأحضره جاما حلوا وأكلنا، ثم نهض فركب وقال: قدموا له ما يركب، ومضى الناس جميعهم معه حتى لم يبق غيري وأنا أطلب شيئا أركبه فما رأيته، وسمعت صائحا يصيح ورائي النجاة النجاة، فأثبتنا المنام وهنأناه بالسلامة، وخرج باكرا بنفسه إلى الدار وجلس على سرير في وسطها، وشرب ماء الشعير بيده كما قال الطبيب، إلا أنه بقي مدة لا يعرف الدار ويقول: يا أبا الحسن أي دار هذه من دورنا؟ وأنا أبين له وأشرح، وهو لا يعرف ولا يفهم ولا يتحقق. ووصلنا غدوة تلك الليلة أبو الفتح منصور بن محمد بن المقدر المتكلم النحوي الأصفهاني متعرفا لأخباره فقال له: رأيت يا سيدنا البارحة في المنام وكأني عابر إليك وأنا مشغول القلب بك إنسانا يقول لي: إلى أين تمضي؟ فقلت: إلى فلان فهو على صورة من المرض، فقال لي: قل له اكتب في تاريخك وتقويمك ولد هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، يومنا ذاك، وعاش إلى شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وتوفي بعده الجماعة التي كانت في تلك الحال من الأصدقاء والأطباء والرؤساء والكبراء والعلماء الذين كانوا متألمين له متحسرين عليه وجلين لمفارقته، وتوفي المرتضى ورثاه الرئيس أبو الحسين بقصيدة عينية.