المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لأبي الحسن علي بن محمد بن نصر الكاتب - شذرات من كتب مفقودة في التاريخ - جـ ٢

[إحسان عباس]

فهرس الكتاب

- ‌أبو القاسم أونوجور بن الإخشيد

- ‌سيرة سيف الدولة

- ‌لأبي الحسن على بن الحسين الزراد الديلمي

- ‌شذرات من كتب مفقودة

- ‌في الأدب

- ‌كتاب المفاوضة

- ‌لأبي الحسن علي بن محمد بن نصر الكاتب

- ‌كتاب الربيع

- ‌لغرس النعمة أبي الحسن محمد بن هلال

- ‌نزهة الناظر

- ‌لكمال الدين أبي محمد عبد القاهر بن علوي ابن المهنا

- ‌جزء فيه مراثي بني المهذب المعريين

- ‌جزء جمع فيه ما رثي به أبو العلاء المعري

- ‌كتاب الدّيرة

- ‌لأبي الحسن عليّ بن محمد بن المطهر الشمشاطي

- ‌ذيل الخريدة وسيل الجريدة

- ‌للعماد الأصفهاني

- ‌كتاب الأوراق للصولي

- ‌ملحقات

- ‌مقدمة

- ‌تاريخ ابن الأزهر

- ‌ سير الثغور

- ‌[مقدمة الكتاب]

- ‌[فضائل الثغور وطرسوس بخاصة]

- ‌[الكتابات والنقوش في طرسوس]

- ‌[أسوار طرسوس وأبراجها]

- ‌[سكك طرسوس ودورها]

- ‌[عمارة طرسوس]

- ‌[نظام النفير في طرسوس]

- ‌[الاستصراخ لإنقاذ طرسوس]

- ‌[حصن المصيصة]

- ‌[اقليقية]

- ‌حصن ثابت بن نصر

- ‌[حصن عجيف]

- ‌[حصن الجوزات]

- ‌ تاريخ همام بن الفضل

- ‌البداية والنهاية

- ‌لأبي الحسن عليّ بن مرشد بن منقذ

- ‌ كتاب الربيع

- ‌لغرس النعمة أبي الحسن محمد بن هلال

الفصل: ‌لأبي الحسن علي بن محمد بن نصر الكاتب

- 23 - (1)

‌كتاب المفاوضة

‌لأبي الحسن علي بن محمد بن نصر الكاتب

372 -

437/983 - 1046

(1) انظر معجم الأدباء 5: 283 - 287 وتاريخ بغداد 12: 17 والمنتظم 8: 46 وإنباه الرواة 2: 297 وابن خلكان 3: 336 وسير أعلام النبلاء 17: 392.

ص: 287

فراغ

ص: 288

هو أخو عبد الوهاب بن محمد بن نصر القاضي المالكي المشهور (1)، الذي يقول فيه أبو العلاء المعري حين زاره فى المعرة (2) :

والمالكي ابن نصر زار في سفر

بلادنا فحمدنا النأي والسفرا

إذا تفقه أحيا مالكا جدلا

وينشر الملك الضليل إن شعرا وكان أبوهما محمد بن نصر قاضيا على بعض الأرباع ببغداد من غير تسمية بالقضاء (3) .

ولد علي ببغداد وبها نشأ، واتجه نحو الأدب والترسل - في آخر المطاف - مثلما اتجه أخوه نحو الدراسات الفقهية، غير أنه قبل ذلك حصل ضروبا من الثقافة على شيوخ العصر، ومن أهم شيوخه فى النحو أبو الحسن الربعي (4) وأبو الحسن الزعفراني البصري (5) .

(1) توفي القاضي عبد الوهاب سنة 422 بعد أن هاجر إلى مصر، انظر ترجمته في تاريخ بغداد 11: 31 والمنتظم 8: 61 والذخيرة لابن بسام 4: 515 وسير أعلام النبلاء 17: 429 وابن خلكان 3: 219 (وفي حاشيتي الذخيرة وابن خلكان ذكر لمصادر أخرى) .

(2)

شروح السقط 220 وابن خلكان 3: 220 وسير أعلام النبلاء 17: 430.

(3)

معجم الأدباء (مخطوطة كوبريللي) ، وكانت وفاة الأب سنة 391.

(4)

علي بن عيسى الربعي أبو الحسن تتلمذ على السيرافي ثم على أبي علي الفارسي بشيراز وأقام في صحبة الثاني عشرين سنة ثم رجع إلى بغداد يعلم فيها النحو حتى وفاته سنة 420.

(5)

انظر إنباه الرواة 4: 109 وبغية الوعاة 1: 268 والقطعة رقم: 38.

ص: 289

وقد مكنته ثقافته من أن يصبح أولا كاتبا للوزير أبي العباس عيسى بن ماسرجيس ثم كاتبا لديوان الرسائل في أيام جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة (1) ، وإن لم يتردد في الرسائل بينه وبين الملوك (2) ، وهو يحدثنا في كتابه " المفاوضة " عن اتصال أسفاره بين البصرة وواسط والأهواز ناقلا رسائل عن السلطان (3) ، وفي إحدى المرات خرج إلى البصرة برسالة إلى من يلقب " ظهير الدين ". وبعد أن أدى المهمة المنوطة به ونوى العودة بعث إليه ظهير الدين بكسوة ونفقة، فاحتشد من حوله عدد من طلاب المنفعة يحاولون مشاركته فيما ناله من عطاء (4) .

وقد وصف بالذكاء والفطنة ولطف الفهم وسجاحة الخلق وحسن المداراة (5) . ويؤخذ من كتابه المفاوضة أنه كان شديد التدقيق في شؤون الكتابة إذ يستوقف نظره أن يجد " لعمرك "، و " لعمري " قد أدخلت فيها الواو قياسا على " عمرو " ويسأل أستاذه الربعي عن صحة ذلك (6) ، ويرى كاتبا يخط " لم أقر " - دون همز - فينبهه إلى أن ذلك لا يجوز (7) ، ولا يخلو من ميل إلى المماحكة والمكايدة (8) ومن متابعة الأمور إلى نهايتها دون فتور أو كلل (9) ومن سرعة الفيئة

(1) جلال الدولة أبو طاهر اسمه فيروزجرد، تولى الملك بعد أخيه مشرف الدولة أبي علي الذي توفي سنة 416 وأقام في الحكم سبع عشرة سنة (انظر المنتظم 8: 118 وسير أعلام النبلاء 17: 408، 577) .

(2)

معجم الأدباء: (مخطوطة كوبريللي) .

(3)

انظر القطعة رقم: 2 في هذا المجموع.

(4)

انظر القطعة رقم: 3.

(5)

معجم الأدباء: (مخطوطة كوبريللي) .

(6)

القطعة رقم: 5.

(7)

القطعة رقم: 6.

(8)

انظر القطعتين رقم: 8، 9.

(9)

انظر القطعة رقم: 10 وإلحاحه على المطرز أن يفي بوعده فينشئ قصيدة ليس فيها حرف ينقط.

ص: 290

إلى الحق إذا نبه إليه، كما حدث له حين نبه إلى خطأه في لفظ " أصلح " بدلا من " أصلخ "(1) .

وأصبح علي بحكم منصبه ومكانته الأدبية على معرفة بكثير من رجال الحكم وأهل السياسة، كما كانت علاقته وثيقة بكتاب العصر وشعرائه، مثل أبي الفرج الببغا وأبي الحسن السلامي وأبي طاهر علي بن الحسن الحمامي وأبي نصر ابن نباتة، وكتاب المفاوضة معرض لمثل تلك العلاقة.

وهو يحدثنا أنه كان يكاتب أبا الفرج الببغاء ويزوره بصحبه أخيه القاضي (2) وعن الببغا وعن أبي القاسم الرقي منجم سيف الدولة عرف كثيرا من أخبار بلاط سيف الدولة وأحوال الناس الذين يلتفون حوله (3) .

ومن غرائب ما حدث له متصلا بصديقه ابن نباتة (4) أنه زاره - وهو في مرض الموت - بمدينه واسط، وقعد عنده قليلا، فأنشده ابن نباته قوله (5) :

متع لحاظك من خل تودعه

فما إخالك بعد اليوم بالوادي وانصرف ابن نصر من عيادته، فبلغه الخبر وهو في طريقه منصرفا أن ابن نباتة قد قضى نحبه. وتشاء الأقدار أن يحدث الشيء نفسه في حال ابن نصر هذا، فقد غادر البصرة ذاهبا إلى واسط فمرض فيها مرض الموت، وزاره هنالك

(1) القطعة رقم: 7.

(2)

القطعة رقم: 12.

(3)

توفي الببغاء سنة 398، انظر: اليتيمة 1: 236 وتاريخ بغداد 11: 11 والمنتظم 7: 241، وابن خلكان 3: 199 وسير أعلام النبلاء 17: 91.

(4)

أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة، توفي سنة 405، انظر ترجمته في اليتيمة 2: 379 وتاريخ بغداد 10: 466 والمنتظم 7: 274 وابن خلكان 3: 190 وسير أعلام النبلاء 17: 234 وقد نشر ديوانه في جزءين (بغداد 1977) بتحقيق عبد الأمير مهدي حبيب الطائي.

(5)

لم أجد البيت في ديوانه.

ص: 291

أبو غالب محمد بن أحمد بن سهل، فأنشده البيت المذكور، وفى تلك الليلة نفسها كانت وفاته بواسط، أي عام 437 (1) .

ويقول الذهبي إنه كان من الشعراء المذكورين (2) ولكن المصادر التي أوردت بعض أخباره لم تورد له شعرا، وإنما عرف بشيئين: رسائله وكتابه " المفاوضة " وفي المفاوضة نفسه شذرات من ترسله، ولكن توليه ديوان الرسائل يفترض أنه كانت له رسائل جمعت على حدة.

أما كتاب " المفاوضة " فقد ألفه لخسرو فيروز الملقب بالملك العزيز أبي منصور بن أبي طاهر جلال الدولة، وكان يلي إمرة واسط نيابة عن أبيه، كما كان هو نفسه شاعرا بارعا في الأدب (3) . ويقول ابن خلكان إن الكتاب يقع فى ثلاثين كراسة وأنه من الكتب الممتعة وأنه اعتمد فى تأليفه على تدوين مشاهداته (4) ، أما أنه من الكتب الممتعة فذلك أمر واضح في المادة التي بقيت لدينا من الكتاب، وأما أنه اعتمد في تأليفه على مشاهداته، فإن كانت المشاهدة هنا تعني الرواية المباشرة فذلك أيضا صحيح.

ويعني ب " المفاوضة " الأخذ والرد، محاورة، أو مكاتبة أو رواية، وعنوان الكتاب يمكن أن يقرن ب " المقابسات " للتوحيدي على اختلاف في الموضوع، فهو ليس محاورات فكرية، وإنما هو في مجمله ذو طابع أدبي، ويمكن أن يقرن

(1) ابن خلكان 3: 192 هذا وقد بسط ياقوت بعض الشيء ترجمته في معجم الأدباء (مخطوطة كوبريللي) وذكره ابن خلكان في ترجمة أخيه 3: 222 وكذلك فعل الذهبي في سير أعلام النبلاء 17: 432 وانظر الديباج المذهب 2: 29 (وجعل وفاته سنة 430) وشذرات الذهب 3: 225.

(2)

سير أعلام النبلاء 17: 432.

(3)

بقي الملك العزيز في ملك مزلزل مدة سبعة أعوام، ولما مات أبوه (435) فارق مدينة واسط وأقام عند أمير العرب دبيس بن مزيد ثم توجه إلى ديار بكر منتجعاً للملوك وقد تلاشى حاله، وأدركته منيته بظاهر ميافارقين سنة (441) (سير أعلام النبلاء 17:632.

(4)

وفيات الأعيان 3: 222 وبغية الطلب 6: 159 وكشف الظنون 2: 1758.

ص: 292

بكتاب " نشوار المحاضرة " أو ما ألف على مثاله ككتاب " الربيع " لغرس النعمة محمد بن هلال الصابي، فهذه الكتب تجمع بين الفائدتين الأدبية والأجتماعية، مع إلقاء بعض الضوء على جوانب دقيقه من الحياة السياسية.

وقد كان الكتاب مصدرا لعدد من المؤلفين، وفى مقدمتهم ياقوت والقفطي وابن العديم (1) ، وعن هؤلاء وعن غيرهم جمعت هنا أربعين قطعه، وتمثل القطع 1 - 12 ما نقله ياقوت في ترجمة المؤلف في كتابه معجم الأدباء، وهي ترجمة أخلت بها المطبوعة.

- 1 - (2)

قال ابن نصر: لقد قرأت في كتاب لأبي القاسم هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة - يعني صاحب البطيحة - وكان رجلا جم العلم دقيق الفهم، وكان يكتب الكتب الطوال في الفتوح وغيرها، قرأت في فصل له إلى أبي الخطاب المنجم المستولى على دولة بهاء الدولة بن عضد الدولة:" وكنت واعدا نفسي إنجاز ما سبق من شريف مواعيد الحضرة البهية، لوفور حظي من ملاحظة كرم الاهتمام " فقال لي الوزير أبو العباس عيسى بن ماسرجيس، وكنت اكتب له حينئذ، أنى يفهم هذا الكلام اليوم؟ قلت: نجتهد، فتأملناه فوجدناه صحيحا، إلا أن طريقه كان وعرا.

(1) كانت النسخة التي اطلع عليها ابن العديم من كتاب المفاوضة بخط المؤلف.

(2)

مهذب الدولة: هو أبو الحسن علي بن نصر، ولي أمر البطيحة بعد خاله المظفر بن علي الحاجب الذي استقل بأمر البطيحة، وكان وفاة المظفر سنة 376، وقد نشر مهذب الدولة الخير والإحسان فصارت البطيحة في أيامه معقلاً لمن قصدها، واتخذها الأكابر وطناً وبنوا فيها الدور الحسنة، وتزوج مهذب الدولة ابنة بهاء الدولة البويهي وكانت وفاته سنة 408، أما كاتبة هبة الله بن عيسى - فكان فيما يقول ابن الأثير - من الكتاب المفلقين ومكاتباته مشهورة وكان ممدحاً، وممن مدحه ابن الحجاج، وتوفي سنة 405 (انظر صفحات متفرقة من الجزء التاسع من تاريخ ابن الأثير) .

ص: 293

- 2 -

قال: وكتب إلى أبو عبد الله ابن ضبر القاضي صديقنا رحمه الله في كتاب، وقد اتصلت أسفاري بين البصرة وواسط والأهواز، مترددا عن السلطان في رسائل:

أصبو إليك مع البعاد صبابة

أصلى بها كلهيب حر النار

وإذا تباعدت الديار فإنني

أرضى وأقنع منك بالأخبار

وإذا الديار دنت بعدت فكيف لي

بدنو قلب مع دنو الدار - 3 -

وحدث ابن نصر في كتابه حاكيا عن نفسه قال، حدثني الأستاذ أبو عبد الله محمد بن شاذان بالبصرة، وهو إذ ذاك يكتب لظهير الدين، وقد خرجت إليه في رسالة، فلما أزمعت الانصراف حمل إلي كسوة ونفقة إلى دار أبي عبد الله، وحضر أصحابه يتنجزون رسوما جرت العادة بها، وكثروا علي، فقال أبو عبد الله: حالنا هذه تشبه حال أبي أحمد النهرجوري (1) ، فإنه مدح أبا الفرج منصور بن سهل المجوسي عامل البصرة، فأعطاه صلة حاضرة هنية، والتف به الحواشي فطالبوه، فكتب رقعة ودفعها إلى بعض الداخلين إليه وقال له: سلم هذه إلى الأستاذ، وفيها:

أجازني الأستاذ عن مدحتي

جائزة كانت لأصحابه

ولم يكن حظي منها سوى

جهبذتي يوما على بابه قال: فلما وصلت الرقعة خرج في الحال من صرف الحواشي عنه، وصار معه حتى دخل منزله.

- 4 -

وقال: رأيت في المنام كأني أكتب إلى بعض أصدقائي، وقد وقع لي أنه سرق شيئا من كلامي:" عمدت إلى شتائت ألفاضي وبدائد كلامي فغصبتنيها، فيا للصوص الكتابة، ويا لحزني عليه والكآبة " واستيقظت فعلقت ذلك.

(1) انظر أيضاً بقية القصة في معجم الأدباء 2: 122 (مرغوليوث) .

ص: 294

- 5 -

وقال: قال لي الشيخ أبو الحسن الربعي، وقد سألته عن " لعمرك " و " لعمري " والقسم بذلك، وأعلمته أني رأيت بخط بعض الناس فيه واوا، وقلت له: إن الواو لا مدخل لها ها هنا فإنها دخلت على " عمرو " للفرق بينه وبين عمر، وهذا قسم ولذلك دخلت اللام فيه، فقال أخطأ وأصبت، وتكلم في اللام الداخلة على " عمري " وقال: إن اللام في قولهم: لزيد قائم تفيد أمرين: أحدهما التأكيد والآخر تقدير استقبال القسم، وهى من قولهم " لعمري " لا تفيد سوى التأكيد، لأن عمري قسم، والقسم لا يدخل على قسم، وتكلم في ذلك بما طال، ثم قال لي: أعد، فأعدت ما قال بعينه، ونحن إذ ذاك في دار أبي غالب ابن الثلاج، وهو يقرأ عليه، فقال له: يا أباغالب، هذا هو الذكاء الكبريتي، قال: وكيف يا سيدي؟ قال: هكذا ذكاء العرقيين. وحدثنا قال: كان يقرأ على أبي علي الفارسي فتى من أهل نسا، وكان بعيدا بليدا، وهو يقبل عليه ويصرف همته إليه، وأهل المدرسة يحيطون بدروسه دونه، وأبو علي يغتاظ من الترديد الذي يقصد به إفهامه، ويفهم غيره، فقال لنا يوما: الذكاء على أربع طبقات: فأولها الذكاء الكبريتي، وهو ذكاء العراقيين، فإنهم يفهمون سريعا وينسون ذريعا، وثانيها طبقات أهل العلم، وهم يفهمون على بطء ما ولا يكادون ينسون سريعا، وثالثها طبقات أهل [؟] وهم الذين يفهمون سريعا ولا ينسون، ورابعها طبقه هذا الفتى، وهو الذي لا يكاد يفهم إلا بعيدا وينسى قريبا، فاستحيى الفتى ولم يره في مجلسه بعدها.

- 6 -

قال: ورأيت كاتبا جالسا إلى جانبي وقد كتب كتابا افتتحه بأن قال: " لم أقر لمولاي كتابا منذ كذا " فلما فرغ من الكتاب كله تأمله ثم طواه ولم يغير شيئا، فقلت له: لا يجوز " لم أقر " فإن هذه همزه، والهمزة حرف صحيح يجرى بوجوه الإعراب، وعلامة الجزم فيه حذف حركته، فأعرض عني وأعطى الكتاب لغلامه وقال له: ألصق هذا وأنفذه، فأمسكت حينئذ.

ص: 295

- 7 -

قال: وأذكر وقد حضرت مجلسا في الحداثة فوصف رجل بالطرش، فقلت، هو أصلح؟ وصحفت - وكان إلى جانبي أبو عبد الله الحسين الشاعر المعروف بالخالع، فقال لي: صحفت، هو أصلخ - بالخاء المعجمة - فقلت: جزى الله الشيخ خيرا وأفاده وأثابه، فجذبني إليه وقبلني وقال: هذا هو الفلاح.

- 8 -

قال: وحدثني أبو نصر العلاء بن الفيرزان الوزير - وكان هش المحادثة طيب المحاضرة كثير المزح، لولا شر كان كامنا فيه، وسمعته يقول: حفظت " كتاب بغداد " لابن أبي طاهر وقرأته عشرين دفعة من أوله إلى آخره، وقرأت التاريخ لأبي جعفر بالفارسية والعربية، واتفق ان اشتكت عيني فتأخرت عنه، وعلم بذاك فأنفذ إلي غلاما ومعه صرة فيها خمسمائة درهم، فتركها بين يدي، ومعها من البياض قطعة مثل الزيق في طوله وعرضه، وانصرف ولم يخاطبني بلفظة، فلما فتحت عيني تأملت الكاغد وإذا فيه:

وخذ القليل من اللئيم وذمه

إن القليل من اللئيم كثير وحملت إليه في ليلة نوروز دينارا روميا ودرهما خسروانيا وجزءا فيه أخبار منشورة من كل نوع، وكتبت إليه رقعة نسختها: أخرني عن حضرة سيدنا السيد الأجل [أطال] الله بقاءه عذر يسقط معه العتب، ويغفر لأجله الذنب، ومن المعاذر ما تعزف النفس عن ذكره، وتشوف إلى طيه وستره، لاسيما عن الأقلام التي تحفظ أسطارها، وتبقى على الدهر آثارها، وقد أقمت سنة الخدمة بجزء يصلح لخلوة الأنس، ويجمع أوطار النفس، ليس بجسيم يستجفى ولا ضئيل يحتقر ويزدرى، قد يحتوى من الاعتدال بين الواطي والعال؟ ؟ وتضل الأفهام في حزونته اللفظة الواحدة من مضمونه فقر الفضل وعيونه. ودينار ودرهم من ضرب كسرى وقيصر، فمن مثلي في ظرف هديتي، ومن يساجلني إذا جملني بقبولها

ص: 296

وشرفني. لا أخلاه الله من نعم يفيضها عليه، ولا أعدمه تابعا يزدلف بالطرف إليه، بمنه وطوله، وجوده وفضله، إنه على كل شيء قدير.

قال: فأنفذ إلى جزءا بخط أبي الحسن ابن هلال ودينارا مصنوعا فيه عشرون مثقالا ودرهما مثله، وكتب إلي: ما رأيت مثل سيدنا - أطال الله بقاءه وجعلني فداءه - (وهكذا عادته في مكاتبتي) يحسن ويعتذر، فإنه قد أوجب بتأخره منة، وكفاني ببعده مؤونة، وقد أنفذت جزءا لا أصفه، ودينارا ودرهما لا أنعته، وإذا تأمل ما حملته إليه وحمله إلى وجد قدر التفاوت بيني وبينه، والسلام.

قال: وكان مزاحا مطرابا مؤثرا لهذا الفن، غير أنه كان يغلب عليه الشر، وكان تاب أن لا يضرب أحدا في يوم جمعة، ورايته في وقت الصلاة يوم جمعة من الجمعات وقد أمر بضرب أبي الطيب ملول بن فضلان الصيرفي الجهبذ، فسألته وذكرته العهد، فقال: إنما تبت أن أضرب بالمقارع، فقلت: هذا تأول طريف في اليمين.

- 9 -

وقال: حمل إلي الوزير أبو نصر العلاء بن الفيرزان - وهو إذ ذاك عامل في البصرة - ثيابا في بعض الفصول، ولم تجر العادة بها، وآثر أن يكتمها عن القاسم أبي الصالح كيوس أمير البصرة حينئذ خصوصا، وعن الكافة عموما، وكان في جملتها دراعة سقلاطون، وكتب يعتذر ويذكر أنه لم يجد ثوبا يشبهها، ووصفها وأطال، وكان أصلح ما وصفها به قوله: لم تبتذلها العيون فى المجالس، ولا افترع جيبها جيد لابس، فأنفذتها بخاتم ربها إلى مستحقها وتربها، وفي هذا بعض العهدة، ومن ينتقده من أهل الصنعة يعرفه. فكتبت إليه، وأعتمدت كسره بذمها: وصلت تحفة سيدنا الأجل وقبلتها على تجعدي من مثلها، ووجدته قد خص الدراعة منها بصفته، وأظهر فيها مكنون بلاغته، ولو أفرج لي عن ذلك لكان أحسن، وتركني وإياه لكان أشبه وأزين، وبعد فلكل موصوف عائب، ولكل ممدوح ثالب، وأظنه نسي أو تناسى أنه حكم فيها شبا الحديد، فبضعها من القدم إلى الوريد

ص: 297

حتى إذا جزأها أجزاء، وجعلها مبدده أشلاء، عاد يصلح ما أفسد من حالها، ويجمع ما فرق من أوصالها، فكم من صورة مستحسنة قدحها وعابها، ودائرة مستقيمة قطعها فشانها، فأصبحت بعد الجسم الممسد، والاسم الرائق المفرد، ذات البنائق والأركان، وصاحبه الدخارص والجربان. هذا وكيف تكون بختامها وعنده من كبدها فلذة، وفى خزائنه من أعضائها فضلة، وعلى ذلك فالشكر عنها مبذول، وحبل الثناء بها موصول، والسلام.

قال: فلما كان من الغد التقينا في دار القاسم فقال: لعنك الله فإنك كافر للنعمة، ولعنني حيث تعرضت بك في الكتابة، وقد أنفذت إليك فضلة الثوب، لا بارك الله لك فيه ولا فيها.

قال ابن نصر: وهذا الخبر عكس ما لحقني مع أبي عمرو سعيد بن سهل العارض، فإنه دخل يوما إلى دار الوزارة بالبصرة وجعل ينتظر الإذن، فقلت لغلامي: امض إلى أبي العباس الكوفي البزاز وخذ منه الثوب السقلاطون المعمد الذي عزلته للدراعة، وأذن لأبي عمرو، فدل وما ظننته تسمع علي، ومضى الغلام فلم يصادف البزاز، وانصرفت آخر النهار إلى داري وإذا فيها دراعة سقلاطون معمدة في نهاية الحسن، فسألت عنها فقيل: جاء رجل وقال: أنا صاحب أبي عمرو العارض، خذوا هذه الدراعة، قلت: وكان معها رقعة؟ قيل لا، فكتبت إليه من الغد: للفواضل؟ أطال الله بقاء الأستاذ الرئيس؟ فضائل تتميز بها وتستطيل بمكانها على أضرابها، منها: أن ترد بكرا لم يفترعها السؤال، وتقطع عرضا لم تحتسبها الأمال، فتلك الشربة العذبة للظامي، وأصابة الشاكلة عند الرامى، كتحفته التي جاءت مسيرة كالجداول، مذهبة كالأصائل، معدلة بحسن التقدير والتوفيق، منزهة عن فحش السعة والضيق، محلولة الجيب والجيوب مزرورة، مكشوفة الفرج والفروج مستورة، فهي من بدائع صورها، ووشائع حبرها، كالرياض الرائعة والبروق اللامعة، سلكها دقيق، ومنظرها أنيق، كأنما عدلت بمعيار، أو دير ذيلها على بركار، لابسها مختال، ومانحها مفضال، قد سيرها بفضله المكتوم، وشهرها بعرفه النموم، فطويتها طي المكرم الضنين، ونشرت الشكر عنها نشر الخاطب المبين، وأفردتها عن أشكالها وإن عز المشاكل، وجعلتها زينة للمواكب

ص: 298

والمحافل، والله تعالى يزيده كرما وفضلا، ويجعله لادخار كل منقبة أهلا، إنه على كل شيء قدير.

- 10 -

قال: حدثني أبو القاسم عبد الواحد بن محمد المطرز الشاعر (1) أن صديقا له كتب رقعة مذ خمسين سنة مشتملة على غرض له بألفاظ ليس فيها حرف ينقط، وأنه استصعب ذاك واقترح أن أكتب إليه رقعة على هذه الطريقة ليجيب عنها بشعر، قال: وكنت أسميه " الشيخ العالم " مزاحا، وكان المطرز يغضب من هذا اللقب:

العالم الأوحد؟ أطال الله عمره وأدام سعده، محل العصمة ودارها، ومعرس الحكمة ومدارها، وراحة كل صدر، وعدة كل حر، ومحط الرحال، ورأس مال الآمال، كل دهر أحال عهده مر، وكل صحو لا أراه معه سكر، حرس الله آلاءه، ولا أعدمه الطول وإسداءه، معلوم ما حاوله رعاه الله ملاحاة، وسأله معاداة أو مصاداة، لأحسر لسؤاله، ولأسمو لدرك محاله، ولعمر الله وعمره كل كلام اطرح معه العادة المعلومة، وهدر له الحال المعهودة، وعر مسلكه، وعسر مطلعه، وصار لمادة السداد هادما أساسه، ومحللا مرره وأمراسه، لا محله محل المكرم، ولا رصه رص المحكم، وهو سداد لعدم. ولو سواه حرسه الله سام ما سامه، لما أدرك مرماه ولا حمد مسعاه، ولا سمع دعاؤه، طول الدهر، ولا ساعده ساعد ولو مد له العمر، والسلام.

قال: وغدا مهيار علينا فأنشدنا لنفسه في هذا المعنى:

وعد لرملة كد الصدر ممطول

دم الكرى معه ما سال مطلول

وصل هو الصد محمود موارده

حل المحلا وهرم وهو محمول

أما صحا أو سلا إلا أعاد له

عهد الأولى طلل كالسطر محمول

محاه كل ولود الرعد حامله

مدار ما حار هاد وهو مدلول

راحوا وحل وكاء الدمع عاصمه

وطاح ما طاح دمع وهو محلول

ساروا وكم أمل سار وراءهم

وكل ما وعد الأملاء مأمول

وطاول الدهر عمر لا ملال له

مع السرور وطول العمر مملول

(1) هو عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب عرف بالمطرز، وكانت وفاته سنة 439.

ص: 299

وتأخر وعد المطرز بالشعر، فكتب إليه الرئيس أبو الحسن ابن نصر في المعنى: لم وعد أسعد الله المساعدة وعدل، وسهل الحمل وما حمل، وكلامه روح الصدور وسرها، وراح الأسماع وعطرها، ولم أهمل عادة إسعاده، وهدر معهود سماحه؟ الأمر عراه أم حاد حداه، ولم مطل وعده، وصرح رده، وما عراه مراد، ولا حط له والحمد له عماد، والسلام.

وعرف هذه الجملة والمفاوضة أبو الحسن ابن الحسين الغضائري، فكتب رقعة مشتملة على نظم ونثر في هذا المعنى منها: أمرك؟ حرسك الله وأطال عمرك - المطاع، ومرسومك لا مراد له ولا مراع، ولمرادك ما أسلك السماوة ولا علم، وأورد الآل المحال ولامكرع، وأروع الآله الوادعة والأداة الصالحة لأمر لامرعاة ممرع ولا مورده مطمع، ولا مسرحه ممطور، ولا مراحه معمور، والكلام؟ أدام الله علاك - مسؤول، ومع الإلحاح مملول، ومع الادامه صلد الصمم، ممر المرر، طوره أطوار، وحاله أحوال، حلال رحال، صرام وصال، ما أطاعك إلا عصاك، ولا والاك إلا عاداك، ما رام أحد سهله إلا وعر، ولا أراد [حلوه] إلا مرر، كم سامه الكامل وعاد مطرودا، وداسه العالم وآل مردودا، والعلم الكال عامل ما حد له، وساع لما رسم له، أصار الله سماء العلاء دارك، وسهم السعادة مطلعك، وأدام سموك، وأهلك عدوك، والسلام للرسول وأهله.

ومن النظم:

اسعد ودام لك الإمهال والعمر

هل رمل رامة محمود له المطر

وهل أراك وأمواه لعارمه

كالعهد لا الورد أعداه ولا الصدر

وهل أرود ودار الوصل آهله

دارا كدارك لولا روحها العطر

لله صدر رواه كل ساحرة

كحلاء مرهاء ممدوح لها الحور

واها لعلوة لا وصل كواصلها

ولا عطاؤك مسمول ولا أمر

صد ومطل وإدلال ومحرمة

كما أعاد رسول الآكل السمر

لولا محمد لم أعط السلام ولا

أمال سالم أمر اللمة الصبور

دعا وطاوع ودا لا مراء له

مسارع الأمر لا لاوٍ ولا صعر

ص: 300

كل هذا ولم يرد من المطرز المتحدى في هذا المعنى شيء. فكتب إليه الرئيس علي بن نصر يستبطئه ويقتضيه ويحثه على المهادنة: ما سلك العالم الأوحد؟ حرس معهوده؟ العادة، ولا عمل عمل السادة، رام أمرا ما حصله، وحكم حكما ما عد له، ووعد وعدا لواه، وحد حدا عداه، وسدى وما ألحم، وأورد وما أصدر، وسار مهملا أمره، وطار مسلما وكره، لا الكلام أسعده، ولا الكلال أمهله، هاله الأمر وراعه، وعصاه المرام وما أطاعه، محادة له علم معها مآل الصورة، وعمل لها عمل الصرورة، هاك الساعة الموادعة حصلها، وأحلها صدرك، واحرسها، وصرها دهرك واعكمها، ودع المراماة وراءك، وسرح المصارحة أمامك، وهلم السم، والسلام.

- 11 -

قال: كتب إلى أبو طاهر على بن الحسين عز الأستاذين من بعض أسفاره: من علامات المؤانسة، ودلالات المجالسة، التكاتب في السفر، والتزاور في الحضر، وأنت بهما حري، ومنهما عمر الله بري:

ولو كنت أدرى أن ذا البين كائن

لعاصيت عذالي وخالفت نصاحي

وما كنت أعطي البين صفقة بائع

ولو أن إدراك المنى بعض أرباحي

قضاء من الرحمن ما استطعت رده

وليس لأمر خطه الله من ما - 12 -

قال: كنت أكاثر أبا الفرج عبد الواحد بن نصر الببغا وأزوره دائما مع القاضي أبي محمد أخي رحمه الله، فتأخرنا عنه لشغل عرض لنا، وكتب إلينا (1) :

ذخرت أبي نصرا لحظ أناله

فبلغني أقصى المنى ببني نصر

وجدتهم الذخر القديم ولم أكن

علمت بأن الذخر يعزى إلى الدهر

(1) لم يرد البيتان في شعره المجموع.

ص: 301

واستمر بنا الإبطاء عنه فكتب إلينا رقعة أولها (1) :

بني علي بن نصر

دعاء باسط عذر

أسرفتم في وصالي

وليس يحسن هجري إن رأيتما؟ جعلت فداءكما - أن تبرئا رمد طرفي بالنظر إليكما فعلتما، فحضرناه، وقلت: يا سيدي، ذكرتني لعمرك هذه أبيات أبي فراس التي كتب بها من الأسر إلى ولدي سيف الدولة (2) :

يا سيدي أراكما

لا تذكران أخاكما

أوجدتما بدلا به

يبني سماء علاكما فقال لي: أحسنت، والله لقد كتبت الرقعة والأبيات في ذكري.

- 13 - (3)

حدثني أبو الفرج الببغاء قال: قصدت يوما أبا العباس النامي المصيصي (4) بعد تأخره عن سيف الدولة لأجل ما كان تنجز بينهما في معنى المتنبي وتقديمه له عليه، فعرفته خبره، وتفاوضنا ما جرى مع سيف الدولة فقال: يا أبا الفرج خدمته الدهر الأطول وما رعى واستجمل أن يقول لي: قال المتنبي، وأنا الذي أقول:

له نظره نحو الحمول بحومل

وأخرى إلى ودان صادقه الود

إلى ها هنا عهد الوداع الذي به

عهدت وما لي بالتجلد من عهد

فيا قلب أعوان عليك كثيرة

ومالك من صبر عليهن من بد

وشاة وعذال وبرق ودمنة

ألا قلما أجدت عليك وما تجدي

(1) لم يردا في شعره المجموع.

(2)

ديوان أبي فراس 2: 370 وولدا سيف الدولة هما أبو المكارم وأبو المعالي.

(3)

بغية الطلب: 2: 35.

(4)

هو أحمد بن محمد النامي الدارمي المصيصي، كان عارفاً بالأدب واللغة، روى عنه أبو الفرج الببغا وأبو الخطاب ابن عون الحريري وأبو بكر الخالدي وغيرهم، وله كتاب في العروض اسمه " المقنع ".

ص: 302

- 14 - (1)

حدثني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر قال: كان الشيظمي (2) منقطعا إلى سيف الدولة قبل ورود المتنبي إليه، يقول شعرا مختل النسج مضطرب النظم، حتى إذا قامت للمتنبي سوق عند سيف الدولة دخله شبيه شيطان فقال شعرا جيدا، وكان سيف الدولة شجر بينه وبين أخيه ناصر الدولة منافرة بسبب الرحبة لأنها كانت لأخته وماتت، ورام ناصر الدولة استضمامها إلى أعماله، وهى جاريه فى أعمال سيف الدولة فقال لنا: قد عرفتم ما كان من ناصر الدولة، فمن حضره في ذلك شيء فليقل، فغدا الشعراء عليه فأنشدوه فسمع من كل منهم، وقال: اسمعوا إلى من اختصر واقتصر، وأنشدنا لنفسه (3) :

تركت لك الكبرى لتدرك سبقها

وقلت لهم بيني وبين أخي فرق

وما عاقني عنها نكول وإنما

تغاضيت عن حقي فتم لك الحق

ولست أبالي أن أجيء مصليا

إذا كنت أهوى أن يكون لك السبق فاستحسنا ذلك ودعونا له.

وأنشدني لنفسه (4) في ذلك قطعه ميميه أولها:

في الحلم ما ينهى ذوي الأحلام

عما يخالف عادل الأحكام قال فيها:

يا ناظري ويعز أن أقذى ويا

قلبي وكيف أروعه بملام

(1) بغية الطلب 9: 172.

(2)

أبو القاسم الشيظمي اسمه نصر بن خالد، وكان أحد معلمي سيف الدولة وكان يتبسط عليه بدالة التربية والصحبة (بغية الطلب: 9: 171) .

(3)

الأبيات في اليتيمة 1: 46 وتاريخ ابن الأثير 8: 580 وابن خلكان 2: 116.

(4)

يعني: البغاء أبو الفرج أنشد ابن نصر مؤلف المفاوضة.

ص: 303

أسخطت عمدا في عقوق دولة

ثبتها نصرا بحسن قيامي

إن كنت ناصرها فإني سيفها

والقتل لا يرضى بغير حسام

وبكفك الصمصام مني فارعه

حفظا ولا تخدع عن الصمصام

لك في الأباعد من عدائك شاغل

عما تعق به ذوي الأرحام وحضر الشيظمي وكان قد تأخر فأنشده:

سوق المكارم آذني بكساد

شغل الأكارم عنك بالأحقاد

أأخي وما أحلى دعاءك يا أخي

هذا وقد جرحت مداك فؤادي

أتضيمني وأبي أبوك وإنما ال

تفضيل بالآباء والأجداد

وبلادك الدنيا ولم تجدب ولا اس

توبلتها فلم انتجعت بلادي

يا طارق الغابات غير محاذر

إياك فهي مكامن الآساد

الآن أعذر حاسدي وحجتي

في ذاك أنك صرت من حسادي وقال أبو الفرج: وكان سيف الدولة يمازحه كثيرا ويولع به دائما ويتبسط الشيظمي عليه فضل تبسط ويحتمله.

قال: كنا بحضرة سيف الدولة ليلة من الليالي فدخل الشيظمي فقال سيف الدولة: انظروا كيف أجننه ويرجع، فقال له حين أقبل: أي وقت هذا تقصد فيه السلاطين؟ وما الذي عرض حتى جئت فيه؟ ولم يزل يوبخه ويظهر الغيظ منه، فلما سمع الشيظمي ذلك رجع. فقال له سيف الدولة: إلى أين؟ قال أنصرف، فإني قد بلغت غرضي وقضيت حاجتي، قال وما هي؟ قال: حضرت لأغيظك، وقد اغتظت، ولم يبق لي شغل. قال فضحك سيف الدولة حتى استلقى ثم قال: بحياتي، أمعك شعر؟ قال: نعم، فأنشده قصيدة أولها:

من جانب الغي توخى رشده

ومن بغى الشكر بجود وجده

وفعلك الخير مفيد خيره

أفلح من أطلق بالخير يده ومضى فيها، فاستحسنها سيف الدولة وأحسن جائزته عنها.

ص: 304

- 15 - (1)

حدثني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر الببغاء، قال: كان أبو الطيب المتنبي يأنس بي ويشكو عندي سيف الدولة ويأمنني على غيبته له، فكانت الحال بيني وبينه صافية عامرة دون باقي الشعراء، وكان سيف الدولة يغتاظ من عظمته وتعاطيه ويجفو عليه إذا كلمه، والمتنبي يجيبه في أكثر الأوقات ويتغاضى فى بعضها.

قال: وأذكر ليلة وقد استدعى سيف الدولة بدرة فشقها بسكين الدواة، فمد أبو عبد الله ابن خالويه النحوي جانب طيلسانه، وكان صوفا أزرق، فحثا فيه سيف الدولة شيئا صالحا، ومددت ذيل دراعتي، وكانت ديباجا، فحثا إلي فيها، وأبو الطيب حاضر، وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا أو يطلب شيئا منها، فما فعل، فغاظه ذلك فنثرها كلها، فلما رأى المتنبي أنها قد فاتته زاحم الغلمان يلتقط معهم، فغمزهم عليه سيف الدولة فداسوه وركبوه وصارت عمامته وطرطوره فى عنقه واستحيى، ومضت له ليلة عظيمة وانصرف.

وخاطب أبو عبد الله ابن خالويه سيف الدولة في ذلك فقال: ما يتعاظم تلك العظمة ويتضع إلى مثل هذه المنزلة إلا لحماقته.

- 16 - (2)

حدثني أبو الفرج [الببغا] قال: هربت وقتا من الأوقات من أبي العشائر (3) وصرت إلى حلب، وسألت سيف الدولة أن يمنعه مني وقلت: إن أخلاقه لا تلاوم أخلاقي، وقد ربيتني واصطنعتني وأريد أن لا أبرح حضرتك ومجلسك، قال: افعل، ومضى على هذا مديدة قريبة، فدخلت يوما وإذا بين يدي سيف الدولة رجل

(1) إنباه الرواة 1: 326 - 327 وانظر: الصبح المنبي: 48 - 49.

(2)

بغية الطلب 5: 12.

(3)

هو الحسن بن علي بن الحسين بن حمدان ولاه سيف الدولة أنطاكية، وبه اتصل المتنبي قبل اتصاله بسيف الدولة (انظر ترجمته في بغية الطلب 5: 11) .

ص: 305

عربي لا أعرفه عليه جبة ديباج وفرو وعمامة خز بلثامين، متقلدا سيفا محلى، وهو جالس على السرير ورجليه [كذا] على الأرض، وسيف الدولة يقبل عليه يحادثه، فاستطرفت ذلك، ولم يكن في العرب كلها من يجلس تلك الجلسة مع سيف الدولة، قال: ونهض فإذا هو أبو العشائر، فلما رأيته أسقط في يدي، ودنا مني فقبض علي، فقلت لسيف الدولة: أيها الأمير الذمام، فقال: ليس على أبي العشائر ذمام، احتفظ به فإنه فرار. فلم يبق في موضع للمنازعة، فقلت: أيها الأمير، أيمكنني الخروج؟ قال: ولم؟ قلت: علي دين، وأحتاج إلى ابتياع شعير لدوابي، وحنطة لغلماني، وهذا وجه الشتاء ولابد أن أنظر في أمري، فقال: كل هذا يتنجز الساعة، ووقع إلى الداريح بكرين شعيرا، وإلى صاحب المنثر بثلاثة أكرار حنطة، وأطلق من خزانته ألفي درهم، وأمر بحمل عشر قطع ثيابا، وحصل جميع ذلك وما تعالى النهار، وهو جالس في دار سيف الدولة، فلما حضر صاحبه وعرفه حصول ما عددته كله، قال: اركب على اسم الله، ومضيت معه إلى أنطاكية فما كان يخليني من خلعة وبر وتفقد، ورسومي على سيف الدولة مطلقة في أوقاتها غير متأخرة عني بحال، وهذه كانت عادات الرؤساء في الإفضال.

- 17 - (1)

حدثني أبو القاسم الرقي المنجم قال: كان السري بن أحمد الرفاء يوما جالسا معنا في دهليز سيف الدولة، فوصف له دعوة كان فيها فقال: وكان فيها هريسة؟ بكسر الهاء - ثم أنشدنا قصيدة له أولها (2) :

أأقحوانا أرته أم بردا

غيداء يهتز عطفها غيدا حتى قال فيها:

لو وجدت للفراق ما وجدا

لافتقدت نومها كما افتقدا

(1) بغية الطلب: 8: 228.

(2)

هي في ديوانه رقم: 133 (2: 69) وفيه أنه يمدح بها أبا الفوارس سلامة بن فهد.

ص: 306

ثم خرج الآذن فدخلنا إلى سيف الدولة، وتفاوضنا الحديث، وأنشده الشعر السري فاستطابه واستحسنه، فحلف بعض الحاضرين، وأظنه الفصيصي، أن سريا الساعة كان يحدثنا حديث دعوة فقال، وكان فيها هريسة - بكسر الهاء - فقال سيف الدولة: ويلك من يقول هريسة يقول مثل هذا الشعر؟ وفي هذه الأبيات:

لا تلح صبا على صبابته

إذ وجد الغي في الهوى رشدا

فلم تزل للفراق عادته

تكدر المورد الذي وردا

سرنا بآمالنا إلى ملك

يسر بالآمل الذي وفدا

مستيقظ الرأي والعزيمة ما اس

تيقظ طرف الزمان أو رقدا - 18 - (1)

وأنشدني له في الكانون، ووجدت القصيدة في سلامة بن فهد (2) :

وأزهر وضاح يروق عيوننا

إذا ما رميناه بلحظ النواظر

له أربع تأبى السرى غير أنها

تصافح وجه الأرض مثل الحوافر

تقل جسوما بعضها في مورد

وسائرها في مثل صبغ الدياجر

تواصله أيام للقر صولة

وتهجره أيام لفح الهواجر - 19 - (3)

حدثني أبو القاسم الرقي المنجم عن سيف الدولة أنه انهزم في بعض السنين وقد حللت الصناديق عن بغاله، في بعض دروب الروم وأنها ملأت الدروب، وكان على فرس له يعرف بالثريا، وأنه حرك عليها نحو الفرسخ حتى نزل ولم يعثر ولم يتلعثم، وأخبرني أنه بقي معه في هذه السفرة تسعة أنفس، أحدهم المتنبي وأنه كان يحدث أبا عبد الله ابن خالويه النحوي - حديث الهزيمة، وأن المتنبي كان

(1) بغية الطلب 8: 229.

(2)

الديوان رقم: 218 (2: 246) .

(3)

بغية الطلب 1: 40.

ص: 307

يجرى بفرسه، فاعتلقت بعمامته طاقة من الشجر المعروف بأم غيلان، فكلما جرى الفرس انتشرت العمامة، وتخيل المتنبي أنه قد ظفر به، فكان يصيح: الأمان يا علج، قال: فهتفت به وقلت، أيما علج؟ هذه شجرة قد علقت بعمامتك، فود أن الأرض ساخت (1) به، وما سمعته يقول ذلك، فقال ابن خالويه: أيها الأمير أفليس قام معك حتى بقي في تسعة أنفس؟ تكفيه هذه الفضيلة.

- 20 - (2)

قال ابن نصر: حدثني أبو القاسم الرقي منجم سيف الدولة قال: كنت في صحبه سيف الدولة في غداة المصيبة المعروفة، وكان سيف الدولة قد انكسر يومئذ كسرة قبيحة، ونجا بحشاشته، بعد أن قتلت عساكره قال: فسمعت سيف الدولة يقول وقد عاد إلى حلب: هلك مني من عرض ما كان في صحبتي خمسة آلاف ورقة بخط أبي علي ابن مقله. قال: فاستعظمت ذلك وسألت بعض شيوخ خدمه الخاصة في ذلك، فقال لي: كان أبو علي منقطعا إلى بني حمدان سنين كثيرة يقومون بأمره أحسن القيام، وكان ينزل في دار قوراء حسنة، وفيها فرش تشاكلها ومجلس دست، وله شيء للنسخ وحوض فيه محابر وأقلام، فيقوم ويتمشى في الدار إذا ضاق صدره، ثم يعود فيجلس في بعض تلك المجالس وينسخ ما يخف عليه، ثم ينهض ويطوف على جوانب البستان، ثم يجلس فى مجلس آخر وينسخ أوراقا آخر على هذا، فاجتمع في خزائنهم من خطه ما لا يحصى.

- 21 - (3)

قال ابن نصر الكاتب، حدثني أبو القاسم الرقي منجم الأمير سيف الدولة، قال: دخلت بغداد أيام عضد الدولة، وقد لبست الطيلسان وتشاغلت بالمتجر عن

(1) في الأصل: خاست.

(2)

معجم الأدباء 9: 31 - 32 (3: 151) .

(3)

تاريخ الحكماء للقفطي: 429 - 430.

ص: 308

النجوم، قال: فاجتزت يوما بسوق الوراقين وإذا بأبي القاسم القصري جالسا في دكان وهو يقوم، فوقفت أنظر ما يعمل، فرفع رأسه وقال: انصرف عافاك الله ليس هذا شيء تفهمه، قال: فجلست حينئذ وتأملته فإذا به يقوم المشتري؟ هكذا قال أو غيره من الكواكب - فلما شارف الفراغ منه قلت: لم فعلت هذا وأخرجت نفسك إلى عملين وضربين كنت غنيا عنهما؟ قال: فأي شيء كنت أفعل؟ قلت: تفعل كذا وكذا، وقد خرج ما تريد، ثم نهضت مسرعا فقام ولحقني وعلق بي وقبل رأسي واعتذر وقال: أسأت العشرة وعجلت، وسألني عن اسمي فأعلمته فعرفني بالذكر واستدل على داري وصار يقصدني ويسألني عن شكوك تعترضه فأفيده إياها، واستكثر مني وصار صديقا وخليلا.

- 22 - (1)

حدثني أبو الحسن الحلبي، وكان شيخا يعرف أخبار سيف الدولة، قال: كنا مجتمعين يوما في دهليز سيف الدولة وجماعة من الشعراء والشيوخ المتقدمين كأبي العباس النامي وأبي بكر الصنوبري، ومن النشء اللاحقين كأبي الفرج الببغا والخالدين والسري، فتذاكروا الشعر، وأنشدت قصيدة المتنبي التي أولها (2) :

فديناك من ربع وإن زدتنا كربا

فاستحسن الجماعة قوله في إعظام الربع:

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة

لمن بان عنه أن نلم به ركبا فقال السري: لولا أنكم إذا سمعتم ما قلته بعد هذا ادعيتم أني سرقته منه لأمسكت، وأنشد قصيدة لامية قال فيها:

نحفى وننزل وهو أعظم حرمة

من أن يذال براكب أو ناعل

(1) بغية الطلب 9: 60.

(2)

ديوان المتنبي: 318 وعجز البيت:

فإنك كنت الشرق للشمس والغربا

ص: 309

فحكم الجماعة له في الزيادة في قوله: " نحفى وننزل ".

[قال ابن العديم: قلت: في هذه الحكاية نظر، فإن الصنوبري توفي سنة أربع وثلاثين، وأبو الفرج لم يكن ورد إلى سيف الدولة] .

- 23 - (1)

قال أبو الخطاب ابن عون الحريري (2) ، وحدثني عنه أبو القاسم الشاعر بذلك، وقد رأيته، ولم أسمع هذه الحكاية منه قال: دخلت إلى أبي العباس النامي فوجدته جالسا ورأسه كالثغامة بياضا، وفيه شعرة واحدة سوداء، قلت له: يا سيدي في رأسك شعرة سوداء، قال: نعم، هذه بقية شبابي وأنا أفرح بها، ولي فيها شعر، قلت: أنشدنيه، فأنشدني (3) :

رأيت في الرأس شعرة بقيت

سوداء تهوى العيون رؤيتها

فقلت للبيض إذ تروعها

بالله إلا رحمت وحدتها

وقل لبث السوداء في وطن

تكون فيه البيضاء ضرتها ثم قال يا أبا الخطاب: بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف سوداء بين ألف بيضاء؟.

- 24 - (4)

وأنشدني (أبو يوسف ابن البريدي) لأبي الخطاب الحريري:

يا قرة العين الذي

صار عليها رمدا

مللت من عد ذنو

ب ليس تحصى عددا

ما زلت تستفسد حبي

لك حتى فسدا

(1) بغية الطلب 9: 77.

(2)

أبو الخطاب ابن عون الحريري شاعر روى عن أبي العباس النامي شيئاً من شعره. (بغية الطلب 9: 77) .

(3)

وفيات الأعيان 1: 126.

(4)

بغية الطلب 9: 78.

ص: 310

وله أقطاع ملاح؛ وهو صاحب الأبيات المشهورة التي يغنى بها وهي:

يا غائبا عن سواد عيني

سكنت من قلبي السوادا وشهرتها تغني عن ذكرها، إلا أن فيها ما هو طرازها عند الشعراء، أنشدنيه الأستاذ أبو الحسن مهيار وهو:

تميمة الوصل هجر يوم

في الدهر لكن أراه زادا

وكيف أرجو الوصال ممن

تاب من الهجر ثم عادا - 25 - (1)

ومن المليح النسيج ما أنشدنيه أبو الخطاب النحوي الشاعر لأبي إبراهيم العلوي الحلبي، ولم يلقه وإنما رواه له، وأنشده إياه بعض أولاده بحلب:

أومت بكف خلته بارقا

لولا عبير عرفه ساطع

وأبرزت وجها كشمس الضحى

يؤخذ من أنواره الطالع - 26 - (2)

وقال ابن نصر: حدثت يوما أبا الفرج الببغا الشاعر أن أبا الفرج منصور بن بشر النصراني الكاتب كان منقطعا إلى أبي العباس ابن ماسرجيس، فأنفذه مرة إلى أبي عمر إسماعيل بن أحمد عامل البصرة في بعض حاجاته، فعاد من عنده مغضبا لأنه لم يستوف له القيام عند دخوله، وأراد العباس إنفاذه بعد أيام، فأبى وقال: لو أعطيتني زورق ابن الخواستيني مملوءا كيمياء، كل مثقال منه إذا وضع على ألف مثقال صفرا صار ذهبا إبريزا ما مضت إليه، فأمسك عنه مغيظا.

وهذا زورق معروف بالبصرة، وحمله ثلاثمائة ألف رطل.

(1) بغية الطلب 9: 77.

(2)

معجم الأدباء 8: 83 - 85 (3: 57) .

ص: 311

وقد رأيت دواتي أبي العباس سهل بن بشر وقد حكي له أن ابن علان قاضي القضاة بالأهواز، ذكر أنه رأى قبجة وزنها عشرة أرطال فقال: هذا محال، قيل له: ترد قول ابن علان قال: فإن قال ابن علان إن على شاطىء جيحون نخلا غضارا صينيا بسواد أقبل منه؟.

وقلت لأبي الفرج: للناس عادات في المبالغات، وهذا من أعجبها، فقال لي: كان الآمدي النحوي صاحب " كتاب الموازنة " يدعي هذه المبالغات على أبي تمام ويجعلها استطرادا لعيبه إذا ضاق عليه المجال في ذمه، وأورد في كتابه قوله من قصيدته التي أولها (1) :

من سجايا الطلول ألا تجيبا

خضبت خدها إلى لؤلؤ العقد دما أن رأت شواتي خضيبا

كل داء يرجى الدواء له إلا الفظيعين ميتة ومشيبا

ثم قال: هذه من مبالغاته المسرفة. ثم قال أبو الفرج: هذه والله المبالغة التي يبلغ بها السماء.

- 27 - (2)

وقال ابن نصر: حدثني الوزير أبو العباس عيسى بن ماسرجيس قال: كنت أخلف الوزارة ببغداد مشاركا لأبي الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان (3) فدعاني يوما إلى داره ببركة زلزل وتجمل واحتشد، ودعا بكل من يشار إليه بحذق في الغناء، من رجال وإماء مثل علية الخاقانية وغيرها من نظرائها في

(1) ديوان أبي تمام 1: 164 وعجز البيت: " فصواب من مقلتي أن تصوبا " والقصيدة في مدح محمد بن يوسف الثغري.

(2)

معجم الأدباء 14: 37 - 39.

(3)

استكتب الخليفة القادر بالله علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان سنة 386 (انظر: تاريخ ابن الأثير 9: 128) وسيذكر في القطعة: 29 أن القادر بالله قبض عليه واستكتب بدله أبا العلاء ابن تريك ثم أعيد ابن حاجب إلى ما كان عليه.

ص: 312

الوقت، وحضر القاضي أبو بكر ابن الأزرق نسيبه، وانتقلنا من الطعام إلى مجلس الشراب، فلما دارت الكأس أدوارا قال لي: ما أراك تحلف على القاضي ليشرب معنا ويساعدنا وإن كان لا يشرب إلا قارصا. قلت: أنا غريب ومحتشم له وأمره بك أمس وأنت به أخص، قال: فاستدعى غلاما وقال: امض إلى إسحاق الواسطي واستدع منه قارصا وتول خدمة القاضي؟ أيده الله؟ فمضى الغلام وغاب ساعة ثم أتى ومعه خماسية فيها من الشراب الصريفيني الذي بين أيدينا، إلا أن على رأسها كاغدا وختما وسطرا فيه مكتوب: قارص من دكان إسحاق الواسطي. قال: فتأمله القاضي وأبصر الخط والختم ثم أمر فسقي رطلا، فلما شربه واستوفاه قال للغلام: ويلك ما هذا؟ قال: يا سيدي هذا قارص، قال: لا بل والله الخالص، ثم ثنى له وثلث، فاضطرب أمر القاضي علينا وأنشأ يقول:

ألا فاسقني الصهباء من حلب الكرم

ولا تسقني خمرا بعلمك أو علمي

أليست لها أسماء شتى كثيرة

ألا فاسقنيها واكن عن ذلك الاسم فكان كلما أتاه بالقدح سأله عنه فيقول تارة: مدام، وتارة: خندريس، وهو يشرب، فإذا قال له: خمر حرد واستخف به، فيتوارى بالقدح ساعة ثم يعيده ويقول: هذه قهوة فيشرب به، فلم يشرب القاضي إلا بمقدار ستة أسماء أو سبعة من أسماء الخمر حتى انبطح في المجلس ولف في طيلسان أزرق عليه وحمل إلى داره.

- 28 - (1)

قال ابن نصر: حدثني أبو الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب (2) قال: كنت أتصرف في خزانة الكتب لبهاء الدولة بن عضد الدولة بشيراز

(1) معجم الأدباء 15: 122 - 124، وقد لخص الذهبي هذا الخبر في سير أعلام النبلاء 17:317.

(2)

كانت وفاة ابن البواب سنة 413، انظر ترجمته في المنتظم 8: 10 ومعجم الأدباء 15: 120 (ط. دار المأمون) وابن خلكان 3: 342 وسر أعلام النبلاء 17: 315.

ص: 313

على اختياري وأراعيها له وأمرها مردود إلي، فرأيت يوما في جملة أجزاء منبوذة جزاء مجلدا بأسود قدر السكري، ففتحته وإذا هو جزء من ثلاثين جزءا من القرآن بخط أبي علي ابن مقلة، فأعجبني وأفردته وجعلت وكدي التفتيش عن مثله، فلم أزل أظفر بجزء بعد جزء مختلط في جملة الكتب إلى أن اجتمع تسعة وعشرون جزءا، وبقي جزء واحد استغرقت تفتيش الخزانة عليه عليه مدة طويلة فلم أظفر به، فعلمت أن المصحف ناقص، فأفردته ودخلت إلى بهاء الدولة وقلت: يا مولانا ها هنا رجل يسأل حاجة لا كلفة فيها، وهي مخاطبة أبي علي الموفق الوزير على معونته بينه وبين خصم له، ومعه هدية طريفة تصلح لمولانا قال: أي شيء هي؟ قلت: مصحف بخط أبي علي ابن مقلة، فقال: هاته وأنا أتقدم بما يريد، فأحضرت الأجزاء فأخذ منها واحدا وقال: أذكر وكان في الخزانة ما يشبه هذا وقد ذهب عني، قلت: هذا مصحفك وقصصت عليه القصة في طلبتي له حتى جمعته إلا أنه ينقص جزءا وقلت: هكذا يطرح مصحف بخط أبي علي؟ فقال لي: فتممه لي. قلت: السمع والطاعة، ولكن على شريطة أنك إذا أبصرت الجزء الناقص منها ولا تعرفه خلعة ومائة دينار، قال: أفعل، وأخذت المصحف من بين يديه وانصرفت إلى داري، ودخلت الخزانة أقلب الكاغد العتيق وما يشابه كاغد المصحف، وكان فيها من أنواع الكاغد السمرقندي والصيني والعتيق كل ظريف عجيب، فأخذت من الكاغد ما وافقني، وكتبت الجزء وذهبته وعتقت ذهبه، وقلعت جلدا من جزء من الأجزاء فجلدته به وجلدت الذي قلعت منه الجلد وعتقته، ونسي بهاء الدولة المصحف، ومضى على ذلك نحو السنة، فلما كان ذات يوم جرى ذكر أبي علي ابن مقلة فقال لي: ما كتبت ذلك؟ قلت: بلى قال: فأعطنيه، فأحضرت المصحف كاملا فلم يزل يقلبه جزءا جزءا وهو لا يقف على الجزء الذي بخطي، ثم قال لي: أيما هو الجزء الذي بخطك؟ قلت له: لا تعرفه فيصغر في عينك، هذا مصحف كامل بخط أبي علي ابن مقلة ونكتم سرنا؟ قال: افعل، وتركه في ربعه عند رأسه ولم يعده إلى الخزانة، وأقمت مطالبا بالخلعة والدنانير وهو يمطلني ويعدني، فلما كان يوما قلت يا مولانا: في الخزانة بياض صيني وعتيق ومقطوع وصحيح، فتعطني المقطوع منه كله دون الصحيح

ص: 314

بالخلعة والدنانير؟ قال: مر وخذه، فمضيت وأخذت ما كان فيها من ذلك النوع فكتبت فيه سنين.

- 29 - (1)

وحدث ابن نصر قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن عيسى الشاعر المعروف بحمدويه قال: لما قبض القادر بالله على أبي الحسن ابن حاجب النعمان واستكتب أبا العلاء ابن تريك وهى النظر وقل رونقة، واتفق أن دخل يوما إلى الديوان فوجد على مخاده قطعة من عذرة يابسة، فانخزل وتلاشى أمره، فقبض عليه وأعيد أبو الحسن إلى رتبته، وكانت بيني وبين أبي العلاء من قبل مماظة في بعض الأمور، فامتدحت أبا الحسن بقصيدة أولها:

زمت ركائبهم فاستشعر التلفا

حتى بلغت إلى قولي:

يا من إذا ما رآه الدهر سالمه

وظل معتذرا مما جنى وهفا

قد رام غيرك هذا الطرف يركبه

فما استطاع له جريا بلى وقفا

لم يرجع الطرف عنه من تبظرمه

حتى رأينا على دست له طرفا فدفع إلي صورة عنقاء فضة مذهبة كانت بين يديه فيها طيب وقال: خذ هذه الطرفة فإنها أطرف من طرفتك.

- 30 - (2)

وحدث ابن نصر قال: حدثني أبو الحسن المبدع؟ وكنت أعرفه قديما ودخل إلى بغداد خضيبا فأنكرته ثم عرفته؟ فجرى ذكر شعراء المصريين فقلت له: ما رأيت لهم شيئا ناصعا فقال لي: كان الآمدي يتولى أرزاق الشعراء والمتعطلين

(1) معجم الأدباء 14: 36 - 37.

(2)

معجم الأدباء 13: 162 - 164.

ص: 315

والأشرف والكتاب وكان خضيبا، ولم يسمه لي ولا كناه، ولا أعلم هل هو النحوي صاحب " كتاب الموازنة " أو غيره، إلا أني أذكر ما حكاه قال: منع الحسين بن بشر الكاتب أرزاقه فعمل فيه قطعة أولها:

إن طغى الآمدي طغيان مثر

راشه الدهر فالمريش يحص

أيها الآمدي عقلك قد دل

ل على أن آمد اليوم حمص

إن حرصا يدعو إلى قطعك الأر

زاق فينا على هلاكك حرص

بسواد السماد تخضب يا شي

خ فمن ذا سواده ما يبص

ألق فيه عفصا فإنك تحتا

ج إلى العفص حين يعكس عفص فقلت: تنشد هذا وأنت خضيب؟ فقال: الجيد يروى وإن كان على الراوي فيه دق الباب.

- 31 - (1)

قال ابن نصر: وجدت بخط أبي علي ابن مقلة على ظهر جزء " وغنتني ابنة الحفار ":

إلى سامع الأصوات من أبعد المسرى

شكوت الذي ألقاه من ألم الذكرى

فيا ليت شعري والأماني ضلة

أيشعر بي من بت أرعى له الشعرى قال ابن نصر: فقلت كفى ابنة الحفار هذا الصوت أن يذكرها، ويكتبه أبو علي ابن مقلة بخطه.

- 32 - (2)

قال علي بن نصر: أنزلني الشيخ أبو الحسن العلوي الحنفي الدار المعروفة

(1) معجم الأدباء 9: 30 - 31 (3: 151) .

(2)

تكملة تاريخ الطبري للهمذاني: 182 (ط. بيروت) 394 - 395 (ذيول تاريخ الطبري) .

ص: 316

بدعلج (1) في درب أبي خلف بإزاء داره فقلت له: لم أزل أسمع الناس يعظمون شأن هذه الدار وما أجدها كما وصفت، فقال لي: كان دعلج في هذه الدار، وكان شاهدا ومحدثا وعظيم الحال موسرا، وكان المطيع لله قد أودع أبا عبد الله ابن أبي موسى الهاشمي عشرة الآف دينار قبل إفضاء الخلافة إليه، فتصرف فيها وأنفقها وأدل بالقدرة عليها في طلبها، فلما ولي الخلافة طالبه بها، فوعده بحملها، ورجع إلى منزله وشرع في بيع شيء من أملاكه وثماره فتعذر، فألح المطيع بالمطالبة بالوديعة، فاعتذر بأنها مخبوءة ولا يقدر عليها إلا بعد ثلاثة أيام، فأنظره، فلما حضر وقت الوعد قلق ولم ينم ولم يتجه له وجه، وخاف أن يخرق به، ولم يعود ثلم جاهه، فركب في بقية الليل بغير غلام، وترك رأس البغلة تمشي حيث شاءت، فأفضت به إلى قطيعة الربيع، فدخلها وعطف إلى درب أبي خلف فإذا دعلج قد خرج وفي يده سمكة، فتأمله فقال له: خير؟ فقال: لا، [فقال] بالله انزل، فنزل ودخل داره وقص قصته، فقال: لا بأس، أي نقد كانت الدنانير؟ فقال: النقد الفلاني، فقال: يا غلام، أغلق الباب وحط ما عندك من العين واجلس مع الشريف وانتقد النوع الفلاني إلى أن أرجع من الحمام. فلما عاد كان الغلام قد انتقد القدر [المطلوب] فجعلها في أكياس وأنفذها مع غلمانه ثم قال: اكتب خطك في دفتري، فكتبت خطي بذلك إلى مدة أربعة أشهر وانصرفت. واستدعيت الظرف التي كانت دنانير المطيع فيه فنقلتها إليه وختمتها بالإسريحات التي كانت عليه، فأتاني رسول المطيع فحملت المال ووضعته بين يديه وقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يتقدم بوزنه، فقال: ما أفعل ذلك، وهي تحت ختمي، فخفت أن يتأمل الختم، فعجلت إلى كسره وحلفت بنعمته: لابد من أن تزنه، فوزن. واتفق أن دخل منضيعتي ثلاثة آلاف دينار قبل الأجل، فحضرت عند دعلج ودفعتها إليه فقال: لا إله إلا الله أيها الشريف، بم استحققت منك هذا؟ أرتجعه قبل المدة فأكون كذابا؟ فأمسكت الدنانير حتى تكاملت في وقتها.

(1) دعلج بن أحمد بن دعلج المحدث العدل توفي سنة 351، انظر: تاريخ بغداد 8: 387 والمنتظم 7: 10 والبداية والنهاية 11: 241.

ص: 317

- 33 - (1)

حدثني أبو الحسن مهيار الشاعر قال: لما وزر أبو القاسم المغربي ببغداد تعظم وتكبر، ورهبه الناس، وانقبضت عن لقائه، ثم خفت عاقبة ذلك، فعملت فيه قصيدتي البائية المشهورة التي أولها:

هل عند عينك على غرب

ودخلت إليه فوقفت بين يديه طمعا في أن يجلسني فما فعل، فأنشدته:

نعم دموع يكتسي تربة

منها قميص البلد المعشب فرفع طرفه إلي وقال: اجلس أيها الشيخ فجلست، ومررت في القصيدة حتى بلغت إلى قولي:

جاء بك الله على فترة

ثانية من يرها يعجب

لم تألف الأبصار من قبلها

أن تطلع الشمس من المغرب فقال: أحسنت يا سيدي، فلما فرغت من الإنشاد جمع كل ما كان بين يديه من دينار ودرهم فدفعه إلي، وكان قدرها مائتي دينار، فقبلت الأرض وانصرفت. ودخل الصاحب أبو القاسم ابن عبد الرحيم رحمه الله فأعطاه دينارا ودرهما، فصاح بي: أيها الشيخ، فرجعت فسلمها إلي، وكان في الدينار ثلاثون مثقالا خالصا، ثم استدعى طستا وغسل كل ما مدح به من الشعر في ذلك اليوم.. وهذا وإن كان إحسانا من جانب فإنه سرف من جانب، ولو أحسن الدهر كله نهاره وليله لمحاه ما استجازه في الصاحب أبي القاسم، رضي الله عنه.

- 34 - (2)

حدث ابن نصر قال: حدثني الشيخ أبو القاسم ابن برهان النحوي قال، قال

(1) بغية الطلب 5: 29 وقد أورد الذهبي هذه الحكاية ملخصة في سير أعلام النبلاء 17: 395.

(2)

معجم الأدباء 14: 58 - 59 وإنباه الرواة 3: 287.

ص: 318

لنا أبو الحسن السمسمي (1) ؟ وقد سأله رجل مسألة من مسائل النوكي؟ حضر مجلس أبي عبيدة رجل فقال: رحمك الله أبا عبيدة ما العنجيد؟ قال: ما أعرفه هذا، قال: سبحان الله، أين يذهب بك عن قول الأعشى (2) :

يوم تبدي لنا قتيلة عن جي؟

د تليع تزينه الأطواق فقال: عافاك الله؟ عن حرف جاء لمعنى، والجيد العنق. ثم قام آخر في المجلس فقال: أبا عبيدة رحمك الله ما الأودع؟ قال: - عافاك الله ما أعرفه قال: سبحان الله أين أنت عن قول العرب: زاحم بعود أو دع؟ فقال: ويحك هاتان كلمتان. والمعنى أو اترك أو ذر، ثم استغفر الله وجعل يدرس، فقام رجل فقال: - رحمك الله؟ أخبرني عن كوفا، أمن المهاجرين أم من الأنصار؟ قال: قد رويت أنساب الجميع وأسماءهم ولست أعرف فيهم كوفا: قال: فأين أنت عن قوله تعالى؟: {والهدي معكوفا} قال: فأخذ أبو عبيدة نعليه واشتد ساعيا في مسجد البصرة يصيح بأعلى صوته: من أين حشرت البهائم علي اليوم؟.

- 35 - (3)

مخرج الضمير المنجم: هاتره بعض الحاضرين وخاطره على دنانير في إخراج ما قد خبأ له، وأشهدنا على نفسه أنه متى أخرج ذلك فالدنانير له. فحط مخرج الضمير الزايرجة، ولم يزل يقول: خبأت جوهرا من جواهر الأرض لا طعم له ولا رائحة، ثم قال: وهو حجر، ثم رمى عمامته عن رأسه ومضى إلى السوق على تلك الحال وعاد وقال: خبأت مسنا كذا هو، ورمى من يده قطعة من مسن، وأخذ الدنانير. فلما سكن قلنا له: كل شيء قد عرفناه إلى أن عدوت مكشوف الرأس، قال: دلني كوكب على لون، وكوكب آخر على لون غيره، وتقابلت الدلالتان فلم تعلق إحداهما بالأخرى، ولم أدر إذا امتزجا ما اللون الذي يخرج

(1) إنباه: التميمي.

(2)

ديوان الأعشى: 140.

(3)

تاريخ الحكماء للقفطي: 335 - 336.

ص: 319

منهما وبينهما، وحمي قلبي من الفكر، فكشفت رأسي وعدوت إلى الصباغ وقلت له: إذا مزجت اللون الفلاني باللون الفلاني أي شيء يخرج بينهما؟ قال: مسني، فقلت: هو مسن، زجراً وتخميناً، فخرج الحدس صحيحاً.

36 -

(1)

عليّ بن محمد بن نصر الكاتب قال: اجتمعت به [أي بأحمد النهرجوري العروضي] بالبصرة في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وأنا في جملة أبي العباس ابن ماسرجيس، وسافرنا عنها إلى أرجان مع بهاء الدولة، وخرج النهرجوري معنا وأقام في مصاحبته، إلى أن تقلد أبو الفرج محمد بن عليّ الخازن بالبصرة في أواخر سنة اثنتين وأربعمائة، فعاد معه إليها، ثم وردتها في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة متصلاً بخدمة شاهنشاه الأعظم جلال الدولة بن بهاء الدولة وقد مات النهر جوري قبل ذلك بشهور، بعلة طريفة لحقته من ظهور القمل في جسمه عند حكه إياه، إلى أن مات. وكان شيخاًً قصيراً شديد الأدمة سخيف اللبسة وسخ الجملة، سيء المذهب متظاهراً بالألحاد غير مكاتم له، ولم يتزوج قط ولا أعقب، وكان قوي الطبقة في الفلسفة وعلوم الأوائل ومتوسطاً في علوم العربية، وعلمه بها أكثر من شعره، وكان ثلابة للناس هجاءً، قليل الشكر لمن يحسن إليه، غير مراع لجميل يسدى إليه، وأنشدني أشياء كثيرة من شعره ومنه:

من عاذري من رئيس

يعد كسبي حسبي

لما انقطعت إليه

حصلت منقطعاً بي فسمع ذلك أبو العباس أبن ماسرجيس فقال: هذا تدليس منه، وانا المقصود بالهجو، وإنما قال: من عاذري من وزير، وقد راقبني في تعبيره، فلما توفي النهرجوري حمل إلى أبي العباس مسوداته، فوجد فيها القطعة منسوبة إليه، فأخرجها ووقفني عليها وعرفني صحة حدسه فيه.

(1) معجم الأدباء 5: 74 - 75 (2: 120 - 121) .

ص: 320

- 37 - (1)

قال ابن نصر: حدثني أبو أحمد العسكري بالبصرة، قال: كان أبو جعفر المجوسي عامل البصرة رجلاً واسع النفس، وكان يتعاهد الشعراء ويراعيهم، مثل العصفري والنهرجوري وغيرهم، وهم يهجونه، وكان هذا - وهذان خصوصاً - من أوضاعهم، وقد رأيت النهرجوري قال: فلما مات أبو جعفر رثاه النهرجوري بقوله:

ياليت شعري وليت ربتما

صحت فكانت لنا من العبر

هل أزين شوثناً وأمته

راكبة حوله على البقر

يقدمهم أربعون لبسهم

مع حلية الحرب حلة النمر

وأنت فيهم قد ابترزت لنا

كالشمس في نورها أو القمر

قد نكحوا الأمهات واتكلوا

على عتيق الأبوال في الطهر

وشارفوا بالنساء قد ولدت

غسل مضاريطها من الوضر

وأصبحوا أشبه البرية بالظ

ظرف وأولى بكل مفتخر (شوثن عند المجوس، يجري مجرى المهدي، ويزعمون أنه يخرج وقدامه أربعون نفساً، على كل منهم جلد النمر، فيعيدون دين النور) .

قال: فقلت: يا أبا أحمد هذه بالهجاء أشبه منها بالمرثية بكثير، قال: هكذا قصد النهرجوري - لا بارك الله فيه - وقد عاتبته وقلت له: ما أستحق أبو جعفر هذا منك، فقال: ما تعديت مذهبه الذي يعترف به.

- 38 - (2)

قال ابن نصر الكاتب في كتاب المفاوضة: سألت أبا الحسن الزعفراني النحوي البصري في باب ما لم يتسم فاعله: لم لم يجز تصيير ما يشتغل بحرف الجر قائماً مقام الفاعل؟ ولم قصر به فعله بحرف الجر عن رتبة الفاعل فصار

(1) معجم الأدباء 8: 255 - 257 (3: 134) .

(2)

إنباه الرواة 4: 109 - 110 وانظر بغية الوعاة 1: 268 واسم الزعفراني محمد بن يحيى.

ص: 321

مفعولاً؟ فدل في ذلك بما أوضحه وقال لي: ما نفعني شيء من النحو سوى هذا الباب فإني كتبت رقعة إلى أبي الحسن عليّ بن محمد بن كامل عامل البصرة، سألته النظر من جملة المساحة بجريبين فوقع:" يترك له من عرض المرفوع في ذكر المساحة " ووقف وقفة [من] لم يدر كيف الإعراب: هل هو جريبان أو جريبين فكتب ثلاثة أجربة، فتبركت بهذا الباب فقط.

قال ابن نصر: وسألت شيخه عليّ بن عيسى الربعي عن الزعفراني تلميذه هذا فأثنى خيراً ووصف وصفاً كثيراً.

قال: وكان أبو الحسن الزعفراني قال لي: إن أبا عليّ الفارسي نزل البصرة فقرأت عليه " الكتاب " فقال لي: أنت مستغن عني يا أبا الحسن، قلت: إن استغنيت عن الإفهام فلم أغن عن الفخر والجمال.

قال ابن نصر: فسألت الشيخ أبا الحسن عليّ بن عيسى بن الفرج الربعي عن هذا فصدقه وقال لي: قدم أبو عليّ الفارسي البصرة وأبو الحسن الزعفراني نحوي مستقل، وكان من أذكياء الناس.

39 -

(1)

قال ابن نصر الكاتب في المفاوضة ما مثاله: كان قد شجر بين أبي عبد الله ابن رطوبة النحوي وبين أبي الفتح أحمد بن عيسى الملقب بحمدويه منازعة في شيء من القوافي، وهل يجوز تحريك حرف الدخيل بغير الحركة التي يدأ بها؟ فزعم أبو عبد الله أن ذلك لا يجوز للشاعر، وأدعى ابن حمدويه جوازه وأحتج بقول البحتري في القصيدة اللامية التي يقول فيها (2) :

ملوك يعدون الرماح مخاصراً

إذا زعزعوها والدروع غلائلا ثم قال فيها:

(1) ؟ نباه الرواة 4: 139 - 140.

(2)

ديوان البحتري: 1606.

ص: 322

وقس يوم منويل وقد لمس الهدى

بأظفاره أو هم أن يتناولا ويقول الخباز البلدي (1) :

ذرى شجر للطير فيه تشاجر

وقال:

قيان وأوراق الغصون ستائر

فقال: أخطأ الشاعران جميعاً، وتنابذا وتسابا، فعمل فيه حمدويه في الحال:

أنت نحوي ولكن

بدلت حاءك جيما

في حر أم الدب المح

ض إذا كنت عليما وأنشده إياهما، ونهض منصرفاً، فضحك الجماعة من ذلك، فشتمهم ابن رطوبه ومضى.

- 40 - (2)

قال ابن نصر الكاتب: حدثني أبو عبد الله ابن رطوبه النحوي قال: كنت بالكوفة ملازماً للشريف أبي عليّ عمر بن محمد بن عمر، فقدم علينا فتى من أهل الحجاز أديب ظريف وقصد الشريف أبا عليّ وتردد إليه ونادمه، وكان يقول شعراً مطبوعاً، فخاطبته في بابه دفعات وقلت له: هذا فتى غريب، وقد دخل دارك وتحرم بطعامك فبره وتفقده، فقال: ما مدحني، فقلت: ليس الرجل منتدباً لهذا،وإنما يقول الشعر تأدباً لا تكسباً، ولعلك إذا أحببت أن يفعل، فأعرض عني، ونقل المجلس إلى الرجل فحضرني واستخبرني عما جرى، فذكرته وحملت الحال له،

(1) اسمه محمد بن أحمد بن حمدان، وهو منسوب إلى مدينة " بلد " من بلاد الجزيرة، انظر التتمة 2:189.

(2)

إنباه الرواة 4: 140 - 141.

ص: 323

قال: بلغني ماجرى على وجهه والله يحسن جزاءك، وأنشدني:

عثمان يعلم أن الحمد ذو ثمن

لكنه يشتهي حمداً بمجان

والناس أكيس من ان يحمدوا أحداً

حتى يروا عنده آثار إحسان وانصرف من الكوفة وكان آخر عهدي به.

ص: 324