المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ثم قال الناظم   ‌ ‌{الإضافة} هذا هو القسمُ الثاني من أقسام الإضافةِ، وهي - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٤

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ثم قال الناظم   ‌ ‌{الإضافة} هذا هو القسمُ الثاني من أقسام الإضافةِ، وهي

ثم قال الناظم

{الإضافة}

هذا هو القسمُ الثاني من أقسام الإضافةِ، وهي (1) إضافةُ الاسمِ إلى الاسمِ نحوُ: غلامُ زيدٍ، وصاحبُ الدابةِ. وخُصَّ بهذا القسم (2) اسمُ الإضافة، وإن كان اسمُ الإضافة يشملُ القسمين عند الأقدمين (لأنَّ المتأخرين يخصُّون هذا الاسم بهذا القسم وحدَه دون إضافةِ / الفعلِ

334 إلى الاسم. وأما الأقدمون: فاسمُ الإضافةِ عندهم يُطلَق بعمومٍ وخُصوصٍ، فَيطلَقُ بعمومٍ على كلا القسمين، ويُطْلَقُ بخصوصِ على هذا الثاني (3).

وابتدأَ الناظمُ ببيان أحكامِ الإضافةِ الأُوّلِ اللاّزِمةِ لها في ماهيَّتها، إِذْ لم يذكر لها حَدَّا فقال:

نُونَّا تَلِى الإعرابَ أَوْ تَنْويِنَا

مما تُضِيفُ احْذِفْ كطُورِسِينَا

والثانَيِ اجْرُرْ وانْوِمِنْ أَوْفى إِذا

لم يَصْلُحِ إلاّ ذاكَ واللامَ خُذَا

لِمَا سِوَى ذَيْنِكَ واخْصُص أَوَّلا

أو أَعْطِه التَّعْرِيفَ بالّذِي تَلَا

(1) س: وهو

(2)

س: بهذا الاسم.

(3)

انظر الكتاب 1/ 419.

ص: 1

نوناً: منصوبً (1) على المفعولية باحذِفْ، وأو تنويناً عطف على نوناً، ومما تُضْيِفُ أيضا متعلق باحذف. والتقدير: احذِفْ مما تضيفه نوناً تلى الإعرابَ أو تنويناً، ويعني أن الاسم الذي يُضافُ يلزمهُ حذفُ النُّون التي (2) في آخره تابعةً لإعرابه، وهي نونُ التنثيةِ وجمعِ التصحيح بالواو والنون، وما جَرَى مجراهما، أو حَذْفُ تنوينه إن كان مفرداً، أو جمع تكسير، أو تصحيح بالألف والتاء. ولم يَحْتَجْ إلى تقييد التّنوين بأنّه يلي الإعراب، لأنه لا يكون إلا كذلك بخلاف النون، فإنها قد تكونُ تاليةً للإعراب (وهي الجارية مجرى التنوين في الحكم المذكور (وقد تكون غيرَ تاليةٍ للإعراب، فلا تُحَذف من المضاف في الإضافة، فمثال النون التي تُحذَف عند الإضافة وهي التي (3) تلي الإعراب قولكَ: هذان ضاربا زيدٍ، وهؤلاءِ ضارِبُو زيدٍ، وًثنتا حَنْظَل (4) وقوله تعالى:{سيقولُ لك المخلَّفون من الأعرابِ شَغَلَتْنا أموالنُا وأهلونَا (5)} . و {من أوسط ما تُطْعِمُون أَهلْيكم (6)} . ونحو ذلك.

ومثال النون التي لا تُحَذفُ عند الإضافة، وهي التي لا تلي الإعراب؛ بل

(1) الأصل: منصوباً.

(2)

الأصل: الذي.

(3)

التي: ليست في س.

(4)

جزء من بيت لخطام المجاشعي، وهو

كأنّ خُصْيْيَيْهِ من التَدلْدُلِ ظَرْفُ عَجُوزِ فيهِ تنْتَا حَنْظَلِ

أنظر البيت في الكتاب 3/ 569، 624، والمنصف 2/ 131.

(5)

من الآية 11 من سورة الفتح.

(6)

في النسخ: ومما تطعمون أهليكم. وصواب الآية ما أثبتناه، انظر الآية 89 من سورة المائدة.

ص: 2

الإعرابُ هو الذي يليها (1) قولك: هذا حَيْنُكَ، وهذه سِنِيُنك، على من قال (2):

دَعانِيَ من نَجْدٍ فإنَّ سِنِينَه

وأعجبني إحسانُه، فلا تُحَذفُ هذه النونُ لأنها غيرُ جاريةٍ مجرى التّنوين، ولابُدَّ، فكذلك ما ناب عنه (3).

وأما نونُ حينٍ وغِسْلينٍ وإحسانٍ ونحو ذلك: فالإعرابُ يكونُ فيها، فليست بتاليةٍ لأنَّها من أصلِ الكلمة ومن بِنْيَتِها، فهي جاريةٌ مَجْرَى ميم غلامٍ وباءِ صاحبٍ إذا قلت: غلامُ زيد، وصاحبُ عمرو. فالذي تَحْذِفُ الإضافةُ هنا التنوينُ خاصَّةً.

((ومَثَّلَ (4) الناظم)) ما قال بمثال مما يحذَفُ فيه التنوينُ وهو طور سيناءَ. والتنوينُ المحذوف هُنا لم يُقَيِّده بظاهر ولا مُقَدَّر، فيشملُ من حيث الإطلاقِ الجميعَ، فالظاهرُ قد تقدم مثاله، والمقدَّرُ نحو: أحمَرُ القوم، وذكرى الدار، وصحراء بني فلان، فإن التنوين هنا مقدر، فمنَعت الإضافةُ تقديرَه. والدليلُ على ذلك ظهورُه في ضرورةِ الشِّعر، ولابد أن يكون مراداً للناظم، وإلَاّ خرج باب مالا ينصرف عن قاعدته المطلقة.

ولقائلٍ أن يقولَ: إنّ مالا ينصرفُ لم يدخُلْ له، فإنه قال: احذف،

(1) س: وهي التي لا تلي الإعراب وهو الذي يليها.

(2)

الصمة بن عبدالله الشقيري، وعجز البيت:

لعبن بنا شيباً وشَيّبْنَنَا مُرْداً

والبيت في الأمالي الشجرية 2/ 53، وشرح المفصل لابن يعيش 5/ 11.

(3)

س: وراءِ عَمْروٍ. وهو خطأ.

(4)

ما بين القوسين مكانه بياض في س، وفي صلب الأصل: ومثال، والمثبت عن الهامش.

ص: 3

والحذف حكم لفظيٌّ لا تقديري، فإذا كان كذلك فكأنَّه قال / ((نوناً تلي الإعرابَ 335 أو تنوينا)) ظهرا فيما أريدت إضافتُه احِذْف وأزل حتى تتأتى الإضافة، لأن المضاف إليه قائم في محل تنوين المضاف، فإذا لم يُوجَدْ نونُ ولا تنوينٌ، فالمحلُّ قابلً لوقوع المضاف إليه هناك. وأحمر وذكرى ونحوهما لا تنوين فيها ولا نون، فلا يحتاج إلى حذف شيء.

والدليل على ذلك وأَنّ مُراده الظاهرُ من التّنوين أو النون تقييده بالتمثيل، وهو طور سيناءَ، إذ كان التنوين في طورٍ ظاهراً حالة ترك الإضافة، فكأنه يقول: إن كان ثَمَّ تنوينٌ أو نونٌ حذَفْتَه، وإلاّ فلا حاجة إلى أمر زائد، وإلاّ فكيف يُصنع بما لا نونَ فيه ولا تنوينَ، لا ظاهرٍ ولا مُقَدَّرٍ، ولا يصح فيه ذلك، نحو: كم دِرْهمٍ أعطيتَ؟ فإنَّ درهمٍ)) مضاف إليه كم، وكم مبنُّي بحق الأصل، وكذلك لَدُنْ مبنية بالإصالة وهي مضافة نحو: من لَدُنْه ومن لدنِّي وما أشبه ذلك، فأين تقديرُ التنوين (1)؟ وهو إنما يتبع في هذا النحو حركةَ الأعِرابِ، وكذلك تَقُولُ: إذا أَضَفْتَ المثنّى والمجموع بالواو والنون، وقد حذفت النون لتقصير الصلة نحو (2):[الفارِجُو بابِ الأميرِ المبْهَمِ] لا نون هنا فَتُحذفَ فلابد أن يقال: إنَّ مراده التنوينُ والنونُ الظاهرانِ خاصةً، وَإِلَاّ (3) كان كلامُه مُشْكِلاً.

والجواب أنَّ رأي المؤلِّفِ هو الأوّلُ، وأنَّ الحذف يَتَسلَّط على المقدَّر، كما يَتَسلَّط على الظاهر، وذلك أنه لما قام الدليل على أن مالا ينصرف مقدر فيه التنوين، وأن الاضطرار هو الذي بين ذلك، بدليل أن مالا يُقدَّر

(1) في صلب الأصل: النون. والمثبت عن الهامش، س.

(2)

يُنْسَبُ إلى رجُلٍ من ضبَة، والبيت في الكتاب 1/ 185، والمقتضب 4/ 145، والجمل للزجاجي 89.

(3)

س: وإن كان. وهو خطأ.

ص: 4

((فيه التنوينُ لا ينون (1))) في الاضطرار، كذي الألف واللام، لم يكن بدُّ من القول بتقدير حذفه، لأنَّ التنوين مضاد للإضافة، فإذا قُدِّر لم تصح الإضافة، لأن الإضافة تقتضي اتصال المضاف بالمضاف إليه، والتنوين يقتضي انفصالها فتنافيا، وكونُ ذلك لا أثر له في الظاهر لا يمنع، فإن له أثرا من جهة المعنى، وهو ما تقدم، فلابد من القول ((به (2))). ويُحْمَل (3) تمثيلُ الناظم على أنه ليس بتقييدٍ، ولا مُخْرِجَ لشيءٍ.

وأما الاعتراض بكم درهمٍ ولدُنْه، وبقوله (4):((الفارجو بابِ الأمير)). فذلك من القلّةِ بحيثُ لا يعتبرُ في هذه الكُلِّية، وأيضا إذا كانت النونُ محذوفةً لتقصير الصلِّة (5)، فهي محذوفةٌ رأساً غير مقدَّرة في الموضع، فأغنى حذفُها للطول عن حذفها للإضافة، وهذا ظاهر.

ثم قوله: ((مما تضيفُ)) يشُعِرُ بالاعتماد على قَصدِ الإضافة في هذا العمل وذلك صحيح؛ إذ لابد من قصد ذلك وإلاّ لم تحصُلْ؛ إذ لا تحصُلِ الإضافة من غير قصدٍ إليها، وإذا قُصدَت حَصَلَ ما قالَ من العمل.

ثم قال: ((والثاني اجرُرْ))، يعني بالثاني المضافَ إليه وهو ((زيد)) في قولك: غلامُ زيدٍ، فتقول: غلامُ زيدٍ يا هذا، وصاحبا عمرو، ((بجرِّ عمرو (6)))، وكذلك ((القوم)) في قولك: منطلقو القوم، وما أشبه ذلك.

والجرُّ هنا أيضا تارة يكون ظاهرا نحو ما تقدم ((ذكره (6)))، وتارة يكون

(1) ما بين القوسين مكانه بياض في الأصل. وفي صلب الأصل: لا ينوى. والمثبت عن الهامش.

(2)

سقط من س.

(3)

س: ويحتمل.

(4)

س: وقوله.

(5)

انظر الكتاب 1/ 186 - 187.

(6)

ما بين القوسين سقط من س.

ص: 5

مقدَّرا بأن تجعل الموضع موضع جَرٍّ، وذلك إذا كان المضاف إليه مبنياً نحو: غلامك وغلامُه وصاحباك وضاربونا، فإن موضع الضمير لابد أن يقدر أنه جَرُّ (1) / والدليل على ذلك 336 أنه إذا عُوِّض منه الظاهرُ ظَهَر فيه الجرٌّ وأيضا فالجرُّ المقدَّرُ ضربان:

أحدهما: هذا. والآخر: أن يكون التقديرُ في مُعْرَبٍ تَعَذَّر ظهوره فيه، كالمقصور والمضاف إلى ياء المتكلم والمنقوص، نحو: غلامُ الفتى، وغلامي، وغلام القاضي. وما كان مثَل ذلك.

فإطلاقُ الناظمِ صالحٌ لهذا كلِّه، ثم بيَّن أن الإضافة على ثلاثة أقسام: إضافة بمعنى من، وإضافه بمعنى في، وإضافة بمعنى اللام، فالإضافة بمعنى اللام هي الأصل لأنها الأكثر في الكلام، ولأنه لا يُدَّعى غيرها إلا إذا تعين ذلك المعنى في الموضع على ما يظهر من قوله:((وانو من أوفى إذا لم يصلح إلا ذاك))، يعني أن الإضافة قد تكون على نية مِنْ على أن معنى مِنْ موجودٌ تقديرا، وقد تكون بمعنى في كذلك، لكنْ هذان الوجهان لا يُرجَعُ إليهما إلا إذا لم يصلح في الموضع غيرهما، فيتعيَّنُ كلُّ واحدٍ منهما في موضعه.

فمثالُ ما يتعيّنُ فيه تقديرُ مِنْ ما كان فيه المضافُ بعضَ المضافِ إليه نحو: خاتمِ حديد، وثوبِ خَزٍّ، وبابِ ساجٍ، وخاتِم طينٍ، ورطلِ زيتٍ، وما أشبه ذلك، فالإضافة هنا بمعنى من والتقدير: خاتمٌ من حديد، وثوبٌ

(1) س: موضع جرّ.

ص: 6

من خزٍّ، ((وبابٌ من ساج (1))) وخاتمٌ من طين ورطلٌ من زيت وكذلك ((سائر (2) الأمثلة)) ويتعين هذا التقدير فيها، إذ لا يصح أن يُقَدَّر فيها معنى اللام، فلا تقول: خاتمٌ لحديدٍ، ولا ثوبٌ لخزٍّ، ولا ما أشبه ذلك.

ومن هذا القسم جميعُ المقادير إذا أُضِيفَتْ إلى المقَدَّرات، كشِبْرِ أرضٍ، وقفيزِ برٍّ وخمسةِ أثوابٍ، وعشرةِ رجالٍ، وما كان منه.

ويبقى النظرُ بعد هذا في نحو: رِجْلِ زيدٍ ويدِ عمروٍ' وبعض القومٍ، وكلِّ الرجالِ، فإن تقدير مِنْ فيه سائغ؛ إذ يصح أن يقال: رجْلٌ من زيدٍ، ويدٌ من عِمْروٍ، لأنها بعضٌ منه، فصار بهذا الاعتبار كخاتمِ حديدٍ، لأن الخاتم بعضُ الحديدِ، وكذلك بعضٌ القوم، لصحة قولك: بعضٌ من القوم، لكن يمكن أن يُقِدِّر فيه اللامُ، فتكون الإضافةُ على معنى اللام، ويصلح (3) أن تُقِدِّره: رجلٌ لزيد ويدٌ لعمرو وبعض للقوم، وإذا صلح ذلك خرج عن أن تكون الإضافة فيه بمعنى من، بنص كلام الناظم؛ إذ قال:((وانو من أوفي إذا لم يصلح إلا ذاك))، وههنا صَلَح غير ذاك، فلا تنوي من.

وبهذا القيد ضَبَطَ هذا المعنى، وهو صحيح جارٍ على ما ذهب إليه في غير هذا الكتاب. وإنما ضَبَطَ في التسهيل إضافة من يكون الأول بعض الثاني مع صحة الإخبار به عنه، فتقول: خاتَمُك حديدٌ، وثوبُك خزٌّ. وهذا صحيح أيضا. ولا تقول: اليد زيد، ولا الرجل عمرو، وقد يكون تقْييِدُه في هذا النظمِ أنسبِ وأَدَلَّ على المقصود وأوضح في الاستدلال على صحة ما ضبط لأن قوله: ((إذا لم يصلح إلا ذاك، يعطي أنه لا يقدم على تقدير من أوفي إلا إذا لم يوجد عن ذلك

(1) سقط من س.

(2)

مكانه بياضٌ في س.

(3)

س: ويصحّ.

ص: 7

مندوحة. وهو (1) استدلال قياسيٌّ في الموضع، وإلاّ فالأصل الذي هو معنى اللام طالب له، فإذا صَلَح تقديرُ اللَاّمِ / لم يُنْتَقَلْ عنه إلا بدليل واضح وسبَبٍ قَوِيٍّ، وذلك موجود في

337 خاتم حديد، وثوب خَزٍّ ونحوه، وغير موجود في نحو: يد زيد، وبعض القوم وما ضبطه (2) في التسهيل لا يعطي هذا المعنى، فكأن ((ما (3))) هنا أولى.

وقد ذهب ابن كيسانَ والسيرافي إلى أن إضافةَ كلٍّ وبعضٍ من الإضافة التي بمعنى من، ولم يَرِه الناظمُ، لأنَّ تقدير منِ تقدير منِ لا يتعين فيهما، فلا ينبغي أن يقال به إلا إذا تعين كما تقدم، فالظاهر مذهب الناظم، وقد عزا في الشرح معنى ما ذكر في التسهيل إلى ابن السراَّجِ.

وأما الإضافة التي بمعنى في، فمعناها على أن يكون المضافُ إليه ظرفاً وَقَع فيه المضافُ، وهذه الإضافةُ قد أغَفَلها أكثرُ النحويِّين وأثبتَها المؤلِّفُ في كُتُبِه، وقال بها لوجودها (زَعَم (في الكلام الفصيح بالنقل الصحيح، كقوله تعالى: {وهو أَلِدُّ الخصامِ} (4). لأن المعنى وهو أَلَدُّ في الخصام، وكقوله تعالى:{للذين يُؤْلُون من نِسائهم تَرَبُّصُ أربعةِ أَشْهرٍ (5)} . فالمعنى: تَربُّصُ في أربعة أشهر. وقوله (6) تعالى: {يا صاحِبَي

(1) س: وهذا.

(2)

الأصل: ضبط.

(3)

سقط من س.

(4)

من الآية 204 من سورة البقرة.

(5)

من الآية 226 من سورة البقرة.

(6)

س: وكقوله.

ص: 8

السجنِ (1)}، أي: يا صاحِبَيَّ في السجن وقوله: {بل مَكْرُ اللَّيلِ والنَّهارِ (2)} . وفي الحديث: ((لا يَجِدُون عالِماً أَعلَمَ من عالمِ المدينةِ (3))). والعربُ تقولُ: شهيدُ الدارِ وقتيلُ كربلاءَ.

ثم أنشد أبياتاً على هذا المعنى، تُشْبِه ما أَنْشَدَ سيبويه للكُميت (4):

شُمٍّ مهاوينَ أبدانَ الجَزُورِ مخا

ميصَ العَشِيَّاتِ لا خُورٍ ولا قَزَمِ

ثم قال: فلا يَخْفَى أنّ معنى ((في)) في هذه الشواهد كلِّها صحيح ظاهر، لا غنى عن اعتباره وأَنَّ اعتبار غيره ممتنع أو مُتَّصِلٍ إليه بتكلُّف لا مَزِيدَ عليه، فيصح ما أردناه والحمدلله، ولقد رد عليه ابنه في الشرح بأوجه ثلاثة (5):

أحدها: أَنَّ إثبات هذه الإضافةِ يستلزم دْعَوْى كَثْرَةِ الاشتراكِ في معناها، وهو على خلاف الأصل.

وله أنْ يُجِيب عن هذا بأنَّ الدليلَ هو المتَّبَع، وقد دلَّ على وجود إضافه ((في)) (6) كما بُيِّن، فلابد من اتِّباعه.

(1) من الآية 29 من سورة يوسف.

(2)

من الآية 33 من سورة سبأ.

(3)

تحفة الأحوذي، أبواب العلم 7/ 418، وفيه ((لا يجدون أحداً أعلم .. )). وكلمة ((عالما)) ساقطة من س.

(4)

الكميت، ديوانه 188، والكتاب 1/ 114، وشرح المفصل لابن يعيش 6/ 74، وشرح الكافية للرضى 3/ 421، والخزانة 8/ 150، واللسان: هون. وقبله:

يأوي إلى المجلسٍ بادٍ مكارمهُم لا مُطعمي ظالمٍ فيهم ولا ظُلُم

مهاوين: جمع مِهْوان، وهو مبالغة مُهِين، من أهانه إذا أذلّه، والإضافة في مخاميص العشيات اتساع، والأصل: في العشيات. والقَزَم: رُذَّال الناس.

(5)

انظر شرح ابن الناظم 382 - 383.

(6)

مكانه بياض في س.

ص: 9

والثاني: أن كل ما استُدلّ به يصحُّ فيه معنى إضافة (1) اللامِ مجازاً، وهو أرجح من جهتين، إحدهما أن المجاز خيرٌ من الاشتراك، والثانية: أنَّ الإضافة لمجازِ الملكِ والاختصاص ثابتةٌ باتفاق، كما قوله (2):

إِذَا كوكبُ الخَرْقَاء لاح بِسُحْرةٍ

وقولِ الآخَرِ (3):

لِتُغْنِي عَنِّي ذا إِنائِك أَجْمعاَ

والإضافة بمعنى في مُخْتلَفٌ فيها، والحملُ على المتَّفق عليه أولى.

وله أن يجيب عن الأولى بأنها معارضةٌ بقول من عَكَس القضيةَ، فجعلُ الاشتراك أولى، والمسألة خلافيَّةٌ، يذكرها أربابُ الأصولِ.

وعن الثانية: بأنّ الدليل قد دلَّ على وجودِ ما اخُتِلف فيه، فَتَرْكُ القولِ به مع قيامِ الدليل عليه إهمالٌ للدليلِ من غير موجِبٍ، وهو باطل باتفاق.

والثالث: أَنَّ الإضافةَ في نحو: {بل مكرُ الليلِ والنهارِ} . إِمَّا بمعنى اللام على جَعْلِ الظَرْف مفعولاً به على السعَّة، ((4 - وإِمَّا بمعنى في، على بقاء الظرفية، والاتفاق على جواز جَعْلِ الظَّرْفِ مفعولاً به على السعَّة -4)) كما في:

صيِد عليه يومان وُوِلد له ستّون عاما. والاختلافُ في جواز إضافة في، والمتَّفَقُ عليه أرجَحُ.

(1) في هامش الأصل: الإضافة بمعنى.

(2)

مجهول. وعجزه: سهيلً أذاعت غزلها في القرائب

وهو من شواهد ابن يعيش 3/ 8، وفي الخزانة 3/ 112، 9/ 128، واللسان: غرب.

(3)

حريث بن عَنّاب الطائي، وصدره:

* إذا قال: قدني، قال بالله حِلْفَةً *

وهو من شواهد ابن يعيش 3/ 8، والهمع 4/ 242، وفي الخزانة 11/ 434.

(4)

سقط من س.

ص: 10

ويعارض هذا الاتفاق باتفاقهم على أن الأصل في الظرف/ الذي (1) وقع فيه

338 الفعل أن يبقى على ظرفيته، كما إذا سبكت من المضاف فعلا نحو قولك، بل مَكَرْتُم الليل والنهار، وزيد لدَّ في الخصام، وتربص أربعة أشهر، وما أشبه ذلك، وإذا كانت الإضافة هذا أصلها باتفاق، فالأصل بقاءُ معناها وعدم نسخه بمعنى آخر.

هذا مما يُعتذرُ بع عما يرد عليه، وقد اعتُرض عليه أيضا في ارتكاب هذا المذهب بأشياء، منها ما ذكره ابنُه، وتأوُّلُ ما استشهد به المؤلِّفُ، على غير تكلف، والأمر في ذلك كله قريب؛ إذ لا يختف حكم الكلام مع تقدير أحد الأمرين.

ثم قال: ((واللام خُذَ الماسوى ذين)). خذا: أصله خُذَنْ، بالنون التوكيدية، أبدلت في الوقف ألفا كقوله (2):

ولا تَعْبُدِ الأوثانَ واللَّهَ فاعبُدَا

ويعني أن ماسوى هذين القسمين فالإضافة (3) فيه على معنى اللام، واللام فيه منوية، وهو الباب الكثير، سواء أحسُنَ ذكرها لفظا أم لم يَحْسُن، فإن اللام مقدرة، فقولك: زيدٌ عند عمرو، على تقدير اللام بلابُدٍّ، وإن لم يصح أن تقول: زيد عنداً عمرو، كما كانت الظروف غير المتصرفة على تقدير فْي وإن لم يحسُن تقديرها نحو: زيد عندك، وقد يحسُن ذكرها لفظا، وهو الباب، نحو: غلامُ زيد، وصاحبُ عمرو، وسرجُ الدابة،

(1) سقط من س.

(2)

الأعشى، ديوانه 137، وصدره: فإيّاك والميتات لا تقربنّها

وهو من شواهد الكتاب 3/ 510، والمقتضب 3/ 12.

(3)

س: الإضافة.

ص: 11

وثوب المرأة، وما أشبه ذلك.

وفي قوله: ((واللام خُذ الماسوى ذين)) إشعار بأن اللام هي الأصلُ؛ إذ المعنى: واللام خُذْ لما لم يتعين فيه تقدير من أوفى، فرجَّح اللام كما ترى وإن احتمل غيرها، وما ذاك إلا لأصالتها في باب الإضافة، وقد تقدم هذا المعنى. وهنا مسألتان:

إحدهما: أنَّ في كلامه هنا ما قد يُستشعر منه أن الجارَّ للمضاف إليه هو الحرفُ المنويُّ لأنه لما قال ((والثاني اجرُرْ وانوِمِنْ))

إلى آخره. فهو في حكم ما لو قال: والثاني: اجرر بكذا أو كذا منوياً هناك لا ظاهرا، فإن أراد ذلك فهو أحد المذاهب الثلاثة أن الجر بالحرف المقدَّر الذي ناب عنه المضاف، وهو رأي ابن الباذش.

والثاني: أن الجر بمعنى الإضافة، فالعامل هنا على هذا الرأي معنويٌ لا لفظي، وهذا رأي السُّهيلي (1).

وذهب الأكثر إلى أن الجارَّ هو المضاف نفسه، لكن من هؤلاء من يطلق هذا القول هكذا، ومنهم من يقول: أنه عمل الجر لتضمُّنه معنى حرفه، وظاهر التسهيل موافقةُ الجماعة، ولكل مذهبٍ حُجَّة قيل به (2) من أجلها، والذي يغلب على الظن أن الناظم لم يتعرض للعامل ما هو، فلا يحتاج إلى تكلُّف الاحتجاج، وإنما أراد أن الإضافة تأتي على هذه المعاني خاصة.

والثانية: أن الناظم جعل للإضافة (3) التقدير بالحروف من غير أن

(1) انظر أمالي السهيلي 20، 50.

(2)

س: فيه.

(3)

الأصل: الإضافة التقدير بالحرف.

ص: 12

يفصل بين الإضافة المحضة وغيرها، كما جعل حَذْفَ التنوين والنون والجرَّ في المضاف إليه عاما في نوعيها (1) ولم يُفَصِّل، فدل ذلك (2) على أنه ذهب إلى تقدير الحرف في الإضافة غير المحضة، كما جعلها في المحضة، وهذا مخالف لظاهر كلام النحويين، فإنهم إنما يُقَدِّرون الحروف في الإضافة المحضة ولا يُعَرَّجون على تقديرها في غير المحضة، لأنها عندهم لمجرد التخفيف، وهي في قوة الانتفاء، ولذلك يسمُّونها لفظية، أي أن تأثيرها إنما هو في اللفظ لا في المعنى، فكأنها مقصودةٌ، وتقدير اللام أو/ غيرها ثانٍ عن حصول معنى الإضافة ولم يَحْصُلْ، فلا يصح تقدير

339 الحرف، ولكن ما رآه الناظم قد قال به ابن جنَّي حين تكلم على بيت (3) عَبْدَةُ بن الطبيب من شعراء الحماسة (4):

تحية من غادرته غرض الردى

إذا زار عن شحط بلادك سلما

فزعم أن غرض الردى لما كان في معنى الصفة حالٌ، وأن الإضافة غير محضةٍ، وأن تقديره غرضا للردى (5)، فَحُذِفَت (6) اللام كما تُحذف من اسم الفاعل نحو: مررت بزيد ضارب عمرو، أي ضارباً لعمرو، أو من

(1) س: نوعها.

(2)

عن س.

(3)

س: ارجوزة عبدة.

(4)

الحماسة 1/ 387.

(5)

قال ابن جنّي في إعراب الحماسة، ورقة 116:((ونصب (غرض الردى) على الحال (وإن كان مضافا إلى معرفة (لما كان [في] معنى الصفة، ، أي: منصوب الردى ومقصود الردى، وتقديره غروضا للردى

)).

(6)

س: حذفت.

ص: 13

اسم المفعول نحو: جاءني زيد منصوباً للأذى، ثم منصوبَ الأذى، فجعل الإضافة غير المحضة (كما ترى (في تقدير اللام.

قال الشَلَوبينُ: لابد عندي مما قال أبو الفتح، وتَتَأَوَّلُ الظواهر (يعني ظواهر كلام النحويين سيبويه وغيره (فإن الخفض إذا كان بالإضافة فلابد أن تُقدر أن الأصل ضاربٌ لزيدٍ، حتى يكون في الكلام معنى الإضافة. وأن قُدر (1) أن الأصل ضاربٌ زيداً لم يكن هناك إضافة أصلا، وإنما يكون فيه المعنى الذي يقتضي به الفعلُ مفعوله، ولا إضافه هناك، فلا سبيل إلى الخفض، فإذا أردت التخفيف في هذا النوع أدخلت في الكلام معنى إضافة الصفة إلى المفعول بواسطه اللام لضعفها عن قُوة الفعل، ثم أضفت الصفة إلى المفعول إضافة تخفيفٍ لا تعريف، فحذفت اللام والتنوين لذلك.

[قال](2) وهذا من أبي الفتح تنبيهٌ عالٍ جداً قلَّ من يعرفُ قدره أو يُلْقِى له باله. هذا ما قال، ولا مزيد عليه في توجيه ما رآه الناظم، وهو من التنبيهات الحسنة وبالله التوفيق.

ثم قال: ((وأخصُص أولا))، ، إلى آخره. هذه تتمةُ التعريف بأحكام الإضافة اللازمة لماهيتها (3)، وقد جعل هذه الإضافة على قسمين:

قسمٌ يفيد تعريفا للمضاف بالمضاف إليه أو تخصيصا، وهو الذي قال فيه:((واخصص أولا أو أعطه التعريف)).

وقسمٌ لا يفيد تعريفاً ولا تخصيصاً، وإنما يفيد تخفيفا في اللفظ، وهو الذي

(1) في الأصل: وأن تقدر.

(2)

عن س.

(3)

الأصل: لما هياتها.

ص: 14

قال فيه بعد: ((وأن يُشابه المضاف يفعل)) .. إلى آخره.

فأما كلامه في القسم الأول: فيعني أن الأول من الاسمين، وهو المضاف، يحصل له بتاليه الذي بعده، وهو المضاف إليه، أحد أمرين: إما التخصيص به وإما التعريف به.

فأما التعريف: ففيما إذا كان الثاني معرفةً نحو: غلامُ زيدٍ، وصاحبُ الدابَّةِ، وفرسك، ما أشبه ذلك، لأن المضاف لما وقع من المضاف إليه موقع تنوينه واتصل به اتصال الجزء منه اكتسى منه التعريف الذي هو وصْفُه.

وأما التخصيص: ففيما إذا كان المضاف إليه نكرةٍ نحو: غلامُ امرأةٍ، وصاحبُ رجل صالح، ونحو ذلك، فالمضاف هنا ليس بمكتسٍ من المضاف إليه تعريفا؛ إذ ليس بمعرفةٍ ولكنه يتخصَّصُ به من سائر الأنواع والأجناس، فقولك: غلامُ امرأةٍ، قد تخصَّص بإضافته إلى المرأة على أن يكون غلامَ رجلٍ، فالتخصيص المفهوم من قوله:((واخصص أولا)) راجعٌ إلى النكرة، والتعريف/ 340 راجعٌ إلى المعرفة، هذا وإن كان التخصيص في المعنى أعمَّ من التعريف، إذ المضاف إلى معرفةٍ قد تخصَّص به وتعرَّف، والمضاف إلى نكرةٍ تخصَّص به ولم يتعرَّف، إلا أن اصطلاح النحاة هنا في التخصيص أن يخصُّوه بما لا يحصل معه التعريف كأنه قسيمٌ (1) للتعريف.

وقوله: ((بالذي تلا)) مطلوبٌ للفعلين معا. في قوله: ((واخصص)) وقوله: ((أو أعطه التعريف))، فاخصُصْ والتعريفُ يطلبانه معا من باب

(1) س: قسم.

ص: 15

الإعمال؛ إذ التقديرُ (واخصص أولا) بالذي تلا أو عرِّفه (بالذي تلا) فأعمل الثاني وهو التعريف، ولو أعمل الأول لقال: أو أعْطِهِ التعريف (به (بالذي تلا، ويقال: خَصَصْتُ الشيء بالشيء: إذا أفردته [به (1)]، فقوله:((واخصُصْ أولا)) من هذا.

وأما القسم الثاني من قسمي الإضافة، فهو الذي قال فيه:

وَإِنْ يُشَابِهِ المضافُ يَفْعَلُ

وصفاً فَعَنْ تنكيره لا يُعْدَلُ (2)،

كَرُبَّ راجِينا عظيمُ الأمَلِ

مُرَوَّعُ لقَلْبِ قَلِيلُ الَحِيلِ

يعني أن المضاف إن كان شبيهاً بالفعل الموازن ليفعل، وهو المضارع، وواقعا موقعه، وهو وصفً من الأوصاف، فإن الإضافة لا تُؤَثِّر فيه تعريف ولا تخصيصا؛ بل يبقى على ما كان عليه من التنكير قبل الإضافة، فإنه من حيث وقع موقع الفعل وأشبه الفعل في نِيَّة الانفصال، لأن المضاف إليه إما مرفوعُ المحلِّ بالمضاف أو منصوبهُ، والإضافةُ غيرُ ناسخةٍ لهذا المعنى، فكلما كان قبل الإضافة نكرةً، فكذلك بعدها، إذْ لا فائدةَ للإضافة هنا إلا مجرد تخفيف اللفظ حسب ما أَشْعَر به قوله بعد:((وذي الإضافة اسمها لفظية)) (3).

فإذا قلت: مررت برجل ضاربِ زيدٍ غدا، فهو في تقدير: ضاربٍ زيداً غداً، وكذلك إذا قلت:[مررتُ] برجل قائمِ الأبِ، هو في تقدير: قائمٍ أبُوه، فلا

(1) ليست في س.

(2)

في هامش الأصل: يُعْزَل. وسينبه الشارح إلى هاتين الروايتين.

(3)

عن س.

ص: 16

تخصيص ولا تعريف.

وقد حصل من هذا الكلام وصفان مشترطان في الحكم المذكور:

أحدهما: كونُ المضاف شبيهاً بالفعل الموازن يَفْعَلُ، وهو المضارع.

فإذا كان المضاف شبيهاً به فهناك يكون ما قال، فإن لم يشابهْه كانت الإضافة محضةً، والشبه المراد هو المعنوي لا اللفظي، وإن كانت لفظة المشابهة تصدق على المشابهة اللفظية [والمعنوية (1)]، لتقييدها بالأمثلة المذكورة بعد؛ إذ لم يُلتزم فيها إلا المشابهة المعنوية، فذلك أن يكون المضاف مرادا به الحال أو الاستقبال، فهناك تكون الإضافةُ غير معرفة ولا مُخصصة، فلو كان بمعنى الماضي كاسم الفاعل الماضي الزمان لم تكن إضافته إلا محضة من القسم الأول، فتقول: مررت بزيد ضارب عمرو أمسٍ، كما تقول: مررت بزيد صاحبِ عمروٍ، أو أخي عمروٍ، أو غلامِ عمروٍ، لأن اسم الفاعل بمعنى يفعل، إنما كانت إضافته غير محضة لكون المضاف في نية الانفصال من المضاف عليه؛ إذ الأصلُ الرفعُ أو النصبُ كما تقدم، / أعني في المضاف إليه. وأما اسم

341 الفاعل بمعنى الماضي، فإنما المضاف إليه معه في موضع جر بالإضافة على ظاهر لفظه، وليست إضافته من رفعٍ ولا نصبٍ، لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يرفع ظاهرا ولا ينصب مفعولا البتة عند البصريين، والناظم منهم، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.

والثاني: كون المضاف وصفاً، وهو أن يكون مشتقا شأنه أن يجري على موصوف، فإذا كان كذلك صحَّ ما قال، فإن لم يكن وصفاً،

(1) عن هامش الأصل، وليست في س.

ص: 17

فإضافته محضةٌ تُخصِّصُ وتعرفُ، وذلك المصدر الواقع موقع أن والفعل، فإنه شبيه بيفعل وواقع موقعه والمضاف إليه في موضع رفع به نحو: أعجبني قيام زيدٍ غداً، لأن التقدير: أعجبني أن يقوم. أو في موضع نصب نحو: أعجبني أكلُ الطعامِ وشربُ الماءِ الآن أو غداً، فإن التقدير: أن آكلَ الطعامَ، وأن أشربَ الماءِ، لكن إضافته ليست في تقدير الانفصال؛ بل هي محضةٌ تفيد نكرتُه التخصيص ومعرفتُه التعريف، فلذلك قيَّد المضاف بكونه وصفا لأن المصدر المقدر بأن والفعل ليس بوصفٍ.

وما ذهب إليه هنا في المصدر هو رأي الجمهور، وذهب بعضهم إلى أن إضافته غير محضةٍ؛ لأن المجرور به إما مرفوع المحل به أو منصوبهُ، وذلك يحقق كون إضافته في نية الانفصال كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة. وضعف غيره هذا الرأي من أربعة أوجهٍ:

أحدها: أن المصدر المضاف أكثر استعمالا من غير المضاف، فلو جعلت إضافته في نية الانفصال لزم جعل ما هو اقل استعمالا أصلا لما هو أكثر استعمالا، وذلك خلاف المعتاد.

والثاني: أن إضافة الصفة إلى مرفوعها أو منصوبها منويَّة الانفصال بالضمير المستتر فيها، فجاز أن ينوي انفصالها باعتبار آخر، والمصدر بخلاف ذلك، فتقدير انفصاله (1) مما هو مضافٌ إليه لا مُحْوِجَ إليه، ولا دليل عليه.

والثالث (2): أن الصفة المضافة إلى مرفوعها أو منصوبها واقعة موقع الفعل المجرد (3)، والمصدر المشار إليه محكوم بتعريفه، فليكن الواقع موقعه كذلك.

(1) الأصل انفصالها.

(2)

س: والثالثة.

(3)

الأصل: المفرد.

ص: 18

والرابع: أن المصدر المضاف إلى معرفةٍ معرفةٌ ولذلك لا يُنْعَتُ إلا بمعرفةٍ، فلو كانت إضافته غير محضة لحُكِمَ بتنكيره ونُعِتَ (1) بنكرة، ولجاز دخول رُبَّ عليه، وأم يجمع فيه بين الألف واللام والإضافة، كما فُعل في الصفة المضافة إلى معرفة، نحو: ياربَّ غابِطنِا. ورأيتُ الحسَنَ الوَجْهِ.

هذا ما استُدل به على ضعف قول من جعل إضافة المصدر غير محضةٍ، وهو رأي ابن برهان (2). وأظهرها في الاستدلال الرابع، وفيما عداه نظرٌ ليس هذا موضع ذكره.

وأتى الناظم بأمثلة أربعة تحتوي على ثلاثة أنواع مما إضافته غير محضة.

أحدهما: راجينا، وهو من إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه ومثله:

مررت برجلٍ ضارِبِك/ وامرأةٍ مكرمةِ أخيكَ. ومنه في القرآن الكريم: {قالوا:

342 هذا عارضٌ مُمطرنا (3)}. {هدياً بالغ الكعبة (4)} . {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه (5)} .

ومنه في الشعر ما أنشد سيبويه لجرير (6):

(1) الأصل: ونعته.

(2)

انظر الهمع 4/ 272.

(3)

من الآية 34 من سورة الأحقاف.

(4)

من الآية 95 من سورة المائدة.

(5)

الآية 8، 9 من سورة الحج.

(6)

الكتاب 1/ 425، والهمع 5/ 179، وديوانه 454.

ص: 19

ظَلِلْنا بِمُسْتَنِّ الحَرُور كأنَّنا

لذي فَرَسٍ مُسْتَقْيلِ الريح صائِمِ

وأنشد أيضا للمَرَّار الأسَدِي (1):

سَلِّ الهُمومَ بكل مُعْطِي رَأسِه

ناجٍ مُخَالِطِ صُهْبَةٍ مُتَعَيِّسِ

مُغْتَالِ أَحْبُلِهِ مُبِينٍ عُنْقَهُ

في مَنْكِبٍ زَيَنَ المَطِيَّ عَرَنْدَسِ

وأنشد أيضا لذي الرُّمَّةِ (2):

سَرَتْ تَحْيِطُ الظلْماءَ مِنْ جَانِبَيْ قَساً

وَجُبَّ بِها من خَبِطِ الَّليلِ زَائِرِ

وأنشد لجرير (3):

يارُبَّ غابِطِنا لو كان يَعْرِفُكُمً (4)

لاقَى مباعَدَةً منكم وحِرْمَانَا

وأنشد لأبي مِحْجَنٍ الثقفي رضي الله عنه: يارب (5) مثلك

البيت، وليس من هذا.

(1) الكتاب 1/ 168، 426، والمحتسب 1/ 184، وشرح المفصل 2/ 120 معطي رأسه: ذليل ناج: سريع (والصهبة: بياضُ يضرب إلى الحمرة. والمتعيس: الأبيض تخالطه شقرة. ومغتال أحيله: كناية عن عظم بطنه، لأنه يستوفي الحبال التي يشد بها رحله. والزبن: الدفع. والعرندس الشديد.

(2)

الكتاب 1/ 426، والبيت في ديوانه 1683. وقسا: موضع.

(3)

الكتاب 1/ 427، والبيت في المقتضب 3/ 227، 4/ 150، 289. وانظر ديوانه 492.

(4)

في صلب الأصل: يطلبكم. والمثبت عن هامشه، س.

(5)

سيأتي البيت كاملا عن قريب.

(1)

الكتاب 1/ 195، وديوانه 172.

ص: 20

والثاني: عَظِيمُ الأَمَلِ، وهو من إضافة الصفَّة المشبَّهة باسمِ الفاعلِ إلى مرفوعها في الأصل.

ومثله: مررتُ برجُلٍ حسنِ الوَجْهِ جَميِلِه. ومنه ما أنشده سيبويه لِزُهَيرٍ (1):

أَهْدَى لها أَسْفَعُ الخَدَّينِ مُطَّرِقٌ

ريشَ القَوادِمِ لم يُنْصَبْ له الشَّبَكُ

وأنشد أيضا للشَّمَّاخ (2):

أقامَتْ على رَبْعَيْهِما جارتَاَ صَفاً

كُمُيْتا الأَعَالِي جَوْنَتَا مُصْطَلَاهُمَا

وأنشد أيضا للنابغة (3):

وَتأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنابِ عَيْشٍ

أَجَبِّ الظُّهْرِ ليسَ له سَنَامُ

على رواية جَرِّ الظهرِ. وقال طَرَفَةُ بن العبد (4):

رحيبُ قِطابِ الجَيْبِ منها رَفِيقَةٌ

بِجَسِّ النَّدامَى بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ

(2) الكتاب 1/ 199، وشرح المفصل 6/ 86، وشرح الكافية 2/ 235، 3/ 437، والخزانة 4/ 293، وانظر ديوانه 308.

(3)

الكتاب 1/ 196، ومعاني القرآن للفراء 3/ 24، وشرح الكافية للرضي 4/ 231، والخزانة 9/ 363، وانظر ديوانه 106.

(4)

من معلقته، انظر الديوان 30، والبت في شرح الكافية للرضي 2/ 235، 443، والخزانة 4/ 303. وقطاب الجيب: مجتمعه. والجسّ: اللمسُ. والبضَّة: البيضاء الناعمة البدن. والمتجرَّد: ما ستره الثياب من الجسد.

ص: 21

والثالث: مُرَوَّعُ القَلْبِ، وهو من إضافة اسم المفعول إلى مرفوعِه في الأصل المقامِ مقام الفاعل، ومثله: مررتُ برجُلٍ مضروبِ الأبِ، محبوسِ الَيدِ.

ومنه ما أنشد سيبويه لبعض الأسديَّين (1):

فَلَاقي ابنَ أُنْثى يَبْتَغِي مثلَ ما ابتَغَى

مِنَ القومِ مَسْقِىُّ السِّهامِ حَدِائِدُهْ

والرابع: قَليلُ الحِيَلِ، وهو مثلُ: عظيمُ الأملِ.

ثم يُنْظَرُ بعدُ في مسألتين:

إحداهما: أنه أتى في أول الأمثلة بِرُبَّ المقتضية لتنكير ما دَخَلَت عليه، إشعاراً بأنَّ دخولَها على هذا المضافِ علامةٌ على أنَّ الإضافة غير مُعَرِّفةٍ له، وأن القولَ بأنها (غير (2)) محضةٍ إنما هو بدليل يدلّ على ذلك، ولذلك استدلَّ في الشرح على كون إضافةِ المصدرِ محضةً بعدمِ دُخُولِ رُبَّ عليه، لأنها لو كانت غير محضةً لدخلت عليه، كقوله: رُبَّ راجينا، فغابِطُنا في قولِ جريرٍ (3):

يا ربَّ غابِطِنا لو كان يَعْرِفُكُم

نكرةُ، وكذلك ((مثلك)) في قول أبي مِحْجِنٍ (4):

ياربَّ مِثْلِكِ في النساءِ غَريرةٍ

بيضاءَ قد مَتَّعْتُها بِطَلَاقِ

(1) هو مضرِّس بن يعبي، أو أشعث بن معروف. وكلاهما أَسَدِيّ.

أنظر الكتاب 2/ 45، والتكملة 116.

(2)

عن س.

(3)

تقدم البيت من قريب: انظر 20.

(4)

الكتاب 1/ 427، والمقتضب 4/ 289، وشرح المفصل لابن يعيش 2/ 126.

ص: 22

وهو أحد الأدلة على التنكير، أتى به (1) تنبيها على ما في معناه، وجملتها أحد عشر دليلا:

أحدها رُبَّ.

والثاني: كَمْ، نحو: كَمْ مِثْلِكَ (2) أَكْرَمْتُ.

والثالث: كلّ، نحو (3):

سل الهموم بكل مُعِطى رأْسهِ

والرابع: أيّ، نحو: أيُّ قاتلِ الأبطالِ زيد؟

والخامس: لا النافية الجنسية، نحو: لا مكرمَ زيد في الدار.

والسادس: من الزائدة/ نحو: هل من شريف الآباء عندك؟

343

والسابع: وقوعُ هذا المضاف صفة للنكرة نحو: {هذا عارضٌ مُمْطرِنُا (4)} .

والثامن: وصفهُ بالنكرة، كقوله (5):

سَلِّ الهُمُوم بِكُلِّ مُعْطِى رَأْسِهِ

ناجٍ مُخَالِطٍ صُهْبَةٍ مُتَعَيِّسِ

والتاسع: الإخبار به عن النكرة، نحو: هل أحد مكرك؟ وهذا مبني

(1) في الأصل: أتى تنبيها به.

(2)

س: مثاله.

(3)

تقدم البيت من قريب: انظر 20.

(4)

الآية 24 من سورة الأحقاف.

(5)

تقدم البيت من قريب: انظر 20.

ص: 23

على أن المبتدأ النكرة إنما يُخْبَر عنه بالنكرة.

والعاشر: وقوعه حالا نحو: {ومن الناس من يجادلُ في الله بغير علمٍ} .

ثم قال: {ثانيَ عِطْفِهِ (1)} . الآية.

والحادي عشر: وقوعهُ تمييزا نحو: أكرم بزيد مطعمَ الضيفِ، ومنه لكن مجرورا بمن ما أنشده سيبويه لذي الرُّمَّةِ (2):

وحُبَّ بها من خابِطِ الَّليلِ زائرِ

وقالوا: لي عشرون مثلَه، ومائةٌ مثلَه. وذلك أنَّ هذه الأشياء من أحكام النكرات، فمن هنا ظهر للنحويِّين أنَّ هذه الإضافة ليست على ظاهرها من اقتضاء التعريف؛ بل هي في تقدير الانفصال، فكان من جملة محاسن هذا النظمِ التنبيهُ على أصل الدليل على بقاء المضاف في مثله على تنكيره، ليحصل البرهان على صحة دعواه أولا.

والثانية: أنَّ فيما قرّر هنا نظراً من وجهين:

أحدهما: أنه جعل ما إضافتُه غير محضةٍ محصورا في ثلاثة أنواع، وهي التي أتى بأمثلتها: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وبَقَيِ أشياءُ أُخَر لم تدخُلْ له، منها: أمثلة المبالغة نحو: مررت برجلٍ ضَرّابِ زيدٍ، وأفعل التفضيل نحو: مررت برجل أفضلِ الناسِ، وإضافة الاسم إلى الصفة كمسجدِ الجامعِ، وصلاةِ الأولى، وإضافة المسمى إلى الاسم كشهرِ رمضانَ، ويومِ الخميسِ، وذاتِ اليمينِ، وهذا ذو زيد، وسعيد كرز، وإضافة الصفة إلى الاسم

(1) الآية 8، 9 من سورة الحج.

(2)

تقدم البيت من قريب: انظر 20.

ص: 24

نحو: كرامِ الناسِ وشجعانِ القومِ في نحو (1):

وإن سقيت كرام الناس فاسقينا

واقُتْل شجعانَ القوم، وإضافة الموصوف إلى القائم مقامَ الوَصْف، نحوُ قولِهِ (2):

عَلَا زيُدنا يوم النَّقا (3) رأْسَ زَيْدِكُمْ

التقدير: زيدٌ صاحِبُنا، ورأسَ زيدٍ صاحِبِكُمْ، ثم حُذِفت الصفة وأقيم الضمير مقامها، ومنه: قريشُ الحقَّ، وسعيدُ الخَير، وزيدُ الخيلِ.

وإضافة المؤكِّد نحو: يومَئِذٍ، وحينَئِذٍ، ولقيته يومَ يومٍ وليلةَ ليلةٍ، هو عند الفارسيِّ من هذا النوع.

وإضافة المُلْغَى إلى المُعْتَبَرِ كقول لَبِيدٍ (4):

(1) البيت لبشامة بن مزنٍ النهشلي، وصدره:

أنا مُحَيّوكِ يا سلمى فحيِّينَا

وهو من الحماسة 77، وخزانة الأدب 8/ 302 عرضاً.

(2)

رجل من طئِ، وعجزه.

بأبيض ماضي الشفرتين يماني

والبيت في شرح الكافية للرضى 1/ 328، 2/ 209. والخزانة 2/ 224.

(3)

س. وهامش الأصل: ((اللقاء)). والنقا: كثيب من الرمل.

(4)

ديوانه 248. والبيت في الخصائص 3/ 29 (30، ونتائج الفكر للسهيلي 47، وشرح الكافية للرضى 2/ 242، وخزانة الأدب 4/ 337.

ص: 25

إِلَى الحول ثم اسم السلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

ومنه: {كمن مثله في الظلمات (1)} ، {مثل الجنة التي وعد المتقون (2)} .. الآية.

وإضافة المُعتبر إلى المُلغى نحو: أي الموصولة إذا قُلت: اضرب أيهم أساء، فإضافة أي غير محضة، وإلا لزم أن يجتمع عليها تعريف الإضافة وتعريف الصلة.

ومنه: مررت برجل حسنٍ وجهُه، وحسنِ وَجْهِه، فإضافة الوجه إلى الضمير غير محضةٍ لعدم اعتباره في قصد التعريف، وقال (3):

فلو بلغت عَوَّا السماِ قَبِيلةٌ /

111

وما أشبه ذلك.

ومنها: ألفاظ اشتهرت في الاستعمال، وهي: مثلُك، وشِبْهُك، وغيرُك، وحَسْبك، وهَدُّك (4)، وشَرْعُك، وهَمَّك، وناهيك، وقيْدُ الأوابد، وعُبر

(1) الآية 122 من سورة الأنعام.

(2)

الآية 35 من سورة الرعد.

(3)

الحطيئة، ديوانه 68، والبيت في مجالس العلماء للزجاجي 149، وشفاء العليل للسلسيلي 705، واللسان: عوا. والعوّا: اسم نجم، مقصور، يكتب بالألف. وفي الديوان: دون السماء.

(4)

أي: حَسْبُك، وكذلك شَرْعُك. ويقال: هذا رَجُلٌ هَمُّك من رجل وهِمَّتُك من رجل، أي: حَسْبُك: ومثله: ناهيك ونَهْيَك، ونهاك. وفرس قيدُ الأوابد: أي هو لسرعته كأنه يقّيد الأوابد (وهي الحمر الوحشية (بلحاقها. ويقال: جمل عُبْر أسفار (وكذلك جمال عُبْر أسفار، بتثليث الفاء (أي: قوي علّى السفر، أو: لا يزال يسافر عليه. والهواجر: جمه هاجره، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر.

ص: 26

الهواجر، فإنك تقول: مررت برجل مثلِك، وبرجل شِبْهِك، وهَدَّك من رجل، وحَسْبِك من رجلِ، وشَرْعِكَ من رجل، وهَمِّك من رجل، وناهِيك من رجل، (ونَهْيِك من رجل (1) ونَهَاكَ من رجل، ومررت برجل غَيْرِك، ومررت على ناقة عُبْرِ الهواجر، وأنشد سيبويه (2):

بِمُنْجَرِدٍ قَيدٍ الأوابد لاحَةُ

طراّدُ الهَوَادى كُلَّ شَأَوٍ مُغَرِّبِ

وقال الكنديُ أيضا (3):

بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابِدِ هَيْكَلِ

وضابطها: كُلُّ ما ليس بمشتقٍ أُجري مُجْرَى المُشْتَقَّ، فيدخلُ فيه ما ذُكِرَ وغيرُه.

ومنها: المضاف إلى ضمير النكرة إذا عُطف عليها في المواضع المختصة بالنكرة، أو ما كان نحو ذلك، نحو: كم رَجُلٍ وأخيه؟ وربَّ رَجُلٍ وأخيه، وكلُّ شاةٍ وسَخْلَتُها بِدِرْهَمٍ [وأي فَتَى هَيْجاء أنت وَجَارِها (4)] ولا رَجُلَ وأخاه، وهذه ناقةٌ وفَصيلها راتعان، وما أشبه ذلك.

فهذه كلُّها مما إضافتُه غيرُ محضة، ولم ينصَّ عليها، ولا بيَّن حكمها، كما

(1) سقط من س.

(2)

الكتاب 1/ 424، واللسان قيد. وينسب البيت إلى امرئ القيس وهو في ديوانه 46، وإلى علقمة بن عبدة، وهو في ديوانه أيضا بشرح الأعلم 88.

(3)

امرئ القيس، ديوانه 19، والخصائص 2/ 220، وشرح المفصّل لابن يعيش 2/ 68، 3/ 51، 9/ 95، وشرح الكافية للرضي 2/ 8، 10، 223.

(4)

الكتاب 2/ 187، ومغني اللبيب 772. وقائله مجهول. ويروي عجزه:

إذا ما رجال بالرحال استقلّت

ص: 27

بيَّن حكم الأنواع الثلاثة، فقد ظهر أن أنواع الإضافة غير المحضة أربعة عشر لم يَذْكُرْ منها إلا ثلاثةً وهو إخلالٌ كبيرٌ.

والثاني: أنه قال فيما ذكر من تلك الأنواع: ((فعن تنكيرِه لا يُعْدَلُ))، والنحويون يقولون: إن تعريفها بما أُضِفَتْ إليه جائزٌ، فتقول: مررت بزيدٍ ضاربكَ، ومررت بزيدٍ مثلِكَ، ومررت بعبدالله غَيْرِك، وكذلك سائر الأمثلة، إلا الصفة المشبهة باسم الفاعل، فإن التعريف لا يدخُلُها البتَّةَ.

قال سيبويه (بعد ما ذكر أنواع ما إضافتُه عنده غيرُ مَحْضَةٍ (: ((وزَعَمَ يونُس والخليلُ رحمه الله (أن الصِّفاتِ المضافةِ (يعني إلى المعرفة (التي صارت صفةً للنَّكِرِة (قد يَجُوزُ فيهن كلهن أن يكنَّ معرفةً)) قال ((وذلك معروفٌ في كلام العرب، يدلّكُ على أنه يجوزُ لك أن تقولَ: مررت بُزيدٍ مثلك، أرادوا مررت بزيد المعروف بِشْبَهِكَ)). قال: ((ويدلُّك على ذلك قولك: هذا مثلك قائما كأنه قال: هذا أخوك قائما، إلا حَسَن الوجه، فإنه بمنزلة رجلٍ (1))).

واستدل على ذلك بأنه يجوزُ لك أن تقول: هذا الحسنُ الوجهِ، فيصير معرفةً بالألف واللام، كما يصيرُ الرجلُ معرفةً بالألف واللام. فلو كان معرفةً لم يصلُح دخولها عليه، فإذا قد عُدل عن تنكير ما زعم أنه لا يُعدل عن تنكيره، ووقع في بعض النسخ:[فَعَنْ تَنكيره لا يُعْزَل].

والمعنى واحد، وهذا كلٌّه ظاهرُ المخالفة والفساد.

والجواب عن الأول: أن مقصوده ما مثل به في قوله: (ربَّ راجينا) .. إلى آخره وكلُّ ما تقدم في السؤال غيرُ مراد له إلا أمثلة المبالغة، فإنها في معنى

(1) الكتاب 1/ 428 (429.

ص: 28

اسم الفاعل وقد الحقها به في بابه كما سيأتي إن شاء الله.

وأما أفعل التفضيل/ فمختلف فيه: هل إضافته محضةٌ أم غير محضة؟ على

345 أقوالٍ ثلاثةٍ، فالجمهور على أن إضافته محضةٌ بإطلاق.

قال ابُن الضائع: وهو مذهبُ البصرييَّن وظاهرُ كلام سيبويه، لأنه قال (1): لو قلت: هذا زيدٌ أَسْوَدَ الناس، لم يَجُزْ لأن الحال لا تكون إلا نكرة.

ومهب الفارسيَّ في: ((الإيضاح (2))) أنها غير محضة، ومنهم من قال: إن كانت إضافتهُ على معنى من كانت غير محضةٍ، وإن كانت على معنى في كانت محضةً والذي رآه هُنا هو رأيهُ في التسهيل (3) أيضا.

واستدل على صحته في الشرح بأن الحامل على اعتقاد عدم التمحُّضِ في إضافة الصفة إلى مرفوعها ومنصوبها وقوعُ الأول منها موقع الفعلِ، ووقوع الثاني موقع مرفوع ذلك الفعل ومنصوبه، وأفعل المضاف بخلاف ذلك، فلم (4) يَجُزِ اعتقاد كون إضافته غير محضةٍ. هذا وجه.

ووجهٌ آخَرُ: أن أفعل التفضيل إذا أُضيف إلى مَعْرِفَةٍ لا ينُعَت إلا بمعرفةٍ، ولا يُنعَت به إلا معرفة، ولا تَدْخُلُ عليه رُبَّ، ولا يُجْمَعُ فيه بين الإضافة والألف واللام، ولا ينصبُ على الحال إلا في نادرٍ من القول، ولو كانت إضافته غير محضة لكان نكرةً، ولم يَمْتَنِعْ وقوعهُ نعتا لنكرة

(1) الكتاب 2/ 113.

(2)

الإيضاح 269 (270.

(3)

التسهيل 156.

(4)

س: فإن لم.

ص: 29

ولا منعوتاً بها، ولا مجروراً بُربَّ، ولا مجموعاً فيه بين الألف واللام والإضافة، ولا منصوباً على الحال دو استندار. واحتُرِزَ بالاستندار مما في الحَدِيثِ من قَوْل المرأة:((وما لنا أكثرً أَهلِ النار (1))).

وأما إضافة الاسم إلى الصفة فمحضةٌ، فإن الأوّلَّ (غير (2)) مفصول بضمير مَنْويٍّ، كما في الصفَّةَ، ولا هو واقع موقع الفعلِ، ولا الثاني واقع موقع مرفوعٍ ولا منصوبٍ، فيكون الموضُع في نيَّةِ التنوين، فلا مُوِجبَ لعدم تمحُّضها قياسا، ولا أيضا عومل هذا المضافُ معاملةَ المنكَّرِ عندما أُضِفَ إلى معرفةٍ، فلا سبيلَ إلى دعوى أن إضافته غيرُ محضة.

فإن قيل: أنه في تقدير الانفصالِ بموصوفِ الثاني، أي: مسجد الوقتِ الجامع، وكذا سائرها.

قيل: بل هو من حذفِ الموصوفِ وإقامةِ الصفة مقامه، وإذا قامت الصفة مقامه كانت في الإضافة على حكمه' ولو حضر الموصوف لكانت إضافته محضةً، فكذلك إذا حَضر نائبِهُ.

(فإن (3)) قيل: معنى الانفصال هنا مُعْتَبَرٌ من جهة أن المعنى يَصحُّ به دون تَكَلُّف، وهو أن يكون صفةً وموصوفاً كالمسجِدِ الجامِعِ، فأمَّا مسجدُ الجامِعِ فمحتاج إلى تَكَلُّفِ التقدير. وأيضا جَعْلُ الأوَّلِ منعوتاً والثاني نعتاً

(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب فتنة النساء، الحديث 4003/ 1326 بإسناده إلى عبدالله بن عُمَر.

(2)

سقط من س.

(3)

عن س.

ص: 30

مُطَّرِدٌ كالحبَّةِ السَّمراءِ والحبَّة السَّوداءِ والحبَّةِ الخضراءِ، للحنطة والشُّونيِزِ (1) والبُطْمِ، والإضافةُ غير مطَّرِدَة، ولذلك يجوزُ الإتباعُ فيما جازت فيه الإضافةُ كالمسجدِ الجامعِ دون العكس، فلا يجوز: حبَّةُ السَّمراءِ، فإذاً إضافةُ هذا النوعِ منويةُ الانفصالِ لأصالتها بالاطَّرادِ والإغناءِ عن تَرْكِ الظَّاهِرِ.

قيل: هذا كله لا مانِعَ فيه تَمحُّضِ/ الإضافة لأن العرب استعملت هذا النوع

346 على وجهين، ولكلِّ وجهٍ معنىً مستقلٌ، فلا يجبُ أَن يُرَدَّ أحدهُما إلى الآخر ولا أن يكون أصلاً له، وإذا لم يكن أصلاً له كانت الإضافة على أصلها من التمحضِ، حتى يُلِجئُ ملِجئُ إلى خلاف ذلك، ولا مُلْجِئَ إلى خروجها هنا عن أصلها، فهي إذاً محضة، وأيضاً، فالوجهان مسموعان، والإضافة وإن كانت غير مُطَّرِدَةٍ فلا بُدَّ لها من وجهٍ، وهو ما ذَكروه من إقامةِ الصَّفَةِ مقامَ الموصوف، وإذا قامت مقاَمه فهي على حُكْمِه في تمحض إضافة الأول إليها، ولو حذُف الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه موجباً للانفصال لكانت إضافةُ نحو: غلامِ الخَيَّاطِ، وفَرسِ الشجاع، وثوب العاقل، غير مَحْضةٍ، وذلك غيرُ صحيحٍ، فكذلك هنا.

وأما إضافةُ المسمى إلى الاسم. فلا فرق في الحاصل بينها وبين إضافة نحو: غلامِ زيدٍ ودارِ فلان، فكما تُعَرَّف هذه الإضافة وتُخَصَّص، فكذلك يوم الخميسِ وذو زيد، لأن المعنى: صاحب هذا الاسم المعروفِ كما (2). تقول: غلامُ زيدٍ المعروفِ.

(1) هذه تسمية الفرس للحبة السوداء.

(2)

في الأصل: لا تقوم.

ص: 31

وأما إضافة الصفة إلى الاسم: فمن باب إضافة (الخاص إلى العام (1)) والنوع إلى الجنس، وهي إضافة معَّرفةٌ بلا إشكال.

وأما إضافة الموصوف إلى القائم مقام الوصف: فليس ذلك بِمُتَحصل؛ بل قوله: ((علا زيدنا)) ونحوه، من باب اعتقاد تنكير الأعلام، ثم تعريفها، فإنك تقول: جاءني زيد وزيد آخر، فكذلك تقول على هذا: زيدُ بني فلانٍ، كما تقول: شيخ بني فلان، وجعله من ذلك الباب تَكَلُّفٌ لا معنى له.

وأما إضافة المُؤكَّد إلى الموكد: فمن باب إضافة المسمى إلى الاسم، وقد تَقَدَّم.

وأما إضافة المُلْغى إلى المُعْتَبر: فليس الأمر فيها كما قال، وليس ثَمَّ مُلْغىً، وهو عند الفارسيِّ وغيره على غير ذلك، فاسمُ السلام (2). على حَذْف المضاف، أي اسمُ معنى السلام، واسم معنى السلام هو السلام، أو هو على أَنْ جَعَل اسماً بمعنى مُسمَّى كأنه قال: ثم مُسَمَّى هذا الاسم عليكما.

وقوله: مِثل كذا، مما أقيم فيه مثلُ الشيء مقام الشيء، وقد تفعل ذلك العرب بالمِثْل والمَثَلِ، ولذلك تقول: مِثْلُك يفعل الخير، وإنما المعنى أنت، ولكنهم أتوا بالمثل لمعنى من المبالغة في وصفه، وهذا النوع من ذلك.

وأما إضافة المعتبر إلى المُلغى: فليس ثَمَّ مُلْغىً؛ بل إضافةُ الوجه في: حسنٍ وَجْهُه مقصودةٌ، كما يقصدُ التعريف في مواطن تبُّرعاً وتوكيدا ومطابقةً بين العبارة والمُعَبَّر عنه، ونظيرُ هذا الإتيانُ بالنَّعت في موضعٍ لا يجب (فيه (3)) لعلم المخاطب، وإن كان الأصل غير ذلك، فلا يخرجه العْلُم به عن كونه مُعْلَماً،

(1) سقط من س.

(2)

انظر نتائج الفكر للسهيلي 48.

(3)

سقط من س.

ص: 32

وهذا من باب التطوع بما لا يلزم.

وأما أيُّ الموصولة: فإنها قد اكتنفها إبهامان:

إبهامٌ من جهة نفسها قبل النظر في أقسامها، وذلك الذي أزالته الإضافة، وإبهامٌ من جهة خصوص الموصولية: فلا بُدَّ لها من صِلَتها لتوضِّح معناها حتى يَتَشَخَّصَ، كما أنها تتخصص وتتشخص/ بجوابها إذا كانت استفهامية، فلم يتوارد عليها تعريفان من جهةٍ واحدةٍ،

347 فلا مُلْغى في المسألة. وأما عَوَّى (1) السماء فمن باب: علا زيدنا.

وأما الألفاظ المذكورة من مثل وغير وشبههما: فهي (مما (2)) قُصد إخراجها عن مقصود كلامه، لأن مقصوده ما كان مقيسا من الإضافةِ غيرِ المحضةِ، وأما ما تقدم فألفاظ غير مقيسةٍ، بل يقتصر فيها على المسموع، فلم يَحْفِل (3) بها، وإنما اعتنى بما هو قياس خاصة. وكانّ (4) ما كان نحو: رُبَّ رجل وأخيه مسموع أيضاً، فلم (5) يقصْده. والذي يُشْعِرُ بقصده لما ذكر أنه بأربعة أمثلةٍ، ثلاثةٌ منها لثلاثة أبواب والرابع تكرار، وهو قوله:((قليلِ الحِيَلِ))، فإنه متحد مع قوله:((عَظِيِم الأَمَلِ)) وكان يمكنه أن يأتي بمثالٍ رابعٍ يَدُلُّ به على مالم يذكر، فتكريرهُ للمثال إشعار بهذا القصد.

(1) في قول الفرزدق:

فلو بلغت عوى السماء قبيلة لزادت عليها نهشل وتعلت

وقد تقدم.

(2)

عن س.

(3)

في الأصل: يجعل.

(4)

في الأصل: وكذلك.

(5)

س: فلا.

ص: 33

والجواب عن الثاني: أن إضافة الصفة إلى مرفوعها أو منصوبها إذا كانت بمعنى يفعل على وجهين:

أحدهما: أن تكون على اعتبار معنى الفعل فيها، وأن القصد إنما هو التخفيف، فالإضافة في هذا القسم غير محضةٍ، ولا تكون مع هذا القصد محضةً أصلا، لأن الموضعَ موضعُ الفعل، فكأن الفِعْلَ ثَمَّ موجودٌ وهذا القسمُ هو الذي تناوله كلامُ الناظم لقوله:((وإن يشابه المضافُ يَفْعَلُ))، يعني أن يكون القصد بالمضاف رفعَ ما بعده أو نصبه كالفعلِ، لا غير ذلك، وإنما أضيفَ تخفيفا، ولم يُرَدْ تخصيصه بالثاني، فعلى هذا القصد لا يُعَدلُ عن تنكيرِهِ أصلا كما قال.

والثاني: أن يكون على غير اعتبار معنى الفعل ولا القصد إليه، وإن كان أصله معنى الفعل، بل اعتبر فيه الاسمية مجردة عمَّا (1) تعلق بها من شبه الفعل في قصد القاصد، فهذا القسم الإضافةُ فيه محضةً، ولا تكون غير محضةٍ مع وجود هذا القصد أصلا، لأنه إذ ذاك اسمٌ أضيف إلى اسمٍ كغلام زيدٍ، وصاحبك، ولم يتناوله كلام الناظمِ، لأن شبه الفعل (هنا (2)) من حيث القصد مُهْمَلُ الاعتبار، وإنما المقصود تخصيص الأول بالثاني والثاني مَعْرِفَةٌ، فحصل التعريفُ بلا بُد، فدخل له بهذا القصد في قسم ما يتعرف أو يتخصصُ

وأما الحسنُ الوجهِ: فإنما لم يدخله التعريف، لأن الوجه هو فاعل الحسن، فتقدير (3) التنوين قائم إذا حققنا معنى الفعل له، وهذا التحقيقُ غيرُ

(1) في الأصل: ((من ماء)).

(2)

ليست في س.

(3)

الأصل: بتقدير.

ص: 34

زائلٍ أصلاً، فلا يمكن أن تكون إضافتهُ محضة (1).

وأيضاً: فالحسنُ هو الوجه في المعنى، فالإضافة المحضة فيه تؤدي إلى إضافة الشيء إلى نفسه، فلم تصح فيه إضافة محضة.

فإذا تقرر هذا فقد حصل لنا أن الإضافة في هذه الأمور على وجهين: محضةٌ وغير محضة،

كما قال/ سيبويه وغيره، وأن كلام الناظم لم يتناول إلا أحد الوجهين، وهذا

348 من الناظم احترازٌ حسنٌ، وبناء للمسألة على أصل صحيح مليحٍ، وبالله التوفيق.

ثم بَيَّن أسماء القسمين في الاصطلاح فقال:

وذي الإضافةُ اسمها لفظية وتلك محضة ومعنوية.

يعني أن هذه الإضافةَ المذكورة أخيرا، وهي القريبه (الذكر (2)) المشار إليها بذي المقتضيةِ للقرب اسمها الواقعُ عليها في الاصطلاح الإضافة اللفظية، أي التي المقصود بها تخفيف اللفظ خاصةً، لأن معنى قولك: مررت برجلٍ ضاربِ زيدٍ غداً (بالإضافة (هو معنى قولك: ضاربٍ زيداً غداً، بغير إضافة، لكن حُذِف التنوين، فأضيفَ تخفيفاً، ومعنى التنوين مرادٌ كأنه موجود، فلا تعريف ولا تخصيص.

وأما تلك الإضافة المتقدمة الذكر قبل، فذكر أنها تسمى إضافة محضة، لأنها خالصةٌ من شائبة الانفصال، ومعنويةٌ لأنها تنقل المضاف من الإيهام إلى التعريف أو التخصيص، ففائدة تلك راجعة إلى المعنى، كما أن هذه راجعةٌ إلى اللفظ، وقد اقتضى هذا التقديرُ أن الإضافةَ غير

(1) الأصل، س: غير محضة.

(2)

عن س.

ص: 35

المحضة لا تخصيص فيها أصلا ولا تعريف.

أما عدم التعريف فَمُسلَّم حسن ما مَّر، وأما عدم التخصيص فغير مُسلَّمٍ، وهذا المعنى بعينه. قاله ابن عصفورٍ (1)، فَرَدَّه عليه ابن الضائع فقال: أما قوله: لا تعريف (2)، فصحيح. وأما قوله: ولا تخصيص (2)، فغير صحيح؛ لأنك إذا قلت: هذا ضاربُ امرأةٍ، فقد خَصَصْتَ المضاف بالمضاف إليه مع كون الإضافة غير محضة.

هذا ما قاله، وهو اعتراض على كلام الناظم، فكان ينبغي على هذا ألَاّ ينفي عن هذه الإضافة التخصيص بإطلاقٍ.

وقد أجاب عن ذلك شيخُنا الأستاذ الشهير (رحمة الله عليه ((يعني [أبا] سعيد بن لُب (3)) وقال: إن كلام ابن الضائع تحامل على ابن عصفور قال: لأن هذا التخصيص قد (4) كان موجودا قبل حصول الإضافة، فلما حَصلت بقى التخصيص على ما كان عليه، فلم تُحدِثِ الإضافة شيئاً. وما قاله الشيخ رحمه الله (واضحٌ، وهو الجواب عن الناظم، والله أعلم.

ثم قال:

ووصلْ أل بذا (5) المضافِ مُغتَفَرْ

إِنْ وُصِلَتْ بالثَّانِ كالجَعْدِ الشَّعَرْ

(1) شرح الجمل 2/ 70.

(2)

س: لا تعرف ولا تخصيص.

(3)

عن هامش الأصل.

(4)

الأصل: على ما كان.

(5)

س: بذي.

ص: 36

أو بالذّي لَهُ أُضِيفَ الثَّانِي

كزَيدٌ الضاربُ رَأْسِ الجسانِي

وَكَوْنُها في الوَصْفِ كافٍ إِنْ وَقَعْ

مُثَنَّى أُو جَمْعاً سَبِيلهُ اتَّبَعْ

يعني أن هذا المضاف الذي لا يتعرف بالإضافة ولا يتخصص، يُغْتَفرُ فيه وصل الألف واللام (به (1)) فَيُجْمَعُ فيه بين الألف واللَاّمِ والإضافة، بخلاف المضاف في القسم الأول، فإنه لا يجوزُ ذلك فيه، فلا تقولُ: جاءني الغلامُ الرجِل، ولا مِرِرْتُ بالصاحبك (2)، ولا بالفَرَسِ عَمْروٍ، ولا الغلامِ امرأةٍ.

وإنما لم/ يَجُزْ ذلك، لأن الإضافة فيها يراد بها التعريفُ أو التخصيصُ للمضاف، 349 وكلاهما غيرُ محتاجٍ إليه، لوجود التعريف فيه، فكان ذلك تحصيلاً للحاصلِ وزيادةً من غير فائدة. وَدَلَّ على أن هذا الحكم لا يجوزُ في القسم الأول قوله:

وَوَصْلُ أَلْ بدا المضافِ مُغَتَفَرْ

كأنه قال: وَصلها بهذا وحده مغتفرٌ فدل على أنه في غيره غيرُ مغتفرٍ. لكن إنما يُغْتَفَرُ في هذا القسم في موضعين:

أحدهما: أن يكون المضافُ إليه قد لحقته الألفُ واللام، أو أضيف إلى ما لحقته الالف واللام، وهذا المعنى قد ضم وصفين:

أحدهما: أن يكون معرفةً لا نكرة، فإنه إن كان نكرة لم تلحقه الألف واللام البتة، فلا تقول: مررت بزيدٍ الضاربِ غلامٍ، ولا بالرجل

(1) عن الأصل.

(2)

س: بصاحبك.

ص: 37

الحسِن وَجْهٍ (خلافا للفراء في المسألة الأولى (لأن المضافَ إليه معاقِبٌ للتنوين، والتنوين مع وجود الألفِ واللامِ غيرُ مُقَدَّرٍ، فلا يصح تقدير حذفه، فتكون الإضافة معاقبةً له، وجاز ذلك في الضاربِ الرجلِ، والحسن الوجه لما يأتي.

والثاني: أن يكون تعريفه بالألف واللام أو بالإضافة (1) إلى ما هما فيه، فلا يصح دخولها على المضاف إلى معرفة بالعلمية، فلا يقال: مررتُ بالرَّجلِ الضاربِ زيدٍ، ولا على المضاف إلى الضمير فلا يقال: مررت بالرجلِ الضارِبِك، على أن تكون الكاف في موضع جرَّ، ولا على المضاف إلى مضافٍ إلى غير ذي الألف واللام. ويستوي في ذلك أن يكون مضافا إلى ضمير ما فيه الألف واللام' أو إلى مضاف إلى ضمير ما هما فيه، أو إلى غير ذلك، فلا يقال مررت بالرجل الضارب أخيك، أو الضارب أخى زيد، ولا مررت بالرجلِ الحسن وجه أخيه، ولا بالرجل الحسن وَجْهه، ولا بالرجل (الضارب (2)) أبى أخيه، ولا الضاربِ أخيه، ولا ما أشبه ذلك.

فأما مسالةُ لضاربِ زيدٍ، ونحوه، من المضاف إلى المعرفة ما عدا المستثنى، فإن الجمهور على ما أشار إليه من المنع، ورأى الفراءُ (3) جوازَ ذلك، والأصح المنعُ من جهة القياس والسماع. أما السماع فغيرُ ثابتٍ فيه، والمتَّبَعُ هو السماعُ، والقياسُ إنما يأتي من ورائه.

وأما القياس: فإن صورة المسألة صورة الممتنع، من الجمع بين أداتي تعريفٍ، وإن كانت إحداهما غيرُ مُؤَثِّرة، ولو جازَ ذلك على تقدير لحاقَ الألفِ

(1) الأصل: الإضافة.

(2)

سقط من س.

(3)

شرح الكافية للرضي 2/ 227.

ص: 38

واللام بعد الإضافة لجاز مثله في غُلامِ امرأةٍ، إذا أريد تعريفُ الغلامِ، وكذلك في ضارب رجل ونحوه، وهذا كله ممنوعٌ بإطلاق.

فإن قيل: إن ذلك قد يجوزُ على تأويل الذي هو ضارب زيد، كما يصحُّ أيضا الضاربُ رجلٍ، على ذلك التأويل.

فالجواب أن هذا المعنى هو الذي احتج به الفراءُ، ورُدَّ بأنه يلزمه أن يُجيز هذا الحسنُ وجهٍ، وهذا الغلام زيدٍ' على تأويل: الذي هو حسنُ وجهٍ، والذي هو غلامُ زيدٍ. وهو غيرُ جائز باتفاق.

وأما مسألة: الضاربك، فإن قولك: هذا الضاربك، ومررت بالرجل الضاربك والضاربه، جائز على الجملة، إلا أن حمله على أن الكاف والهاء/ في موضع خفض بالإضافة هو

350 المتنازعُ (1) فيه، فذهب المبردُ (في قوله الأول (والرّماني والزمخشري إلى جواز ذلك، ويوافقهم الفراء من المسألة التي فوق هذا (2).

وذهب غيرهم، ومنهم الناظم، إلى المنع، وأنه إنما تكون الكافُ هنا أو الهاءُ في موضع نصبٍ على المفعولية، اعتباراً بالظاهر، لأنه هو الأصل، فكما إنك إذا قلت: هذا الضارب زيداً نَصَبْتَ البتَّةَ، فكذلك مع المضمر لأنه نائبٌ عنه، إذ لا يصحُّ أن يُنسب إلى النائب مالا يُنسب إلى المنوب عنه. وهذه طريقةُ سيبويه في اتصال المضمر باسم الفاعل أنْ يَعْتَبِرهُ بالظاهر.

وأما مسألة: هذا المكرمُ غلامه، والضارب أبى (3) أخيه، فإن

(1) س: المنازع.

(2)

في هامش الأصل: قبل هذه.

(3)

الأصل: أي.

ص: 39

بعض النحويين أجاز هنا أن يعامل ضمير ما فيه الألف واللام معاملة ظاهره.

والناظم اشار هنا إلى منع ذلك، وإن كان قد أجازه في التسهيل (1). والصحيحُ المنعُ؛ إذ لو جاز معاملة الضمير معاملة ظاهره، لجاز ذلك مطلقا، فكام يجوز: رُبَّ رجلٍ وأخيه، ونحوه، جوازاً حسناً، ولجاز أن تقول في جواب ما أتاني رجل: كلُّه أتاك (2)، وما أشبه ذلك، ولكان قولك: جاءني رجلٌ فأكرمتهُ في معنى: فأكرمتُ رَجُلاً. وكلُّ ذلك غيرُ صحيح.

وأما مسألةُ: الحَسَنِ وَجْهه، ونحوها، فغيرُ جائزةٍ باتفاق (3)، لأن الأولَ مقرونٌ بالألف واللام دون الثاني، فالمعرفة مضافة إلى النكرة، وذلك عكسُ وضع الإضافة، لأن الأصل في الإضافة أن يضاف المنكَّرُ إلى المعرَّفِ ليكتسي منه التعريف أو التخصيص (4)، فهذا عكسُ ذلك، ولأجله امتنع الحسن وجهٍ (3) وتزيد هذه المسألة بأن جُمع فيها بين الضمير المنقول من الوجهِ إلى الصفة، وتكراره في الوجه، فكان ذلك نقضَ الغرضِ، فلهذين الأمرين امتنعت هذه المسألة.

وإذا اثبت هذا فمثالُ كون المضاف إليه بالألف واللام قولك: مررتُ بالرَّجُل الحَسنِ الوجه، وبالرجل الضاربِ الغلامِ. وكذلك اسم المفعول إذا قلت: هذا المضروبُ الغلامِ. ومنه قوله: ((الجَعْدِ الشَّعَرِ)) (والجَعْدُ: اسم فاعل من جَعُدَ شعره جُعُودة: ضد سَبُطَ سبوطةً، فيصحُّ هاهنا الجمع بين الإضافة والألف واللام.

(1) التسهيل، باب اسم الفاعل 137 (138.

(2)

س: أتاني. وانظر نتائج الفكر للسهيلي 276.

(3)

انظر شرح الكافية للرضي 3/ 435 (436.

(4)

س: والتخصيص.

ص: 40

ومثالُ كون المضاف إليه مضافاً إلى ما هما فيه قولك: مررت بالضاربِ وَجْهِ الأخ، والحسنِ وَجْهِ الأب. ومنه مثاله: زيدٌ الضاربُ رأس الجاني، وإياه عَنَى بقوله:

أو بالذي له أُضيف الثاني

فبالذي معطوف على بالثاني، وكلاهما متعلق بِوُصِلتْ. والضمير (1). في ((وُصلِتْ)) عائد على أل، كأنه قال: إن وصلت بالذي أضيف له الثاني، يعني أنه إذا وُصاَت الألف واللامُ بما أُضيفَ له الثاني، وهو المضاف إليه، فهو لو كان المضاف إليه نَفْسهُ بالألف واللام، وهذا المثال من باب اسم الفاعل، والأول من باب الصفة المشبهة.

والأصلُ في المسألتين: حَسَنُ الوَجْهِ، وضاربُ الرجلِ، بتعريف المضاف إليه، فلما كان المضافُ إليه لا يتعرَّف بهذه الإضافة، لأن إضافة الحسن الوجه لا تُعَرَّف أبدا، وإضافة الضارب الرجل مع بقاء معنى الفعل كذلك، أدْخَلُوا الألف واللامَ لتعريف المضافِ، فقالوا: الحسن الوجهِ، وحملوا عليه الضارب الرجل لأنه (وإن كان لا/ يَتَعرَّف بالإضافة مع بقاء معنى الفعل (351 ويصحُّ أن يتعرف بها على الجملة مع عدم اعتبار ذلك المعنى، فصارت العلَّةُ في الحسنِ الوجهِ موجبةً، وفي الضاربِ الرجلِ مجوزةً، والعلة المجوزة إذا لم يتحتَّمِ الحكمُ معها لم يُنْسَبْ إليها حسب ما يتبين في الصول، فلذلك قالوا بالجمل.

وإنما اشتُرِط في المضاف إليه الألفُ واللامُ، لأنه إما أن يكون نكرةً أو معرفةٍ، فإن كان نكرة لم يَسُغ من قَبِلِ أَنّا لما أعطينا الصفة لفظ

(1) الأصل: وضمير وصلت.

ص: 41

الإضافة، وإن لم يكن معناها، لم يَجُزْ أن يكون لفظُها خارجاً عن لفظ الإضافة الصحيحة، لأنا شبهناها به، وليس في شيء من الإضافات لفظاً وحقيقةً، في غير النداء، ما يكون المضافُ فيه معرفةً والمضافُ إليه نكرةً، فلو أجزنا هذا لكان مخالفاً لما شبهاه به. وإن كان المضاف إليه معرفةً فذلك غير مستنكر، إذ كان التعريف والإضافة لا يتنافيان.

ألا ترى أن ((غلام زيد)) معرفتان: الأول بالإضافة، والثاني بالعلمية، فلما لم بَتَعرَّفِ الأولُ بالإضافةِ أّدْخَلُوا ما يقع به التعريف، ومقتضى هذا أن يجوز: الحسنُ وَجْهِهِ أيضا، إلا أنهم امتنعوا منه لما ذكر، فلم يبق إلا أن يكون الثاني مُعَرَّفاً بالألف واللام، أو بما أضيف إليهما، لأن كونهما المضاف إليه قريب كم كونهما في المضاف، لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد ومن أمثله الف واللام في المضاف إليه قول المرَّاد الأَسَديِّ، أنشده سيبويه (1):

انا ابنُ التّاركِ البكريِّ بشْرٍ

عَليهِ الطيرُ تَرْقُبُةُ وُقُوعاً

وقال الفرزدق أنشده الزَّجَّاج (2) في الكتاب:

أبَانا بها قَتْلَى وما في دمائها

وفاءٌ، وهُنَّ الشَّافِياتُ الحَوائِم

(1) الكتاب 1/ 182، والأصول 1/ 88، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 72، وشرح الكافية للرضي 2/ 234، 382، 395، والخزانة 4/ 284، 5/ 183، 225.

(2)

في هامش الأصل: ((وسيبويه)) عطفا على الزجاج. وليس البيت في الكتاب، ولعل الزجاج ذكره في شرحه لشواهد الكتاب، والبيت في ديوان الفرزدق 2/ 310.

هذا ويقال: أباء السلطان فلانا: إذا اقتصَ رجلا برجل، والحوائم: جمع حائمة، وهي العطاش جدا.

ص: 42

والموضعُ الثاني من موضِعَيْ لَحَاقِ الألف واللام المضافَ أن يكون مُثَنَّى أو مجموعاَ على حدَّه، وذلك قوله:((وكونُها في الوَصْفِ كافٍ إن وَقَعْ)) .. إلى آخره، يعني أن الألف واللام إذا دخلت على الصفة وهي (1) مثناةٌ أو مجموعةٌ جَمْعَ السلامة بالواو والنون، فذلك كافٍ فلا يحتاجُ إلى اشتراط دُخُولها في المضاف إليه وهو الثاني، فيجوزُ لك أن تقولَ في اسم الفاعل: هم الضارِبُو الرجل، هم الضاربوُ وجهِ الأخ، وهما الضاربا الرجلِ، والضاربا وجهِ الأخ (2)، كالمفَردِ. ويجوزُ أيضا: هم الضاربو زيدٍ (والضاربا (3) زيد). وكذا في الصفةِ المشبَّهةِ فتقول: هم الطيِّيبو الأخبار، وهم الطيِّبوُ أخبار الآباء، وهما الطيِّبا الأخبار، وأخبار الآباءِ، وهم الطيِّبُو أخبارٍ، وهما الطيبا أخبارٍ. وما أشبه ذلك، وإنما كان هذا جائزاً هنا دون غير المثنى والمجموع على حدِّه، لأن حذف النون هنا ليس للإضافة، بل لطول الاسم بالنون، لأن الألف واللام موصولة، فكما حُذِفت النون في الموصول لغير إضافة في نحو ما أنشده سيبويه للأخطل (4):

أَبَني كُلَيبٍ إن عَمَّى اللَّذَا

قَتَلَا المُلُوكَ وفَكَّكا الأَغْلَالَا

وقول أشهب بن رميلة، أنشده أيضا (5):

(1) في الأصل: مع مثناة.

(2)

في الأصل: وجه الأول.

(3)

سقط من س.

(4)

الكتاب 1/ 186، والمقتضب 4/ 146، وشرح الكافية للرضي 3/ 19، 424، والخزانة 6/ 6، 8/ 210 والبيت في ديوانه 387.

(5)

الكتاب 1/ 187، والمقتضب 4/ 146، والمحتسب 1/ 185، وشرح الكافية للرضي 3/ 20، 420، والخزانة 6/ 25.

ص: 43

[و] إنّ الذَّيِ حانَتْ بِفْلج دماؤهُمْ

همُ القومُ كُلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالدِ

فكذلك حذفت لغير إضافة في/ نحو قول الفرزدق (1) 352

أُسَيَّدُ ذو خُرَيَّطةٍ نهاراً

من الملُتَقِّطي فَرَدِ القُمامِ

أنشده سيبويه (2)، وأنشد أيضا (3):

الفارجى بابِ الأميرِ المُبْهَمِ

وقولَ الآخرَ وهُوَ من الأنصار (4):

الحافِظُو عَوْرَةِ العَشِيرةِ لا

يَأتِيهُمُ من وَرَائِنا نَطِفُ

وإنما حُذِفت لطول الاسم بالصلة، قاله سيبويه، والدليلُ على صِحَّة ذلك جوازُ الحذفِ مع عدم الإضافة فتقول:

الفارجي بابَ الأميرِ المُبْهَمِ

الحافِظُو عَوْرَةَ العَشِيرةِ

وما أشبه ذلك، إلَاّ أَنَّ الخفْضَ أولى لموافقة اللفظِ، وهذا بخلافِ

(1) ديوانه 2/ 290. وفي اللسان: ((يعني بالأسيّد هنا سويداء وقال: من المتلقطي قرد القمام، ليثبت أنها امرأة، لأنه لا يتتبع قَرَدَ القمام إلا النساء)). والخريطة: تصغير خريطة، وهي مثل الكيس. والقرد: نفاية الصوف والوبر والشعر مما يغول.

(2)

الكتاب 1/ 185، ومعاني القرآن للفراء 2/ 226، واللسان: قرد.

(3)

تقدم البيت، انظر.

(4)

كذا نسب في الكتاب 1/ 185، وقد نسب إلى قيس ابن الخطيم، وهو في ديوانه 63، 172، وإلى مالك بن العجلان، وإلى عمرو بن أمرئ القيس وإلى غير هؤلاء، وانظر الخزانة 4/ 272، 5/ 122، 469، 8/ 29، 209.

ص: 44

الضَّاربِ زيد، والحَسَنِ وَجْه، فأنها ليست كذلك.

وفاعلُ ((وَقَعْ)) ضميرُ الوَصْفِ.

وقوله: (سَبِيلهُ اتَّبَعْ) في موضع الصفةِ لجمع، وضميرُ ((سبيله)) عائد على المثَنَّى، والضميرُ الفاعلُ في ((اتَّبعْ)) ضميرُ الجمع، والتقدير: أو جمعاً مُتَّبعا سبيل المُثَنَّى، واتباعُ الجمع سبيلَ المثنَّى هو كونُه على حدِّه، وجاريا مجراه في لَحَاقِهِ المَدَّةُ والنونُ، وهو معنى إطلاق النحويَيِّن: الجمع الذَّي على حدِّ التثنية. وتحرَّز به من جمع التكسير، وجمع المؤنث السالم، فإنهما جاريان في الحكم مَجْرَى المُفْرَد، فلا تَدْخل عليهما الألف واللام، إلَاّ مع كونهما في المضاف إليه، فلا تقول: جاءني النَّسوةُ الضَّواربُ زيدٍ، ولا الضارباتُ زيدٍ وإنما (1) يقال الضارباتُ الرَّجُلَ، والضارباتُ الرَّجُلِ، والضواربُ غلامَ الرجلِ، والضارباتُ غُلامِ الرَّجُلِ، ونحو ذلك على حدِّ ما يُقال في المفرد، فلأجل هذا قَيَّد الجمع بقوله:((سَبِيَلَهُ اتَّبَعْ)). والله أعلم.

ثم قال الناظم:

وَرُبَّما أكْسَبَ ثانٍ أولاً

تأْنِيثا أنْ كانَ لِحَذْفٍ مُوهَلَا

كَسَبَ وأكسَبَ يتعديان فتقول: كَسَبته مالا وأكْسَبْتُه إياه، وأنشد ابن الاعرابي (2):

فأكسَبَني مالاً وأكسَبْتُه حَمْدَا

(1) في الأصل: ولا يقال.

(2)

في التهذيب 10/ 79 (80: ((وقال أحمد بن يحيى: كل الناس يقولون: كسبك فلان خيراً، إلا ابن الاعرابي فإنه يقول: أكسبك فلان خيراً)).

ص: 45

وكَسَبَ يتعدى إلى واحد أيضاً فتقول: كَسَبْتُه (1) مالا فَكَسَبَ، مما جاء فيه فَعَلْتُه (2) [ففعل (3)] ومفعولُ ((أكَسَبَ)) هنا أعني الثاني قوله:((تأنيثا)) والأول قوله ((أَوَّلَا)) و ((مُوْهلا)). بمعنى مُؤْهلا، أي: جُعِل أهلا للحذف. يقال: أهَلَكَ الله للخير، جعلك له أهلا.

وهذان البيتان يذكر فيهما أنَّ المُضاف (وهو الأول (قد يكتسي من المضاف إليه (وهو الثاني (التأنيث وهو قليلٌ (جدا (4))، ولذلك قال:((وَرُبَّما))، يعني أنه قد يجئ قليلا في المضاف أن يكتسب من المضاف إليه التأنيث في اللفظ، كما يكتسب منه التعريف، ولكن يُشْتَرط أن يكون المضاف سائغاً حَذْفُهُ وإقامة المضاف إليه مُقَامَه، من غير أن يُخلَّ ذلك بالمعنى المراد، بل يكون المضاف إليه مؤديا معنى (5) المضاف وإن كان ذلك مجازا، هذا معنى كونِهِ مُؤْهَلاً للحذف، لأن المضاف إذا أَخَلَّ حَذْفهُ بالمعنى، فليس بِمُؤْهَلٍ للحذفِ، فقولُكَ: جاءني غلامُ هندٍ، وأتاني أبو زينَبَ، لا يجوز (فيه (4) حذفُ الغلام ولا الأب، لفساد المعنى، فلا يصحّ (6) لك أن تقولَ: جاءتني غلامُ هندٍ، ولا أتتني أبو زينَبَ/، ولا ما أشبه ذلك.

353

قال سيبويه: ((فإن قلت: من ضَرَبَتْ عبدُ أُمِّك، وهذه عَبدُ زينَبَ،

(1) في الأصل، س: كسبت.

(2)

في الأصل: فعلت.

(3)

عن س.

(4)

عن الأصل.

(5)

س: يعني.

(6)

الأصل: يصلح.

ص: 46

لم يجز، لأنه ليس بها (1) ولا منها، ولا يجوزُ أَنْ (2) تَلْفِظ بها، تريد (3) الغُلَام (4): يعني أن العبد ليس بعضَها ولا إياها، ولا يجوز لك أن تَحْذِفَ الغُلام، وهو مُراد؛ لأن الكلام غير مستقيم بذلك، إذ لا تلفظ بالمرأة وأنت تُريدُ غلامها، وإنما المقصود أن يُلْفَظَ بالمضاف إليه وهو يؤدي (5) معنى المضاف ولو بالمجاز، فهذا هو الذي يُعاملُ فيه المضافُ معاملةَ المضافِ إليه.

ومثاله قول العرب: اجتمعت أهل اليمامة، فأثنوا الأهل لإضافتهِ إلى المؤنث، لأنك لو حَذَفْتَ الأهل فقلت: اجتمعت اليمامةُ، لصحَّ الكلامُ وفُهِم المرادُ، وكذلك يقول من تكلم بالأهل.

قال سيبويه (6): ((وسمعنا من العَربَ من يقول ممَّن يوُثقُ بَعَربِيَتِهِ (7): اجتمعتْ أهل اليمامة))، (8 (قال:((لأنه يقولُ في كلامِهِ: اجتمعت اليمامةُ، والمعنى أهلُ اليمامة (8) وحاصل ما يكون هكذا أن المضافُ جُزْء المضافِ إليه أو كجُزْئهِ، فمثالُ ما هو كجُزئِهِ ما ذكر آنفا. وفي القرآن الكريم: {يا بُنَيَّ إنَّها إن تَكُ مِثقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَل (9))). برفع المثقال، لأن مثقال الحَبّة كالجزء من الحَبَّة (أو كأنه الحبة (10)).

(1) س: فيها. ونص الكتاب: ليس منها ولا بها)).

(2)

س: ((ولا يجوز ذلك أن .. )).

(3)

نص الكتاب: ((و [أنت] تريدُ العَبْدَ)). وقال المحقق: ((في الأصل الغلام، وأثبتّ ما في ط)).

(4)

الكتاب 1/ 53 (54.

(5)

س: يوجب.

(6)

الكتاب 1/ 53.

(7)

الكتاب: يوثق به.

(8)

سقط من س.

(9)

الآية 16 من سورة لقمان.

(10)

عن س.

ص: 47

وأنشد سيبويه لذي الرُّمَّةَ (1):

مَشَيْنَ كما اهتَّزتْ رِماحٌ تَسَفَّهتْ

أعالِيَها مَرُّ الرياحِ النَّواسمِ

وأنشد للَعجَّاج (2):

طولُ اللَّياليِ أَسْرَعَتْ في نَقْضي

وبعده

أَخَذْنَ بَعْضيِ وتَرَكْنَ بَعْضيِ

وأنشد ابنُ خَرُوفٍ (3):

أيا عُرْوَ لا تَبْعَد فكلُّ ابن حُرةٍ

سَتَدْعُوهُ داعيِ مِيْتَةٍ فَيُجِيبُ

وأنشد الفَّراءُ (4):

إذا مات مِنْهمُ سَيَّدٌ قام سَيَّدٌ

ودَانَتْ لَه أهلُ القُرىَ والكنائس

ومثالُ ما هو جُزْءٌ: قراءة الحَسَنِ، وأبي رجاء العَطَاردي، ومجاهدٍ،

(1) الكتاب 1/ 52، 65، والمقتضب 4/ 197، والخصائص 2/ 417، وخزانة الأدب 4/ 225 عرضا، والبيت في ديوانه 754.

(2)

الكتاب 1/ 53، والمقتضب 4/ 199، 200، وشرح الكافية للرضي 2/ 215، والخزانة 4/ 224. وليس في ديوانه.

(3)

قائله مجهول. والبيت في معاني الفراء 1/ 187، وشرح المفصل 2/ 20، وشرح الكافية للرضي 1/ 394، وخزانة الأدب 2/ 336.

(4)

أنشده الفراء في المعاني عن الكسائي 2/ 37.

ص: 48

وقتادةَ، وزيد بن أسلم:(تَلْتَقِطْهُ بعضُ السّيَّارة (1)). ورُوِيتْ أيضاً عن ابن كثير وحَمَزةَ.

وحكى سيبويه: ((ذهبت بعض اصابعه (2)))، فالبعضُ هنا جزءٌ من المضافِ إليه.

وأنشد سيبويه (3):

وتَشْرَقُ بالقَوْلِ الَّذيِ قد أَذَعْتَهُ

كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ من الدَّمِ

وأنشد أيضا لجرير (4):

إذا بعضُ السِّنينَ تَعَرَّفّتْنا

كفى الأيتامَ فقد أَبِى اليِتَيِم

،انشد له (5):

لَمَّا أتى خَبَرُ الزُّبيرِ تَواضَعَتْ

سُورُ المدينَةِ والجبِالُ الخُشَّعُ

فإن قيل: أِنَّ الناظم شَرَط في هذا الحكْم أن يكون المضافُ جائِزَ الحذفِ، ولم يشترط كونه جُزْءَ المضاف إليه أو كجُزْئِهِ، فيدخل عليه كلُّ ما

(1) الآية 10 من سورة يوسف. وانظر القراءة، في البحر المحيط 5/ 284.

(2)

الكتاب 1/ 51.

(3)

الكتاب 1/ 52، ومعاني الفراء 2/ 37، والمقتضب 4/ 197، والبيت للأعشى، وهو في ديوانه 123.

(4)

الكتاب 1/ 52، والمقتضب 4/ 198، وشرح الكافية للرضي 2/ 215، والخزانة 4/ 220، والبيت في ديوانه 412.

(5)

الكتاب 1/ 52، والمقتضب 4/ 197، وشرح الكافية للرضي 2/ 215، والبيت في ديوان جرير 270.

ص: 49

يحصُلُ فيه هذا الشرط، وهو مما لا يؤنث لتأنيث ما أُضيفَ إليه كيوم الجُمُعة، ويوم الثلاثاء، ويوم عاشوراء، فإنَّ حَذْفَ اليوم سائغ مع إنك لا تقول: أعجبتني يومُ الجُمُعة، ولا جاءت يومُ عاشوراء.

وأيضا فإن عَباَرَتَه قد قَصَرَتِ الحكمَ على تأنيث المضاف لتأنيث المضاف إليه، ولم يذكر تَذْكِيَره لتذكير المضافِ إليه، وكان قادرا على أن يأتي بعبارةٍ تَشْمَل (1) الحكمين فيقول مثلا: وربما أكسب الثاني الأول تأنيثاً أو تذكيراً، أو ما يعطي ذلك المعنى، فإنه قد جاء هذا النوع نظماً ونثراً، ففي القرآن الكريم:{فَظَلَّت أعناقُهم لها خاضِعين (2)} فقال: (خاضعين)، اعتباراً بتذكير ما أضيف إليه/ الأعناق قال في الشرح:

354

ويمكن أن يكون منه: {إنَّ رَحْمَةَ اللهِ قريب من المحسنين (3)} وأنشد (4):

رُؤْيةُ الفِكِرْ ما يَؤُول له الأمرُ

مُعين على اجتنابِ التَّوَانِي

وأنشد أبياتا أُخَر لم أُقَيِّدها، وكلُّ ذلك دليلٌ على صحَّة وُجُودِ هذا النَّوعِ، وأيضا فالقياسُ يُوجبه لو لم يُسْمع؛ إِذْ لا فَرْقَ بين النَّوعين، فإن لم يُنَبَّهْ على أحدهما ونَبَّه على الآخر تقصير، ظاهرٌ، أو تَرْجِيحٌ لأَحدِ المتماثلين على الآخر من غير مُرَجِّحٍ.

(1) الأصل: تشتمل.

(2)

الآية 4 من سورة الشعراء.

(3)

الآية 56 من سورة الأعراف.

(4)

مجهول. وهو في شرح ابن الناظم 387، والهمع 4/ 280، والأشموني 2/ 248، والعيني 3/ 369.

ص: 50

فالجواب عن الأول: أنّا قُلنا بالقياس في مثل هذا فَلِقَائِلٍ أن يلتزم مُقْتضى السؤال فَيُجيزَ أن يُقال: أعجبَتْنِي يومُ الجُمُعةِ، ونحو ذلك، وأما إن لم يُلْ به، وهو يَظْهرُ من قوله ((وَرُبَّما)) (لأن مقتضى رُبَّ التقليل (فلا اعتراض أيضا، فإن كلامه مشعر بمجرد حكاية السماع.

وعن الثاني: إما بأن نقول: إنه لم يَعْتَبِرْ النوع المعتَرَضَ به لندُوره بالنسبة إلى الأول، أو لعَدَم ثبوته لاحتمال التأويل في تلك الأمثلة، وإما أنه نبَّه باحد النوعين على الآخر وأراد (1) أن يذكرهما معا، فاكتفى بأحدهما لأنهما بمعنى واحد في القياس، فلا اعتراض على ذلك أيضا والله أعلم.

(ثم قال (2)):

ولا يُضاف اسمٌ لما بِهِ اتَّحَدْ

معنى، وأوِّل مُوِهما إذا وَرَدْ

يعني أن الاسم لا يضافُ إلى اسمٍ آخَرَ بمعناه من كلِّ وجهٍ، بحيث يكون مُتَّحِداً به في المعنى من غير فَرْقٍ، فإنَّ القاعدة أنه لا يُضافُ الشيءُ إلى نفسه؛ لأن الإضافةَ كما تَّقدم إما للتعريف وإما للتخصيص، وكلاهما غير مُتَصَوَّر في إضافةِ الشيء إلى نفسه، إذ الشيءُ لا يُعرف نَفْسه ولا يٌخصص نَفْسه' وإنما يقع ذلك بغيره (3).

(1) س: فأراد.

(2)

عن الأصل.

(3)

انظر هذه القضية في نتائج الفكر للسهيلي 37 (38، والروض له 1/ 15، وأماليه 70، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 10، والإنصاف 436، وشواهد التوضيح 193، وشرح الكافية للرضي 2/ 246، وأبو القاسم السهيلي 393 - 396.

ص: 51

فإذا قلت: غلامُ زيدٍ، وزيدٌ هو الغلامُ، أو صاحبُ الرجلِ، والرجلُ هو الصاحبُ (كان محالاً. وهذه قاعدةُ البصريين، وقد أجاز ذلك الكوفيون مستدلين على ذلك بالسَّماع الفاشي في كتابِ الله وكلام العَرَبِ.

فمن ذلك إضافةُ الموصوف إلى الصفة، وهما شيءٌ واحدٌ، نحو قول الله تعالى:{وَلَدارُ الآخرةِ خيرٌ (1)} ، [و (2)] الآخرةُ هي الدارُ، لأن المعنى للدَّارُ الآخرةُ، بدليل قوله في الآية الأخرى:{وللدَّارُ الآخِرَةُ (3)} بل قرِئت آية الأنعام بالوجهين. {وللدارُ الآخِرَةُ خيرٌ للذين يتَّقُون (3)} . وهي قراءة الجماعة غير ابن عامر (4): {وّلّدارُ الأخرةِ} . وهي قراءة ابن عامر، وفي القرآن أيضاً:{وما كنتَ بجانِبِ الغَرْبِيِّ (5)} . والجانبُ هو الغربيُّ، وتقديره: وما كنت بالجانِيِ الغَرْبِيِّ. وفيه أيضاً: {إنَّ هذا لهو حَقُّ اليقين (6)} ، المعنى: لهو الحقُ اليقينُ. وقالوا: صلاةُ الأولى، ومسجدُ الجامعِ، وبْقَلةُ الحمقاءِ. وهكذا كله معناه على النعت والمنعوت: الصلاةُ الأولى، والمسجدُ الجامعُ، والبقلةُ الحمقاءُ، ويمكن أن يكون من هذا القسم قوله تعالى {وحَبَّ الحصيد (7)} ، لأن الحبَّ هو الحصيدُ، فكأنه قال: والحبُّ الحصيدُ، أي: المحصودُ. وأن لم يكن من النعت والمنعوت فهو على كل حال من إضافةُ الشيء إلى نفسه.

(1) الآية 109 من سورة يوسف.

(2)

عن س.

(3)

الآية 32 من سورة الأنعام.

(4)

الإقناع لابن الباذش 638.

(5)

الآية 44 من سورة القصص.

(6)

الآية 95 من سورة الواقعة.

(7)

الآية 9 من سورة ق.

ص: 52

ومن ذلك إضافة الصفة إلى الموصوفِ، فمن ذلك قول الشاعر، وهو من أبيات الحماسة (1):

/

355

إنا مُحَيُّوكِ يا سَلْمى فَحَيَّينَا

وإن سَقَيْتِ كرامَ النّاس فاسْقِينَا

فالمعنى: وإن سَقَيتِ الناسَ الكرامَ فاسِقيناه، وعلى هذا تقول:(لقيت (2)) شجعانَ القومِ، بمعنى: القوم الشجعان، وعقلاءَ الأهلِ، أي: الأهلَ العقلاءَ، ونحو ذلك وهو بابٌ (3) واسعٌ.

(4 - ومن ذلك قولهم: شهرُ رمضان، وشهرُ ربيعٍ، ويومُ الخميسِ، وذاتَ اليمين -4). وذات الشمالِ، وَذُو صباحٍ. وأنشد سيبويه (5):

عَزَمْتُ على إقَاَمِة ذي صَبَاحٍ

لأَمْرِ مَّا يُسَوَّد من يَسُودُ

فهذا أيضا من إضافة الشيءِ إلى نفسه، ومن ذلك (أيضا (2)) قولهم: هذا حَيُّ زيدٍ، وأتيتك وحَيُّ فلانٍ قائمٌ. وسمع الأخفش أعرابيا يقول: قالهُنَّ حَيُّ رَياحٍ. يعني أبياتا، فحيُّ هنا مذكَّرُ حَبَّةٍ من الحياة، وليس مرادفا (6) للقبيلة، والمراد بحيٍّ هو المرادُ بما بعده، كما كان ذلك

(1) البيت لبشامة بن حزن النهشلي، وهو في الحماسة 77، وخزانة الأدب 8/ 302، وقد تقدم من قريب.

(2)

عن س.

(3)

في الأصل: ((وهو من باب)).

(4)

سقط من س.

(5)

الكتاب 1/ 227، والمقتضب 4/ 345، وشرح المفصل 3/ 12، وشرح الكافية للرضي 1/ 495، 3/ 53، وخزانة الأدب 3/ 87، 16/ 119. والبيت لأنس بن مدركة الخثعمي.

(6)

الأصل: مرادف القبيلة.

ص: 53

أيضاً في (نحو (1)) قول الأعشى (2):

فكذبوهما بما قالت فصبحهم ذو

آل حسان يزُجىِ المُوت والشرعا

يريد: فصبَّحهم آلُ حسَّانَ.

وقال الكُمَيت (3):

إليكُمْ ذَوِي آلِ النبيِّ تَطَلَّعَتْ

نوازعُ من قلْبِي ظِماءٌ وألْبُبُ

ورُوي عن العرب: هذا ذُو زيدٍ. وهو كله من إضافة الشيءِ إلى نفسه، ومالم يُذكر منه أكثر مما ذكر (4). هذا مُتَعَلَّقُ الكوفيِّين.

ولما رأى الناظمُ هذا كله مخيلا وموهماً يمكن أن يتمسكَ به مُتَمسِّكٌ، كما وقع، أحال فيه على التأويل، وأشعر بأن التحقيق فيه إخراجهُ بالتأويل عن مُقْتَضَى ذلك الظاهر، جمعاً بين الأدلة، وذلك بأن يُقَدَّر في القسم الأول موصوفٌ محذوفٌ كأنه قال: ولدار الساعة الآخرة، فإن الساعة توُصَف بالآخرةِ كما وُصِف اليومُ بالآخِرِ في قوله تعالى:{وارجُوا اليوم الآخر (5)} . وقوله: {بجانِبِ الغربيِّ (6)} . وتقديره: بجانب المكان الغربيِّ. و (حق اليقين (7))

(1) سقط من س.

(2)

ديوانه 103،

ويزجى: يسوق. والشرع: جمع شرعة-بكسرٍ فسكون- وهي الحباله- التي يصيد بها الصائد.

(3)

الهاشميات 51. والبيت في الخصائص 3/ 27، وشرح الكافية للرضي 2/ 243، 3/ 344. وخزانة الأدب 4/ 307.

(4)

س: مما لم يذكر.

(5)

الآية 36 من سورة العنكبوت.

(6)

الآية 44 من سورة القصص.

(7)

الآية 95 من سورة الواقعة.

ص: 54

على تقدير: حَق الأمر اليقين. وصلاة الأولى. على (1) تقدير: صلاة الساعة الأولى. ومسجد الجامع، أي: الموضع الجامع. وبقلة الحمقاء، على تقدير: الحبة الحمقاء قالوا: لأن البقلة اسم لما يَنْبُت من تلك الحبَّه، ووصفُ الحبَّة بالحمقِ هو التحقيقُ لأنها الأصلُ، وما نبت عنها فرعٌ، ووصف الأصل أولى.

وقوله: {وحبَّ الحصيد (2)} على تقدير: وحَبَّ الزرعِ الحصيدِ، ووصفُ الزرعِ بالحصيدِ أولى لأنه المحصودُ حقيقة لا نفس الحب، فإنك تقول: حَصَدتُ الزَّرع، ولا تقول: حَصَدْتُ الحبَّ، إلا مجازا.

وأما القسم الثاني: وهو إضافة الصفة إلى الموصوف، فليس كما زَعَمُوا، وإنما المضافُ إليه عامٌّ والمضافُ خاصٌّ، فقولك: كرامُ الناسِ، يريد المرامَ منهم، والناسُ ليسوا الكرامَ فقط، وكذلك شجعان القوم، وعقلاء الأهل، وما أشبه ذلك.

وأما شهرُ رَمَضَانَ، وأخواته، فمن باب إضافة المسمَّى إلى الاسم، كأنه قال: شهر هذا الاسم، ويومُ هذا الاسم، وصاحبُ الاسم الذي هو صَباحِ. وكذلك حَيُّ زيدٍ ونحوه، أي حَيُّ هذا الاسم، أي الشخصُ المسمَّى بهذا الاسم، وكذلك ذو وما أُضيفَ/ إليه بمعنى 356

صاحب هذا الاسمِ، وإضافة المسمَّى إلى الاسم كثيرةٌ، هذا منها.

وعلى هذا التقدير لا يكونُ المضافُ والمضافُ إليه في جميع ما تقدم وأمثالهِ مُتَّحدين معنىً؛ بل متغايِريَن، فقد حَصَلَ مقصودُ الناظمِ في

(1) الأصل: في تقدير.

(2)

الآية 9 من سورة ق.

ص: 55

قوله: ((وأَوِّلْ موهماً إذا وَرَد))، يعني إذا وَرَد من كلام العربِ أو أُجرِيَ على كلامها بالقياس (فَأَوِّله (1)). فسواء أكان الآتي من ذلك قياساً أو غير قياسٍ على هذا التأويل يُجْرَى، ويُخَاَلفُ فيه الظاهرُ، للقياس المتقدم الذي استدَلَّ به البصريُّون، ولأن عامَّة كلامِ العربِ على أنّ الشيء لا يضافُ إلى نَفْسِهِ.

وقوله: ((وأَوَّلْ)) هو من التأويل، وهو في اللغةِ تفسيرُ ما يَئُول إليه الشيءُ، أي (2): ما يرجع إليه، فكأنه يقول: رُدَّه إلى ما يرجع إليه بالدَّليل الدَّال على ذلك. والمُوِهمُ من أوهم غَيْرَه إيهاماً: إذا جَعَله يَهِمُ. وهو منقولٌ من وَهِمَ الرحلُ في الشيء يَهِم وَهْماً: إذا ذَهَبَ وَهْمُه وَظَنُّه إليه، وهو يريد غيره، أو من وَهِمَ يِوْهَمُ: إذا غَلِطَ، وأكثرُ ما يستعمل هذا في الحساب، فكأنه يقول: أَوِّل ما يُوقِعُ الناظِرَ في الوَهَم والغَلَط. والله أعلم.

(ثم قال (3)):

وَبَعْضُ الأسْمَاء يُضَافُ أَبَدا

وَبَعْضُ ذا قدْ يأتِ لَفْظاً مُفْرَدَا

هذا فَصْلٌ يذكُر فيه ما يلزمُ الإضافة من الأسماء وما يلومهُا، وذلك أَنَّ الأسماءَ بِحَسبِ ما قُصِدَ من التقسيم على قسمين: لازمٌ للإضافة، وغيرُ لازمٍ لها. فغيرُ اللازمِ للإضافة لا إشكالَ فيه، فلم يَحْتَجْ إلى الكلامِ عليه، وذلك نحو: غلامُ زيدٍ وراكبُ الفرسِ، وصاحبُ أخيك، واللازمُ للإضافة على ضربين: لازمٌ لها لفظاً ومعنى، ولازم لها معنىً دون لفظٍ.

(1) سقط من س.

(2)

س: أو.

(3)

ليس في س.

ص: 56

فقوله: ((وبعضُ الأسماء يُضافُ أبداً))، يشملُ الضَّرْبَيِن معاً، ما يلزمُها لفظاً ومعنى، وما يلزمُها معنىً لا لفظاً.

وقوله: ((وبعضُ ذا قد يأتِ لفظاً مفردا))، هو التقسيمُ المذكورُ إلا أَنّه نصَّ على أحد القسمين، وهو ما يأتي في اللفظِ مفرداً ومعناه معنى المضافِ، وترك القسمَ الآخَرَ لفهمهِ مما ذُكِرَ كأنه قال: وبعض ذا قد يأتِ مُفْرَداً في اللفظ، وبعضهُ الآخَرُ لا يفردُ لفظاً؛ بل لا بدَّ له من الإضافةِ لفظاً.

فأما اللازمُ للإضافةِ لفظاً ومعنىً فمنها: أَيْمنُ الله (في القسم (وَلَعَمْرُ الله، وقِعْدَك الله وقَعِيدَكَ اللهَ، وعودٌ وبَدْءٌ في قولهم: رجعَ عودُهُ على بَدْئِه، ومعاذَ الله، وريحانَه، ولَبَيِّك وَسَعْدَيكَ وحنانَيْكَ، ونحو ذلك.

ومن الظروف: لدى وعند نحو: لديه مالٌ، وعنده مالٌ، وحولَ وحوالي، نحو الناس حَوْلَ زيدٍ وَحَواليْه، ووَسْطَ نحو: قعدت وَسْطَ الدار.

ومن غير ذلك: حُمادَى وقُصَارَى نحو: حماداك أن تفعل كذا، وِقُصَاراك أن تفعل، أي: غايتك أن تفعل. وَوَحْد نحو: جاء زيد وَحْدَه، وجاء القوم وَحْدَهم. وكلا وكلتا، نحو: جاءني كلا الرجلين، وكلتا المرأتين. وذُو وفروعه من: ذات وذَوَى وذَوَاتَىْ وأولى وأولات نحو: ذو مال، وذاتُ مال، و {ذَوَا عدْلٍ (1)} ، و {ذواتا أَفْنَان (2)} ، و {أُولُو العِلْمِ (3)} و {أولاتُ الأحمال (4)} .

(1) الآية 95، 106 من سورة المائدة.

(2)

الآية 48 من سورة الرحمن.

(3)

الآية 18 من سورة آل عمران.

(4)

الآية 4 من سورة الطلاق.

ص: 57

وأما اللازمُ للإضافة معنىً/ لا لفظا، فكقبلُ وبَعْدُ، فإنهما لازمان 357

للإضافة، غير أنه يجوزُ قطعهماُ عنها: نحو {لله الأمرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ (1)} . وذلك فَوْقَ وتَحْتَ نحو: قعدتُ من فوقُ، ومن تحتُ. وكلُّ، وبعضُ، وقُدَّام ووراء (، ومَثْلٌ بمعنى واحد (ومَعَ، وتلقاء، وغير، وكثير من ذلك في الظروف وغيرها، وجميعها مأخوذ من السماع، وذللك لم يأْتِ فيها بقياسٍ ولا ضابطٍ يحصُرها، ولكن ما جاء منها على ضربين:

أحدهما: أن تكون جاريةً على أصلِ الإضافة، بمعنى أنه لا يحدثُ في المضاف حكمٌ زائدٌ على ما كان لو لم يُضف، ولا في المضاف إليه كذلك؛ بل يمون كلُّ واحدٍ منهما كالغلام وزيد في قولك: غلامُ زيدٍ، وما أشبه ذلك.

والثاني: أن يحدُثَ في المضافِ أو في المضاف إليه حكمٌ زائدٌ، أو اختصاصٌ بأمر يخرج به عن الاكتفاء بالتعريف الأول، كما في قبلُ وبعدُ، فإنهما إذا قُطِعا عن الإضافة بُنيا. وكإذا فإنها تَخْتَصُّ بالإضافة إلى الجُمَلِ، وكيوم وحين وغير، فإنها إذا أضيفت إلى غير المفرد المعرب جاز بناؤُها على تفصيلٍ، ونحو: كلا وكلتا، فإنهما لا يضفان إلَاّ إلى المثنى، وما أشبه ذلك من الأحكام الزائدة.

فأما الضَّربُ الأولُ: فبم يحتج إلى الكلام عليه (2)؛ إذ ليس فيه زائدٌ على ما ذكروا (3).

(1) الآية 4 من سورة الروم.

(2)

الأصل: إلى الكلام عليه إذا، إذ ليس

)).

(3)

الأصل: ذكروا.

ص: 58

وأما الثاني: فهو المُفتَقر إلى التنبيه على ما فيه، فَلأجلِ ذلك خَصَّه بالذكر حسب ما تراه بحول الله.

وقوله: ((قد يأتِ))، بحذف الياء من يأتي، كقوله تعالى:{يوم يَأْتِ لا تَكلَّمُ نَفْسٌ إلا بِإِذْنِه (1)}

الآية.

و((لفظاً مفردا)): يَحْتَمِلُ أن يكونَ على ظاهره، فلفظاً حالٌ، ومفرداً صفةٌ، أي: مفرداً عن ذكر الإضافة. ويَحْتِمِلُ أن يكون ((لفظاً)) حالاً مقدَّماً صاحبه الضميرُ في ((مفردا))، أي: مفرداً لفظاً لا معنىً.

ثم أخذ في تفصيل الأحكام الزائدة فقال:

وَبَعْضُ ما يُضافُ حتماً امْتَنَعْ

إيلاؤُهُ اسْملً ظاهراً حيثُ وَقَعْ

كوَحْدَ لَبَّى ودّوّالّىْ سَعْدَىْ

وَشَذَّ إِيلاءُ يَدَىْ لِلَبَّىْ

فذكر الناظمُ هنا تقسيما آخر مختصا بما يلزمُ الإضافةَ لفظاً ومعنىً لقوله: ((حَتْماً))، أي: على كلِّ تقدير، وتلك هي الإضافة اللازمةُ لفظاً لا معنىً، فيريدُ أنَّ هذا القسمَ على ضربين:

أحدهما: ما يلزمُ فيه الإضافة إلى المضمرِ خاصَّةً.

والثاني: مالا يلزمُ فيه ذلك؛ بل تصحُّ إضافته إلى الظاهرِ والمضمرِ.

فأما مالا يلزم فيه ذلك فلا كلام فيه نحو: حُمادى وقُصارى وكلا وكلتا، فإن هذه ونحوها تُضافُ إلى الظاهر والمضمر نحو: قُصارى زيدٍ أن يفعل كذا، وزيدٌ قصاراه أن يفعل كذا، وكلا الرجلين قام، وكلاهما خرج، ونحو ذلك.

(1) الآية 105 من سورة هود. وانظر إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس 2/ 302.

ص: 59

وأما ما يلزم فيه الإضافة إلى المضمرِ عنده، فأَتى له بِمُثلٍ أربعةٍ:

أحدهما: ((وَحْدَ))، وهو من الاسماء الموضوعة موضعَ المصدرِ الواقعِ حالاً، وهو لازمٌ للإفراد، فلا يُثَنَّى ولا يُجمعُ، ولاومٌ للتذكير فلا يؤنَّثُ مع لزوم الإضافة إلى المضمر، فتقول: جاء زيد وَحْدَه، وجاءت هند وَحْدَها، وجاءا وحدهما، (وجاءتا وحدهما (1)) وجاءوا وحدهم، وجِئْنَ وِحْدَهُنَّ، وما أشبه ذلك.

أنشد سيبويه (2) لعبدالله بن عبد الأعلى القُرَشِىّ:

/ وكُنْتَ إذْ كُنْتَ إِلَهي وَحدَكما

358

لم يَكُ شَيءٌ يا إلهي قَبْلَكا

وما قاله من التزام هذه الإضافة في وَحْد صحيحٌ، وقد يُجَرَّ وَحْد أيضا، وهو مع ذلك باقٍ على حُكْمِه نحو: نسيجُ وحدهِ وجُحَيشُ وَحْدِه، وعُيَيْرُ وَحْدِه، وقَرِيعُ وَحْدِه، ورَحِيلُ وَحْدِهِ (3).

وقال ابن الأعرابي: يٌقالُ: جَلَسَ فلانٌ وَحْدَه، وعلى وَحْده، وجلسا وَحْدَهما (4)، وعلى وَحْدِهما، وعلى وَحْدِهم.

وقال أبو زيدٍ: اقتضيت كلَّ دِرْهَمٍ على وَحْدِه، أي: على حِدَتِهِ.

والثاني: ((لبَّى)) هكذا مُثَنىً، وهو من المصادر التي جاءت مثناةً لازمة الإضافة (5) إلى الضمير. تقول: لَبَّيكَ اللهمَّ لبَّيكَ (لبيك (6))، لا شريكَ

(1) عن س.

(2)

الكتاب 2/ 210، والمنصف 2/ 232، وشرح المفصل لابن يعيش 2/ 11.

(3)

انظر اللسان، مادة، وحد. ففيه نقولُ جيدة عن استعمالات وَحْد.

(4)

في اللسان: وجلسا على وحديهما.

(5)

س: لازمةٌ للإضافة.

(6)

سقط من الأصل.

ص: 60

لك لَبيَّك. ويقال: لَبيه، ولبيكما، ولبيكم، قال (1):

لَبيكُما لبيكما هّأّنَذَا لَديكُما

ولا يقال: لبى فلانٍ، إلا شاذا عنده، كما سيذكر، ومعناه: إجابةً بعد إجابةً.

والثالث: ((دَوَالَىْ)) وهو مصدر (مُثَنَّى (2)) إلا يقعُ في موضع الحال، كذا قال سيبويه وأنشد لعبد بني الحَسْحَاس (3):

إِذَا شُقَّ بُرْدٌ شُقَّ بالبُرْدِ مِثْلُهُ

دَوَاليكَ حَتَّى لَيْسَ للِبُرْدِ لابِسُ

ومعناه: مُداولةً بعد مُداولةٍ، ولا يجوز إضافته إلى الظاهر، فلا يقال: دَوالَىْ زيدٍ، ولا دَوَالَىْ أَخِيكَ.

والرابع: ((سَعْدَى)) نحو: ((لَبَّيكَ وسَعْديكَ، والخير في يديك)). وكذلك (4) لَبَّيْهِ وسَعْدَيه ولا يقال: سَعْدَىْ زَيدٍ، ومعناه: مساعدةً (بعد مُساعدةٍ (5)، و) هذه كلها مما يلزمُ الإضافة إلى المضمر.

وقوله: كوَحْدَ وكذا، يَشْمَلُ ما ذُكر وما لم يُذْكر، وقد جاء من ذلك أسماءٌ أُخَرُ كحنانَيْكَ المثنى تقول: حَنانَيْكَ، وسُبْحانَ اللهِ، وَحَنانَيهِ، فلا يقال حنانَىْ زيدٍ، وأنشدَ سيبويه لَطَرَفَةَ بنِ العَبْدِ (6):

(1) الرجز في مجالس ثعلب 129 غير منسوب، ونسب إلى أمية بن أبي الصلت في الأغاني 3/ 182، وانظر الدمنهوري على متن الكافي 98.

(2)

عن س.

(3)

الكتاب 1/ 350، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 119، وخزانة الأدب 2/ 99. ويقول المحقق: أغفل هذا الشاهد طبعة شرح الكافية للرضي سنة 1275.

(4)

الأصل: وكذا.

(5)

سقط من س.

(6)

الكتاب 1/ 348، والمقتضب 3/ 224، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 118. وديوان طرفة:172.

ص: 61

أبا مُنْذِرٍ أفنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا

حَنَانَيكَ بَعْضُ الشرِّ أَهْونُ من بَعْضِ

وقال سيبويه: ((وسمعنا من العَرَبِ من يقولُ: سُبْحان اللهِ، وحَنَانَيه، كأنه قال: سبحانَ اللهِ واسترحاماً (1))).

ومثلُ ذلك: هَذَا ذَيْكَ، أَيْ هذا بعد هذٍّ، من الهذِّ وهو الاسراع، وأنشد سيبويه (2):

ضَرْباً هَذَا ذَيْكَ وطَعْنَا وخَضا

ومثله: حَوَالَيْكَ وحَوْلَيْكَ، وهما ظرفان.

ومنه قول كعبِ بن زُهير (3):

يَسْعَى الوُشَاةُ حَوَالَيْها وَقَوْلُهُمُ

إنَّكَ يا ابن أبى سُلْمَى لَمَقْتُولُ

وقال الآخر أنشده ابن جني (4):

يا إِبِلى، ماذَامَهُ فَتَأْبَيْه

مَاءٌ رَوَاءٌ ونَصِىٌّ حَوْلَيَهْ

وثَمَّ أشياءُ أُخَرُ من هذا الباب لا تُضاف إلى الظاهر أصلا، إلا أن الناظم استثنى من ذلك لبَّىْ فقال (وشَذَّ إيلاءُ يَدَىْ لِلَبَّىْ). فَنَشَأَ عن ذلك مسائل:

(1) الكتاب 1/ 349.

(2)

الكتاب 1/ 350، والمحتسب 2/ 279، وشرح الكافية للرضي 1/ 330 والخزانة 2/ 106. وانظر ديوان العجاج 92.

(3)

ديوانه 19.

(4)

الخصائص 1/ 332، ونوادر أبى زيد 331. والرجز للزفيان السعدي، شاعر إسلامي. النَّصِيّ: نبتٌ أبيضُ ناعمٌ من أفضل المرعى.

ص: 62

إحداها: أن ما ذَكرَ من الأسماء لم يأت فيها سماعٌ بإضافة إلى الظاهر غير ما استثنى لقوله: (وَشَذَّ) كذا في كذا، ولو كان قد سُمِعَ في غير لَبَّى، لم يقل:((وّشَذَّ إيلاءُ يَدَىْ للبَّىْ))، وَلأَتَى بعبارةٍ تَشْمَلُ جَميِعَ ما سُمِع فيه منها شَيء، لكنه لم يفعل ذلك، فَدَلَّ على اختصاص السَّماعِ بلَبَّىْ.

والثانية: إشعاره بموضع السماع في لَبَّى، وهو كونُه أضيف من الأسماء الظاهرة إلى لَفْظِ يَدَىْ، وإشارته إلى نحو ما أنشد سيبويه من قول الشاعر (1):

دَعَوتُ لما نَابَنِىِ مِسْوَرَا

فَلَبَّى، فَلَبَّىْ يَدَىْ مِسْوّرِ

وكأنه لم يُسْمَع في غير اليدَينِ أصْلاً.

ورُوِي في بعض الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسم- أنه قال:

((إذا دعا أحُدكم أخاه/ فقال: لَبَّيك. فلا يَقُولَنَّ: لَبَّى يَدَيْكَ. وليقل: 359

أجابَكَ اللهُ بما تُحِبُّ (2))). وهذا مما يُشْعِرُ بأنَّ عادَةَ العَرَبِ إذا دَعَتْ (3) فأُجِيبَتْ بلبَّيكَ أن تقولَ: لَبَّىْ يَدَيْكَ، فَنَهَى عليه السلام عن هذا القولِ وعَوَّض منه كلاماً حَسَناً، ويُشْعِرُ بهذا أيضا معنى البيت المتقدِّمِ، فعلى هذا ليس بمختصٍّ بالشِّعرِ.

(1) الكتاب 1/ 352، وشرح الكافية للرضي 1/ 329، والخزانة 2/ 92 وانظر اللسان: لبب، لبى، سور. وينسب البيت إلى رجلٍ من بني أسد.

(2)

سنن أبي داوود، كتاب الأدب.

(3)

س: دعيت.

ص: 63

والثالثة (1): أن إضافة يَدَىْ للبَّىْ شاذٌّ، فيعطي أنه لا يُقاس عليه، وهذا يُشْكِلُ من جِهتينِ:

إحداهما: جعلُه إيَّاه من الشاذِّ، والشاذُّ هو عنده ما اختص بالشعر، أو جاء في كلام نادِرٍ لم يكثُر ولم يشتهر في الاستعْمال. وهذا ليس كذلك لما تقدَّم آنفا من دلالة الحديث على أنه كان مستَعْملاً عند العرب معهودا، ولذلك نهي عنه صلى الله عليه وسلم ولو لم يشتهر عندهم لم يَنْهَهُم عنه، وهذه عادَتُه- عليه السلام فيما اعتادُوه من الأقوالِ والأفعالِ المخالفةِ للشَّرْعِ.

وأيضا فإنَّ بيتَ الكتابِ يُشْعِر بذلك، فليس من الشاذِّ النادرِ؛ بل هو من الكثير المستعملِ، لكن مختصُّ باليدين، فكان من حَقِّه أن يجعله قياسا في موضعه، ولا يمنعَ منه، وهذه هي الجهةُ الثانيةُ من جِهَتَيِ الإشكالِ.

والجواب: أنَّ الحديث لا نُسَلِّم أنه يُشْعِرُ بكثرة ذلك، وإنما (2) فيه دلالةٌ على أنّه سَمِعه أو بَلَغه (3) عمن قاله فيمكن أن تكون كلمةٌ قيلت على غير عادة، فيكون من النادر والشاذ، وإذا احتَمَلَ هذا لم يكُنْ فيه دليلٌ، وإن سُلِّم أن ذلك اعتِيدَ في الاستعمال، فلا يلزم من ذلك خروجهُ عن نصاب الشاذّ ودُخولُه في القياس، لأن الشاذّ عند النحويين على ثلاثة اقسام: شاذٌّ في الاستعمال دون القياس، وشاذٌّ على العكس، وشاذٌّ في القياس والاستعمال جميعاً، فيكون هذا من الشاذَّ في القياس دون الاستعمال كأنه لم يكثر (كثرة)(5) توجب (6) القياس عليه، وقد تقدَّم

(1) الأصل: والثانية.

(2)

س: فإنما.

(3)

س: وبلغه.

(4)

كذا في صلب الأصل، س. وفي هامش الأصل عن نسخة:((عمن قال ذلك فيحتمل أن .. )).

(5)

عن س.

(6)

الأصل: توجه.

ص: 64

التنبيهُ على هذه القاعدة. وإن سُلِّم أنه بَلَغَ مبلغَ القياسِ عليه في كلام العرب، فقد يقال: إن الناظم لم يعتبره حيث كان الحديث قد نهى عن استعماله، فصار القياس على ما سُمِع ممنوعاً شرعاً؛ ألا تراه قال:((لا (1) يَقُولَنّ لَبَّى يَدَيْكَ))، فهذا معنى المنعِ من القياسِ على ما قيل منه، وهذا من غرائب أحكام العربيَّةِ أن يُمنَعَ من القياس لمانعٍ شرعيِّ، ولكنْ له نظائر كالمنع من تثنية أسماء الله تعالى وجمعها وتصغيرها، وإن كان قياس العربية يقتضى تثنية الأسماء المعربات على الجُمْلة، وكذلك تصغير الأسماء التي سُمِّى بها نَبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم تسليما- فإنه أعظمُ الخَلْقِ عند الله تعالى، فلا يجوزُ تصغيرُ اسمهِ وإن كان لفظاً، لِعظَمِ المدلولِ-عليه السلام والألفاظ تشرُفُ بِشَرَفِ مدلولها شَرْعاً، وهذا الموضع مما مَنَعَ الشرع من استعماله، وذلك يستلزم مَنْعَ القياس عليه، فمنَعَهُ الناظمُ وسمَّى ما سُمِع منه مخالفا للمشروع شاذاً، لمساواته للشاذِّ العربِّي الذي لا يقاس عليه، والله أعلم.

والرابعةُ: أن هذه المسألة/ اقتضتْ مَنْعَ إضافة هذه الأسماء إلى الظاهرِ بإطلاق،

36

وهو مِّشِكِلٌ؛ فإن كلام سيبويه يُشعر بخلافه، وذلك أنه حين تكلم مع يُونُس في زعمه أن لَبيك اسمٌ مفردٌ لا مثنى، وأن قلب ألفه مع المُضمر كقلب ألف عليك، استدل على أنه ليس كذلك بأن قال:((لأنك تقول (2): لَبَّى زيدٍ، وسَعْدى زيد (3)))، فظاهرُ هذا جوازُ ما منعه الناظم، ويمكن أن يكون معنى قول سيبويه: لأنك إذا أظهرت الاسم، أي في نحو:

(1) الأصل: ليقولن.

(2)

في مطبوعة الكتاب: ((لأنك [لا] تقول)). بزيادة لا. وسياق نصّ سيبويه يقضي بحذفها.

(3)

الكتاب 1/ 351.

ص: 65

((فَلَبَّىْ يَدَىْ مِسْوَر)) مما جاء في الشعر أو في الكلام ندورا، لا أنه يريد أن ذلك جائزٌ في الكلام. فإذا احتمل هذا لم يكُن فيه دلالة على (مخالفة (1)) (ما (2)) ذكره الناظم، والله أعلم.

ويقال: أَوليتُ الشّيءَ (الشيءَ (3)) بمعنى جعلتُه يَليهِ، أي: يقع بعده مجاوراً له، فَضَميرُ ((إيلاؤُه)) عائدٌ على ما يُضافُ، وهو الاسم الأول، والاسم الظاهر هو المضاف إليه، وهو الثاني، أي: امتنع أن يلي المضافَ الظاهرُ مضافاً إليه.

وكذلك قولهُ: ((وشَذَّ إيلاءُ يّدَىْ لِلَبَّىْ)). يريد: وشَذَّ أن يلي لَفظ (يَدَىْ لَفْظَ (4)) لَبَّىْ.

وألزمُوا إضافة إلى الجُمَلْ

حيثُ وَإِذ، وأِنْ يُنَوَّنْ يُحْتَملْ

إفرادُ إِذْ، وما كإذْ معنى كإِذْ

أَضِفْ جَوَازاً نحوُ حِين جانُبِذْ

حيث وإِذْ في موضع نَصْبٍ على المفعولِ الأولِ لألزموا. والمفعولُ الثاني قوله: ((إضافةً إلى الجُمَلْ))، ويعني أن حيثُ من ظروفِ المكان، وإِذْ المختصَّةُ بالماضي من ظروف الزمان، التزَمتِ العربُ فيهما أن يُضافا إلى الجُمل في اللفظ وإن كانت الجملة في تقدير المفردِ معنى، ولم يُضيفُوهما إلى المفرد الذي هو الأصلُ في الإضافةِ؛ بل عَدَلُوا عن ذلك، وخَرَجُوا عن الأصل، ولذلك قالوا في ((حيثُ)) إنها بُنيت لخروجها عن نظائرها بالإضافة إلى الجمل (أي (5): ظروف

(1) عن س.

(2)

عن الأصل.

(3)

عن س، وكان فيها: للشيء.

(4)

سقط عن الأصل.

(5)

عن س.

ص: 66

المكان سواها لا يسوغُ فيها ذلك، وما ألزموا من الإضافة إلى الجمل) هنا إنما هو القياس، وإلا فقد حُكى إضافةُ حيثُ إلى المفردِ، وأنشدوا قول الراجِزِ (1):

أَما تَرَى حيثُ سُهَيلٍ طالعاً

وقول الآخر (2):

وتَطعُنُهم حَوْلَ (3) الحُبَى بَعْدَ ضَرْبِهم

بِبِيضِ المَوَاضى حَيثُ لىِّ العَمائمِ

ولكنه شاذٌّ، فلذلك يعتَبره الناظم. ولم يُقَيِّد الجملة التي يضافان إليها بكونها اسميةً أو فعليةً، فدلَّ إطلاقه على عَدَم الاختصاص بإحداهما، وذلك صحيحٌ.

فأما ((حَيْثُ)) فتضافُ إلى الجملة الاسمية فتقول: جلست حيث زيدٌ جالسٌ، وإلى الجملةِ الفعليةِ فتقول: جلستُ حيثُ جلستَ. ومن ذلك في القرآن الكريم {وَكُلَا منها رَغَداً حيثُ شِئْتُما (4)} ، و {وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُم (5)} ، {وامضُوا حيثُ تُؤْمَرُون (6)} . وذلك كثير.

(1) البيت في المفصل 4/ 90، وشرح الكافية للرضي 3/ 183، والهمع 3/ 206، والخزانة 7/ 4 ويروي بعده

نجماً يُضئُ كالشهاب لامعاً

ولا يعرف قائله

(2)

نسب في شرح العيني 3/ 387 إلى الفرزدق. والبيت في شرح المفصل لابن يعيش 4/ 92، وشرح الكافية للرضي 3/ 183. والخزانة 6/ 553 والحُبَى: جمع حُبْوَة، وهو الثوب الذي يُحتبى به.

(3)

في شرح المفصل وشرح الكافية: حيث الحبى. وقد ذكر البغدادي هذه الرواية، وأخرى وهي: تحت الحبى.

(4)

الآية 35 من سورة البقرة.

(5)

الآية 161 من سورة الأعراف.

(6)

الآية 65 من سورة الحجر.

ص: 67

وأما (إِذْ) فتضاف أيضا إلى الجملة الاسمية نحو: جئتُ إذ زيدٌ أميرٌ. ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُروا إِذْ أَنتُمْ قليلٌ مستَضْعَفُون في الأَرْضِ (1)} ، {وَإِذْ أنتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُون أُمَّهاتِكُم (2)}. وإلى الجملة الفعلية كان الفعلُ ماضياً أو مضارعاً نحو: جِئْتُ إِذْ جاءَ زيدٌ. (وإذ يجئُ زيد)(3) ومنه في القرآن: {واذكُروا إذْ جَعَلَكُم خُلَفاءِ (4)} ، {وَإِذْ اتينا مُوسى الكتابَ والفُرقْانَ (5)} ، {إِذْ تُصعِدُون ولا تَلْوُون على أَحَدٍ (6)} ، {إِذْ تأتِيهم حيتانُهُم يومَ سَبْتِهِم/ شُرَّعَّاً (7)} . 365

ثم قال: ((وَإِنْ يُنَوَّن يُحْتَمَلْ إِفرادُ إِذْ))، الضمير في ((يُنَوّن)) راجعٌ إلى إِذْ، لأنه أقربُ مذكورٍ.

وقوله: ((إفرادُ إِذْ))، أظهره والموضعُ موضعُ الضمير لأجل البيان، يعني أن إِذْ إذا نُوِّنَ، أي: لحقه تنوينٌ في آخرِهِ احتُمِلَ (أي: اغتُفِر واستُجِيزَ (إفرادُه عن الإضافة (8) فيبقى دون مضافٍ (إليه (9)) لفظا وإن كان مراداً معنى، وهو الجملة المذكورة.

وفي هذا الكلام إشعارٌ بجوازِ تَنْويِنِه، لأن ما ذُكِرَ من الحكم مبنيٌّ

(1) الآية 26 من سورة الأنفال.

(2)

الآية 32 من سورة النجم.

(3)

عن س.

(4)

الآية 69 من سورة الأعراف.

(5)

الآية 53 من سورة البقرة.

(6)

الآية 153 من سورة آل عمران.

(7)

الآية 163 من سورة الأعراف.

(8)

س: عن الإضافة إليه.

(9)

عن س.

ص: 68

عليه، وذلك نحو قولك: قام زيدٌ فقمتُ أنا حينَئذٍ. ومنه قوله تعالى: {وأنتم حينئذٍ تنظرون (1)} ، {ويلٌ يومئذٍ للمكذِّبين (2)} وما أشبه ذلك.

ويعني بالإفرادِ الإفرادَ اللفظيَّ، وهو التعرِّي عن الإضافة، ولم يُرِدْ ايضاً الإفراد لفظاً ومعنىً؛ بل معنى الإضافة باقٍ، ولذلك قالوا في التنوين: إنه تنوينُ العِوَضِ، كأنه وقع عِوضا عن (3) ذكر المضاف إليه، وهو الجملة، والذي يدلّ من كلامه على بقاء معنى الإضافة قوله:((وألزموا)) كذا، لأن هذا الإفرادَ المذكورَ جائزٌ قياسا، فلو كان على غير معنى الإضافة لم يقل: وألزموا، فلابد أن يكون معنى قوله:((يُحْتَمَل إِفرادُ إِذْ)) الإفرادُ اللفظيُّ خاصة، فيبقى معنى الإضافة إلى الجُمَل غيرَ زائلٍ، ولذلك كان قولك: قام زيدٌ فقمتُ حينئذٍ، معناه: حين قام زيدٌ. وكذلك قوله: {وأنتُمْ حينَئِذٍ} أي: حين إِذْ بلغتِ الحلقومَ، وكلٌّ ما جاء من ذلك فعلى هذا السَّبِيلِ.

ثم قال: وما كإِذْ معنى كإِذْ؛ يعني أن هذا الحكم المذكور، وهو الإضافةُ إلى الجُمَلِ ليس بمختصٍّ بإِذْ وحدها من ظروف الزمان؛ بل الحكمُ منسَحبٌ على غيرها، لكن بشرط أن يكون بمعناها، وهو الزمان الماضي المبهم ((4 - فكلُّ ظرف زماني كان مدلولُه الزمان الماضي المبَهَم (4)) الذي ليس بمعدود كأسبوع، ولا محدودٍ كأمس، وإنما تَقَيَّد بالإبهام، لأنّ إِذْ كذلك هي للزمان الماضي غير المعدُودِ ولا المحدَودِ، وهو مْثلُ به في قوله:((حين جاء)) فحين مشتملٌ على معنى إِذْ، لأنه تضمَّن الوصفين، وهما كونه للماضي غير المعدود ولا المحدود، ولذلك

(1) الآية 84 من سورة الواقعة.

(2)

الآية 15 من سورة المرسلات.

(3)

س: من.

(4)

عن س.

ص: 69

تقع إِذْ في موضعه فتقول: نُبِذَ زيدٌ إِذْ جاء، كما تقول: نُبِذَ حين جاء، فلو كان معدودا أو محدودا كالأسبوع وأسماء الشهور والأيام وأمس، ونحو ذلك، لم يُضَفْ إلى الجُمَل لمخالفةِ معنى إِذْ، بخلاف يومٍ، ووقتٍ، وزمانٍ، ونهارٍ، وليلٍ، وصباحٍ، ومساءٍ، وغداةَ وعَشِيَّةَ، لأنها غير مختصة، فجميعها وما كان نحوها ينسحبُ عليها حكم إِذْ، فتضاف إلى الجُمَل مطلقاً، كانت اسميةً أو فعليَّةً، فتقول: قمنُ يوم قام زيد، ويوم زيد قائم، وقمتُ حين قام زيد، وحين زيدٌ قائمٌ، وقمتُ وقتَ قام زيد، ووقتَ زيدٌ قائم، وكذلك سائرها، وحِكُى من كلامهم: جئتُكَ زمنَ الحجاجُ أميرٌ.

وأنشد الأصمعي عن ابن مَرْتَدٍ (1):

أَزْمانَ عَيْنَاءُ سُرُورُ المَسْرُورْ

عَيْنَاءُ حَوْراءُ من العِينِ الحِيِرْ

وقال الأعشى ميمونُ (2):

أَنْجَبَ أَيَّامَ والدِاهُ بِه

إِذْ نَجَلَاهُ فَنِعْمَ ما نَجَلَا

قالوا معناه: أيام احتاج أبوه إلى عَوْنِهِ، (كما تقول (3)): أنا باللهِ ثُمَّ بِكَ. وقال الرَّاعي (4):

/

366

(1) هو منظور بن مرثد. والبيت في النوادر لأبي زيد 571، وشرح المفصل لابن يعيش 4/ 114، والمنصف 1/ 288 - 289، ونتائج الفكر للسهيلي 149.

(2)

ديوانه. والمحتسب 1/ 152.

(3)

سقط من س.

(4)

ديوانه 24. والكتاب 1/ 111، واللسان: هيج، أخا.

ص: 70

لَيَالِيَ سُعْدَى لَوْ تَرَاءَتْ لراهِبٍ

بدَوْمَةَ تَجْرٌ عَنْدَه وَحَجيجُ

قَلى ديِنَه واهتاجَ للشَّوقِ إِنَّها

على الشَّوق إِخوانَ العَزَاءِ هَيُوجُ

والبيت الثاني أنشده سيبويه، وهو في الكتاب منسوبٌ لأبي ذُؤَيبٍ.

قال السيرافي: وإنّما هو للراعي، ويَحْتَملُ أن يكون هذا على إضمار (كان (1))، كما قدَّر سيبويه في قول الرَّاعي أيضاً (2):

أزمانَ قَوْمِي والجماعةُ كالَّذي

مَنَع الرِّحالة أن تَمِيل مَمِيلا

تقديره عنده: أزمان كان قومي كذا.

ومن إضافَتِهِ إلى الجملةِ الفعليَّة قولُ الشاعرِ، أنشده سيبويه (3):

على حين أَلْهَى الناسَ جُلُّ أُمورِهمْ

فَنَدْلَا زريقٌ المالَ نَدْلَ الثعالبِ

وقال امرؤ القيس (4):

كأنَّني غداة البينِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا

لدى سَمُراتِ الحيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ

(1) سقط من الأصل.

(2)

الكتاب 1/ 305، وشرح الكافية للرضي 1/ 524، والخزانة 3/ 145 وديوانه 234.

(3)

الكتاب 1/ 115 - 116، والكامل للمبرد 1/ 184، والأصول 1/ 167، والخصائص 1/ 120، وفرحة الأديب 88. وقد نسب في الكامل إلى أعشى همدان، وفي الإصابة إلى أبي الأسود الدؤلي. وذكر العيني 3/ 46 أنه ينسب للأحوص.

(4)

ديوانه 9. والبيت في الخزانة 4/ 376 عرضاً.

ص: 71

وقال الفرزدق (1):

غَداةَ أَحَلَّتْ لابن أصرم طعنَةٌ

حُصَينٍ عَبيطاتُ السَّدائِفِ والخمرُ

وقال علقمةُ بن عَبَدَةَ (2):

طحابك قلبٌ في الحسانِ طروبُ

بُعَيدَ الشبابِ عَصْرَ حانَ مَشِيبُ

وقال النابغة الذبياني (3):

على حينَ عاتبتُ المَشِيبَ على الصِّبا

وقلت: أَلَمَّا أصْحُ والشيبُ وازعُ

ولما كانت إضافةُ هذه الظروفِ التي هي بمعنى إِذْ إلى الجُمَل غيرَ لازمة، كما كانت لازمةً في إِذْ وقد أحالَ في ذلك الحكمِ على إِذْ بقوله:((وما كإذ معنى كإذ))، يريدُ وما كان بمعنى إذ فهو مثل إذ في الحكم- خاف أن يُتَوهَّمَ اللزومُ، فحرَّرَ ذلك بقوله:((أَضِفْ جَوازاً))، إذْ لو لم يَقُلْ ذلك لفهمِ له أن يومَ وحينَ وزمانَ ووقتَ ونحوها تلزمُ إضافتها إلى الجمل، ((4) فرفعَ هذا الفهمَ تقييدهُ بقوله:((أَضِفْ جوازاً))، أي: ليس إضافتها إلى الجمل (4)) بلازمةٍ لزومَها في إِذْ؛ بل يجوزُ أن تُضافَ إلى المفردِ نحوُ: سرتُ يومَ (5) الجمعة. وقوله: ((كأنِّي غداةَ

(1) ديوانه 254. والجمل للزجاجي 204، والإنصاف 70، وشرح المفصل 1/ 32، 8/ 70.

(2)

ديوانه 32. وأمالي ابن الشجري 2/ 267.

(3)

ديوانه 32، والكتاب 2/ 330، والمنصف 1/ 58، وشرح الكافية للرضي 3/ 180، 307. والخزانة 6/ 550.

(4)

س من س.

(5)

س: نحو الجمعة.

ص: 72

البَيْنِ))، وقوله تعالى:{وَلَاتَ حِينَ مناصٍ (1)} . ونحو ذلك، وهو الأصل أن الإضافة إنما تكونُ إلى المفردِ لا إلى الجملة، وأيضا فليست بلازمةٍ للإضافة مطلقا؛ بل هي كسائر الأسماء تضافُ تارةً وتُفْرَدُ أخرى، بحسب مقاصد الاستعمال، نحو: سرت يوماً، وقعدت ساعةً، وسرت عشيةً. وقال تعالى:{ولَا تْطُرِد الذين يدعُونَ رَبَّهم بالغَدَاةِ والعَشى (2)} ، {وَلَهُمْ رزْقُهُمْ فيها بُكْرَةً وَعشيِاً (3)} . وذلك شهير، فَصَحَّ أن يحكم بجوازِ الإضافةِ التي ذكر الناظمُ، لَعَدم الإضافةِ الشائع فيها جملةً، أو الإضافةِ إلى المفرد الذي هو الأصلُ.

وإنما صَحَّت الإضافةُ إلى الجُمَلِ في هذه الظروفِ المذكورةِ حَمْلاً على إِذْ التي هي الأصلُ في تلك الإضافة، لأنها فيها لازمةٌ، فَحُمِلَ عليها غيرُها لاجتماعهما في المعنى، فتكون إذاً إضافةُ يوم وحين (ووقت (4)) ونحوها إلى الجُمَل فرعاً عن إضافة إذْ إليها، وإضافة إذْ إلى الجمل ((5) فرعٌ عن الإضافة إلى المفرد، إذ هي الأصل، فإضافة يوم وحين ونحوهما إلى الجمل (5)) في الدرجة الثالثة. وفي كلام الناظمِ إشعارٌ بفرعيَّةِ هذه الإضافة في يومٍ وحينٍ ونحوهما، لأنه لما بيِّن حُكْم إِذْ أحال في حكم ما هو (6) بمعناها عليها، فكأنها فرع بالشَّبَهِ بإِذْ في أداءِ معناها المذكور أولا.

وقوله: ((حِينَ جا نُبِذْ))، مثالٌ مما يَجْرِي مَجْرِى إِذْ. ويقال: جاء يجيء، وهو

(1) الآية 3 من سورة ص.

(2)

الآية 52 من سورة الأنعام.

(3)

الآية 62 من سورة مريم.

(4)

سقط من س.

(5)

سقط من الأصل.

(6)

س: هي.

ص: 73

الأصل، وبعضُ العربِ (1) يقول: جا يَجى، وسا يَسُو، من غير هَمْزٍ (2)، : كانه حذفه/ تخفيفا، وذلك نادر، فعليه جاء لفظُ الناظمِ، وله من هذا كثيرٌ في نَظْمِه للضرورة.

367

والنَّبْذُ: الإلقاء من اليَدِ، وقد يكون (ذلك (3)) حقيقةً نحو: نَبَذْتُ الثوبَ والخاتَمَ، وقد يكون مجازاً نحو: نبذت فلاناً: إذا طردتَه وأبعدتَه عنك. وهذا منه، أي: حين جاء طُردَ وأُبعدَ.

وفي كلامه (4) بعْدُ نظرٌ من أوجُهٍ أربعةٍ:

أحدها: أنه أطلق القولَ في إضافة إِذْ إلى الجُمَل، وليس على إطلاقه، وذلك أَنَّ الجملة الابتدائيةَ الواقعةَ بعد إِذ إِمَّا أن يكون خبر المبتدأ فيها اسماً أو فعلا، فإن كان اسماً فالقولُ ما قالَ، وإن كان فعلاً فإمَّا أن يكون مضارعاً أو ماضياً، فإن كان مضارعاً أو ماضياً، فإن كان مضارعاً: جاز أيضا وصحَّ كلامه فيه، فتقول: جئتك إِذْ زيدٌ يقومُ، كما تقول: جئتك إذ يقومُ زيدٌ، وإن كان ماضياً: فالنحويّون يستقبحون نحوَ جئت إذ زيدٌ قامَ؛ قال السيرافي: ويقبُح التقديمُ. يعني تقديم الاسمِ مع الماضي لا يقولون: جئتك إذ زيدٌ قام، إلا مُسْتَكْرَهاً. وعلل ذلك بأن إِذْ للماضي، فاختارُوا ما إيلاؤُه إياها للمطابقة بينهما.

قال ابن مالك في الشرح: مدلول إِذْ وقام من الزمان واحد، وقد

(1) الكتاب 3/ 556.

(2)

الأصل: من غيرهم.

(3)

سقط من س.

(4)

في صلب الأصل: وفي قوله. والمثبت عن الهامش، س.

ص: 74

اجتمعا في كلامٍ (1) فلم يحسُنِ الفصلُ بينهما بخلاف ما سواه، فإن الذي بعد إِذْ في جَمِيعه غيرُ موافقٍ لها في مدلولها، فاستوى اتِّصالُها وانفصالُها عنه. وكذلك نقولُ: الجملة الابتدائية الواقعة بعد حيثُ إما أن يكون خبر المبتدأ فيها اسماً أو فعلاً، فإن كان اسماً صحَّ ما قال، وإن كان فعلاً كان قبيحاً كان الفعلُ مضارعاً أو ماضياً، كما يَقْبُح بعد إِذْ، نَصَّ على ذلك سيبويه، كما نَصَّ على ما تقدم في إِذْ، لأن حيثُ تَجري في المعنى مجرى إِذْ وَهَلْ ونحوهما.

وإذا ثَبَتَ هذا لم يصح ما ذكر من الإطلاق.

والثاني: أنه جعل هذه الإضافة إلى الجملة مطلقة، وليس كذلك؛ بل الإضافة في جميع ما تقدم على وجهين: إضافة إلى نفس الجملة كما قال، وذلك إذا كانت الجملة المضافُ إليها اسمية من مبتدأ وخبر نحو: جئت زمن الحجاجُ أميرٌ، وإضافة إلى الفعل لا إلى الجملة نفسها، وذلك إذا كانت الجملة فعلية.

فإذا قلتَ: جئتُ يومَ قام زيد، فليست الإضافة فيه إلى نفس الجملة؛ بل إلى جزئها الذي هو الفعل، وكأنَّ الإضافة هنا إنما جازت لدلالة الفعلِ على مصدره، فكأن الإضافة إلى المصدر. وأما أن يُقال: إن الإضافة إلى نفس الجملة، كما كان ذلك في الاسمية، فلا يصح والدليل على هذه الدعوى بناؤُهم المضافَ إلى الماضي دون المضارع في الأمر العام، فإن البناءَ مع الماضي جائزٌ بإطلاقٍ كثيرٍ في السماع، بخلاف البناء مع المضارع، فإنه غيرُ موجودٍ أو هو قليلٌ، فتفريقُ العَرَب بين الموضعين دليلٌ على أن الإضافة للفعلين، ولو كانت إضافةً إلى الجملة من حيثُ هس جملةٌ لتساوى الأمران، فَجَعْلُ الناظم كلا الضربين من الإضافة إلى الجُمَلِ فيه ما تَرَى.

(1) في صلب الأصل: مكانه. والمثبت عن الهامش، س.

ص: 75

والثالث: أنه قَدَّم لإِذْ من الحكم أمرين (1): الإضافة إلى الجمل، والإفراد/ عن الإضافة 368

لفظاً وتعويض التنوين. ثم قال: وما كإذ معنى كإِذْ))، يعني أن ما كان مثلها في المعنى فهو مثلها في الحكم مطلقا، فاقتضى أن ما كان مثلها في المعنى يضافُ إلى الجمل، وذلك صحيحٌ، ويُفْرَد عن الإضافة فيعوَّضُ منها التنوين، وذلك فاسدٌ؛ لأن العرب لم تفعل ذلك إلا في إذْ خاصةً.

ولا يقال: إن قوله ((أضِفْ جوازا)) عَيَّن المرادِ، وأن المقصودَ في الإحالة على حكم إِذْ الإضافةُ المذكورةُ خاصةً، وإذا كان كذلك فلا اعتراض، لأنا نقول: ذلك غير متعيَّن، لأنه قد قال:((أَضِفْ جوازا)) فقيدَّ الإضافة بكونها جائزةً لا واجبةً؛ إِذْ كانت واجبةً في إِذْ، فظهر أن المقصود تحريرُ وَجْهِ الحكم بالإضافة، وهو كونها على الجوازِ. وإذا أمكن أن يكون المقصودُ هذا، فمن أين يتعيَّنُ أن ذلك في الإضافة لا في الإفراد وتعويض التنوين؟ وعلى هذا التقرير يلزمُ حكمٌ آخر، وهو البناءُ، لأنه لما قال:((وما كإِذْ معنى كإِذْ))، ولم يعيَّن وجها من الوجوه، وجب حملهُ على جميع الأحكام اللاحقة لإِذْ، ومن جملتها البناءُ، فيتعيَّن دخولُ حكمه فيما كان مثلها من الظروف، والطروف التي في معنى إِذْ لا يلزم فيها البناءُ، فبان بهذا أن كلامه مُشْكِلٌ.

والرابع في قوله: ((وإن يُنَوَّنْ يُحْتَملْ إفرادُ إِذْ))، وهو أن بني إفرادها عن الإضافة على تنوينها على حَدَّ بناءِ المُسَبَّبِ عن السبب، أي: إن نُوِّنت ساغ إفرادُها. وهذا عكس ما عليه الحكمُ، إِذِ الإضافة لم تسقط

(1) س: أمران.

ص: 76

بسبب التنوين، بل الإضافة هي الساقطة أولا، ثم أُتى بالتنوين عَوِضاً مما سقط، ولذلك سُمي تنوينَ العِوَض، وإذا كان كذلك لم تصلح تلك العبارةُ أن يُؤتى بها، لأنها تُفْهم عكس المراد.

والجواب عن الأول أن يُقال: أما حيثُ فإنه أطلق هنا وقيد في باب الاشتغال فبيَّن أن حيثُما لا يليها الاسمُ بعده الفِعْلُ إلا على إضمار، فتبين أنها لا يقع بعدها اسمٌ يليه فعلٌ، وحيث قد تجري مجرى حيثما في هذا الحكم حسب ما تقدم، إِذْ يدخلها معنى الجزاء وإن لم يُجزَمْ بها دون ((ما)) عند البصريين، ففيما تقدم إشارة إلى هذا المعنى، فصار الإطلاق هنا مقيدا، وهذا (1) تلفيقٌ. وأما إِذْ فلا أجدُ الآن فيها جوابا.

وعن الثاني: أن ما قيل من التفرقة بين الجملتين لا ينهض من وجهين:

أحدهما: أن يمنع الفرقُ ابتداءً، إِذِ البناء والإعراب- على الجملة- جائزان في حال الإضافة إلى الماضي والمضارع على رأي الناظم، كما أنهما جائزان عنده في حال الإضافة إلى الجملة الاسميّة، كان أولُ الجزأين مبنياً أو معرباً. وإذا كان كذلك لم يكن الفرق مُعتبراً ولا معتداً به، فكان (2) في حكم الساقط.

والثاني: إذا سلم الفرق فإنما ذلك اعتبارٌ لفظي مع أن الإضافة في الحقيقة للجملة لا للفعل وحده، وإنما جازت الإضافة إلى الجملة مطلقاً لتقديرها بالمفرد، فقولك: يومَ قام أو يقومُ زيد، في تقدير: يوم قيامِ زيد/ وقولك: زمان الحجاجُ أميرٌ' في تقدير: إمارةِ الحجَّاج. وإنما

369

(1) الأصل: وذلك.

(2)

الأصل: فصار.

ص: 77

الإعراب والبناء باعتبارين، كما سَيُذكر إن شاء الله.

وعن الثالث: أنه لما كان يدخُل عليه الأمران المعَتَرضُ بهما، وأَمرٌ آخرُ وهو لزومُ الإضافة، أتى بما يُحَرِّرُ عبارته، فأخبر أن مراده بالإحالة على أحكام إِذْ إنما هي الإضافة، لكن على الجواز فقال:((أضف جوازا))، وأن البناء أيضا على الجواز فقال:((وابن أَوَ اعرِبْ)). والذي يُعَيَّن هذا المراد أن قوله: ((أَضِفْ جوازا)) وما عُطف عليه من قوله: ((وابن أَوَ اعرِب)) جملتان مُبَيِّنتان للحكم المتقدِّم، وكأنهما مُبْدَلَتان (1) معنى من قوله:((كإِذْ))، والتقدير: وما كإذ معنى يشابه إِذْ في الحكم فَيُضاف إلى الجمل لكن جوازا ويُبنى جوازاً. وإذا كانتا على حكم البدل لم يمكن إلا أن يُحَمَل الكلامُ الأولُ على ما قُيّد به ثانيا. فعلى هذا يكون البيتُ بعده وما يليه تفسيراً لما تضَمَّنه قوله: ((وما كإِذْ معنى كإِذْ)). أو يكون قوله: ((أضِف جوازا)) وحده هو المفسِّر لقوله: كإذ، وما ذكر بعدُ من حكم البناءِ والإعرابِ كلام مستأنَفٌ، وعليه يَدُلُّ قوله:((وما كإِذْ قد أُجْريا))، أي: ابن أو اعرب ما حُكِمَ له بحكم إِذْ في الإضافة وحدها. وهذا هو الأظهرُ. وعلى كلا الوجهين لا يبقى لإفراد يوم وحين ونحوهما عن الإضافة مدخَلٌ، وهو ما أَرَدْنا.

وعن الرابع: أنه لا يتعيَّن من كلامه ترتيبُ الإضافة (2) على وُجودُ التنوين، بل إنما يظهر منه أن احتمال الإفرادِ مَبْنِيٌّ على التنوين، واحتمالُ الإفراد غيرُ الإفراد، وكأنه عبارةٌ عن استعمالها (مفردةً (3)، ولا شك أن استعمالها مفردةً لا يكونُ إلا بعد التنوين، والتنوين لا يكونُ (4) إلا بعد إسقاطِ المضافِ إليه، وهو

(1) الأصل: مبتدآن.

(2)

كذا، وصواب العبارة أن يقالك ((ترتيب الإفراد عن الإضافة)): وراجع الاعتراض الرابع.

(3)

سقط من س.

(4)

الأصل: لا يصحّ.

ص: 78

معنى الإفراد، فإذاً الإفرادُ سابقٌ في القياس والتقدير على التنوين، والتنوين ستبقٌ على استعمال إِذْ مفردةً، وهذا في نفسه صحيحٌ، فلا إشكالَ. (والله أعلم (1)).

وابن أِوَ اعرِبْ ما كَإِذْ قّدْ أُجرِيا

واختَرْ بنا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أِوْ مُبْتَداَ

أَعْرِبْ، وَمَن بَنَى فلن يُفَنَّدا

يعني أن ما أُجري مُجرى ((إذْ)) من الظروف فأُضيف إلى الجمل يجوزُ فيه الإعرابُ والبناءُ مطلقاً، كان الذي يليه من أجزاء الجملة معرباً أو مبنياً، لكن في الموضع الذي أُجري فيه الظرفُ مُجرى إِذْ، فلذلك قال:((ما كإِذْ قد أُجرِيا))، أي إن هذا التخيير إنما يكون إذا أُضيف إلى الجمل، ففي حال إضافته إلى المفردات لا يكونُ ذلك فيه. وهكذا الحكمُ إذا قلت: عجبتُ من يومِ قُدومِ زيدٍ، ومنْ حينِ القيام، ومن يومِك، ومن وقتِ طلوع الشمس. وما أشبه ذلك؛ إذ لا مُوجِب هنا للبناء، وإنما يحضُر (2) الموجبُ عند الإضافة إلى الجمل، كما قال. وأطلق القول بجواز الوجهين على الجملة، فبم يُقيده بأمرٍ، ولا فَصَّل الحكم بحسب الجمل، وإنما فَصّل في (3) الاختيار بين الوجهين الجائزين، فذكر أنه لا يخلو أن يكون الظرفُ قد وَلِى فعلاً مبيناً أولا، فإن كان كذلك فالمختارُ بناءُ ذلك الظرفِ، فتقول: أعجبني/ يومَ قام زيدٌ، وانتظرته من حين

370

طلعتِ الشمس إلى زمَنَ

(1) عن الأصل.

(2)

في: يخص.

(3)

في الأصل: بالاختيار.

ص: 79

غَرَبت.

ومنه قول النابغة (1):

على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا

وقلتُ: أَلَمَّا أَصْحُ والشيب وازع

وأنشد سيبويه (2):

على حينَ أَلهى الناسَ جُلُّ أمورهِمْ

فَنَدلاً - زُرَيقُ- المالَ نَدْلَ الثعالبِ

وتقول على غير المختار - وهو الإعرابُ-: أعجبني يومُ قام زيدٌ، وانتظرته من حينِ طلعتِ الشمسُ إلى وقتِ غَرَبت. ورُوي البيتان بالوجهين: على حينِ عاتبتُ المشيبَ، وعلى حينِ أَلهى الناسَ جلٌّ أمورهم.

وإن كان الظرفُ لمَ يلِ فعلاً مبنياً فليس البناءُ بمختارٍ، وذلك إذا ولى فعلا معرباً- وهو المضارع- أو اسملً مبتداً، بل الإعراب هو المختار، وذلك قوله:((وقبلَ فِعْلٍ مُعَربٍ أو مبتدأ أَعرِبْ))، فتقولُ: اقوم من حينِ تقومُ، وأكرمُك في يومِ تقومُ. وفي القرآن قال الله:{هذا يومُ ينفعُ الصَّادقين صدقُهم (3)} ، في قراءة غير نافعٍ، وكذلك:{يومُ لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئاً (4)} في قراءة ابن

(1) ديوانه 32. وهو من شواهد الكتاب 2/ 330، والمنصف 1/ 58، وأمالي الشجري 1/ 46، 2/ 132، 264، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 16، 81، 4/ 91، 8/ 136، والإنصاف 292، والمغني 517، والرضي على الكافية 3/ 180، 307، والخزانة 6/ 550، وشرح أبيات المغني 7/ 123.

(2)

الكتاب 1/ 116. وقد نسب إلى الأحوص، وأعشى همدان، ورجل من الأنصار. وهو من شواهد الخصائص 1/ 120، والإنصاف 293، والتصريح 1/ 33. وفي فرحة الأديب 88، والعيني 3/ 46، 523، واللسان، مادة: ندل. والندل: نقل الشيء من مكانه لآخر. وزريق: بطن من الخزرج. انظر فرحة الأديب.

(3)

الآية 119 من سورة المائدة. وانظر الإقناع لابن الباذش 637.

(4)

الآية 19 من سورة الانفطار. وانظر الاقناع لابن الباذش 806.

ص: 80

كثير وأبي عمرو. وتقول: جئتك في جينِ زيدٌ قائم، وهذا حينُ زيدٌ قائم. وقال قيسُ بن الخطيم (1):

وعهدي بها أيامَ نحنُ على مِنىً

وأحسِنْ بها عذراءَ ذاتَ ذوائبِ

وأما غيرُ المختار فهو الذي قال فيه: ((ومن بَنَى فلن يُفَنَّدا))، يعني أن من قال بجواز البناء إذا كان الظرف قبل فعل مٌعْربٍ أو قبل مبتدأ، فقوله صحيح جارٍ على كلام العرب، فقد نُقل عنها البناء هنا، فمن شواهد البناء قبلَ المضارع قراءةُ نافع:{هذا يومَ ينفعُ الصادقين صدقُهم (2)} ، بنصب اليوم والإشارة إلى اليوم، فلا يكن ظرفاً، بدليل القراءة الأخرى، والجمع بين معاني القرآن هو الأحقُّ. وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٍ وقُراء الكوفة:{يومَ لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً} ، بالفتح، والمعنى في القراءتين واحد، لأن {يوم لا تملك} تفسير لـ {يومُ الدين (3)} ، فكأنه قال: هو يومُ كذا. ولا يقدّر فيه: أعنى {يوم لا تملك} ، قال المؤلف:((لأن تقدير ((أعنى)) لا يَصْلُح إلا بعد مالا يدل على المسمى دلالة تعيين، ويوم الدين دال عليه تعيين، فتقدير ((أعنى)) غير صالح معه (4))). وأنشد في الشرح (5):

إذا قلت: هذا حينَ أسلُو يَهِيجني

نسيمُ الصَّبا من حيثُ يطلع الفجر

(1) ديوانه 36. وفيه رواية أخرى لصدر البيت، وهي: ولم أرَها إلاّ ثلاثاً على منى.

(2)

انظر الاقناع لابن الباذش 637.

(3)

من الآية 18 من سورة الانفطار.

(4)

شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 178.

(5)

ن. م والورقة. والبيت لأبي صخر الهذلي، انظر شرح السكري 957، وهو من شواهد المغني 518، وفي شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 125.

ص: 81

ومن شواهد البناءِ مع الجملة الاسمية ما أنشده في الشرح من قوله (1):

تذكَّر ما تذكَّر من سُلَيْمِى

على حينَ التراجعُ غير دانِ

وأنشد قول الآخر (2):

ألم تعلمي- يا عمرَكِ الله- أنني

كريمٌ على حينَ الكرامُ قليلُ

وله أبياتٌ أُخَر لم أُقَيِّدها. وأنشد سيبويه لِلَبِيد (3):

على حين من تَلْبَث عليه ذَنُوبُهُ

يَرِثْ شِرْبُهُ إِذْ في المقام تَدَابُرُ

وهو مُقيَّد بالوجهين.

والتَّفنيدُ: اللومُ وتضعيفُ الرأي، وأصله من الفَنَدِ، وهو ضعفُ الرأي من الهَرَمِ. ويُقال: أفندَ في كلامه: إذا أخطأ. وأفندته: إذا خَطَّأتَه.

(1) شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 178. وهو من شواهد التصريح 2/ 42، والهمع 3/ 230، والأشموني 2/ 257، وفي العيني 3/ 412. وقائله مجهول.

(2)

شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 176، والبيت من شواهد المغني 518، وهو لبشر بن هذيل الفزاري، رُوِي ذلك عن الأحول. انظر أبيات المغني للبغدادي 7/ 126.

(3)

الكتاب 3/ 75. وهو من شواهد الإنصاف 291، والرضي على الكافية 4/ 101، والهمع 4/ 334، وفي الخزانة 9/ 61. وديوان لبيد 217، ورواية عجزه فيه: يجد فقدها وفي الذئاب تداثر

ونبه في التحقيق على الرواية التي هنا. وقبل البيت:

فزُدت معداً والعباد وطيئاً وكلبا كما زيد الخماس البواكر

واللبث والريث: البطء. والذَّنوب: الدلو العظيمة. والتداثر: التزاحم والتكاثر. والذود: الطرد.

والعباد: قبائل شتى. والخماس-بالكسر-: الإبل التي لا تشرب أربعة ايام. والبواكر: التي تبكر غداة الخميس. يقول: ذُدتُ عنك في ذلك الوقت، وإنما مثل، أراد الألسُن التي كثرت عليه.

ص: 82

ثم هنا مسائلُ:

إحداها: أن قوله: ((ومن بَنَى فلن يٌفَنَّدا))، معناه: من قال بجواز البناءِ فيما يليه المضارع أو المبتدأ، فقولهُ غيرُ خطأٍ. وهذه إشارة إلى الخلاف الواقع في المسألة، وذلك أن ما كره هنا هو مذهب/ الكوفييِّن ومال إليه بعص البصريين كالسيرافي، أعنى إلى جواز البناء مع المضارع،

371 والكوفيُّون يقولون ذلك مع ومع المبتدأ. ورأيُ البصريين عدمُ الجواز في ذلك كلِّه (1)، بناءً على عدمِ السماع الذي يُقاسُ على مثله، فإن ما ذكر من الأبيات محتملٌ لغير البناءِ، وما في الشعر نادرٌ محفوظ، وأكثره لم يقع عليه القدماء مع شدَّةِ بحثهم. وأيضاً فإن الإضافة إلى المبني غير مؤثرة في غير هذا البابِ جوازَ البناء، نحو قوله تعالى:{إنه لحقٌّ مثلَ ما أنكم تنطقون (2)} ، على قراءة نصب (مثل). وأنشدوا (3):

لم يَمْنَعِ الشَّرْبَ منها غَيْرَ أن نَطَقَت

حمامةٌ في عصونٍ ذاتِ أوقالِ

فكذلك تُؤَثِّر هنا، وأما الإضافة إلى المعرب فلم نجدها تُؤَثِّر البناء. وأما ابن مالك فلم ينهض عنده هذا، بل ذكر الشواهد المذكورة ورَجّحها بما ذكر. وأيضا إذا كانت الجمل في نحو ((على حينَ التراجعُ غير دان)) مصدرة بمعربات إعراباً أصليا، وقد جاءت

(1) انظر المساعد 2/ 356.

(2)

الآية 23 من سورة الذاريات، وهي قراءة في السبعة، أنظر الإقناع 772.

(3)

لأبي قيس بن الأسلت. والبيت من شواهد الكتاب 2/ 329، وأمالي الشجري 1/ 46، 2/ 264، والإنصاف 287، وابن يعيش 3/ 80، 8/ 135، والمغني 159، 517، والرضيّ على الكافية 2/ 127، 3/ 175، 181، وفي الخزانة 3/ 407، 6/ 532، 552، واللسان، مادة: وقل. والأوقال: جمع وقل-بفتح فسكون-وهو ثمر الدَّوم.

ص: 83

على (1) حالٍ لم يُضطَّر لمثلها، بل توازى مجيئها في الاختيار؛ إذ كان يُمكن الشاعرَ أن يجرَّها وقد بُينت الظروفُ معها، فَلأَن تُبنى مع المضارع الذي ليس إعرابه إعراباً أصلياً، بل هو بالشَّبَهِ، أحقُّ وأولى؛ ولذلك جعله السيرافي من الإضافة إلى غير المتمكن، إذ المضارع غير متمكن باعتبار أنه غير مُعَربٍ في الأصل. وأيضا فقال ابن مالك في الشرح:((سبب بناء المضافِ إلى جملةٍ مصدرة بفعل مبنىٍّ إمَّا قصد المشاكلة، وإمّا غير ذلك، فلا يجوز أن يكون الأول (2) لأمرين، أحدهما: أن البناء قد ثبت مع تصدير الجملة المضاف إليها باسم معرب، ولا مشاكلة، فليس (3) لقصدها. والثاني: أن المضاف إلى جملة مصدرة بفعل مبني لو كان سبب بنائه قصد المشاكلة، لكان ما (4) أضيف إلى اسم مبنيٍّ أولى؛ لأن إضافة ما أضيف إلى مفردٍ إضافةٌ في اللفظ والمعنى، وإضافة ما أضيف إلى جملةٍ إضافة في اللفظ (5) لا في المعنى، وتأثيرُ ما يخالف لفظُه معناه أضعفُ من تأثير ما يوافق لفظه معناه، وقد ثبتَ انتفاء سببية الأقوى فانتفاء سببية الأضعف أولى (6)، فثبتَ أن البناء لأمرٍ آخر سيأتي.

فالصوابُ ما ذهب إليه الناظم، والله أعلم.

والثانية: أن قوله: ((وابن أو أعرِب))، وقوله:((ومن بَنَى فلن يفنَّدا))، أثبت به البناءَ ولم يذكُر له سببا، وإنما ذكرَ في باب المعربِ والمبني سبباً للبناءِ جُمْليا هو شَبَهُ الحرف، فيُسأل هنا عن ذلك والجوابُ من وجهين:

(1) أ: في.

(2)

في شرح التسهيل مكان الأول: ((قصد المشاكلة)).

(3)

في شرح التسهيل: ((فامتنع أن يكون البناء لقصدها)).

(4)

في شرح التسهيل: ((لكان بناء ما

)).

(5)

في شرح التسهيل: ((إضافة في اللفظ، وإلى المصدر في التقدير)).

(6)

شرح التسهيل، ورقة 179. وقد تصرف الشاطبي كثيرا في أواخر هذا النص المقتبس.

ص: 84

أحدُهما: أن تقول: إن البناءَ هنا على الجوازِ ولا نقولُ: إن السبب الإضافةُ إلى مبنيٍّ، لما يلزُم عليه من إيراد المؤلف. ولا [أيضا](1) يلزم أن يُتَكَّلف القولُ بشبه الحرف هنا بناءً على أن ما ذكر في باب المعرب والمبنيِّ إنما هو سبب لزوم البناء لا سببُ جوازِه.

والثاني: أن نلتزم أن لا سبب لبناء جائزٍ أو لازمٍ إلا شَبَهُ الحرف، بناءً على المحمل الآخر في كلام الناظم، فتقول: لما كان المضافُ إلى الجملة المستقلة بالإفادة يُصيِّرها غير تامة ولا مستقلة حتى يَتِمَّ بغيرها/ فتقول: حين قمتَ قمتُ، ويوم أتيتَ أكرمتُك، ونحو (2) ذلك، أشبه 372 المضاف بذلك حرف الشرط فإنه كذلك، إلا ترى أنك تقول: إن قمتَ أكرمتك، وإن قعدتَ ضربتُك، وكان قولك:((قمتَ)) و ((قعدتَ)) قبل دخول ((إن)) مستقلا، ثم صار بعد دخولها غير مستقلٌ، بل محتاجاً إلى كلام آخر، فالبناء على هذا سببُه شبُه الحرف، لكن لما كان هذا الاعتبارُ غير لازمٍ كان البناء كذلك.

فإن قيل/ على أيِّ نوعٍ من أنوع شَبَه الحرف يتفرَّع؟

فالحواب: أنه يمكن أن يرجع إلى الافتقار، لأن الظرف لما صار مفتقرا إلى تلك الجملة، وإن كان ذلك الافتقار عارضا، اشبه الافتقار الأصيل الذي وُضِعَ الاسم المبنيُّ عليه، نحو: الذي، والتي، وقد تقدّم نحو هذا في باب ((لا)) التي لنفي الجنس.

أو تقول- وهو الأجرى على تعليل البناءَ: إنه يرجع إلى شِبه

(1) عن أ، س.

(2)

في الأصل: ((وما أشبه ذلك)).

ص: 85

الحرف المعنوي، إذ كان في الظرف معنى رُبِط به إحدى الجملتين بالأخرى، كمعنى الشرط الذي يربط بين الجملتين. هذا هو الذي ينبغي أن يقال، لا الأول.

والثالثة: فيما عسى أن يُشكِل من كلامه، وذلك ثلاثةُ مواضعَ:

أحدها: أنه ذكر البناء ولم يذكر عَلَامَ يُبْنَى ذلك المضاف؟ أعلى الضم أم الفتح أم الكسر؟ وكان من حقه ذلك، لأنه قال:((وابن أو اعرب)). وكلاهما لابَّدَ له من صورة، أما الإعرابُ فيظهر من تقدم العامل، وأما البناء فليس بمعروفٍ إلا أن يُعرَّف به، فلما لم يُعَرَّف بذلك كان كلامه ناقصَ الفائدةِ.

والثاني: أنه لما قال: ((ما كإذْ قد أُجريا))، أقتضى أنه إذا لم يَجْزِ مجرة إِذْ، وذلك حين إضافته إلى المفرد، فهو خالٍ عن ذلك الحكم. وليس كذلك، بل المفرد الذي يُضاف إليه ضربان:

أحدهما: ماعدا إِذْ، فلا يُبنَى معه المضاف وإن كان المضافُ إليه مبنياً، نحو: يومك، وحين ذلك، وما أشبهه.

والثاني: إِذْ، فالمضاف هنا يجوزُ أن يُبنَى فتقول: ما جئتك من يومَئِذْ قام زيد، وانقطعتُ عنك من حينئذِ. ويجوز أن يُعرَب فتقول: من يومِئِذْ [قام زيد](1)، ومن حينئِذٍ. ومنه القراءتان المشهورتان:(ومن خِزْيِ يومَئذٍ)(2)، على البناء، وهي لنافع والكسائي، (ومن خِزْيِ يومِئِذٍ)، بالإعراب، وهي للباقين من السبعة (3). وكذلك:(من عذاب يَومَئِذٍ)(4)، و (من عذابِ

(1) عن أ، س.

(2)

الآية 66 من سورة هود.

(3)

انظر: الإقناع لابن الباذش 665.

(4)

الآية 11 من سورة المعارج.

ص: 86

يومِئِذٍ) (1)، وذلك مشهور كثير في الكلام، ومفهوم كلام الناظم يقتضي الإعراب خاصة، كما ترى. وهو غير صحيح.

والثالث: أنه تكلَّم في بناء الظرفِ الذي بمعنى إِذْ، وهو المختص بالزمان الماضي، وإذا وقع بعد الظرف فعلٌ معربٌ- وهو المضارع - فإنما يكون بمعنى الحال أو بمعنى الاستقبال، نحو:(هذا يوم ينفعُ الصادقين صدقُهم)(2)، و (يوم لا تملكُ نفسٌ لنفس شيئا)(3)، فإذاً لا يصحّ ذكر الفعل المضارع؛ إذ لا يصح ان يقع بعد الظرف المراد به الماضي ماعدا إذ، لأنك تقول: قام زيد إذ يقوم عمرو، وفي القرآن:(وإذْ تقولُ للذي أنعم الله عليه)(4). وأما أن يقال: قام زيدٌ يومَ يقوم عمرو- وانت تريد: يوم قام عمرو فهذا ممنوعٌ. وكلام الناظم صريحٌ أو كالصّريح في جواز ذلك.

فإن قيل: / لعلّه يريد الظرف الذي بمعنى إذا، وهو الذي للاستقبال، إذ لا شكّ أن 373 الظرف الذي بمعنى إذا حكمه حكمُ إذا في الإضافة إلى الجملة الفعلية كما سيأتي. وعلى ذلك يجوز بناؤُه وإعرابه، وإذا كان كذلك صحّ كلامه.

فالجواب: أنه بعيدٌ عن قَصْدِ هذا، لأنه لما ذكر جواز البناء فيما أُجرِيَ مجرى إِذْ، فصَّل الأمر في ذلك على تلك الوجوه، فرجَّح البناءَ فيما يليه الماضي، والإعراب في غيره، وهذا تفصيلُ تلك الجملة، فكيف

(1) الآية 11 من سورة المعارج.

(2)

الآية 119 من سورة المائدة.

(3)

الآية 19 من سورة الانفطار.

(4)

الآية 37 من سورة الأحزاب.

ص: 87

يصحُّ إدخالُ ما بمعنى إذا في ذلك الحكم؟ ثم إنه لا دليل عليه، فلا سبيل إلى المَصيِر إليه، فكان في كلامه تثبيجُ (1) وتخليط.

ووجه رابعٌ، وهو أنه يقتضي أن الظرف ذو وجهين، وإن كان مثنى نحو اليومين والليلتين، وليس كذلك، بل الإعراب لهذا (2) لازمُ وإن أضيف إلى الجملة. والجواب أن يقال: أما الأول فهو واردٌ، ولا جواب عنه، إلا أنْ يقال: تركه اعتماداً على إلقاء الشيخ للتلميذ، وهذا المنزع قد كان بعضُ شيوخنا رحمهم الله يُؤنِّس به في بعض المواضع من الكتاب المقروء عليه إذا وقعت منه مسألة [مشكلة (3)] أو غير مُخَلَّصة حقّ التخليص (4)، فيقول: هذا مما تركه الشيخ ليقع الافتقار من التلميذ إلى الشيخ المقرئ في فهم ما أَشكَل، وإلا فلو بَيَّن كُلَّ شيءٍ لم يُعْرَفْ مقدارُ الشيخ، بنحو هذا كان يُؤَنِّس- رحمه الله لكن على مأخذ آخر، فكذا نقولُ هنا اقتداءً به. وهكذا يُقال فيما كان نحو هذا.

وأما الثاني فإن جمهور الإضافة إلى المفرد لا يقتضي بناءً أصلا، وإنما اختصت بذلك إِذْ فَبُني المضاف معها وحدها، فهي في ذلك من النادر الخارج عن القياس.

ووجه ذلك أن ذكر إِذْ في نحو: يومئذٍ وحينئذٍ كالتكرار للتوكيد، لأن الحين وإذْ بمعنى واحدٍ، وقد قال الكُميت (5):

(1) ثَبجَ الكتاب والكلام تثبجاً: لم يُبينه. وقيل: لم يَأت به على وجهه.

(2)

أ: في هذا.

(3)

هن أ، س.

(4)

في الأصل، س: التلخيص.

(5)

لم أجده في ديوانه.

ص: 88

لياليَ إِذْ غُصِني وريقٌ ولِمَّتىِ

أُكَفِّئُها محلوسَ لبٍّ وخَالِسَا

وقد عَدَّهما الناسُ في باب إضافةِ الشيءِ إلى نفسه حَسَب ما تقدّم. والمتأوِّلُون جعلوهما من باب إضافة المسمى إلى الاسم، وإذا كان كذلك، وكانت إِذْ لازمةً الإضافةِ إلى الجملة، صار الحينُ في حينئذٍ كأنه هو المضاف إلى الجملة، فعُومِل معاملةَ م أُضيف إليه مباشرةً، فلا اعتراض على هذا مع تسليم أن مفهوم كلام الناظم ما قيل في السؤال، وإلا فلا نسلّم أن له مفهوما، لأن قوله:((وابن أو اعرِب ما كإِذ قد أُجرِيا))، في معنى أن لو قال: وابن أو أَعرِب ما ذُكر، أو: ابنه أو أعربه، لأنه لما قال:((وما كإذ معنى كإذْ))، كان وجهُ العبارة أن يقول: وابنه أو أعربه، أو: وابن ما ذُكر أو أعرِبْه. فهو في موضع الضمير، فقوله:((ما كإذ قد أُجرِيا)) هو كإعادة ذكر الظاهر، وإذا كان كذلك فلا مفهومَ له إلا مفهومُ اللقب، وهو باطل عند الجمهور (1).

وأما الثالث فيمكن أن يكون قَصَدَ ذكْر ما هو بمعنى إذ [(2) وإذا معاً، ويكون قوله: ((ما كإذْ قد أُجرِيا)) حكمٌ مفردٌ بالذكر، ثم ذكر عبارة تشمل ما هو بمعنى إذ (2)] وما هو بمعنى إذا، وهي محل التفصيل المذكور في قوله: واخَتْربنا كذا إلى آخره، ويسهل الأمر في ترتيب عبارته/.

374

وأما الرابع فقد تقدّم أنه لا يدخل له من أسماء الزمان في قوله:

(1) قال السهيلي في النتائج 258 عن العلم: ((ليس له مفهوم خطاب عند الأصوليين إلا الصيرفي من الشافعية)).

(2)

عن هامش الأصل، أ، س.

ص: 89

((وما كإِذْ معنى كإذْ)) ما هو معدودٌ ولا محدود، والمثنى من قبيل المعدود كالأسبوع ونحوه. وعلى أنه [قد (1)] نقل في الشرح عن ابن كيسان جواز إضافة نحو يومين وليلتين إلى الجملة، ثم ردّه بعدم السماع، فإذاً ليس المثنى بذي وجهين لعدم المقتضى لذلك فيهن وهو عدم الإضافة إلى الجملة، والله أعلم.

وألزمُوا إِذَا إضافةً إلى جُمَل الأفعالِ كَهُن إِذا عتَلَى

هذا الكلامُ على إذا التي وُضعت للزمان المستقبل، ويعني أن الإضافة في إذا لازمةٌ، فلا تُوجدُ وهي ظرفٌ دونَها، لكن لا تضاف إلا إلى الجملة، ولا من الجملِ إلا إلى الفعلية، وهي المصدَّرة بالفعل، وهو معنى قوله:((إلى جُمل الأفعال))، أي: إلى الجمل المنسوبة إلى الأفعالِ، وذلك لا يكونُ إلا إذا صُدرت بالأفعال، وذلك قولك: آتِيكَ إذا قام زيدٌ، وآتيك إذا يأتيك زيدٌ، وما أشبه ذلك، ومنه مثاله: هُنْ إذا اعتلى.

وإنما اختصَّت بالجملة الفعلية لأنها يغلب عليها معنى الشرط، ولذلك تقع جوابها الفاء كما تقع في جواب إِنْ، نحو: إذا جاءك زيدٌ فأكرِمْه، وإذا لم يأتك فأهِنْه. ومنه:{إذا لَقِيتم فئةً فاثبتُوا (2)} ، {فإذا لقيتم الذين كفروا فَضَربَ الرِّقاب (3)} ، ولذلك يقع بعدها الماضي موضع المستقبل، فتقول: إذا قام أكرمتُه، كما تقولُ: إن قام أكرمتُه، والمعنى فيهما: إذا يقومُ، وإن يَقُمْ؛ ولا يقع موقعها حينٌ ولا غيره من الظروف، فلا تقول: حين جاءك فأكرِمْهُ- وأنت تريد الاستقبال

(1) عن أ، س.

(2)

الآية 45 من سورة الأنفال.

(3)

الآية 4 من سورة محمد.

ص: 90

ولذلك أيضاً يجزم بها في الشعر كَأِنْ، نحو (1):

وإذا تُصْبك خصاصةٌ فَتَجَّملِ

هذا معنى كلامه على الجملة. ثم يتعلق به مسائل:

إحداها: أن جُمَل الأفعال التي ذَكَر تارة تكون جُمل أفعالٍ لفظاً وحكما، كالمُثُل المتقدمة، وتارة تكون جمل أفعال حكماً وتقديراً، وذلك إذا تصدّر فيها الاسم ورَدِفَه فعلٌ، نحو: إذا زيدٌ قام أكرمتُه. وفي القرآن: {إذا السماءُ انفطرَتْ. وإذا الكواكبُ انتثَرتْ (2)} ونحو ذلك، فإن الاسم المصدَّر عندهم في هذه المُثُل فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه هذا الظاهر، تقديره: إذا انشقّت (3) السماء انشقت، وإذا انفطرت السماءُ انفطرت؛ إلا أن هذا المقدَّر لا ينطق به لقيام الظاهر مقامه. وهذا قد مَرَّ له في باب الاشتغال.

والثانية: إنه لما ذكر الإضافة إلى جمل الأفعال، ويم يقيِّد فعلاً ماضياً من مضارع، دل على جواز ذلك ملّه، فسواءٌ كان فعلُ تلك (4) الجملة ماضياً أو مضارعا، فتقولُ: إذا قمتَ أكرمتك، وإذا تقوم أُكرِمُك. أما الأمر فلا موقع له هنا، فلذلك لم يتحّرر منه وأيضا فإن التمثيل قد يُشِعِر بإخراجه.

(1) صدره:

استَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغنى

والبيت لعبد قيس بن خفاف، جاهلي أدرك الإسلام. وهو في معاني القرآن للفراء 3/ 158، والأصمعيات 230، والمغني 93، 96، 698، والهمع 3/ 180، وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 222، والخزانة 4/ 243 عرضاً.

(2)

الآيتان 1، 2 من سورة الانفطار.

(3)

كذا، ولم تتقدم آية الانشقاق.

(4)

في الأصل، أ: ذلك.

ص: 91

والثالثة: أنه حين نص على التزام جُمَل الأفعال كان ذلك نصاً في ارتضاء مذهب سيبويه ومخالفة غيره، وهو الأخفش ومن قال بقوله. والمسألة مختلفٌ فيها على ثلاثة أقوال:

أحدها: هذا، وهو التزامُ وقوع الجملة الفعلية مضافاً إليها، إلا أنه لا/ يلزم أن 375 يتصدر الفعلُ لفظاً بل يجوز أن يتصدر الاسم على أنه معمولٌ لعاملٍ مقدَّرٍ تصديُره، فنحو: إذا زيدٌ يقومُ، على تقدير: إذا يقومُ زيدٌ يقوم، كما تقدم.

والثاني: مذهب الأخفش، وهو جواز وقوع الجملة الاسمية مضافاً إليها إذا، ويستوي في ذلك أن يكون خبرُ المبتدأ فيها اسماً أو فعلاً، فيُجِيز أن تقول: آتيك إذا زيدٌ قادمٌ، فزيدٌ مبتدأ خبره قادمٌ، وأن تقول: إذا زيدٌ قَدِمَ، على أن يكون ((قَدِم)) خبر المبتدأ الذي هو زيدٌ.

والثالث: مذهبٌ لابن أبي الربيع بالفرق بين أن يكون الاسم الواقع بعد إذا مخبراً عنه بالفعل أو بالاسم، فإن كان مخبراً عنه بالاسم فالقولُ ما قاله سيبويه والجماعةُ من منع المسالة إلا أن يُسمع فيوقفَ على محلّه. وإن كان مخبراً عنه بفعل فالقول ما قال الأخفش؛ إذ لا يتعيّن ما قال سيبويه، وإلى هذا كان يذهب تلميذُه أبو اسحق الغافقي (1).

قال شيخنا الأستاذُ أبو عبدالله بن الفخار-رحمةُ الله عليه-: وخلافُ القوم مع الأخفش مبنيٌّ على تغليب ما ضمنته إذا من معنى الشرط، أو تغليب ما وضعت له من الزمان، فمن غَلَّب عليها أصل وضعها

(1) ابراهيم بن أحمد بن عيسى بن يعقوب، شيخ نحاة وقراء سبتة، ولد باشبيلية سنة 641 هـ، له شرح على الجمل وغيره، توفى سنة 710 هـ. انظر البغية 1/ 405.

ص: 92

أطلق القول في العامل فيها وفي الجملة الواقعة بعدها، أعني أن العامل فيها لا يلزم التأخير، ولكن يكون معها كما يكون مع ظرف الزمان غير المضمَّن معنى الشرط، وأن الجملة التي بعدها يجوز أن تكون فعلية واسمية. وإذا كان بعدها مبتدأ لم يلزم أن يكون خبره فعلا. هذا معنى الإطلاق المنسوب للأخفش. ومن غلّب عليها الوجه العارض فيها وهو ما ضُمِّنته من معنى الشرط منع الإطلاق، وقيد العامل فيها بالتأخير عنها، وقيد الجملة الواقعة بعدها بأن تكون مصدّرة بفعلٍ لفظاً أو تقديراً.

ومن أوقع المبتدأ بعدها وقيد خبره بأن يكون فعلاً، فإنما ذلك لأن الجميع في حكم إذا وفي قبضتها، فقد حصل الفعلُ فير خبرها على الجملة.

هذا مقال شيخنا-رحمه الله وهو تحقيق مناط الخلاف، إلا أنه يبقى النظر في استقراء السماع وتنزيله على ما قاله، ولا شك أن السماع على ما قاله الناظم، لأن عامة استعمال ((إذا)) أن يقع بعدها الفعلُ في الجملة التي أُضيفت إليها، فلو غُلِّب عليها حكمُ أصلها من الظرفية لوقع بعها الجملة التي جزآها اسمان صريحان كثيراً، كما كان ذلك في إِذْ، فلما امتنعوا عن ذلك وعُوِمَلتْ معاملةَ الشرط، دلَّ على أن الاسم الواقع بعدها يليها ليس مبتدأ، كما لم يكن مبتدأ مع أدوات الشرط. وأما قولهم (1):

إذا الكواكبُ خاوِيَة

(1) من بيت ينسب إلى هند بنت عتبة، وقبله:

من كلّ غيث في السنين

وقد ذكر ابن هشام ابياتاً من هذه القصيدة في السيرة 2/ 39، وقال:((وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها لهند))، وانظر شرح أبيات المغنى للبغدادي 3/ 213.

ص: 93

وقوله (1):

إذا باهليٌّ تحتَه حنظليَّةً

له ولدٌ منها فذاكَ المذَرَّعُ

وما كان نحو هذا فنادرُ لا يُبنى عليه.

وقد خالف هنا رأيه في التسهيل (2) حيث اختار هناك رأي الأخفش، ولم يره هنا، واحتجّ عليه في الشرح (3) بأن طَلَبَ إذا للفعل ليس كطَلَب إِنْ، بل طَلَبَها له كطلب ما هو/ 376 بالفعل أولى مما لا عمل له فيه كهمزة الاستفهام، فكما لا يلزم فاعلية الاسم بعد الهمزة لا يلزم بعد إذا، قال:((ولذلك جاز: إذا الرجل في المسجد فظُنَّ به خيرا. وأنشد: إذا باهليٌّ .. )) البيت. ثم قال: فاستُغنى بالظرف عن الفعل، ولا يفعل ذلك بما هو مختصٌّ بالفعل.

وما قاله هنا دعوى لم يأتِ عليها بحجةٍ إلا بالبيت، وهو شاذٌّ. واستدل أيضاً بدخول أَنْ الزائدة بعد إذا وبعدها جملةٌ اسمية في قوله (4): وَأَمْهَلَهُ حَتَّى إِذَا أَنْ كَأَنَه

(1) الفرزدق، ديوانه 1/ 416 وهو من شواهد المغني 93، والتصريح 2/ 40، والهمع 3/ 181، وفي شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 216.

المذرع: الذي أمه أشرف من أبي قال ابن مالك في شرح التسهيل: ((فجعل بعد الاسم الذي ولى إذا ظرفاً، واستغنى به عن الفعل، ولا يفعل ذلك بما هو مختص بالفعل)).

(2)

قال في التسهيل 94: ((وقد تغنى ابتدائية اسم بعدها عن تقدير فعلٍ، وفاقاً للأخفش)).

(3)

انظر شرح التسهيل، باب المفعول فيه.

(4)

أوس بن حجر، ورواية عجزه كما في الديوان 71: معاطي يدٍ من جَمَّة الماء غارفُ

والبيت في شرح المفضليات للضبي 866، والمغنى 34، وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 164 - 169.

ص: 94

وذلك لا يُفعل بما هو مختصٌّ بالفعل.

وأنشد ابن جني لضيغم الأسدي (1):

إذا هو لم يَخَفني في ابنِ عَمِّي

وإن لم ألقَهُ-الرجلُ الظلومُ

وقال: في هذا دليلٌ على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء، لأن هو ضميرُ الأمر والشأن، وضمير الأمر والشأن لا يرفع بفعل يفسره ما بعده. وأنشد معه المؤلف بيتا آخر مثله (2). وجميعُ ذلك لا ينهض دليلاً مع ندوره ومعارضته بجزمها في الشعر، فلولا اختصاصُها بالفعل لم تجزم. والحقُّ أن جوازَ وقوع المبتدأ بعدها لا يثبتُ بمثل هذا كلّه، والصواب ما ذهب إليه هنا. والله أعلم.

والرابعة: أن تمثيله بقوله: هُنْ إذا اعتلى، وقد يُشير إلى التحرُّز من إذا الفجائية، من جهة أن إذا في المثال تُعطي معنى الشرط، والفجائية إنما تُعطي معنى فاجأ، كما إذا قلت: خرجتُ فإذا الأسدُ، أي: ففاجأني الأسدُ. وكقوله تعالى {ثم إذا دعاكم دَعوةً من الأرضِ إذا أنتم تخرجُون (3)} ، أي: فاجأكم الخروج. وهكذا سائر مُثُلها، بخلاف قولك: هُنْ إِذا اعتلى، فإنه لا يصحُّ فيه تقديرُ: فاجأك الاعتلاء. وإذا ساغ هذا التحرّز ففائدة إخراج إذا المفاجأة

(1) الخصائص 1/ 104.

(2)

البيت هو: وأنت امر} خِلْط إذا هي أرْسَلَت يمينك شيئا أمسكته شمالكا

قال ابن مالك: ((لأن هي ضمير الشأن والقصة)). وخلط: لا يستقيم أبدا والبيت في اللسان: خلط.

(3)

الآية 25 من سورة الروم.

ص: 95

وجهان:

أحدهما: أنها ليست عند المؤلف ظرفاً، وقد نصّ على ذلك في غير هذا الكتاب، قال في التسهيل:((وتدل على المفاجأة حرفا لا ظرف زمانٍ، خلافاً للزجاج، ولا ظرف مكان خلافاً للمبّرد (1))). وقد ذكرها في باب الجزاء، إلا أنه لم يحكم عليها بشيءٍ من حرفيةٍ ولا اسميةٍ، بل جعلها تخلُف فاء الجزاء (2)، فدل على أنها عنده حرفٌ مثل الفاء. وقد استدل على [صحة (3)] حرفيتها- وهو رأي الأخفش- بأمور، بدلالتها على معنى في غيرها، وعدم الصلاحية لعلامات الاسم والفعلِ، وأنها لا تقع إلا بين جملتين، فصارت كلاكنَّ حتّى، وأنها لا يليها إلا جملةٌ ابتدائية مع انتقاء علامات الأفعال، ولا يكون ذلك إلا في الحروف، ولو كانت ظرفاً لم يختلف في ظرفيتها، هل هي زمانية أو مكانية، إذ ليس في الظروف ذلك. ولم تربط بين جملتي الشرط والجزاء كالحرف، ولوجب اقترانها بالفاء إذا صُدِّر بها جواب الشرط، فلذلك لازمٌ لكل ظرف صُدِّر به الجواب، ولأغنت عن خبر ما بعدها، فيكثر نصبُ ما بعده على الحال، شأنُ الظرف المجمع عليه، كعندي زيدٌ قائماً، ولم يقع بعدها إن المكسورة غير مقترنة بالفاء كسائر الظروف (4)، نحو

(1) التسهيل 94.

(2)

وذلك في قوله:

وتخلُف الفاءَ إذا المفاجأة كإن تجُدْ إذا لنا مكافأة

(3)

عن أ، س.

(4)

عبارة ابن مالك في شرح التسهيل: ((أنها لو كانت ظرفاً لم تقع بعدها إن المكسورة غير مقترنة بالفاء كما لا تقع بعد سائر الظروف، نحو: عندي أنا فاضل، وأمرُ إن بعد إذا المفاجأة بخلاف ذلك، كقوله .. )). وذكر البيت.

ص: 96

عندي أنك قائم، لكنهم قالوا (1):

إِذا إِنه عبدُ/ القفا واللهازِمِ

377

فدل ذلك كلّه على الحرفية وانتفاء الظرفية.

والوجه الثاني من وجهي فائدة إخراج إذا المفاجأة: أنها لا تُضاف إلى جملة فعلية أصلا، وإنما هي مختصة بالدخول على الجملة الاسمية، نحو:{إذا هُم يقنَطونَ (2)} ، {إذا أنتم تخرجون (3)} ، ((فإذا أنه عَبُد))، فلذلك أخرجها بالمثال.

و((إضافةً)): مفعولٌ ثان لألزموا، والمفعول الأول لفظ ((إذا))، أي: الزموا هذا اللفظَ حكم كذا.

ومعنى ((هُنْ إذا اعتلى)): خَفِّض له من نفسك، وأعطه من جانبيك اللِّين. وفي المثل:((إذا عَزَّ أخوك فَهُن (4)))، يُقال بضم الهاء وكسرها.

والخامسة: أنه لم يذكر في إذا ما ذكر في إِذْ من أن ما كان مثلها في المعنى فهو مثلها في الحكم، فقد قالوا: إذا أُريد بالظرف المبهم الاستقبال فيجوز فيه ما لزم في إذا من الإضافة إلى الجملة الفعلية،

(1) صدره:

وكنت أُرَى زيداً- سيداً

وقائله مجهول. وهو من شواهد الكتاب 3/ 144، والمقتضب 2/ 350، والخصائص 2/ 399، وابن يعيش 4/ 97، 8/ 61، والرضي على الكافية 4/ 344، وفي الخزانة 10/ 265.

اللهازم: أصول الحنكين.

(2)

الآية 36 من سورة الروم.

(3)

الآية 25 من سورة الروم.

(4)

الأمثال لأبي عبيد 155.

ص: 97

ولذلك قالوا في قوله تعالى: {يومَ هم على النار يُفْتَنُون (1)} : إن ((هم)) مرفوع بفعل مضمر دل عليه الظاهر. وكذلك ما كان مثله من نحو: {يومَ هم بارِزُون (2)} ، وبابه. كما قَدَّروه في باب {إذا السماء (3) انشقت} وبابه. وهو صحيح. فكان من حق الناظم كما ذكر هذا الحكم في مرادف إِذْ أن يذكره في مرادف إذا، لكنه لم يفعل، فكان فيه إيهام انفراد إِذْ بذلك الحكم دون إذا، وذلك إخلال.

لمفْهِم اثنَينِ مُعَرَّفٍ بِلَا

تَفَرُّقٍ أُضِيفَ كِلْتا وكِلَا

يعني أن حكم كلتا وكلا في هذا الباب أن يُضافا إلى الاسم بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون ذلك الاسم المضاف إليه مُفِهم اثنيت، وهو أن يكون دالا على اثنين لا على مفرد، ولا على أكثر من اثنين، وذلك قوله:((لمفهم اثنين)). فلو دلّ على واحدٍ لم يُضافا إليه، نحو: كلا الرجل قام، أو: كلتا المرأة قامت. فهذا لا يجوز. وكذلك لو دلّ على أكثر من اثنين لم يضافا إليه، نحو: كلا الرجال، أو كلتا الجواري، وإنما يضافان إلى ما يدل على اثنين، والذي يدلّ على اثنين أربعة أشياء:

أحدها: المثنى وما جرى مجراه، فالمثنى نحو: كلا الرجلين قام، وكلتا المرأتين قامت وفي القرآن الكريم:{كلتا الجنتين آتت أكلها (4)} ، ومنه قولُ جُبيهاء الأشجعي (5):

(1) الآية 13 من سورة الذاريات.

(2)

الآية 16 من سورة غافر.

(3)

الآية الأولى من سورة الانشقاق.

(4)

الآية 33 من سورة الكهف.

(5)

ويقال له أيضا: جبهاء. والبيت في معاني القرآن للفراء 2/ 143، والحماسة الشجرية 955. بقال: جمل ثفال-بفتح الثاء- وهو: البطئ الثقيل الذي لا ينبعث إلا كَرْها.

ص: 98

كلا عَقَبِيهِ قد تَشَعَّثَ رأسُها

من الضرب في جَنْبَي ثَفَالٍ مباشرِ

وأنشد سيبويه للبيد (1):

فغَدَت كلا الفَرْجينِ تحسِبُ أَنّه

مَوْلَى المَخَافَةِ خَلْفُها وأمامُها

وقال ذو الرمة (2):

حتى إذا كنّ محجوزاً بنافذةٍ

وزاهقاً، وكلا روقيه مختضبُ

وهو كثير.

والجاري مجرى المثنى اسمُ الإشارة إن قلنا إنه ليس بمثنى حقيقة، نحو: كلا هذين قائم، وكلتا هاتين قائمة، وكذلك الموصول إن قيل: إنه لا يُثَنّى حقيقةً، نحو: كلا اللَّذين قاما أكرمته.

والثاني: الضمير الموضوعُ للمثنى، شاركه فيه غيره أو لم يشاركه، كان لمتكلم أو مخاطبٍ أو غائبٍ. فالمتكلم نحو: كلانا قائم، وكلتانا قائمةٌ. ومنه/ قولُ جميلِ بن مَعْمر (3): 378

(1) الكتاب 1/ 407، وهو من شواهد المقتضب 3/ 102، 4/ 341، وشرح المفصل لابن يعيش 2/ 44، 129، والهمع 3/ 199. وانظر شرح القصائد السبع الطوال 565، واللسان: كلا.

(2)

ديوانه 1/ 109.

يصف كلباً. محجوزا: أصابته الطعنة في موضع محتجز الرجل ومؤتزره. والزاهق: الذي قد مات. وروقاه: قرناه

(3)

ديوانه 78.

ص: 99

كلانا بَكَى أو كاد يَبْكِي صَبَابةً

إلى إِلْفِهِ، واستعجَلتْ عَبرةً قبلي

وأنشد الفارسيُّ للنَّمِر (1):

فإنَّ الله يَعْلَمْني وَوَهبا

وَيَعْلَمُ أن سَنَلْقاهِ كلانَا

وقال طرفة (2):

غَنِينا، وما نَخْشَى التفرُّقَ حِقبةً

كلانا غَرِيرٌ ناعم العيشِ باجلُه

والمخاطب نحو قولك: كلاكما قائم، وكلتاكما قائمة. والغائب نحو: كلاهما قائم، وكلتاهما قائمة. وفي التنزيل:{إمَّا يبلغَنّ عندك الكَبِرَ أحدهما أو كلاهما (3)} .. الآية

وقال الفرزدق (4):

كلاهُا حين جَدَّ الجريُ بينهما

قدْ أَقْلَعَا، وكلا أَنْفَيهما رابى

(1) ديوانه 122. والبيت في شرح المفصل لابن يعيش 3/ 2، 77.

(2)

ديوانه 120 - والباجل: الناعم الحسن.

(3)

الآية 23 من سورة الإسراء.

(4)

البيت في النوادر 453، والخصائص 2/ 421، 3/ 314، والإنصاف 447، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 54، والمغني 204، والتصريح 2/ 43، والهمع 1/ 41، وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 260.

أقلع عن الأمر: تركه. ورابى من الربو، وهو النفس العالي المتتابع. والبيت تمثيل، يقول الفرزدق لجرير وقد خلع ابنته من زوجها: هما كفرسين جداً في الجري، ووقفا قبل الوصول إلى الغاية.

ص: 100

وقال الآخر أنشده ثعلب (1):

وكلتاها قد خطَّ لي في صحيفتي

فلا العيشُ أهواه ولا الموت أروحُ

وهو كثير.

والثالث: اسم الإشارة الموضوع للمفرد البعيد، فإنّ العرب قد اتسعَت فيه فاستعملته للمثنى، ألا ترى إلى قول الله تعالى:{عَوانٌ بين ذلك (2)} ، أي: بين الفارض والبِكْر، فأوقع ((ذلك)) على الإثنين (3). وكذلك استعملته للجمع فأضافت كُلا إليه في نحو:{وإِنْ كلُّ ذلك لما متاعُ الحياةِ الدنيا (4)} . فعلى هذا يجوز أن تقول: جاءني زيدٌ وعمرو، وكِلَا ذلك فاضلٌ. ومنه ما أنشده ابن هشام في السيرة، والفارسيّ في الشِّيرازيات لعبدالله بن الزِّبَعْري (5):

إِنَّ للخَيرِ وللشَّر مَدَىً

وكِلَا ذَلِكَ وَجْه وقَبَلْ

قال الفارسيُّ: فهذا يراد به التثنية كما أُرِيدَتْ بالضَّمير في ((كلانا)) التثنية، وإن كانت اللفظة تقعُ على الجميع.

والرابع: الجمعُ الذي يُراد به المثنى في نحو: قطعتُ رُءوسَ الكبشَينِ

(1) البيت بلا نسبة في معاني القرآن للفراء 2/ 142، والإنصاف 446.

(2)

الآية 68 من سورة البقرة.

(3)

في الأصل اثنين.

(4)

الآية 35 من سورة الزخرف.

(5)

سيرة ابن هشام 2/ 136، والبغداديات 202، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 2، والمغني 203، والهمع 4/ 283، وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 251. وقد نُسِبَ إلى لبيد في البحر المحيط 1/ 251.

ص: 101

وقوله (1):

ظهراهما مثلُ ظهورِ التُّرْسَين

فتقول على هذا في نحو: ((وكلا أنفَيهما رابى)): وكلا أُنوفهما رابى، وقطعت كلا رءوس الكبشين، وجدعتُ كلا أُنوف الزيدين. وما أشبه ذلك، فهذا والذي قبله داخلٌ تحت قول الناظم:((لِمُفْهِم اثنين)).

فإن قلت: هذا بِدْعٌ من القول في كلا وكلتا! وأين السماع في هذا؟

فالجواب: أنَّ السماع إِن يأت فالقياس قابلٌ؛ قال الفارسيّ في المسائل الشيرازيات: فإن قلت: فهل يجوزُ في قول الفرزدق: ((وكلا أَنفَيهما رابى)): وكلا أنوفهما رابى، لأن هذا يُجْمع فيه المثنى؟ فالقول: أَنَّ ذلك ليس بحسن، لأن هذا النحو قد يُستعمل فيه التثنية كما يُستعمل الجمع، نحو:((ظهراهما مثلُ ظُهور الُّترسَين))، فإذا كان كذلك قبح استعمالُ الجمعِ بعد كلا؛ لأنه موضعٌ لم يُستَعمل فيه هذا الضربُ من الجمع. قال: فإن قلت: إن هذا

(1) هو خطام المجاشعي كما في الكتاب 2/ 48، أوهميان بن قحافة كما في الكتاب أيضا 3/ 622. والبيت في البيان والتبيين 1/ 156، والمخصّص 9/ 7، وشرح المفصل لابن يعيش 4/ 1550156، والرضي على الكافية 3/ 361، والهمع 1/ 174. وانظر أبيات المغني للبغدادي 4/ 140، وشرح شواهد الشافية له 94.

ص: 102

الضرب من الجمع قد جرى مجرى التثنية عندهم؛ ألا تراهم قالوا (1):

رءُوس كَبِيرَيهنَّ ينتطحانِ

فأخبِر عنه بالتثنية وقد تقدم الجميع. وقيل في قوله (2):

جونتا مصطلاهما

إنه على هذا التقدير، يعني أن ((هما)) عائد على ((الأعالي))، لأن المراد الأعليان.

قال: فإن حُمِل هذا فمذهبٌ. ثُمَّ قوي ذلك بمجئ لفظ الجميع في كلانا، لما أريد به التثنية، وباسم الإشارة المذكور. فعلى هذا لا يمتنع القياسُ في هذه المواضِعِ، فيصحّ اشتمالُ قوله:((لمفهم اثنين)) على جميع ما تقدّم.

والشرطُ الثاني من شروط المضافِ إليه كلا وكلتا: أن يكون المضافُ إليه معرفةً، وذلك قوله:((لمفهم اثنين معرَّفٍ))، يعني أنهما لا يضافا إلا إلى/ معرفةٍ بأحد وجوه التعريف، أما

379 الضمير كقوله: {أحدهُما أو كلاهُما (3)} ، وأما العلمُ كقوله: كلا الزيدين قام، وإما المبهمُ

(1) صدره

رأت جبلا فوق الجبال إذا التقت

وهو الفرزدق ديوانه 2/ 332. والبيت في معاني القرآن للأخفش 410، والبغداديات 139، والخصائص 2/ 421، والخزانة 4/ 299، 301.

(2)

هو الشماخ، والبيت بتمامه

أقامت على ربعيهما جارتا صفا كميتا الإعالي جونتا مصطلاهما

انظر الديوان 307 - 308، والكتاب 1/ 99، وابن يعيش على المفصل 6/ 86، والرضي على الكافية 2/ 235، 3/ 437، والخزانة 4/ 293. والربع: الدار والمنزل، وضمير المثنى للدمنتين. والصفا: الصخر الأملس، ويعني بجارتا صفا: الأثفيتين لأنهما مقطوعتان من الصفا الذي هو الصخر. كميتا الأعالي: صفة جارتا. والكمتة: الحمرة الشديدة بالأعالي: أعالي الجارتين. والجونة: السوداء.

(3)

الآية 23 من سورة الاسراء.

ص: 103

نحو قوله: ((وكلا ذلك وجهٌ وقَبَل))، وأما ذو الألف واللام نحو:{كِلتْا الجنتَين آتَتْ أُكُلها (1)} ، وإما المضافُ إلى معرفة نحو: وكلا أنفَيهما رابى)). ولا يجوزُ أن يُضافا إلى نكرةٍ، فلا يُقال: كلا رَجُلين قام، قال الفارسيّ في كِلَا: لم نعلمها أُضِفَتْ إلى المنكور لا مفرداً ولا مضافاً. قال الأخفش: العرب لم تضع ذا إلا على المعرفة. ونَقَلَ بعضهم عن الكوفيِّين (2) أنهم يُجِيزون ذلك لكن بشرط أن تكون النكرةُ محدودةً مخصَّصةً. فيقولون: كلا رَجُلين عندك قائم، وكلتا امرأتين في الدار مُرْضعٌ؛ وحكَوا عن العرب: كلا جاريتَينِ عندك مقطوعةٌ يدُها (2) - قالوا: وقَطْعُ اليد هنا: تَرْكُ الغَزْل - فلو كانت النكرة غير محدودةٍ لم تُضف إليها كِلَا وكِلْتا، نحو: كلا رجلين قائم، وكلتا امرأتين مرضع. وهذا يحفظه البصريون، وهو شاذٌّ لا يُبنى عليه، ولذلك لم يُعوِّلِ الناظم عليه ولا غيره.

والشرط الثالث: أن يكون فهم الاثنين من لفظٍ واحدٍ، فلا يكون ذلك المعنى (3) مفهوما من لفظين، معطوفٍ ومعطوفٍ عليه، وذلك قوله:((بلا تفرُّقِ))، يعني أن اللفظ المفهم للاثنين لابدَّ أن يكون واحداً غير مفرَّق بالعطفِ كما تقدَّم، فلا يقالُ: كلا زيد وعمروٍ قام، ولا الحرّ والعبد خرج. وما جاء مخالفا لذلك فشاذٌّ مختصٌّ بالشعر، نحو ما أنشده في الشرح من قول الشاعرِ (4):

كلا أَخِي وخَلِيلي واجِدِى عَضُداً

وساعداً عند إلمام المُلِمَّاتِ

(1) الآية 33 من سورة الكهف.

(2)

الهمع 4/ 283.

(3)

كلمة ((المعنى)) ساقطة من أ.

(4)

هو أبو الشعر الهلالي كما في شرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 257، وقال:((ولم أقف له على ترجمة. والظاهر أنه إسلامي من شعراء بني أمية)).

والبيت في المغني 203، والعيني 3/ 319، والتصريح 2/ 43، والهمع 4/ 283.

ص: 104

ويُروى:

في النَّائباتِ وإلْمامِ الملماتِ

وقول الآخر (1):

كلا الضَّيفَنِ المَشْنُوءِ والضَّيف نائل

لديَّ المُنَى والأمنَ في البسر والعُسْرِ

وأنشد الفارسي (2):

كلا السيفِ والساقِ الذي ضُرِبَتْ به

على دَهَش

...

...

...

ولم أقيد باقي البيت. قال الفارسيّ: لم يُجِيزوا إلى المظهر المخصوص وإن عطفت عليه مثله، لم يجيزوا: كلا أخيك وابيك ذاهب، كما لم يُجيزوا: كلُّ عبدالله وأخيه وأبيه ذاهبون، وكما لم يقولوا: جميع زيد وعمرو ذاهبان. قال الأخفش: لأن هذا يجري مجرى: ثلاثة رجال وأربعة أناسيَّ، ولو قلت: اربعة صاحبين، وأنت تريد أربعة اصحاب، لم يَجُزْ. وإنما ذلك في الشعر لأن العطف بالواو كالتثنية في المعنى، فحمل الكلام في الشعر على المعنى؛ ألا ترى أنك تقول: زيد وعمرو قاما، كما تقول: الزيدان قاما. ولو قال: كلا زيد وعمرو، لم يجز في شعرٍ ولا غيره، لأن كِلَا فيه مضافةٌ إلى واحدٍ غير جارٍ مجرى المثنى، وذلك لا يجوزُ في كلا وكلتا.

(1) مجهول. والبيت في الأشموني 2/ 260، والعيني 3/ 421، وقال:((احتج به ابن الانباري، ولم يعوه إلى قائله)).

(2)

تتمته كما في هامش الأصل:

القاه يابَتنً صاحبه

والبيت في المغرَّب 1/ 211، وابن يعيش 3/ 3.

ص: 105

وهذا الشرط من الناظم يقتضي أن لا يجوز نحو: كلاكَ وكلا زيدٍ قائم، وكلتاك زولتا زينبَ قائمةٌ، لأن هذا تفريق. وأحسب أني وقفت على إجازته لبعض النحويين حملا على المعنى، لأن الكلام على معنى: كلاكما قائم، وكلتاكما قائمة. ولم يأت في ذلك سماع، ولكنّهم قاسوه/ 380 على إجازة ذلك في ((أيّ))، إذ جاء في كلام العرب نحو: أيّي وأيُّك كان شراً فأخزاه الله؛ لأن المعنى: أَيَّنا، وأيّ الثانية توكيدٌ كالمطّرح، فكذلك تكون كِلَا الثانية هنا كالمطَّرحة. وأيضاً فقد قالوا: هو بيني وبينك، والمراد: بيننا، فتجوز مسألتنا كما يجوز هذا. فالناظم إمَّا أن يكون لم يرتضِ هذا المذهب لعَدَمه في السماع، أو لضعفه في القياس، وإمَّا أن يكون تركَ التنبيه عليه رأساً لِقِلَّة القائلين به، وغَرابة نقله.

فإن قيل: كلا وكلتا مما تلزم فيه الإضافة فلا يُفْردان أصلا كما يُفْرَدَ كُلٌّ في اللفظ وإن كان غير مُفْرَدٍ في المعنى، وإنما هما لازمان للإضافة اللفظية، وكلامُ الناظم هنا لا يُعطي لزومَ الإضافة وإنما فيه أَنَّ الإضافة لا تكون إلا للمثنى غير المفُرَّق، فقد يُتَوهَّم أنهما مما يصحّ فيه الإفراد.

فالجواب: أنَّه يؤخَذُ له لزومهما الإضافة من مَسَاقِ كلامه، فإن الفصل كله من لدن قوله:((وبعض الأسماءِ يُضَافُ أَبَدا)) إلى قوله: ((وما يلي المضافَ يأتي خَلَفَا)) في الإضافة اللازمة، وإذا كان كذلك لم يضطَرَّ إلى التنبيه على اللزوم، بل إن أطلق القول فيها أخذت له على حقيقتها من مطلق اللزوم، ومفهومه الأول- وهو اللزوم لفظاً ومعنىً- وَإِنْ قَيَّدها فذكر فيها لفظاً، أخذنا به حيث ذكره، فلا إيهام في كلامه على هذا التقرير، والله أعلم.

_________

ص: 106

وقوله: ((لمفهم اثنين)) متعلّق بأضيف. و ((بلا تفرق)) متعلّق باسم فاعلٍ محذوفٍ هو صفةٌ لمفهم، والتقدير: أُضِيفَ كلتا وكلا لاسمٍ مفهمٍ اثنين معرّفٍ كائن بلا تفرُّق.

* * *

وَلَا تُضِفْ لمفرَدٍ مُعَرَّفِ

أيّا، وأنْ كرَّرْتَها فَأضِفِ

أو تَنْو الأجزا، واخْصُصَن بالمعرفَهْ

مِوصُولَةً أياً، وبالعكسِ الصِّفَهْ

وَإِنْ تَكُن شرطاً أِوِ اسِتفْهامَا

فَمُطلقا كَمِّل بِها الكَلَامَا

هذا فصلُ الكلام في إضافة أيٍّ، وهي على الجملة لازمةٌ للإضافة في هذه الأقسام التي ذكر، ويتبيَّن ذلك من سياقِ الكلامِ كما تقدَّم في البيت المذكور آنفا.

فإن قلت: لم يَذْكُر هنا لقسمٍ من أقسامها الإفرادَ في اللفظ، فاقتضى - على ما تقدم- لزومَ الإضافة لفظا، وذلك غير صحيح، بل أيّ في ذلك ضربان: ضربٌ لا يجوز فيه الإفراد لفظاً البتّة، وذلك الواقعة صفةً وفي معناها الواقعةُ حالاً، فإنك تقول: مررتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ، وبفارسٍ أيِّ فارسٍ. ولا تقول: مررتُ برجلٍ أيٍّ، ولا بفارسٍ أيٍّ، وإن عُلِم المحذوفُ، لأن العرب التزمت ذكر المضاف إليه هنا، فلا يجوز مخالفتها.

وضربٌ يجوز [ذلك (1)] فيه، وذلك إذا كانت شرطاً أو استفهاماً أو

(1) عن أ، س.

ص: 107

موصولة تقول: أيَّا تضرِبْ أضرِبْ. وفي القرآن: {أيامَّا تدعو فله الأسماءُ الحُسنى (1)} . وفي الحديث ((أيُّ العمل أفضلُ؟ فقال: الصلاةُ لميقاتها. قال: ثمّ أيٌّ؟ قال كذا. قال: ثم أيٌّ؟ قال كذا (2))). وتقول في الموصولة: اضرِبْ أيَّا أفضلُ، وأيَّا هو/ أفضل. وذلك كلُّه مع العلم بالمحذوف، 381 فكيف يُطلقُ القولَ هنا بلزوم الإضافة لفظا ومعنى؟ هذا لا يستقيم!

فالجواب: أنه قد بيّن في باب الموصول أن أيّاً الموصولة تُفَردُ عن الإضافة، أشار إلى ذلك قولهُ:((أيٌّ كما، وأعربت مالم تُضَفْ)) إلى آخره، وأما غيرها من أقسام أيٍّ فلم يذكر فيها شيئاً، فالسؤالُ ورادٌ.

وقدَّم أولاً في إضافة أيٍّ حكماً عاماً، وهو أنها لا تُضاف إلى مفردٍ معرَّفٍ، وأراد بالمفرد هنا مفرد الشخص، فلا تقول: أيّ زيدٍ جاءك؟ ولا: أيُّ الرجلِ الفاضل جاءك؟ لأنّ أيّا موضوعةٌ على الإبهام فيما يصحُّ فيه التبعيض، فلا يجوز أن يقعَ المفردُ المعرفةُ، بخلاف المفردِ النكرة، والمعرفةِ غير المفرد، فإنه يجوز أن يقع بعدها كلّ واحدٍ منهما على الجملة، فتقول في الأول: أيُّ رجلٍ جاءك؟ وأيُّ رجل يأتِكَ أكرمُه. وتقول في الثاني: أيُّ الرجال جاءك؟ وأيُّ الرجال يأتِكَ أَكرِمْه. وكذلك: أيّ رجلين جاءاك؟ وأيُّ رجال جاءوك؟ حسب ما يأتي؛ فقوله: ((ولا تُضف لمفردٍ معَّرف أياً))، يعني مطلقاً في جميع أقسامها التي يذكرها، ثم استثنى من هذه الجملة موضعين صحّ فيهما الإضافة إلى المفرد المعرفة:

أحدهما: أن تتكرر أيّ بالعطف فإِذْ ذاك يجوزُ أن تضاف إلى

(1) الآية 110 من سورة الإسراء.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد 4/ 17.

ص: 108

المفرد المعرفة، فتقول: أَيِّيِ وأيُّ زيدٍ قائمٌ؟ وأَيِّيِ وأيُّك كان شراً فتاب الله عليه. ونحو ذلك.

وهذا معنى قوله: ((وإن كرَّرتها فَأَضِف)). يعني: إن كرَّرت أيَّا، وذلك مثلُ ما أنشد سيبويه من قول العبّاسِ بن مرداس (1):

فأيِّيِ، ما، وأيُّك كان شراً

فَسِيقَ إلى المنيَّةِ لا يَرَاها

وأنشد أيضاً لخِدِاشِ بن زُهير (2):

ولقد علمتُ إذا الرجالُ تناهَزُوا

أِيَّي وأيُّكُمُ أَعزُّ وأمنَعُ

وأنشد له أيضا (3):

فأيِّيِ وأيُّ ابن الحُصَين وعَبْعَبٍ

غَداةَ التقينا كان عندكَ أعذَرا

وقال عنترةُ (4):

فلئن لقيتُك خالِييَن لتعْلمْن

أيّي وأيُّك فارسُ الأحزاب

(1) الكتاب 2/ 402، وابن يعيش على المفصل 2/ 131، والرضي على الكافية 2/ 253، والخزانة 4/ 367، واللسان: أيا.

(2)

الكتاب 2/ 403، وابن يعيش على المفصل 2/ 133، واللسان نهز. والمناهزة: المبادرة، يقال: ناهزتهم الفرص، وناهزت الصيد فقبضت عليه قبل إفلاته.

(3)

الكتاب 2/ 402، وعبعب، هكذا في جميع النسخ، ومثله في بعض نسخ الكتاب، والمثبت في المطبوعة: وعثعث.

(4)

كذا، ولم أجده في ديوانه. وقال العيني 3/ 422:((ولم أقف على اسم قائله)). والبيت في المحتسب 1/ 254، والتصريح 2/ 133، 138، والهمع 4/ 287، والأشموني 2/ 261.

ص: 109

وقال جُمَيح بن الطَّمّاح، وهو جاهليّ (1):

وقد علم الأقوام أييّ وأيكمُ

بني عامرٍ أوفى وفاءً وأكرمُ

وقال قرط اليربوعي، جاهلي (2):

أبني سُلَيطٍ لأ أبا لأبيكم

أيَّي وأيُّ بني صُبَيرةَ أكرمُ

وإنما جاز ذلك لأن الكلام محمول على معناه، إذ معنى ذلك: أيُّنا؟ قال سيبويه: ((وسألتُه-رحمه الله يعني الخليلَ- عن ((أِسِّي وأيُّك كان شرا فأخزاه الله)). فقال: هذا كقولك: أخزى الله الكاذب مِنِّي ومِنْكَ، وإنما يريد: مِنّا. وكقولك: هو بيني وبينك. تُريد: بيننا (3)، قال: فإنما أراد: أيُّنا كان شراً، إلا أنهما لم يشتركا في أَيٍّ- يعني فيقال: أيّنا- ولكنهما أخلصاه لكل واحدٍ منهما (4)))، يعني:((ولكن المتكلم والمخاطب أخلصا أيَّا لكلّ واحد منهما (5))). وإذا ثبت هذا لم تُضَف أيُّ في حقيقة المعنى إلى المفرد المعرفة، وإن كان ذلك في محصول اللفظ.

والثاني من الموضعين: أن تنوي التبعيض في المضاف إليه، وذلك فيما يصحُّ فيه التبعيضُ. وهذا معنى قول الناظم:((أوتَنْوِ الاجزا)). وهو معطوفٌ على

(1) نوادر أبي زيد 20، وابن يعيش على المفصل 2/ 133، واللسان: أيا، برواية: وأظلم، وقال: علموا أني أوفى وفاءً وأنتم أظلم)).

(2)

الكامل للمبرد 951 - 952، ونسبه إلى رجل من بني عامر بن صعصعة، وروايته فيه:

أبني عقيل لا أبا لأبيكم أيّي وأيّ بني صبيرة أكرم

وانظر خزانة الأدب 4/ 103.

(3)

في الكتاب ((هو بيننا)).

(4)

الكتاب 2/ 402.

(5)

ليست في أ.

ص: 110

((كرّرتها)) عطف الموضع، لأن موضعه جزمٌ، كأنه قال: وإن تكرِّرْها/ أو تنو الأجزاء

382 فيما أُضيفَتْ إليه فأضِفْها إلى المفرد المعرفة، وذلك قولك: أيُّ ثوبك خَلَق؟ معناه: أيّ النواحي منه خَلَق؟ فالتبعيض في هذا متأتٍّ فجازت الإضافة باعتباره. وكذلك تقول على هذا: أيَّ غرناطةَ نزلتَ؟ المعنى أَيَّ نواحيها نزلْتَ؟ أو أَيَّ مواضعها نزلْتَ؟ ومن ههنا جاز في بين أن تضاف إلى المفرد كقول امرئ القيس (1): ((بين الدَّخول فحوملِ. فتُوضِحَ فالمقْراةِ (1)))، لأن الدَّخولَ موضع يحتوي على أماكن فكأنه قال: بين أماكن الدَّخول فأماكن حَوْمَلِ، وكذلك تُوضِحَ والْمِقراةِ. وإلا فلا يجوز أن تقول: جلست بين زيد فعمرو (2)، إذ لا بينَ لزيدٍ وحده ولا لعمرو وحده، وإنما جاز ذلك كلُّه لأنَّ اعتبار الأجزاء يُخرج الاسم عن باب الإفراد إلى باب الجمع، فكأنك قلت: أيُّ أجزاء ثوبك خَلَق؟ وأيَّ نواحي غرناطةَ نَزَلْتَ؟

وعلى الناظم في قوله: ((وإن كرَّرتها فأضِفِ)) دَرْكٌ من أوجه أربعةٍ:

أحدها: أن هذا التكرار لم يُبيِّن على أيّ وجه يكون؟ فقد يمكن أن يفهم على أنه بغير عطفٍ كقولك مثلا: أَيِّي أيُّك قائم؟ أو بحرفِ عطفٍ غير الواو نحو: أَيِّي فأيّك، أو أَيِّي ثم أيكّ؟ وما أشبه ذلك من حروف العطف. وذلك كله غير صحيح، وإنما التكرار مخصوص بالواو وحدها من

(1) من بيته في صدر معلقته 8، وهما:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمالِ

(2)

أ: وعمرو. وهو خطأ.

ص: 111

حروف العطف، فلا يجوز أن تقول: أَيِّي فأيُّ زيد أكرم؟ ولا أَيِّي ثم أيّ زيد أفضل؟ وإنما يجوز ذلك مع الواو، لأن المفردين مع الواو في حكم الاسم المثنى بخلاف غيرها، وذلك من حيث كانت لا تعطي رتبةً، وإنما تعطي مجرّد الجمع من غير زيادة، فصارت كالتثنية. وأما غيرها من الحروف فإنما يقتضي تفريق المعطوف من المعطوف عليه ولو في الرتبة الزمانية، فلم يرادف المفردان مع غير الواو التثنية، فصار كلُّ اسم عُطِف بغيرها له حكم نفسه، فامتنع العطف ههنا بما عدا الواو، وكلامُ الناظم لا يعطي شيئا من هذا، فكان مُعتَرَضاً.

والثاني: أن هذا التكرار في ظاهرِ مَسَاقِه قياسيّ، فجائز أن يَتَكلَّمَ به في غَير الشعر، لأنه قال:((وإن كرَّرتها فأضِف)). فوكَلَ ذلك إلى السامع لا إلى العرب. وليس الأمر كذلك، بل هو موقوفٌ على السماع، وقد نَصَّ على ذلك الفارسي، وجعل جوازه كجواز تكرار المفرد بعد كِلَا في نحو قوله (1):

كلا السيفِ والساقِ الذي ضُرِبَتْ بِهِ

في أنّ كلّ واحدٍ منهما موقوف على السماع، محمول على معناه. ولا يقاس عند الناظم على نحو: كلا السيف والساق، فكذلك ينبغي في: أَيِّي وأيُّ زيد أعرف؟ وهكذا قيل. ويظهر من مساق سيبويه في باب أَيّ، وإذا كان كذلك ظهر أنّ ما أعطاه مساق الكلام من القياس غير صحيح.

والثالث: لو سُلِّم أَنَ التكرار قياسيّ فإنما يكون كذلك حيث كان المجرور بأ] ٍّ أولاً ضمير المتكلم، نحو: أَيِّي وأيُّ زيدٍ أعلم؟ وهو الذي عيّنه السماع كما تقدّم، فلا يقال: أيّك وأيّ زيدٍ أفضل؟ ولا: أيّ زيد وأيّ عمرو أعلم؟ وعبارة

(1) تقدّم البيت وتخريجه من قريب، انظر:105.

ص: 112

الناظم هنا وكذلك في التسهيل (1) / تقتضي جواز الجميع، فهو مشكل!

383

والرابع: أن قوله ((فأضِفِ)) يقتضي لزومَ الإضافة إلى المفرد المعرفة، لأن قوله ((فأضِفِ)) أمرٌ بذلك، لم يُقيِّده بالجواز، كما قال في المسألة قبل هذا:((أضِفْ جوازاً)) فدلّ على أنه يريدُ وجوبَ الإضافة التي قَدَّم، وهي الإضافة إلى المفرد المعرف. وذلك حكمٌ غير صحيح؛ بل هو على الجواز إذا كُرِّرت، فلك أن تَضِيفَ إلى النكرة، فتقول: أيَّ رجل وأيَّ امرأةٍ أكرمتَ؟ وإلى المعرفة غير المفردة فتقول: أيُّ الرجلين وأيُّ المرأتين أكرمُ؟ وكذلك أيُّ بني تميم وأيُّ بني فلان أفضلُ؟ وما أشبه ذلك. فلا يُقتصر به على المفرد المعرفة، خلافُ ظاهر كلامه.

والجواب عن الأول: أنَّ تأتيِّ التكرار في محصول الاعتياد (2) إنما يحصلُ مع العطف، والواو أصلُ البابِ، فهو الذي يَسبقُ للأذهان، فترك ذكره اتكالاً على فهمه، وعلى أنه قال عِوَضَ ذلك:

ولا تُضِفْ لمفرَدٍ مُعَرَّفِ

أيّا وكرّرها بواوٍ تُضِفِ

أو انْوِ الاجزا

...

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لكان أولى.

وعن الثاني: أن ظاهر كلامه هنا وفي التسهيل (3) إجراء القياس،

(1) التسهيل 37.

(2)

أ: الاعتبار. وهو خطأ.

(3)

التسهيل 37.

ص: 113

إذْ لم يقيِّد ذلك بأمرٍ، وليس في كلام سيبويه نصُّ بأنه سماعٌ، وقد تقدَّم نصُّ كلامه. وأيضا قد يبعُد الفرق بين قولك: أيِّي وأيّك (1) أعلم؟ وبين قولك: أيِّك وأيّ زيد أعلم؟ وما أشبه ذلك. وإذا فرض أنه قائل بالقياس فلا اعتراضَ إلا من جهة بطلان القياس من نفسه، وذلك نزاعٌ في أصل خلافٍ لا يعترض بمثله على الناظم بأن يقال: لم خالفت فلانا ولم توافقه؟ لأن الدليل هو المتّبع، ولا إجماع يعارَضُ به هذا القياس، بل نقول ان سيبويه والخليل شبَّها قولهم:((أيِّي وأيُّك كان شراً فأخزاه الله))، بقولهم: هو بيني وبينك، ونحوه، ومثل هذا لا يُقتَصَرُ به في ((بين)) الأولى على ضمير متكلم دون مخاطب أو غائب، بل يقال: هو بينك وبينه، وهو بينك وبين زيد، وفي القرآن:(فإذا الذي بينَكَ وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم)(2)، وكذلك الأمر في:((أخزى الله الكاذب منّي ومنك))، لا مانع من أن بقال: منك ومن زيد، فكما يجوز هنالك فكذلك يجوز هنا.

فإن قيل: فَلْيجُزْ على ذلك: كلاك وكلا زيدٍ قائمٌ، وكذلك: كلا زيد وعمروٍ قائمٌ؛ إذ لا فرق.

قيل: قد مَرَّ القولُ على هذا، وأيضاً لما فَهِم من العَرَب اعتزامهم على إضافة كلا وكلتا للمثنى غير المفرَّق، قال: يمنع التفريق بإطلاق، وكأنه لم يفهم مثل ذلك عن العرب في أيٍّ فأطلق الجواز.

فإن قيل: فإن جاز مثلُ: أيُّ زيدٍ وأيُّ عمرو في الدار؟ فليُجزْ: المال بين زيد [وبين (3)] عَمْرو، بتكرير بين، وذلك غير جائز، وقد عُدَّ ذلك من لحن

(1) أ: وأيّ زيد.

(2)

الآية 34 من سورة فصلت.

(3)

سقط من أ.

ص: 114

الخواصِّ حسب ما نصّ عليه الحريريُّ في ((دُرَّة الغواص (1))). وغيره. وكذلك يلزم أن يجيز: أخزى الله الكاذب من زيدٍ زمن عمرو.

فالجواب: أنه يقال: لعلّه أجاز ذلك بناءً على قياسه وإن كان ضعيفا، أو على سماع شيء منه. والله أعلم.

وهذا قد حصل الاعتذار- على ما فيه- عن الثاني/ والثالث من الاعتراضات. 384

وأما الرابع فالجوابُ عنه: أن الأمر هنالك إنما هو للإباحة لا للوجوبِ، بقرنية تَقَدُّم الحظر في قوله:((ولا تُضِف لمفردٍ معرَّفِ)). والأمر إذا ورد في الشريعة بعد الحظر فهو للإباحة حسب ما ذكره الأصوليون، فهو الراجح عندهم من المذهبين، وإذا كان على الإباحة فهو معنى التخيير، فقوله:((وإن كرّرتها فأضِفِ))، معناه: إن شئت. فلا محذور.

[أقسام أيّ]

ثمَّ فصّلَ الكلام في أقسام أيٍّ، كيف تكون الإضافة إليها فقال:((واخصُصَنْ بالمعرفة موصولةً أيّا)) .. إلى آخره، فذكر لها أقساما ثلاثة: قسم تكون فيه مضافةً إلى المعرفة خاصةً، وقسم يُخَصّ بالنكرة وحدها، وقسم يجوز فيه الأمران.

فأما الأول فهو الذي ذكر أوّلاً، وهو قسم الموصولة.

و((موصولةً)) حال من ((أيّ)) تقدمت عليها، كأنه قال: واخصُصْ بالمعرفة أياً حالة كونها موصولةً.

يعني أنها إذا كانت موصولة كالذي والتي فلا تُضاف إلاّ إلى

(1) درة الغواض 79 - 82.

ص: 115

المعرفة، فتقول: اضرِبْ أيَّهم هو قائم، وسلِّم على أيِّهم هو أفضلُ، لأن معناها معنى الذي، ولا يجوز أن تقول: أيَّ رجلٍ هو أفضلُ، أو: سلِّم على أيِّ رجلٍ هو قائم. ومن ذلك في القرآن: (ثمَّ لننزعنَّ من كلِّ شيعةٍ أُّهم أشدُّ على الرحمن عتياً (1)). وأنشد سيبويه (2):

إذا ما أتيتَ بني مالك

فسلِّم عَلى أَيُّهم أفضَلُ

وأما الثاني فهو أيُّ إذا وقعتْ صِفةً، وذلك قوله:((وبالعكسِ الصِّفَهْ))، يعني أنها إذا وقعت صفةً فإضافتُها على العكس من إضافة الموصولة، وقد تقدّم أن الموصولة تضافُ إلى المعرفةِ، فإذاً الصفة لا تضافُ إلى المعرفة، وإنما تضاف إلى النكرة، فتقول: مررتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ، ومررتُ بفارسٍ أيِّ فارسٍ، وبفتىً أيِّ فتىً، ومنه قوله (3):

دعوتُ امراً أيَّ امرِئٍ فأجابني

وكنتُ وإيّاه ملاذاً وموئِلَا

وقال الآخر، إلاّ أنه حذَفَ الموصوف (4):

إذا حارَبَ الحجاجُ أِيَّ منافقٍ

علاه بسيفٍ كلما هُزَّ يَقطعُ

(1) الآية 69 من سورة مريم.

(2)

لم أجده في الكتاب، والبيت لغسان بن وعلة، وهو في الإنصاف 715، وابن يعيش على المفصل 3/ 147، 4/ 21، 7/ 87، والرضي على الكافية 3/ 26، والمغني 78، 409، والهمع 1/ 313، والخزانة 6/ 61.

(3)

مجهول. والبيت في الهمع 1/ 319، والأشموني 2/ 99.

(4)

الفرزدق، ديوانه 1/ 417، وهو في الهمع 1/ 319.

ص: 116

ويجري مجرى الصفة الحال، فتقول: رأيت الرجلَ أيَّ رَجُلٍ، وأي فتىً، أنشد في الكتاب للراعي (1):

فأومأتُ إيماءً خفياً لَحبْترٍ

ولله عينا حَبْتَرٍ أَيَّما فَتَى

ولا يجوز أن تضاف إلى المعرفة، فلا تقول: مررتُ بالرجل أيِّ الرجل، ولا: بالفارسِ أيِّ الفارسِ، وما أشبه ذلك.

وفي قوله: ((وبالعكس الصفه)) شيءٌ من النظر؛ لأن العكس في اللغة ردُّك آخر الشيء أوَّله، وهكذا هو في اصطلاح أهل النظر، فإنهم قالوا: عَكْسُ القضية تحويلُ مُفرَدَيها على وجه يصدق. ونحن لا نجد في كلام الناظم ذلك، لأنه قال:((واخصُصَن بالمعرفَه موصولةً أيا)) وليس في هذا الكلام ما يصحّ فيه العكس بحيث يُعطي ما قَصَد من المعنى، وإنما يظهر أن موضع العكس في كلامه للضدِ، فلو قال:((وبالضدّ الصفَهْ))، لكان صحيحاً، لأن النكرة ضدّ المعرفة وليست بعكسٍ لها، ولم يقصد الناظم إلا ذلك المعنى، ولكن ذهب عليه هذا، فوضع العكس موضع الضدِّ.

وقد يُجاب عن ذلك بأن العكس المصطلح عليه يصح هنا من قوّة الكلام/،

385 من جهة أن قوله: ((واخصُصَن بالمعرفَةَ كذا، في قوة أن لو قال: لا بالنكرة، فكأنه قال: اخصُصَنْ كذا بالمعرفة دون النكرة. فلو صَرَّح

(1) الكتاب 2/ 108، وديوان الراعي 3، والهمع 1/ 319، وشرح الحماسة للمرزوقي 1502، والرضي على الكافية 4/ 234، والخزانة 9/ 370.

حبتر: ابن أخي الراعي. ومعناه في اللغة: القصير من الناس.

ص: 117

بهذا لكان عكس الكلام: اخصُصَن الصفة بالنكرة دون المعرفة. وذلك صحيح. فالناظم إنما قصد العكس بحسب اللفظِ المقدّر الذكر مع الملفوظ به، فلا دَرْك عليه.

وأما القسم الثالثُ الذي يجوزُ فيه الأمران فأيُّ الشرطية أو الاستفهامية، وذلك قوله:((وإن تكن شرطاً أو استفهاما)) .. إلى آخره.

ضمير ((تكن)) عائدٌ على ((أيّ)). و ((مطلقاً)): حال من التكميل المفهوم من قوله: ((كَمِّل))، على حدّ قولهم: ضربته شديداً.

يعني أن أَيّا الشرطية، وأيّا الاستفهامية، يَكمُلُ فيها الكلامُ بالإضافة مطلقاً، أي: سواءً أكانت الإضافة إلى معرفة أم نكرة، فالضمير في ((بها)) عائد على الإضافة المتقدمة الذكر؛ فتقول في الشرط: أيُّ الرجالِ يُكرمْنِي أكرِمْه، وأيُّ رجلُ يكْرِمني أكرِمْه. ومن الإضافة إلى النكرة ما أنشده سيبويه لابن هَمّامٍ السلولي (1):

لما تّمكَّنَ دُنياهم أطاعَهُمُ

في أيِّ نَحوٍ يُميلوا دينَه يَمِلِ

وتقول في الاستفهام: أيُّ الناسِ جاءك؟ وأيُّ رجلٍ جاءك؟ ومن النكرة قولُ الله عز وجل: ((وسيعلم الذين ظَلَموا أَيَّ منقلبٍ ينقلبونَ (2))). ومن المعرفة قوله: (لنعلم أيُّ الحِزْبين أحصى لِما لَبِثُوا أمَداً (3)).

(1) هو عبد الله بن همام، شاعر إسلامي، والبيت في الكتاب 3/ 80، واللسان: مكن، والأشموني 4/ 10. وانظر التعريف بابن همام في طبقات فحول لشعراء 625 - 637.

(2)

الآية 227 من سورة البقرة.

(3)

الآية 12 من سورة الكهف.

ص: 118

والحاصلُ للناظم من أضرُبِ أيٍّ أربعةٌ، وذلك: الموصولة، والصفة، والشرطية، والاستفهامية. وترك ذكر قسمين، وهما: النكرة الموصوفة، وصلة المنادي. فالأولى نحو: مرت بأيٍّ مُعجِبٍ لك. والثانية نحو: يأيُّها الرجل. وكلا القسمين لم يحتج إلى ذكره.

أما الموصوفة فمن وجهين، الأوّل: أن إثباتها في هذا القسم للأخفش؛ إذ لم يذكرها سيبويه، ولم يرتض في التسهيل رأي الأخفش من جهة أن السماع بما قال معدوم أو نادرٌ، والقياس على ما ومن في وقوعها نكرتين موصوفتين، ضعيف.

والآخر أنها على تقدير ثبوتها لا تحتاج إلى إضافة، فتَرَكَ ذكرها كسائر مالا يلزم الإضافة. وكذلك صلة المنادي قد كفَّتها ((ها (1))) عن الإضافة، وحكمها يذكر في بابه، فلا مدخل لها هنا.

* * *

وألزمُوا إضافةً لَدُنْ فَجَرْ

ونَصْبُ غُدْوةٍ به (2) عَنْهُم نَدَرْ

إضافةً: مفعولٌ ثان لألزموا، والأول لفظ لَدُنْ. والضمير في ((به)) عائدٌ على لَدُن.

ويريدُ أن لَدُنْ من الظروف، يلزم الإضافة فيجرُّ ما بعده مطلقاً، فتقول: سِرْتُ من لَدُنْ الظهرِ إلى العَصْر، وجاء الأمرُ من لَدُنْ فلان.

(1) في النسخ: ((كفتها ما)) والمثبت عن هامش الأصل.

(2)

في هامش الأصل: ((بها)).

ص: 119

وفي القرآن: (لِيُنْذِرَ بأساً شَديداً من لَدُنْه (1)(قد بَلَغْتَ من لَدُنِّي عذراً)(2).

وأنشد الأصمعي (3):

مِن لَّدُ ما ظُهرٍ إلى العُصَيرِ

حَتّى بَدَتْ لي جَبْهةُ القُمَيرِ

لأربع غَبَرُن من شُهَير

وقد يُنْشد:

مِن لَّدُنِ الظُّهر إلى العُصَيرِ حَتَّى بَدَتْ لي جَبْهةُ القُمَيرٍ

لأربع غَبْرنَ من شُهَير

وقد يُنْشد:

مِن لَّدُنِ الظُّهر إِلَى العُصَيرِ

وقال الآخر (4):

(1) الآية 2 من سورة الكهف.

(2)

الآية 76 من سورة الكهف.

(3)

لرجل من طئ كما في العيني 3/ 429. والأبيات في الخصائص 2/ 235، والهمع 3/ 217، 6/ 178، والأشموني 2/ 262.

(4)

هو غيلان بن حرمث الربعي، قال البغدادي: ((لم أقف له على ترجمة، وقبله:

يستوعب البَوْعينِ من جُرِيره

والبيت في الكتاب 4/ 234، وابن يعيش على المفصل 2/ 127، وشرح شواهد الشافية للبغدادي 161، وفي اللسان: نحر، ولدن.

البوع- بضم الباء وفتحها- والباع: مسافة ما بين الكتفين.

والجرير: الجبل. واللحى: العظم الذي ينبت عله الأسنان. والمنحور: لغة في النحر. يريد أن طول الحبل الذي هو مقوده من لحييه إلى موضع نحره مقدار بوعين، يريد طول عنقه.

ص: 120

/ مِن لَدُ لَحْيَيْهِ إلى مُنْحُورِهِ

386

وإنما كانت خافضةً على حكم سائر الظروف غير المتصرّفة، ويقتضي هذا الإطلاقُ جَرَّ ((غدوة)) أيضا، وأن يقال: سرت من لدن غُدْوَةٍ إلى العَصْرِ، وهو نصّه في الشرح أنّ الجرّ بها مع ((غدوة)) جائز على القياس، وانما ينصب غدوةٌ بعدها ندوراً، وذلك قوله:((ونصبُ غدوةٍ بها عنهم ندر))، يعني عن العرب. ويظهر هذا من الجوهريِّ حيث قال:((وقد حمل حذفُ النون بعضَهم-يعني في لَدُ-إلى (1) أن قال: لَدُن غدوةً، فنصب غدوةً بالتنوين)) (2).

فاقتضى [هذا (3) أن] بعض العرب هم الذين ينصبون بها غُدْوةً وحدها. وهذا النصبُ حكاه سيبويه (4) وغيره، ومنه قول كُثَير (5):

لَدُن ما غدوةً حتى اكتسينا

لِثِنْىِ الليل أَثناء الظلالِ

وقال ذو الرمة (6):

لَدُن غدوةً حتى إذا امتدَّتِ الضُّحىَ

وَحَثَّ القطين الشِحشحانُ المكلَّفُ

(1) كذا في النسخ. وفي الصحاح: ((على)).

(2)

الصحاح، مادة: لدن.

(3)

عن أ، س.

(4)

الكتاب 1/ 51، 58 - 59.

(5)

لم أجده في ديوانه، وفي الديوان قصيدة من البحر والروى 227 - 232. وفي تاج العروس:((ثِنْى من الليل-بالكسر-أي: ساعة منه، أو وقت منه)).

(6)

ديوانه 1565، وهو من شواهد ابن يعيش 4/ 102، وفي البيان والتبيين 2/ 274، واللسان: شحح، ولدن.

والقطين: الخدم. والشحشحان: الجادَ الماضي، وأراد بالمكف: الحادي.

ص: 121

وقال أوسُ بن حجرٍ (1):

لَدُن غُدوةً حَتَّى أغاثَ شَرِيدهم

طويلُ النباتِ والعيونُ وضَفْلَعُ

وقال الآخر (2):

وما زال مُهرِي مَزْجَرَ الكلبِ منهمُ

لَدُن غدوةً حتَى دَنَتْ لغرُوُبِ

ولم يأت ذلك في غير غُدوة، ولذلك عيّنه الناظم بقوله:((ونصبُ غدوةٍ به (3) عنهم ندر))، وإلا فكان يقول: والنصب به نادرٌ.

فإن قلت: فقد أنشد سيبويه (4):

من لَدُ شولاً فإلى إِتْلَائِها

فنصب شولاً بعد لَدُ.

فالجواب: أن شولاً هنا ليس بمنصوب بلَدُ، بل بإضمار فعلٍ هو كان ونحوها، والتقدير: من لد كانت شولاً، لأن شولاً هنا جمع شائلة، فلا يجوز أن

(1) ديوانه 59. في الأصل: شديدهم. وهو خطأ. وطويل النبات: جبل بين اليمامة والحجاز، سمي كذلك بهضبات طوال حواليه. والعيون: اسم جبل. وضفلع: ماء لبني عبس. يقول: ذهب روعهم عندما انتهوا إلى هذه المواضع.

(2)

هو أبو سفيان بن حرب، كما في سيرة ابن هشام 2/ 75. والبيت من شواهد التصريح 2/ 46، والهمع 3/ 218، والأشموني 2/ 263، وفي العيني 3/ 429.

(3)

س: بها.

(4)

الكتاب 1/ 264. وهو من شواهد ابن الشجري في أماليه 1/ 222، وابن يعيش على المفصل 4/ 101، 8/ 35، والمغني 422، والرضي على الكافية 2/ 152، والهمع 2/ 105، وفي الخزانة 4/ 24.

والشول: واحدها شائلة، وهي التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فخف لبنها. وناقة مُتْل ومتلية: يتلوها ولدها، أي يتبعها.

ص: 122

يُقَال: من لدن زيدٍ إلى دخوله الدارَ، والبيت على هذا المعنى، فلما لم يصحّ جرّه على هذا التقدير أُضمرِ ما يَصِحُّ معه الكلامُ، فصار المعنى: من لَدُنْ كونها شولاً إلى إتلائها. بخلاف: لَدُنْ غدوةً، فإنه لا مانع من الجرّ، فلما نصبت دلّ على أن ذلك من جهة ((لَدُن)) لا من جهة الإضمار.

فإن قيل: ما فائدةُ قولِ الناظم: ((فَجُرّ)) ومعلوم أن الإضافة لا يكون معها إلا الجرّ، فهو إذاً حشوٌ من غير مزيد فائدة.

فالجواب: أنه إنما ذكر الجرّ لِذِكْرِ مُقَابِلِه وهو النصب.

وهنا مسألتان:

إحداهما: أنه أتى بلَدُن تامّةً غير محذوفة النون، ثم أسند الحكم إليها، فلابَّد أن يؤخذ له مقيّدا بتمامها، وينبني على ذلك أمران، أحدها: أنها لا تنصبُ إلاّ على لغة التمام، وأما إذا حُذِفت نونُها فلا. والنقلُ موافقٌ لهذا التقييد، فلم يُسمَع منهم مثل: لَدُ غدوةً، وانما تكلّموا به مع النون. والثاني: الإشعارُ بوجه النصب، وذلك أن من نَصَب شبَّه نون لَدُنْ بنون عشرين، حين كان بعض العرب يقول: لَدُ، من غير نونٍ، فانتصب غُدوةً انتصاب الاسم بعد المقادير، كقولك: عشرون درهماً. هذا معنى تعليل سيبويه، فيكون على هذا غدوة منصوباً على التمييز لإبهام لدن (1)، كما استبهم/ العشرون فَفُسرِّ، وهذا حسنٌ من التنبيه.

387

والثانية: أَنه أسند النصب إِلى لَدُن، لقوله:((بِهِ عنهُم نَدَرْ))، أَي: بلدن، وأراد أنه منصوبٌ عن تمامه، كما انتصب الدِّرهم عن تمام العشرين بالنون.

(1) في النسخ: ((لإبهام غدوة)). ولا يستقيم الكلام عليه.

ص: 123

فإن قيل: فَلِم نَسَبَ العملَ إلى لَدُنْ وهي لم تعمل في الحقيقة؟

قيل: بل هي العاملةُ لأنها شُبِّهت بالعشرين، والعشرون شُبَّه في عمله بالضاربين، والضاربون هو العامل في بابه، فكذلك ما تفرَّع عليه بالتشبيه، فإذا سمعتَ النصبَ عن تمام الاسم فمعناه أنّ الاسم هو الناصب، إلا أنهم عبَّروا بتلك العبارة إِشارةً إلى أنه لولا التمام لانجرَّ بالإضِافَةِ، كما أنَّ الضاربين زيداً لولَا تمتمه بالنون لانجرَّ فقلت: ضاربو زيدٍ. فافهم هذا من اصطلاحهم، وأيضاً فلقوله:((به)) فائدةٌ أخرى، وهو التنبيه على أن ((غدوة)) ليس منصوباً بإضمار فعلٍ، كما كان ((شولاً)) في قوله:((من لَدُ شولاً)) منصوبا بإضمار فعلٍ. وهو تنبيه حسن أيضاً.

* * *

ومَعَ مَعْ فيها قليلٌ ونُقِلْ

فَتْحٌ، وكسرٌ لسكونٍ يَتَّصِلْ

هذا أيضاً من الظرف اللازمة للإضافة كغيره مما تقدَّم ذكرُه، نحو قولك: جئتُ مَعَك، وذهبتُ مَعَ زَيدٍ، وأتيتُ مَعَ الناسِ. ودلَّ على لزومه للإضافة من كلامه مساقُه له في جملة ما يلزمُ الإضافةَ.

فإن قلت: إنّ ((مع)) على وجهين، أحداهما هذه التي مَثّلت، والأخرى تأتي [غير (1)] مفتقرة إلى الإضافة نحو قولك: جاء الزيدان معاً، وجاء الناسُ معاً، ومنه قول امرئ القيس (2):

(1) سقط من الأصل.

(2)

ديوانه 19 وعجزه: كجلمود صخر حطَّه السيل من علِ.

والبيت من شواهد الكتاب 4/ 228، والمحتسب 2/ 342، وابن يعيش على المفصل 4/ 89، والمغني 154، وشرح شواهد المغني للبغدادي 3/ 360، 373.

ص: 124

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبرِ معاً

وقوله (1):

...

وشعبا كما معاً

وما أشبه ذلك، وقد قال السيرافي: إن معاً أُردت يجوز أن تكون ظرفاً وحالاً، وإنما أضيف في الوجه الأول إلى غير الأول، فإذا قلت: ذهبا معاً، فليس في الكلام غير المذكورين تضيفُ ((مع)) إليه، ولا يجوز أن تضيف ((مع)) إليهما، لأنه لا يصحُّ أن يُقال: ذهب زيد مع نفسه، فلذلك أفردت عن الإضافة هنا (2). فعلى الجملة قد ثبت استعمالُ ((مع)) الظرفية على وجهين، فكيف يصحّ جعلُها لازمةً للإضافة مطلقا؟

فالجوابُ: أن الذي استُقرِئَ من كلام الناظم صحيح، ولا تكون إذا أُرِدَت عنده ظرفاً، بل تكون بمعنى جميع، فتجري مجراه في الأحوال كلها من كونها تقع حالاً، نحو: ذهب الزيدان معاً، ومنه قول المرقِّش (3):

بِأَنّ (4) بنى الوخْم ساروا معاً

بجيش كضوءِ نجوم السَّحَرْ

وخبراً نحو: الزيدان معاً، أي مجتمعان، ومنه قول الصِّمَّة بن عبدالله، ويُروَى لقيس بن الملوَّح، وهو من أبيات الحماسة (5):

(1) من بيت سيأتي بتمامة بعد قليل.

(2)

هذا معنى كلام السيرافي، وليس بلفظه، انظر شرح السيرافي، باب الظروف المبهمة 4/ 124.

(3)

المرقش الأكبر، ديوانه، مجلة العرب، الجزء العاشر من السنة الرابعة، وقبله:

أتتني لسان بني عامر فحلت أحاديثها عن بصر

(4)

في الأصل: فإن.

(5)

الحماسة بشرح المرزوقي 1215، والعيني 3/ 431.

ص: 125

حَنَنْتَ إلى رَيَّا ونَفْسُك باعَت

مَزَارك من ريَّا وشَعبا كما مَعِّا

وقال حاتم (1):

أكفُّ يَدِي عن أن يَنَال التماسُها

أكفَّ صحابي حين حاجتُنا معاً

من أبيات الحماسة ..

وما قاله السيرافي وابن خروف وغيرهما من الظرفية، لا يلزم المؤلِّفَ القولُ به مع/

388 أنَّ ظاهر.

كلام سيبويه موافقٌ لما ارتكبه في التسهيل وشرحه، مع موافقته لجميعٍ في المعنى، وجميعٌ لا يكون ظرفاً، وهو المفهوم هنا؛ قال سيبويه:((وسألت الخليل-رحمه الله عن معكم، ومعَ، لأيِّ شيء نصبتها؟ فقال: لأنها استُعمِلَتْ غير مضافةٍ اسماً كجميع، ووقعت نكرة، وذلك قولك: جاءا معاً، وذهبا معاً)). يعني أنها انتصبت كما انتصب جميعُ، قال:((وقد ذهبوا مَعَه، ومِنْ مَعِهِ، صارت ظرفاً، فجعلوها بمنزلة أمام وقُدَّام))، يعني إذا لم يفردوها، فهذا الكلام غيرُ ما فُهِم من مقصود الناظم.

فإن قيل: فإذا كانت كذلك فكان الواجبُ أن تُرفَعَ إذا قلت (2): الزيدان معاً، فتقول: معٌ، كما تقول: الزيدان جميعٌ.

(1) ديوانه 183. والبيت في الحماسة 2/ 343، والهمع 3/ 228.

(2)

في الأصل: ((قيل)).

ص: 126

فالجواب: أنّ معاً من الثلاثي هنا الذي لم يُحذَفْ منه كفتىً، لا (1) أنه محذوف كَيَداً. والمسألة مختلفٌ فيها، فيونُس والأخفش على أنها كفتىً، وسيبويه والخليل على أنها كيداً. والأصح ما ذهب إليه يونسُ بدليل المعنى واللفظ، والكلام في صحَّة مذهبه يطولُ، وليس مقصوداً هنا.

وإذا ثبت هذا كلَّه فمع المذكورة هنا هي اللازمةُ للإضافة، ولم يتعرض للأخرى إِذْ ليس لها في هذا البابِ مدخَلٌ.

وقوله: ((ومَعَ مَعْ فيها قليل))، يعني أنَّ الوجه فيها أن تكون مفتوحة العين، وهو مشهور كلام العرب، فتقول: قعدتُ مع زيدٍ، وجئت مَعَك. وما أشبه ذلك.

وانشد سيبويه للراعي (2):

يشِي مِنْكُم وَهَوايَ مَعْكُمْ

وإن كانَتْ زيارتُكم لِمَامَا

ثم يتعلّق بهذا الكلام مسألتان:

إحداهما: أنّ مَعَ اسم من الأسماء إذا كانت مفتوحة العين، إذ لو كانت عنده حرفاً لذكرها في حروف الجرّ دون هذا الباب، وهذا مالا أعلم فيه خلافاً. وأما الساكنة العين فالظاهر من الناظم أنها اسم كذلك؛ إذ لم يُفَرِّق بينهما في الحكم، بل أشعر بأنها [(3) هي قوله: مَعْ فيها قليل. يريد أنَّ للعربِ استعمالين في اللفظ، ولم يقل إنها (3)] مع السكون حرف

(1) في الأصل: ((إلا أنه)). وهو خطأ.

(2)

الكتاب 3/ 287 منسوبا إلى الراعي، وهو لجرير في ديوانه 410. والبيت في أمالي ابن الشجري 1/ 245، 2/ 254، وابن يعيش 2/ 128، 5/ 138، والتصريح 2/ 48، والأشموني 2/ 265، والعيني 3/ 432.

(3)

سقط من صلب الأصل.

ص: 127

[(1) فَدَلّ على أنه مخالفٌ لمن قال: إنها مع السكون حرف (1)]. وقد حُكِي عن النحاس أن النحويين مجمعون على أنها حرفٌ، قال المؤلف:((وهذا منه عَجَبٌ، لأن كلام سيبويه مشعر بلزوم الاسمية على كلّ حالٍ، وأن الشاعر إنما سكنّها اضطراراً)).

والحاصل أن المسألة مختلف فيها، وقد رَجَّح في الشرح الاسميةَ بأن المعنى في الحركة والسكون واحدٌ، فلا سبيل إلى الحرفية؛ إذ لا يثبت ذلك فيها إلاّ بدليل، والأصل عدمه، وقد ثبتت الاسميّة مع الحركة باتفاق فيسُتَصْحَبُ الأصلُ حتى يَرِد ما يَخرُجُ عنه، وهذا معارضٌ بالسكون، فإنه لا يصحُّ في اسم معرب سكونٌ في التركيب من فتحَ بغير موجب. وقد يجاب بأن يُدَّعى البناء على هذه اللغة لتضمّنها معنى حرف المصاحبة، وضُعِ للمصاحبة حرفٌ أو لا، ولا يقال: إنها قد استعملت مفردةً في قولهم: معاً، وإذا استعملت مفردةً ونكرةً أيضاً، فقد دَخَلها التمكّن فلا تبنى؛ إِذْ لقائلٍ أن يدّعي أنهما لفظان متباينان، وكذلك نقول: إنها مع المحَّركة العين مختلفتان استدلالاً بالأثر، ولا يلزم على ذلك محذورٌ، أما إن قلنا برأي سيبويه والخليل أَنَّ السكون للاضطرار فلا إشكال، ولكن يأباه/ رأي الناظم لما سيجئ بحول الله.

389

والمسالة الثانية: أن قوله: ((مَعْ فيها قليل))، يدلّ على أن السكون ليس مختصاً بالضرورة، بل هو واقعٌ في الكلام؛ قد نُقِل عن الكسائي أن ربيعة تقول: ذهبتُ مَعْ أخِيك، وجئت مَعْ أبيك، بالسكون، وعليه حمل المؤلفُ بيت الراعي:

(1) عن أ، س.

ص: 128

يشيِ منكُم وهَواي مَعْكُمْ

وهذا النقل يقتضي خلاف ما ذهب إليه سيبويه من أن السكون اضطرارٌ شعريٌّ؛ إذ لم يثبتُ عنده لغةً، وإذا ثَبَتَ لغةً، وإذا ثَبَتَ لغةً فلا يقالَ لأحدٍ، لسيبويه من السماعِ، ومن حَفِظ فمحفوظُه حجةٌ على من لم يحفَظ.

ثم قال بعد إثباتِ سكون العين: ((ونُقِل فتحٌ وكسرٌ لسكونٍ يتصل)) يعني أنه إذا اتصل بمَعْ الساكنةِ العينِ ساكنٌ بعده، فالمنقول عن المُسْكِنينَ فيها وجهان: الفتح والكسر، فالفتح نحو: سرت مَعَ القوم، ومْعَ ابْنِك. والكسر نحو: سرتُ مَعِ ابنِك، ومَعِ القومِ. وهذا ممّا يدلّ على أن السكون بناءٌ لا عارضٌ لموجبٍ غيرِه. ووجه الكسر ظاهرٌ على أصلِ التقاء الساكنين، وأما الفتح فللإتباع، أو لاعتبار اللغة الأخرى.

فإن قيل: لِمَ حملْتَ قوله: ونُقِل كذا، على إنه يريدُ في لغة التسكين وحدها؟

قيل: لأنَّ مَعَ في اللغة الأخرى معربة، وحركة الإعراب لا تختلف مع الساكن، فلم يفتقر إلى التنبيه عليها، وإنما ينبغي التنبيه على ما نَبَّه عليه. فقوله: ونُقِل كذا، إنما يريد في لغةِ ربيعةَ خاصة.

* * *

واضمُمْ بناءً غيراً أن عَدِمَتْ ما

له أُضِيفَ، ناوياً ما عُدِما

هذا فصلٌ يذكر فيه حكم اُسماء لازَمَتِ الإضافةَ، إلا أنها قُطعت عنها لفظا، فَبُنِيت عند ذلك، فيعني أن غيرا يُضمّ آخرها ضمةَ بناءٍ لا ضَمَة إعرابٍ إذا قُطِعت عن الإضافة وكانت مرادةً معنىً، فتقول: جاء القومُ الفُلانيُّون لا غيرُ،

_________

ص: 129

وجاء أخوك ليس غيرُ. وما أشبه ذلك.

وقولُه: بناءً، تنكيتٌ على من يقولُ: إن الضمَّة في قولك: جاء بنُو فلانٍ لا غيرُ، أو: ليس غيرُ-ضمةُ إعرابٍ، وهو الأخفش (1)، فيرى أنَّ التنوين نُزِعَ للإضافة، لأنَّ المضاف إليه ثابت في التقدير. وقد جاز ذلك ابنُ خروفٍ ايضاً، على أن يكون ((غير)) اسم ليس في قولك: ليس غيرُ، وقطعت عن الإضافة لفظاً، وعلى ذلك تكون ((غير)) في قولك: لا غيرُ، مبتدأةً محذوفةً الخبر إن كان يوجد، وإلا فقد نَصُّوا على أن العرب لا تقطع غيراً عن الإضافة إلا بعد ليس خاصة، فإن وقعت بعد غيرها من أدوات النفي لم تقطع. وأكثرُ النحويّين على ما رآه الناظم من انه ضَمُّ بناءٍ، فإن المقطوع عن الإضافة مع إرادتها لا يعدو في الشائع أمرين: البناء على الضم، او إلحاق التنوين، فالأول كقبل وبعدُ، والثاني ككلٍّ وبعضٍ.

ويبقى النظر في وجه بنائها، فقالوا: إنها محمولةٌ على قبل وبعد لشبهها بهما في الإبهام والقطع عن الإضافة. وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله. وقد قيل/: إنها بُنِيت لوقوعها موقع الحرف، 390 الأن العرب تقول: ليس إلاّ، في معنى: ليس غيرُ، فكأنها لما وقعَتْ موقع إِلَاّ عُومِلت معاملته في البناء. وإنما بُنيت على حركةٍ للمزيّة التي لها على مالم يُعرَب قطُّ، وكانت الحركة ضمّةً حملاً على قبلُ وبعدُ.

فإن قيل: هذا البناءُ، إلى أيِّ نوع من أنواع شَبَهِ الحرفِ يرجعُ؟

فالجواب: أنَّا إِنْ فَرَضْنا أن كلَّ بناء جائزٍ أو لازمٍ راجعٌ إلى شَبِه

(1) مغنى اللبيب 157 - 158.

ص: 130

الحرف فحينئذ يلزمُنا الجوابُ، فنقول: أَمّا على القول بالبناء حملاً على قبلُ وبعدُ فسيذكر بعدُ، وأما على القول الآخر فكأنها ضُمّنت معنى إِلَاّ، أو حُمِلت على ما تضمّن (1) ذلك، فيرجع إلى شبه الحرف المعنوي.

ثم نرجع إلى كلامه فنقولُ: إنه شَرَط في هذا البناءِ المذكورِ شرطين:

أحدهما: أن تُعدَم الإضافةُ لفظاً، وذلك قولُه:((إن عَدِمت ماله أُضِيف))، أي ك ما أُضِيفْ غَيرُ له، نحو قولك: قام زيدٌ ليس غيرُ. وهذا الشرط مبنيٌّ على جواز قطع غير عن الإضافة، وإلا فلو كان غير جائز لم يتصوّر هذا الحكم الذي هو البناء. فأما إذا لم تُعدَم الإضافة فمفهوم هذا الشرط ألاّ يُضَمَّ ضَمَّة بناءٍ، بل يبقى على أصله من الإعراب، فتقول: جاءني بنو فلانٍ ليس غيرُهم، وليس غَيرَهم، ولا غَيرهُم، ورأيت بني فلان لا غَيْرَهم، وما أشبه ذلك.

و((ما)): في موضع نصب بَعَدِمت. والضمير في ((له)): عائد على ما، وهي واقعة على ما أضيف إليه غير. والذي في ((أُضيف)): عائد إلى غير، كأنه قال: إن عَدِمت الاسمَ الذي أُضيف إليه غيرُ.

والثاني من الشرطين: أن يكون المضافُ إليه مراداً في التقدير، ولا يكون مُطَّرحاً جملةً، وذلك قوله:((ناوياً ما عُدِما)).

ناويا: حالٌ من فاعل ((اضمُم)).

وذلك أنك إذا قٌلْتَ: ليس غيرُ، فالمعنى: ليس غيرُ ذلك المعنى الذي حَدَّثتُك به. إشارةً إلى ما تقدم ذكره في الكلام، كائناً ما كان. فلو لم يكن المضاف إليه منويا ولا مُقَدَّر الذكر، لم يُبنَ غيرُ، بل يجري مجرى قبل وبعدُ. فتقول: ليس غيرٌ، ولا غيراً، أي: ليس ثَمَّ غيرٌ، بمعنى: ليس ثمَّ مغايرٌ. ووجه

(1) أ: ((تضمن معنى ذلك)).

ص: 131

الإعراب هنا سيأتي ذكره إن شاء الله مبسوطاً، وإن كان ظاهرا لأنه الأصل، ولأن غيراً هنا نكرةً لفظاً ومعنىً، فجرت كسائر الأسماء النكرة غير المفتقرة لما بعدها.

فإن قيل: فقد تقرّر إذاً أن غيراً ليست من الأسماء اللازمة للإضافة، بل هي تُضافُ تارةً، ولا تضافُ أخرى، وإذا كانت كذلك فكيف يجعلها من الأسماء اللازمة للإضافة؟

فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن غيراً أصلُها الإضافة لافتقارها في أصل الاستعمال لما يُبَيِّن معناها، كقبل وبعدٍ، وكلٌ وبعضٍ، وما جاء فيها من قصد التنكير أمرٌ طارئ عليها، على قصد تناسي المضاف إليه، مع أنك تجده ملحوظاً من طرفٍ خفيٍّ، لكنه أُهمِل في محصول الاستعمال، فالقياس يطلبه والقياسُ يلغيه. وإذا (1) تعارض أصل القياس وأصل الاستعمال فالمقدّم أصل الاستعمال، فبهذا الاستعمال عُدَّ نكرةٌ غير منويّ الإضافة، وإلاّ فلا فَرْقَ في القياس/ يدل على ذلك المعنى الأصلي في 391 غير، وربما يَصعُبُ فهمُ هذا التقرير، ولكنه واضح في علم الأصول العربية، مقرَّرٌ في الكلام على الأصل والفرع.

والثاني: إن سُلِّم أن لها وجهين في الاستعمال، وهما الافتقار إلى الإضافة وعدمه، فالناظمُ إنما تكلَّم على القسم اللازم لها، لِمَا يَنْبَنِي له عليه من الأحكام، وتَرَك ذِكْر غَيره بأن أخرجه بالشرط الثاني، إذ لا حاجةَ له إليه في حكم البناء، وهذا ظاهر.

ثم أخذ في ذِكْر ما جرى مجرى غير فقال:

(1) في الأصل: ((وأما)).

ص: 132

* * *

قبلُ كغيرُ، بعدُ، حسبُ، أوَّلُ

ودُونُ، والجهاتُ أيضاً، وَعَلُ

حَذَف هنا حرف العطُف، والمرادُ: وبعدُ وحسبُ وأوّلُ. وهي مبتدآتٌ حُذِف خبرُها لدلالةِ قولِه ((كغيرُ)) عليه. والتقدير: وبعدُ وحسبُ وكذا كغيرٍ.

يعني أن الأسماء كلها، الظروف منها وغيرها، وهي: قبلُ وبعدُ وحسبُ وأولُ ودونُ، والجهاتُ السِّتُ- وهي: فوقُ وتحتُ، وقُدّامُ وخلفُ، وأمامُ ووراءُ- وسائر أسمائها، وعلُ حكمُها حكمُ غيرٍ في البناء على الضمّ بالشرطَين المذكورين فيها، وهما: أن يكون المضافُ إليه غيرَ مذكورٍ معها في اللفظ، وأن يكون منويُّ الذكر، مقدَّر الظهور. فلم لم يتوفَّر الشرطان لم يَجُز البناءُ، بل يلزمُ الإعراب، حسب ما يُذكر بعدُ' إن شاء الله.

أما قبلُ وبعدُ فمثالُ ذلك فيهما: {للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ} أي: من قبل الحوادِث المذكورة ومن بعدها.

وأما حسبُ فإنك تقول: هذا رجلٌ حسبُك من رجلٍ، وهذا زيدٌ حسبُك من رَجُلٍ. وتقطعه عن الإضافة فتقول: مررت بزيدٍ فحسبُ يا فتى، وأخذتُ درهماً فحسبُ، كأنه قال: فحسبُك، أو: فحسبي، فحذف لدلالة المعنى، وبنى حسبُ على الضمّ.

وأما أوّل فكقولهم: ابدأ بهذا أولُ. يريد: أولَ الأشياء، لكنه حذف المضاف إليه. ومنه قولُ مَعْنِ بنِ أوس (1):

(1) معاني القرآن للفراء 2/ 320، والمقتضب 2/ 246، والمنصف 3/ 35، وأمالي ابن الشجري 1/ 328، 3/ 263، وابن يعيش على المفصل 4/ 87، 6/ 98، والرضي على الكافية 3/ 461، والخزانة 8/ 289. وديوانه 93.

ص: 133

لعُمرك ما أدرِي وإنِّي لأوجلُ

على أيِّنا تَعدُوا المنيّة أولُ

وأما دونُ فنحو قولك: جلست من دونُ. تريد: من دونِ ذلك المكان المعروف. أنشد سيبويه (1):

لا يحملُ الفارسَ إلَاّ المَلْبُونْ

المَحْضُ من أمامِه ومن دُونْ

فالقافية هنا لو كانت مطلقة الرَّوِيّ لكان مبنياً على الضمِّ، لأنه في نية الإضافة.

وأما الجهات فتقول فيها: جلستُ عند زيدٍ من خلفُ، أو: من أمامُ، أو: من قدّامُ، أو: من فوقُ، أو: من تحتُ. وما أشبه ذلك. ومنه ما أنشد سيبويه، لأبي النجم (2):

أقبُّ من تحتُ عريضٌ من علُ

وقال الآخر (3):

(1) الكتاب 3/ 290، والتصريح 2/ 52، واللسان: دون، لبن.

وفرس ملبون: يغذى باللبن. والمحض: اللبن الخالص.

(2)

الكتاب 3/ 290، والخصائص 2/ 363، والأشموني 2/ 262، واللسان: علا.

والأقبّ: الضامر، والقبب: دقة الخَصْرِ وضمور البطن، والأنثى: قبَاء.

(3)

هو طرفة، ديوانه 113. والبيت المثبت ملفق من بيتين كما في الديوان، هما

أدّت الصنعة في أمتُنها فهي من تحت مَشَيحات الحُزُمْ

وَتفرّي اللحم من تعدائها والتغالي فهي قبٌّ مالعَجَمْ

الصنعة: القيام على الخيل بالعلف. مشيحات: جادات سريعات. وقيل المشيح: الذي لحق بطنه بظهره فضمر وارتفع حزمه. تفري: تقطع وذهب. والتغالي: التباري في العدو. والعجم: النوى. شبه الخيل في صلابتها بالجم وهو النوى.

ص: 134

وتَفَرْي اللحمُ من تَعْدَائِها

فَهْيَ مِنْ تَحتُ مُشِيحاتُ الحُزُمْ

وقال الآخر (1):

تَظْمأ من تحتُ وتَرْوَى من عَالْ

وينشد هكذا:

ضَمْأَي النَّسا من تحتُ رَيَّا من عَالْ

وقال أيضاً (2):

قَبَّاءُ من تحتُ وريَّا مِنْ عَالْ

وأنشد الفراء والأخفش وغيرهما (3):

إذا أنا لم أُومَنْ عَليكَ وَلم يكنُ لقاؤُك إِلَاّ من وَراءُ وراءُ

وقال/ رجلٌ من بني تميم (4):

392

لَعَن الإله تعِلَّةَ بن مُسَافِرٍ

لَعْناً يشَنُّ عَلَيه مِنْ قدَّامُ

والقوافي مرفوعة في هذا وما قبله.

وأما عَلْ فمعناه معنى فوق، تقول: جئتُ من عَلُ، كما تقول: جئت من

(1) الرجز لدكين بن رجاء، انظر في شرح المفصل لابن يعيش 4/ 89، والمخصص 13/ 144، واللسان: ظمأ، وعلا.

(2)

ابن يعيش على المفصل 4/ 89.

امرأة قبَّاء: دقيقة الخصر، ضامرة البطن.

(3)

معاني القرآن للفراء 2/ 230، وابن يعيش على المفصل 4/ 87، والهمع 3/ 195، والتصريح 2/ 52، والصحاح واللسان: ورى: ونسب في اللسان إلى عُيي بن مالك.

(4)

أمالي ابن الشجري 1/ 329، والتصريح 2/ 51، والهمع 3/ 196، والأشموني 2/ 268، والعيني 3/ 437.

ص: 135

فوقُ. ومنه قولُ أوسٍ (1)

فَمَلَّكَ باللِّيطِ الذي تحتِ قشْرِها

كَغِرْقِئِ بيضٍ كَنَّه القَيْضُ من عَلُ

وأنشد السيرافي (2):

ولقد سَدَدْتُ عليك كلّ ثنيَةٍ

وأتيت فوق بني كُليبٍ من علُ

هذه جملة ما أتى به الناظم من السماء التي تُبنى على الضم إذا قُطعت عن الإضافة مع بقاء معناها. ودخل في الجهات الستِّ: يمنةُ وشأمةُ. ولكن السماع فيها قليل، والقياس قابل. وكذا كل ما وقع على الجات الست كَتُجاه وقُبالَةَ، وحِذاء وإزاء وتلقاء، وأعلى وأسفل. وما كان نحوها من الجهات التي تقع ظروفا، كل ذلك داخلٌ تحت قوله:((والجهات أيضا)). وسببُ البناء فيه كلِّها الشبه بقبل وبعد في الإبهام والقطع عن الإضافة. وأما قبلُ وبعد فلمناسبة الحرف، ومناسبتهما له من جهة أن أصلهما الإضافة واكتُفِى بمعرفة المخاطب، فَحُذِف المضاف إليه، فلما بقى المضاف وَتَضَمَّن معنى الإضافة وجب أن يُبنيَ، لأن بعض الاسم مبني.

(1) ديوانه 97. وفي الأصل، أ: ((فمن ذلك)) بَدَلَ ((فَملّكَ)). والبيت في الخصائص 2/ 363، 3/ 172. ملّك: شدد، أي: ترك من القشر شيئا يتمالك به لئلا يبدو قلب القوس حتى لا تنشق. والليط: القشر. والقيض: قشر البيضة الغليظ. والغرقئ: القشر الرقيق.

(2)

البيت للفرزدق، ديوانه 2/ 161، وروايته فيه:

إني ارتفعت عليك ثنية وعلوت

...

...

وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل 4/ 89، والتصريح 2/ 54، والهمع 3/ 196، وفي العيني 3/ 447.

ص: 136

وقال في الشرح المؤلِّفُ: إنهما وغيرهما مما تقدم بُني لشبه الحرف لفظا من قَبلِ الجمود، وكونها لا تثنى ولا تجمع، ولا يخبر عنها، ولا تصغَّر (1)، ولا يُشتق منها. وبالجملة لا تتصرّفُ تصرّف السماء. وشبهه معنى من جهة الافتقار لما يُبين معناها لزوما، قال: فكان مقتضى هذا أن تُبنى أبداً، إلا أنها أشبهت الأسماء التامة الدلالة بأن أُضيفت إضافةً صريحةً، وبأن جُرِّدت تجريداً صريحاً قصداً للتنكير، فوافقتها في الإعراب، فإذا قُطعت عن الإضافة ونُوِى معنى الثاني دون لفظه أشبهت حروف الجواب في الاستغناء بها عن لفظ ما بعدها.

والحاصلُ لها الآن ثلاثةُ أحوال: حالُ التصريح بترك الإضافة عند قصد التنكير، وحالُ التصريح بالإضافة عند قصد التعريف، وحالُ تركِ الإضافة لفظاً وإرادتها معنى، فكان البناءُ مع هذه الحال الأخيرة أليقَ لأنها على خلاف الأصل، وبناءُ الاسم على خلاف الأصل، فَجَمع بينهما التناسبُ، وتعيّن كون الإعراب مع الحالين الأخيريين لأنهما على وَفْقِ الأصل، وإعراب الاسم على وفق الأصل. وإنما بُنيت على حركة للمزيّة الثابتة لها على مالم يُعْربْ قَطُّ، وكانت ضمةٌ لأنها حالة لا تعرب عليها قبلُ وبعدُ، وحًمِلت البواقي عليها، أو لأن الفتحة قد استحقَّها الإعراب ظرفا أو حالاً، والكسرة لم يُبن عليها لإيهام الجرّ بالإضافة، فلم يبق إلا الضمةُ.

(1) كذا في النسخ، وهو خطأ لعله من الناسخ، فالمعروف أن قبل وبعد تصغَّران، وعبارة ابن مالك في شرح التسهيل، ورقة 176، هي: ((ويستوجبان البناء على الضمّ إذا قطعا لفظا لا معنى، وذلك أن لهما مناسبة للحرف معنوية ولفظية، أما المعنوية فمن قبل أنهما لا يفهم تماما ما يراد بهما إلا بما يصحبهما. وأما اللفظية فمن قبل جمودها وكونهما لا يثنيان ولا يجمعان ولا ينعتان ولا يخبر عنهما، ولا ينسب إليهما ولا يضاف. ومقتضى هاتين المناسبتين أن يبينا على الإطلاق، لكنهما أشبها الأسماء المتمكنة بقبول التصغير والتعريف والتنكير

)).

ص: 137

فإن قيل: إلى أي وجهٍ شبه الحرف يرجعُ؟

فالجواب: أنا قلنا: أن الناظم لم يحصر أوجه شبه الحرف في الأنواع الأربعة، فلا إشكال، لأن ما كر هنا نوعٌ آخرٌ من الشبه، وهو الشبه بحرف الجواب. وكذلك/ إن قلنا: إنه ذكر 393 الشبه اللازم المقتضي للبناء اللازم، وأما أن قلنا: أنه حصر أنواع الشبه في الأربعة، وأن البناء اللازم وغير اللازم يرجع إليها فنقول: إنه يرجع إلى الافتقار الأصيل لأنه يشبههه، أو للشبه المعنوي لتضمنه معنى الإضافة، كما أشار إليه السيرافي. ولما كان هذا ابناء- كما تقدم- مشروطاً بشرطين، وهما عدم الإضافة لفظاً وأرادتها معنى، كان ما تخلف عنه شرطٌ منهما في هذه الأسماء المتقدمة يرجع إلى الإعراب، وذلك ما كان مضافاً في اللفظ، نحو: جلست خلفَك وأمامك وقُدَّام زيد، وجئت قبلَ زيد. ولا إشكال في هذا، أو ما كان غير مضافٍ ولا منويّ الإضافة، وهذا في حكم إعرابه نظرٌ ما يتكلم عليه في البيت بعد هذا، وهو قوله:

وأعربُوا نَصْباَ إذا ما نكَّرا

قبلاً، وما مِنْ بعدِ قد ذُكِرا

الواو في ((أعربوا)) ضميرُ العرب، يعني أن العرب أعربوا قبلاً وما ذكر الناظم بعده مِنْ: غيرٍ، وبعدٍ، وحسبٍ، وأوّلٍ، والجهات، وعلٍ. إذا اعتُقد تنكيرُها وخلوُّها من تقدير الإضافة وتخفيفها (1) - وذلك بالنصب- وهو قوله:((وأعربوا نصباً)). فتقولُ: جئتُك قبلاً- تريد: في زمانٍ متقدم مطلقاً، لا تريد زماناً معيناً- وجئتك بعداً، كذلك في زمان

(1) في الأصل، س:((وتحقيقها)). وهو خطأ.

ص: 138

مّا متأخَّرٍ. حكى ذلك سيبويه عن بعضِ العرب. وكذلك: جئتُك أولاً، وجلستُ فوقاً وتحتاً وخلفاً وأماماً وقدّاماً ووراءً. وما أشبه ذلك. ومن ذلك ما أنشده (1) من قول الشاعر:

فَساغَ لي الشرابُ وكنتُ قبلا

أكاد أَغَصُّ بالماءِ الفراتِ

وأنشد السيرافي عن أبي زيد (2):

حَبوتُ بها بني عمرو بن عوفٍ

على ما كان قبلاً من عتابِ

ويروى: قبلٌ من عتاب

وأنشد ابنُ خَروف عن الفراء (3):

هَتَكْتُ بيوتَ بني طَريف

على ما كان قبلٌ من عتابِ

بالرفع.

(1) في الأصل: ((أنشدوه)). ويعني ابن مالك، والشاهد عنده في شرح التسهيل، ورقة 177. وهو لعبدالله بن يعرب أو يزيد بن الصعق استشهد به الفراء في معاني القرآن 2/ 321، وابن يعيش في شرح المفصل 4/ 88، والرضي في شرح الكافية 1/ 253، 3/ 168، والشيخ خالد في التصريح 2/ 50، والسيوطي في الهمع 3/ 194، والأشموني 2/ 269 في الخزانة 1/ 426، 6/ 510.

ويروى: بالماء الحميم.

(2)

البيت لخالد بن سعيد المحاربي، جاهلي. وهو في نوادر أبي زيد 445، بروايتين، أولاهما على ما كان قبلٌ من عتاب

والأخرى:

على ما كان قبلُ من العتاب.

(3)

معاني القرآن للفراء 2/ 321.

ص: 139

وقال سيبويه: ((وتقول في النصب على حدّ قولك من دونٍ، ومن أمامٍ:

جلست أماماً، كما قلت: يمنةً وشأمةً، قال الجعديّ (1):

لها فَرَطٌ يكونُ ولا تَراهُ

أَماماً من مُعَرَّ سنا ودُونَا

فإن قيل: تخصيصُه النصبَ في هذه الأشياءِ إذا قُصِد تنكيرهُا دون الجرّ والرفع، ظاهرُ التحكُّم من غير دليلٍ، وأمرٌ لا يساعده عليه سماعٌ؛ فإن أكثر ما ذُكِر يدخل فيه الجرُّ وغيره؛ ألا ترى أنك تقول: أتيتُه من فوقٍ ومن تحتٍ، وفي بعض القراءات المحكيَّةِ:(لله الأمرُ من قبلٍ ومن بعدٍ (2))، ومن دونٍ، ومن دُبُرٍ (3)، وما أشبه ذلك. قال سيبويه:((وسألته- يعني الخليل- عن قوله: من دونٍ، ومن فَوقٍ، ومن تحتٍ، ومن قَبْلٍ، ومن بَعْدٍ، ومن دُبُرٍ، ومن خلفٍ- فقال: أجروا هذا مُجرى الأسماء المتمكنة لأنها تضافُ، وتستعمل غير ظرفٍ)). ثم قال: ((وكذلك من أمامٍ، ومن قُدَّامٍ، ومن وراءٍ/، ومن قبُلٍ، ومن دُبُرٍ)). قال: ((وزعم الخليلُ أنهنَّ 395 نكراتٌ كقول أبي النجم (4):

(1) النابغة الجعدي، شعرُ 210. والبيت في الكتاب 3/ 291، واللسان: دون. الفرط: المتقدّمون. يصف كتيبة إذا عرست في مكان كان لها فضول متقدمة ومتأخرة لا تقع العين عليها لبعدها.

(2)

الآية 4 من سورة الروم، وقد نسبت هذه القراءة إلى أبي السمال والجحدري وعون العقيلي كما في البحر المحيط 7/ 162، ولم يَحْك الفراء في هذت قراءة ولكنه أجازها عربية، انظر المعاني 2/ 320 - 321، وإعراب القرآن للنحاس 2/ 578 - 579.

(3)

بعده في الأصل: ((ومن خلف)). ولعله زيادة دخلت النصّ من الفقرة التالية.

(4)

الكتاب 1/ 221، 3/ 290، 607، ونوادر أبى زيد 165، والخصائص 2/ 130، 3/ 68، والمنصف 1/ 61، وأمالي ابن الشجري 1/ 306، والإنصاف 406.

ص: 140

يأتي لها أيمُنٍ وأشمُلِ

وزعم أنهنّ نكراتٌ إذا لم يُضفَن 'لى معرفة، كما يكون ايمن وأشمل نكرة. وسألنا العربَ فوجدناهم يوافقونه، يجعلونه كقولك: من يَمْنَةٍ وشَأْمةٍ (1))). ثم ذكر في قُدَ يديمةٍ وَوُريِّئَةٍ مثل ذلك من الجرّ بمن. وليس في هذا كلِّه نزاع، أعنى في صحّة الجرّ فيها بالحرف، وأيضاً فمنها مالا ينصب أبداً، وإنما تجده في السماع مجروراً بمن، وذلك عل في قولهم إذا نَكَّروا وإذا عَرفّوا: من علُ، ومن علِ، وقيل: من عليه، والجميع يلزمه الجرّ بمن، كما تَقدّم، وكما قال امرؤ القيس (2):

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبلٍ مُدُبرٍ معاً

كَجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيلُ مِنْ عَلٍ

وقول أبى النجم (3):

على ما كان قبلٌ من عتابِ

فأين إلزامُ الإعرابِ نصباً؟

وأيضاً فلا أعلم في السماع تنكير حسبَ ونصبه بحيث يقال: لقيت زيداً حسباً، أو: فحسباً. وما اشبه ذلك، وكلامه يقتضيه كما اقتضى نصب ((عل))

(1) الكتاب 3/ 289 - 291.

(2)

تقدّم البيت وتخريجه، انظر ص: 124 - 125.

(3)

تقدّم تخريجه من قريب، ص:139.

ص: 141

حالة التنكير، وذلك غير موجودٍ. وكذلك القول في أوّل، فإنك تقول: مالكذا أوّلٌ ولا آخرٌ، وأتيت الأمر من أولٍ ومن آخرٍ. وما كان نحو ذلك فلا يُقْتَصر به على النصب وحده، فالحاصل أن هذا الموضَع عارٍ عن التحصيل (1)!

وَمَا يَلي المضافَ يَأْتِي خَلَفَا

عَنْهُ في الإِعرابِ إِذَا ما حُذِفَا

وَرُبَّما جَرُّوا الّذيِ أَبقَوا كَمَا

قد كانَ قَبْلَ حَذْفٍ ما تَقَدَّما

لكِنْ بَشْرطِ أَنْ يكونَ ما حُذِفْ

مُماثِلاً لَما عَلَيه قَدْ عُطِفْ

لما كان المضافُ والمصافُ إليه قد يُحذَفُ كل واحد منهما قياساً للعلم به، أتى في هذا الباب بفصل يَذكُر فيه ذلك، وابتدأ بذكرِ حّذْفِ المضاف. فيريدُ أن الاسم الذي يلي الاسم المضاف-وهو المضاف إليه-يأتي في الكلام قائماً مقامَ المضاف وخَلَفَاً منه فيما كان يستحقه من وجوه الإعراب، من الرفع على الفاعلية أو غيرها، والنصب على المفعولية أو ما أشبهها، والجرّ على الإضافة بالاسم أو بالحرف، وذلك إذا حُذِف المضاف. وهذا في الكلام كثيرٌ، ولكن المضاف إليه إذ ذاك على وجهين:

أحدهما: أن يصحّ استبدادُ العاملِ الأول به، ويصلح لأن يكون معمولا له حقيقةً.

والثاني: ألاّ يصحّ ذلك فيه.

(1) انظر في هذا: نشأة النحو للشيخ/ محمد الطنطاوي 278 - 279، وأوضح المسالك 3/ 164 - 167.

ص: 142

فالأول موقوفٌ على السماع لا يُتعدى إلى القياس فيه عنده، ذكره في شرح التسهيل (1)، فإنك إِذا قُلْت: ضربتُ زيداً، وأنتَ تريد: ضربتُ غُلامَ زيد، أو أخا زيد لم يَجُزَ، لأنه لا يُعلم أنّ الغلام هو المراد، لصلاحية ((زيدٍ)) لذلك، لكنه قد يأتي قليلاً اتَّكالاً على قرينةٍ حاليَّةٍ وقتيةٍ أو لعادةٍ مختصةٍ، أو لفَسْرِ الشاعرِ مرادَه، كقولِ عُمَرَ بن أبي ربيعة (2):

لا تَلُمْنِي-عتيقُ-حسبي الَّذي بي

إِنَّ بي-يا عتيقُ-/ ما قَدَ كَفَانِي 396

قال من عُنِي بشعر ابن أبي ربيعة: إن مراده: ابن أبي عتيقٍ. وقال الآخر (3):

عَشيَّةَ فَرَّ الحارثيوَّنَ بَعْدَ ما

دنا نحبُه في مُلْتَقَى القومِ هَو برُ

وإنما أراد: ابنُ أبي هَوْبرٍ (4). كذا قال أهل البَصَرِ (5) بمثل هذا، فمثلُ هذا من المضافات المحذوفة لا يُقاسُ عليها؛ إذ ليست من قبيل ما يُعَهدُ حذفُه وما هو معلومٌ إذا حُذِف، ومن شَرْط الحذفِ العِلْمُ بالمحذوفِ، وأما إذا لم يعلَم فهو لا يجوز حذفُه، لأن طلب علمه مع عدم الدليل ضربٌ من تكليفِ علم الغيب، وهذا يمكنُ إن لم يُرِده الناظم،

(1) شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 180.

(2)

ديوانه 441، والبيت في شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 180، والتصريح 2/ 55.

(3)

ذو الرمة، ديوانه 647، وابن يعيش على المفصل 3/ 23، والهمع 4/ 290، واللسان: هبر.

(4)

في شرح الديوان لأبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي: ((يعني يزيد بن هوبر الحارثي، فقال: هوبر، للقافية)).

(5)

أ: البصرة. وهو خطأ.

ص: 143

ويمكنُ إن أراده.

وأما الثاني-وهو أن لا يستبدَّ العاملُ بالمضاف إليه، ولا يصلحُ له حقيقةً- فهو قياس مُطَّرد، ومنه قوله تعالى حكايةً عن إِخوة يوسفَ-عليه السلام: - (واسأل القريةَ التي كُنَّا فيها (1))، الآية، المرادُ: واسأل أهلَ القريةِ، وقوله تعالى:{وأُشرِبُوا في قلوبهم العِجْلَ بِكُفرِهْم (2)} ، المراد: حُبَّ العِجْلِ، وقوله:{ولكن البَّر من أتقّى (3)} ، (ولكن البَّر من آمن بالله واليوم الآخر (4))، أي: بِرُّ من اتّقى، وبِرُّ من آمن وقوله:{فترى الذيِن في قلوبهم مَرَضٌ يسارعون فيهم (5)} ، يريد: في موافَقَتِهمِ. وقوله تعالى {قَالَ هَلْ يسمعونكم إِذْ تَدْعُون (6)} ، قال الفارسيّ: إنما المعنى: هل يسمعون دعاءكم؟ لأنك لا تقول: سمعتُ زيداً حتى تصل به شيئاً مما يكون مسموعاً، كقولك: كذا، أو يتحدث بكذا. قال: ويدّل على هذا قولُه تعالى: {إن تَدْعُوهم لا يسمعوا دُعاءَكم (7)} ، وقال تعالى:{كلاّ إنا خلقناهم مما يعلمون (8)} ، أي: من أجل ما يعلمون، يريد من أجل الطاعة، كقوله:{وما خلقتُ الجنَّ والإِنسَ إِلا ليعبُدونَ (9)} ، وهو في القرآن كثيرٌ. وقالت العرب: بَنُوا فلانٍ يَطَؤُهم الطريقُ. أي: أهلُ الطريقِ (10). وقالوا: صِدْنا قَنَوين.

(1) الآية 82 من سورة يوسف.

(2)

الآية 93 من سورة البقرة.

(3)

الآية 189 من سورة البقرة.

(4)

الآية 177 من سورة البقرة.

(5)

الآية 52 من سورة المائدة.

(6)

الآية 72 من سورة الشعراء.

(7)

الآية 14 من سورة فاطر.

(8)

الآية 39 من سورة المعارج.

(9)

الآية 56 من سورة الذاريات.

(10)

الكتاب 1/ 213، 3/ 247، والخصائص 2/ 446، واللسان: وطأ.

ص: 144

يريدون: وَحْشَ هذا الموضعِ المختصِّ (1). ومن الشعر قولُ النابغة، أنشده سيبويه (2):

وكان عَذِيرهم بجنوب سِلَّى

نعامٌ قاق في بلدٍ قَفارِ

أراد: عَذِير نعامٍ. وأنشد أيضاً للنابغة الجعدي (3):

وكيف تُواصلُ من أصبحَتْ

خِلَالتُه كأبى مَرْحَبِ

يُريد: كخلالة أبى مَرْحَبِ. وانشد أيضاً للحُطيئةِ (4):

وشَرُّ المنايا مَيِّتٌ بيَن أَهْلِهِ

كَهُلْكِ الفَتى قد أَسْلَم الحيَّ حاضِرُهْ

أي: منيةُ ميِّتٍ. وقال زهير (5):

(1) الكتاب 1/ 213، واللسان، مادة: صيد.

(2)

الكتاب 1/ 214، وهو من شواهد الإنصاف 63، واللسان: قوق، وسلل. وانظر ملحقات شعره 242. قاق النعام: صوّت. وسِلّى: اسم موضع بالأهواز كثير التمر.

(3)

الكتاب 1/ 215، وهو من شواهد المقتضب 3/ 231، والمحتسب 2/ 264، والإنصاف 62، واللسان: رحب. وانظر شعر النابغة الجعدي 26. ودلائل الإعجاز 301.

وابو مرحب: الظلّ، أو الذئب، أو الرجل الحسن الوجه لا باطن له.

(4)

الكتاب 1/ 215، والإنصاف 61. وديوان الحطيئة 45.

(5)

ديوانه 49.

والدوابر: مأخير الحوافز، يقول: أكلت الأرض حوافرها. والأبق: شبه الكتان، أو حبال القنب، والحكمة-بفتحات-: التي على الأنف، جعل لها القدّ حكمات.

ص: 145

القائد الخيلَ منكوباً دوابرُها

قد أُحكِمَتْ حَكمَات القِدّ والأَبَقَا

وقال النابغة الذبياني (1):

يوما بأجودَ منْه سَيبَ نافِلَةٍ

ولا يحولُ عطاءُ اليوم دونَ غدِ

وأنشد الفارسي لكثَيِّر (2):

إذا ما أرادتْ خُلَّةٌ كي نزيلها

أبينا وقلنا: الحاجبَّية أَوّلُ

وقال رؤبةُ بن العجاج (3):

وبلدٍ عاميةٍ أعماؤُهُ

كأنَّ لونَ أرضهِ سماؤُهٌ

وقال امرؤ القيس الكنديُّ (4):

ذَعَرْتُ بها سِرْباً نقياً جلودهُ

وأكرُعُه وشْىُ البُرودِ من الخالِ

(1) ديوانه 47 والسيب: العطاء.

(2)

ديوانه 255، وهو في الدلائل 379.

اراد بالحاجبية عّزة، فهي من بني حاجب بن غفار.

(3)

ديوانه 3، والبيت في أمالي بن الشجري 1/ 366، والإنصاف 377، والمغني 695، والتصريح 2/ 339، وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 111.

(4)

ديوانه 37.

ص: 146

وقال عمران بن حطّان (1):

لكِنْ أَبَتْ لِيَ آياتٌ مُنَّزلةٌ

منها التلاوةُ في طه وعمرانِ

وهو أكثر من أن يحصى.

وقوله: ((يأتي خلفا عنه في الإعراب))، يريد أنه يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف إذا/ حُذِف، 397 فضمير ((يأتي)) عائد على ((ما)) في ((ما يلي المضاف))، وهو المضاف إليه. وفي ((عنه)) عائد على المضاف. وإنما يأتي خلفاً عنه في الإعراب غالباً لا لازماً، لقوله على أثره:((وربّما جَرُّو الذي أبقوا)). فالمضاف إليه عند حذف المضاف على وجهين:

أحدهما: أن يبقى على إعرابه كأن المضاف موجود لم يُحذف. وهو القليل.

والثاني: أن ينوب عنه في إعرابه كما قال، فيرتفع على الفاعلية، كقولهم: بنو فلانٍ يَطَؤُهم الطريقُ (2). أو على الابتداء (3) كقوله: (ولكن البَّر من آمن بالله)، وعلى خبر الابتداء نحو (4):

وشّرُ المنايا ميتٌ بيت أَهْلِه

(1) شعر الخوارج 23. ورواية عجزه فيه:

عند الولاية في طه وعمران.

(2)

الكتاب 1/ 213، 3/ 247، والخصائص 2/ 446، واللسان: وطأ.

(3)

كذا في النسخ، وقد تقدّم تخريجه من قريب على أنه الحذف من الخبر، فقال:((بّر من آمن بالله)). وهو تخريج سيبويه وقطرب. وهناك تخريج للزجاج على أنه الحذف من الاسم، والتقدير:((ولكن ذا البرّ)). فلعله أراد هنا هذا التخريج، وهو يريد بالابتداء ما صار اسماً لِلكنَّ. انظر البحر المحيط 2/ 3.

(4)

تقدم البيت من قريب.

ص: 147

وعلى مالم يُسمَّ فاعله، كما قال ابن جني فيما رَوَى عن أبي عمرو: {ونزَّل الملائكةُ تنزيلا (1)، إنه على حذف المصدر، كأنه قال: ونُزِّل نزولُ الملائكة. وينتصب على المفعولية نحو: (واسأل القرية التي كنا فيها (2))، (قال هل يسمعونكم إذ تدعون (3). وعلى الظرفية نحو قولهم: أتينا طلوعَ الشمس وقوله (4):

وقَد جَعَلَتْني من حَزِيَمةَ إِصْبَعَا

أي: ذا مسافة إِصبَع

وعلى المصدر كقول الأعشى، ميمون (5):

(1) الآية 25 من سورة الفرقان.

(2)

الآية 82 من سورة يوسف.

(3)

الآية 72 من سورة الشعراء.

(4)

هو الكلحبة العُرني، وصدره:

وأدرك إبطاء العرادة كلُمها

وهو في نوادر أبي زيد 436، والمفضليات 32، وابن يعيش على المفصل 3/ 31، والمغني 624، والرضى على الكافية 2/ 257، والخزانة 4/ 401.

والعرادة: اسم فرس الكلحبة. والإبقاء: ما تبقه الفرس من العدو؛ فعتاق الخيل لا تعطي ما عندها من العدو، بل تبقي شيئاً إلى وقت الحاجة. يقول: تبعت حزيمة في هربه فلما، قربت منه أصاب فرسي عرج فتخلفت عنه، ولولا عرجها لما اسره غيري.

(5)

ديوانه 135، ورواية العجز فيه:

وعادك ما عاد السليم مسهدا

وهو من شواهد المحتسب 2/ 121، والخصائص 3/ 322، والمنصف 3/ 8، وابن الشجري في أماليه 1/ 297، وابن يعيش على المفصل 10/ 102، والمغني 624، والتصريح 2/ 55، والهمع 3/ 102. وفي شرح ابيات المغني للبغدادي 7/ 301.

ص: 148

أَلَم تَغْتَمِضْ عيناك لَيْلَةَ أَرْمَدا

وبِتَّ كما باتَ السَّلِيمُ مُسَهَّداً

أراد: اغتماضَ ليلةِ أَرمدَ، وينجرُّ بالحرفِ كقولهِ تعالى:(كالذي يُغشَى عليه من الموتِ (1))، أي: كدوران عيني الذي يُغشى عليه من الموتِ. وبالإضافة نحو (2):

ولا يحولُ اليومِ دونَ غدِ

أي: دون عطاء غدٍ.

هذا بيان ما قال، وفيه بعد ذلك مسائلُ اربعٌ:

إحداها: أَنَّ الناظم قد أطلق القول في حذف المضاف بقوله: ((وما يلي المضافَ يأتي خلفاً عنه))، فدلّ على أنه عنده قياسٌ لاسماع، وإلاّ فلو كان عنده سماعاً لقيده بذلك.

فإن قيل: ولو كان أيضاً قياساً لقيده بذلك.

فالجواب: أن عِلْم النحو إنما هو الكلام على قياس كلام العرب، فإذا اطلق القول فيه فهو محمولٌ على أصله الذي بُني عليه. وأما السماع فإنما يتكلّم فيه النحويُّ بالانجرارِ وعلى جهة الاحتراز أن لا يقاسَ، فلذلك هنا لما لم يقيد كلامه حُمِل على ما هو الأصل في علم النحو من تقرير القياس، وإذ ذاك يتبين أن الناظم هنا آخذٌ بمذهب من قال بالقياس في حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، خلافاً للأخفش القائل بعدم القياس فيه، وذلكن القياس سائغ فيه من حيث كان الحذف في كلام العرب-على الجملة- جائزاً في العُمَد

(1) الآية 19 من سورة الأحزاب.

(2)

تقدم البيت من قريب، ص 146.

ص: 149

والفضلات لدلالة المعنى على المحذوف، إلا ما استُثني من الفاعل ونحوه. وإذا كان كذلك فالمضاف من جملة ذلك فيجوزُ حذفه لاسيَّما وقد ناب عنه نائبٌ لفظي، فهو أقوى في جواز الحذفِ من المبتدأ والخبر، بل هو اشبهُ شيءٍ بالفاعل إذا حُذف ومقام المفعول مقامه، وهذا قياسه. وأما السماع فكثير جداً في الكلام والشعر بحيث لا يَسَع (1) في القياس عليه إنكار. وقد مرَّ من ذلك جملةٌ، وبَّوب عليه سيبويه، وأتى منه بجملةٍ صالحةٍ نثراً/ ونظما، وقال: ((هو أكثر من

398 أِن أُحِصَيه)).

فإن قيل: القياسُ عليه يلزمُ أمران:

أحدهما: مخالفةُ الأصلِ؛ إِذ حَذْفُ المضافِ ومعاملة المضاف إلي هـ معاملته مجازٌ، والأصل الحقيقةُ، فيلزم من القياس تكثيرُ مخالفة الأصلِ والحملُ على غير الحقيقة، وذلك غير سائغٍ. وأيضاً يلزم القياسُ في الأمور المجازيّة، وذلك ممنوع.

والثاني: أنه يلزم أن يقال: ضربتُ زيداً، وإنما ضربتُ غلامه أو ولده. ومثلُ هذا لا يجوز؛ إِذْ لا دليل عليه، ولا مُعرِّف به.

فالجواب: أن ذلك-وإن كان مجازاً- لا يمنعهُ كونُه مجازاً من قياسه واطراده؛ ألا ترى أنك قلمَّا تجدُ كلاماً إلا وقد دخله المجازُ؛ فأشهر الكلام في الاستعمال: ضربتُ زيداً، وهو مجازٌ من أوجه ذكرها ابن جني في الخصائص (2) وغيره. وكذلك: قام أخوك، وجاء الجيشُ، وما أشبه ذلك. ومع ذلك فإنه قياسٌ مطردٌ وطريق مَهْيَعٌ، فكذلك نحوُ:

(1) في الأصل: ((سمع)).

(2)

الخصائص 2/ 452.

ص: 150

(اسأَلِ القرية (1)).

فإن قيل: ضربتُ زيداً ونحوه كثير جداً، فكذلك حذفُ المضاف. وأما قوله: إنه مخالف للأصل فَمُسلَّم، ولكن لا يلزم عدمُ القياس فيه، لأن مخالفة الأصل القياسيّ قد يكون قياساً استعمالياً كما في ((قام)) ونحوه، أصله القياسي: قَومَ، ولم يلزم من مخالفته محذورٌ، بل صار إعلالهُ إلى إن صار ((قام)) أصلا ثانياً استعمالياً قياسياً. وبهذا يظهر أن القياسَ في الأمور المجازية سائغ إذا كثرت واطّردت.

وأما الأمر الثاني فقد أجاب عنه ابن جني بأن ما شَنَّعتَ به جائز، إلا ترى أنك تقول: إنما ضربتُ زيداً، بِضَرْبِك غلامه، وأهنتهُ، بإهانتك ولده. قال:((وهذا باب إنما يصِلحه ويفسده المعرفة [به (2)]؛ فإن فُهِم عنك في قولك: ضربتُ زيداً أنك إنما أردتَ بذلك: ضَربتُ غلامه أو أخاه أو نحو ذلك - جاز، وإن لم يُفهَم عنك لم يَجُزْ، كما أنَّك إن فُهِم بقولك: أكلت الطعام، أنك أكلتَ بعضه، لم تحتَجْ إلى البدل، وإن لم يُفهم عنك وأردت إفهام المخاطب إياه، لم تجد بداً من البيان وأن تقول: بعضه أو نصفه أو نحو ذلك؛ ألا ترى أن الشاعر لما فُهِم عنه ما أراد بقوله، قال (3):

صَبَّحن من كاظمة الحِصْن الحَزِبْ

يَحْمِلن عَبَّاسَ بنَ عبدالمطلبْ

وإنما أراد: عبدالله بن عباس. ولو لم يكن على الثقة بفهم ذلك لم يجد

(1) الآية 82 من سورة يوسف.

(2)

عن الخصائص.

(3)

الخصائص 2/ 452، واللسان: وصى: ويروى: الخصّ الخرب.

ص: 151

بداً من البيان. وعلى ذلك قول الآخر (1):

عَليمٌ بما أعْيَا النَّطاسيَّ حِذْيما

أراد: ابنَ حِذْيمٍ (2))) فالصحيح ما ذهب إليه الناظم، والله أعلمُ.

والمسألة الثانية: أنَّ قوله: ((وما يلي المضاف))، إنما يريدُ به المضاف إليه، فكأنه يقول: إن المضاف إليه يقومُ مقام المضاف إذا حُذِف. وهذا الكلامُ لا يقتضي خذفَ مضافٍ واحدٍ فقط، بل الحكم فيه مطلق، فيجوز إذاً حذفُ أكثر من مضافٍ واحدٍ، وقيامُ ما أضيف إليه مُقامه. فَحَذْفُ المضافين كقول الله تعالى:{تدورُ أَعينُهم كالّذي يُغْشَى عليه من الموتِ (3)} ، فالتقديرُ: كَدَوران عَيْنَيِ الذي يُغشَى عليه من الموت. وقال الشاعر (4):

وَقَدَ جَعَلتْنيِ من حَزِيَمةَ إِصْبَعَا

تقديرهُ: ذا مسافَة إصَبعٍ، أو: ذَا مساحةَ إِصْبَعٍ. وقالوا: تبسَمَّت وميضَ البرقِ، أي: مثل تبَسُّمِ وميض البرق، في أحد التأويليين/ ومن ذلك قوله أيضاً قوله تعالى، حكايةً:{فَقَبَضْتُ قبضةً من أَثَر الرسول (5)} ،

(1) أوس بن حجر، ديوانه 111، وصدره:

فهل لكم فيها إلىّ فإنني

والبيت في الخصائص 2/ 453، وابن يعيش على المفصل 3/ 25، والرضى على الكافية 2/ 254، والخزانة 4/ 370.

أراد: فهل لكم ميل في ردّ المعزى إلىّ. وحذيم: رجل من تيم الرباب، كان متطببا عالماً.

(2)

الخصائص 2/ 450 - 453.

(3)

الآية 19 من سورة الأحزاب.

(4)

تقدم البيت من قريب، ص 148.

(5)

الآية 96 من سورة طه.

ص: 152

التقدير: من أثر حافِرِ فرسِ الرسول.

وعلى الجملة فلا يُقَتصَر في حذفِ المضاف على الواحد، بل يجوز حذفُ مضافين فأكثر إذا كان معلوماً.

والمسألة الثالثة: أنه لما قال: ((يأتي خَلَفَاً عنه في الإعراب)) كان ذلك ظاهراً في أنّ القائم مَقَام المضافِ من شرطِهِ أن يَصلُح إعرابه بإعراب المضاف، فيُرفَع ويُنَصب ويُجرّ، لأنه قال:((يأتي خلفاً عنه)) في كذا، وما لا يقبل الإعراب كيف يكون خلفاً عنه؟ فإذاً إِذَا كان المضاف اسماً مضافا إلى جملة لم يجز خذفُه، كما قلت: انتَظرتك طَلَعَتِ الشمسُ، تريد: زَمَن طَلَعتِ الشمس، أو كان كذا الحجاجُ أميرٌ، تريد: زمن الحّجاجُ أميرٌ، وما أشبه ذلك.

ولا أعني بكون المضاف إليه يُرفَع وينصب ويُجَرّ أن يكون معرباً في اللفظ، بل مما يقبُل الفاعلية والمفعولية والإضافة، فإن المضاف إليه قد يكون مبيناً نحو:{كالذي يُغْشَى عليه من الموت} ، فإذا كُلُّ ما لا يصلح لواحدٍ من تلك الوجوه لا يصلح أن يُحذفَ ما أُضِيف إليه.

والمسألة الرابعة: أنَّ فيما قَرَّر هنا نظراً من أربعة أوجه:

أحدها: أنَّ من شَرْطِ خذِف المضافِ العِلْمَ به، إما من قرينة حالٍ، وإما من جهة أمرٍ لفظيٍّ أو معنوي، وعلى ذلك جرى الحكم عند العربِ والنحويين، وإلا فلو لم يُعَلم ما حذف لم يُدَّعَ أوَّلاً حذفُه، وكيف يُدَّعى حذفُ شيءٍ لم يدلّ دليل أن المتكلم أراده، ولو أراده المتكلم ولم يجْعَلْ على إرادتِه دليلاً، ولا أخبر بذلك، لم يصحّ لنا دعواه، إذ دعواه وَهْم مجرّدٌ لا حكم له، وإذا كان كذلك فكان الواجب على الناظم أن يشترط ذلك الشرط، لكنه لم يفعل، فاقتضى أنه يجوزُ الحذفُ من غير دليل، وذلك غير صحيح.

_________

ص: 153

فإن قيل: قد تَقَدّم له مِراراً اشتراطُ العلم بالمحذوف على الجملة فلعلّه اكتفى بلك؛ إِذ عُلم من كلامه اشتراطهُ له.

فالجواب: أنّ هذا غيرُ مطَّردٌ له، فقد يجوز الحذف وإن لم يعلم المحذوفُ، كما يحذفُ المفعول اقتصاراً، وقد تَقَدّم وجهُ ذلك. وإذا كان الحذفُ ذا وجهين في العلم به وعدمه، كان الإخلالُ بشرطه إخلالاً بالحكم المقرّر.

والثاني: أنه جَعَل حَذْفَ المضافِ في التسهيل-وإن عُلمٍ- على وجهين: قياسٍ وسماعٍ، فالقياسُ هو فيما إذا امتنع استبدادُ العامل بالمضاف عليه دون المضاف، نحو:(واسأل القرية (1))؛ إذ لا يصلح أن تُسأل القريةُ نفسُها، فلابُدَّ من تقدير الأهل، وكذلك جميع ما مرَّ، والسماعُ هو فيما إذا لم يمتنع استبدادهُ به، نحو: ضربتُ زيداً، تريد: ضربتُ غُلامَ زيد، فإنه يُقِع اللَّبسَ وإن كان معلوماً من خارج، فلا يجوزُ مالم يكن في اللفظ ما يدّلُ على المراد، كقول القائل: مررت بالقرية فأكرمتني، فإنه جائز، وإن كان أهلُ القريةِ والقريةُ صالِحَين للمرور عليهما حقيقةً، لكن ذكر الإكرام بَيَّن أن المراد الأهل/ فجاز. قال: وكذلك لو فُهم بغير قرينة لفظية 400 كقولة (2)((لا تلمني، عتيقُ))، وأتى بأشياء من هذا، فجعل المضاف-كما ترى- منه ما هو سماعٌ، ومنه ما هو قياس، والناظم هنا قد أطلق القولَ في الإجازة قياساً، ففيه ما ترى.

(1) الآية 82 من سورة يوسف.

(2)

من بيت عمر بن أبي ربيعة المتقدم، وهو:

لا تلمني-عتيق-حسبي الذي بي إن بي-يا عتيق- ما قد كفاني.

ص: 154

والثالثُ: أن قوله: ((وما يلي المضافَ يأتي خلفاً عنه))، يقتضي أنه لا يُحذفُ إلا مضاف واحد، لأن ما يلي المضافُ قد جعله هو الخلف عن المحذوف، وإذا كان خلفا عنه لم يجز حذفه، لأنه جمعٌ بين حذفُ العوِض والمعوض عنه، وايضاً فحذفه نقضُ الغرضِ، لأن معنى كونه خَلَفَاً عنه أنه قائم في اللفظ مقامه، فحذفه يناقِضُ هذا المعنى، لكن هذا غير صحيح، لأنّ حذف المضافين المتوالييين جائزٌ كما تقدم ذكره، فكان كلامهُ هنا غير محرَّرٍ. وأيضاً فإن المضاف الثاني مضافٌ إليه الأولُ، فلا يدخل تحت قوله:((وما يلي المضافَ يأتي خلفاً)).

والرابع: أن قوله ((يأتي خلفاً عنه في الإعراب)) يُعِطي بظاهره أنه إنما يَخلُفُه في وجوهِ الإعرابِ خاصَّةً؛ إِذ لو أراد غير الإعراب معه لم يُقيِّده به، فكان يقول:((يأتي خَلَفَاً عنه))، ويسكت، فيدخلُ الإعراب وغيره. فلما لم يقل ذلك وَقَيَّد بالإعراب دلّ على اختصاص النيابة فقط، وليس كذلك، بل ينوبُ عنه في غير ذلك، فقد يقُع موقعه في التنكير فيكون نعتاً للنكرة وينتصب حالاً من المعرفة وإن كان معرفةً، لأنه ناب عن نكرة فيقول: مررتُ برجُلٍ زهيرٍ شعراً، وعنترة إقداماً، وحاتمٍ جوداً، فتصف به النكرة لأنه في تقدير: مررتُ برجلٍ مثل فلان، ولو نطقت (1) بمثل لجرى على النكرة فكذلك إذا حُذف وناب عنه المعرفة. وكذلك تقول: مررت بزيد زهيراً شعراً، وحاتما جوداً، ونحو ذلك. وكذلك يقع موقعه في غير ذلك. بل لقائل أن يقول: إن قوله ((في الإعراب))، إنما يقتضي النيابة عنه في مجرّد الرفع والنصب والجر، لا في مقتضى العامل من فاعلية أو مفعولية أو إضافة أو غير ذلك، وليس الأمر على ذلك. بل ينوب

(1) في الأصل، أ: قطعته.

ص: 155

عنه في مقتضى العامل، فقولك: بنو فلان يطؤهم الطريقُ (1)، الطريقُ فيه فاعل، وقوله:(واسأل القرية (2))، القرية فيه مفعولة، وكذلك سائر الأمثلة، فظاهر هذا لا يستقيم.

والجواب عن الأول: أنَّ شرط العلم بالمحذوف لابدَّ منه، وإنما تَرَكه لكثرة المواضع التي نبَّه فيها على اشتراطه، وما اعِترُض به من مواضع الحذفِ اقتصاراً فقد تقدّم أن ذلك ليس من مواضع الحذفِ على غير علمٍ، بل هو حذفٌ بشرط العلم بالمحذوف، إلا أن العلم به تارةً يكون جُمْليا وتارة يكون تفصيليا. وقد تقدم الكلامُ على ذلك قبلُ بما يُغني عن الإعادة، فلا معنى للتكرار.

وعن الثاني: أنَّ كلَا القسمين المذكورين في التسهيل قسم واحد/ وشرطُ العلم 401 فيهما (3) معا لازمٌ، فإذا قلت: ضربتُ زيداً، وأنت تريد ضربتُ غلامه، لا يخلو أن يكون ثَمَّ ما يدل على المحذوف أولا، فإن كان ثَمَّ ما يدَّل عليه فلا إشكال في الجواز؛ إذ الدليلُ يمنعُ كون الضربِ واقعاً بزيدٍ، فلم يَستبدَّ العامل إذاً بالمضاف إليه الذي هو زيدٌ، ولا كان في حذف المصاف لبسٌ. وقد تقدّم نصُّ ابن جنِّي في ذلك، وإن لم يكن ثَمَّ ما يدلّ على المحذوف لم يجز الحذفُ بإطلاقٍ في مذهب أحدٍ من أهل العربية، فصار هذا التقسيم لا حاصل له، وصحّ إطلاقُه هنا، والله أعلم.

وعن الثالث: أن حذف المضافَين يدخل تحت كلامه بطريقةٍ صناعية،

(1) الكتاب 1/ 213، 3/ 247، والخصائص 2/ 446، واللسان: وطأ.

(2)

الآية 82 من سورة يوسف.

(3)

فوقها في الأصل: بهما.

ص: 156

وذلك أن المضاف الثاني مضافٌ إلى ما يليه، فجاز حذفُه وإقامته مقامه، وأما الأول فإن الثاني لما ناب عنه غيرُه وقام مقامه حتى كأنه هو صار الأول مضافاً في التحصيل إلى ما يليه، وهو النائب عن الثاني، وكأنه في التقدير مضافٌ إلى الثاني، لأنه أُضيف إلى ما قام مقام الثاني، فكأن الثاني ثابتٌ من حيث النائب، فَصَدَق بهذا الاعتبار أن الأول مضاف إلى الثاني الذي يليه، وأن الثاني هو الذي قام مقامه. وأيضاً فيترشَّح ها بطريقة التدريج، وهي طريقةٌ صناعية، ارتضاها الأئمةُ، وذلك أنّ قولهم: تبسَّمَتْ وميضَ البرق، كان أصلهُ: تبسمَتْ مثل تبسُّم وميضَ البرق، وصار التبسّم خلفاً في الإعراب من مثْل، ثُم حذف التبسُّم من حيث كونه مضافاً لا من حيث كونُه نائباً وخلفاً وأقيم مقامه وميض، فصار: تَبسمت وميض البرق. وهو أحسنُ في الصنعةِ من حذف المضافين في التقدير عَبطةً حسب ما قرره ابن جني في الخصائصِ في نحو قوله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً (1)} ، والأصل فيه: لا تجزي فيه، ثم قَدَّر حذف الجارَّ فصار: لا تَجْزِيه، ثم حذف الضمير، وَجَعَله أحسنَ من حذف الجار والمجرور معاً ابتداءً، وهو رأي الأخفش (2) فيها، خلافُ ظاهر سيبويه (3). وإذا كان كذلك ساغ دخول حذف المضافين تحت كلام الناظم بمقتضى هذه الصفة؛ إذ ليس فيها ما يدفعها.

وعلى أنّا إن قلنا بموجب الاعتراضِ فلا يضرّ، فالغالب في الباب حذف الواحد، وأما حذفُ أكثر من واحدٍ فقليل، ولا تكاد تجدُه إلا في مضافين خاصّة؛ إذْ لا أعلم في السماع حّذْفَ ثلاثة مضافات على التوالي، ولا أكثر من

(1) الآية 48 من سورة البقرة.

(2)

مغني اللبيب 617.

(3)

الكتاب 1/ 386.

ص: 157

ذلك، فلا دَرْك على الناظم في اختصاص حذف المضاف الواحد، على فرض انه أراد ذلك.

وعن الرابع: أن اللازم للمضاف إليه من النيابة عن المضاف هذه النيابةُ المخصوصةُ في الإعراب، وأما نيابته عنه في مقتضى العامل من الفاعلية وغيرها فلازمٌ وتابع للإعراب؛ ألا ترى أَنَّك تُعرِبُ المرفوع فاعلاً أو مبتداً أو خبراً، حسب ما يطلبه العامل. وكذلك المنصوب تُعرِبه على حسب مقتضى العامل، وكذلك/ المجرور فاستغنى بذكر الملزوم عن ذكر اللازم. وأنا نيابته عن 402 المضاف في التعريف أو التنكير فأمرٌ غير لازم ولا مُسَلَّمٍ فيما قال، ولا مُطَّردٍ إن سُلِّم. أما أوّلاً فإن زُهَيرا في قولك: مررتُ برجلٍ زهيرٍ شعراً، ليس بنعتٍ (1) من النيابة؛ إذ لا نُسلِّم أنه نائب، بل من حيث تأولة بنكرة، إذ كان معنى شاعر. وأما ثانيا فإن سُلَّم أنه على حذف المضاف فليس بمطّرد في كلّ ما حُذِف منه المضاف، ولا في حكم ثابت للمضاف، وإنما هو مخصوص بنيابته عن ((مِثْلٍ)) وحده في التنكير وحده، مع أنه قليلٌ، وقد نبه على ذلك في التسهيل بقوله:((وقد يخلُفُه في التنكير إن كان المضافُ مِثْلاً (2))) فلو أطلق النيابة لكان يُفهم له ذلك في كلِّ حكمٍ، وذلك غير صحيح.

فإن قيل: وكذلك إن قٌيِّدَتِ النيابةُ بالإعراب اقتضى أنها لا تكون في غيره، وذلك غير صحيح. وأيضاً فإن المضاف-وإن حُذِف- يبقى حكمه فيكون ملتفتاً إليه في أحد الوجهين؛ ألا ترى أنك تقول: قرأت هوداً، تريد سورة هود، فلا تمنع صرف هود، وتقول: هذه الرحمن،

(1) في جميع النسخ: ((بحال)). وهو خطأ.

(2)

التسهيل 160.

ص: 158

فتؤنث، والمراد سورة الرحمن؛ إذ لا يجوزُ جعله اسماً للسورة، وقال الشاعر (1):

يسقُون من وَرَد البريصَ عَلَيهمُ

بَردَى يُصَفَّق بالرَّحيق السَّلسل

فقال: يًصَفَّق، مراعاةً للمضاف. وما ذلك إلا للنيابة.

فالجوابُ: أن ذلك غير صحيح، أما اختصاص النيابة في الإعراب ومقتضاه، فقد تقدم، وأما مررت برجلٍ زهيرٍ شعراً، فلا اعتراض به كما مرّ، وأما الالتفاتُ إلى المحذوف فليس للنيابة، ولكن لأن معناه حاضر فكأنه موجودٌ لفظاً، ولذلك أبقَو الإعراب الأصلي له مع حَذْفِه، حسب ما يأتي في الوجه الثاني: [(2) وإذا لم يكن للنيابة لم يبق إلا النيابة في الإعراب، وهو الذي اعتمده الناظم.

ثم أخذ في الوجه الثاني (2)] من وَجْهَي حالِ المضاف إليه بعد حَذْفِ المضاف، فقال:((وربما جّروا الذي أبقَوا)) إلى آخره. يعني أن العرب قد جاء عنها قليلاً إبقاءُ المضاف إليه على حالة من الجرّ الذي كان له قبل حذف المضافِ، ويجوز أن يكون ضمير ((جَرّوا)) عائداً على النحويين، ويكونُ ذلك عبارةً عن إجاتهم له قياساً لكن ضعيفاً، وإن كان عائدا على العرب، ففي ((ربَّما)) إشعارٌ بوجود ذلك في الكلام قليلاً.

(1) حسان بن ثابت، والبيت في ديوانه 122، وهو من شواهد ابن يعيش على المفصل 3/ 25، 6/ 133، والرضى على الكافية 2/ 257، والهمع 4/ 291. وفي الخزانة 4/ 381.

والبريص: نهر بدمشق. والرحيق: الخمر. والسلسل: السهلة اللينة، وتصفق: تمزج.

(2)

سقط من أ.

ص: 159

وفي قوله: ((وربَّما حرّضوا)) بعضُ قلقٍ، والأولى أن لو قال:((وربما أبقوا جَرَّ المضافِ إليه))؛ فإن قوله: ((جَروا)) يُعطي تجديد الجرِّ بعد الحذف، وليس كذلك، بل هو الجرُّ الأولُ الموجودُ قبل الحذفِ.

ثم اشترط في جواز هذا الحكم أن يكون ما حُذِف-وهو المضاف-مماثلا لمضافٍ متقدّم [عُطِف (1)] عليه ذلك المحذوف، وذلك قوله:((ولكن بشرط أن يكون ما حِذُفْ)) إلى آخره، والضمير في قوله:((لما عليه)) عائدٌ على ((ما))، و ((ما)) واقعة (2) على المضاف المعطوف عليه، والضمير في ((عُطِف)) عائدٌ على المضاف المحذوف، و ((عليه)) متعلق/ بعطف، و ((بشرط)) متعلِّقُ

403 باسم فاعلٍ محذوفِ هو حالٌ من فاعل جرُّوا))، أي: ملتبسين بشرط كذا. والتقدير: وربما جرُّوا كذا بشرط أن يكون المحذوفُ مماثلاً للمضافِ الثابت الذي عطف عليه المضاف المحذوف.

وقد مشتمل هذا الشرطُ على شرطين:

أحدهما: أن يكون المحذوفُ معطوفاً على مضافٍ ثابتٍ، فإن كان كذلك جاز حذفُ المضاف، وإن لم يكن كذلك لم يجز، وما جاء من ذلك فلا يقاس عليه كقراءة ابن جَمّاز (3):(والله يريدُ الآخرةِ (4)))، بجرَ (الآخرةِ)؛ فإن المضافَ المحذوفَ، وهو ((عَرَضَ)) ليس بمعطوف على (عَرَضَ) الأول في قوله:(تريدون عرضَ الدنيا (4)). وكذلك ما في الحديث

(1) سقط من الأصل، أ.

(2)

في الأصل، أ:((وافقه)). وهو خطأ.

(3)

هو أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز الزهري المدني، مقرئ جليل ضابط، مات بعد 170 هـ انظر: غاية النهاية 1/ 315.

(4)

الآية 67 من سورة الأنفال. وانظر المحتسب 1/ 281 - 282، والبحر المحيط 4/ 518 - 519.

ص: 160

من قول الصحابي: ((قلنا: يا رسول الله، مالُبْثُه في الأرض؟ قال أربعين يوماً (1)))، على تقدير: لبثُ أربعين. وكذلك ما أنشدوه من قوله (2):

رحم الله أَعظُما دَفَنُوها

بسجستَان طَلْحةِ الطّلَحاتِ

يريد: أَعُظمَ طلحةِ الطلحات. فهذا ونحوه مما تقدَّم فيع المضاف، ولكن/

403 [لم (3)] يعطف عليه المحذوفُ. وكذلك إذا لم يتقدَّم مضاف أصلاً نحو قولهم: رأيت التيمىً تَيْمِ عَدِىًّ، على تقدير من قَدَّر (4): ذا تَيْمِ عَدِىًّ، فإنه لا يقاس عليه.

والثاني: أن يكون المضافُ المحذوف مماثلا للمضافِ المتقدّم في اللفظ والمعنى، فلو كان غير مماثل له لم يجز القياس (5) فيه، فإن وجد فسماعٌ يحفظ:(والله يريدُ الأخرةِ (6))، إذا قدرنا: والله يريد باقي الآخرة، وهو تقدير شيوخنا ومن قبلهم، فلو فرضناه معطوفاً على المضاف المتقدّم لم يجز قياسهُ بمقتضى الشرطِ المذكور، فإذا توفَّر

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب خروج الدجال 4/ 117، والإمام أحمد في مسنده 4/ 181.

(2)

هو عبيدالله بن قيس الرقيات، ديوانه 20. والبيت من شواهد المقتضب 2/ 186، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 47. والإنصاف 41، والهمع 5/ 216، وفي الخزانة 8/ 10، واللسان: طلح.

(3)

سقط من صلب الأصل، أ.

(4)

انظر شرح المفصل لابن يعيش 5/ 142.

(5)

سقط من أ.

(6)

الآية 67 من سورة الأنفال.

ص: 161

الشرطان معاً جاز الحذف قياساً، نحو: ما مثُل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك، فالتقدير: ولا مثلُ أبيك. وكذلك إذا قلت: ما مثل أخيك يقول ذاك زلا أبيك، تقديره: ولا مثلُ أبيك. ومثلهُ: ما كلُّ سوداء تمرةً ولا بيضاءَ شحمةً، أي: ولا كلُّ بيضاء. وأنشد سيبويه لأبي دُؤاد (1).

أكلَّ امرئٍ تَحسبينَ امرأً

ونارٍ توقَّدُ باللَّيل نارا

وانشد في الشَّرحِ (2):

لم أَرَ مثلَ الخيرِ يتركُه الفَتَى

ولا الشرِّ يأتيه الفتى وهو طائعُ؟

وقول الآخر (3):

لو أنَّ الأنسِ والجن داويا الَّـ

ذي بِيَ من عَفْراء ما شَفَياني

وقول الآخر (4):

لو أنَّ عُصمَ عمايتين ويذبُلٍ

سَمِعا حديثَك أنزلا الأَوْعالا

في أبيات أُخَرَ.

(1) الكتاب 1/ 66، والبيت في أمالي ابن الشجري 1/ 296، والإنصاف 473، وابن يعيش على المفصل 3/ 26، 27، 29، 79، 5/ 142، 8/ 52، 9/ 105، والمغني 290، وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 165، 3/ 304.

(2)

شرح التسهيل، ورقة 181، والهمع 4/ 292، الأشموني 2/ 273. وهو مجهول القائل.

(3)

شرح التسهيل، ورقة 181، والهمع 4/ 292. ولا نعرف له نسبة.

(4)

جرير، ديوانه 361، وهو في البغداديات 445، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 46، والهمع 1/ 142، ومعجم ما استعجم 966.

ص: 162

وهنا النظر في مسألتين:

إحداهما: أن الناظم لم يشترط في جواز هذا الحذفِ غير ما تقدّم، فدّلَ على أنه لا يرتضي من رأى اشترطَ تَقَدُّم نفيٍ أو استفهامٍ، كما في مثل قولهم: ما مثلُ أخيك ولا أبيك يقولان ذاك، وقوله:

أكلَّ امرئٍ تحسبينَ امرأً

البيت. وهذا الرأيُ مرجوحُ بوجود الحذفِ مع عدم الشرط، كقول الشاعر:

لو أن طبيب الجنَّ والإنسِ ..

وأنشد في الشرح (1):

لَغَيرُ مُغْتَبِطٍ مغْرىً بطوعِ هَوىٍ

ونادِمٌ مولعٌ بالحَزْمِ والرُّشْدِ

وقول الآخر (2):

كلّ مُتْرٍ في رهطِه ظاهرُ الـ

عزَّ دي غربةٍ وفقرٍ مَهينُ

فالصواب/ عدمُ اشتراط ذاك الشرط.

404

والثانية: أن هذه المسألة تضمَّنت مسألتين:

إحداهما، مسألة: ما مثُل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك، وما كان مثلها، وذلك مما يتعينّ فيه حذفُ المضاف؛ إذ لو كان قوله ((ولا أبيك)) على العطف لقال:((يقول ذاك))، لأنه راجع إلى ((مثل)) الأول، وهو مفر،

(1) شرح التسهيل، ورقة 181.

(2)

شرح التسهيل، ورقة 181، والهمع 4/ 292.

ص: 163

فلما قال: ((يقولان))، وكان ذلك من كلام العربِ، تعيَّن أن التقدير:((ولا مثل أبيك)). وكذلك يقال: ما مثل أخيك يقولُ ذاك ولا أبيك، يصحّ حمله على ((مثل)) الأول.

والثانية، مسألة: ما كلُّ سوداءَ تمرةً ولا بيضاءَ شحمة. وهذا النمط في نفسه محتمل لأن يكون من باب العطف على معموليَ عاملين، فإن ((ما)) حجازية هنا، وكلُّ خافضة، والواو شرَّكت ما بعدها في العاملين معاً، ومحتمل أن لا يكون من باب حذف المضاف-كما قال الناظم- فهو قد ضَمَّ المسألة في ضابطه، وحكم فيها بأحد الوجهين دون الآخر، فدلَّ على أنه لم ير فيه جواز العطف على معمولي عاملين، وأنَّ رأيه في مسألة العطف رأيُ سيبويه وأكثرِ النحويين، خلافا للأخفش ومن وافقه (1). والخلافُ فيها خلافٌ في تأويل، إذ هم مُتّفقُون على جواز المسألة على الجملة، وأما الراجح في النظر عندهم فرأيُ الناظم، واحتجّوا له بأمور:

منها أن حذف ما دلَّ عليه دليلٌ من حروفِ الجرّ وغيرها مجمعٌ على جوازه، والعطف على معمولي العاملين مختلفٌ في جوازه، والأكثر على منعه، وإذا كان كذلك كان المسير إلى المجمع عليه من الحذْفِ للدليل، وإلى موافقة الأكثر في منع ذلك العطف أولى من غير ذلك.

ومنها: أَنَّ هذا العطف شبيه بتعدِّيين بتعدٍّ واحد، فكما لا يجوز أن يتعدى الفعلُ إلى شيئين بمعدٍّ واحدٍ، كذلك لا يجَوزُ ما هو بمنزلته.

ومنها: أن العاطف نائبٌ عن العامل، وعاملٌ واحد لا يعمل رفعاً وجراً، فكذلك ما أشبهه.

ومنها: أن الواو حرفٌ فلا يَقْوى أن تنُوب مناب عاملين، وإذا كان الفعلُ

(1) انظر الكتاب 1/ 65 - 66، والبغداديات 566، والمغني 486.

ص: 164

لا ينوب مناب عاملين، فالحرف أحرى بذلك الحكم لضعفه وقوة الفِعْلِ؛ ألا ترى أنه يضعُفُ عند قومٍ الفصلُ بين الواو وبين معطوفها، نحو: ضربتُ اليوم زيداً وغداً عمراً؟

فالأصحّ ما ذهب إليه الناظم، والله أعلم.

* * *

ثم ذكر حَذْف المضافِ إليه فقال:

ويُحذَفُ الثانيِ فَيَبْقَى الأَوَّلُ

كحالهِ إِذَا بِهَ يتَّصلُ

بِشَرْطِ عَطْفٍ وإضافةٍ إِلى

مثْل الَّذي لَهُ أَضَفْتَ الأَوَّلا

يعني أنَّ المضاف إليه-وهو الثاني-يجوزُ حذفُه، كما جاز حَذْفُ المضاف، لكن يبقى إذ ذاك/ المضافُ على حاله قبل أن يُحَذفَ المضافُ إليه، فيجرّ بالكسرة وإن كان فيه

405 مانعُ الصَّرفِ، ولا يُرَدُّ إليه ما نُزِعَ منه للإضافة من نونٍ أو تنوينٍ، ولا يُبْنَى من أجلِ هذا الحذفِ وإِن كان مما يُبنى للقطع عن الإضافة، بل يُعَدُّ كأنَّ المضاف إليه موجودٌ، وهو معنى قوله:((فيبقى الأولُ)) يعني المضافَ ((كحاله إذا به يتّصل))، أي: إذا يتّصل به الثاني.

وهذا الحكم إنما يكون بشرطٍ ذكره، وهو أن يكون ثَمَّ عطفٌ وإضافةٌ إلى اسم يماثل الاسم الذي أَضَفْتَ إليه الأول، ومعنى هذا أن يكون ثَمَّ معطوف ومعطوف عليه، وكلاهما مضافٌ إلى اسم واحدٍ، أي: إن المضاف الأول المعطوف عليه مضاف إلى مثل ما أضيف إليه الثاني

ص: 165

المعطوف، وبالعكس، وذلك أنك تقول: ضربت يَدَ ورِجْلَ زيدٍ، فالأصلُ فيه: ضربت يدَ زيدٍ ورجلَ زيدٍ، وَإِنْ شِئتَ أظهرتَ ذلك، لكنّ المختار إضمارُ الثاني، أرادوا التخفيفَ وحذفَ المضافِ إليه الأول لدلالة الثاني عليه، وإبقاءَ المضاف الأول على تهيئته له، كأنه ثَمَّ، لوجوده مع المضاف الثاني، فلذلك لم يُنَوِّنوا ((يداً)). وكذلك إذا قلت: ضربتُ يَدَىْ ورِجْلَ زيدٍ، تترك ((يَدَىْ)) محذوف النون كما لو لُفِظ بزيدٍ معه. وكذلك مررتُ بأفضَلِ وأكرمِ مَنْ ثَمَّ، تترك ((أفضل)) على جرّه بالكسرة وإن كان فيه مُوجِبُ منعِ الصرف، وذلك الوصف والوزن، لأن مَنْ (1) في حكم الملفوظ به معه. وكذلك تقول: قمتُ قبلَ وبعدَ زيد، فتبقى قبل على نصبه وإِن عُدِم المضافُ إليه، ولا تَبنيهِ على الضمّ.

وقد حصل الشرط الذي شرطه الناظم؛ إذ حصل في الكلام-على الجملة- عطف، وهو ((ورجْلُ زيد))، وإضافةٌ كما وصف، وهي إضافة الرجل إلى مماثلِ ما أُضِيف إليه الأولُ الذي هو اليد، وذلك قولك ((زيدٌ)). وكذلك إذا قلت: أعطيتك ستةَ دراهمَ أو سبعةَ، تريد: سبعةَ دراهمَ، فقد حصل الشرط من العطف والإضافة إلى مثل ما أُضِيف إله الأولُ، وهو الدارهم، فجاز الحذفُ قياساً.

فعلى هذا يدخلُ تحت مضمونِ هذا الكلام نوعان:

أحدهما: أن يكون حذفُ المضاف إليه موجوداً في المعطوف عليه، ودل على المحذوف المضافُ إليه في العطوف، كقولهم:((قطع الله يد ورجل من قالها))، حكاه الفراء (2)، أراد: يد من قالها ورجلَ من قالها، وأنشد سيبويه

(1) في النسخ: ((لأن زيداً)). وهو سهو.

(2)

في معاني القرآن للفراء 2/ 322: ((وسمعت أبا ثروان العكلي يقول: قطع الله الغداة يد ورجل من قاله)).

ص: 166

للأعشى (1):

وَلا نقاتِلُ بالعِصِىِّ وَلَا نُرَامى بالحجِارَة

إِلَاّ عُلَالَةَ أو بُدَاهَةَ قَارحٍ نَهْدِ الجُزَارَةْ

أراد: إِلَاّ علالة قارح أو بداهة قارح.

وأنشد أيضا للفرزدق (2):

يا مِنْ رِأَى عارضاً أُسَرُّبه

بين ذِراعَيْ وجبهةِ الأسدِ

قال ابن جنِّي: ((ومنه قولُهم: هو خيرُ وأفضلُ مَنْ ثَمّ.

والنوع الثاني: أن يكون حذفُ المضاف إليه في العطوف لا في المعطوف عليه، وهو أقربُ في القياس /لتقدّم الدليل على المحذوف، ومنه ما وقع في البخاريّ من قول أبي برزَةَ

406 الأسلمي-رضي الله عنه ((غَزَوتُ مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-سبعَ غزواتٍ أو ثمانيَ (3))). هكذا بفتح الياءِ من غير تنوينٍ، يريد: أو ثمانيَ غزوات، فَحذَفَ.

(1) الكتاب 1/ 179، 2/ 166. وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن 2/ 321، والمبرد في المقتضب 4/ 228، وابن جني في الخصائص 2/ 407، وابن يعيش في شرح المفصل 3/ 22، والسهيلي في أماليه 131، والرضى في شرح على الكافية 1/ 117، 2/ 258، 3/ 167، وفي الخزانة 1/ 172. وانظر ديوانه 159.

والعلالة: البقية من الشيء. والبداهة: المفاجأة. نهد القوائم: ضخمها. الجزارة: أطراف الجزور، وهي اليدان والرجلان والرأس. يقول لن يكون بيننا إلا مفاجأة فرس طويل العنق والقوائم يستنفد القتالُ البقية من نشاطه.

(2)

الكتاب 1/ 180، وهو في معاني القرآن للفراء 2/ 322، والمقتضب 4/ 229، والخصائص 2/ 407، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 21، وشرح الكافية للرضى 1/ 387، 2/ 258، والخزانة 2/ 319، 4/ 404.

(3)

البخاري، أبواب العمل في الصلاة، إذا انفلتت الدابة في الصلاة. انظر فتح الباري 3/ 324.

ص: 167

وقد يكون من لأولِ ما يتقدّمُ فيه الدليلُ على المحذوف، كما يقول: مُطِرنا سهلُ وجبلُنا، يريد: سهلُنا وجبلُنا. وأنشد المؤلِف بيتاً صدرا (1)

سُقَى الأرضين الغيثُ سهلَ وحزنَها

فإن تخلَّف الشرط الذي شرطه الناظم في الجواز امتنع حذفُ المضافِ قياساً، وإن جاء منه شيءٌ فموقوفٌ على محلّه، نحو ما حكاه أبو علىّ من قولهم (2): ابدأ بهذا من أوّلُ-مثلَّث اللَاّم-والشاهد فيه كسر اللَاّم من غير تنوين، والتقدير: من أولِ الأشياء، ونحو ذلك. وحكى الكسائيّ عن بعض العرب:((افوق تنام أم أسفلَ))، على تقدير: أفوق هذا تنام أو أسفلَه؟ )) أو نحو ذلك. وقرأ ابنُ مُحيصِنٍ-فيما يروى عته-: {فلا خَوفُ عليهن (3)} بِرَفْع الفاء من غير تنوين، أي: فلا خوفُ شيءٍ عليهم. وعلى هذا حمل المؤلِّفُ قولَ بعضِ العرَب: ((سَلَامُ عليكم (4)))، بغير تنوين، أي: سلامُ الله عليكم. وقال ذو الرُّمة (5):

فلما لَبِسْنَ الليل أو حين نَصَّبَتْ

له من خَذَا آذانِها وَهْو جانحُ

(1) عجزه:

فَنِيطَتْ عُرَى الآمالِ بالزرع والضرع

والبيت في شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 177، وشواهد التوضيح له 40، والأشموني 2/ 274، والعيني 3/ 483، ولم ينسب.

(2)

انظر شرح الكافية الشافية لابن مالك 966 - 967، والأشموني 2/ 268.

(3)

الآية 38 من سورة البقرة، وانظر البحر المحيط 1/ 169.

(4)

انظر البحر المحيط 1/ 169، ففي الآية وهذا القول تخريجات أخرى.

(5)

ديوانه 897، وهو من شواهد ابن جني في الخصائص 2/ 365. يصف ذو الرمّة أُتُنا.

لبسن الليل: دَخَلْن فيه، يقول: كانت مُنَكِّباتِ الرءوس، ثم رفعتها ونصبت آذانها حين برد الليل وجنح، أي: دنا. والخذا: الاسترخاء؛ يقلب: خَذِيت الأذن خذاً: استرخت من أصلها وانكسرت مقبلة على الوجه.

ص: 168

أراد: أو حين أقبل، كذا، قدرَّه ابنُ جني (1). فمثلُ هذا عنده غيرِ مقيس، وإنما جاز (2) ما تقدّم دون هذا لقلة هذا بالنسبة إلى ذاك، ولأن المضاف فيما تقدم لما كان مذكوراً مماثلاً للآخر، صار أحدهُما كأنه مغنٍ عن صاحبه، بخلاف ما استثنى فإنه لا دلالة في اللَّفظِ على المحذوف، فلم يكن من شأنِ اللفظ أن يَبْقى على حاله قبل الحذفِ، وصار كقبلُ وبعد وبابهما إذا قطعت عن الإضافة، تلحقها الأحكام التي من شأنها أن تلحق غير المضاف فلهذا فرّق الناظم بين الموضعين، وهو سديدٌ من النظر (3).

ويبقى هنا نظرٌ في المسألة في ثلاثة مواضع:

أحدها: النوع الأول، فإن الناظم ارتضى فيه الجواز قياساً، على تأويل حذف المضاف إليه من الأول. أما الجوازُ قياساً فهو أحد المذهبين على الجملة، وهو رأي الفراء والسيرافي. والجمهورُ على المنع، وهو مذهب سيبويه، لأنه لما أنشدَ بيتَ الأعشى المتقدّم أنشد معه بيتاً من الفصل، ثم قال:((وهذا قبيح، يجوز في الشعر على هذا: مررتُ بخيرِ وافضلِ مَنْ ثَمَّ (4))). والراجح عند الناظم الأول، وذلك من جهة القياس والسماع.

أما السماع فقد كثُر فيه كثرةٌ توجب القياس وأن قلَّ في نفسه، فلا مانعَ من القياسِ عليه.

(1) هذا تقدير الأصمعي كما في أدب الكاتب. ويقول ابن سيده في الاقتضاب 362: ((وذهب غير الأصمعي إلى أن (حين) يضاف إلى (نصّبت)، وأن جواب (لما) في البيت الذي بعد هذا))، بالبيت قول ذي الرمة بعدُ:

حداهنَّ شحّاج كأنَّ سحيله على حافَتَيِهنْ ارتجازٌ مفاصحُ

(2)

في الأصل: ((أجازه)).

(3)

في أ: ((سديد في النظم)). وهو خطأ.

(4)

الكتاب 1/ 180.

ص: 169

وأما القياسُ فإنَّ المضاف إليه الثاني لما كان هو الأول بعينه، صار كأنه حاضرٌ في موضعه، فلذلك بَقِى بعد الحذفِ على تَهيِئَتِهِ. وأيضاً فإنَّ ذلك شبيهٌ بالإعمال، فالمضافُ الأولُ كأنه طالبٌ للمضافِ إليه الثاني / فصار حذفُ الأول كلا حذفَ، وكأنه موجودٌ. وأما تأويلُ حذفِ 407 المضاف [إليه (1)] فهو رأي المبِّرد، لأنه يُقَدِّر المسألة إعماليةً، والمختار عند البصريين إعمالُ الثاني، فكذلك هنا، قُلْتَ: قطع الله يَدَ ورجلَ من قالها، أعملت الرِّجْلَ في ((مَنْ))، وقُدِّر لليد ما يعمل فيه، ويكون محذوفاً. وهذا أحدُ المذاهبِ في تأويل المسالة. وذهب سيبويه إلى أنها من باب الفصل بين المضافِ والمضاف إليه، فكأنَّ الأصل: قطع الله يد من قالها ورجله، ثم أقحم الرِّجلُ بين المضاف والمضاف إليه، فصار في التقدير: يد ورِجلْه من قالها، ثم حذفت الهاء اجتزاءً بِمَنْ عن الضمير، وإصلاحاً للفظ، فصار: يدَ ورجلَ من قالها (2).

والراجُح عن الناظم الأولُ؛ لأنك بين أمرين: أن تُقَدِّر المسألة من باب الفصلِ بين المضاف والمضاف إليه، أو تجعلها إعمالية، أما الأول فخاصٌ بالشعر أو شاذٌ في الكلام، لأنه قبيحٌ أن يُفصلَ بين شيئين هما كشيءٍ واحدٍ وليسا في تقدير المنفصلين، بل الثاني حالٌّ من الأولِ محلَّ التنوين، فلم يَسُغِ الفصل بينهما. ولا يُعَتَرضُ بنحو:{قَتْلُ أولادْهم شركائِهم (3)} ، لأنه من باب الفصل بين الفعل والفاعل كما سيأتي، فهما في تقدير ما يصحُّ انفصاله، فلم يبق إلا أن يكون من باب الإعمال، حُذِفَ

(1) سقط من الأصل، أ.

(2)

هذا بيان لتخريج سيبويه نحو هذا التركيب، انظر: الكتاب 1/ 179 - 180.

(3)

الآية 137 من سورة الأنعام، وهذه قراءة ابن عامر، انظر: الإقناع 644.

ص: 170

معمولُ الأولِ وأُعمِل الثاني. ولا يقال: إن الاسمين معاص مضافان إلى الثاني، للاتفاق على بطلان ذلك؛ إِذ لا يضاف اسمان معاً إلى اسم واحد.

فإِن قيل: لو كانت إعماليةً لجاز إعمالُ الأوّل عند الجميع، وإن كان غير مُنكر عند البصريين، فكنت تقول: قطع الله يد ورِجْلَه من قالها، كما يُعمِلُ الأول في الفعل.

فالجواب: أن ذلك لم يجز لما يلزم من الفصل الذي فُرَّ منه، وأيضاً فيلزم على مذهب سيبويه التهيئة والقطع، لأنه حَذَفَ الضمير من الرِّجْلِ وهيَّأه للعمل في ((مَنْ))، ثم لم يُعمله. وهو ممنوعٌ عندهم، بخلاف ما ذهَبْنا إليه.

فإن قيل: يلزمُ من الحذف أن يُنَوّن المضافُ؛ إِذْ صار كالمقطوع عن الإضافة، فلمَّالم يفعلوا ذلك دَلَّ على أنه مضافٌ في اللفظ إلى ((مَنْ))، ووقع الفصلُ بالرِّجْلِ المُقحَمةِ.

فالجواب: أنَّ هذا مُشَتَرك الإلزامِ، فإنكم مقرُّن بأنّ الرِّجْلَ غير مضافٍ في اللفظ، بل قُطع عنها، فيلزم أن يُنَوَّن ويجرى مجرى المقطوع عن الإضافة في أحكامه.

فإن قيل: إِن الظاهر وهو ((مَنْ)) ناب عن الضمير المحذوف، فكأَنَّ الرِّجْلَ مضافٌ إلى الظاهر لأنه يليه، وهو المضمرُ بعينه، فلذلك بقي المضاف على حالِهِ قبل حذف الضمير.

قيل: وكذلك نقولُ نحن: لَمَّا كان اليدُ مضافاً في الأصل إلى ((مَنْ)) والدليلُ عليها المماثل لها حاضرٌ، صارت كأنهّا هي، فبقى المضاف على تهيئته وعلى الجملة. فَحَذْفُ المضاف أسهلُ من الفصل، والله أعلم.

والموضعُ الثاني: هو النوع الثاني، فإِنّ الناظم حَكَم بالقياس فيه، وظاهر

_________

ص: 171

كلام الناس أنه سماع/، وكأنه رأى مجيئَه في الحديث الذي هو أفصحُ كلام البشر، وأنه 408

في صحة النظر كالنوع (1) الأول؛ لأن الدليل حاضرٌ، والمحذوفَ مماثلٌ له' فصار في حكم الموجود، فعُومِل معامَلَةَ الموجود.

والموضع الثالث: حيث تخلَّف الشرطُ، فإنه حكم فيه بعدم القياس، حسب ما يقتضيه مفهومُ الشرط، وظاهر التسهيل فيه القياس، فإنه قال هنالك:((ما أُفرد لفظا من اللازم الإضافة معنىً إن نُوِى تنكيره، أو لفظ المضاف إليه، أو عُوِّض منه تنوين، أو عطف على المضاف اسم عامل في مثل المحذوف، لم يغيّر الحكم، وكذا عُكس هذا الأخير (2))). فقوله: ((أو لفظ المضاف إليه))، وهو الضَّرْبُ الذي تحرَّز منه في هذا النظم فأخرجه عن القياس، وقوله:((أو عُطِف على المضاف اسمٌ عاملٌ في مثلِ المحذوفِ))، وقوله:((وكذا لو عكس هذا الأخير))، هو الضرب الذي أجازه قياساً. والأظهر ما ذهب إليه هنا؛ حُكى من السماع لا يبلُغ مبلغ القياس في أمثاله، مع إمكان التأويل في بعضِه، وأيضا فقد تقدَّم فرقُ ما بين الموضعين في القياس وعدمه.

* * *

فَصْلَ مُضافٍ شِبْهِ فِعْلٍ ما نَصَبْ

مَفعولاً أوْ ظَرْفاً أَجزْ ولم يُعَبْ

فَصْلُ يَمِينٍ، واضِطراراً وُجِداَ

بِأَجْنَبِيٍّ أوْ بنَعْتٍ أوْ نِداَ

(1) في أ: ((كالأول)).

(2)

التسهيل 158، وفيه:((هذا الآخر)).

ص: 172

ذَكَر في هذا الفصلِ مواضعَ جوازِ الفصل بين المضافِ والمضافِ إليه، ثم أَتبعها بما لا يجوزُ ذلك فيه إلاّ ضرورةٍ، وذلك أَنَّ الأصل أن لا يُفصلَ بيتهما كما لا يُفصل بين أجزاءِ الاسم؛ إذ كان المضافُ إليه قد تنَزَّل منزلة الجزءِ أو ما هو كالجزءِ من المضافِ، لأنه واقعٌ موقع تنوينه، فصار الفصلُ بينهما محظوراً، فإن جاء جهة الاضطرار والشذوذ، لكن لما جاء فيه ما فيه كثرةٌ في بعض المواضع وساعده النظر قال بالقياس حيث كَثُر، وأبقى ما سوى ذلك على المنع إلا أن يسمع فيحفظ، وموضعُ القياس عنده على ما ذكر هنا موضعان:

أحدهما: أن يكون المضافُ اسماً يُشِبه الفعلَ، والفاصلُ منصوباً على المفعولية أو الظرفية معمولاً للمضافِ، وذلك قولُه:((فصلَ مضافِ شبْهِ فِعلٍ ما نَصَبْ))، إلى آخره.

فقولهُ: ((فصلَ)) منصوب بأَجِزْ، والمصدرُ الذي هو ((فَصْلَ)) مضافٌ إلى مفعوله، و ((ما نَصَب)) هو الفاعلُ الي رفعه ((فَصْلَ)). و ((مفعولاً)): حالٌ من الضمير المحذوف من ((، نَصَب)) العائد على ((ما)) وثَمَّ مجرورٌ محذوفٌ دلّ عليه الكلامُ متعلِّق بِفَصْلَ، وتقدير الكلام: أَجِزْ أن يَفصِل مضافاً يُشبِه الفعلَ من المضاف إليه الاسمُ الذي نصبه ذلك المضافُ، مفعولاً به أو ظرفاً.

فحصل من هذا الكلامِ أنّ الفصل بين المضافِ والمضاف إليه جائز بثلاثة شروط:

أحدها: أن يكون المضافُ اسماً يُشبِه الفعل، وذلك المصدرُ المقدَّر بأَنْ والفعِل، واسمُ الفاعل، واسم المفعول؛ لأنها التي/ تعملُ عَمَلَ الفعلِ وتُؤَدِّي معناه على التمام، وهو

409 الذي قال فيه: ((فَصْلَ مضافٍ شِبْهِ فِعْلٍ)).

_________

ص: 173

والثاني أن يكون الفاصلُ بينهما معمولاً للمضاف، ولا يكون أجنبياً منه معمولاً لغيره.

والثالث: أن يكون منصوباً على المفعولية أو الظرفية، فلا يكون مرفوعاً (1) به. ويجري مجرى الظرف المجرور؛ إذ هما في الحكم واحد.

فإذا اجتمعت هذه الشروطُ الثلاثةُ ساغ القياسُ، فتقول: أعجبني ضَرْبُ زيداً عَمْروٍ، وقيامُ زيدٍ، وسَيرُ يومَ الجمعةِ زيدٍ. وتقول: هذا ضاربُ غداً زيدٍ، وهذا مُعطي درهماً زيدٍ. وما أشبه ذلك.

وإنما قال بالقياس في هذا النمط لِمَا ثَبَتَ فيه السماعِ الذي يقاس على مثله، فمن ذلك قراءةُ ابن عامر:{وكذلك زُيِّنِ لكثير من المشركين قَتْلُ أولادَهم شُرَكائِهم (2)} ، فقتلُ: اسمٌ يُشبِه الفعلَ، والفاصل الذي هو (أولادَهم) معمول القتل، وهو أيضاً منصوب، والتقدير: أن يقتلُ أولادَهم شركاءُهم. وهذه القراءة وحدها عُذرٌ لمن قاس في الموضع، لأنها نُقِلت عن موثوقٍ بعربَّيته قبل التعلّم، فإنه كان من كبار التابعين، ومن الذين يُقتَدى بهم في الفصاحة كأمثاله الين لم يعلم منهم مجاورةٌ للعجم يَحدُث بها اللحن، كذا قال ابن مالك (3). وأيضاً فهو من العدول الذين لا يُظَنّ بمثلهم إدخالُ الرأي في القراءة (4)، كما ظُنَّ بغيرهم، ولا اتباعُ خطّ المصحف مع عدم اعتباره الرواية. فالأولى في هذه القراءة (أن تجعل (5)) حجةً في الجواز، فإنها من أقوى ما يُحتَجّ به، وقد جاء

(1) في الأصل: معمولان. وهو خطأ.

(2)

الآية 137 من سورة الأنعام.

(3)

شرح التسهيل، ورقة 182.

(4)

في أ: ((القرآن)).

(5)

سقط من أ.

ص: 174

ما يُؤَيِّدها من السماع والقياس.

فأما السماع فنُقِل أيضاً عن بعض السلَّفِ أَنَّه قرأ: {فلا تحسبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدَه رُسُلِه (1)} ، أراد: مخلِفَ رٌسٌلِه وَعْدَه. واسمُ الفاعلِ والمصدر سواءٌ في الإضافة. ونُقل عن عبدالله بن ذَكْوَانَ (2) في كتابه أنه قال: سألني الكسائيّ عن هذا الحرفِ-وبَلَغه من قراءتنا (3)، يعني:{قتلُ أولادَهم شركائِهم} - فرأيتُه قد أعجبه ونزع بهذا البيت فيه (4):

تَنْفِى يداها الحَصَى في كلِّ هاجرةٍ

نَفْىّ الدراهِمَ تنفاد الصياريف

هكذا أنشده، وأنشدوا من ذلك للطرمَّاح (5):

يَطُفْنَ بِحُوزِىِّ المراتِعِ لم يُرَع

بِواديِه من قَرعِ القسِي الكنائِنِ

(1) الآية 47 من سورة إبراهيم. وانظر معاني القرآن للفراء 2/ 81 - 82، والبحر المحيط 5/ 439، والمساعد 2/ 373.

(2)

هو عبدالله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشي الفهري، أبو عمرو ولد سنة 173 هـ، وتوفى بدمشقِ سنة 1242 هـ، روى هو وهشام بن عمار قراءة ابن عامر من طريق أيوب بن تميم، عن يحيى بن الحارث الذماري، عنه. الف كتاب (أقسام القرآن وجوابها)، و (ما يجب على قارئ القرآن عند حركة لسانه). انظر الإقناع 105 - 106، 112 - 114، وغاية النهاية 1/ 404 - 405.

(3)

في الأصل: قرائنا)).

(4)

للفرزدق وهو من شواهد الكتاب 1/ 28، والمقتضب 2/ 256، والمحتسب 1/ 69، 258، 2/ 72، والخصائص 2/ 315، وابن الشجري في أماليه 1/ 142، 221، 2/ 93، 197، والإنصاف 27، 121، وشرح المفصل لابن يعيش 6/ 106، والرضي في شرح الكافية 2/ 261، وفي الخزانة 4/ 426.

(5)

ديوانه 486. والبيت في الخصائص 2/ 406، والإنصاف 429، واللسان: حوز.

الحوزي: الوعل الفحل تجعله الظباء رأساً، تتبعه في المرعى ومورد الماء، وهو الذي يحوزهن ويحميهن. لم يُرَع: لم يُفَزّع. والكنائن: جمع كنانة هي جعبة السهام.

ص: 175

وأنشد الأخفش (1):

فزججتُها بِمِزحَّةٍ

زَجَّ القَلوصَ أبى مَزَادَهْ

وأنشد أبو عُبَيدة مَعْمَرُ بن المثَنَّى (2):

وحَلَقِ الماذِىِّ والقَوانِسِ

فداسَهَمْ دَوْسَ الحصادَ الدائسِ

وأنشد أيضاً لجندل بن المثنّى (3):

يَفْرُكن حَيَّ لسُّنْبُلِ الكُنَافِجِ

بالقاع فَرْك القُطنَ المَحَالجِ

هذا مما وقع فيه الفصل بالمفعول. ومما وقع فيه الفصلُ بالظرف-وفي

(1) البيت في معاني القرآن للفراء 1/ 358، 2/ 81، والخصائص 2/ 406، والإنصاف 427، وابن يعيش على المفصل 3/ 19، 22، والخزانة 4/ 415. يقول البغدادي عن البيت:((من زيادات أبي الحسن الأخفش في حواشي سيبويه، فأدخله النساخ في بعض النسخ حتى شرحه الأعلم وابن خلف في جملة أبياته)). وقال الطبري في تفسيره: 8/ 44 عن هذا البيت: ((وقد رُوِى عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيّد من قرأ بما ذكرت من قراءة أهل الشام، رأيت رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه .. )). وذكر البيت. زججته: طغته بالزُّج، وهو الحديدة التي في أسفل الرمح. والمزج: رمح قصير. وأبو مزادة: كنية رجل.

(2)

البيت في العيني 3/ 461، وعجزه في الأشموني 2/ 276.

والماذي والماذية من الدروع: السابعة. والقوانس: جمع قونس، وهو أعلى البيضة من الحديد.

(3)

البيت في العيني 3/ 457، واللسان: كنفج، وحنبج، وحندج. ونسب في العيني إلى أبي جندل الطهوي. والبيت من قصيدة يصف فيها الجراد. الكنافج: الممتلئ. والقاع: المستوي من الارض. والمحالج: جمع محلج-بكسر الميم-وهو الآلة التي يحاج بها القطن.

ص: 176

معناه المجرور-ما في الحديث من قوله عليه السلام: ((هل أنتمُ تاركوُ لي صاحبِي (1)))، أراد: تاركو صاحبي لي. وقال بعضُ العربِ: تركُ يوماً نَفْسِك وهواها سعيٌ في رداها)). وأنشد سيبويه للشماخ (2):

ربّ ابن عمٍّ لسْلَيمى مُشْمَعِلْ

طَبّاخ ساعاتِ الكرى زادِ الكَسِلْ

/ على من رواه بجرِّ الزادِ. وانشد أيضاً للأخطل (3):

410

وكَرَّارِ خَلْفَ المُحْجَرين جَواده

إذا لم يُحامِ دُون أُنْثَى حليلُها

وأنشد المؤلف (4):

لأَنْتَ معتادُ في الهيجا مُصَابرةٍ

يَصْلَى بها كلُّ من عَاداكَ نِيرانا

وأما وجهُ القياس فإنّ ما تقدَّم من الشواهد استمل على فصلٍ بِفَضلةٍ بين عاملها المضاف إلى ما هو فاعلٌ في المعنى أو مفعولٌ وبين

(1) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذاً خليلا 5/ 6، وشواهد التوضيح لابن مالك 167.

(2)

الكتاب 1/ 177، وهكذا نسب للشماخ في الكتاب، وهو في الديوان 389 - 390 منسوباً إلى جبار بن جزء أخي الشماخ. ويريد بابن عم لسليمى: عمه الشماخ. ومشمعل: سريع ماضٍ نشيط في كلّ ما أخذ فيه من العمل. وسليمى: أمرأة الشماخ.

(3)

الكتاب 1/ 177، وهو من شواهد الرضي في شرح الكافية 3/ 424، والخزانة 8/ 210 وانظر شعر الأخطل 620، وروايته فيه: وكرار خلف المرهقين جواده. حفاظاً إذا لم يحم أنثى حليلُها

المرهق: الذي قد غشيه السلاح.

(4)

شرح التسهيل، ورقة 181. والبيت في المساعد 2/ 367، والعيني 3/ 485، وقال: ((لم أقف على اسم قائله)).

ص: 177

معموله (1)، فَحسَّن ذلك ثلاثة أمور:

أحدها: كونُ الفاصلِ فضلةً، إما ظرفاً، وإما مفعولاً به، فإنه بذلك صالح لعدم الاعتداد به.

والثاني: كونُه غير أجنبيّ لتعلُّقِه بالمضاف.

والثالث: كونه مقدَّر التأخير؛ من أجل أن المضاف إليه مقدّر التقديم، بمقتضى الفاعلية مع المفعولية، أو المفعولية مع الظرفية.

فلو لم تستعمل العرب الفصل المشار إليه لاقتضى القياسُ استعماله، لأنهم قد فَصَلوا في الشعر بالأجنبيّ كثيراً، فاستحقّ الفصلُ بغير الأجنبي مزيّةً تقتضي القول بجوازه. هذا معنى ما قاله المؤلف (2) مع زيادة شيءٍ مّا، ويُسوِّغ ذلك أيضاً كونُ الإضافة أصلُها الرفعُ أو النصبُ، فكان محصولُ هذا الفصلِ فصلاً بين فعلٍ ومرفوعه أو منصوبه ببعض معمولاته، فهو في الحقيقة تقديمُ مفعولٍ على فاعلٍ، أو ظرفٍ على مفعول؛ إِذْ كان قولُك:

من قَرْعِ القِسِىَّ الكنائنِ

كقولك: من قَرْعٍ (القِسِىَّ الكنائنُ (3)). وقولُك:

طباخِ ساعاتِ الكرى زادِ الكَسِلْ

كقولك: ((طباخٍ ساعاتٍ الكرى زادً الكًسِلْ. وكذا سائر المُثُلِ، فصار ذلك كلُّه كقولك: ضَرَبَ عمراً زيدٌ، وضربت اليوم زيداً. ولا إشكال في جواز مثل هذا. فهذه المسألة راجعةٌ إليها من جهة المعنى ومن جهة التقدير اللفظي، فلا

(1) في أ: ((مفعوله)). وهو خطأ.

(2)

شرح التسهيل، ورقة 182.

(3)

ما بين القوسين سقط من أ.

ص: 178

يُسْمَع قولُ من قال بِتَخْطِئِة ابن عامرٍ والغضِّ منه بأنه اتّبع رأيه، وخطَّ المصحف، وترك الرواية، وأن تلك القراءة لحنٌ وغير جاريةٍ على أصول كلام العرب؛ فإن هذا القول تخرُّصٌ عليه، وعدمُ توفيةٍ لحقِّ الإمامة والتقدمِ والعدالةِ ولقاءِ الصحابةِ والأَخْذِ عنهم؛ إذ كان من شيوخه الذين عَوَّل عليهم عثمانُ بن عفانَ، رضي الله عنهم أجمعين. وأيضا فهو ممّن اتّفَق الجمُّ الغفير على اتِّباعه الأثَر وعدمِ أخذه بالرأي كسائر السبعةِ وغيرهم، وممن اشتهر بِنَبْذِ الرأي واتباع السنَدِ في القراءة. ولا أعني بهذا الكلام من زَعَمَ أن [مثل (1)] هذا مختصٌّ بالشعر، وأنه شاذ غير مقيس؛ فإنَّ قائِلَ ذلك مُقِرٌّ بأنه (2) لم يُحَفَظْ مثلُه في كلام العرب، أو لم يكثر كثرةً تُعْتَبر في القياس، أو لم يُدرِكْ وَجْهَ القياس فيه، أو أدركه لكن رآه ضعيفاً. فمثلُ هذا لا كلام مَعَه ولا عَتْبَ عليه، وإنما المراد من زعم (3) أن هذه القراءة خطأٌ، وأن ابن عامرٍ رأى في مصحف الشاميّين فيه ياءٌ مُثبَتةً في (شركائهم)، فقدَّر أن الشركاءَ هم المضلُّون لهم الداعون إلى قَتْل أولادهم، فأضافَ القَتْلَ إِليهم كما يُضافُ المصدر إلى فاعله، ونصب الأولاد، ولو أضافه إلى/ المفعول وهم الأولاد لزمه

411 رفعُ الشركاءِ فخالف المصحف. ثُمَّ وَجّه كون (شركائهم) مرسوما بالياء على خفضه بدلاً من الأولاد لأنهم شركاء آبائهم في إهلاكهم. وأيضاً فقد تكون الياء مضمومةً بدلاً من

(1) سقط من صلب الأصل، أ.

(2)

أ، س: أنه.

(3)

تكلم في هذه القراءة بنحو هذا غير واحدٍ من الأعلام، انظر الفراء في معانيه 2/ 357، والطبري في تفسيره: 8/ 44، والنحاس في إعراب القرآن 1/ 583، ومكي في الكشف 1/ 454، والزمخشري في الكشاف 2/ 42، والرضي في شرح الكافية 2/ 261. وانظر النشر 2/ 263.

ص: 179

الهمزة على لغة: شفاه الله شفايا (1)، ويُقَدَر: زيّنه شركايُهم قال هذا القائل: وهذان الوجهان تخريج لخطّ المصحف، ولا وجه لقراءة ابن عامر. هذا ما قال. وقد تقدَّم-والحمدلله- وجهُها على ما يساعدُ عليه القياسُ المكور مضافاً إلى ما تقدَّمَ من النقل، وذلك غاية ما قصد في توجيه القراءة. وحصل من مجموع ذلك رُجحانُ ما ارتكبه الناظمُ من القول بالقياس في المسألة. غير أنّ ههنا قاعدةٌ يجب التنبيهُ عليها في الكلامِ على هذا النَّظْمِ، وما ارتكب صاحبُه فيه وفي غيره، وذلك أنَّ المعتمد في القياس عند واضعيه الأوّلين إِنما هو اتباع صلب كلام العرب وما هو الأكثر فيه فنظروا إلى ما كثُر مثلاً كثرةً مسترسلة الاستعمال فَضَبطوه ضبطا ينقاس (2) ويُتكَّلم بمثله لأنه من صريح كلامهم. وما وجدوه من ذلك لم يكثُرْ كثرةً تُوازي تلك الكثرة، ولم يَشِع في الاستعمال، انظروا: هل له من معارضٍ في قياس كلامهم أم لا؟ فما (3) لم يكن له معارض أجروا فيه القياس أيضاً، لأنهم علموا أن العرب لو استعملت مثله لكان على هذا القياس، كما قالوا في النسب إلى فَعُولة: فَعَلِىٌّ، ولم يذكروا منه في السماع إلا شَنَئِياً (4) في شَنُوءَةَ فقاسوا عليه أمثاله لعدم المعارضِ له، فصار بمثابة الكُلِّىَّ الذي لم يُوجَد من جُزئيّاته إلا واحد كشمس وقمر. وكذلك إذا تكافأ السماعان في الكثرة بحيث يصحُّ القياسُ على كلِّ واحد منهما-وإن كانا متعارِضَيْنِ في الظاهر- لأن ذلك راجع إلى جواز الوجهين كلغة الحجازيين وبني تميم في إعمال ما وإهمالها، والتقديم والتأخير في المبتدأ مع الخبر، والفاعل مع المفعول، وغير

(1) انظر الخصائص 1/ 292، واللسان: حما. وفيه يقول الجوهري عن نحو هذا: ((وهي لغة لبعض العرب)).

(2)

في صلب الأصل: ((فيقاس)). والمثبت عن هامشه، أ، س.

(3)

في النسخ: ((فمن لم)) ،

(4)

في النسخ: ((إلا شنئي)).

ص: 180

ذلك، فليس في الحقيقة بتعارض، لا سيما إن كانا في لُغَتين مفترقتين؛ فْإنَّ اللغاتِ المفارقة الْسِنَةٌ متباينة، وقياساتٌ مستقلة، فلا تعارُضَ فيها البتة، وإن قلَّت إِحداهما بالإضافة إلى الأخرى، إلا أن تضعفَ جداً فلها حكمُها. وأما الوجهان في اللغة الواحدة فحكمها ما ذُكِر. وما كان له معارضٌ توقفوا في القياس عليه، ووقفُوه على محلّه، إذا كان المعارضُ له مقيساً، وذلك كدخول أَنْ في خبر كاد تشبيهاً بعسى، لو أعملنا نحن القياس في إدخالها لانحرفت لنا قاعدةُ عدمِ إدخالها، مع أنه الشائع في السماع.

وهذا كلّه مُبَيّن في الأصول.

وإِذا ثبت هذا فمسألة الناظم من هذا القبيل، أما إذا فرضناها عامةً في الفصل بين المضاف والمضافِ إِليه بإطلاقٍ، فلا مِرْيةَ أَنَّ الفصلَ قليلٌ، وعامَّتهُ في الشعر، فهو بحيثْ لا يُلتَفتُ إلى

/ القياس، وإذا فرضناها خاصّة في إضافة المصدر أو الصفة إلى معمولها، فنحن لا نَشُكّ 412 أَنّ عدم الفصل فيها هو الشائعُ الذائعُ، وأنّ الفصل بالنسبة إلى عدمه كالمعدوم، وأنّ ما جاء منه في الشعر وما جاء في الكلام شاذٌ في غاية الندور، فكيف نُجري فيه القياس وهو مصادمةٌ لما شاع في كلامهم من عدم الفصلِ؟ إِذ لو عزموا على القياس لكانوا خُلَقاءَ أن يتكلموا به ويكثُر في كلامهم كما كثُر عدمُ الفصل، فإن لم يفعلوا ذلك-بل أطبقوا على عدم الفصلِ-دليلٌ على عدم مراعاة ما راعاه الناظم واضحٌ، ولا يصح أن يقال: هو-وإن كان قليلا-قد ظهر له وجه من القياس، حيث جرى مجرى العامل غير المضاف في جواز بعض معمولاته على بعض؛

_________

ص: 181

لأنا نقول: ذلك غيرُ معتبرٍ من وجهين:

أحدهما: أن العلَّةَ إذا وُجِدت، وَوَجْهَ القياس إذا ظهر، لا يعتبر إلا مع شياع السماع، أو كونه في قوة الشائع لعدم المعارض، كما تقدم، وهذا ليس كذلك.

والثاني: أنَّ هذا لو كان مراعىً عندهم لَكَثُرَ في كلامهم كما كثر تقديم (1) المنصوب على المرفوع في غير المضاف.

ولا يلزم من عدم القول بالقياس في هذه الأشياء الواقعة في القرآن الكريم أن يكون عَدَمَ مراعاةٍ للفظ القرآن أو إخراجاً له عن الفصاحة أو نحو ذلك، كما يَظُن من لا تحقيق له! بل هو في أعلى الدرجاتِ في الفصاحة، لكنه لم يكثر مثلُه فيقاس عليه. وعلى هذا بنى سيبويه والمحقِّقُون، هذا الصواب، ولكن ابن مالك رُبَّما أهمل هذه القاعدة كما فعل هنا، ولعله يقع التنبيه على بعض مواضعَ من هذا النوع إن شاء الله. وقد خرجنا عن المقصود الأصلي لعارضٍ عَرَضَ فَلْنرجِعْ.

فإن تخلَّف أحدُ الشروط المتقدمة لم يَجُزِ الفصل بين المضاف والمضاف إليه قياساً على مقتضى كلام الناظم، فلو كان المضافُ غير شبيه بالفعل لكان الفاصل أجنبياً منهما، فلم يصحَّ أن يقع بينهما. وكذلك إذا لم يكن الفاصل معمولاً للمضافِ، وإن كان المضافُ شبيهاً بالفعل. ومذلك لو كان الفاصلُ مرفوعاً، لأنه عند ذلك متمكِّن في موضعه؛ إذ كان له رتبة التقديم على المضاف إليه، فكان الفصل به فصلاً حقيقةً، فاستُكرِه الفصلُ لذلك، فإذا قلت: أعجبني غلامُ في الدار زيدٍ، لم يجز، وكذلك لو قلت: أعجبني ضاربُ عندك زيدٍ، أو قلت: أعجبني ضربُ زيدٌ عمروٍ، أو: الضاربُ أبوه الغلامِ.

(1) في صلب الأصل: ((ذكر المنصوب)).

ص: 182

وما جاء مما خالف القاعدة فسماعٌ إلا الفصل باليمين فإن ظاهر كلامه هنا إجازته قياساً، لقوله:((ولم يُعَبْ فصلُ يمين))، وهو الموضع الثاني من موضِعَي الفصل القياسيّ، يعني أنّ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالقسم لم يعيبوه حتى لا يجئَ إلا في ضرورة الشعر، بل استسْهلوا أمره، ففصلوا به في الكلام لكن قليلا، فحكى الكسائي/: هذا غلامُ-واللهِ-زيدٍ (1)، ونُقِل

413 عن أبي عٌبيدة أنه حكى: ((إِنَّ الشاة تسمعُ صوتَ -والله-رَبِّها فتقبلُ إليه وتَثْغُو (1)))، وحكاه ابنُ خروفٍ عنه أنه سمع ابا الدُّقَيش يقول:((إن الشاة تسمع صَوْتَ-قد عَلِمَ الله- رَبِّها، فتقبل إليه وتثغُو)). وهذا قسمٌ أيضاً، كما فَصلوا بين حرفِ الجرّ ومجروره بالقسم أيضاً، حكاه الكسائي في الاختيار، نحو: اشتريته بِوَالله درهمٍ، فتقول على هذا قياساً: رأيت غلام-والله-زيدٍ، وأتيت بعدَ -لعمروُ الله-عمروٍ، ونحو ذلك. ووجهُ استسهال الأمر في فصل القسم خصوصاً، حتى لم يشترطوا فيه شرطاً، أَنَّ العرب استعملته على جهة التأكيد زائداً على أصل معنى الكلام، كالجلة المعترضة في أثنائه، فكأنه لا فصل ثَمَّةَ، ولذلك وقع بين إِذَنْ ومنصوبها فلم يُعَدَّ فَصْلا، ولم يمنعها أن تُؤَثّر في الفعلِ فتنصبَه، فقالوا: إذنْ-والله-أكرمَك.

وهذا الموضعُ ممّا خالف فيه الجمهور من النحويين كالموضع الأول، فإن الفصل بين المضاف والمضاف إليه ممتنع في القياس عندهم بإطلاقٍ. ووجْهُ مذهب الناظم قد مرَّ آنفاً، مع أن السماع-وإن لم يكثر-فقد جاء منه ما يُمكن القياسُ عليه، وقد حَكى (2) الكسائي ذلك في الاختيار فيما هو

(1) الإنصاف 431.

(2)

في الأصل: ((حكى عن الكسائي)).

ص: 183

أشدّ، وذلك حرفُ الجرّ والمجرور؛ فإن الحرف أشدُّ طلباً للاتصال بمجروره من الاسم، فالاسم أحرى بالجواز. وأيضاً فقد زعم أبو عُبيدة أن من شأن العرب أنهم ينقُلون المضافَ إليه الذي موضعُه إلى جنب المضاف الأول، فيؤخِّرونه ويُقدِّمون بينه وبين المضاف الأول كلاماً، ثم لا يُغَيِّر ذلك معناه ولا إعرابه عن حاله إذا احتاجوا إلى ذلك. ،انشد على ذلك جملة أبيات، وحكى كلام أبي الدُّقَيش، فهذا كله مؤنسٌ بوجوده في النظم والنثر على الجملة، أعني الفصل على الجملة. وكونُ الفاصلِ هو القسمُ أسهلُ من غيره، فكان القول (1) بالقياس فيه صحيحاً على هذا الترتيب.

وفي إطلاقه القياس في الموضعين نظرٌ من جهة أنه يقتضي جواز الفصل بإطلاق، كان المضافُ إليه ظاهراً أو مضمراً؛ أمّا الفصل مع كونه ظاهراً فمسلَّمٌ على ما قال، وأمّا مع كونه مضمراً فغيرُ مساَّم، لأنّ ضمير الجرِّ متصل أبداً فلا ينفصل البتَّة، ولا ينوبُ عنه في الفصلِ ضميرُ رفعٍ ولا نصبٍ، كما ناب في نحو [قوله (2)]:

ولم يَأْسِرْ كإيَّاك آسِرُ (3)

وقولهم: ما انت كأنا (4). فكان من حقِّه أن يتحرَّزَ من ذلك.

(1) في صلب الأصل: ((فكأن القياس فيه)).

(2)

عن هامش الأصل.

(3)

من بيت مجهول القائل، وقبله:

فأجمل وأحسن في أسيرك إنه ضعيف

والبيت في التمام في تفسير أشعار هذيل 33، وشرح الكافية للرضي 4/ 326، والهمع 4/ 197، والخزانة 10/ 194.

(4)

قد يدخل الكاف في السعة على الضمير المرفوع، انظر أمالي السهيلي 43، وشرح الكافية للرضي 4/ 326 - 327.

ص: 184

وكذلك يقتضي أيضاً جوازَ الفصل بالقسم إذا كان المضاف إليه جملة، نحو جئت يوم قام زيدٌ، وحين زيد قائم، [(1) فتقول: جئت يوم-والله-قام زيد، وحين-والله-زيدٌ قائم (1)]. وجوازُ مثل هذا بعيدٌ؛ إذ لم يسمع مثلُه، ولا يقاسُ إلا على مسموع.

والجواب عن الأول: أن حكم الضمائر المتصلة مأخوذٌ من بابه، فلم يحتج إلى ذكره ههنا، وعن الثاني من وجهين، أحدهما: أن كلامه في أصل الإضافة، والأصل فيها أن يكون المضاف إليه مفرداً لا جملة. والثاني: على تسليم أنه أطلق القول قصداً، فلا مانع من الفصل وإن كان المضاف إليه جملةً، بناءً على القياس في أصل المسألة، فإنه إذا ثبت إجراء القياس كان تخصيصُ بعض المواضع دون سائرها تحكّماً بغير دليل.

فإن قيل: لا يُقاس إلاّ على مسموع/ ولا سماعَ هنا

414

قيل: قد ثبت السماع على الجملة، ولم يكن الفصلُ ممتنعاً في الأصل من جهة وصفٍ في المضاف إليه، من كونه مفرداً أو جملة، بل من جهة أنه وقع من المضاف موقع التنوين، فالمفرد والجملة في ذلك سواء، فإذا جاز الفصلُ بينهما في بعض المواضع، إمّا لكون المضافِ إليه في الحكم لم يقع موقع التنوين لكونه منصوباً به تقديراً كالموضع الأول، وإمّا لكون الفاصل كالمعدوم حكماً كالموضع الثاني، فلا فرقَ بين المفرد والجملة في جواز الفصلِ أو منعه. وهذا واضحٌ.

ثم رجع الناظمُ إلى التنبيه على ما نُقِل مخالفاً لما أَصَّل ولم تتوفَّر فيه شروطُ الجواز، فقال:((واضطراراً وُجِدا بأجنبيٍّ))، إلى آخره، يعني

(1) سقط من صلب الأصل، أ.

ص: 185

إن الفصل بين المضاف والمضاف إليه إذا لم تُوجَد الشروطُ المذكورة، ولا الفصل بالقسم، قد وجُد في الشعر في حالة الاضطرار، وذلك الفصلُ بالأجنبي، وهو الذي لم يتعلق بالمضافِ ولا كان نعتاً له، ولا كان نداءً، وبالنعت وبالنداء، وأراد النعتِ ونعتَ المضافِ، وبالنداء مع المنادي؛ فإن حقيقة النداء هي التصويتُ بالمنادى، وذلك راجعٌ إلى الحرف المصَّوت به. ولم يقع الفصلُ به إلا مع المنادى، فلابُدَّ أن يُفسَر بهذا، أو يكون على حَذْف مضافٍ، أي: أو ذى نداء.

فأما الفصل بالأجنبيِّ فنحو قول عَمرو بن قميئةَ، من أبيات الكتاب:

لما رَأَتْ ساتيد ما استعبَرَتْ

لله درُّ-اليومَ-مَنْ لَامَها (1)

فاليوم أجنبيّ من ((دَرّ))، لأن العامل فيه ((لامها)). وأنشد لأبي حيَّة النُّميري (2):

كما خُطَّ الكتابُ بِكفِّ يوماً

يَهُودِيٍّ، يُقَارِبُ أو يزِيلُ

فالعامل في ((يوماً)) خُطَّ. وأنشد أيضاً لذي الرمَّة (3):

(1) الكتاب 1/ 178. وهو من شواهد المقتضب 4/ 377، والإنصاف 432، وشرح المفصل لابن يعيش 2/ 46، 3/ 19، 20، 77، 8/ 66. والبيت لعمرو بن قميئة، انظر ديوانه 182. ساتيد ما: جبل. واستعبرت: بكت

(2)

الكتاب 1/ 179. وهو من شواهد المقتضب 4/ 377، والإنصاف 432، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 103، والهمع 4/ 295. وفي العيني 3/ 470، واللسان: عجم. ورواية صدره فيه:

كتحبير الكتاب بكف يوماً

(3)

الكتاب 1/ 179، 2/ 166، 280. وهو في المقتضب 4/ 376، والخصائص 2/ 404، والإنصاف 433، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 103، 2/ 108، 3/ 77، وشرح الكافية للرضي 2/ 182، 260. والخزانة 4/ 108، 413.

ص: 186

كأن أَصواتَ-من إيغالِهِنَّ بنا-

اواخِر الميس أصواتُ الفراريج

وأنشد ايضاً لِدُرْنَى بنتِ عَبْعَبة (1):

هما أَخَوَا-في الحرب- من لا أَخاله

إذا خافَ يوماً نبوةً فَدَعَاهُما

وقال ذو الرّمّة (2):

نَضَا البُرْدَ عنه وَهْوَ ذُو-مِنْ جُنُونه-

أجارىَّ مِنْ تَسهاكِ صَوْتٍ صُلاصِلِ

= والبيت في ديوان ذي الرمة 996. والميس: الرحل، وهو في الأصل شجر تُعمل منه الرحال. والإيغال: المضيّ والإبعاد، يقال: أوغل في الأرض، أي أبعد. يريد أن رحالهم جديدة، وقد طال سيرهم فبعضُ الرحل يحكُّ بعضا، فيحصلُ مثل أصوات الفراريج من اضطراب الرحال، ولشدة السير. فصل الشاعر بين المضاف والمضاف إليه، فالتقدير: كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا.

(1)

الكتاب 1/ 180، والخصائص 2/ 405، وفرحة الأديب 50 - 51، والإنصاف 434، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 19، 21، والهمع 4/ 292، والعيني 3/ 472، واللسان: أبى. نسب في اللسان إلى عمرة الخثعمية. وقد ردّد ابن السيرافي نسب دُرْنى بين أن تكون: درنى بنت عبعبعة، من بني قيس بن ثعلبة، ودرنى بنت سيّار بن صبرة بن حطان بن سيار بن عمرو بن ربيعة، وصوَّب الغندجاني النَّسب الثاني.

فصل هنا بين المضاف والمضاف إليه، فالتقدير: هما أخوا من لا أخاله في الحرب.

(2)

ديوانه 1350، وروايته فيه:

نضا البرد عنه، فهو ذُو-من جنونه أجارىَّ تسهاكٍ وصوتٍ صلاصل

يصف حماراً. الأجارى: ضربٌ من العدو. والتسهاك: الإسراع في العدد. وصلاصل: له صلصلة كصوت الحديد. أراد: فهو ذو أجارى من جنونه، ففرق بين المضاف والمضاف إليه. وانظر عيار الشعر 4، والموشح 292.

ص: 187

وأنشد ابن جني (1):

فأصبَحَتْ بعد-خَطَّ-بهجتِها

كأن قَفْرتً رسُوُمَها قلَما

وأما الفصلُ بالنعت، وهو نعتُ المضاف، فنحو قول الشاعر يخاطب معاوية رضى الله عنه (2):

نجوتَ وقد بلَّ المرادىُّ سَيْفَه

من أبي شيخِ الأباطحِ-طالبِ

أراد: ابن أبي طالبٍ شيخ الأباطح، وابن أبي طالب هو عليّ رضي الله عنه:

وقال الفرزدق (3):

وَلَئِن حلفتُ على يديك لأحِلفَنْ

بيمين- أصدق من يمينك- مقسمِ

اي: بيمين مُقسِمٍ أصدقَ من يمينك.

وأما الفصل بالنداء فنحو ما أنشده ابن جني وغيره (4):

(1) الخصائص 1/ 330، 2/ 393، والإنصاف 431، واللسان: خطط.

اراد الشاعر: فأصبحت قفراً بعد بهجتها كأن قلماً خط رسومها، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالأجنبي.

(2)

التصريح 2/ 59، والهمع 4/ 296، والأشموني 2/ 278، والعيني 3/ 478.

(3)

ديوانه 2/ 226، وهو الأشموني 1/ 278، والعيني 3/ 484.

(4)

الخصائص 2/ 404. وهو في التصريح 2/ 60، والهمع 4/ 296، والأشموني 2/ 278، والعيني 3/ 80، وقال: ((لم أقف على اسم قائله)).

ص: 188

كأنَّ برذون-أبا عصامِ-

زيدٍ حمار دقّ باللجامِ

وَيَردُ على الناظم سؤال من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه قصد هنا الإتيان بما يخالف الشروط، فكان من حقِّه أن يأتي لكل شرطٍ خُولِفَ بمثالٍ من السماع، لكنه لم يفعل، وإنما أتى بالأمثلة للفصل بما ليس بمعمولٍ للمضافِ، وهو الأجنبي، وترك غير ذلك، مع أنه قد وُجِد الفصلُ بما ليس بمنصوبٍ، بل بمرفوع، وهو معمول للمضاف/ أو لغيره، فالمعمول للمضاف قولُ الراجز (1):

415

ما إِنْ وَجَدْنا للهوى منِ طبِّ

ولا جَهِلْنا قَهْرَ وَجْدٌ صَبِّ

والمعمول لغيره ما أنشده الفارسيُّ من قول الشاعر (2):

أَنْجَبَ أيامَ- والداه به-

إِذْ نَجَلاه، فنِعْمَ ما نَجَلا

على تأويل: أيام إذ نجلاه، ووالداه: فاعل أنجب. وهو أظهر

(1) التصريح 2/ 59، والهمع 4/ 297، والأشموني 2/ 279، والعيني 3/ 483، وقال:((لم أقف على اسم قائله)).

(2)

الأعشى، ديوانه 235. والبيت في المحتسب 1/ 152، والتصريح 2/ 58، والهمع 4/ 297، والأشموني 2/ 277. والعيني 3/ 477. ورواية الديوان:

انجب ايامُ والديه به

برفع ((أيام)) وجرّ ((والديه)) بالإضافة. والبيت من قصيدة شكك ابن قتيبة في نسبة بعضها إلى الأعشى، انظر الشعر والشعراء 69.

ص: 189

التأويلين في البيت. وكذلك قولُ الآخر، في أظهر التأويلين (1):

تَمُرُّ على ما تستمرُّ وقد شَفَت

غلائِلَ-عبدُ القيس منها- صدورِها

فكان أولى أن يذكره، إذ كان تتميماً لشرط نصب الفاصل، كما ذكر الفاصل الأجنبي تتميماً لشرط كونه معمولاً للمضاف.

والثاني: أنه قال: ((واضطراراً وُجِد بأجنبي أو بنعتٍ أو ندا))، فجعل الأجنبي قسيماً للنداءِ، وهو قسمٌ منه؛ إذ النداء جملة مستقلة بنفسها ليس للمضاف فيها عمل، أما النعت فهو غير أجنبي فلا اعتراضَ به.

والثالث: أن قوله: ((بأجنبيٍّ))، ظاهره أنه متعلق بالضمير في ((وُجِد))، وهو ضمير المصدر الموصول، كأنه يقول: واضطراراً وُجِدَ الفصلُ بأجنبي، والمعنى على هذا بلابُدٍّ، لكن فيه نظرٌ؛ فإن الضمير لا يعملُ وإن كان ضمير عاملٍ لجموده في نفسه، فلا يجوز أن يقال: مروري (2) بزيد حَسَنٌ وهو بعمر قبيحٌ، ولأنه مُغَيرَّ عن لفظ فعله؛ ألا ترى أن المصدر الصريح لا يعمل مصغراً [فأولى أن لا يعمل مضمرا؟ (3)] وإذا كان كذلك لم يستقم كلامُ الناظم في القياس، فكان مُعتَرَضاً.

والجواب عن الأول: أن إتيانه بشروط جواز الفصل هو المقصودُ الأعظم، وقد عُلِم أنّ ما تخلَّف فيه شرطٌ منها غيرُ جائزٍ في القياس، ولم يبق بعد ذلك إلا

(1) الإنصاف 428، وشرح الكافية للرضي 2/ 260، والخزانة 4/ 413، بلا نسبة.

وفي البيت تخريج آخر، تكون ((غلائل)) فيه مقطوعة عن الإضافة، ولم تنون لأنها على صيغة منتهى الجموع، فأما ((صدورها)) بالجر فهو مضاف إلى محذوف مماثل للمذكور، وأصل الكلام: شفت غلائل عبدُ القيس منها، غلائِلَ صدورها. انظر تعليق محقق الإنصاف.

(2)

في الأصل، أ:((مررت)) وهو خطأ.

(3)

عن أ.

ص: 190

التنبيهُ على شُذوذٍ إِن كان، وليس من ضروريّات هذا النظم، فإن أتى بشيءٍ من ذلك فبها ونعْمَتْ، وإلاّ فلا عَتْبَ عليه؛ وأيضاً فإن قوله:((واضطراراً وُجِدا بأجنبي)) تَنبيه على ما خالف الشرطِين الأولين، وإنّما بقى عليه التنبيه على ما خالف الثالث، ولم يأت في سماعٍ شُهِر نقلهُ عند النحويين كما شُهِر غيره مما ذكر، أعني كون الفاصِل معمولاً للمضافِ وهو مرفوع، فلعَّله تركه لهذا.

وعن الثاني: أنه إنما ذكر الأجنبي ثم النداء، وجعاه قسيماً له من جهة أنه جملة معترِضةٌ تشبه جملة الاعتراض وجملة القسم، وإذا كانت كذلك بدليل وقوعها بين إِذن ومنصوبها، فليست بأجنبية، ولا أيضاً هي في موضع معمول المضاف، فلم يكن بمنزلته، فصار لها حالً بين حالين، فلم يصح أن تدخل تحت الأجنبي، ولا هي داخلة فيما تقدّم، فخالفت ما ذكر بعدها قسيماً.

وعن الثالثِ من وجهين:

أحدهما أن نقولَ: لا نُسلِّم أن المجرور متعلق بالضمير، بل باسم مفعولٍ (1) خاصً حذف لدلالة لفظ الفصل عليه، ويكون الضمير في ((وْجِد)) عائداً إلى المضاف، وكأنه في التقدير: واضطراراً وُجِد المضاف مفصولاً بأجنبي وبكذا وكذا، يعني من المضاف إليه، كما قال:((فصلَ مضاف شبه فعل ما نصب))، يريد من المضاف إليه.

والثاني: على تسليم أن ضمير ((وُجِدَ)) للفَصْلِ فهو يعملُ عند جماعة

(1) في النسخ: فاعل. والصواب ما أثبتّ.

ص: 191

قياساً، وعند الأكثر سماعاً/، وأنشدوا قول زهير (1):

416

وما الحربُ إِلَاّ ما عَلمْتِم وذقُتْمُ

وما هُوَ عَنْهَا بالحدِيتِ المرجَّمِ

فعنها متعلق بهو، لأنه ضمير العِلْمِ عند الأعلم (2)، وعن بمعنى الباء. أو ضمير الحديث الذي دلّ عليه الكلام. فكذلك يكون المجرور هنا متعلقا بالضمير في ((وُجِد))، ولا اعتراضَ إذاً، أَي: وُجِد الفصلُ بأجنبي حال كونه ذا اضطرارٍ

* * *

(1) ديوانه 18، وهو من شواهد الرضي في شرح الكافية 3/ 407، والهمع 5/ 66، وفي الخزانة 8/ 119.

(2)

قال الأعلم: ((هو: كناية عن العِلْم، يريد: وما عِلْمُكم بالحرب. وعن بدل من الباء)). انظر الخزانة 8/ 120، وشرح الكافية للرضي 3/ 407.

ص: 192