الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
((نعم وبئس)). وما جرى مجراهما
الذي جرى مجرى ((نِعْمَ وبِئْسَ)) (فَعُلَ) المبنيُّ من الثلاثي نحو: (سَاءَ) في معنى (بِئْسَ) و ((حِسُنِ)) نحو: حَسُنِ ذَا أدباً، في معنى (نِعْمَ) و (حَبَّذَا) أيضا في معنى (نِعْمَ) وكل ذلك مذكور في هذا الباب.
واعلم أن لـ (نِعْمَ، وبِئْسَ) استعمالين، أحدهما أن يجريا مَجرى سائر الأفعال في التصرُّف وبناءِ المضارع والأمرِ منهما، واسم الفاعل ونحو ذلك، وهما إذ ذاك للإخبار بالنِّعْمة والبُؤْس، كما أن (قَامَ، وقَعَد) للإخبار بالقيام والقعود، فتقول: نَعِمَ زيدٌ بكذا، يَنْعَم به. وبَئِسَ يَبْأَسُ بكذا. أصلهما (نَعِمَ، وبَئِسَ) لكن ما كان على (فَعِلَ) مما عينُه حرفُ حَلْق فيه لغات أربع: الأصْل: الأَصْل، والتَّسْكين منه، والإتباع (1)، والتسكين منه.
والثاني أن يُستعملا لإنشاء المدح والذم، وهما في هذا الاستعمال لا يتصَّرفان لخروجهما عن أصل معاني الأفعال، من الدلالة على الحَدث والزمان، فأشبها الحرف لذلك. وهذا القسم هو المذكور هنا؛ إذ الأول معلومٌ حكمهُ، فقال رحمه الله:
فِعْلَانِ غَيْرُ مُتَصرِّفَيْنِ
نِعْمَ وبِئْسَ رَافِعَانِ اسْمَيْن
(1) أي إتباع حركة الفاء لكسرة العين، فيكون بكسرتين.
مُقَارِنَىْ أَل مُضَافَيْنِ لِمَا
قَارَنَها كنِعْمَ عُقْبَى الْكُرَمَا
عَرَّف أولاً أن (نِعْم وبِئْس) فعلان لا اسمان، لكنهما لا يتصرَّفان تصرفَ الأفعال، من كَونْهما يُبْنيان للماضي والحال والاستقبال وغير ذلك، لمانعٍ مَنع من ذلك، وهو لزومُهما إنشاء المدح أو الذم على سبيل المبالغة، فلَزِما طريقةً واحدة.
وهي مسألة خِلَافية بين أهل الكوفة وأهل البصرة (1).
فأما أهل البصرة فرأوا أنهما فِعْلان، وهو رأي الناظم، وإليه ذهب الكسائيُّ من الكوفييِّن. وذهب باقي الكوفيين إلى أنهما اسمان لا فعلان. والذي يدل على صحة ما ذهب إليه الناظم (2) من نظمه قولُه أولاً عند التَّعريف بالفِعْل (3):
بِتَا فَعَلْتَ وأَتَتْ ويَا افْعَلِى
ونُونِ أَقْبِلَنَّ فِعْلٌ يَنْجِلى
فأخبر أن لَحَاق ناء التأنيث الساكنة آخرَ الكلمة التي لا يَقْلبها (4) أحدٌ من العرب هاءً في الوقف، ولا تقبل الحركة لغير مُوجِب-من خَوَاصِّ الأفعال، كما كانت التاء في (فَعَلْتَ) وهي ضمير الفاعل دليلاً على ذلك باتفاق.
وإذا ثَبت دخولُ الأداة المختصَّة بالفعل على (نِعْمَ وبِئْسَ) في قولهم: نِعْمَتِ المرأةُ، وبِئْسَت الجارية، قال: نِعْمَ الفَتَى، وبِئْسَت القبيلة- دَلَّ ذلك على فِعْليَّتهما.
(1) انظر: الإنصاف 97 (المسألة الرابعة عشرة).
(2)
في (ت): ((ما رآه الناظم)).
(3)
ذكره أول الألفية في باب ((الكلام وما يتألف منه)).
(4)
في الأصل و (ت)((لا يقبلها)) وهو تحريف.
ومثل ذلك في الدلالة على الفِعْلية اتصالُ ضمير الرفع البارز، كما حَكى الكسائي: الزيدان نَعْمَا رَجُلَيْن، والزيدون نِعْمُوا رجالا، ونحو ذلك (1).
فإن قيل: الدليل على أنهما اسمان صَلَاحِيةُ خواصِّ الأسماء معهما، وجَريَانُهما مجراها، فمن ذلك/ أنهما لا يتصرَّفان للماضي ولا للأمر ولا للمضارع، ولا يدلَاّن على زمانٍ ماضٍ ولا 542 حاضرٍ ولا مستقبل. وهذا سبيل الأسماء لا سبيل الأفعال.
ومن ذلك دخولُ الجارِّ عليهما، وهو مختصٌّ بالأسماء، كقولهم: ما زيدٌ بِنِعْمَ الرجلُ، وقال بعض العرب: نِعْمَ السَّيْرُ على بِئْسَ العَيْرُ (2)، وحَكى الفراء: واللهِ ما هي بنِعْمَ المولودةُ (3).
وكذلك دخولُ حرف النداء، نحو: يَا نِعْمَ المَوْلَى، ويا نعْمَ النَّصِيرُ. ولا يسوغ تقدير المنادى هنا، إذ لا يكون ذلك إلا في الأَمْر وما جرى مجراه، نحو قراءة الكسائي {أَلَا يا اسْجُدُوا لِلَّه (4)} وقول ذي الرُّمة (5):
(1) ابن يعيش 7/ 127.
(2)
العَيْر: الحمار، وحشياً كان أو أهليا. قاله رجل سار إلى محبوبته على حمار بطيء السير.
(3)
في ابن يعيش (7/ 128)((وحكى الفراء أن اعرابيا بُشِّر بمولودة، فقيل له: نعم المولودة مولودتُك، فقال: والله ماهي بنعم المولُودة)) ويروى ((والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبِرُّها سرقة)).
(4)
سورة النمل/ آية 25، وفي التيسير (167)((ويقف ((ألَايَا)) ويبتدئ ((اسْجُدوُا)) على الأمر، أي: ألا يأيها الناس اسجدوا)).
(5)
ديوانه 206، وأمالي ابن الشجري 2/ 151، والمغني 243، والتصريح 1/ 185، والهمع 2/ 66، 4/ 96، 367، والأشموني 1/ 37، 228، والعيني 2/ 6، والدرر 1/ 81، 2/ 23، 26. والبِلى: القدم والتقرب إلى الفناء، يقال بَلِي الثوبُ يَبْلَى، بِلى وبَلاء. ومنهلا: منصبا منسكبا. والجرعاء: كل رملة مستوية لا تنبت شيئا. والقطر: المطر. يدعو لدار مَيّ محبوبته بالسلامة وطول البقاء على الرغم من قَدَمها، وأن تبقى في خصب وسعة كما عهدها، بدوام نزول الأمطار عليها.
ألَا يَا اسْلَمِي يا دَارَمَيَّ على البِلىَ
ولَازَالَ مُنْهَلاً بَجْر عَائِكِ القَطْرُ
وقال الآخر (1):
* يَا قَاتَلَ اللَّهُ بَنِى السِّعْلَاتِ *
وذلك في كلامهم كثير. وأما الماضي فلا يُحذف المنادى معه.
فالجواب أن عدم التصرف لِمَا لحقهما من المعنى المقصودِ به نهايةُ المدح والذم، فجُعِلت دلالتُهما (2) على الحال، لأنه لا يُمدح إلا بما هو ثابت موجود في الحال، لا ما كان ماضياً فانقطع، أو مستقبلاً لم يَقَع.
وأيضاً لَمَّا دَخلهما معنى الإنشاء صَرفهما عن أصلهما، كـ (أَفْعِلْ به) في التعجُّب.
وأما دخول الجارِّ فعلى الحكاية وتقدير القول، كأنه قال: ما زيدٌ بمقولٍ فيه هذا الكلام، كما قال الشاعر (3):
(1) هو علباء بن أرقم اليشكري، وقد استشهد به في الخصائص 2/ 53، والإنصاف 119، وابن يعيش 10/ 36، 41، وشرح شواهد الشافية 469، واللسان (نوت، سين). ويروي ((يا لعن الله)) و ((يا قبح الله)) وبعده:
عَمرو بن يَرْبوعٍ شرارَ الناتِ غير أعِفَّاءَ ولا أكْياتِ
والسَّعلاة: الغول، أو ساحرة الجن، وتشبه بها المرأة إذا كانت قبيحة الوجه، سيئة الخلق. وأصل (النات، والأكيات) الناس، والأكياس، فأبدلت السين تاء، وهي لغة لبعض العرب.
(2)
في (ت)((فجعل في دلالتهما)).
(3)
الخصائص 2/ 366، والإنصاف 112، وشرح الرضي على الكافية 4/ 246، والخزانة 9/ 388، وابن يعيش 3/ 62، والأشموني 3/ 27، والعيني 4/ 3، واللسان (نوم).
وبعده: * ولا مُخالطِ اللَّيّانِ جانُبْه *
واللَّيان- بفتح اللام والياء- أحد مصادر (لان) يريد أن جنبه لا يجد مكاناً سهلاً لينا. وهذا البيت مجهول القائل على الرغم من كثرة دورانه في كتب النحو.
* واللهِ ما لَيْلِي بِنَامَ صَاحِبُهْ *
فدخلت الباء، وهو فِعْل بإجماع، وما ذاك إلا لقصد الحكاية، أي مقولٍ فيه: نامَ صاحبهُ. والقَوْلُ يُحذف كثيرا.
أو يكون على حَدِّ الجواب عن قول القائل: زيدٌ نِعْمَ الرجلُ، فيرد الرادُّ عليه كلامَه على غير تقدير القول، كما قال القائل: دَعْنَا من تَمْرتَانِ (1)، على طريقة الحكاية المحضة، وكذلك سائر المُثُل.
وأما حرفُ النداء فقد أدخلته العرب على الأمر، والماضي وإن كان في معنى الأمر، وعلى الجملة أيضاً، نحو (2):
يَا لَعْنَةُ اللَّهِ والأَقْوامِ كُلِّهِمِ
والصَّالحينَ على سَمْعَانَ مِنْ جَارِ
وذلك كله دليل على أن العرب قد توسَّعت في حرف النداء حتى صارت تَدُل به على مجرد التنبيه من غير قصد نداء، قاله ابن جني وغيره (3).
وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في دخولها على (نِعْم، وبِئْس) دلالة على الاسمية بلابُدٍّ. والكلام في هذا النحو كثير.
وقوله: ((نِعْم، وبئْس)) مبتدأ، خبره ((فِعْلَانِ غَيرُ مُتَصَرِّفَيْنِ)) ومعناه: أن لهما أحكاما، منها أنهما فعلان، وقد تقدم أنهما غير متصرِّفين كـ (ليس وعسى) وفِعْلَي التعجب. وقد تبين وجهُ ذلك
(1) في الأصل ((من ثمرتان)) بالثاء المثلثة، وهو تصحيف. وفي الأشموني (4/ 93) في (باب الحكاية)((وضرب بغير أداة، وهو شاذ كقول بعض العرب- وقد قيل له: هاتان- تمرتان: دعنا من تمرتان)).
(2)
تقدم تخريجه في باب ((إعمال المصدر)) والرواية هناك:
...... والأقوامُ كلُّهم والصالحون .........
(3)
الخصائص 2/ 196، 278، 376.
ومن الأحكام أيضاً أنهما يطلبان مرفوعاً على وجه مخصوص، وذلك قوله:((رَافِعَانِ اسْمَيْن)) إلى آخره.
يعني أنهما من حيث كانا فعلين لا بدَّ لهما من فاعل كسائر الأفعال، لكن لا يرفعان كلَّ اسم على الفاعلية لقصورهما، بعدم التصرف/ عن جَرَيانهما مَجرى الأفعال المتصرفة
…
543 فاخْتَصَّا برفع ثلاثة أسماء على البدل لا على الجمع (1).
أحدهما كلُّ ما كان مصحوباً بالألف واللام الجِنْسية، أو ما أُضيف إلى ما هما فيه، وذلك قوله:((مُقَارِنَيْ أَلْ أَوْ مُضَافَيْنِ لِما قَارَنَها)).
فتقول: نعم الرجلُ زيدٌ، وبئس الغلامُ عَمْروٌ، ولا تقول: نعم زيدٌ، ولا بئس عمروٌ.
ومن ذلك قول الله تعالى: {نِعْم العْبدُ إنَّه أَوَّابٌ (2)} ، (فلنِعْمَ المُجيبُونَ (3)}، {فَنِعْم الْقادِرُونَ (4)} .
وتقول أيضاً: نعم صاحبُ القومِ، وبئس خَدِيُم القومِ (5)، ومنه في القرآن الكريم {منِعْمَ أَجْرُ العَامِلينَ (6)} ، {بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِين كَذَّبُوا بآيات اللَّهِ (7)} ، {وبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمينَ (8)} ومَثَّله
(1) يعني أن مرفوعهما يكون واحدا من ثلاثة أنواع من الأسماء، لا كل الأنواع الثلاثة مجموعة في تركيب واحد. وهذا أمر واضح، ولم يكن في حاجة إلى هذا التقييد.
(2)
سورة ص/ آية 30.
(3)
سورة الصافات/ آية 75.
(4)
سورة المرسلات/ آية 23.
(5)
الخديم: الخادم والعبد.
(6)
سورة آل عمران/ آية 136.
(7)
سورة الجمعة/ آية 5.
(8)
سورة آل عمران/ آية 151.
الناظم بقوله: ((نِعْمَ عُقْبَى الكُرَمَاء)) والكرماء: جمع كريم، والعُقبى: العاقبة وأصل الكرم الشَّرَف، كذا قال ابن قُتَيْبَة.
ووجه رفعهما لما فيه الألف واللام أن (نعم، وبئس) للمدح والذم، فبُولِغ أن جُعِل فاعلُهما جِنْسَ الممدوحِ أو المذمومِ مجازا، ولأَنْ يُذكر أولاً مُبْهَماً في جنسه، ثم يُخَصُّ ثانياً ويُفَسَّر- مبالغةٌ في ذلك القصد، إذ كان الإبهام أولا، ثم البيان ثانيا يُعْطِي تفخيماً وتعظيماً للأمر.
والثاني من مرفوعات (نعم وبئس) الضمير المبهم المفسَّر بما بعده، وذلك قوله:
ويَرْفَعانِ مَضْمَراً يُفسِّرهْ
مُمَيِّزً كَنِعْمَ قَوْماً مَعْشَرُهْ
يعني أن مرفوعهما يكون أيضاً مضمراً مستتِراً مُبْهَماً، يفسِّره مميِّز يُذْكر بعده منصوباً بالفعل، نحو ما مَثَّل به في قوله:((نِعْم قَوْماً مَعْشَرُهْ)) ففي (نعم) ضمير مبهم يفسِّره ((قوماً)) وليس مرفوعهُ قولَه: ((مَعْشرُه)) لأمرين، أحدهما أنه لا يحتاج إلى مفسِّر، لبيان معناه، فصار ((قوماً)) لا فائدة له، وأيضاً فالمفسِّر لا يتقدَّم على مفسَّره، كما مَرَّ في بابه.
والثاني أن فاعل (نعم وبئس) إذا كان ظاهرا لا يكون إلا بالألف واللام، أو ما أُضِيف إلى مصحوبها، أو ((ما)). و ((ما)) فيها خلاف سيذكره.
فثبت أن فاعله ليس هذا الظاهرَ، وإنما هو ضمير مستتر دَلَّ عليه التفسير بعده، ولأنهم قد قالوا: نِعْمُوا قوماً، ونِعْمَا رَجُلَيْنِ.
وعلى الجملة فلابد من مرفوع، ولا شِيء في الظاهر يصلح أن يكون فاعلا،
_________
فلابد أن يقدَّر لقوله في باب الفاعل:
وبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلٌ فإِنْ ظَهَرْ
فَهُوَوَ إلَاّ فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ
وهذا ظاهر.
ثم كلامه وتمثيله مُشْعِر بفوائد، إحداها أن هذا المضمر لا يختلف باختلاف المميِّز، من إفراد أو تثنية أو جمع، ولا يَبْرز أصلا، وذلك في اللغة المشهورة (1) وإنما تقول: نعم رجلاً زيدٌ، ونعم رجلَيْن الزيدان، ونعم رجالاً الزيدون، ونعم امرأةً هندُ، ونعم امرأتين الهندان، ونعم نساءً الهنداتُ.
ووجهُ الإتيان به مُبْهَما هكذا نحوٌ مِمَّا تقدم في الإتيان بالألف واللام الجنسية، من أنه أُبْهِم ذكر/ الممدوح أو المذموم تفخيماً للأمر، وتعظيماً للشأن، ثم فُسِّر بعْدُ تعريفاً له، 544 وتخصيصاً من بين سائر أفراد الجنس، وهو في هذا القَصْد نظيرُ ضمير الأمر والشأن.
والثانية أن هذا الممِّيز لازم لقوله: ((ويَرْفَعَانِ مُضْمَراً يُفَسَّرهُ مُمَيِّز)) أي مضمراً هذه صفتُه وحالُه، فلا يجوز إذاً أن يأتي فاعلُهما مضمرا غَير مميَّز لفظاً وإن كان معلوماً إلا قليلا، دَلَ على ذلك الاستقراء.
ومن ذلك القليل قوله عليه السلام: ((مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمعُةِ فبِهَا ونِعْمَتْ (2))) أي: فبالسنَّة أَخَذ، ونِعْمَت سنةُ الوضوء، لكن حُذف للعلم به.
والثالثة بيان أن المميِّز لابد أن يكون فيه وصفٌ هو موجود في
(1) سبق أن ذكر الشارح أن الكسائي حكى عن العرب قولهم: الزيدان نْعَما رجلين، والزيدون نِعْموا رجالاً، وانظر: ابن يعيش 7/ 127.
(2)
سنن أبي داود- الطهارة (1/ 97) حديث 354، والترمذي- الصلاة (2/ 369) حديث 497، والبغوي في شرح السنة 2/ 164.
((قوماً)) وذلك كَوْنُه يَقبل الألف واللام، فإن ((قَوْماً)) يصح أن يَدخل عليه على الجملة، فلو لم يصلح لها لم يميِّز، فلا يجوز الإتيان بـ (أيٍّ ولا غَيْر، ولا مِثْل) ولا (أَفْعَلُ مِنْ) ولا ما أشبه ذلك، فلا يقال: نعم مِثْلَكَ زيدٌ، وبئس غيرَكَ عمروٌ، ونعم أفضلَ منك بكرٌ، لأن التمييز نائب عن الفاعل الذي بابُه أن يكون بالألف واللام، فيصح أن يصحبها ويرتفع فاعلاً، فتقول: نعم القومُ مَعْشَرُه.
فإن كان هذا القيد مقصوداً في المثال فهو تَنْكيت على مَن جَعل ((ما)) في قولك (نِعْمَ مَا صَنَعْتَ) وشبِهه تمييزاً، وأن الأمر ليس كذلك، بل ((ما)) هما فاعل، وهو رأيه في ((التسهيل وشرحه (1))) ولكنه لم يعيِّن ذلك بعد، بل أطلق القول بالخلاف حين قال:((ومَا مُمَيِّزٌ وقِيلَ فاعلُ)) وسيأتي ترجيح هذا المذهب بحول الله تعالى. ثم قال:
وجَمْعُ تَميِيْزٍ وفَاعِلٍ ظَهَرْ
فِيه خِلَافٌ عَنْهُمُ قَدِ اشْتَهَرْ
هذه مسأله تتعلق بالنوعين المتقدمين، إذ كان الفاعل إذا أَتَى ظاهراً لا يَحتاج إلى تميز، وإن أَتَى ضميراً احتاج إليه، وذلك أن أصل التمييز أَلَاّ يَجتمع مع الفاعل الظاهر، لأنه إنما أُتِي به ليفسِّر جنس الممدوح أو المذموم حين لم يَتَبيَّن بالإضمار، فإذا أُظهر كان الجنس بَيِّناً بنفسه، مستغنياً عن التفسير، فكان الجمع بينهما جمعاً بين العِوَض والمعوَّض منه، لكن لما جاء السَّماع به اختُلف في إجراء القياس على ما سُمع وعدم إجرائه.
فحكى الناظم الخلافَ في ذلك، فيريد أن جَمْعَك بين التمييز المذكور والفاعل الظاهر في اللفظ فيه خلافٌ بين النحويين قد اشْاَهر عنهم وشاع، هل
(1) انظر: التسهيل 126، وشرحه للناظم (ورقة: 140 - أ).
يُقاس على ما سُمع من ذلك أم لا؟
والخلاف المُشْتَهِر بينهم هو أن طائفة مَنعوا من الجمع بينهما لما تقدم من أنه جمع بين العِوضَ والمعَّوض منه، ولا فائدة فيه، إذ هو تفسير المفسَّر فذِكُرهُ فَضْل (1)، فامتنع لذلك.
وهو ظاهر كلام سيبويه، إذ قال حين ذكر الوجهين في (نعم):((فنِعْمَ تكون مرةً عاملةً في مضَمر يفسِّره/ ما بعده، فيكون هو وهي بمنزل (وَيْحَهُ، ومِثْلَه) ثم يَعملان في الذي
…
545 فَسَّر المضمَر عملَ (مِثْلَه، ووَيْحَه) إذا قال: لي مِثْلُه عَبْداً)) (2).
يعني: يلزمه التفسيرُ كما لزم في: وَيْحَهُ رجلاً وعَبْداً، فتقول: نعم رجلاً زيدٌ.
قال: ((ومرةً أخرى تعمل في مُظْهَر لا تُجاوزُه)) (3) أي لا تجاوزه إلى مفسِّر استغناءً به عنه.
بهذا تعلَّق مَن زعم أن مذهب سيبويه المنع، وله نحوٌ من هذا في أول ((الاشتغال (4))) ومنهم من أجاز ذلك، منهم المبّرد وابن السَّراج (5) وظاهر الفارسي في الإيضاح (6).
(1) أي زيادة لا حاجة إليها.
(2)
الكتاب 2/ 177، وفيه ((إذا قلت)).
(3)
نفسه 2/ 177، وفيه ((وتكون مرة أخرى
…
)).
(4)
الكتاب 1/ 81.
(5)
المقتضب 2/ 148، وكتاب الأصول في النحو 1/ 138.
(6)
قال في الإيضاح (ذ/88): ((وتقول: نعم الرجل رجلاً زيدٌ، فإن لم تذكر رجلا جاز، وإن ذكرته فتأكيد، قال جرير:
تَزَوَدّ مثلَ زادِ أبيك فينا فنعم الزادُ زادُ أبيك زاداً)).
وشبَّه ذلك المبرّد وابن السَّراج بقولهم: لي من الدراهم عشرون درهما.
ولابن عُصفور قولٌ ثالث بالتفرقة بين أن يكون التمييز من لفظ الفاعل فيَمتنع، أو من لفظٍ غير فَيجوز إذا أفاد معنىً زائداً على ما دَلَّ عليه الفاعل.
ولم يبيِّن الناظم في هذه المسألة مُرْتضىً من هذه الأقوال. والذي مال إليه في ((التَّسهيل)) القولُ بالجواز (1) تعويلاً على القياس والسَّماع.
أما القياس فإن حامل سيبويه على المنع كَوْنُ التمييز في الأصل مَسُوقاً لرفع الإبهام، ولا إبهام إذا ظهر الفاعل، فلا حاجة إلى التمييز. ويلزم من هذا الاعتبار منعُ التمييز من كل ما لا إبهام فيه، كقولك: له من الدراهم عشرون درهما. ومثل هذا جائزٌ بلا خلاف. ومثله قوله: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُور عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً (2)} وقوله: {واخْتَار مَوُسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِميقَاتِنَا (3)} وقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعينَ لَيْلَةً (4)} وقوله: {فَهِيَ كَالحِجْارةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (5).
فكما حُكم بالجواز في مثل هذا، وجُعِل سببُه التأكيدَ لا رفعَ الإبهام، كذلك تقول في: نِعْم الرجلُ رجلاً، لأن تخصيصه بالمنع تحكُّمٌ بلا دليل.
وأما السَّماع فمنه في ((كتاب البُخَاري)) في حديث عبد الله بن عمر ((فَيَسْأَلُها عن بَعْلِها فتقول له: نِعْم الرجلُ مِنْ رَجُلٍ، لم يَطَأْ لنا فِرَاشاً، ولم
(1) التسهيل: 127.
(2)
سورة التوبة/ آية 36.
(3)
سورة الأعراف/ آية 155.
(4)
سورة الأعراف/ آية 142.
(5)
سورة البقرة/ آية 74.
يُفَتِّش لنا كَنَفاً مُذِابْتَنَي)) (1) وأَدْخل ((مِنْ)) على المفسِّر. وقالوا: نعم القتيلُ قتيلاً أصلح الله به بين فِئَتَيْن (2).
وقال جرير يمدح عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه (3):
تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أَبِيكَ فِينَا
فِنعْمَ الزَّادُ زَادُ أَبِيكَ زَادَا
وقال يَزِيد بن طُعْمة (4):
بِئْسَ ذَاكَ الحَيُّ حَيّا نَاصراً
لَيْتَ أَحْيَاءَهُمُ فِيمَنْ هَلَكْ
وقال المُغِيرة بن حَبْنَاء التَّميمي (5):
فنِعْم الخُلْفُ كان أَبُوكَ فِينَا وبِئْسَ الخلْفُ خُلْفُ أَبِيكَ خُلْفَا
وقال الآخر (6):
(1) البخاري- فضائل القرآن: 34، والنسائي- صيام، ومسند أحمد 2/ 158.
(2)
قائله الحارث بن عباد لما قتل ابنه بجير في حروب البسوس (الكامل لابن الأثير 1/ 322)، ويروى ((أصلح الله به بين ابني وائل)) و ((بين بكر وتغلب)) وانظر: ارتشاف الضرب ص 1029، 1031.
(3)
ديوانه 135، والمقتضب 2/ 148، والخصائص 1/ 83، 396، وابن يعيش 7/ 132، وشرح الرضي على الكافية 4/ 249، والخزانة 9/ 394، والمغني 463، والأشموني 2/ 203، 3/ 34، والعيني 4/ 30.
(4)
الهمع 5/ 39، والدرر 2/ 114، بدون نسبة.
(5)
لم أجده.
(6)
ابن يعيش 7/ 133، والتصريح 1/ 399، والأشموني 2/ 200، 3/ 35، والخزانة 9/ 395، والعيني 3/ 227، 4/ 14. والشعر لبجير بن عبد الله القشيري أو أبي بكر بن الأسود الليثي. وأصطبح: أشرب الصبح، وهو كل ما يشرب أو يؤكل في الصباح، وهو خلاف الغبوق. ونقب: بحث وفحص فحصاً بليغاً. وهشام بن المغيرة، وكان من أشراف قريش. وتهامي- بفتح التاء وكسرها: نسبة إلى تهامة بالكسر-وهي ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز. فمن فتح التاء خفف الياء كيماني وشآم، ومن كسرها شدَّد الياء.
ذَرِينِي أَصْطَبِحْ يا بَكْرُ إنِّي
رأيتُ المَوْتَ نَقَّبَ عن هِشَامِ
تَخَيَّرهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ
ونِعْم المَرْءُ مِنْ رَجُلٍ تَهَامِ
استشهد بهذا بعضُهم على المسألة، لأن ((من)) زائدة. وإذا كان ثابتاً نظماً ونثراً، وساغ له وجهٌ من القياس صحيحٌ كان القول بقياسه لازما.
والمانع من القياس يَحتجَ بالقياس والسَّماع. وأما القياس فقد تقدَّم. وما أَتَوا به من الشواهد على الإتيان بالتمييز توكيداً/ لا يدلُّ على الجواز، لأن جميع ما تقدَّم إنما جاء على الأصل؛ 546 من بيانِ ما هو مبهَم، لكن عَرضَ للكلام عارضٌ خارج صار به التمييز مستدلاً عليه، فلا يَمتنع الإتيانُ به اعتباراً بالأصل، لأن [المبهم (1)] المطلوبَ تفسيرُه باقٍ، إذا زالت القرينةُ الخارجية رجع إلى إبهامه.
وأما (نِعْم الرجلُ) فليس فيه ما يحتاج إلى بيان، لا في أصله ولا في استعماله، فلا يحتاج إلى مفسِّر يَصير توكيداً مع قرينة خارجية، فصار التمييز هنا لا فائدة له بحال، لا أصلاً ولا فرعاً. وهذا فرقٌ صحيح لمن تأمَّله.
وأما السماع فالنقلُ فيه قليل، وقد أنشد المؤلف بيتاً آخر زائداً إلى ما تقدم، وأنشد في نحو ذلك أيضاً (2):
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س).
(2)
لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، ديوانه 4، والتصريح 2/ 96، وشرح الكافية الشافية 1107، والعيني 4/ 8، والخزانة 9/ 397.
ولَقَدْ عَلِمْتُ بَأَنَّ دِيَن محَّمدٍ
مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّة دِينَا
وهذا كله نادر. ومنه ما هو في الحديث. والاستشهاد به كما ترى. وقد تقدَّم ما يصح الاستشهادُ به من الحديث وما لا يصح.
وقال الشَّلَوْبِين في قوله (1):
* ونِعْمَ المرُء مِنْ رَجُلٍ تَهَامِ *
إن ((مِنْ)) لا تَدخل على تفسير ((نعم)) بَوجْهٍ، فلا يقال: نِعْم مِنْ رَجُلٍ زيدٌ، لا سماعاً ولا قياساً، لأن ((مِنْ)) لا تدخل إلا في موضعٍ يصح فيه التَّبْعيض، أو يكون أصل التمييز فيه الجرَّ بـ (مِنْ) نحو: لِلَّهِ دَرُّه فارساً، وامتَلأَ الإناءُ ماءً، وليس هذا البيت كذلك.
وأيضاً فليس البيت من باب: نعم الرجلُ رجلاً، وإنما كان يكون مثله لو قال: ونِعْمَ المرُء التِّهَامِيُّ مِنْ رجلٍ تَهامِ، ولكن لَما اسْتَبْهَم قولُه: نِعْم المَرْءُ، من جهة أنه مَدْحٌ عامٌّ فُسِّر بخاص، كما فُسِّر: لِلَّهِ دَرُّه من فارسٍ. ودخول ((مِنْ)) على ((رجل تَهامٍ)) كدخولها على ((فارسٍ)) من قولك: لِلَّهِ دَرُّهُ من فارسٍ. فليس من مسألتنا في شِيء.
وهذه الفِقْه في البيت صحيح، وهو جارٍ في الحديث (2)، وكذلك قولهم: نْعِم
(1) صدره: * تخيَّرهُ ولم يَعْدِلْ سِوَاهُ * وقد تقدم في الباب نفسه.
(2)
يعني قوله صلى الله عليه: ((فيسألها عن بعلها فتقول له: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا مذابتني)) وسبق تخريجه.
القتيلُ قتيلاً صفتُه كذا (1)، لتَقْيِيده التمييز. وكذلك قول الآخر (2):
* بِئْسَ ذَاكَ الحَيُّ حَيَّا نَاصِراً *
فخرَج أكثر ما ذَكر من الشواهد عن المسالة. وقد يُؤَوَّل أيضاً بيتُ جرير (3) على أن (زَاداً) عاملُه (تَزَوَّدْ) لا (نِعْم) فلا دليل فيه.
وإذا انهدمت قاعدةُ السماع والقياسِ لم يَبْق ما يعوَّل عليه في الجواز.
وأما مذهب ابن عصفور فكأنه عَوَّل على المنع إلا في مثل:
* ونِعْمَ المَرْءُ مِنْ رَجُلٍ تَهَامِ *
وقد تقدَّم ما فيه.
واعلم أن من المحققِّين مَن لا يجعل بين سيبويه والفارسيِّ وغيرهِ خلافا، وإنما تكلَّم سيبويه على الشَّائع في الباب، وتكلَّم غيرُه على ما جاء من ذلك قليلا، فالخلاف إذاً غيرُ محقَّق عند هؤلاء. والناظم إنما بَنى على ظاهر كلامهما لا سيَّما وقد انضَمَّ إلى ذلك القولُ الثالث بالتَّفرقة. والله أعلم.
وأما النوع الثالث من مرفوعات (نعم، وبئس) فهو الذي قال فيه:
ومَا مُمَيِّزٌ وقِيلَ فَاعِلُ
في نَحْوِ نِعْمَ ما يَقُولُ الفَاضِلُ
(1) يعني قوله: نعم القتيل قتيلا اصلح الله به بين فئتين. وقد تقدم.
(2)
هو زيد بن طعمة، وعجزه:
* ليت أحياءَ همُ فَيمنْ هَلَكْ *
وتقدم.
(3)
يعني قوله:
تَزَزَّدْ مثلَ زادِ أبيكَ فِينَا فنعَم الزادُ زادُ أبِيكَ زَادا
وقد سبق الاستشهاد به.
/ إلا أنه ذكر في ذلك خلافاً بين النحويين، وهو ما في نحو قولك: نِعْمَ ما صَنَعْتَ،
…
547 وبِئْسَ ما فَعَل زيدٌ.
ومنه مثال الناظم ((نِعْمَ ما يقولُ الفاضلُ)) ومنه في القرآن: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (1)} ، {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (2)} ، {قُلْ بِئْسَما يَأَمركُمْ بِهِ إِيَمانُكُمْ (3)} ، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ (4)} الآية.
وعَيَّن للخلاف قولَيْن، أحدهما أن ((ما)) تمييز، فهي في موضع نصب، وفاعل (نعم، وبئس) مضمَر فيهما على حد: نَعْمَ رجلاً زيدٌ، وبِئْس غلاماً عَمْروٌ. وهو منقولٌ عن جماعةٍ، منهم الفارسيُّ والزمخشريُّ وغيرهما (5). وإليه ذهب الجُزوليُّ (6) وجَمْعٌ من المتأخِّرين.
لكن اختَلفوا: هل هي نكرةٌ موصوفة بذلك الفعل الظاهر، أم غيرُ موصوفة، و ((صَنَعْتَ)) صفةٌ للمذموم المحذوف على قياس قول علي بن حمزة الكسائي الآتي.
فالأولُ هو المشهور في النَّفل، والثاني كأنه مَخْرج. وهذا معنى قوله:((وما مميِّز)) أي عند بعض.
والثاني أن ((ما)) في موضع رفع على الفاعلية، إلا أن هؤلاء اختلفوا في ((ما)) فذهبت طائفة إلى أنها اسم تامٌّ مَكْنِيٌّ به عن اسمٍ معرَّفٍ بالألف
(1) سورة المائدة/ آية 63.
(2)
سورة البقرة/ آية 90.
(3)
سورة البقرة/ آية 93.
(4)
سورة المائدة/ آية 80.
(5)
انظر: ابن يعيش 7/ 134.
(6)
تقدمت ترجمته.
واللام الجِنْسية، فمعنى قولك:(نِعْمَ ما صَنَعْتَ) نعم الشِيءُ صنعتَ، و ((صنعتَ)) في موضع الصِّفَة، من باب قولهم: ما يَحْسْنُ بالرجلِ خيرٍ منكَ أن يَفَعْلَ.
وذهبت طائفة إلى أن ((ما)) موصولة بمعنى ((الذي)) واكتُفي بها وبصلتها عن المخصوص بالمدح والذم.
وحَكى النَّحاس (1) عن الكسائي أن ((ما)) والفعل الذي بعدها في موضع رفع بـ (نِعْمَ).
وغيرُه يَحكى عنه موافقةَ القولِ الأول أنها اسم تام مرفوع، ولكن على أن ((ما)) بعدها ((ما)) أخرى مقدَّرة، كأنه قال: نعم الشِيءُ ما صنعتَه، وهو قول رابع.
وحكى بعض المتأخرين أن منهم من يَجعل ((ما)) نكرةً موصوفة مرفوعة، كأنه قال: نِعْمَ شَيِءٌ صنعتَ.
فهذه خمسة أقوال تفَّرعت على القول بأن موضع ((ما)) رفعٌ، وهو قوله:((وقِيلَ: فاعل)).
وفي المسألة قول ثالث بالتخيير بين الوجهين، وهو مذهب طائفة. وقال به الفارسيُّ في بعض مسائله.
ولم يَنص الناظم على اختيار واحد من القولين اللَّذَين حَكَى. وفي كلامه ما يشير غلى الاختيار، لكنها إشارة ضعيفة، فقد تقدَّم في قوله:((كنِعْمَ قَوْماً مَعْشَرُهْ)) ما يُشعر أن رأيه أنه فاعل، وتقديمُه هنا القولَ بالتمييز قد يُشير إلى اختياره. ويمكن، وهو الأظهر، أَنْ لم يَقْصِد اختِياراً بحال.
(1) لعله يعني أبا جعفر أحمد بن اسماعيل ابن النحاس النحوي المصري، صاحب ((إعراب القرآن)) و ((معاني القرآن)) وغيرهما من الكتب في النحو والأدب (ت 338 هـ) وانظر: إعراب القرآن له 1/ 197.
ولكن نقول: إن كان قد مال إلى القول بالفاعليَّة فقد رَجحَّه الناس بأمور، أحدها التعلُّق بكلام سيبويه (1) مع موافقته للمعنى، فإنك إذا قلت:(نَعْمَ ما صَنَعْتَ) فمعناه: نعم الشِيءُ صنعتَ، وفي {إَنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ (2)} معناه: فنعم الشِيءُ إبداؤها.
قال ابن خروف (3): وتكون ((ما)) تامَّةً مَعْرفة بغير صِلَة، نحو: دققتُه دَقاً نِعِمَّا. قال سيبويه: أي نعم الدَّقُّ (4)، و {نِعِمَّا هِيَ} أي نعم الشيءُ إبداؤُها، و: نعم ما صنعتَ، وبِئْسَمَا صنعتَ، أي نعم الشيءُ صنعتَ. هذا قول ابن خروف معتمِداً على كلام سيبويه.
وسَبقه إلى ذلك السِّيرافيُّ (5)، وجعل نظيرَ ((ما)) هنا/ قولَ العرب: إنِّي مِمَّا أَنْ أَصْنَعَ،
…
548 أي من الأمر أَنْ أصنعَ، فجعل ((ما)) وحدها في موضع ((الأَمْر)) ولم يصلها بشيء. وتقدير الكلام [إنِّي من الأَمْر](6) أي من الأَمْر صُنْعِي كذا، فالياء اسم ((إنَّ)) ((وصنعي)) مبتدأ، و ((من الأمر)) خبرُ ((صُنْعِي)) والجملة في موضع خير ((إنَّ)).
وهذا موافق لكلام سيبويه، إذ قال (7): ونظير جَعْلَهم ((ما)) وحدهَا اسماً قولُ العرب: إنِّي مِمَّا أَنْ أصنعَ، أي من الأمر أن أصنعَ، فجعلوا
(1) الكتاب ب 2/ 175 فما بعدها.
(2)
سورة البقرة/ آية 271.
(3)
انظر: التصريح 2/ 97.
(4)
الكتاب 1/ 73، حيث يقول:((ونظير جعلهم ((ما)) وحدها اسما قول العرب: إني مِمَّا أن أصنع، أي من الأمر أن أصنع، فجعُل ((ما)) وحدها اسما. مثل ذلك: غسلته غَسْلا نِعمَّا، أي نعم الغَسْل)).
(5)
السيرافي (ورقة: 183 - أ).
(6)
ما بين الحاصرتين زيادة من (ت، س).
(7)
الكتاب 1/ 73.
((ما)) وحدها اسماً. ومثُل ذلك: غسلتُه غَسْلاً نِعِماً، أي: نِعْم الغَسْلُ. فَقدَّر ((ما)) بالأَمْر وبالغَسْل، ولم يقدِّرها بأمرٍ ولا غَسل، فعُلم أنها عنده معرفة.
والثاني أن ((ما)) قد كثر الاقتصارُ عليها في نحو: غَسَلْتُه غَسْلاً نِعمَّا. والنكرة التالية ((نِعم)) لا يُقتَصر عليها إلا نادرا.
والثالث أن التمييز إنما يُجاء به ليُزيل الإبهامَ، ويَرفع الإشكال عن جنس الممَّيز، و ((ما)) المذكورة مساوية للمضمر في الإبهام، فلا يكون تمييزاً على هذا.
والرابع أن ((ما)) هنا إمَّا مَعْرفةٌ ،إمَّا نكرة موصوفة، إذ لم يَثْبت لها إلا هذان القسمان، و ((ما)) في {نِعمَّا هِيَ} وفي (غَسْلَا نِعمَّا) ليست بموصوفة، فلا تكون نكرة، وإذا لم تكن هنالك نكرة فلا تكون في (نِعْم ما صَنَعْتَ) نكرة، إذ لم يثبت ذلك في نظيرتها.
وإن كان الناظم مائلاً إلى القول بأن ((ما)) في موضع نصب على التمييز فيرجَّح بأشياء: أحدها أن فاعل ((نعم، وبئس)) لم يَثْبت فيه إلا أن يكون بالألف واللام الجِنْسية، أو مضافاً إلى ما هما فيه، أو مضمراً فيهما على شَرِيطة التفسير، وليس هناك ما فيه ألف ولام، ولا ما أضيف إليه، فلابد أن يَتعيَّن أن الفاعل مضمر كما تعيَّن في نحو: نِعْم قوماً مَعْشَرُه، وإذ ذاك تكون ((ما)) في موضع نصب على التمييز نظير ((قوماً)) في المثال المذكور، ولا مَنْع في ذلك وإن كانت ((ما)) مبهَمة، لأنها بمعنى ((شِيء)) أو غيره من النكرات التي يصح وقوعها تمييزاً هنالك، وكما تقع ((ما)) صفةً في قولهم:(شِيءٌ مَا) مع أن أصل الصفة أن تأتي للبيان، كذلك تقع هنا تمييزا، وإن كان أصله البيان.
والثاني أن ((ما)) إذا ادُّعِي أنها في موضع رفعٍ إمَّا أن تكون موصولةً أو
غير موصولة، [فإن كانت موصولة (1)] لم يَصح، لأن الموصولة تَتَبيَّن بالصلة، فتصير في عداد الأسماء المعيَّنة، وهي لا تكون فاعلة لـ (نعم، وبئس) فإن لم يكن لها صلة فموصولٌ بغير صلة لا يكون. وإن كانت غيرَ موصولة فإمّا نكرةً أو معرفة، فإن كانت [نكرة](2) لم تقع فاعلة في هذا الباب لاختصاص الفاعل فيه بالتعريف، وإن كانت معرفةً فخلافُ الظاهر (3)، لأن ((ما)) قُوتُّهَا قوةُ النكرة إذا لم تكن موصولة.
ومَا قَدَّرها به سيبويه من المعرفة لعلَّه على غير تفسير الإعراب، بل على التساهل في تقدير المعنى، وإذا لم يَثْبت لها بحكم الظاهر إلا التنكير صَحَّ أن الفاعل أمرٌ آخر، ووجب نصب ((ما)) على التمييز لِمَا قُدِّر فاعلاً، وهو الضمير.
ثم هنا مسائل؛ إحداها أن ((ما)) في وقوعها بعد ((نعم، وبئس)) على ضربين/
…
549 أحدهما أن تكون صالحة لأن تكون موصولةً فاعلة، أو نكرةً موصوفة منصوبة على التميز، أو مرفوعةً حَسْبَما تقدَّم من الخلاف، كقولك: نِعْمَ ما صنعتَ، وبئس ما فَعل زيدٌ.
والثاني ألَاّ تكون صالحةً لذلك كقولك: نِعْمَ ما أَنْتَ، وقوله:{فَنِعَّما هِيَ (4)} .
وحكَى الزَّجَّاج عن النحويين (5) أنهم حَكَوا: بِئْسَمَا تزويجٌ ولا مَهْرٌ.
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س).
(2)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، و (ت) وأثبته من (س).
(3)
في النسخ ((بخلاف الظاهر)) وما أثبته هو وجه الكلام.
(4)
سورة البقرة/ آية 271، وقد مر الاستشهاد بها غير مرة.
(5)
من هؤلاء الفراء الذي قال في ((معاني القرآن 1/ 58)): ((وسمعت العرب تقول في ((نعم)) المكتفية بما: بئسما تزويجٌ ولا مهرٌ، فيرفعون التزويج ببئسما)).
وحَكى ابن الطَّراوة. بئسما بَطٌّ ولا نَرْعَاها. وحكَى سيبويه: غسلتُه غَسْلاً نِعِمَّا (1)، وما أشبه ذلك.
فأمّا الضرب الأول فظاهر الناظم أنه الذي عَيَّنَ لما ذكَرَ من الحكم، لقوله:((في نحو كذا)) يعني أن ذلك الخلاف المحكيَّ هو في هذا الضَّرْب. فبقى الضَّرْب الثاني غيرَ محكوم عليه، بل مسكوتاً عنه.
وظاهر ما في ((الشرح)) (2) أن الضربَيْن عنده واحج، وأن الخلاف فيهما واحد. وهذا مما فيه نظر.
أمّا الأول فقد مضى ما فيه. وأما الثاني فقد استَقْرأ بعضُ حُذَّاق المتأخرين من كلام سيبويه أن ((ما)) في الأول موصولةٌ، وفي الثاني اسمٌ تامٌّ بلا صلة، وإن كان غيره يرى غير ذلك.
وفَرقَّ بينهما الفارسيُّ ايضاً، فإنه قال في ((الشِّيرَازِياَّت)): إن نحو (بئس ما صنعتَ) يحتمل أن تكون ((ما)) فيه موصولة أو موصوفة، وقال في {نِعِمَّا هَيِ}: هي نكرة، لا غير.
وقال الفراء (3): إن ((ما)) تَلِي ((نِعْم)) على أوجه ثلاثة، أحدها ألَاّ يكون لها موضع من الإعراب، وتكون كبعض حروف الاسم، كـ (ذا) من: حَبَّذا، ولا تتغيَّر ((نعم)) في تأنيث ولا تثنية ولا جمع. وتُرفع الأسماء بعدها، وعليه حَمل قولَ الله تعالى:{فَنِعمَّا هِيَ} وقولَهم: بِئْسَما تزويجٌ ولا مَهْر.
والثاني أن تكون زائدة لا أثر لها، فتقول: نِعْمَا رجلَيْن الزيدان، ونِعْمَا
(1) الكتاب 1/ 73.
(2)
شرح التسهيل للناظم (ورقة 140 - أ).
(3)
انظر: معاني القرآن 1/ 57، 58.
رجالاً الزيدون، ولم يمثِّل بنحو: نِعْمَ مَا الرجلُ زيدٌ.
والثالث نحو قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَروْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (1)} فنَصَّ على أنها مرفوعة (2)، وظاهره أنها مَعْرِفة موصولة.
ومذهب الكسائي أن ((ما)) في (نعم ما صنعتَ) بمنزلة ((الرَّجُل)) تامَّة، وبعدها ((ما)) أخرى مضمرة. وفي نحو: نِعْمَ مَا زيدٌ، بمنزلة: نعم الرجلُ زيدٌ (3).
فالحاصل أن الواقعَ بعدَها الفعلُ غيرُ الواقعُ بعدها الاسمُ، أو التي لم يقع بعدها اسمٌ ولا فِعْلَ في جَرَيان الأحكام، لكنهما قد يتفقان في بعض الأحكام دون بعض. وظَهَر أن الخلاف فيهما ليس على حَدٍّ واحد، فلذلك- والله أعلم- قَيَّد الكلامَ، ولم يُهمل القولَ بنقْل الخلاف، إلا أنه أهمل القولَ في الضَّربْ الآخَر، إمَّا لأنه أقلُّ بالنسبة إلى هذا، وإما لأنه موضع نَظَر، هل يُلحق بها أم لا؟ مع أنه يمكن أن يكون المثال ليس بِقَيْد، فَيَدخل له الضَّرْبان معا، حَسْبَما ذكر في ((التَّسهيل)) (4). وهذا بعيد، والله أعلم.
والثانيةِ أنه نَصَّ على الخلاف في ((ما)) وأَهمل ذكَر ((مَنْ)) وهي مِثْلُها في هذا الباب، فكما تقول: نعم ما صنعتَ كذا، كذلك تقول: نعم مَنْ لقيتَ زيدٌ.
ويصح هنا تقدير ((مَنْ)) في موضع رفع على الفاعلية، وفي موضع نصب/ على
…
550 التمييز، على تقدير: نعم الرجلُ، أو نعم رجلاً، فيظهر أن
(1) سورة البقرة/ آية 90.
(2)
معاني القرآن 1/ 56.
(3)
المصدر السابق 1/ 57.
(4)
ص 126.
ذِكْر أحدهما دون الآخر تقصير.
وقد جاء في الكلام ذلك، أنشد الفارسيُّ وابنُ دُريَدْ وغيرهما (1):
فَنِعْمَ مَزْكَأُ مَنْ ضَاقَتْ مَذَاهِبُهُ
ونِعْم مَنْ هُوَ في سِرٍّ وإعْلَانِ
فَنصَّ الفارسيُّ في ((الأبيات المشكلة (2))) على أن ((مَنْ)) تمييز، كمذهبه المتقدم في ((ما))، ومن الناس من أجاز فيها الرفعَ كـ (ما) فالحاصل أنها مِثْلُها، فإذا كان كذلك فلِمَ تَركها الناظم دون ((ما))؟
والجواب أن من النحويين مَن زعَم ذلك، وأن ((مَنْ)) كـ ((ما)) بإطلاق، ومنهم ابن جنيِّ (3)، فقد قال في قول ساعِدَةَ بن جُؤَيَّة (4):
* هَجَرَتْ غَضُوبُ وحُبَّ مَنْ يَتَجنَّبُ *
إن ((مَنْ)) يجوز أن يكون فاعلا، و ((حَبَّ)) هنا من باب ((نعم)) كما سيأتي إن شاء الله.
(1) شرح الرضى على الكافية 4/ 252، والخزانة 9/ 410، والمغني 329، 435، 437، والأشموني 1/ 155، والهمع 1/ 317، و 5/ 37، والدرر 1/ 70، 2/ 114، والعيني 1/ 487، واللسان (زكأ) وقبله:
وكيف أرهبُ أو أُرَاعُ له وقد زَكَأتُ إلى بشر بن مروان
والمزكأ: الملجأ، وزكأت إليه: لجأت واعتصمت. وقائل الشعر مجهول. وكان بشر بن مروان سمحا جوادا، ولي إمرة العراقين لأخيه عبد الملك.
(2)
ذكره الفارسي في ((باب من الصلات والأسماء الموصولة)).
(3)
(4)
ابن يعيش 7/ 138، والخزانة 9/ 429، وديوان الهذليين 1/ 167، واللسان (حبب، شعب، ولى) وعجزه:
* وعَدَتْ عَوَادٍ بعدَ وَلْيك تَشْعَبُ *
والولى: القرب والدنو، وتشعب، تصرف وتمنع، أولا تجيء غلى القصد، وعوادي الدهر: مصائبه ونوائبه، واحدها عادية.
ويحتمل أن يكون الناظم ذَهب هنا إلى أن ((ما)) فاعل لا تمييز، وأنها اسم تامٌ لا موصول، وإذا كان كذلك لم يصلح في ((مَنْ)) أن تكون فاعلاً غير موصول، إذ لم يثبت لها ذلك، وإنما تكون في غير الشرط والاستفهام إما نكرةً موصوفة، وإما موصولةً بمعنى ((الذي)) أو ((التي)) وهذا رأيه في ((التسهيل)) (1) فَتَرك إلحاقَ ((مَنْ)) هنا لعدم جَرَيان الحكم فيها على مذهبه.
والثالثة أنه ذكر الخلاف في ((ما)) ولم يُعَيِّن ما هي على كلا القولين، إذ على القول بالفاعليَّة فيها يُحتمل أن تكون اسماً تاماً بلا صلة، أو موصولاً بمعنى ((الذي، والتي)) أو نكرةٌ موصوفة. وعلى القول بأنها تمييز يُحتمل أن تكون نكرةً موصوفة، أو غير موصوفة.
وقد تقدم ما في ذلك من الاضطراب. والناظم تَرك ذلك كله، والعُذْر عنه أن كثيراً من المسائل التي لا يَنْبني على الخلاف فيها حكمٌ لفظي لا يَعْتنى بنقل الأقوال فيها، فكأنَّه رأى نقلَ الخلاف هنا شَطَطا، فتَركه. والله أعلم.
وإن الرابعة أنه لما اقتصر بفاعل ((نعم، وبئس)) على هذه الأنواع الثلاثة دَلَّ على أن ما سوى ذلك لَا يْرتفع بهما على الفاعلَّيةِ، فإن جاء من كلام العرب ما يَنْقض ذلك فغيرُ معَتدٍّ به لقلَّته أو إمكان تأويله.
فمن ذلك (الذي، والتي) وما أشبههما من الموصولات التي فيها الألف واللام، فإنها إن عُنِى بها معهودٌ فظاهر امتناعُ جعلِها فاعلاً هنا، كالرَّجل والغلام إذا أردت معهودا.
وإن أردتَ بها الجنس كما أردت بـ (الرجل) الجنسَ ففي جواز ذلك
(1) ص: 36.
خلاف، فمنهم من منع، وهو الذي رأى الجَرْمي (1). ومنهم من أجاز، إذ لا فرق بين الموصول وغيره إذا كان في الحكم مثلَه. وهذا رأي المبّرد (2)، ونحا نحوهَ ابنُ السَّراج على تردُّد (3).
وهو مذهب ابن الحاجِّ (4) من المتأخرين، وحَمَلِة لفظ الكتاب، حيث تَمَّم سيبويه ذكر ما فيه الألف واللام أو ما أضيف إلى ما هما فيه بقوله: وما أشبه (5).
والأظهرُ في مثل هذا المنعُ، إذ لو كان جائزاً عندهم لكان حَرِياً بأن يَكثر في كلامهم، لأنه مِمَّا يُحتاج إليه في التخاطب. فلما لم يُسمع منهم، أو سُمع نادراً دَلَّ على أنهم قد اطَّرحوه، فلا يسوغ القياس على نحو (الرَّجُل).
وايضاً/ فليست الألف واللام في الموصولات لتعريف عَهْد ولا جِنْس، بل هي تُشبه
…
551 الأصلية للزومها الكلمة، فالأولى المنعُ، وهو الظاهر من الناظم.
ومن ذلك ما أُضيف إلى ضمير ما فيه الألف واللام الجِنْسية نحو: نعم صاحبُ الدابَّة ونعم أخوه عبدُ الله، والراكبُ نعم صاحبُه زيدٌ، وما أشبه ذلك.
(1) هو أبو عمر صالح بن إسحاق.
(2)
المقتضب 2/ 141.
(3)
كتاب الأصول 1/ 132، 133.
(4)
ابن الحاج هو أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الإشبيلي. كان متحققا بالعربية، حافظا للغات، مقدما في العروض وله على كتاب سيبويه إملاء، ومصنف في علوم القوافي، ومختصر خصائص ابن جني وغيرها (ت 647 هـ). بغية الوعاة 1/ 359.
(5)
الكتاب 2/ 178.
أجازه بعضهم، وأنشد على ذلك قولَ الشاعر (1):
* فَنِعْم أَخُو الهَيْجَا ونِعْمَ شِهَابُها *
وظاهر إطلاقات الناس منعُ هذا، ولو كان يَكثر في السَّماع لَقالوا به، ولكنه نادر، فلا اعتبار به. وأيضاً يمكن تأويله على مثل مَا تأوَّل ابنُ مالك وقوعَ العَلَم بعدهما حَسْبما يُذكر على إثر هذا بحول الله.
ومن ذلك الضمير البارز نحو: مررت بقومٍ نِعْمُوا قوماً، والزيدان نِعْمَا رجلَيْن. حَكى هذا الكسائيُّ عن بعض العرب (2)، ولكنه قليل لا يقاس على مِثْله.
ومن ذلك العَلَمُ والمضافُ إليه، فقد جاء منه في النثر ما يمكن أن يُدَّعى قياسُه، ففي الحديث ((نِعْمَ عبُد اللهِ خالدُ بن الوليدِ (3))) وقول بعض عبادلة الصحابة (4): بئس عبدُ الله أَنَا إن كان كذا. وقول سَهْل بن حُنَيْف: شهدتُ صِفِّينَ وبئست صِفُّونَ (5)، وهو نادر، ومن باب الاستشهاد بالحديث، وقد مَرَّ
(1) الهمع 5/ 30 والأشموني 3/ 28، والعيني 4/ 11، والخزانة 9/ 416، والدرر 2/ 110، ولم يوقف له على تتمة ولا قائل. والهيجا- بالمد والقصر- الحرب. الشعلة الساطعة من النار، والنجم المضيء اللامع، والنجم المضيء المنقض من السماء، ويقال: هو شهاب علم وحرب ونحوهما، للماضي الماهر. ويروى (شِبابها) بكسر الشين، والباء، والشِّباب والشَّبوب: ما يوقد به النار.
(2)
في ارتشاف الضرب (ص 1031)((وحكى الأخفش عن بعض بني أسد: نعما رجلين الزيدان، ونعموا رجالا الزيدون، ونعمتم رجالا، ونعم نساء الهندات)).
(3)
رواه الترمذي في: المناقب: 50، رقم (3846) 5/ 688، وانظر: جامع الأصول 10/ 98.
(4)
الأشموني 1/ 29، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 140 - أ) وفيه ((كقول ابن مسعود رضي الله عنه أو غيره من العبادلة)).
(5)
الهمع 5/ 39، والسان (صفن) برواية ((الصِّفُّونَ)). وسهل بن حنيف الأنصاري الأوسي، صحابي من السابقين، شهد المشاهد كلها، واستخلفه علي ابن ابي طالب رضي الله عنه على البصرة بعد وقعة الجمل، ثم شهد معه صفين (ت 38 هـ).
ما فيه (1). وإذا سُلِّم فندورُه يَمنع من القياس عليه. وقد تأوَّله ابن مالك على أن يكون التمييز قد حُذف، والفاعل ضمير، والظاهر المرفوع هو المخصوص. و ((أنا)) و ((خالد)) بدلان، فلا يكون فيه على هذا دليل (2).
فإن قيل: قد تقدَّم أن التمييز هنا لا يُحذف قيل: ذلك هو الشائع، وقد يُحذف نحو قوله عليه السلام:((مَنْ تَوَضَّأَ يومَ الجُمعةِ فَبِهَا فَبِهَا ونِعمَتْ (3))) فالتقدير: ونِعْمَتْ سُنَّةً، لأنه أضمر الفاعلَ على شريطة التفسير، كأنه قال: ونِعْمَتْ سنةً فعِلَتُه، أو نحو ذلك.
ومن ذلك النكرةُ المضافة نحو: نِعْمَ صاحبُ قومٍ زيدٌ، فقد جاء في الكلام مِثْلُه، وهو حَسَّان بن ثابت رضي الله عنه (4):
فَنِعْمَ صاحِبُ قَوْمٍ لا سِلَاحَ لَهُمْ
وصاحبُ الرَّكْبِ عُثْمَانُ بن عَفَّانَا
وهذا مما حكاه الأخفش والفرَّاء عن طائفة من العرب أنها تقوله (5). وقد يظهر أنهما قائلان بجوازه.
(1) انظر: 3/ 401.
(2)
شرح التسهيل للناظم (ورقة: 140 - أ).
(3)
سنن أبي داود- الطهارة: (1/ 97) حديث (354) والترمذي- الصلاة (2/ 369) حديث (497) والبغوي في شرح السنة 2/ 164.
(4)
شرح الرضي على الكافية 4/ 253، والخزانة 9/ 415، وابن يعيش 7/ 131، والهمع 5/ 36، والدرر 2/ 113، والأشموني 3/ 28، والعيني 4/ 17. والشعر لكثير بن عبد الله النهشلي لا لحسان، وقبله:
ضَحَّوْا بأشمطَ عنوانُ السجود به يقطَّع الليل تسبيحا وقرآنا
وقوله: ((فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم)) إشارة إلى قوله رضي الله عنه يوم الدار: ((من رمى سلاجه كان حرا)) وقوله ((صاحب الركب)) أي ركب الحج.
(5)
انظر: الأشموني 3/ 28.
واعتلَّ العَبْدي (1) للجواز بأن النكرة قد تدل على الجنس، كما يدل عليه ما فيه الألف واللام، وأنها قد تؤدِّي في بعض المواضع من المعنى ما تُؤَدِّيه المعرفة الجِنْسية، كقول حَسَّان رضي الله عنه (2):
كَأَنَّ سَبِيئَةً منَ بْيتٍ رَأْسٍ
يكونُ مِزَاجَها عَسَلٌ ومَاءُ
وهذا كله نادر لا يُعتمد على مثله في السماع. وما ذُكر من وجه القياس يَنْتقَض بما لو كانت النكرة غير مضافة، وهما لا يقولان بذلك، إذ خَصَّا الجوازَ بالنكرة المضافة.
ومن ذلك اسمُ الإشارة نحو: نعْمَ ذا أدبُك، على معنى: نعم الأدبُ أدبُك، فقد أجاز بعضهم في قول الشاعر، أنشده ابن السكيت وغيره (3):
لَمْ يَمْنَع الِنَّاسُ مِنِّي ما أَرَدْتُ ومَا
أُعْطِيهمُ ما أَرادُوا حُسْنَ ذَا أَدَبَا
ب أن يكون ((ذا)) فاعلاً بـ (حَسُنَ) وهو من (فَعُلَ) الملحق بهذا الباب. وحكمُ
(1) هو أبو طالب أحمد بن بكر بن أحمد بن بقية العبدي، أحد أئمة النحاة المشهورين، قرأ على السيرافي والرماني والفارسي. وله: شرح الإيضاح للفارسي، وشرح كتاب الجرمي (ت 406 هـ). بغية الوعاة 1/ 298.
(2)
ديوانه 3، وسيبويه 1/ 49، والمقتضب 4/ 92، وابن يعيش 7/ 91، 93، والمغني 463، 695، وشرح الكافية 4/ 193، والخزانة 9/ 224، واللسان (سبأ) والسبيئة: الخمر. وبيت رأس: موضع بالشام. وخبر (كأن) في البيت الذي بعده، وهو قوله:
على أنيابها أو طعمُ غَضٍّ من التفاح هَصَّره اجتناءُ
(3)
إصلاح المنطق 41، والخصائص 3/ 40، وشرح الرضي على الكافية 4/ 257، والخزانة 9/ 431، واللسان (حسن) والأصمعيات 56. يريد أنه يقهر الناس فلا يمنعونه ما يريد منهم، وهو لعزته يمنع ما يريدونه منه. وقد استحسن الشاعر هذا الخلق، وجعله أدباً حسنا. وقال قوم: إنه ينكر على نفسه هذا العمل لأن العرب لا تفتخر بمثل هذا الخلق.
(فَعُلَ) حكمُ (نعم، وبئس) كما سيأتي بحول الله. فكما تقول: حَسُن ذَا أدباً (1)] على معنى: حَسُن الأدبُ/ أدبُك أدباً، كذلك تقول: نعم ذا أدبك أدباً؛ وعلى إسقاط التمييز؛ لأن
…
552 اسم الإشارة مبهَم يقع على كل شِيء، فجرى مَجرى الأجناس، قال ابن السَّراج: والنحويون يُدخلون (حَبَّذاً زيدٌ) في هذا الباب، من أجل أن تأويلها: حَبَّ الشيءُ، لأن ((ذا)) اسمٌ مبهَم يقع على كل شِيء (2).
وبَيَّن إبهامَ اسم الإشارة الفارسيُّ في ((الإغفال)) و ((الشِّيرازيات)) بياناً شافياً حين تكلم على قوله سبحانه {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ (3)} وهذا كله لا دلالة فيه، لشذوذ السَّماع بذلك، ولأن ((ذا)) مع ((حَبَّ)) على حكمٍ آخر مختصٍّ بها، سيذكره على حِدتَه، فقياس ((نِعْم)) على ((حَبَّذَا)) غير ظاهر.
والفاضل: ذو الفَضْل والفَضِيلة، وهو ضد النَّقْص والنَّقِيصة.
ويُذْكَرُ المَخْصُوص بَعْدُ مُبْتَدا
أو خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ يَبْدُو أَبَدَا
المخصوص في كلامه وكلام النحويين هو المقصودُ بالمدْح بعد (نِعْمَ) وبالذَمِّ بعد (بِئْسَ) وذلك نحو (زيدٌ، وعمروٌ) في قولك: نعم الرجلُ زيدٌ، وبئس الرجلُ عمروٌ. وإنما سُمِّى مخصوصاً لما فيه من ذلك المعنى؛ إذ كان قد ذُكر أولاً جِنْسُه، ثم خُصَّ بعد ذلك بذكر شَخْصه.
وقَصَد الناظمُ هنا ذكرَ ما يتعلَّق به من الأحكام، فأخبر أولاً أنه
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س).
(2)
كتاب الأصول في النحو 1/ 135، وفيه ((حب الشِيء زيد)).
(3)
سورة البقرة/ آية 68.
يُذكر فلا يُترك، لأنَّ بذكره حصولَ الفائدة في المدح أو الذم، لأن ذكرَ جنسه لا يُعَيِّنه، فافَتقَر إلى تعيينه.
ثم بَيَّن أنه يُذكر بعد ذكر الفاعل بقوله: ((وُيْذَكرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ)) أي بعد ما تقدَّم الكلام عليه، وهو الفعل والفاعل، فإذاً ما تقدَّم عليهما فليس هو المخصوص، بل هو دليل عليه، وبذلك يُشْعر قولُه بعد:((وإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بِهِ كَفَى)) حسبما يُذكر بحول الله.
ثم ذَكر حكمه في الإعراب لأنه مُشْكل، إذ لا يصح أن يكون فاعلا، لأن الفعل قد أَخَذ فاعلَه، ولا يصحّ أيضاً أن يكون بدلاً حسبما يُذكر، ولابد له من إعرابٍ آخر، بناءً على أن كل اسم لابد أن يكون له موضع من الإعراب. فذَكر له إعرابَيْن ساقهما مَساق التخيير.
أحدهما أن يكون مبتدأ، ولم يُعَيِّن له خبرا، وواضحٌ أن يكون الجملةَ المتقدِّمة، إذ بهما تمامُ الفائدة. وقد قال في باب ((الابتداء)):((والخبرُ الجزُء المُتِمُّ الفَائِدهْ)).
فإذا قلت: نعم الرجلُ زيدٌ، فـ (زيدٌ) مبتدا، خبره قولك:((نعم الرجلُ)) ولو كان الخبر غيرَ الجملة لَبَيَّن ذلك، كما بَيَّن في الإعراب الآخر أن المبتدأ محذوف.
والثاني أن يكون المخصوص خبرَ مبتدأ محذوف لازمِ الحذف، وهو قوله:((أو خبرَ اسْمٍ)) إلى آخره. فكأنه قال: هو زيدٌ، أو الممدوحُ زيدٌ.
وهذا التخييرُ يَحتمل أن يكون ظاهره، فيكون مذهبه في المسألة جوازَ الإعرابَيْن، وهو مذهب الجمهور، كالَجْرمي والمبّرد
_________
وابن السَّراج/ والفارسيّ وابن جنِيِّ وغيرهم.
…
553
ويًحتمل أن يكون رأيه إعرابَه مبتدأ، لتقديمه إيَّاه. وكثيراً ما يَأْتى بالخلاف في مَساق التخيير، كما ظهر في قوله قبلُ:((أَلْ حَرْفُ تعريفٍ أو اللَاّمُ فَقَطْ (1))) وفي قوله أيضاً: ((نَاوِينَ مَعْنَى كائنٍ أَوِ اسْتَقَرْ (2))) ويُشْعر بهذا الثاني أنه الذي نَصَّ في شرح ((التَّسهيل (3))) وهو أحد المذاهب الأربعة، أنه مبتدأٌ لا غَيْر. والثاني التخيير، والثالث تجويزُ أن يكون المخصوص مبتدأ محذوفَ الخبر، وهو مذهب ابن عُصفْور (4). والرابع أنه بدل من الفاعل.
فأما القول بإعرابه مبتدأً خبرُه ((نعم، وبئس)) فهو الراجح من خمسة أوجه:
أحدهما أنه لو كان غيرَ مبتدأ لوجب أن يَنْتصبَ إذا دخلت عليه ((كان)) لأن خبر المبتدأ هذا حكمُه معها، فكنتَ تقول: نعم الرجلُ كان زيداً، وبئس الرجلُ كان أبا فلان.
قال المؤِّلف: ولم نجد العربَ تَعْدِل عن الرفع في مثل هذا، فدَلَّ على أنه مبتدأ.
وكذلك كان يجب أن يَبْرُز المحذوفُ إذا قلتَ: نعم الرجالُ كانوا الزيدين، ونعم النساءُ كُنَّ الهنداتِ. وهذا لا يقال.
(1) باب المعرف بأداة التعريف.
(2)
باب الابتداء.
(3)
شرح التسهيل (ورقة: 140 - ب).
(4)
شرح جمل الزجاجي له 1/ 605.
وكذلك كان يجب إذا دَخلت ((ظَنَنْتُ)) وأخواتُها هنا (1). نعم الرجلُ ظننتُه زيداً، ونعم الرجلان وُجِدا الزيَديْن، لكن العربَ إنما تقول: نعم الرجلُ ظننتُ زيداً، ونعم الرجلان وُجِدا الزيدان، قال زهير (2):
يَمِيناً لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وَجدْتُماَ
على كُلِّ حَالٍ من سَحِيلٍ ومُبْرَمِ
فعُلم أن المخصوص لم يكن قبله ضمير فيكون هو خبَره، بل كان المخصوص مبتدأ مخبراً عنه بجملة المدح والذم.
والثاني أن الكلام عند جَعْل ((زيد)) خبراً لمحذوف جملتان، ليست إحداهما في موضع إعراب، وهو خلاف الظاهر، وادِّعاءُ خلاف الظاهر من غير حاجة إلى ذلك ممنوع، فكان تقديرُ مبتدأ غيرَ جائز، لعدم الاحتياج إلى ذلك. وذلك أن (نعم، وبئس) لا يتمُّ المعنى المقصود بهما إلا باجتماع المختص بالمدح والذم من الجنس الذي هو منه، فلا يُقَدَّر على هذا إلا مبتدأ، كما لا يقدَّر ((زيد)) في قولك:(ذهب أخوهُ زيدٌ) إلا مبتدأ.
والثالث أن المخصوص يجوز حذفه اتفاقاً إذا تقدَّم ذكره وكان معلوما، كقوله تعالى:{نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ (3)} . فلو كان المبتدأ لازمَ الحذف، ثم حُذف الخبر، وهو ((زيدٌ)) في المثال المتقدِّم لأَدَىَّ ذلك إلى حذف الجملة كلها، وذلك غير
(1) أي كان يجب إبراز الضمير المحذوف، فيكون كما مثل.
(2)
من معلقته، واستشهد به الرضي في شرح الكافية 4/ 244، والسيوطي في الهمع 4/ 247، وانظر: الخزانة 9/ 387، والدرر 2/ 47.
والسحيل: الحيط الذي لم يحكم فتله. والمبرم: الخيط الذي أحكم فتله، ويريد بهما الأمر السهل والأمر الصعب. يخاطب هرم بن سنان المري، والحارث بن عوف، ويثني عليهما بما فعلاه في الصالح بين عبس وذبيان.
(3)
سورة ص/ آية 30.
جائز، وإنما يُحذف من الجملة أحدُ جزءَيْها، ويبقى الثاني دَالاً عليه، ولا يُحذفان معاً إلا أن يُعَوَّض من ذلك، كقولك: أزيدٌ في الدار أم لا؟ ونحو ذلك. فكان القول بما يُؤَدِّي إلى ذلك ممتنعا.
وبهذا الوجه يبطل أيضاً قول من جَوَّز أن يكون المحذوف هو المبتدأ.
والرابع أن الكلام تامٌّ من غير تقدير محذوف، على تقدير أن يكون ((زيد)) مبتدأ خبرهُ ما قبله، فتكلُّف الحذفِ تكلُّف لما لا يُحتاج إليه.
وأيضاً فَدعْوَى حَذْفٍ في موضعٍ لم يَظْهر فيه ذلك المحذوف/ مجردُ دَعْوَى من غير
…
554 حجة.
والخامس أن ((نعم الرجلُ)) إنما هو في قُوَّة جزءِ كلام، وليس كلاماً مفيداً بوجه، فلابد من جزء آخر، لأن قولك:((نعم الرجلُ)) في معنى: جامعُ المحَامِد الرجلُ، أو جَمَع محامدَ الرجلُ، فهو كلامٍ بلابُدٍّ، فافتَقر إلى جزء آخر، وهو المخصوص، فتقدير المحذوف نَقْضٌ للغرض، وجَعْلُ ما هو تام غيرَ تام.
وأما قول ابن عصفور (1) فرُدَّ، زيادةً لما تقدم، بأن محصوله تكلُّف خبرٍ لمبتدأ قد وُجد معه ما يجوز أن يكون خبرهَ، ولُبعد هذا التقدير لم يذكر الناس هذا الوجه، وإلَاّ فقد كان ظَهر من حيث فهموا عن سيبويه أن هذا جوابُ مَنْ قال: مَنْ هو (2)؟ لأن جواب هذا إنما يكون فيه الاسم المذكور مبتدأ من حيث وقع السؤال بـ (مَنْ) عن خبر المبتدأ، وهي أيضاً
(1) وهو جواز أن يكون المخصوص مبتدأ محذوف الخبر.
(2)
انظر: الكتاب 2/ 177.
مبتدأ، وهو نظير قولك: مَنْ القائمُ؟ فتقول: زيدٌ، فزيدٌ مبتدأ، هذا هو الأظهر، ولكنهم استَقْبَحوا ما ذكرتُ من ذلك، فنَفَروا عنه.
ورَدَّه المؤلفُ أيضاً بأن هذا الحذف ملتَزم، ولم نجد خبراً يُلْتَزم حذفُه إلا ومحلُّه مشغول، ليَسُدَّ الشاغلُ مَسَدَّه، كخبر المبتدأ بعد ((لَوْلَا)) وهذا خلاف ذلك.
وأما القول بالبدل فمردودٌ لوجهين، أحدهما أن من شأن البدل صحةَ الاستغناء عنه. وهذا لا يصحّ الاستغناءُ عنه إذا لم يتقدَّم ذكرهُ، أو لم يُعلَم.
وهذا المعنى احتُجَّ على بعض أصحابنا، حيث ادَّعى في نحو (قَامَتْ هندُ) أن التاء هو الفاعل، وهو ضمير بارز، فأُلزِم أشياء.
من ذلك أن يكون البدل لازماً في هذا النحو من غير أن يجوز الاقتصار على الفاعل وحده، ولا نظير لذلك، ولكنه التزمه.
والثاني أن البدل من شرطه صحةُ وقوعه موقعَ المبدَل منه، وهذا ليس كذلك، إذ لا يستقيم أن يقال في (نعم الرجلُ زيدٌ): نعم زيدٌ.
ومن هنا امتنع عند البصريين أن يكون ((بِشْر)) في قوله: أنشده سيبويه (1):
أنا ابنُ التَّارِكِ البَكْرِيِّ بِشْرٍ
عَلَيْهِ الطَّيْرَ تَرْقُبُه وُقُوعَا
(1) الكتاب 1/ 182، وابن يعيش 3/ 72، 74، وشرح الرضي على الكافية 2/ 234، 382، 395، والخزانة 4/ 284، والتصريح 2/ 33، والهمع 5/ 94، والدرر 2/ 153، والأشموني 3/ 87، والشعر للمرار الأسدي.
وبشر هو بشر بن عمرو بن مرثد، قتله رجل من بني أسد. وترقبه الطير: تنتظر موته لتسقط عليه، لأنها لا تسقط على القتيل وبه رمق. ووقوعا: جمع واقع، خلاف الطائر.
بدلاً، لأنه لا يصح وقوعُه موقع ((الَبكْرِيِّ)) حسبما يُذكر في موضعه إن شاء الله. فالصحيح ما أشار إلى اختياره الناظم.
فإن قيل: إن إجازة الإضمار قد صرح به سيبويه في قوله: كأنه قال: نعم الرجلُ، فقيل له: مَنْ هو؟ فقال: عبدُ اللهِ، إلى آخره (1).
وأيضاً فالموضع موضع مدح أو ذم، فيَحْسُن فيه تكثيرُ الجمل. وأيضاً فالإضمار قد أجازه سيبويه، وفي إجازته لما أجاز حُجَّة.
فالجواب أن سيبويه لم يذهب إلى إضمار. ومن تَأمَّل كلامه تَبَيَّن ذلك، فإنه قال: وأما قولهم: نعم الرجلُ عبدُ الله فهو بمنزلة: ذهب أخوه عبدُ الله، عَمل ((نعم)) في (الرجل) ولم يَعمل في (عبد الله) وإذا قال: عبدُ الله نعم الرجلُ فهو بمنزلة: عبدُ الله ذهب أخوه (2). فهذا ظاهر في أن /المخصوص مبتدأ، تقدَّم أو تأخر. ثم قال: كأنه قال: نعم الرجلُ، فقيل له: مَن هو؟
…
555 فقال: عبدُ الله، وإذا قال: عبدُ الله فكأنه قيل له: ما شأنُه؟ فقال: نعم الرجلُ (3).
فهذا ظاهر في أنه تفسير لما تقدم من التقرير الأول، كأنه يُبَيِّن احتياج المبتدأ إلى الخبر، والخبر إلى المبتدأ، لا أنه أراد أن الكلام على تقدير محذوف.
والدليل على ذلك أنه لم يذهب أحدٌ ممن تقدم إلى أنه مبتدأ محذوفُ الخبر، وإن كان يُهمه كلامُ سيبويه.
وأمَّا الترجيح بتكثير الجُمَل فإنما يكون ذلك بعد تسليم أن (نعم
(1) الكتاب 2/ 176.
(2)
نفسه 2/ 176.
(3)
نفسه 2/ 176.
الرجلُ) وحدهَ جملةٌ مستقلة، وليس كذلك.
وإذا ثبت أن المخصوص مبتدأ خبرُه الجملةُ فلابد من رابط بينها وبينه، إعمالاً لقوله في ((باب الابتداء)) حيث ذكر الخبر:
ومُفْرَداً يَأْتِي ويَأْتِي جُمْلَهْ
حاويةً مَعْنَى الَّذِي سِيقَتْ لَهْ
إلى أخره. والجملة هنا ليست هي نفسَ المبتدأ، فلابد فيها من رابط. ولم يَذكر هنا وجَه الرَّبط (فلابد أن يكون داخلاً تحت ضابطه هناك. وفي ذلك قولان، أحدهما أن الرجل (1)) لَمَّا كان اسمَ جنس شمل المخصوصَ وغيره، فحصل الربط بلك. وهذا هو المشهور والمتداوَل عند المُقْرِئين والمُعْربين.
والثاني أن ((الرجل)) هو المبتدأ في المعنى، فلم يَحتج إلى رابط، لأن جزء الجملة إذا اتَّحدت بالمبتدأ لم تَفتقر إلى رابط، كما لو كانت الجملة هي المتَّحدة به معنى، نحو: هو زيدٌ قائمٌ، وقَوْلِي الحمدُ لِلَّهِ. وكِلَا القولين صالح للدخول تحت قوله:((حاويةً معنى الذي سِيقَتْ لَهْ)).
وثَمَّ قولٌ ثالث، أن الكلام محمول على معناه، لأن معنى قولك:(زيدٌ نعم الرجلُ) زيدٌ هو الرجلُ الكاملُ، أو الرجلُ كلُّ الرجلِ، أو الممدوحُ، أو ما في معنى ذلك، فإن ((الرجل)) هنا ليس مدلوله جميعَ الجنس، أي الأشخاصَ المتعدِّدة، وإنما مدلوله ما في ذِهْنه من تصوُّر حقيقة الرجل الذي يُطلق على أشخاص كثيرة، لا أن الأشخاص الكثيرة هي بعينها ذلك المفهومُ بعينه.
وهذا الرأي بَيَّنه المبرَّد وابن السرّاج وغيرهما (2)، وهو الذي ينبغي أن
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(2)
المقتضب 2/ 140، وكتاب الأصول في النحو 1/ 131.
يُحمل عليه كلامُ من تقدَم، وإليه يشير القول الثاني، وهو رأي المؤلف رحمه الله.
وليس هذا موضعَ بيان ذلك، إذ لم يتعرض له الناظم. وقد بَسط المسألةَ ابنُ الحاج فيما قيدَّه على ((مقرّب)) ابن عصفور. ثم قال رحمه الله تعالى:
وإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بهِ كَفَى
كالعِلْمُ نِعمَ المُقْتَنى والمُقْتَفَى
يعني أن المخصوص يُحذف للعلم به، فإن تقدم قبل (نعم، وبئس) ما يُشعر به، ويُعْرَف به اكتُفِيَ به عن ذكره بعد (نعم، وبئس).
فإذا قلت: (نعم الرجلُ زيدٌ) فلابد من ذكره هنا لعدم الدلالة عليه لو حُذف. فإن قلت: (قَدِمَ زيدٌ ونعم الفاضلُ) جاز الحذف للدلالة عليه.
ومن ذلك قوله تعالى: {إنَّا/ وَجَدْنَاهُ صَابِراً نَعْمَ الْعَبْدُ (1)} وقوله: {ولَقَدْ نَادَانَا
…
556 فَلِنعْمَ المُجِيبُونَ (2)}، {والأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْم المَاهِدُوَن (3)} وهو كثير جدا.
ومَثَّل ذلك بقوله: نعم المُقْتَنَى والمُقْتَفَى. والمُقْتَنَى: (مُفْتعَل) من الاقتناء، وهو الادِّخار والاتِّخاذ لنفسك، يقال: قَنَوْتُ الغنَم وغيرَها، قُنْوَةً وقِنْوَةً، وقنيتُها، قُنْيَةً وقِنْيَةً، واقتَنَيْتُها: اتَّخذتُها.
والمُقْتَفَى أيضا: (مُفْتَعَل) من الاقتضاء، وهو اتِّباع الأثر، يقال: قَفُوتُ أثرَه قَفْواً، واقْتَفَيتُه مثلُه، وقَفَّيْتُ على أَثَره بفلان، أي أَتْبَعتُه
(1) سورة ص/ آية 44.
(2)
سورة الصافات/ آية 75.
(3)
سورة الذاريات/ آية 48.
إيَّاه.
والمعنى في المثال: العلمُ نعم المالُ المتَّخَذ، والإمامُ المتَّبع الهادِي إلى سبيل الرشَّاد.
وقد ظهر شمولُ كلامه لنحو: زيدٌ نعم الرجلُ، وأنه في دلالته على المخصوص كقوله: رأيت زيداً ونعم الرجلُ. وفي ذلك بيان أن (نعم الرجلُ) ليس خبرا عن ((زيد)) المتقدِّم، وأنه ليس هو المخصوص، لقوله:((وإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ به كَفَى)) بل المخصوص محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه، فكأنه في تقدير: زيدٌ نعم الرجلُ هو.
وظاهر كلام النحويين خلافُ هذا. ألا ترى أن سيبويه جعل قوله: ((نعم الرجلُ زيدٌ)) كقولك: ذَهب أخوه عبدُ الله، وقوله: زيد نعم الرجلُ، كقولك: عبدُ الله ذَهب أخوه (1). فظاهر هذا أنه الأصل، كما أن ذلك كذلك في: عبدُ الله ذَهب أخوه.
وعلى ذلك النحويون، بل حكى شيخُنا الأستاذُ رحمه الله (2) الاتفاقَ على هذا.
والمنصوص عليه في ((التَّسهيل)) (3) موافقةُ الناس. فالحاصل أن ظاهر كلامه هنا مخالفةُ ما اتُّفِق عليه، وهو ممنوع.
فإن قيل: قد يقال: إنه أراد بقوله: ((كَفَى)) أنه المخصوص {تقدم، فيكون مبتدأ خبرُه ما بعده.
(1) الكتاب 2/ 176.
(2)
هو أبو عبدالله محمد بن علي بن أحمد الخولاني، يعرف بابن الفخار وبالألبيري النحوي (754 هـ) وتقدمت ترجمته.
(3)
انظر: ص 127.
فالجواب أن هذا لا يصح لأمرين، أحدُهما أنه قد أَعرب المخصوص (1)] إذا تأخَّر على وجهين، فاقتضى أنه إذا تقدَّم يُعرب على الوجهين، ولا قائل بهذا.
والثاني أن من الصُّور الداخلة تحت كلامه ألَاّ يكون المخصوص مبتدأ، نحو:{إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْم الْعَبْدُ (2)} وهو إذ ذاك ليس المخصوصَ اصطلاحا، بل هو مقدَّر بعد الفاعل، وإذا كان كذلك ظهر أنه مخالف للناس في هذا، واقْتَضى جوازَ بُروُز المخصوص بعد الفاعل في نحو: زيدٌ نعم الرجلُ، فيقال: زيدٌ نعم الرجلُ هو. وكلام النحويين يَقْتَضي المنعَ منه، فتأمَّل هذا الموضع ففيه إشكالٌ ونَظَر. والله أعلم بمراده.
واجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ واجْعَلْ فَعْلَا
مِنْ ذِي ثَلاثَةٍ كنِعْمَ مُسْجَلَا
لما أَتَمَّ الكلام على (نعم، وبئس) بحسب ما يَليق بهذا المختصر رجع إلى ما وَعد به في التَّرجمة، من ذِكرْ ((ما جَرى مَجراهما)) فأتى أولاً بلفظ (سَاءَ) لكثرة استعمالها وشُهرتها في القيام مقام (بئس). ويعني أن ((سَاءَ)) تَجري مَجرى (بئس) في حكمها المذكور في هذا الباب.
ولما أَطْلق القولَ/ في جَعْلها مثلَها، ولم يخص ذلك بحكم دون حكم اقتضى أن
…
557 المراد إجراؤها في معناها أولاً، وفي جميع أحكامها المذكورة ثانياً.
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س).
(2)
سورة ص/ آية 44.
أما جَريانُها مَجراها في المعنى فهو الأصل لجريَان أحكامها عليها.
وأصل (سَاءَ) فَعَلَ من السّوء، ضد السرور، سَاءَهُ الأمُر يَسُوءُه، إذا أحزنه، ثم صُيِّر إلى معنى (بئس) لإنشاء الذم، فترتَّب على حصول هذا لمعنى أن جرت مَجراها في جميع أحكامها، وذلك صحيح، فإنك تقول: ساء الرجلُ زيدٌ، وساءت المرأةُ هندُ، كما تقول: بئس الرجلُ زيدٌ، وبئست المرأةُ هندُ. وتقول: ساء رجلاً زيدٌ، وساءت امرأةً هندُ، كما تقول: بئس رجلاً زيدٌ، وبئست امرأةً هندُ.
وفي القرآن العزيز: {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا (1)} أي مَثَلُ القوم. وتقول: ساءَ مَا فَعَلْتَ، كما تقول: بِئْسَ مَا فَعَلْتَ، قال تعالى:{سَاءَ ما يَحْكُمُونَ (2)} {سَاءَ ما يَعْمَلُونَ (3)} .
ولا يَختلف الضمير إذا أُضمر فيها منا لا يَختلف في (بئس) بل تقول: ساء رجلَيْن الزيدان، وساء رجالاً الزيدون، وساء امرأتَيِنِ الهندان، وساء نساءً الهنداتُ، وما أشبه ذلك.
وفي إعراب المخصوص الوجهان، من الابتداء، أو خبرِ مبتدأ محذوف. وإذا تقدَّم ما يُشعر به كَفَى نحو: زيدٌ ساءَ الرجلُ، وزيدٌ ساءَ رجلاً، ورأيتُ زيداً وساءَ الرجلُ، ونحو ذلك. وهكذا سائر الأحكام.
ثم قال: ((واجْعَلْ فَعْلَا مِنْ ذِي ثلاثةٍ كنِعْمَ)) يعني أنه يجوز أن يُجعل في الأحكام ما صِيغَ من الأفعال على (فَعُلَ) بضم العين، وليس ذلك مختصاً بَفَعْل دون فعل، بل هو جائز قياساً في كل ثلاثي صِيغَ على (فَعُلَ).
(1) سورة الأعراف/ آية 177.
(2)
سورة الأنعام/ آية 136.
(3)
سورة المائدة/ آية 66.
وجَعْلُ هذا الفعل المصُوغ على (فَعُلَ) كـ (نِعْم) يريد به ما أراد بـ (ساء) من جَعْله يؤدِّي إنشاءَ المدح والذم كنِعْم وبِئْس أولاً، ثم إجرائِه مُجْراه في أحكامه اللفظية كما تقدم في (ساء) فتقول: حَسُنَ الرجلُ زيدٌ، وحَسُنَ رجلاً زيدٌ، وحَسُنَ ما تَصنع، كما تقول: نعم الرجلُ زيدٌ، ونعم رجلاً زيدٌ، ونعم ما تَصنع.
ومثله: عَظُم الرَجلُ زيدٌ، وحَلُمَ الرجلُ زيدٌ، وكَبُرَ العملُ قيامُ زيدٍ، وصَغُرَ رجلاً زيدٌ.
هكذا سائر الأفعال تجري على هذا الحكم وعلى غيره مما تقدم. ومنه قول الله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ (1)} وقوله: {نِعْمَ الثَّوَابُ وحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (2)} .
و((ذو الثَّلاثة)) هو الفِعْل، والثلاثُة: الحروفُ التي صِيغ منها الفعل. والجَعْل بمعنى التَّصْيير، أي صَيِّرْ هذا البناءَ في القياس كـ (نعم) و ((مِنْ ذِي ثَلاثة)) معمولٌ لاسم مفعول (3) هو حال من (فَعُلَ) أي مَصُوغاً من فعلٍ ذي ثلاثة، أو يراد بالجَعْل معنى الصَّوْغ كما تقول: جعلتُ الفِضَّةَ خَلْخَالاً، فيتعلَّق المجرور بالجَعْل على ذلك المعنى.
فيقَتضي أنه يجوز أن يُبْنى (فَعُلَ) من كل فعل ثلاثي كان على (فَعَلَ، أو فَعِلَ، أو فَعُلَ) فتقول: لقَضُو الرجلُ زيدٌ، وكَمُلَ رجلاً زيدٌ، وكَسُبَ الرجلُ
(1) سورة الكهف/ آية 5.
(2)
سورة الكهف/ آية 31.
(3)
في جميع النسخ ((معمول لاسم فاعل)) والصواب ما أثبته بدليل انه قدره فيما بعد بقوله: ((أي مصوغا)).
عبدُ الله، وضَرُبَ رجلاً زيدٌ، ونَعُمَ الرجلُ زيدٌ، [وبَؤُسَ الرجلُ زَيدٌ (1)] وما كان/ نحو ذلك. 558 وذلك صحيح.
ومن كلام العرب: لقَضُوَ الرجلُ، بمعنى: ما أَقْضَاهُ، أو نِعْم القاضِي هُوَ، ورَمُوَتِ اليدُ يَدُهُ (2).
وتحرَّز بذي الثلاثة من ذي الأحرف الزائدة على الثلاثة، كان ما زاد أصلياً أو زائداً، فإنه لا يُبْنى منه (فَعُلَ) لمل يلزم من هَدْم البِنْية.
و((مُسْجَلاً)) معناه: مطلقاً من غير تقييدٍ بأمر، ولا اختصاصٍ بحال دون حال، بحكمٍ من الأحكام دون آخر. وأَصْل الإسجال الإرسالُ، يقال: أَسْجَلْتُ كلامِي، أي أرسلتُه إرسالاً، والمُسْجَل: المبذول المباح الذي لا يُمنْعَ من أحد.
وعلى الناظم هنا سؤالٌ من ثلاثة أوجه، أحدها أنه نَصَّ على أن (فَعُلَ) يصير في الحكم مثل (نِعْمَ) مطلقاً من غير تقييد، فهو إذاً مثلُه في أحكامه اللفظية والمعنوية. أمَّا في الأحكام اللفظية فكما قال.
وأما في الأحكام المعنوية فقد قالوا: إن (فَعُلَ) هذا المذكور يُعطي معنى التعجُّب، فقولك: حَسُنَ الرجلُ زيدٌ، في معنى: ما أَحْسَنَهُ، ولَقَضُوَ الرجلُ زيدٌ، في معنى: ما أَقْضَاهُ، وهكذا سائر المُثُل، ومعنى التعجب خلافُ معنى إنشاء المدح، فكيف أَطْلق القولَ في جَرَيان (فَعُلَ) مجرى (نِعْمَ)؟
والجواب عنه أن كَوْنَ (فَعُلَ) لإنشاء المدح والذم صحيحٌ ثابت، وهو
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س).
(2)
أي ما أرماها!
الذي يُعطيه كلام الناظم.
وأما معنى التعجُّب فداخلٌ على ذلك المعنى، إذ لا تَنَافُرَ بينهما، كما يَدخل معنى التعجُّب على معنى القَسَم والاستفهام في قوله (1):
* لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ *
وقال الأعشى (2):
* يَا جَارَتَا مَا أَنْتِ جَارَهْ *
ونحو ذلك، من غير أن يَتَناقض المعنيان، فكذلك هذا.
والسؤال الثاني أن ظاهر كلامه يُعطي أن البناء من (فَعُلَ) إنما يكون على معنى (نِعْمَ) لا على معنى (بِئْسَ) وأما معنى (بِئْسَ) فمختصُّ بـ (سَاءَ) المتقدمة الذكر، لأنه أورد الحكم عليها في مورد التقسيم فقال: اجْعَلْ (سَاءَ) كبِئْسَ، وكُلَّ مبنيِّ من فعل ثلاثي كنِعْمَ، فالمفهوم من هذا أن (سَاءَ) كما اختصَتَّ بـ (بئس) كذلك يَختص (فَعُلَ) بـ (نِعْمَ).
وهذا غير صحيح، بل يجري (فَعُلَ) مَجرى (نِعْمَ) ومجرى (بِئْسَ) فكما تقول: حَسُنَ رجلاً زيدٌ، بمعنى: نِعْمَ حُسْناً حُسْنُ زيدٍ، أو نِعْمَ رجلاً زيدٌ، تريد: لحُسْنِه، كذلك تقول: خَبُثَ الرجلُ زيدٌ، بمعنى: بئس الخُبْثُ خُبْثُ زيدٍ، أو بئس الرجلُ زيدٌ، تريد: لخُبْثِه.
وكذلك: لَؤُم الرجلُ زيدٌ، ودَنُؤَ رجلاً زيدٌ، وما أشبه ذلك، على معنى (بئس)
(1) هو أبو ذؤيب أو مالك بن خالد الخناعي أو أمية بن أبي عائذ الهذليون، وقد تقدم الاستشهاد به في باب ((التعجب)) وعجزه:
* بمُشْمَخِرٍّ به الظيَّانُ والآسُ *
(2)
تقدم الاستشهاد به في باب ((التعجب)) وصدره:
* بَانَتْ لتَحْزُننَا عَفَارَهْ *
فليس معنى (نِعْم) في (فَعُلَ) بمتعيِّن، بل هما يشتركان فيه قياسا، فظهر أن ظاهر كلامه غيرُ مستقيم.
والجواب أن قوله: ((كَنِعْمَ)) لا يَعني بع عَيْنَ المثال، إنما يريد به بابَ ((نعم)) أَجْمَعَ، فكأنه حَذف المصافَ لفهم المعنى. وبابُ ((نعم)) لا يَخُص ((نعم)) وحدها دون ((بئس)).
وإنما خَصَّ أولاً (سَاءَ) لكثرة استعمالها في نَفْسِها بمعنى (بئس) وإذا أمكن حَمْلُه على هذا الوجه لم يَبْقَ إشكال.
وعلى هذا التقرير أتى في ((التسهيل)) بَفَصْل (فَعُلَ) حيث قال: ونُلْحَق (سَاءَ) بـ (بئس)، وبها وبـ (نعم) فَعُلَ إلى آخره (1).
والسؤال الثالث أن صبغة (فَعُلَ) إنما تُبْنَى مما يُبْنَى منه فعلُ التعجُّب، فلا يُبْنَى/
…
559 من أفعال الألوان والخِلَق الثَّابتة والعيوب، فلا تقول: شَهُبَ الرجلُ زيدٌ، ولا مات رجلاً زيدٌ، ولا هَلُكَ الرجلُ خالدٌ، ولا ما أشبه ذلك.
وكذلك لا يُبْنَى من فعلٍ غير متصرِّف، ولا من مبنيّ للمفعول، فإذاً لابد أن يُبْنَى من فِعْل ثلاثي تامٍّ متصرِّف قابلٍ معناه للكثرة، غير مغيَّر عن اسم فاعله بـ (أَفْعَلَ فَعْلَاء) ولا مبني للمفعول.
والناظم لم يذكر من هذه إلا البناء من الفعل الثلاثي، وذلك إخلال، يبيِّن هذا أن (فَعُلَ) يُعِطي معنى (ما أَفْعَلَهُ) فلابد أن يكون بناؤه مما يصح فيه (ما أَفْعَلَهُ) والظاهرُ ورودهُ، ولا أجد الآن جواباً عنه.
وهو أيضا وارد عليه في ((التسهيل)) إذ لم يَزد على ما هنا إلا التنبيه
(1) ص 128، وبقية العبارة ((موضوعا أو محَّولا من فَعَل أو فَعِل، مضمَّنا تعجبا)).
على تضمين معنى التعجب، وذلك لا يشعر باشتراط شروط التعجب فقال: وتلحق (ساء) ببئس، وبها وبنعم (فَعُل) مَصُوغاً أو محمولاً من (فَعَلَ أو فَعِلَ) مضمَّنا تعجبا (1).
واعلم أن هذا الاستعمال في (فَعُلَ) غير لازم، فإنك تقول: حَسُن زيدٌ حُسْناً، وما حَسُنَ وجهُه، ولقد قًبُح قُبْحاً. وما أشبه ذلك.
وإنما يلزم في المحَّول من (فَعَلَ، أو فَعِلَ) إذ لا تقول في (كَسُبَ رجلاً زيد): كسُب زيد، وكَسُبْتَ تكسُبُ كَسْباً، وكذلك في (فَعِلَ).
فإن قلت: فإن ظاهر كلامه أن هذا الاستعمال غير لازم، وأنت تقول هو لازم، فما وجُه هذا؟ وذلك أنه قال: اجعل (ساء) كبئس، أي إن (ساء) المستعملة في قولهم:(ساءَهُ الأمُر يَسُوءُه) يجوز أن يُقصد بها قَصْدَ (بئس) فتجري مَجراها. وكذلك صيغة (فَعُلَ) من فعل ثلاثي على (فَعُلَ، أو فَعَلَ، أو فَعِلَ).
أما (فَعُل) فلا كُلْفة فيه إلا اعتقاد المعنى فيه، فقد صَحَّ فيه الجواز في اللفظ الواحد باعتبارين.
وأما (فَعَلَ، وفَعِلَ) فبالتحويل (إلى (فَعُل) فإذا اعتبرت ما بعد التحويل فلا يسوغ فيه الاستعمال الأصلي (2)) (ولا يسوغ فيه إلا استعمالُ (نعم، وبئس) وإن اعتبرتَ ما قبله فليس فيه إلا الاستعمال الأصلي (3)).
وإذا اعتبرتَ الأمر في الجملة جاز فيهما، أعني في (فَعَل) و (فَعِل)
(1) نفسه 128.
(2)
ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س).
(3)
ما بين القوسين ساقط من (س).
الاستعمالان معا.
فبهذا الاعتبار الأخير أطلق القول بالجواز، فكيف يُطلق القولَ بلزوم معنى (نعم، وبئس) فيهما؟
فالجواب أن اللزوم لم يقل به إلا باعتبار اللفظ بعد التحويل كما تقدم تقريره في السؤال، فلا إشكال. والخطب يسير.
ومِثْلُ نِعْمَ حَبَّذا الفَاعِلُ ذَا
وإنْ تُرِدْ ذَمَّا فَقُلْ لا حَبَّذا
وهذا أيضاً من الأفعال الجارية مجرى (نعم وبئس) وذلك (حَبَّذا) يعني أن (حَبَّ) هذا الفعل المسند إلى (ذا) والمقارن لها- جازٍ في أحكامه مَجرى (نعم) في أحكامها أيضا، وهذا على الجملة. وأما إذا لم تقارنه (ذا) فله حكم آخر يذكره.
فمِنْ جملة مماثلةِ (حَبَّذَا) لنعم جريانُها مجراها في إنشاء المدح، وأداء معنى التعجب، فإن (نعم) تؤدِّي هذا المعنى.
وكذلك تجري مجراها في غير هذا من الأحكام المذكورة، إلا ما يَذكره من المخالفة.
ثم إن قوله: ((وَمِثْلُ نِعْمَ حَبَّذَا)) يشير إلى أنها أيضاً مثلها في الفِعْليَّة، ويدل على ذلك قوله:((الْفَاعِلُ ذَا)) لأن الفاعل لا يكون فاعلاً إلا لفعلٍ أو ما جرى مجراه. و ((حَبَّ)) ليس جارياً/ 560 مجرى الفعل، فهي إذاً
_________
فِعْل. وحصل بهذا أن مذهبه هنا فِعْليَّةُ (حَبَّ) لا اسميتُها.
والمسألة مختلَف فيها على أقوال أربعة:
أحدها ما ذكَر الناظم أنها فِعْل و (ذا) فاعل به. وإليه ذهب ابن كَيْسان والفارسي وابن خروف وجماعة (1).
والثاني أن (حَبَّذَا) أصلها الفعلُ والفاعل، لكن صُيِّرا بالتركيب اسماً واحداً مبتدأً خبرُه ما بعده، وليست (حَبَّ) بباقيةٍ على ما كانت عليه من الفِعْلية. وهو رأي المبّرد وابن السَّراج والسَّيرافي وابن جِنِّي والزجَّاجي، وجمهور المتأخرين كالشَّلَوْبين وتلامذته (2).
والثالث أن (حَبَّذَا) بجملتها فِعْلٌ، فاعله المخصوصُ بعد، صار (حَبَّ) و (ذا) بالتركيب فعلاً لا اسماً، وهو مذهب الأخفش وظاهر الجَرْمي في ((الفرخ)) والزُّبَيْدي (3).
والرابع أن (حَبَّ) فعل، فاعله المخصوص، و (ذا) صِلةٌ، يعني زائدة، لكن لَزِمَتْ، وهولدُرَيوِد (4).
والكلام في الترجيح طويل. وقد استدَلَّ في ((الشرح (5))) على ما ذهب إليه هنا بأوجه:
أحدها أن الخصوم مُقِرُّون بأن (حَبَّذَا) في الأصل فعل وفاعل، وذلك فيما
(1) انظر: الأشموني 3/ 40.
(2)
المقتضب 2/ 143، والأصول في النحو 1/ 135، والأشموني 3/ 40.
(3)
انظر: ارتشاف الضرب (1036).
(4)
هو عبدالله بن سليمان بن المنذر بن عبدالله بن سالم الأندلسي القرطبي النحوي، الملقب بدَرْوَد، وربما صغر فقيل: دُرَيْوِد. معروف بالنحو والأدب، شرح الكسائي، وله شعر كثير. وكان أعمى (ت 325 هـ)[طبقات النحويين واللغويين 298، بغية الوعاة 2/ 44].
(5)
شرح التسهيل لابن مالك (ورقة: 142 - أ).
قبل التركيب وهما بعد التركيب لم يتغيرا معنى ولا لفظا، فوجب ألا يتغيرا حُكْماً، وأن يَبْقيا على أصلهما، كما وجب بقاء (لا) وما رُكِّبَ معها على ما كانا عليه من حَرْفِيَّة (لا) واسميَّة اسمها، مع أنهما قد عَرض لهما التركيبُ والصَّيْرورةُ كالشِيء الواحد.
والثاني أنه لو كان تركيبهما مُزِيلاً لهما عن حكمهما الأصلي لكان ذلك لازماً كلزوم (ما) لإذْ في (إِذْمَا) ومعلوم أن (ذا) مع (حَبَّ) ليس كذلك، إذ يجوز أن تُفصل (ذا) من (حَبَّ) كقوله عبدالله بن رواحة رضي الله عنه (1):
* فَحبَّذا رَياً وحّبَّ دِينَا *
يريد: وحَبَّذَا دِيناً.
والثالث أنه لو كان كذلك لم يجز أن تدخل (لا) على (حَبَّذَا) إلا مع التكرار، فلم يكن ليُقال: لا حَبَّذَا زيدٌ حتى تقول: ولا المَرْضِيُّ، كما يلزم أن تقول: لا الممدوحُ زيدٌ ولا المَرْضِيُّ، ولكن ذلك غير لازم اتفاقا، فليس (حَبَّذَا) اسماً أصلا.
والرابع أنه لو كان كذلك لدخلت على (حَبَّذَا) نواسخُ الابتداء، كما تدخل على سائر المبتدآت، فكنت تقول: إِنَّ حَبَّذَا زيدٌ، وكان حَبَّذَا زيداً، ونحو ذلك، وهو فاسد لا يقال باتفاق، فقد بطل أن يكون مبتدأ مع صحة كونه فعلاً وفاعلاً.
وأما المذهب الثالث (2) فهو ضعيف جدا، لأنه مؤسَّس على دعوىً لا دليل عليها. وأيضاً ففيه تغليبُ أضعف الجزءين وهو الفعل، على أقواهما وهو الاسم.
(1) الهمع 5/ 46، 48، الدرر 2/ 116، الأشموني 3/ 42، المساعد لابن عقيل 2/ 144، وشرح الكافية الشافية لابن مالك 1116، وقبله:
باسم الإله وبه بَدِينَا ولو عبدنا غيره شَقِينا
(2)
وهو أن (حبذا) بُرمَّتها فعل، فاعله المخصوص بالمدح.
وذلك خلاف القياس.
وأيضاً ففيه عدمُ النَّظير، وهو تركيب فعل واسم، إذ لا يوجد في كلام العرب مثله، فظهر أن الأمر ليس كما زعم ذلك القائل.
وأما الرابع (1) فدعوى أيضاً مجرَّدة. والذي استدل به قائلُه قولُه:
* فَحَبَّذَا رَباًّ وحَبَّ دِينَا *
وهو ظاهر فيما تقدَّم، لا فيما قال هذا القائل. هذا مقدارُ ما يُتَأَنَّس به في هذا الموضع. وقد قَيَّد شيخنا الأستاذ أبو عبدالله بن الفخار رحمة الله عليه (2) في هذه المسألة/ جزءا
…
561 رويناه عنه، وقَيَّدناه من خطه، ناظر فيه ابنَ مالك في احتجاجاته، لا حاجة إلى إيراده هنا.
ثم قال: ((الفاعلُ ذَا)) يعني أن باب (حَبَّذَا) خالفَ بابَ (نعم) في أن فاعل (حَبَّ) لا يكون إلا لفظ (ذا) الذي هو إشارة إلى الواحد المذكَّر القريب، بخلاف (نعم) فإن فاعلها يكون أحدَ ثلاثة أشياء كما تقدَّم.
واقتضى هذا الإلزامُ أن لفظ (ذا) لا يَختلف بحسب التثنية والجمع والتأنيث، بل تقول: حَبَّذَا زيدٌ، وحبذا الزيدان، وحبذا الزيدون، وحبذا هند، وحبذا الهندان، وحبذا الهندات. ومن ذلك قول جرير (3):
(1) يعني الرأي الذي يقول: إن (حب) فعل، فاعله المخصوص، و (ذا) صلة زائدة.
(2)
تقدمت ترجمته.
(3)
ديوانه 595، وابن يعيش 7/ 140، والمغني 558، والهمع 5/ 45، و 47، والدرر 2/ 115، واللسان (حبب) والبيتان من قصيدة لجرير يهجو بها الأخطل. والريان: جبل عظيم ببلاد طئ. والنفحة هنا: الطيب الذي ترتاح له النفس. واليمانية: نسبة إلى اليمن. وقبل: جهة أو ناحية.
يَا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ مِنْ جَبَلٍ
وحَبَّذَا ساكنُ الرَّيَّانِ مَنْ كَانَا
وحَبَّذَا نَفَحاتٌ من يَمَانَيِةٍ
تَأْتِيكَ من قِبَلِ الرَّيَّانِ أَحْيَانَا
وبعد هذا بيت الكتاب (1):
هَبَّتْ جَنُوباً فَذِكْرَى مَا ذَكَرْتكُمُ
عِنْدَ الصَّفَاةِ التي شَرْقِيَّ حَوْرَانَا
وقال الراجز (2):
يَا حَبَّذَا القَمْراءُ واللَّيُّل السَّاجْ
وطُرُقٌ مِثْلُ مُلَاءِ النَّسَّاجْ
وأنشد المؤلف (3):
حَبَّذَا أنتَما خَلِيلَيَّ إنْ لَمْ
تَعْذُلَانِي في دَمْعِيَ المُهْرَاقِ
وذلك كثير.
فعلى هذا لا يقال: (حَبَّ زيدٌ) ولا (حَبَّ الرجلُ) إلا قليلا، سيُنَبِّه عليه بعد،
(1) الكتاب 1/ 222، 404. والصفاة: الصخرة الملساء، وحَوْران: بلد بالشام، يقول: كلما هبت الرياح من قبل الجنوب ذكر أهله وأحبابه لهبوبها من ناحيتهم. وقد استشهد به سيبويه على أن ((شرقيَّ)) هنا ظرف ولا مناسبة له في هذا الباب! .
(2)
الخصائص 2/ 115، وابن يعيش 7/ 139، 141، واللسان (سجا) ونسبه للحارثي. والقمراء: الليلة المنيرة بضوء القمر. والليل الساجي: الساكن الهادئ. والملاء: جمع مُلاءة، وهي الملحفة أو الإزار. شبه الطرق وقد سطع نور القمر عليها بخيوط ملاءة بيضاء قد نسجت.
(3)
الهمع 5/ 45، والدرر 2/ 115. وعذله يعذُله- بكسر اللام وضمها- لامه. والمهراق: المصبوب.
بل التزمت العرب هنا الإتيان بـ (ذا).
وكذلك لا يقال: حَبَّذِي هندُ، ولا حَبَّذان الزيدان، ولا: حَبَّ أوُلاءِ الزيدون، ولا ما أشبه ذلك حسبما ينبَّه عليه.
ثم قال: ((وإنْ تُرِدْ ذَمَّا فَقُلْ لَا حَبَّذَا)) هذا أيضاً مما خالف فيه هذا البابُ بابَ (نعم) وهو أن (حَبَّذَا) للمدح كـ (نعم) فإذا أريد الذمُّ فليس له فعل يشاركه في حكمه يُعْطِي معنى الذم، كما كان لـ (نعم) مشارك في ذلك، وهو (بئس) بل استَغنت عنه العرب بإدخال حرف (لا) على (حَبَّذَا) فإذا أرادت الذمَّ قالت: لا حَبَّذَا زيدٌ. وأنشد المؤلف (1):
أَلَا حَبَّذَا أَهْلُ المَلَا غَير أَنَّهُ
إذَا ذُكِرَتْ فَلَا حَبَّذَا هِيَا
فإن قيل: إن الناظم أتى بـ (ذا) رًوِيَّا في البيتين معا، وذلك هو الإيطاءُ المعَيب (2)، وليس ذلك من عادته.
فالجواب أن الأمر ليس كذلك لوجود المخالفة بين (ذا) الأولى والثانية، وذلك من وجهين، أحدهما أن (ذا) في الأولى اسم لـ (ذا) المشار بها في (حَبَّذَا) لا المشار بها، فهي كـ (زيد) في قولك: زيدٌ ثلاثيُّ الحروف، فـ (زيد) الواقع على الشخص، لا الاسمُ الواقع على الشخص، فاختلفا، لأن أحدهما اسم اللفظ، والآخر اسم المعنى.
(1) البيت لذي الرمة، ديوانه 675، وينسب أيضا لكنزة أم شملة، من قصيدة قالتها في مية صاحبة ذي الرمة، وهو من شواهد الهمع 5/ 51، والدرر 2/ 117، والتصريح 2/ 99، والأشموني 3/ 40، والعيني 4/ 12. والملا: المتسع من الأرض، والصحراء، وموضع بعينه.
(2)
الإيطاء هو اتفاق القوافي في اللفظ والمعنى، وهو من عيوب القافية إذا تقارب، فإن تباعد سهل، مثل أن يأتي بعد سبعة أبيات فأكثر.
والثاني أنا لو سلَّمنا أنهما شِيء واحد لم يكن ثَمَّ إِيطاءٌ لأنهما قد اختلفا بالإفراد والتركيب، فـ (ذا) في الأول مفردة، وفي الثاني مركبة مع (حَبَّ) وذلك اختلافُ يُعتبر في القوافي مثلُه، فلا يكون إيطاء. ثم قال:
وأَوْلِ ذَا المَخْصُوصَ أَيَّا كانَ لَا
تَعْدِلْ بِذَا فَهْوَ يُضَاهِي الْمَثَلَا
(ذا) مفعول أَوَّلُ لـ (أَوْلِ) والمفعول الثاني المخصوص، وليس ((المخصوصَ)) تابعَ (ذا).
ويريد أن ((ذا)) لازم مع (حَبَّ) على هذا اللفظ في كل حال. فإذا أتيت بالاسم المخصوص، وهو المخصوص بالمدح/ أو الذم، فاجعله والياً لـ (ذا) ملاصقاً له بعده، ولا تَحْفَل
…
562 بكون المخصوص إذا أتيتَ به مفرداً مذكرا على مطابقة (ذا) بل تأتي به كيف كان، من إفراد أو تثنية أو جمع، أو تذكير أو تأنيث، مع بقاء (ذا) على لفظ الإفراد والتذكير، لا تَعْدِلْ به غيَره، فإنه يشبه المثلَ السائر الذي لا يغيَّر عن حالته في الاستعمال الأول.
وقد تضمَّن هذا الكلام ثلاثةَ أمور، أحدها لزومُ كون المخصوص والياً لـ (ذا) بعده، فلا يقع قبله ولا بعده مفصولاً منه.
وأما كونه لا يقع قبله فلا تقول: حَبَّ زيدُ ذَا، لأن (ذا) مع (حَبَّ) كالشيء الواحد، ولا تقول أيضاً: زيدُ حَبَّذَا، كما تقول: زيدُ نعم الرجلُ، لأن (حَبَّذَا فلانُ) جارٍ مَجرى المثَل كما قال الناظم.
قال ((الشرح)) (1): وقد أغفل أكثر النحويِّين التنبيهَ على امتناع
(1) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 142 - أ).
تقديم المخصوص في هذا الباب، وهو من المهمَّات. قال: وتَنَبَّه ابنُ بابْشَاذ (1) إلى التنبيه عليه، لكن جعل سبب ذلك خَوفَ تَوهُّمِ كونِ المراد من (زيدٌ حَبَّذَا) زيدٌ أحَبَّ هذا. قال: وتوهُّم هذا بعيدٌ، فلا ينبغي أن يكون المنعُ من أجله.
ثم عَلَّل بجرَيانه مَجرى المثَل، فلا يُعْدَل عن لفظ السابق في أصل الاستعمال، فلا يغيَّر بالتقديم والتأخير ولا بغير ذلك كما يأتي.
وأمَّا كونه لا يقع بعده مفصولاً منه فذلك تنبيهٌ على أن نواسخ الابتداء لا تدخل على المخصوص ههنا، فإن من ضرورة دخولها أن تَفْصل بينه وبين (ذا) فلا تقول: حَبَّذَا كان زيدٌ، كما نعم الرجلُ كان زيدٌ، ولا حَبَّذَا علمتُ زيداً، كما تقول: نعم الرجلُ علمتُ زيداً. وكذلك ما أشبهه.
وفيه أيضاً تنبيهٌ آخر على أن التمييز أو الحال إذا ذكر مع (حَبَّذَا) يجب تأخيره عن المخصوص، فلا يتقدم عليه، فلا يقال: حَبَّذَا رجلاً زيدٌ، ولا حَبَّذَا عالماً زيدٌ. وهذا رأي حكاه في ((الَّتْذكرة)) الفارسيُّ عن الكوفيين، أنهم لا يجيزون: حَبَّذَا رجلاً زيدٌ.
ونَصَّ الجَرْمي على قبح ذلك إذا أُعرب المنصوب تمييزاً، لكن هذا منه بناءً على أن المخصوص هو الفاعل، و (حَبَّذَا) فِعْل، كما تقدم النقل عنه.
وهذا الرأي، إن كان قَصَده، مخالفُ لجمهور البصريين، فإنهم يُجيزون ذلك كله. وله وجهُ من النظر وإن كان الفارسي قد قال: لا وجهَ له عندي، وذلك أن المنصوب إمّا أن يكون حالاً أو تمييزاً، فإن كان حالاً فإمّا أن يكون صاحبهُ
(1) هو أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي المصري، أحد الأعلام في النحو وفنون العربية، استخدم في ديوان الرسائل، وكانت له حلقة علم بجامع عمرو بمصر، ومن تصانيفه شرح جمل الزجاجي والمحتسب في النحو، وتعليق الغرفة في النحو أيضا (ت 469 هـ) بغية الوعاة 2/ 17.
(ذا) أو المخصوصَ، فإن كان صاحبه المخصوصَ فلا ينبغي التقديم، لأن المخصوص إمّا مبتدأُ خبرهُ ما قبله، والحال لا يتقدم على المبتدأ. وإمّا خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، فكذلك أيضاً، لزن العامل مَعْنىً، والعامل المعنويُّ لَا يتصرف في معموله.
وإن كان صاحبه (ذا) فغير لائق، لأن (ذا) مبهَم محتاج إلى التفسير أكثرَ من احتياجه إلى الحال، فلا فائدة في انتصاب الحال عنه، وهو غير معروف، كما ضَعُف انتصابُ الحال عن النكرة لعدم الفائدة. وإن/ كان تمييزاً فإنَّما يصلح تمييزاً لـ (ذا) لا للمخصوص. وعند ذلك
…
563 لا ينبغي أن يَلِيه وإن كان تمييزاً له، قياساً على التمييز في (نعم، وبئس) إذا قلت (1):
* فَنِعْمَ الزَّادُ أَبِيكَ زَادَا *
وما أشبه ذلك، لأن عامة السماع على تأخير التمييز عن المخصوص في باب (نعم) فكذلك ينبغي هنا لاتحاد البابين في المعنى وكثير من الأحكام.
وأيضاً فلم يكن الكوفيون ليمنعوا إلا مَادلَّهم الاستقراءُ على امتناعه، فإذا لك يكن سماعُ يَشهد لجواز: حَبَّذَا رجلاً زيدٌ، وإنَّما فيه ما يدل على التأخير نحو قوله (2):
* يَا حَبَّذَا جَبَلُ الريَّانِ مِنْ جَبَلٍ *
(1) عجز بيت لجرير من قصيدة يمدح بها عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، وقد تقدم، وصدره:
* تَزوَّدْ مِثْلَ زادِ أبيكَ فِينَا *
(2)
صدر بيت لجرير من قصيدة يهجو به الأَخطل، وقد تقدم، وعجزه:
* وحَبَّذَا ساكنُ الرَّيانِ مَنْ كانَا *
- كان القول بالامتناع أرجح.
ورأى المؤلف في غير هذا الكتاب موافقةُ الناس في الجواز، ولكن اتباعَ عبارتِه هنا أَدىَّ إلى تفسيرها بما تقدم.
ويمكن أن يكون له رأيُه رأيَ الجماعة، على أنه يرىَ تقديم المنصوب على المخصوص، لكنه لما كان قليلا جدا لم يَعْبَأ به في الذِّكْر، وإن كان قد يُقاس عليه عنده وهذا بَعِيد.
والأظهرُ من لفظه منعُ ذلك، فلمَ يَذكره وإن كان قياساً عند غيره، لكونه لم يَره قياساً لندوره عنده. واعتبره في ((التسهيل)) (1) وغيره.
وقد أنشد في ((الشرح)) على التقديم (2):
أَلَا حَبَّذَا قَوْماً سُلَيُمٌ فَإنَّهُمْ
وَفَوْا إذْ تَواصَوْا بالإعانَةِ والنَّصْرِ
ومثله نادر لا يُبنى على مثله، والله أعلم.
الأمر الثاني: كون (ذا) لا يختلف مع اختلاف المخصوص بالتذكير والتأنيث، والإفراد والتثنية والجمع، وذلك قوله:((وأَوْلِ ذَا المخصوصَ أَيَّا كَانَ)) يعني: أيَّ اسمٍ كان لا تَعْدِل بذا غيرَه، فإذا وليه المؤنث أو المثنى أو المجموع فلا تتغير (ذا) عن لفظ المفرد المذكر، فتقول: حَبَّذَا زيدٌ، وحبذا هندٌ، وحبذا الزيدان والهندان، وحبذا الزيدوُن والهندات. وقد تقدم بيانُ هذا، والاستشهادُ عليه (3).
الأمر الثالث: تعليل الحُكْمين المتقدِّمين، وذلك قوله:((فَهُوَ يُضَاهِي المَثَلَا))
(1) ص: 129.
(2)
شرح التسهيل للناظم (ورقة: 142 - ب) بدون نسبة.
(3)
انظر: ص 554.
يعني أن العرب أجرت (حَبَّذَا) مجرى الأمثال التي تُحكى ولا تُغيَّر عن حالها، فلذلك لم تُدخل على المخصوص النواسخَ، ولم يَتَقدَّم على (حَبَّ) ولا على (ذا) ولم يُفصل بين شيئين من ذلك، لكنهم لم يلتزموا فيه الحكاية كل الالتزام، إلا في (حَبَّذَا) خاصة، لأنه حين احتاجوا إلى ما يُسْنَد إليه المدح أو الذم صار ماعدا (حَبَّذَا) مختلفا باختلاف الممدوح أو المذموم، فلحقه من الأحكام القياسية ما يلحق (نعم، وبئس) وغيرهما. فقد ضاهى، أي شابه، المثلَ المحكىَّ بإطلاق، فالتُزِم هنا (ذا) و (حَبَّ) ما التُزم في الأمثال من الإتيان به على حالة واحدة، فكما التزموا خطاب المؤنَّث في قولهم:((أَطرَّي إنَّكِ ناعِلَةٌ)) (1) وقولهم: ((الصَّيْفَ ضَيحَّتِ اللَّبَنَ)) (2) وقولهم: ((خَلا لكِ الجوُّ فَبِيضِي واصْفِري)) (3). وخطاب الواحد المذكر في نحو قولهم: ((ويَأْتيكَ بالأخبار مَن لم تُزِّوَدِ (4))) وقولهم: ((يدَاكَ أَوْكَتَا وفُوكَ
(1) كتاب الأمثال لأبي عبيد 115. وأطرى: حذى في طرر الوادي، وهي نواحيه. وناعلة: ذات نعلين. ومعناه: اركب الأمر الشديد فإنك قادر عليه. وأصله أن رجلا كانت له راعية، وكانت ترعى في السهولة، وتترك الحزونة، فقال لها المثل.
(2)
كتاب الأمثال لأبي عبيد 247. والرواية الأشهر ((ضَيَّعْتِ)) بالعين. والضَّيْح والضَّياح: اللبن الرقيق الكثير الماء. وضيَّح فلان اللبنَ: مزجه بالماء حتى صار ضيحا. ويضرب المثل في طلب الحاجة من غير موضعها، أو طلبها بعد فوات الفرصة السانحة. وانظر أصل المثل في الكتاب.
(3)
كتاب الأمثال لأبي عبيد 251. والمثل شطر بيت لطرفة بن العبد يخاطب به القُنبرة. ويضرب في الحاجة يقدر عليها صاحبها متمكنا، لا ينازعه فيها أحد.
(4)
كتاب الأمثال لأبي عبيد 206. وهو عجز بيت لطرفة بن العبد، وصدره:
…
=
نفَخَ)) (1). وما أشبه ذلك، كذلك التَزموا إشارةَ المفرد المذكر القريب هنا، والتزموا اتصالَ (حَبَّ) ب (ذا) وعدمَ الفصل، وعدم تقديم/ المخصوص، كما التزموا نَظْمَ الأمثال فلم يغيِّروها
…
564 بفصل ولا تقديم ولا تأخير، وذلك ظاهر.
وقولهُ: ((وأَوْلِ)) فعلٌ متعدٍّ إلى اثنين من: أَوْلَيْتُ زيداً عمراً، أي جعلتُه يَلِيه، فالمفعول الأول هنا (ذا) والثاني (المخصوص) كأنه قال: اجعل المخصوص يلي (ذا).
وقوله: ((أيَّا كانَ)) أيَّا: مقطوعةُ عن الإضافة، منصوبةٌ على خبر ((كان)) يعني: سواء كان مفرداً أم مثنى أم مجموعا، مذكرا أم مؤنثا. وقوله:((لَا تعْدِلْ بِذَا)) أي بهذا اللفظ غيرهَ.
وقوله: ((فهو يُضَاهِي المَثَلا)) يعني أنه جارٍ مجرى الأمثال التي لا تغيَّر عن لفظها وحالها، بل تقال لكل من شاكلت حالهُ حالَ المقول فيه أولا، وإن خالفه في التعدَّد والاتِّحاد، والتذكير والتأنيث، لأن المعنى فيه حينُ يذكر أن حال هذا المذكور الآن مثل حال صاحب المثل، ولذلك سُمِّي مثلا. ثم قال:
ومَا سِوَى ذَا ارْفَعْ بَحبَّ أو فَجُرْ
بالبَا ودُونَ ذا انْضِمَامُ الْحاكَثُرْ
=
…
* سَتُبْدِي لَكَ الأيامُ ما كنتَ جاهِلاً *
ويضرب في تعجل المرء بالاستخبار عن الشِيء قبل أوانه. وقد تمثَّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
كتاب الأمثال لأبي عبيد 331. وأوكتا: شَدَّتا الوِكَاء، وهو سير أو خيط يُشد به فم السقاء أو الوعاء ويضرب في الشماتة بالجاني على نفسه.
لما أتمَّ الكلام على (حَبَّ) المقرونة بـ (ذا) وهو أغلب استعمالها في معنى الإنشاء المذكور أخذ يذكر حكمَها في الاستعمال الثاني، وهو أن تقُرن بغير (ذا).
فيريد أن (حَبَّ) إذا لم يكن فاعلها (ذا) فلها في نفسها حكمٌ مخالف لحكمها مع (ذا) ولفاعلها أيضا حكم آخر.
فأمَّا حكم فاعلها فيجوز فيه وجهان:
أحدهما، وهو الأصل، أن يُؤتى به مرفوعاً فتقول: حَبَّ الرجلُ زيدٌ، وحَبَّ رجلاً زيدٌ، ففي (حَبَّ) ضمير مرفوع هو الفاعل، كما في (نعم، وبئس)، وقال ساعدة بن جُؤَيَّة (1):
هَجَرَتْ غَضُوبُ وحَبَّ مَنْ يَتَجَنَّبُ
وَعَدَتْ عَوادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ
وهذا هو المشار إليه بقوله: ((ارْفَعْ بِحَبَّ)).
والثاني زيادة الباء في الفاعل، كما زيدت في {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (2) والمعنى: كَفَى اللهُ شهيدا، وكما قالوا فيما هو في معناه: أَكَرِمْ بزيدٍ، لأن ((زيداً)) عند جماعة في موضع رفع، والمعنى على فاعليَّة ((زيد)) فالباء، على الجملة، مما تُزاد في الفاعل، فكذلك زادوها هنا، فتقول: حَبَّ بالرجلِ، وكذا: حَبَّ به رجلاً زيدُ. ومنه قول الأخطل (3):
(1) تقدم الاستشهاد به في الباب نفسه.
(2)
سورة النساء/ آية 79، ومواضع أخرى من الكتاب العزيز.
(3)
البيت من أول قصيدة في ديوانه، واستشهد به الرضي في شرح الكافية 4/ 257، وابن يعيش 7/ 129، 138، 241، وانظر: الخزانة 9/ 427، والعيني 4/ 26، وشرح شواهد الشافية 14، وهذا البيت في وصف الخمر، ويعني بقتلها مزجَها بالماء حتى تنكسر قوتها.
فَقُلْتُ اقْتُلوهَا عنكمُ بمَزِاجهَا
وحَبَّ بها مَقْتُولَةً حينَ تُقْتَلُ
وقال الآخر (1):
حَبَّ بالزَّوْر الذي لا يُرىَ
مِنْهُ إلَاّ صَفْحَةٌ عن لِمَامْ
وهذا الوجه هو المراد بقوله: ((أَوْ فُجرَّ بالبَاءِ)) وقَيَّد الجرَّ بالباء لأنه هو موضع السماع، فلا يُتَعدَّى إلى غير الباء، فلا يقال: حَبَّ للرجلِ، ولا حَبَّ من الزَّوْرِ، ولا غير ذلك، كما لا يقال: كَفَىِ لِلَّهِ شهيداَ، ولا كفى من اللَّهِ، ولا غير ذلك. وهذا ظاهر.
وقد زيدت هذه الباء في (نعم) حكى ابن السراَّج (2): مررتُ بقومٍ نِعْمَ بِهْم قوماً. وأصله: نِعْمُوا قوماً، وهو في (نعم) قليل، وليس في (حَبَّ) بقليل. ولذلك أطلق الناظم القولَ في جواز الوجهين، ولم يقيِّد واحداً منهما بقلة ولا كثرة.
وأما حكم (حَبَّ) في نفسها فذكَر لها وجهين، أحدهما أن تبقى/ حاؤها مفتوحة
…
565 كما كانت مع (ذا) فتقول: حَبَّ الرجلُ زيدٌ، وحَبَّ به رجلاً زيدٌ. والثاني أن تُضم حاؤها فتقول: حُبَّ الرجلُ زيدٌ، وحُبَّ
(1) للطرماح بن حكيم، ديوانه 99، والهمع 5/ 53، والدرر 2/ 119، والأشموني 3/ 39، والعيني 4/ 15، والتصريح 2/ 99، واللسان (زور). والزور: الزائراً والزائرون، يقال: رجل زَوْر، وقوم زَوْر. وصفحة كل شيء: جانبه. واللمام- بكسر اللام- جمع لمة، وهو الشعر يجاوز شحمة الأذن. ويروى ((أو لمامْ)).
(2)
الأصول في النحو 1/ 139.
به رجلاً زيدٌ. ومنه قوله (1):
* هَجَرَتْ غَضُوبُ وحُبَّ مَنْ يَتجنَّبُ *
يُروى هكذا مضموما، ويروى قول الآخر بالوجهين (2):
* وحُبَّ بها مَقْتُولةً حيَنْ تُقْتلُ *
والضم أكثر من الفتح، وهو مما غَلَب فيه الفرعُ الأصل.
وقد نَبَّه على كثرة الضم بقوله: ((وانْضِمَامُ الحَاكَثُرْ)) يريد: وقَلَّ البقاءُ على الأصل، من الفتح. وهذا بخلافها مع (ذا) فإن الضم غير جائز، لأنه جَرى (حَبَّذَا) مع الفتح مَجرى المثل.
وأصل الضم الفتحُ، لأن أصل (حَبَّ) حَبُبَ، أي صار حَبِيباً، وهو من الأفعال المضاعَفة التي جاءت على (فَعُلَ) وذلك قليل نحو: لَبُبْتَ يا هذا، أي صرتَ ذا لُبّ، حكاه يونس (3). والأكثر: لَبِبْتَ، وقالوا نحو: عَزُزْتِ يا ناقةُ تَعُزِّينَ، إذا صارت عَزُوزاً، وهي الضيِّقة الإحليل (4)، في أفعال نوادر.
فنقلوا في أحد الاستعمالين ضمة عينه إلى فإنه فقالوا: حُبَّ، وهذا
(1) لساعد بن جؤية، وعجزه:
* وَعَدتْ عَوادٍ دوُنَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ *
وتقدم الاستشهاد به في الباب نفسه.
(2)
للأخطل، وصدره:
* فقلتُ اقتلوها عنكمُ بمزِاجِها *
وتقدم الاستشهاد به -أيضا-.
(3)
في تهذيب اللغة ((حُكي: لَبُبْتُ، بالضم، وهو نادر لا نظير له في المضاعف)).
الإحليل: مخرج البول من الإنسان، ومخرج اللبن من الثدي والضرع. وإحليل الذكر: ثَقْبه الذي يخرج منه البول، والجمع أحاليل. والناقة العَزوُز هي الضيقة الأحاليل التي لا تَدِرُّ حتى تُحلب بجهد.
قياسٌ في كل فعل بُني على (فَعُلَ) لقصد إنشاء المدح أو الذم على سبيل المبالغة، فتقول: حُسْنَ الرجلُ زيدٌ، ومنه قول سَهْم بن حَنْظلة الغَنَوي (1):
لَمْ يَمْنَع الِناسُ مني ما أَرَدْتُ ولا
أُعطِيِهمُ ما أرادوُا حُسْنَ ذا أَدَبَا
إلا أنه أجرى (حُسْنَ) مجرى (حُبَّ) فأسنده إلى (ذا).
وقوله: ((ومَا سِوَى ذَا)) ((ما)) منصوب (2) بـ (ارْفَعْ) و ((أو)) للتَّخْيير، إلا أن الفاء (3) في قوله:((فَجُرْ)) مشكلةٌ لدخول عاطف على عاطف.
فإن قيل: هذا الموضع معترِض على الناظم، فإنه لم يقيد هنا فاعلَ (حَبَّ) إذا لك يكن (ذا) بقيد، ولابد من التقييد له، لأن فاعل (حَبَّ) مع غير (ذا) إنما يكون اسمَ جنس، أو ضميراً مفسَّرا بتمييز، أو (ما) أو (مَنْ) كفاعل (نعم، وبئس) من كل وجه، لأن (حَبَّ) جارياً مجراه كسائر الأفعال المبنيَّة على (فَعُلَ) لهذا المعنى، فلا يجوز أن يقال: حَبَّ زيدٌ، ولا حَبَّ أخوك، ولا ما أشبه ذلك.
ولأجل هذا لم يستقم قولُ من جعل ((بُكَاهَا)) من قول حَسَّان بن ثابت، أو مَعْب بن مالك، أو عبد الله بن رواحة، رضي الله عنهم (4):
بَكَتْ عَيْنِي وحُقَّ لَهَا بُكَاهَا
وما يُغْنِي البُكَاءُ ولا الْعَوِيلُ
(1) تقدم الاستشهاد به في الباب نفسه.
(2)
في جميع النسخ التي أرجع إليها ((مرفوع)) وهو سهو. وما أثبته من عندي.
(3)
في جميع النسخ ((إلا أن الواو)) وهو سهو. وما أثبته من عندي.
(4)
المقتضب 3/ 86، 4/ 292 (حاشية) والمنصف 3/ 40، وشرح شواهد الشافية 66، والروض الأنف 2/ 165.
- فاعلاً بـ (حُقَّ) على أن يكون مثلَ (حَبَّ) هنا، لأن ((بُكَاهَا)) لا يُسند إليه (نعم وبئس) قال الفارسيُّ في ((البغداديات)): لا يجوز: حَبَّ زيدٌ، كما لا يجوز نعم زيدٌ، لأنه فِعْلُ يقتضي اسماً عاماً مثلَه، ووضعُه للمدح، كما أن وضع (نعم) له.
وأنشد أبو زيد في نوادره (1):
قَدْ زَادَهُ كَلَفَاً بالحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ
وحَبَّ شَيْئاً إلى الإنْسَانِ ماُ منِعَا
فهذا كنِعْمَ شَيئاً ماُ منِعَا، وإذا ثبت هذا كان إطلاق الناظم غيرَ مستقيم.
فالجواب أنه لم يَغْفَل عن هذا التقييد البتَّةَ، لأنه لَما ذكر أحكامَ (نعم، وبئس) أَلْحَق بهما (حَبَّذَا) في قوله: ((ومْثِلُ نِعْمَ حَبَّذَا)) فاقتضى أن (حَبَّ) بغير (ذا) مثل (نِعْم) في جميع الأحكام، إلا ما خَصَّها به دون (نعم) وهذا صحيح، فإنها فيما سوى ما ذكَر، فلم يحتج إلى ذكر قيد/
…
566 لرجوعها إلى حكم الباب.
والحاصل أن (حَبَّذَا) خالفت (نعم وبئس) في أحكام، ووافقتهما في أحكام أُخَر. فالتي وافقتهما فيه سبعة أحكام:
أحدها أن (حَبَّ) فعل بإطلاق، وإن تركَّب مع (ذا) كما أشار إليه بقوله:((ومِثْلُ نِعْمَ حَبَّذَا الفاعلُ ذَا)).
والثاني أن له مخصوصاً بالمدح أو بالذم، لأنه أحال عليه بقوله:
(1) للأحوص، ديوانه 133، ونوادر أبي زيد 27، والهمع 6/ 45، والدرر 2/ 224، واللسان (حبب) وكَلِف بالشيء، يَكْلَف، كَلَفاً: أحبَّه وأولع به.
((وأَوْلِ ذَا المخصوصَ كذا)) فالألف واللام فيه للعهد في المخصوص المذكور لـ (نعم وبئس).
والثالث إن ذلك المخصوص إما مبتدأٌ خبرهُ ما قبله، أو خبرُ مبتدأ محذوف، فعلى الأول التقديرُ: زيدٌ حَبَّذَا، وإن كان ذلك لا يقال كما تقدم، والنظر في العائد هنا كالنظر هنالك (1). وعلى الثاني يكون على تقدير سؤال عن شخص المخصوص، كأنه لَمَّا قال: حَبَّذَا- قيل: مَن الممدوح؟ فقال زيدٌ.
وقد تقدم الكلام على الخلاف في المسألة (2)، وأنَّ من النحويين مَن زعم أن المخصوص [هنالك مبتدأٌ محذوف الخبر، وهو جارٍ هنا. ومنهم من أعربه بدلا، وقد قيل به هنا نصا. وهو رأي ابن الحاج (3).
والرابع أن المخصوص (4)] لا يتقدم، [لأنه قال هنا:((وأَوْلِ ذَا المخصوصَ)) وقال في (نعم): ((وَيَقعُ المخصوصُ بَعْدُ)) وقد تقدم ما فيه (5)] هنالك.
والخلاف في المسألتين موجود، فقد زعم ابن خروف أن (زيدٌ حَبَّذَا) جائز، وأن التأخير هو الأكثر.
والخامس جوازُ حذفه للعلم به، فكما تقول هنالك: زيدٌ نعم الرجلُ، فكذلك تقول هنا: رأيتُ زيداً وحَبَّذَا، اي: وحَبَّذَا هُوَ. وأنشد المؤلف (6):
(1) انظر: ص 557.
(2)
انظر: ص 559.
(3)
هو أحمد بن محمد الأزدي الإشبيلي، ت 651 هـ. بغية الوعاة 1/ 259.
(4)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. وأثبته من (س، ت).
(5)
ما بين الحاصرتين ساقط من (س).
(6)
للمرار بن هماس الطائي، المغني 558، والهمع 5/ 48، والدرر 2/ 316، والأشموني 3/ 41، والعيني 4/ 24. ومنحت: أعطيت، والمتقارب: القريب. يقول: حبذا ذكر هؤلاء النساء لولا أن استحي أن أذكرهن، وربما أحببت من لا ينصفني، ولا مطمع فيه.
أَلا حَبَّذَا لَوْلَا الحَياءُ ورُبَّمَا
مَنَحْتُ الهَوَى مَنْ لَيْسَ بالمُتقارِبِ
إلا أن هذا نادر، وذلك كثير.
والسادس أن (حَبَّ) هنا فعل غير متصرَّف، فلا يُبنى منه أمرٌ ولا مضارع ولا اسم فاعل، وهو على حاله حتى يَنْتَقل عن معنى إنشاء المدح، فصار كـ (فَعُلَ) في الباب.
وأيضاً فإنه فِعْل غير دالٌ على زمان، كما أن (نعم) كذلك.
والسابع جوازُ الجمع بين الفاعل والتمييز إذا كان الفاعل ظاهرا، فتقول حَبَّذَا زيدٌ رجلاً، وحَبَّ الرجلُ زيدٌ رجلاً، كما تقول: نعم الرجلُ زيدٌ رجلاً: وهو مع (ذا) أحسنُ منه مع غيرها، لأنه في هذا الموضع مبيِّن لـ (ذا) فإنها مبهَمة، فافتَقرت إلى التفسير، وهو هنالك لمجرَّد التوكيد، لم يُفد زيادة على ما أعطاه الفاعل، فكان هنا أولى، اللهم إلا أن يكون التمييز موصوفا، أو بغير لفظ الفاعل، فإذ ذاك يَكثر مجيءُ التمييز، ويُساوِي التمييزَ هنا مع (ذا).
وأمّا إذا كان الفاعل ضميراً مستترا فلابد من التمييز نحو: نعم رجلاً زيدٌ، ومثلُه في (حَبَّ):
* وحَبَّ شيْئاً إلى الإنْسانِ ما مُنِعَا (1) *
وأما الأحكام المخالفة المذكورة هنا فستة:
أحدها جوازُ كون فاعل (حَبَّ) ذا، قياساً مُطَّرِدا، بخلاف (نعم، وبئس)
(1) للأحوص، وتقدم في الباب نفسه، وصدره:
* قَدْ زَادَهُ كَلفاً بالحُبَّ أَنْ مَنَعَتْ *
وما جرى مجراها، فإن الفاعل فيها لا يكون (ذا) إلا نادرا، نحو قوله (1):
* حُسْنَ ذَا أَدَبَا *
والثاني أن هذا الفاعل يلزمه الإفراد والتذكير، بخلاف (نعم) وبابها، فإن ذلك غير لازم لفاعلها إذا لم يكن ضميرا.
والثالث أنه ليس له مشارِك يَختص بأداء معنى الذم، وإنما يُستغنى عن/ ذلك
…
567 بدخول (لا) عليه، بخلاف (نعم) فإن مشاركة في ذلك (بئس).
والرابع امتناعُ الفصل بين (ذا) والمخصوص حسبما تَفَسَّر عند قوله: ((وأَوْلِ ذَا المخصوصَ)) بخلاف (نعم) فإن الفصل هنالك جائز، فتقول: نعم الرجلُ كان زيدٌ، وبئس الرجلُ وجدتُ عَمْراً، وما أشبه ذلك.
والخامس جوازُ دخول الباء على فاعل (حَبَّ) إذا لم يكن (ذا) لقوله: ((أَوْ فَجُرَّ بالباءِ)) بخلاف (نعم) فإن ذلك فيها غير جائز، ولا فيما جرى مجراها، فلا يقال: نِعْم بالرجل، كما يقال: حَبَّ بالرجل.
والسادس جواز ضَمّ حاء (حَبَّ) مع غير (ذا) والتزامُ فتحها مع (ذا) وهذا الحكم مخصوص بلفظ (حَبَّ) ولا يُتصوَّر نَفْيه عن (نعم، وبئس) إذ لا يقبلان ذلك فينفي عنهما، بخلاف ما تقدم من الأحكام.
(1) هو سهم بن حنظلة الغنوي، وما ذكر جزء بيت له تقدم الاستشهاد به، وهو بتمامه:
لمَ يْمنَع النِاسُ مِنَّي ما أردتُ ولا أعُطِيهُم ما أرادوا واحْسنَ ذا أدبَا