المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أفعل التفضيل هذا آخر العوامل التي لا تتصرَّف، ويسمى (أَفْعَل مِنْ) - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٤

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌أفعل التفضيل هذا آخر العوامل التي لا تتصرَّف، ويسمى (أَفْعَل مِنْ)

‌أفعل التفضيل

هذا آخر العوامل التي لا تتصرَّف، ويسمى (أَفْعَل مِنْ) و (أَفْعَل التفضيل) يريدون هذا ابناء المقتضي معنى لـ (مِنْ) أن تأتي بعده، والذي يقتضي التفضيل بين الشيئين، تقول: زيدٌ أفضلُ من عَمْروٍ، وخالدٌ أكرمُ من بَكْر، فذَكر أولا أصلاً لهذا العامل يتضمن كثيراً من أحكامه، وذلك فيما يُصاغ منه، فقال:

صُغْ مِنْ مَصُوغٍ مِنْهُ للتَّعجُّبِ

أَفْعَلَ للتَّفْضيِلَ وأْبَ اللَّذْ أُبِي

يريد: أن ما صِيغ منه للتعجب صيغتا (مَا أَفْعَلَهُ، وأَفْعِلْ به) من الأفعال قياساً فذلك هو الذي يصاغ منه للتفضيل بناءُ (أَفْعَلُ)، وما أَبَتِ العربُ أو النحويون أن يَبْنُوا منه للتعجب من الكَلمِ، ولم تُجْرِ القياسَ فيه فَأْبَهُ أنت، اي امتنع منه أيها الناظر في القياس النحوي.

فقوله: ((مِنْ مَصُوغٍ)) متعلق بـ (صُغْ) و ((مِنْه)) متعلق بمصُوغ، و ((للتعجُّب)) متعلق بمَصُوغ أيضاً.

و((أَفْعَلَ)) مفعول ((صُغْ)) و ((للتَّفْضِيل)) متعلق بـ (صُغْ) ايضاً. والتقدير فيه: صُغْ للتفضيل (أَفْعَلَ) من فِعْلٍ صِيغَ منه للتعجُّب: والإبايةُ: الامتناع.

والحاصل أن باب ((أَفْعَل التَّفْضيل)) يجرى في بناء الصَّيغة له مَجرى باب التعجُّب، طَرْداً وعَكْساً، أي ما جاز في التعجب من هذا جاز في أفعل التفضيل، ومَا لَا فَلَا. ولذلك يقع للنحويين الاستشهادُ بأحدهما على الآخر.

_________

ص: 571

وقد تقدم في ذلك في باب التعجب كثير، وذلك كله لأن العرب أجرت البابين في بناء الصِّيَغ على قانون واحد، إذ كان المعنى فيهما واحدا، لأن التعجب من الشِيء يَرفع ذلك الشِيء إلى غاية لا يبلغها غيرُ ذلك الشِيء، حقيقةً أو مجازاً، كما أن التفضيل بين الشيئين يَرفع المفضَّل إلى غاية لم يبلغها المفضَّلُ عليه إن ذُكر، أو لا يَبلغها غيرُ المفضَّل بإطلاقٍ إن لم يُذكر المفضَّلُ عليه. فجرى البابان كذلك مجرىً واحدا.

فإذاً ما اشترطه الناظم في بناء فعل التعجُّب مشتَرط هنا، فلا يُبْنَى إلا من فعل ثلاثي، متصرِّف، قابلٍ معناه للكثرة، تام، غيرِ منفي، ولا صفةَ له على (أَفْعَلَ فَعْلَاء) ولا هو مبنيٌّ للمفعول.

فإذا تخلف شرط/ من هذه الشروط لم يُبْن منه قياسا، وما سُمع منه وُقفِ من غير

568 فِعْل، فلا يقال: هو أَثْوَبُ من زيدٍ، تريد: أكثرُ ثيِاباً. ولا أَمْوَلُ منه ولا ما أشبه ذلك.

وشَذَّ من ذلك قولهم: هو أَحْنَكُ الشَاتَيْن (1)، وما عسى أن يُنْقَل من ذلك. وكذلك لا يُبنى من غير الثلاثي، فلا يقال: أَكْبَرُ مِنْكَ، بمعنى أشدُّ استكباراً. وشَذَّ من هذا أشياء، نحو قولهم:((هو أَفْلَسُ من طَسْت (2))) و ((أَسْرعُ من الرِّيح (3)))، ((وأَخْلَفُ من الرِّيح (4))) و ((وأَوْلَمُ من الأَشْعَث (5))).

(1) أي أكلهما بالحنك. وقد ذكر سيبويه هذا القول في ((باب ما تقول العرب فيه: ما أفعله، وليس له فعل، وإنما يحفظ هذا حفظا ولا يقاس)) (الكتاب 4/ 100) وانظر كذلك: اللسان (حنك).

(2)

الطَّسْت- بفتح فسكون- إناء كبير مستدير، من نحاس أو نحوه، يغسل فيه، يذكر ويؤنث، وهو معرب من (تشت) بالشين. وجمعه طُسُوت.

(3)

الدرة الفاخرة 1/ 217، 2/ 441.

(4)

لم أجده فيما رجعت إليه من كتب الأمثال واللغة.

(5)

الدرة الفاخرة 2/ 423، وهو الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي. وانظر أصل المثل في المصدر المذكور.

ص: 572

وكذلك لا يُبنى من غير المتصرِّف، فلا يقال: هو أَعسْىَ من فلان، إلا أن شَذَّ شِيء.

وكذلك لا يقال: هو أَعْمىَ من زيدٍ، من عَمىَ البَصَر، ولا أَعْرَجُ من فلان (1). ولا هو أَكْوَنُ مِنْكَ قائماً، من ((كان)) الناقصة (2). ولا هو أَفْضَلُ، من قولك: مَا فَضُلَ (3). ولا هو أَحْمَرُ مِنْك (4)، إلا ما شَذَّ من قولهم (5):

* فَأَنْتَ أَبْيَضُهمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ *

وقول الآخر (6):

* أَبْيَضُ مِنْ أُخْتِ بَنيِ أَبَاضِ *

وفي الحديث في صفة جَهَنَّم، أعاذنا اللهُ منها ((أسْوَدُ مِنَ القَارِ (7))) وقالوا:((هو أَحْمقُ من رِجْلَةٍ (8))).

(1) لأن معنى مثل هذه الأفعال لا يقبل الكثرة ولا التفاضل.

(2)

لأن تمام الفعل شرط في جواز التعجب منه، والتفضيل فيه بين الشيئين.

(3)

لأنه منفى غير موجب.

(4)

لأن الصفة منه على زنة (أَفْعَل فَعْلَاء).

(5)

لطرفة بن العبد، من قصيدة يهجو بها عمرو بن هند ملك الحيرة، وقد تقدم الاستشهاد بالبيت في باب التعجب، وصدره:

* إذا الرَّجَالُ شَتَوْا واشْتَدَّ أَكْلُهمُ *

(6)

هو رؤبة، وتقدم أيضا في باب التعجب، وقبله:

* جاريةٌ في دِرْعِها الفَضْفاض *

(7)

الموطأ- كتاب جهنم (باب ما جاء في صفة جهنم) 2/ 994.

(8)

الدرة الفاخرة 1/ 155، وكتاب الأمثال لأبي عبيد 366. والرَّجلة هي البقلة الحمقاء، وإنما حَمَّقها العرب لأنها تنبت في مجاري السيول، فيمر السيل بها فيقتلعها.

ص: 573

وكذلك لا يقال: هذا الطعامُ أكلُ من هذا الطعام (1). وقد شذَّ من هذا أشياء، كقولهم:((أَزْهَى من دِيكٍ)) (2)، و ((أَشْغَلُ من ذَاتِ النَّحْيْيَن)) (3) وأَعْذَرُ من غيره. وقال سيبويه: هُمْ بِبِيَانِه أَعْنَى (4)، من: عُنيتُ بحاجتك.

وقد مَرَّ في باب التعجب ذكرُ كثيرٍ مما شَذَّ هناك، إذ الجميعُ مسألةٌ واحدة. وكذلك كلُّ ما ذُكر هناك من الخلاف في بعض هذه الشروط، أو أُورد من الأسئلة، من لازم أو غير لازم، جارٍ هنا حَرْفاً بحرف، فلا معنى للتطويل به.

وقوله: ((وَأْبَ اللَّذْ أُبِي)) جاء بـ (اللَّذْ) على غير اللغة الشهيرة لضرورة الوزن، كما قال (5):

(1) لأن فعله مبني للمجهول.

(2)

الدرة الفاخرة 1/ 213. والزهو: التيه والاختيال. والديك إذا مشى لا يزال يختال وينظر إلى نفسه، فضرب به المثل في الزهور كالغراب.

(3)

الدرة الفاخرة 2/ 403، وكتاب الأمثال لأبي عبيد 374. والنَّحْي: الزق الذي يجعل فيه السمن خاصة. وذات النحيين: امرأة من هذيل، كان لها حديث مع خوات بين جبير الأنصاري في سوق عكاظ، فصلته كتب الأمثال. وانظر فيه المثل ((أنكح من خوات)) في الدرة الفاخرة 2/ 404.

(4)

الكتاب 1/ 34.

(5)

الإنصاف 672، وابن يعيش 3/ 140، وابن الشجري 2/ 305، وشرح الرضي على الكافية 3/ 18، والخزانة 6/ 3، واللسان (زبى).

والرجز لرجل من هذيل، وقبله:

* فَظَلْتُ في شَرٌ من اللَّذّ كِيَدا *

وتَزَبَّى: اتخذ زُبْيَة، وهي حفرة بعيدة الغور، تحفر لاصطياد السبع، إذا وقع فيها لم يستطع الخروج منها، وجمعها زُبى، ومن أمثالهم ((بلغ السيل الزُّبَى)) لأنها تحفر في رءوس الجبال ومعنى الرجز: لقد ظللت في شر من الذي كدت له، فكنت كمن حفر حفرة ليصطاد فيها الأسد، فوقع هو فيها. وهذا كقولهم في المثل:((مَنْ حَفر مُغَوَّاةً وقع فيها)).

ص: 574

* كاللَّذْ تَزَبَّى زُبَيةً فَاصْطِيدَا *

ثم لما اتَّحَد البابان، وكان هنا ما يمتنع البناءُ منه، أخذ في بيان الحِيلة إذا أُرِيد البناءُ لقَصْد معناه، كما ذَكر ذلك هنالك، لكن أحال عليه فقال:

ومَا بِهِ إلى تَعَجُّبٍ وُصِلْ

لِمانَعٍ بِهِ إلى التَّفْضِيِل صِلْ

((به)) في الشطر الأول متعلق بـ (وُصِلَ). وكذا قوله: ((إلى تعجب)) و ((به)) في الثاني متعلق بـ (صِلْ) وكذا قوله: ((إلى التفضيل)).

(يعني أنه إذا منع في الكلمة مانعٌ من بناء (أَفْعَل التفضيل) منها، فأردتَ بناء التفضيل (1)) لضرورة الكلام إلى ذلك، فافْعَلْ كما فعلتَ في (التعجب) إذا قصدتهَ، ومنع منه مانعٌ، وهو تخلُّف شرط من الشروط المذكورة، فتأتي هنا بـ (أَشَدُّ) ونحوه بدلاً من بناء (أَفْعَلُ) من تلك الكلمة، ثم تأتي بالكلمة ذات المانع إن كانت اسما، أو بمصدرها إن كانت فعلا، كما فعلتَ ذلك في (التعجب) فتقول: هو أَكْثَرُ مالاً أو ثياباً، وأشدُّ استكباراً، وأكثُر تقلُّباً، وأَشَدُّ عَمىً، وأطولُ كَوْناً قائماً، وأشدُّ حمرةً أو احمراراً، وهذا الطعامُ أكثر أكلاً من هذا، وما أشبه ذلك.

والعلة في ذلك قد تقدَّمت/ فلا نعيدها (2).

569

فإن قيل: من أين يُؤْخذ له أن المصدر هنا بعد (أَشَدُّ) ونحوه

(1) ما بين القوسين ساقط من (ت).

(2)

انظر: ص 483.

ص: 575

منصوبٌ لا مجرور، وهو قد قَدَّم أولاً أنه ذو وجهين، ففي (ما أَفْعَلَهُ) هو منصوب، وفي (أَفْعِلْ بِه) مجرور، ولا يكون ههنا إلا منصوبا. ثم إنه أحال هذا على ما هناك، والإحالةُ عليه لا تُعَيِّن له نَصْباً من جَرٍّ، وإنما تَقتضي الوجهين، وهو غير صحيح.

وأيضاً فإن المنصوب هنالك عوضٌ من المتعجَّب منه، فنصبُه نصبُ المفعول بـ (أَفْعَلَ) كما كان المتعجَّب منه كذلك، وههنا ليس كذلك، بل له وجه آخر من النصب، وهو النصب على التمييز، فهذا الموضع لم يبيِّن حكمَه، وكان من حقه ذلك.

فالجواب أنه لم يُحِلْ على ((باب التعجب)) إلا في بناء (أَفْعَلُ) لا في نصب ما بَعْده ولا رفعِه ولا حرَّه، فما ذُكر هناك من حكم المصدر مختص بذلك الباب.

وإنما يُؤخذ له حكمُ هذا المصدرِ أو الاسم من باب التمييز، حيث قال هنالك:

والفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بأَفْعَلَا

مُفَضَّلاً كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلَا

فإن قولك: هذا أكثرُ إبلاً، وأشدُّ اسِتكباراً، وأشدُّ عَمىً، وما أشبه ذلك- داخل هنا، فينَتصب على التمييز من غير أشكال. وهذا ظاهر، والله أعلم.

وأَفْعَلَ التَّفْضِيل صِلْهُ أَبَدَا

تَقْدِيراً أوْ لَفْظاً بمِنْ إنْ جُرِّدَا

وإنْ لِمَنْكُورٍ يُضَفْ أوْ جُرِّدَا

أُلْزِمَ تَذْكيراً وأَنْ يُوحَّدَا

_________

ص: 576

وتِلْوُ أَلْ طِبْقٌ وما لَمْرِفَهْ

أْضِيفَ ذُو وَجْهَيْنِ عن ذِي مَعْرِفَهْ

هَذا إذَا نَوَيْتَ مَعْنَى مِنْ وإنْ

لَمْ تَنْوِ فَهُوَ طِبْقُ مَا بِهِ قُرِنْ

لما أتم الكلام على الأحكام المشتَركِة مع ((باب التعجب)) شرع في الأحكام الخاصة بهذا الباب.

ومن ذلك حكم مطلوب (أَفْعَلُ) من إضافةٍ وما أشبهها، وما يلزم عن ذلك من لزوم (أَفْعَلُ) طريقةً واحدة أو اختلافه، بحسب ما كان جارياً عليه. فلنذكْر أولاً ضابطَه الذي ارتضى، ثم بعد ذلك يُجْرىَ على ألفاظه. بحول الله. والذي ذَكَر من ذلك أن ((أفعل التفضيل)) على ضربين:

أحدهما أن يكون مجرَّداً من الألف واللام والإضافة. والثاني أن يكون غير مجرد.

فأما الأول فيَلزم أن يُذكر معه (مِنْ) ومجروُرها، إمَّا ظاهراً نحو: زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْروٍ، وبِشْرٌ أَكْرَمُ منَ بكْرٍ.

ومنه في القرآن الكريم {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيِد} (1)، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} (2).

وإمَّا مقدَّراً نحو ذلك: اللهُ أكبرُ، قال سيبويه: معناه: من كل شيء (3)

(1) سورة ق/ آية: 16.

(2)

سورة الواقعة/ آية: 85.

(3)

الكتاب 2/ 33.

ص: 577

وقال تعالى: {ولَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (1) - {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكُبَرُ} (2)، فهذا على تقدير (مِنْ).

وفي كلا الأمرين يَلزمه الإفرادُ والتذكيرُ وإن جرى على غير ذلك، فتقول: زيدٌ أفضلُ من عَمْروٍ، والزيدانِ أفضلُ من عمرو، والزيدون أكرمُ من بني فلان، وهندٌ أجملُ من دَعْدٍ، وأختاها أجملُ منها، والهنداتُ أفضلُ من الزَّيْنَبات. ونحو ذلك.

ومنه قوله تعالى: {ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} (3) وقال/: {هُمْ للِكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ

570 مِنْهُم للإِيمَانِ} (4).

وأما الثاني فعلى ثلاثة أقسام:

أحدها ما فيه الألف واللام، وحكمُه المطابقةُ لما جَرى عليه مطلقا، فيثنَّى ويجمع ويؤنَّث، فتقول: مررت بالرجل الأفضلِ، وبالرجلين الأفضلَيْنِ، وبالرجال الأفضلَيِنَ، بالمرأة الفضْلى، وبالمرأتين الفُضْلَيَيْنِ، وبالنساء الفُضَلِ. قال الله تعالى:{وَأَنْتُمُ الأْعْلَوْنَ} (5) - {وَأَنْذِرْ عَشيِرتَكَ الأْقْرَبِينَ} (6) وهو كثير.

وإنَّما أُفرد مع (مِنْ) ولم يكن كذلك دونها، لأن (أَفْعَلُ) مع (مِنْ) كالفعل مع الفاعل، من جهة أن (أَفْعَلَ) طالبٌ ببنْيته لـ (مِنْ) على وجه اللزوم، كما أن الفعل طالبٌ ببِنْيَته لفاعله على اللزوم أيضا.

(1) سورة العنكبوت/ آية: 45.

(2)

سورة التوبة/ آية: 72.

(3)

سورة الواقعة/ آية: 85.

(4)

سورة آل عمران/ آية: 167.

(5)

سورة آل عمران/ آية: 139.

(6)

سورة الشعراء/ آية: 214.

ص: 578

أو نقول: إنه، حين لزم معنى (مِنْ) على اللزوم، جَارٍ مجرى فعل التعجب في المعنى، إذ كنت تريد ان تَرفع به من غاية إلى غاية أعلى، كما كان ذلك في التعجب. وهذا هو الذي نَصَّ عليه سيبويه (1). فلما أشبهه هذا الشَّبَه الخاص بالفعل، وكان لا يُثَنَّى ولا يُجمع ولا يؤنث، أعني التأنيثَ المعتبرَ في الأسماء أُلْحق (أَفْعَلُ) به، فأُلزم الأفرادَ والتذكير.

فإذا دخلته الألف واللام زال معنى (مِنْ) لأنهما متعاقبان لا يجتمعان، كالألف واللام والإضافة، فزال بذلك الشَّبَهُ، فرجع (أَفْعَلُ) إلى أصله، يُثَنَّى ويُجمع ويُؤنَّث كسائر الأسماء. وهذا التعليل جارٍ فيما بقى من الأقسام حسبما يُذكر إن شاء الله تعالى.

والقسم الثاني ما أضيف إلى نكرة، وحكمه حكم المجرَّد، لأن الإضافة فيه إنما تكون على معنى (مِنْ) فكان كما لو ظهرت معه (مِنْ) يلزم الإفرادَ والتَّذكير، فتقول: زيدٌ أفضلُ رجلٍ، والزيدان أفضلُ رجلَيْن، والزيدون أفضلُ رجالٍ، وهندٌ أفضلُ أمرأةٍ، والهندان أفضلُ امرأتَيْن، والهنداتُ أفضلُ نساءٍ؛ إذْ كان المعنى: زيدٌ أفضلُ من جميع الرجال إذا فُضَّلوا رجلاً رجلاً. والزيدان أفضل من جميع الرجال إذ اقسِمُوا رجلَيْن رجلَين، وهكذا فيما بقى من الأمثلة.

والقسم الثالث ما أضيف إلى معرفة، فله اعتباران، اعتبارٌ فيه معنى (مِنْ) واعتبارُ لا يراد فيها معناها، بل يُهْمل جملة.

فأما هذا الأخير فلابد فيه من المطابقة لما جَرى عليه، فتقول: زيدٌ أفضلُ الناسِ، والزيدان أفضلَا الناسِ، والزيدون أفضلوا الناسِ، وأفاضلُ

(1) الكتاب 4/ 350.

ص: 579

الناس.

وهند فُضْلَى النساءِ، والهندان فُضْلَيَاَ النساء، والهندات فَصَل النساءِ.

ومنه في القرآن {وَمَا نَرَاكَ اَّتبَعَكَ إلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذلُنَا} (1) لأن المعنى في ذلك معنى ما فيه اللف واللام، فقولك على هذا:(الزيدانِ أفضلَا الناسِ) المعنى فيه: هما الأفضلانِ في الناس، وليس على معنى أنهما أفضلُ من الناسِ.

وأما الأول، وهو إذا نويتَ معنى (مِنْ) فلك فيه وجهان:

أحدهما أن يأتي بـ (أَفْعَلُ) مطابقاً فتقول: الزيدان أفضَلَاكُمْ.

والثاني أَلَاّ تأتي به مطابقا، فتقول: الزيدان/ أَفْضلكُم.

571

وكذا سائر المثُلُ في الوجهين، وقد جمعهما قوله عليه السلام ((أَلا أُخْبركُم بأحبَّكم إلَيَّ، وأقربكم منَّيِّ مَجْلِساً يومَ القيامة، أَحَاسِنكُم أَخْلَاقاً)) (2) فجمع (أَحْسَنَ) وأفراد (أَحَبَّ، وأقْربَ).

وإنَّما وجبت المطابقة في الاعتبار المتقدم لزوال معنى (مِنْ) الذي من أحله حصل شَبَهُ الفعل.

وجاز هنا الوجهان لأنها مَنزلة بين المنزلَتيْن فمن راعى معنى (مِنْ) وأنه مقدَّر عَدَّ (مِنْ) كالملفوظ بها. ومن راعى اللفظ، وأن (مِنْ) ليست بمذكورة فيه، ولا يمكن إظهارها مع بقاء الإضافة سَوَّى بينه وبين ذى الألف واللام، فكأنَّ معنى (مِنْ) مطَّرَح في الحكم.

(1) سورة هود/ آية: 27.

(2)

البخاري- فضائل الصحابة: 27، والمناقب: 23، والترمذي- البر: 271، ومسند الإمام أحمد 4/ 192، 194.

ص: 580

وبهذا افترق هذا الوجه من الوجه الآخر الذي هو مجرَّد، فإن التلفظ هنالك بـ (مِنْ) سائغٌ ممكن، وليس كذلك هنا.

هذا مجمل ما ذكره الناظم من قاعدة هذا الموضع، أتيتُ به مقدِّمة لتفسيره، من غير تعرُّض لِسوى التَّوجيه، فَلْنُجرْهِ على لفظه مع زيادةِ ما يَحمله كلامه من الفوائد الزائدة.

فقوله: ((وَأَفْعَلَ التَّفْضِيل صِلْهُ أَبَدَا)) إلى آخره. هذا هو الضَّرب الأول، يعني أن ((أفعل التفضيل)) إذا كان مجردا من الألف واللام والإضافة فلابد من وصله بـ (مِنْ) الداخلة على المفضول، ظاهرةً أو مقدَّرة، لا يَنْفَكُّ عن ذلك. وقوله ((أَبَدَا)) تَنْكيتٌ وتَنْبيه على مسألة، وهي أن المجرَّد لا يأتي بمعنى اسم الفاعل مجرداً من معنى (مِنْ) جملةً قياسا أصلا، خلافاً للمبرّد القائل بأنه جائز قياسا، فيجوز عنده أن تقول:(زيدٌ أفضلُ) غير مقصود به التفضيل على شِيء، بل بمعنى: فاضل. وزعم أن معنى قولهم في (الأَذَان) وغيره: (اللَّهُ أَكْبَرُ) الكبيرُ (1)، لأن المفاضلة تقتضي المشاركة في المعنى الواقع فيه التفضيل، والمفاضلة في الكبرياء ههنا تقتضي المشاركة إن قُدِّر فيه: مِنْ كُلَّ شيء، ومشاركةُ المخلوق للخالق في ذلك أو في غيره من أوصاف الربَّ تعالى محال، بل كلُّ كبيرٍ بالإضافة إلى كبريائه لا نسبة له، بل هو كَلَ شِيءَ، وكذلك قال في قوله:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيهِ} (2) - تقديره معنىً: وهو هَيِّنُ عليه (3)، لأن جميع المقدورات متساوية بالنسبة إلى قدرة الله، فلا يصح في مقدورٍ مفاضلةُ الهَوْن

(1) المقتضب 3/ 245.

(2)

سورة الروم/ آية: 27.

(3)

المقتضب 3/ 245.

ص: 581

فيه على مقدورٍ آخر. ومنه قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} (1)، إذ لا مشاركة لأحدٍ بين علمه وعلم الله تعالى. ومن ذلك قول الفرزدق (2):

إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا

بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ

أي عزيزة وطويلة.

فهذه مواضح لا يصح فيها معنى المفاضلة، فثبت أنها صفات مجرَّدةٌ عن ذلك، ومساويةٌ لسائر الصفات. ومثل ذلك كثير. فقَاسَ المبرّدُ على ذلك ما في معناه، واسْتَتَبَّ عنده الباب.

فالناظم نكَّت على هذا الرأي، وارتضى مذهب سيبويه ومن وافقه، وأن ((أفعل التفضيل)) لا يتجرَّد عن معنى (مِنْ) إذا كان مجرداً أصلا، وما جاء مما ظاهرُه خلافُ ذلك فهو راجع إلى تقدير معنى (مِنْ) أو إلى باب آخر.

/ فأمَّا المفاضلة فيما يرجع إلى الله تعالى فهي بالنسبة إلى عادة المخلوقين في

572 التخاطب، وعلى حسب توهُّمهم العادي، فقوله:(اللهُ أكبرُ) معنى ذلك: أكبرُ من كل شيءٍ يُتَوهَّم له كِبَرٌ، أو على حسب ما اعتادوه في المفاضلة بين المخلوقين، وإن كان كبرياء الله تعالى لا نسبة لها إلى كِبَر المخلوق.

(1) سورة النجم/ آية 32.

(2)

من قصيدة له يفخر بها على جرير ويهجوه، ديوانه 417، وابن يعيش 6/ 97، 99، وشرح الرضي على الكافية 3/ 453، والخزانة 8/ 242، والأشموني 3/ 51، والعيني 4/ 43. وسمك السماء: رفعها. وأراد بالبيت بيت العز والشرف الذي تربى فيه. والدعائم: جمع دعامة، وهي الأسطوانة.

ص: 582

وكذلك قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (1) يريد: على نحو ما جرت به عادتكُم، أَنَّ إعادة ما تقدم اختراعُه أسهلُ من اختراعه ابتداء.

وقوله: {هَو أَعْلَمُ بِكُمْ} (2) اي منكم، حيث تَتَوهَّمون أن لكم علماً، ولله تعالى علماً، أو على حَدِّ ما تقولون: هذا أعلمُ من هذا. وهي طريقة العرب في كلامها، وبها نزل القرآن، فخوطبوا بمقتضى كلامهم، وبما يعتادون فيما بينهم.

وقد بَيَّن هذا سيبويه في كتابه حيث احتاج إليه، أَلَا ترى أنه حين تكلم على (لَعَلَّ) في قوله تعالى:{لَعَلَّه يَتَذكَّر أَوْ يَخْشَى} (3) صَرَف مقتضاها من الطَّمَع إلى المخلوقين فقال: والعِلْم قد أَتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا على طمعكما ورجائكما ومبلغكما من العلم. قال: وليس لهما إلا ذاك ما لم يَعْلَما (4). وهذا من سيبويه غايةُ التحقيق. وكثيراً ما يَذكر أمثالَ هذا في كتابه.

وأما بيتُ الفرزدق فغيرُ خارج عن تقدير (مِنْ) فقد رُوي عن رؤبة بن العجاج (5)، أن رجلاً قال: يا أبا الجَحَّاف، أخبرْني عن قول الفرزدق:((إنَّ الذَّيِ سَمَكَ السَّمَاءَ)) البيت: أَطْوَلُ من أي شٍيء؟ فقال له: رُوَيْداً، إن العرب تجتزئ بهذا. قال: وقال المؤذِّن: اللَّهُ أَكْبَرُ؟ فقال رُؤبة: أما تسمع إلى قوله:

(1) سورة الروم/ آية 27.

(2)

سورة النجم/ آية 32.

(3)

سورة طه/ آية 44.

(4)

الكتاب 1/ 331، ولفظه ((فالعلم قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا أنتما في رجائِكما وطمعِكما ومبلغِكما من العلم، وليس لهما أكثر من ذا مالم يَعْلَما)).

(5)

هو أبو الجحاف رؤبة بن عبدالله العجاج التميمي السعدي. راجز من الفصحاء المشهورين، ومن مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، أخذ عنه أعيان أهل اللغة، وكانوا يحتجون بشعره مات بالبادية وقد أسن، ولما مات قال الخليل: دفنا الشعر واللغة والفصاحة (ت 145 هـ).

ص: 583

(اللَّهُ أَكْبَرُ) اجتَزأ بها من أن يقول: من كُلَّ شِيء.

هذا ما قال. وهو ظاهر في صحة التقدير، وأنه مرادُ العرب ثم أن الذي يدل على أن المراد معنى (مِنْ) أَنَّ (أَفْعَلَ) في هذه المواضع ونحوِها لا تُثَنَّى ولا تجمع ولا تؤنَّث، وما ذاك إلا لمانعِ تقدير (مِنْ) كقوله:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقراً} (1) وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} (2) ونحو ذلك. والذي جاء من ذلك على الجمع شاذّ، نحو ما أنشده الفارسي من قول الشاعر (3):

إذَا غَابَ عَنْكُمْ أَسْوَدُ العَيْنِ كُنْتُمُ

كِراَماً وأَنْتُمْ مَا أَقَامَ أَلَائِمُ

أنشده المؤلف في ((الشرح)) (4)، على أنه جمع (أَلامُ) مجرداً عن تقدير (مِنْ) وحمله الفارسي على أنه جمع (لَئِيم) كَقِطيعٍ وأَقَاطِيع، وحَدِيث وأَحَاديث، وحذَف الزيادة.

وقوله: ((تَقْدِيراً أو لَفْظاً)) ظاهره جوازُ حذف (مِنْ) مطلقاً، ويريد: إذا فُهم المعنى من غير تقييد بقلة ولا كثرة، فتقول: زيدٌ أفضلُ، وأكرمت زيداً ،وأَفْضَلُ.

(1) سورة الفرقان/ آية 24.

(2)

سورة الإسراء/ آية 46.

(3)

هو الفرزدق، المغني 381، والتصريح 2/ 102، والأشموني 3/ 51، والعيني 4/ 57، ومعجم البلدان (أسود العين) وليس في ديوان الفرزدق. أسود العين: جبل بعينه. وما أقام: مدة إقامته. يقول: أنتم لئام أبدا، لأن هذا الجبل لا يغيب ولا يزول أبدا.

(4)

شرح التسهيل للناظم (ورقة: 148 - أ).

ص: 584

تريد: وأفضلَ منه.

وهذا مُشكل مع ما قَرَّر في غير هذا الموضع، فإنه جَعل حذفها على وجهين، أحدهما جائز جوازاً حَسَناً، وذلك إذا كان (أفْعَلُ) خبراً، نحو {وَلَذكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (1)، {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} (2)، {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأَقْومُ للشَّهَادةِ} (3)، {وَمَا تُخْفيِ صُدوُرُهُمْ أَكْبَرُ} (4)، وهو كثير جدا.

والثاني قليل، وذلك إذا لم يكن (أَفْعَلُ) خبراً/ نحو قوله: {فإنَّهُ يُعْلَمُ السِّرَّ

573 وأَخْفَى} (5)، وأنشدوا (6):

تَرَوَّحِي أَجْدَرَ أَنْ تَقِيليِ

غَداً بجَنْبَيْ بَارِدٍ ظَلِيلِ

أي تَرَوَّحي في مكانٍ أجدرَ أن تَقِيلي فيه. وقال رجل من طِيء (7):

(1) سورة العنكبوت/ آية 45.

(2)

سورة التوبة/ آية 72.

(3)

سورة البقرة/ آية 282.

(4)

سورة آل عمران/ آية 118.

(5)

سورة طه/ آية 7.

(6)

المحتسب 1/ 212، وابن الشجري 1/ 343، والأشموني 3/ 46، والتصريح 2/ 103، والعيني 4/ 36 والرجز لأحيحة بن الجُلاح، وقبله:

* تَرَوَّحِي يا خَيْرَةَ الفَسِيلِ *

وتروَّحي: من تَروَّح النبت، إذا طال. والفَسيل والفسائلَ: صغار النخل، واحدته فسيلة. وتقيلي من القيلولة، وهي النوم وقت الظهيرة، وكنى بذلك عن نموها وزهوتها. وبارد ظليل: مكان بارد ذي ظل. وبعضهم يجعل الخطاب للناقة لا للفسيلة، ومعنى ((تروحي)) على هذا: سيري في الرواح، أي العشى. وشبه الناقة بالفسيل في العراقة والكرم.

(7)

شرح التسهيل للناظم (ورقة: 147 - ب) ونسبه لرجل من طيء أيضا.

ص: 585

عَمَلاً زاكِياً تَوخَّ لِكَىْ

تُجْزَى جزاءَ أَزْكَى وتُلْفَى حَمِيَدا

والناظم لم يبيِّن قلةَ هذا القسم، فاقتضى إطلاقُه حُسْنَ الجواز، وليس كذلك. والجواب أنهما وجهان جائزان في الكلام على الجملة، إذْ جاءا معاً في القرآن، فلا عَتْب على مَن أَطلق القياس، وإن كان أحدُ الوجهين أحسنَ من الآخر. وقد يُنْقَل (1) مثلُ هذا فلا يرجَّح اعتماداً على مطلق الجواز قياسا.

وأيضاً فإن مقصوده الأولَ بيانُ وَصْل (أَفْعَل) بـ (مِنْ) ليَبْني عليه الأحكام، فهو الذي اعْتَنى به.

وأمَّا كَوْن (مِنْ) ملفوظاً بها أو مقدرة فشيءٌ جاء بالقصد الثاني، وهو مع ذلك صحيح في الجملة.

وقوله: ((وإِنْ لَمنْكُورٍ يُضَفْ)) إلى آخره.

هذا هو القسم الثاني (من الضرَّب الثاني)(2) وهو المضافُ إلى نكرة، وأَتى معه بتكملة حكمِ الوَجْه الأول، وهو المجرَّد، لَمَّا اتَّحدَ حكمهما.

ويريد أن (أَفْعَلَ) إذا أضيف إلى اسمَ مَنْكُور، وهو النكرة، أو كان مجردا فحمُه لزومُ التذَّكْير، أي لزوم الصِّيغة التي تقتضي بوضعها التذكيرَ ولزوم التوحيد. [أي الصيغة الدالة على الواحد، وذلك قوله:

((ألْزِمَ تَذْكيراً وأَنْ يُوحَّدَا)) والصيغة المقتضية التذكير والتوحيد] (2). هي صيغة (أَفعل) فتلزم وإن اختلف ما جرت عليه، بالتثنية أو الجمع، أو التأنيث.

فأما المدر فقد تقدم تمثيلُه. وأما المضاف إلى النكرة فعلى وجهين

(1) في الأصل ((وقد يفعل)) وما أثبته من (ت، س).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س).

ص: 586

يشملها كلام الناظم:

أحدهما أن يُضاف إلى مَنكور مطابقٍ لما جرى عليه (أَفْعَلُ) لزوما، وذلك لا يكون إلا مع كَوْن المضاف إليه جامدا، فتقول: زيدٌ أفضلُ رجلٍ، والزيدانِ أفضلُ رجلَيْن، والزيدون أفضلُ رجالٍ. وهندٌ أفضلُ امرأةٍ، والهندان أفضلُ امرأتَيْن، والهنداتُ أفضلُ نسوةٍ.

والمعنى تفضيلُ صاحبِ (أَفْعَلَ) على المضاف إليه إذا فُضِّل ذلك التفضيل فالمعنى: زيدٌ أفضلُ الناسِ إذا فُضِّلوا رجلاً رجلاً، والزيدان أفضلُ إذا فضِّلوا رجلَيْن رجلَيْن، وهكذا ما بقى.

والثاني أن يُضاف إلى منكور تجوز فيه المطابقةُ وعدمُها، وذلك مع كون المضاف إليه مشتقاً، فتقول: زيدٌ أفضلُ عالمٍ والزيدان أفضلُ عالم، وأفضلُ عالِمْيِنِ، والزيدون أفضلُ عالِمٍ، وأفضلُ عالِميِنَ. وكذلك في المؤنث.

ومن عدم المطابقة قولهُ تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ به} (1) ومما فيه الأمران ما أَنشد الفرَّاء وأبو زيد من قول الشاعر (2):

وَإذا هُمُ طَعِمُواَ فَأَلأْمُ كَاعِمٍ

وإذا هُمُ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ

ولم يتعرض هنا لمطابقة المضاف إليه لما قبله، ولا لعدم مطابقته، وإنما تَعَّرض إليه ((التسهيل)) (3).

(1) سورة البقرة/ آية 41.

(2)

معاني القرآن 1/ 33، ونوادر أبي زيد (152) ضمن ثلاثة أبيات نسبها إلى رجل جاهلي. والمساعد لابن عقيل 2/ 181.

(3)

انظر: ص 134.

ص: 587

وإنما جاز الإفرادُ وغيره هنا في المشتق بخلاف الجامد، لأنه مقدَّر بـ (مِنْ) والفعل، و (مِنْ) قد تقع موقع الجمع، وتُعامل مع ذلك معاملة المفرد.

وقوله: ((وتِلْوُ أَلْ طِبْقٌ)).

وهذا هو القسم الأول من الضَّرْب الثاني، يعني أن (أَفْعَلَ) إذا كانت تاليةً لـ (ال) فهي طِبْقٌ، أي مطابقةٌ لما قبلها في الإفراد والتذكير وفروعها/.

574

والمطابقةُ الموافقةُ، والتطابقُ الاتِّفاقُ، يقال: طابَقْتُ بين الشيئين، إذا جعلتَهما على حَذْوٍ واحد وألزقتهما.

ثم قال: ((ومَا لِمَعْرِفَةٍ أُضِيفَ ذُو وَجْهَيْنِ)) إلى آخره.

هذا هو القسم الثالث من الضرب الثاني، و ((لِمَعْرِفَة)) متعلق (أضِيف) يعني أنه يجوز فيه المطابقة لما قبله، وهو أحد الوجهين، فيكون في ذلك على حد التَّالي للألف واللام، ويجوز فيه أيضاً لزوم الإفراد والتذكير، فيكون كالمجرد والمضاف إلى النكرة.

وذلك إنما يكون إذا كانت إضافته على معنى (مِنْ) وهي المقصود فيها معنى التفضيل بين صاحب (أَفْعَلَ) والمجرور بـ (مِنْ) وذلك قوله: ((هَذّا إذَا نَوْيْتَ مَعْنَى مِنْ)) فـ (هذا) إشارة إلى الحكم بجواز الوجهين، المطابقةِ وعدمِها.

وأما إذا جُرِّدت الإضافةُ من معنى (مِنْ) فالمطابقة لا غير، وهو قوله:((فَهُوَ طِبْقُ ما بِهِ قُرِنْ)) أي: وإن لم تَنْوِ معنى (مِنْ) فـ (أَفْعَلُ) مطابقُ لما قُرِن به.

_________

ص: 588

وضميرُ ((فهو)) عائدٌ على (أَفْعَلَ) وكذلك المستتر في ((قُرِنَ)) وأما هاء ((بِهِ)) فعائد على ((ما)) وهي واقعة على متبوع (أَفْعَلَ).

وإنما كان مطابقا لأنك لا تريد في هذا الوجه بقولك: (زيدٌ أفضلُ الناس) إلَاّ معنى: زيدٌ فاضلٌ في الناس، فصار كاسم الفاعل في الحكم، بخلاف ما إذا نويت معنى (مِنْ) فإنه ليس كاسم الفاعل، فكما تقول في اسم الفاعل: الزيدان فاضِلَا الناس، والزيدون فاضلُو الناسِ، وهند فاضلةُ النساءِ، وكذلك تقول: الزيدان أَفْضَلَا الناسِ، والزيدون أفضلُو الناسِ، وهند فُضْلَى النساء.

وعلى هذين الاعتبارين ينبغي الجواز أو المنع في مسألة (يوسف أحسنُ إخوتهِ)(1) فعلى نية معنى (مِنْ) تمتنع المسألة، لأن الإضافة بمعنى (مِنْ) يلزم فيها أن يكون (أَفْعَلُ) بعضَ المضاف إليه، فإذا أضيف المضافُ إليه إلى ضمير الأول لزم إضافة الشِيء إلى نفسه، لأن صاحب الضمير، وهو في المثال (يوسف) داخل في للإخوة. وقد قال الناظم:((ولَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بهِ اتَّحدْ ((مَعْنىً)) (2) فلو قدرتَ أنه خارج منهم لإضافتهم إليه لزم إضافة (أَفْعَلَ) ألى ما ليس بعضاً له، وذلك ممنوع، إذ لا يقال: زيدٌ أفضلُ الحميرِ، على معنى (مِنْ) وإنما يقال هنا: يوسفُ أحسنُ أبناءِ يعقوبَ. ومنه قولهم: ((النَّاقِصُ والأَشَجُّ أَعْدَلَا بنَي مِرَوْانَ)) (3).

وعلى طَرْح معنى (مِنْ) تجوز المسألة، إذ لا يلزم في هذه الإضافة أن

(1) انظر في هذه المسألة: شرح الكافية للرضي 2/ 216، وشرح الأشموني 3/ 49.

(2)

ذكره في باب ((الإضافة)) من الألفية.

(3)

أي عادلاهم، لأنهما لم يشاركهما أحد من بني مروان في العدل. والناقص هو يزيد بن الوليد بن عبدالملك بن مروان، سمي بذلك لنقصه أرزاق الجند، وكان من أهل الورع والصلاح، لم يكن في بني أمية مثله ومثل عمر بن عبدالعزيز (ت 126 هـ).

=

ص: 589

يكون (أَفْعَلَ) بعض ما أضيف إليه، فإن معنى (يُوسفُ أحسنُ إخوتِه) يوسفُ حَسَنٌ في إخوته، فالإخوة، من حيث فيهم يوسفُ، يضافون إلى ضميره. وعلى هذا تقول: فلان أَعْرَفُ بَنِي تميمٍ، وإن لك يكن منهم. ولا تقول ذلك على الوجه الأول إلا أن يكون منهم.

وقد حصل أن الجواز والمنع مبنيَّان على إضافة (أَفْعَل) إلى ما هو بعضُه، أو إلى ما ليس بعضَه، وأن (أَفعلَ التفضيل) وهو باقٍ على أصله، إنما يضاف إلى ما هو بعضُه.

والناظم/ لم يبيَّن شيئاً من ذلك. وكان حقُّه ذلك، لكنَّ ذكرَ هذا يختص بباب

575 الإضافة لا بهذا الباب.

وقوله: ((عِنْ ذِيَ مَعْرِفَة)) تنكيتٌ على من يمنع المطابقةَ من النحويين مع إرادة معنى (مِنْ) وهو ابن السرَّاج، فإنه لا يجيز على ذلك القَصْد: الزيدانِ أَحْسَنَاكُمْ أخلاقاً، ولا الزيدون أَحَاسِنُكُم أخلاقاً، بل الواجب عنده الإفرادُ والتذكير كما يجب مع إظهار (مِنْ)(1).

ورَدَّه المؤلف بالقياس والسَّماع. أمَّا السماع فما تقدم من قوله عليه السلام: ((أَلَا أُخْبِركُم بأَحَبِّكُمْ إلىَّ، وأَقْربِكُم مِنيِّ مَجْلِساً يومَ القيامةِ أَحَاسِنكُم أخلاقاً)) الحديث (2). فأتى بالوجهين معاً في كلام واحد، ومعنى (مِنْ) مرادٌ في الجميع. وفيه نظر.

=

والأشجُّ هو أبو حفص عمر بن عبدالعزيز بن مروان الأموي القرشي، الخليفة الصالح والملك العادل، وخامس الخلفاء الراشدين، كان يدعى ((أشجُّ بني أمية)) لأن دابة رمحته وهو غلام فشجَّته (ت 101 هـ).

وانظر: شرح الأشموني 3/ 49.

(1)

انظر: الأصول في النحو 2/ 5.

(2)

سبق تخريج الحديث.

ص: 590

وأما القياس فإن المضاف على تقدير (مِنْ) أشبهُ بذي الألف واللام (منه بالعاري، فإجراؤُه مُجْرى ما فيه الألف واللام)(1) أَوْلَى من إجرائه مُجْرى العاري، فإذا لم يُعط الاختصاصَ بجرَيانه مَجراه فلا أقلَّ من أن يشارِك، وإلَاّ لزم ترجيحُ أضعفِ الشَّبهَين، أو ترجيحُ أحد المتساويِيْن دون مُرَجِّح.

هذا ما قاله في ((الشرح)) (2). وأصل معناه لابن خروف في شرح ((الكتاب)) (3)؛ وظاهر كلام كثيرٍ من النحويين موافقةُ ابن السراج، إذ يُطلقون القول بأن تقدير (مِنْ) يمنع من المطابقة، فالمضاف مِمَّا يحتمل الأمرين، فيجوز فيه الوجهان على ذَيْنِكَ التقديرَيْن، فإن قدرتَ معنى (مِنْ) فالإفرادُ والتذكير، وإن عَنَيْتَ إطلاقَ التفضيل فالمطابقةُ. وقد يجرى ما في الحديث (4) على ذلك، فانظر في ذلك.

وإنْ تَكُنْ بِتِلْوِ مِنْ مُسْتَفِهَما

فَلهُمَا كُنْ أَبَداً مُقَدِّمَا

كَمِثْل مِمَّنْ أَنْتَ خَيْرٌ ولَدَى

إخْبَارٍ التَّقْدِيمُ نَزراً وُجِدَا (5)

هذه المسألة اعتَنى بذكرها هنا لوجهين، أحدهما أنها من النحو الجَليل الذي لا يُعْذَر قارىُ هذا الباب في الجهل به، وليست من المسائل الغريبة التي

(1) ما بين القوسين ساقط من (ت).

(2)

شرح التسهيل للناظم (ورقة: 148 - أ).

(3)

يعني كتاب سيبويه، وانظر: بغية الوعاة 2/ 203.

(4)

يقصد قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأحبِّكم إلىَّ، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا)). وقد تقدم الاستشهاد به.

(5)

في متن الألفية ((نزراً وَرَدَا)).

ص: 591

يَنْدُر وقوعُها في الكلام، بل هي، في الحاجة إليها، كالمسألة قَبْلها.

والثاني أنها على شدة الاحتياج إليها قد أغفل الكلام عليها أكثرُ النحويين، على ما زعمه المؤلف في ((الشرح)) (1)، وإنما نقلها من ((التذكره)) للفارسي، فتعيَّن عليه، من أجل ذلك، الاعتناءُ بذكرها.

ويعني أن مجرور (مِنْ) التي يطلبها (أفعلُ التفضيل) على ضربين، أحدهما أن يكون مستفْهَماً به، أي اسماً من أسماء الاستفهام. فهذا يلزم فيه تقديم (مِنْ) ومجرورها على (أَفْعَل) فتقول: مِمَّنْ أنتَ أفضلُ؟ ومِنْ أَيِّهِمْ أكرم؟ ومِمَّ ثوبُك أَطْوَلُ؟ وذلك لأن الاستفهام له أبداً صدرُ الكلام، فلا يجوز تقديم ما يَعمل فيه عليه (2)، فاحتَمل ضَعْفَ التقديم لضرورة الاستفهام، وغَلَّبُوا جهة الاستفهام على جهة ضَعْف العامل الذي هو (أَفْعَلُ) غيرَ متصرِّف في معموله بالتقديم، والاستفهام لا يتأخر عن عامله اللفظي، فالتزموا أحسن الأقبحَينْ، وهو تقديم معمول/ (أَفْعَل) إذ كان قد يتقدم

576 قليلاً كما سيذكره. وكذلك إن كان ظرفاً أو مجرورا.

والاستفهام لا يتأخر أبداً، إذ كانت العرب قد الْتَزمت فيه التقديمَ، كما في الشَّرْط والنَّفْي، فلذلك جَزم الناظُمُ بالتقديم في قوله:((فَلَهُمَا كُنْ ابداً مُقدِّما)) و ((لهما)) متعلِّق بـ (مُقدِّما).

ثم أتى بمثالِ ما قَرَّر، وهو قوله:((كَمِثْلِ مِمَّنْ أَنْتَ خَيْرٌ)

والوجه الثاني من وجَهْي مجرور (مِنْ) ألا يكون مستفهما به، وذلك قوله:((وَلَدَى إخْبَارٍ التَّقْديِمُ نَزْراً وُجِدَا)).

(1) شرح التسهيل.

(2)

في الأصل ((فلا يجوز تقديم معمول ما يعمل فيه)) وهو تحريف، والصواب ما أثبته من (س، ت).

ص: 592

وإنما قال: ((ولَدَى إخْبَارٍ)) لأنه إذا كان الكلام إخبارا لم يكن ثَمَّ مستفهَمٌ به، وإذا كان ثمَّ مُسْتَفَهمٍ به لم يكن الكلام إخبارا، فكأنه يقول: وإذا لم يكن مجرورها مستفهَماً به فتقديُمه نَزْرٌ، أي قليل، وذلك أن (أَفْعَلَ) عاملُ غيرُ متصرِّف في نفسه، فلم يكن له أن يتصرَّف في معموله، فلا يتقدم معمولهُ عليه كسائر العوامل غير المتصرفة، إلا أنه يُسمع من ذلك شيءِ فيُحفظ ويُقصر على محلِّه.

وقد أخبر الناظم أن التقديم قد وُجد قليلا جداً، فدل على أن عدم التقديم هو الشائع، فتقول: زيدٌ أفضلُ من عمروٍ، وأنتَ أكرمُ منهما، ولا تقول: زيدٌ من عمروٍ وأفضلُ. إلا قليلا، كقول ذي الرُّمة (1):

فَلَا عَيْبَ فِيَها غيرَ أَنَّ سِرِيَعَها

قَطُوفٌ وأَنْ وأَنْ لَا شَيءْ منهنَّ أَكْسَلُ

وقال الآخر (2): أَظَلُّ أَرْعَى وأَبِيتُ أَطْحَنُ

الْمَوْتُ مِنْ بَعْضِ الحَياةِ أَهْوَنُ

وهو نادر.

فإن قلت إذا كان الناظم قد اعتنى بمسألة الاستفهام ههنا فهو لم يُكْمِلها، بل أتى ببعض أقسامها، وذلك أن الاستفهام هنا على وجهين؛ أحدهما أن يكون مضمَّنا في الاسم بـ (مِنْ) وهو الذي ذكَر. والآخر ألَاّ يكون

(1) ديوانه 461، والأشموني 3/ 52، والعيني 4/ 44. والضمير في قوله:((فيها)) عائد على النساء المذكورة في الأبيات السابقة. والقطوف من الدواب هو المتقارب الخطو البطئ، ويستعمل في الإنسان. والبيت من تأكيد المدح بما يشبه الذم.

(2)

شرح التسهيل للناظم (ورقة: 147 - أ).

ص: 593

كذلك، بل يُؤْتَى بحرف الاستفهام نحو: أَمِنْ زيدٍ أنتَ أفضلُ؟

فهذا النوع إما أن يكون حكمه التقديمَ، أعنى تقديمَ (مِنْ) لأجل ما دخل عليها من الاستفهام، فيصير بمنزلة: مِمَّنْ أنتَ أفضلُ؟ فكان من حقه أن يَأتي بكلام يشمل النوعين.

وإما ألَاّ يكون حكمه التقديم، بل يقال: أأنتَ أفضلُ من زيدٍ، كالإخبار من كل وجه، فكان حقه أن يَأتي بعبارة تشمله مع الإخبار، ولا يقول:((ولَدَى إخْبارٍ)) لكنه لم يفعل ذلك، فصارت المسألة قاصرة، وذلك غير لائق به.

فالجواب أن لهذا المجرور نظرين، نظراً من جهة طلبه للأداة بخصوصه، وبهذا يُشبه الاسمَ المضمَّن، ونظراً من جهة انفصاله منها، وبهذا يُشبه المجرور في الإخبار، فيمكن على الأول أن يُلْحَق بالمضمَّن، إذا كان المضمَّن هذا أصلُه، فقولك: مِمَّن أنتَ أفضلُ؟ في تقدير: أَمِنْ فلانٍ أنتَ أفضلُ أم فلانٍ؟ إلى آخره.

وهذا هو الأصل، أن تَدخل الأداةُ على الذي يضمَّن معناها لا على غيره.

فلو قلتَ على ذلك المعنى: أَأَنْتَ أفضلُ من فلان؟ لتوهَّم السامع أنك مستفهِم عن المفضَّل لا عن المفضَّل عليه، فيقع اللَّبْس، فكان الوجهُ مباشرة الأداة للمستفهَم عنه، فيلزم هنا تقديمُ المجرور/ لأنه المستفهَم عنه بالفرض.

577

ويمكن على الثاني أن يلحق بما لا استفهام فيه فتقدم الأداة، ويؤخَّر المجرورُ، فتقول: أأَنْتَ أفضلُ من فلان؟ على أن الاستفهام عن

_________

ص: 594

المفضَّل عليه، إذ لا محظورَ في تقديم الأداة وتأخير مطلوبها. ألا ترى أنك تقول: مَتَى تَظُنُّ زيداً قائماً؟ والاستفهامُ راجعٌ للقيام لا للظن، ويجوز أن يرجع إلى الظن، فكذلك هنا. ويكون المسوِّغُ للفصل قبحَ تقديم مجرور (أَفْعَلَ) عليه.

وإذا ظهر وجه التردُّد في المسألة فيمكن أن يكون الناظم تَرك ذكرَها قَصْداً، لأنها محلُّ نَظَر، فكأنه لم يترجَّح عنده أحدُ النظرَين على الآخر، ولم يَجِدْ في المسألة سماعاً يَعتمد عليه فأغفل الكلامَ عليها لمن يأتي بعده.

ويَحتمل أن يكون النظران عنده سائغين، فيجوز التقديمُ وعدمه بالاعتبارين، واتَّكل في فهم الناظر لذلك على ما قَرَّر من القسمين، والأول أظهر. والله أعلم.

ورَفعُهُ الظَّاهِرَ نَزْرٌ ومَتَى

عَاقَبَ فِعْلاً فكَثِيراً ثَبَتَا

كلَنْ تَرىَ في النَّاسِ مِنْ رَفِيقِ

أَوْلَى به الفَضْلُ من الصَّديق

يَعني أن أفعل التفضيل شأنُه أن يَرفع المضمرَ فقط، لضَعْفه عن مقاربة الصفة المشَّبهة، وذلك أن الصفة المشبَّهة باسم الفاعل لما ضَعُفت عن لَحَاقها باسم الفاعل لم تعمل إلا فيما كان من سَبَبها، نحو: مررتُ بَحَسَنٍ أبوه، ولا يكون ذلك في (أَفْعَلَ مِنْ كذا) فلما قَصَّر عن الصفة في الأشياء لم يكن عملهُ الرفعَ مطلقا، ولم يَقْوَ أن يعمل إذا جرىَ على غير الأول، وإنما يَقْوَى إذا جرى على الأول، فصار رفعُه مقتصَراً به على الضمير دون الظاهر، فإذا رَفع الظاهر كان ذلك على خلاف قاعدته القياسية، وهو الذي نصَّ عليه الناظم بقوله:(نَزْراً) والذي أشار إليه حكاه يونس في لغة ضعيفة، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ

_________

ص: 595

خَيْرٍ منه أبوه (1).

قال السِّيرافي: كأنهم يتأوّلون معنى اسم الفاعل، فـ (خَيْرٌ منه) بتأويل: فاضلٍ عليه أبوه (2). وذلك قليل جدا، وإنما (أَفْعَلُ) عند سيبويه جارٍ مجرى (سَوَاء) و (أبي عَشَرةٍ) في قولك: مررتُ برجلٍ سواءٍ عليه الخيرُ والشرُّ، ومررتُ برجلٍ أَبي عَشَرةٍ أبوه، من حيث ضَعُف عن الصفات كما تقدم، ولذلك أتى بهما جميعاً في بابٍ واحد (3)، وعلى طريق واحد، وإن كان (أَفْعَلُ) أقوى في أعطاء معنى الفعل، لأنه مشتق. قال سيبويه:((وزعم يونس أن ناساً يَجُروُّن هذا، يعني: خيرٍ منه أَبُوه، كما يجرون: مررتُ برجلٍ خَزٍّ صُفَّتُه)) (4).

ثم أتى بموضع آخر مِمَّا يَرفع فيه (أَفْعَلُ) الظاهرَ، لكن كثيرا فقال:((ومَتَى عَاقَبَ فعْلاً فكثيراً صَبَتَا)) يريد أن (أَفْعَلُ) إذا صار معناه في الكلام معنى الفِعْل فصار/ الفعل يصح أن

578 يعاقبه في موضعه من غير أن يَخْتَلَّ المعنى، ولا يُنقص منه شيء، وهذا معنى المعاقبة- فرفعُه الظاهرَ كثُير ثابت لا ضَعْف فيه ولا نُدور، وذلك هو الضابط عند الناظم، وهو المنبَّه على علة هذا الكلام، وذلك نحو ما مَثَّل به من قوله:

(1) الكتاب 2/ 27.

(2)

انظر: الكتاب 2/ 27 (حاشية).

(3)

هو ((باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة مجرى الأسماء التي لا تكون صفة)) [الكتاب 2/ 24].

(4)

الكتاب 2/ 27. وفيه ((أن ناسا من العرب)) والخز من الثياب: ما يُنسج من صوف وإبرسيم، أو ما ينسج من إبريسم خالص. والصُّفَّة: ما غُشِّي به السَّرجُ أو الرَّحل، ما بين مقدمه ومؤخره.

ص: 596

((لَنْ تَرىَ في النَّاسِ مِنْ رَفيِق

أَوْلَى به الفضلُ من الصِّدِّيِق

فإنك تقول: لن ترى الناس مِنْ رفيقٍ، يَحِقُّ له الفضلُ كالصَّدِّيِق. فالمعنى في هذا الكلام كالمعنى في المثال.

ومن ذلك قولهم: ما رأيتُ رجلاً أبغضَ إليهِ الشرُّ منه إلى زيدٍ، وما رأيتُ رجلاً أحسنَ في عينيه الكُحْلُ في عين زيدٍ، و ((ما مِنْ أَيَّامِ أَحَبَّ إلى الله فيها الصومُ من ذِي الحِجَّة)) (1)، وما {ايتُ كِذْبَةً أكثر عَليها شاهجٌ من كِذْبَة أميرٍ على مِنْبَر (2).

وأنشد سيبويه لسُحَيْم بن وَثيِل (3):

مَرَرْتُ على وَادِي السِّبَاع وِلا أَرَى

كوَادِي السِّبَاعِ حينَ يُظْلِمُ زاديَا

أَقَلَّ به رَكْبٌ أَتَوْهُ تَئِيَّةً

وأَخْوَفَ إلَاّ ما وَقَى اللهُ سارِيَا

وأنشد المؤلف (4):

(1) مسلم- الصيام: 31، 32، وأبو داود- الصوم (2438) 2/ 325، والترمذي- الصوم- اب 52 حديث رقم (757) 3/ 130.

(2)

الهمع 5/ 109.

(3)

الكتاب 2/ 32، وشرح الرضي على الكافية 3/ 464، 471، والخزانة 8/ 327، والعيني 4/ 48، ومعجم البلدان (وادي السباع). ووادي السباع: موضع بين البصرة ومكة. والتئيَّة: التلبث والتوقف، وهي تمييز من قوله:((أقل)) أي أقل توقفا. والساري: السائر ليلا.

(4)

شرح التسهيل للناظم (ورقة: 148 - ب) والهمع 5/ 107، والدرر 2/ 137، وشرح شذور الذهب 416 ويروي ((ما علمت)) وقائله مجهول.

ص: 597

ما رأيتُ امْرَأَ أَحَبَّ إليه الْ

بَذْلُ منه إليكَ با ابنَ سَنَانِ

فهذا ونحوه كثيرٌ في كلام العرب، لأن الفعل فيه يُعاقب (أَفْعَلَ) على معناه. ألا ترى أنك تقول: ما رأيتُ رجلاً يُبْعضُ الشرَّ مِثْلَهِ، ولا رأيتُ رجلاً يَحْسُنُ في عينه الكحُل كحُسْنه في عيْنه، ولا أرَى كوادِي السباعِ وادياً يَقِلُّ به ركبٌ.

وهذا ظاهر، ولذلك قَدَّره سيبويه باسم الفاعل، إذ قَدَّر: ما رأيتُ رجلاً عاملاً في عينيه الكحُل، وما رأيتُ رجلاً مُبغضا إليه الشَرُّ (1).

فلو كان الفعل إذا عاقب (أَفْعَلَ) لا يُعْطِي معناه لم يَكْثر في الكلام، وإنما يكون نادرا من القسم الأول، كقولك: مررتُ برجلٍ أكرمَ منه أبوه.

لو قلت: مررتُ برجلٍ يَكْرُم، أو كَرُمَ عليه أبوه-لتغيَّر المعنى، وكذلك إن قلت: رأيتُ رجلاً أَحْسَنَ في عَيْنيْه الكحُل منه في عينِ زيدٍ، فأتيتَ بالفعل- فَسَد المعنى المقصود من (أَفْعَل) إذ لم يَبْق مع الفعل معنى التفضيل.

ونظيرُ (أَفْعَلَ) هنا اسم الفاعل بمعنى الماضي إذا صَحِب الألف واللام، فإنه كان قبلها لا يعمل لفَقْد شَبَه الفعل، فلما دخلت صار بذلك نائباً عن الفعل، إذ هو مُعاقِب في الصلة للجملة كما تقدم، فعمل بعد أن لم يكن عاملا، فلذلك لم يعمل في الإيجاب إلا نادرا.

وكذلك إذا قلت: ما الكحُل في عينِ زيدٍ أحسنَ منه في عين عمروٍ- لا يُعاقِب هذا الفعلُ (أَفْعَل) على معناه فلا يَرفع ظاهرا، ولا المعنى أيضاً بموجود

(1) الكتاب 2/ 31، وعبارة سيبويه بتمامها ((فكأنك قلت: ما رأيت رجلا عاملا في عينه الكحُل كعمله في عين زيد، وما رأيت رجلا مبغضا إليه الشر كما بُغَّض إلى زيد)).

ص: 598

في (أَفْعَل) هنا على حدِّ ما هو في: ما رأيتُ رجلاً أحسنَ في عَيْنهِ الكحل منه في عينِ زيدٍ، لأن المنفىَّ هنا هو المَزِيَّةُ خاصة، وهناك المزيةُ والمساواة معاً، فصارت مسألة:(ما رأيتُ رجلاً أحسنَ في عَيْنهِ بكُحْلُ منه في عَيْنِ زيدٍ) تُؤَدي من المعنى ما لا يؤدي غيرُها من العبارات السابقة.

ولذلك لا يقال: إنه يمكن في الموضع عبارةٌ أخرى تؤدِّي المعنى، وذلك أن/ تقول

579 ك ما رأيتُ رجلاً الكحُل في عينه منه في عِين زيد، ولا تحتاج إلى إخراج (أَفْعَل) عن بابه إلى رفع الظاهر، لأنا نقول: إن هذا الكلام لا يفيد ذلك المعنى، وإنما يُفيد نفَي المزية، لا نفي المزية والمساواة معاً، فالضرورة مُلْجِئة إليه.

فإن قيل: فهل يمكن جَعْلُ (الكُحْل) مبتدأ خبرهُ (أَحْسَنُ) فلا يُتكَلَّف القولُ برفعه الظاهر، كما لمي ُتَكَلَّف ذلك في: مررتُ برجلٍ خيرٍ منه أبوه، على عامة اللغات؟ قيل لا، لأن ما أمكن في ((خيرٍ منه أبوه)) لا يمكن في مسألتنا، إذ لو جعلتَ (الكُحْل) مبتدأً خبرهُ (أحسنُ) لزم الفصل بالمبتدأ بين (أَفْعَلَ) و (مِنْ) وهما بمنزلة المضاف والمضاف إليه. وقد حصل أن القيد الذي ذكره الناظم، وهو معاقبةُ الفعل، كافٍ في المسألة، لكم المثال عَيَّنَ موضعَ ذلك حتى يُحْذَى حَذْوَه (1).

وله في ((التسهيل)) قيودٌ لفية ضابطة لموضع الكثرة، يشير إليها مثالثه، وجملتها ثلاثة (2):

(1) يقال: حَذَا فلان حذوَ فلان، إذا فعل فعله، وفلان يَحَتذي على مثال فلان، إذا اقتدى به في أمره.

(2)

التسهيل: 135، والقيود الثلاثة التي ذكرها النظم هنالك تتمثل في قوله:((لا يرفع أفعل التفضيل، في الأعرف، ظاهرا إلا قبل مفضول هو هو، مذكور أو مقدر، وبعد ضمير مذكور أو مقدر مفسر، بعد نفي أو شبهه يصاحب (أفعل))) وسيفصَّل الشاطبي القول في هذه القيود الثلاثة فيما يلي.

ص: 599

أحدها أن يكون الظاهرُ المرفوعُ بـ (أَفْعَل) مفضَّلا على ما هو هو في المعنى مذكورٍ بعده أو مقدر. وهو في مثاله مقدر، لأن التقدير فيه: لن تَرى في النَّاسِ مِنْ رفيقٍ أَوْلَى به الفضلُ منه بالصدِّيقِ. والضمير في ((منه)) عائد على (الفَضْل) وهو المفضَّل، فإذاً هو هو. ويجوز حذف المفضل عليه كما في المثال، فتقول: ما رأيتُ رجلاً أحسنَ في عينه المحلُ من عينِ زيدٍ، كما تقول:((ما مِنْ أيامٍ أحبَّ إلى اللهِ فيه الصومُ من عَشْر ذيِ الحِجَّة)) أصله ((مِنْهُ في عَشْر ذيِ الحِجَّة)) وإنما حُذف للاختصار ولفهم المعنى.

وإنما أَتى به محذوفاً ليُعلمك أنه جائزُ الحذفِ، ليس بلازم الذَّكرْ. والمعنى أيضا دال على موضعه، فلم يحتج إلى التنبيه على صحة الإتيان به. وتحرَّز بهذا القْيد من أن يكون الظاهر على ما هو غيرُه، كقولك: مررتُ برجلٍ خيرٍ منه أبوه، فإن هذا مما فُضِّل فيه الظاهرُ، وهو (الأبُ) على غيره، وهو (الرجلُ) وقد تقدم أن رفع الظاهر في مثل هذا لغةٌ ضعيفة، بخلاف مسألتنا.

وتحرز بقوله: ((مذكور بعدة)) من أن يكون مذكورا قبله، أعني المفضَّلَ عليه، فإنه إذا كان كذلك لم يَكْثر رفعُ (أَفْعَل) للظاهر، إذ لا يقال به إلا حيث يَتَعَيَّن.

وكذلك إذا قلتَ في مثال الناظم: أَوْلَى به من الصدِّيق الفضلُ، فصار كقولك: مررتُ برجل خيرٍ منك أبوه.

والقيد الثاني أن يكون الظاهر المرفوع بـ (أَفْعَل) آتياً بعد ضمير مذكورٍ ملفوظٍ به، وذلك الضمير مفسَّر بصاحب (1)(أَفْعَلَ) الذي جَرىَ عليه. وهذا

(1) في (ت)((مفسِّر لصاحب)) وهو تصحيف.

ص: 600

الضمير المشارُ إليه هو المجرور بالباء في قوله في المثال: ((أَوْلَى به الفضلُ من الصدِّيق)) والمرفوع هو (الفضلُ) فإذا كان على هذا الترتيب صَحَّ رفعُ (أَفْعَلَ) للظاهر، لأنه لا سبيل إلى غير ذلك،

إذ لو/ جعلتَ (الفضْلُ) مبتدأ، و (أَوْلَى) خبره لكنتَ قد فصلتَ بين (أَوْلَى) وما في

580 صِلَته، وهو المجرور بعد (الفَضْل) بأجنبيٍّ منهما، وهو (الفَضْلُ) وقد تقدَّم.

فلو لم يكن الضمير المفسَّر بصاحب (أَفْعَلَ) مذكوراً قبل المرفوع، بل كان بعده، وذلك إنَّما يُتَصَّور مع تقديم المرفوع، وتصييره مبتدأ لصار (أَفْعَلُ) لا يَرفع في اللغة المشهورة إلا المضمرَ على بابه، فتقول: لن ترى في الناسِ مِنْ رفيقٍ الفضلُ أَوْلَى به من الصدِّيق. فـ (الفضلُ) مبتدأ، (وأَوْلَى به) خبره، كما تقول: ما رأيتُ رجلاً زيدٌ أكرمُ منه إلا عَمْراً، فيكون رَفْعُ (أَفْعَل) هنا للظاهر مقتصراً به على اللغة الضعيفة.

وأيضاً فحيث يتأَتَّى الابتداءُ والخبر يتغيَّر المعنى عما كان عليه في رفع الظاهر.

فإذا قلت: ما رأيتُ رجلاً أبغضَ إليه الشرُّ منه إلى زيدٍ، تعرضتَ لنفي المزيَّة والمساواة معاً.

وإذا قلت: ما رأيت رجلاً الشرُّ أبغضُ إليه منه إلى زيدٍ، فإنَّما تعرضت لنفي المزيَّة، وأما المساواة فلم تتعرَّض لنَفْيها، وإذا اختلف معنى الكلامين لم يَقُم أحدهما مقَام الاخر، فكان رفع الظاهر هنا ضرورياً من جهة اللفظ، محتاجاً إليه في التخاطب من جهة المعنى. وبهذا عَلَّل المؤلف رفعَ الظاهرِ هنا. وقد تقدم.

_________

ص: 601

والقيد الثالث أن يكون هذا كله بعد نَفْي، لقوله في المثال: لن تَرىَ في الناسِ من رفيقٍ، لأن المعنى المقصود إنَّما يحصل بذلك. وأيضاً فهو موضع السماع كما مَرَّ في الأمثلة.

فأمَّا لو قلتَ: رأيتُ في الناس صديقاً أبغضَ إليه الشرُّ منه إلى زيدٍ، لم يصح؛ إذ لا يُعاقبه الفعلُ هنا، فلا يصح أن يقال في معنى ذلك: رأيتُ صديقاً يُبْغض الشرَّ كزيدٍ، إذ ليس في ذلك المعنى. وقد تقدم أنه إنما رَفع الظاهرَ هنا لشبَهه باسم الفاعل، ومعاقبتِه إيَّاهُ من جهة المعنى.

ويجري مَجرى النفَّيْ ما في معناه، وذلك (الاستفهام، والنهيُ) نحو: هل رأيتَ في الناس من رفيقٍ أَوْلَى به الفضلُ من الصدِّيقِ؟ وكذلك: لا تَرَ في الناسِ من رفيقٍ أوْلَى به الفضلُ من الصدَّيق؛ لأن النهي نفيُ مطلوبٍ، والاستفهامُ يقع بمعنى النَّفي، (وكذلك تقع بعده (مِنْ) الاستغراقية نحو {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غيرُ اللهِ} (1).

وقد تقدم إجراؤه للاستفهام مَجرى النفي) (2) في مواضع، فكذلك يكون الحكم هنا مع القول بإعمال القياس.

واعلم أن قوله: ((فكثيراً ثَبَتَا)) ليس فيه ما يدل على أنه قياس، وكأنَّه- والله أعلم- قَصد ذلك، وإلَاّ فكان يمكنه أن يقول: فقِيَاساً ثَبَتَا، أو ما يُعطي ذلك المعنى، فالظاهر أنه تردَّد في الحكم بالقياس، وذلك أن السيرافي (3) عَلَّل رفع الظاهر بما يقتضي الاضطرارَ إلى ذلك، وأنه ضعيفُ على خلاف

(1) سورة فاطر/ آية 3.

(2)

ما بين القوسين ساقط من (ت).

(3)

السيرافي (جـ 2، ورقة 167 - ب).

ص: 602

القياس، فذكر أنه إنما خالف حكم هذه المسائل الحكمَ في ((خيرٍ منه أبوه)) لمفارقتها إياه من جهة اللفظ والمعنى.

أما/ المعنى فإن (مِنْ) في: ((خيرٍ منه أبوه)) واقعةٌ على المفضول، وما بعده هو

581 الفاضل، فالهاء في ((منه)) للمفضول، و ((أبوه)) هو الفاضل، وهما غَيْران.

بخلاف هذه المسائل، فإنَّ ما وقعت عليه (مِنْ) وهو المفضولُ، هو بعَيْنِه الفاضلُ، فهما شِيء واحد، وإنما افتَرقا بالمحل، وأنك تريد في ((مسألة الكُحْل)) مثلا تفضيلَ الكحِل في عينِ زيدٍ عليه في عين عمروٍ، وليس هنا في الحقيقة غَيْران، فأشبهت (أفعلُ) هنا اسمَ الفاعل بهذا القدر، إذ لا يجيء اسم الفاعل طالباً شيئين طلبَ (أَفْعَل).

هذا مع أن (الأَبَ) في ((خيرٍ منه أبوه)) لا عملَ له ولا صُنْع، وللكُحْل عملٌ وعلاج يُرى أثره فأشبه اسمَ الفاعل.

وأمَّا اللفظُ فما ذُكر من لزوم الفصل بين (أَفْعَل) وما في صلته، بخلاف ((خير منه أبوه)).

قال: فضُمَّت الضرورةُ إلى رفع الظاهر هنا، بخلاف ((خيرٍ منه ابوه)).

ورَدَّ ابن خروف هذا وقال الإتباعُ في هذه الصفات ليس بضرورة، لأنه في الكلام كثير، وليس بضعيف. قال: والصفةُ فيه للأول، وإن كانت قد رَفتت غيرَ الأول. قال: ومَن جعله ضرورةً فقد أخطأ (1).

ثم عَلَّل بمعنى ما ذَكره السِّيرافي فكأنه فهم من السيرافي تضعيفَ

(1) غير معروف.

ص: 603

المسألة، فردَّ عليه بكثرة السماع.

وأيضاً فظاهر سيبويه أنه قياس، فهذا-والله أعلم- هو السبب في أَنْ خرج الناظم عن عُهْده المسألة، وأخبر بالسَّماع فيها، إذ كان وجه القياس فيها ضعيفاً.

وإنما عَلَّلوا بما يقتضي أنه خرج عن بابه ضرورةً، لكن صادم كثرةَ السماع في وجهه، والظاهر القياس، وإليه مال في ((التسهيل)) (1).

والنَّزْر: القليلُ التافه، وقد نَزَر يَنْزُر نَزَارَةً. وعاقب الشيءُ الشيءَ، إذا جاء في عَقِبه، ومنه سُمَّيت (المُعَاقَبة) المصطلح عليها (2)، لأن أحد المتعاقبَيْن إنما يأتي في عَقِب الآخر وبعد ذهابه، ومن حكمهما أَلَاّ يجتمعا.

والصِّدِّيق، مثل القِسَّيس: الدائم التَّصديق. قال الجوهري: ويكون الذي يُصَدق قولَه بالعمل، وكأنه أراد هنا أبا بَكْر الصدِّيقَ رضي الله عنه، خليفة رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم. واسمه عبدالله بن عثمان، وهو ابو قُحافة بن عامر بن عمرو بن كَعْب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة بن لُؤَيّ. يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُرَّة. أُمُّه أمُّ الخَيْرِ، واسمها سَلمْى بنت صَخْر بن عامر بن كَعْب بن سعد بن تَيْم. والصدِّيقُ لقبٌ له.

وفي تسميته بالصدِّيق قولان، قيل: لتصديقه بالرسالة على غير تَلَعْثُم ولا توقُّف، رُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: قالت قريش: كَذَب محمد، وقال أبو بكر: صَدَق محمد، فسمَّاه الله صِدِّيقاً، قال: {والَّذِي جَاءَ بالصَّدْقِ

(1) ص 135.

(2)

المعاقبة في الزحاف: أن تحذف حرفا لثبات حرف، كأن تحذف الياء من (مفاعيلن) وتبقي النون، أو تحذف النون وتبقي الياء، وهو يقع في جملة شطور من شطور العروض [اللسان- عقب].

ص: 604

وصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (1)، فالذي جاء بالصدق محمدٌ، وصَدَّق به أبو بكر.

ورُوي عن ابن المبارك (2) أنه سمى صِدِّيقا لانه لم يَكذب قط.

وهو كان رفيقَ رسوله صلى اللها عليه وسلم في الهجرة، وصاحَبه في الغار، وفيهما نزلت الآية {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} (3). الآية، فلأجل هذا لا رفيقَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ منه.

تُوفي/ لثمان بَقِينَ من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، رضي الله عنه. 582

(1) سورة الزمر/ آية 33.

(2)

هو أبو عبدالرحمن عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي المروزي، الحافظ شيخ الإسلام، وصاحب التصانيف والرحلات، أفنى عمره في الرحلات حاجا ومجاهدا وتاجرا، وجمع الحديث والفقه والعربية وأيام الناس، وكان شجاعا سخيا، وله كتاب في الجهاد، وآخر في الزهد والرقائق (ت 181 هـ).

(3)

سورة التوبة/ آية 40.

ص: 605