المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المضاف إلى ياء المتكلم - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٤

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌المضاف إلى ياء المتكلم

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المْضَافُ إلى يَاء المتَكَلَّم

إنما فَصل الإضافةَ إلى ياء المتكلم فَصْلا على حِدَه، لأن للمضاف لها أحكاماً ليست تُوجد مع الظاهر، ولا مع المضاف إلى الضمير غير الياء.

وذلك أن المضاف إلى الياء لا يَبْقَى على حاله كما كان قبل الإضافة، بخلاف ما أضيف إلى غير الياء، فإنه يبقى على حاله قبل الإضافة، فأتى هنا بالأحكام الزائدة على ما ذكَر، المتعلقِة بالإضافة إلى الياء، فقال:

اَخِرَ مَا أُضِيفَ للِيْا اكْسِرْ إذا

لَمْ يَكُ مُعْتَلاً كَرَامٍ وقَذَا

أَوْيَكُ كابْنَيْنِ وزَيْديِنَ فَذِى

جَمِيعُها الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احتُذِى

وتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ والوَاوُ وإنْ

ما قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فاكْسِرْهُ يَهُنْ

وألِفَاً سِلَّمْ وفي المقَصْوُرِ عَنْ

هُذَيْلٍ انْقِلَا بُهاَ ياءَّ حَسَنْ

يعني ان آخر المضاف يكسر لأجل الياء المضافِ إليها، فيزول إذ ذاك إعرابُها، ويصير مقدَّرا بعد ما كان ظاهرا، إن قيل ببقاء إعرابه، وهو الذي يظَهر من مَسَاقه، وذلك لأن الياء تَطْلب ما قبلها بالكسر للمناسبة، والعاملُ يَطْلبه بغير ذلك، والمحلُّ واحد، لا تَسَعُه حركتان مختلفتان، فلابد أن يقضي إحداهما.

وقد تقرر في الأصول أنه إذا توارد حكمان على محلٍّ واحد لا يَسع إلا

ص: 193

أحدهما- فالمعتبرَ الطارئ، والطارئ هنا هو الإضافة للياء، فكان كَسْر ما قبلها أولى، واطُّرِح حكمُ ظهور الإعراب، لكنه شَرطَ في هذا الحكم شرطين:

أحدهما أن يكون المضاف صحيحَ الآخر، أو معتلا جاريا مَجْرى الصحيح، وذلك قوله:((إذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلَاّ)) إلى آخره.

فـ (رَامٍ، وقَذَا) كلاهما يقدَّر فيه الإعراب على الجملة، فما لم يكن كذلك فهو الذي يُكْسَر آخره، وذلك قولك في (غلام، وصاحب): غُلَامِي، وصَاحِبِي، وفي (فَرَس، وجارية): فَرَسيِ، وجَارِيَتيِ، وما أشبه ذلك. فهذا هو الصحيح الآخر.

والجاري مَجراه ما كان آخره واوٌ مشدَّدة، أو ياء مشدَّدة، أو مُخَفَّفتان قبلهما ساكن نحو: عَدُوِّي في (عَدُوّ) ووَلِيّي في (وَلِيً)، دَلْوِي في (دلْوٍ) وظَبْيِي في (ظَبْيٍ).

فاشتراطُ كونه صحيحَ الآخر مأخوذٌ من قوله: ((إذا لم يَكُ مُعْتلاً)) واستدراكُ كونه جارياً مجرى الصحيح/ مأخوذُ من المثالين في قوله: ((كرامٍ وقَذَا)) فـ (رامٍ) من القسم الذي آخره ياء قبلها كسرة، 417 هو ((المنقوص)) و (قَذَا) من القسم الذي آخره ألف، وهو ((المقصور)).

وليس في الأسماء ما آخرُه واوٌ قبلها ضمة، فبقى ما آخرُه ياءٌ أو واوٌ مشدَّدتان أو مخفَّفتان قبلهما ساكن أو همزة، فدخل فيما يُكْسَر آخره والشرط الثاني ألَاّ يكون المضاف إلى الياء مُثَنَّى، ولا مجموعاً على حدِّ التثنية (1)، وذلك قوله:((أَويَكُ كابْنَيِن وزَيْدِيِنَ)) يعني في كونهِما مثنى

(1) يعني جمع المذكر السالم دون غيره من الجموع.

ص: 194

أو مجموعاً بالواو والنون، بل يكون إمَّا مفردا، كغُلَامِي، ويِدي، وأَخِي، أو مجموعاً جمع تكسير، كغِلْماَنِي، أو مجموعا بالألف والتاء نحو: ثَمَراتِي، وبَنَاتِي.

فحينئذ يجب كَسْر آخر المضاف إذا اجتمع الشرطان.

فإن تخلَّف شرطُ منهما فلا يصح كسرُ ما قبل الياء، ولكن لها حكم نَصَّ عليه بقوله:((فَذى .. جميعُها اليا بَعْدُ فتحُها احْتُذى)) إلى آخره.

((ذى)) إشارة إلى مجموع الأمثلة التي استثناها، يعني أن حكم ياءِ المتكلمِّ. معها الفتحُ أبدا، ثم ينُظر، فإن كان آخر الاسم ياء كـ (رَامٍ) و (أبنَين) في حاله النصب والجر، و (زَيْدِينَ) كذلك في النصب والجر- أُدغمت تلك الياء في ياء المتكلم، فتقول: رامِيَّ، وغازِيَّ، في (رَامٍ، وغَازٍ) وأبصرت ابنَيَّ، ومررت بابْنَيَّ، وأكرمت زَيْدِيَّ. ومُكْرِمِيَّ، ومررت بضارِبيَّ ومُكْرِمِيَّ ووجهُ الإدغام ظاهرُ، لاجتماع المثلين.

وإن كان آخر الاسم واواً كـ (زَيْدِين) في حالة الرفع- إذا لا يكون اسم متمكّن آخرهُ واوٌ قبلها ضمةٌ إلا في جمع السلامة، وإنما تصير الواو آخراً بعد حذف النون للإضافة- قُلِبت الواو ياءً، وأُدغمت في ياء المتكلك، فتقول: جاءني زَيْدِيَّ، وأقبل مُكْرِمِيَّ. وفي الحديث ((أو مُخْرِجيَّ هُمْ)) (1)؟ واصل ذلك: زَيْدُويَ، ومْكرِ مُويَ، ومُخْرِ جُويَ، فاجتمعت الواو والياء، وسَبقت إحداها بالسكون، فقُلبت الواو ياء، وأُدغمت في الياء، فصار: زَيْدُيَّ، ومُكْرِمُيَّ، ومُخْرِجُيَّ، بضَمَّ ما قبل الياءين، وكُسِر ما قبل الياءين لمناسبة

(1) أخرجه البخاري ((في كتاب بدء الوحي)) [باب 3 حديث رقم 3] فتح الباري 1/ 23.

ص: 195

الكسرة للياء، ومنافرة الضمة لها، فصار: زَيْدِيَّ، ومُكْرِمِيَّ، ومُخْرِجِيَّ، على لفظ المنصوب والمجرور.

وإن كان آخر الاسم ألفاً فلك فيها إن كان الاسم مقصورا وجهان: أحدهما أن تتركها على حالها، فتقول: عَصَاىَ، ورَحَاىَ، وفَتَاىَ، وذلك في اللغة المشهورة.

والثاني أن تقلبها ياءً، وتُدغمها في ياء المتكلك، فتقول: عَصَىَّ، ورَحَىَّ، وفَتَىَّ.

وإن كان مثنى مرفوعاً فليس لك فيه إلا وجه واحد، وهو أن تتركها على حالها فتقول: غُلامَاىَ، وصًاحباىَ، وفَرَساىَ، ولا تقلبها ياء في لغة من يقلب ألف (عَصَاى) ونحوه (1).

قال الفارسي: ووجهُ قلب الألف أن الموضع موضع ينكسر فيه الصحيح، نحو (غُلامِى) فلم يتمكنوا من كسر الألف فقلبوها ياء، كما أنهم لما لم يتمكنوا في (الزَّيْدِينَ) من كسر الألف قلبوها ياء، ولا يجوز على هذا قلب الف التَّثنية لأنه عَلَم للرفع، فلو قُلب لم يبق للرفع علامة، والتْبَسَ بالجر، فلذلكلم يَجْرِ ألفُ المثنَّى هذا المجرى. هذا وجه القلب.

وأما إبقاؤها على أصلها فلا نظرَ فيه؛ إذ لا يمكن كسرهُا وهي باقية على/ حالها، 418 فتركوها كما كانت، ورَأَوْا ذلك أوْلَى من القلب.

هذا شرح ما قال في حكم المعتلَّ. ثم بقى التنزيلُ على لفظه.

فقوله: ((فَذِى جَميعُها الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِى)).

((ذى)) مبتدأ، وهي إشارة إلى المُثُل المذكورة، والضمير في

(1) وهي لغة هذيل كما سيأتي.

ص: 196

((جَميِعُها)) عائد على ((ذى)) والضمير المضاف إليه ((بَعْدُ)) في التقدير عائد على ((الجميع)) وفي ((فتحها)) عائد على ((الياء)).

ويريد بالياء ياءَ المتكلَّم المضافَ إليها، و ((ذى)) مبتدأ أول، و ((جميعُها)) مبتدأ ثان، و ((الياء)) مبتدأ ثالث، و ((فتحُها)) مبتدأ رابع خبره ((احتُذِى)) والعائد عليه ضمير ((احتُذِى)) المقامُ مقامَ الفاعل، والجملة خبر ((الياء)) والعائد عليه منها هاء ((فتحها)) و ((الياء)) وما بعدها خبر ((جميعُها)) والعائد عليه من الخبر هو المضاف إليه ((بَعْدُ)) المقدَّر، و ((جميعُها)) وما بعده خبرُ ((ذى)) والعائد عليه هاء ((جميعُها)).

فصار هذا الكلام على وِزَان قولك: فَرَسُكَ سَرْجُها فِضّتُهُ أكثرُها مُحْرَق. وأراد أن هذه المثُل تُفتح معها ياء المتكلم.

و((احتُذِى)) معناه: التُزِم، ومن قولك: احتذْيتُ مثالَ كذا، أي اقتديتُ به واتبعتُه فلم أخالفه، وإذا كان كذلك فهو مُلْتزَم، إذ لو جاز غير الفتح لم يكن الفتح مُقْتَدَىً به، لجواز الانصراف منه إلى غيره.

وهذا صحيح جارٍ في أقسام المعتل الذى ذَكر، فلا يجوز إسكان الياء لئلا يَلْتقي ساكنان على غير شَرْطه (1)، فلابد من التحريك. ولا يجوز أيضاً الضمُّ ولا الكسرُ لِثقَلهما على الياء، فلم يبق إلا الفتح لخفِتَّة على الياء، ولذلك تظهر في المنقوص فتحةُ الإعراب دون ضَمَّته وكسرته.

(1) انظر في التقاء الساكنين على غير شرطه: ابن يعيش 9/ 120، وما بعدها، والهمع 6/ 176 - 182.

ص: 197

وما قال هو صُلْب اللغة، ونَدر إسكانُها بعد اللف في قوله تعالى:{ومَحْيَاىْ (1)} في الوصل. وقرأ يذلك من القراء نافعُ بخلاف عنه (2).

وكذلك ندر كسرُها مع غير الألف، فقد حُكى أنها لغة لبعض العرب. وعليها قراءة حمزة من السبعة {ومَا أَنْتمُ بِمُصْرِخِىَّ (1)} وهذا نادر لم يعَتد به الناظم.

فإن قيل: فما حكم الياء في غير هذا؟ ومن أين يُؤخد للناظم؟

فالجواب أن الفتح والإسكان فيها جائزان، فتقول: يا غلمَى ويا غلامِى، وقد قُرئ بالوجهين في ياءات القرآن على الجملة (2).

وقد يُسْتَشعر من كلامه ذلك هنا، لأنه قال: إن الفتح احتُذِى في المعتل والمثنَّى والمجموع على حَدَّه، وهو بمعنى الالتزام كما فُسَّر، فما عداه إذا لا يُلتزم فيه ذلك، بل يجوز الوجهان.

ثم قال: ((وُدْغَمُ اليَافِيه والوَاوُ)).

الضمير في ((فيه)) عائد إلى ((الياء)) وقبل ذلك قال: ((فَتْحُها)) فأعاد مرةً ضميرَ المؤنث، ومرةً ضميرَ الذكر، لأن الحروف تُذَكَّر تارة، وتُؤَنَّث أخرى،

(1) سورة الأنعام/ آية: 162.

(2)

السبعة لابن مجاهد 274، والنشر لابن الجزري 2/ 267.

(1)

سورة ابراهيم آية: 22.

وانظر: السبعة 362، والنشر 2/ 298، والكشف عن وجوه القراءات 2/ 26 وقد احتدم الخلاف بين النحاة والقراء حول هذه القراءة.

(2)

جرت عادة المؤلفين في ((علم القراءات)) أن يفردوا باباً في ((الأصول)) لياءات الإضافة المختلف في فتحها وإسكانها في القرآن الكريم، كما جرت عادتهم بأن يعقدوا في ((الفرش)) فصولا في آخر كل سورة يذكرون فيها ما في السورة من ياءات الإضافة المختلف فيها، ومذهب القراء في فتحها أو إسكانها.

وانظر مثلا: النشر 1/ 161، وما بعدها.

ص: 198

كما قال الراعي، أنشده سيبويه (1):

كَمَا بُيّنتْ كافٌ تَلُوحُ ومِيمُها

وأنشد أيضاً (2):

كَافاً ومِيمَيْنِ وسِيناً طَاسِماَ

ويعني أن الياء والواو اللَّذَيْن يقعان قبل ياء المتكلم يُدغمان في ياء المتكلم. أما الياء فيَجتمع المثلان فيُدغم الأولُ في الثاني، فتقول: قَاضِىَّ وغَازِىَّ، ومررتُ بابنَىَّ.

وأما الواو فلا يصح إدغامها في الياء وهي واوٌ، وإنما حكُمها أن تُقْلب ياء للعلة/ 419 المتقدَّمة، وحينئذٍ تُدغم في الياء، لا أن تدغم قبل القلب، إذ لا يمكن ذلك، فكان حقه أن يحرِّر وجهَ العمل.

والجواب أن إدغام الواو في الياء، وإن كان لا يصح إلا بعد القلب، أطلق عليه إدغاماً، ولم يُشْعِر بالقلب، كما يُطلق عامةُ النحويين في الحرفَيْن المتقاربين لفظَ الإدغام، من غير أن يُشعروا بقلب الأول حتى يَصيَر مع الثاني مِثْلَيْن، إذْ لا يصح إدغامُ الحرف فيما ليس مثلَه. فلما كانوا يُسامحون أنفسَهم في هذا القَدْر تابعهم الناظم فيما هو مثلُه. وايضاً فإنه أطلق القولَ بالإدغام، ولم يُبَين كيفيةَ الوصول إليه، إذ ليس موضَعه، وإنما بَيَّنه في ((التصريف)) فمنه يُؤخذ ذلك لا من هنا.

(1) الكتاب 3/ 260، والمقتضب 1/ 372، 4/ 40، والجمل 286، وابن يعيش 6/ 29 واللسان (كوف).

وصدره: أَهَاجَتكَ آياتُ أبانَ قديمُها

ويروى: أَشَاقتُك أطلالُ تَعَفتْ رسوُمُها

شبه آثار الديار بحروف الكلمة، على ما جرت به عادتهم من تشبيه الرسوم بحروف المعجم.

(2)

الكتاب 3/ 260، والمقتضب 4/ 40، والجمل 286، وابن يعيش 6/ 29، والمخصص 17/ 49 والطاسم: الدارس، وكذلك: الطامس. والقول فيه كالقول في سابقه، استشهاداً ومعنى.

ص: 199

ولما كانت الضمة قبل الياء لا تَثْبُت، بل تُقلب كسرة لمناسبة الياء، ولتِصَحَّ- نَبَّه على ذلك بقوله:((وإنْ ما قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فاكْسِرْهُ يَهُنْ)).

يَعني أن الواو المدغمة في ياء المتكلم إن قبلها ضمةٌ كُمْسلمِوُنَ وصَالِحُونَ- فالحكمُ التصريفيُّ فيهما مضافيْن إلى الياء يُؤَدِّي إلى قلب الضمة كسرة، وذلك سيأتي ذكره في ((التصريف)) إن شاء الله.

ووجهُ قلب الضمة هنا استثقالُها، لعدم مناسبتها للياء، بخلاف الكسرة، فإنها تناسب الياءَ بعدها، فيزول الاستثقال، ويَسْهُل النطق.

وهذا معنى قوله: ((فَكْسِرْهُ يَهُنْ)) أي اكسر الحرف المضموم يَسْهُل النطقُ بالكلمة، تقول: هانَ الشيءُ يَهُونُ، هَوْناً، إذا خَفَّ، وهَوَّ نَهُ اللهُ، أي خَفَّفه وسَهَّله.

فأما إن لم يَنْضم ما قبل الواو فلا يُكسر بعد إدغامها في الياء، بل يبقى على حالته بمقتضى المفهومِ الشَّرْطِيَّ في قوله:((وإنْ مَا قَبْلَ واوٍ ضُمَّ فاكْسِرْهُ)) فتقول في (مُصْطَفَوْنَ): مُصْطَفَىَّ، فتترك ما قبل الياء على فَتْحه، وكذلك تقول في (مُوسَوْنَ): مُوسَىَّ، وفي (الأعْلَوْنَ): أَعْلَىَّ. وما أشبه ذلك.

وإنما لم يكُسْر لأمرين:

أحدهما أن سبب الكسر في (زَيْدِيَّ) استثقالُ الضمة، وهي هنا مُنْتَفية، فلا مُوجِب للانتقال إلى الكسر مع أن الفتح قبل الياء غير مُسْتثقل.

والثاني أنهم لو كَسروا هنا لالْتَبس المقصورُ بالمنقوص في الجمع المضاف إلى الياء، فإنك تقول في (قَاضُونَ): قاضِىَّ. فلو قلت في (مُوسْونَ): مُوسِىَّ: لأوهم أنه جمع (مُوسٍ) لا جمع (مُوسىَ) فالفتحة قبل الواو في (مُوسَوْنَ) إنما هي مُحْرِزَة للألف المحذوفة، فلا سبيلَ إلى زوالها لغير مُوجِب.

ص: 200

واعلم أن قوله: ((وإنْ ما قَبْل واوٍ ضُمَّ فاكْسِرْهُ)) مُشْكل، فإن الواو في الحكم الذي قَررَّ إما أن تكون موجودة لم تَنْقلب بَعْدُ إلى الياء، أو قد انقلبت إلى الياء، فإن كانت لم تَنْقلب بعدُ فلا سبيل إلى الكَسْر، لأن الواو تَطْلُب بضم ما قبلها، ولا يتأتىَّ الكسرُ معها.

وإن كانت قد انقلبت كان تعبيره بالواو غيرَ صحيح، لأن الواو في الحال معدومة، والياء هي الموجودة، فكان الأحقَّ أن يقول: وإنْ ما قبلَ ياءٍ ضُم فاكْسِرْه، لأنه قد أَمرَ بقَلْبها ياء/ 420 بقوله:((وتُدْغَم الْيَا فِيهِ والواوُ)) فإذا كانت الواو قد أُدغمت فهي ياءٌ لا واوٌ، فكلامهُ على كلا التقديَريْنِ لا يستقيم.

والجواب عن ذلك أنا نَلتزم كلَّ واحد من التقديَريْن، فإنه يمكن أن يُقصد أحدُهما، لصحة كل واحد أن يُنَزَّل كلامهُ عليه.

أما إن أراد الثاني، وهو أن تكون الواو قد انقلبت، ثم كُسِر ما قبلها- فعبارته صحيحة، وإنما ذكَر الواو اعتباراً بما كانت عليه في الأصل، فكأنه يقول: وإن كان ما قبل الواو المنقلبة الآن مضموماً فاكْسِرْه يَسْهُلْ بذلك النطقُ بها.

ومعنى ذلك أن للواو في الإعلال حكمين:

أحدهما إدغامُها في الياء، والآخر كسرُ ما قبلها.

ولو عَبَّر بهذه العبارة لم يكن عليه اعتراض، فكذلك ما قال. وهو ظاهر. وأما إن أراد الأول، وهو أن يقع الكسرُ قبل الانقلاب، فإن ذلك صحيح أيضاً في الصَّنْعة التَّصْريفَّية، بناء على أحد الوجهين الجائزين في الإعلالين إذا عَرَضا في الكلمة: بأيَّهما يُبْدأ، أبأولهما أم بآخرهما

ص: 201

فهذا على البدء بأولهما. ووجهُه أنه ينبغي أن يكون العمل في التغيير على حسب العمل في النطق، لِيجْتَاز بالحروف وقد ترتَّبت على حسب ما يُوجبه العملُ فيها.

وما أُورد، من أن الواو تَطْلب بضم ما قبلها، فغيرُ وارد، لانهم لمَ يقصدوا إقرار الكسرة مع بقاء الواو، فهنالك يلزم المحذور المذكور، وإنما قَصدوا بالكسر أن تَنْقلب الواو ياء، لِيتَوَصَّلوا إلى الإدغام، لأن الواو لا تُدغم في الياء إلا بعد قلبها ياء، فمِنْ شأنهم أن يُعِلوُّا الحركة والحرف، لا لعلَّةٍ فيه، بل لِيتَوصَّلوا إلى ما قصَدوا، من الإعلال في موضع آخر. ألَا ترى أنهم قالوا في وَجْه تصريف (مَطَايَا): إنه لما صار إلى (مَطَائِىُ) على مثال (مَطَاعيُ) قلبوا كسرة الهمزة فتحة، لا لعِلَّة هنالك، بل لِيتَوصَّلوا إلى قلب الياء التي بعدها ألفا، فصار (مَطَاءَيُ)، ثم قلبوا الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.

وكذلك (أَوَزَّةُ) أصله (أَوْزَزَةٌ) على (أَفْعَلَةٌ) فأرادوا أن يتوصلوا إلى إدغام المثلَيْن لِثقَلهما في النطق، فلم يُمِكنْهم ذلك مع تحريك الزاي الأولى، فنقلوا حركتها إلى الساكن قبلها، لا لِعلَّة فيها نفسِها، بل ليَتَوصَّلوا إلى الإدغام.

وأمثلة هذا الأصل في ((التصريف)) كثيرة جداً، أصلها كلها أنهم ممَّا

ص: 202

يُقْدِمون على التَّغيير عَبْطَةً (1). ليتَوصَّلوا إلى التغيير القياسي، ولذلك إذا فرضنا أنهم أدغموا في مسألتنا قبل الكسر فلابُدَّ لهم من قلب الواو ياء، لِيَتأَتَّى لهم الإدغام، وإلا فلا يمكن مع بقاء الواو على حالها، فالسؤال بعينه لازمٌ فيه، إذ يقال: كيف يصح قلبُ الواو ياء وقبلَها ضمة، وهذا الواو، كما في (مُوقِنٍ، ومُوسِرٍ) أصله (مُيْقِنٌ، ومُيْسِرٌ) فما أَلزْم السائلُ في الابتداء بالكَسْر قبل الإدغام لازمُ له الابتداء بالإدغام قبل الكسر، وكلاهما إعلال أيضاً لغير مُوجِب، بل ليُتَوصَّل به إلى إعلال آخر يصح في قياس الصناعة، فإن قلب الواو ياء لا مُوجِب له إلا التوصَّل، كما أن قلب الضمة / كسرة لا مُوجب له إلا التوصَّل، فالإعلال للتوصل لا يَمنع منه مانعٌ لفظي، وإلَاّ كان 421 نقضاً للغرض، وإنما يكون مانعاً مع فرض بقاء اللفظ بعدُ على حاله، وذلك غير موجود في مسألتنا.

فإن كان الناظم قَصد قَلْب الضمة كسرة، والواوُ بعدُ لم تنقلب، فهو بناءٌ على طريقة الابتداء بتغيير أول المعتلَّين.

وعلى هذا الترتيب يكون قوله: ((فاكْسِرْه يَهُنْ (معناه اكْسِرْ ما قبل الواو الموجودة بَهُن الإدغامُ، فيكون ضمير ((يَهُنْ))) (2) عائدا على الإدغام المفهوم من قوله: ((وتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ والواوُ)).

وإنما يَسْهُل الإدغام بذلك، لأنك إذا قلبتَ الضمةَ كسرةً لم يصح للواو، وهي ساكنةٌ، استقرارُ بعدها، بل يجب قلبُها ياء، كواو (مِيزَان،

(1) يقال: عَبط الذبيحةَ، يَعْبِطها عَبْطا، واعتبَطها، إذا نحرها من غير داء ولا كسر، وهما سمينة فتيّة. ومات عَبْطةٌ، أي شاباً، وقيل: شاباً صحيحاً. هذا أصل المادة، والمراد هنا التغيير بدون سبب واضح. وقوله:((ممَّا)) معناه ((رُبَّما)) وهو منتشر في كتاب سيبويه.

(2)

ما بين القوسين ساقط من الأصل، و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.

ص: 203

ومِيَعاد) أصله (مِوْزَان، ومِوْعَاد) وإذا انقلبت حصل الإدغام لوجود شَرْطه، فهو لذلك سَهْل.

بخلاف ما إذا كان ما قبل الواو باقياً على ضَمَّة، فإن قلب الواو إذ ذاك فيه تَكَلُّفٌ في الصناعة، كما سيَذكره بُعَيْد هذا.

وإن كان قد قصد أن الكسر حصل بعد الإدغام، على ما تقدم- فشاذٌّ على الوجه الآخر في الإعلالين إذا وَرَدا، بأيَّهِما يُبْدأ؟ وهو البَدْء بآخرهما.

ووجهُه أن الأواخر أضعفُ من غيرها، فلذلك كثر الإعلال فيها دون الأوائل (1)، فكأنهم، على هذا الوجه، أرادوا الإدغام، فاجتملوا قلب الواو ياء، ليتوصَّلوا إلى ذلك، ثم ناسَبُوا بين الياء والحركة، بأن قلبوا الضمة كسرة ليهَوُنَ النطق، كما تقدم في تفسيره.

فإن قيل: فقد تحصَّل إذ في قوله: ((فاكسِرْهُ بَهُنْ)) تفسيران، كلاهما تعليلُ للكسر، أحدهما أن يكون المعنى: يَسْهُل النطق به مع الياء، وهو على طريقة البدء بآخر التَّغييرَيَنْ.

والثاني أن يكون المعنى: يَسْهُل الإدغام، أو التوصُّل إلى الإدغام، وهو على الطريقة الأخرى.

وهذان التعليلان غيرُ ما ذكره الناس، إذ العباره المعتادة في هذا أن يقال: وقُلٍبت الضمة كسرةٌ لتصحَّ الياء، يريدون أن الضمة لو بَقيت بعد قلب الواو ياءً لم يَسُغْ للياء أن تبقى على حالها، بل تصير إلى أصلها من الواو، للضمة قبلها، وذلك نقضَ للغرض.

فهذا تعليلهم، وهو مناسب. وما تقدم أمرٌ آخرُ غريب، فكان الأَوْلَى أن

(1) في الأصل، و (ت)((دون الأواخر)) وهو سهو من الناسخ، وما أثبته من (س).

ص: 204

يعلِّل بما قاله الناس.

فالجواب أن كلا التعليلَيْن صحيح في نفسه ومناسب، وغير خارج عما قاله الناس.

أما تسُهْيل النطق فهو الحِكْمة في صحة الياء إذا كُسر ما قبلها، أو قَلْبِها واوا إذا بقى على ضمه، فإنك إذا قلت:(زَيْدُىَّ) فضممت الدال بعد قلب واو الرفع ياء- كان ذلك ثقيلا، تطَّرِح العربُ التكلمَ بمثله، فلا بد من أحد أمرين:

إما أن لا تُراجع الأصل، فتقول:(زيْدُوى! ) لتَتنَاسب الواوُ والضمة، فيَسْهُل النطق بهما.

وإما أن تكَسْر ما قبل الياء لتتناسب الياء والكسرة فيسهل النطق بهما أيضا، إلا أن الأول يلزم منه الرجوع/ إلى ما فَرُّوا منه، من اجتماع الواو والياء وسَبْق إحداهما بالسكون، وهو 422 ثقيل في النطق، فلم يَبْقَ إلا الثاني.

فما عَلَّل به الناظم هو حِكْمةُ ما عَلَّل به الناس، والحكمة إذا كانت ظاهرةً منُضَبِطةً فالتعليلُ بها جائز حسبما أَصَّله أهلُ الأصول.

وإنما عَلَّل النحاة الكسرَ بتصحيح الياء بناءً على إحدى الطريقتين.

وأما تسهيل الإدغام فهو، وإن لمَ ينُصُّوا عليه على الخصوص، فهو في قوة المنصوص عليه، فإنه داخل تحت قاعدة ((الإعلالُ الذي يُتَّوصَّلُ به إلى إعلال آخر)) وأكثر النحاة لم يُفَرَّعوا في مسألتنا عليه، مع أنه صحيح في نفسه، وهو تعليل بالمَظِنَّة، والأول تعليلُ بالحكمة.

فإن قيل: فما رأى الناظم في اختيار إحدى الطريقتيْن؟

ص: 205

فالجواب أن مذهبه محتَمل، لا أقطعُ له على أحد الوجهين، ولعلهما معاً جائزان عنده، إلا أن الذي ختار ابنُ جني أن الأول هو الموافقُ لطريقة الملاطَفة والملاينة، وترِك العُنْف على اللفظ إلا تدريجا وَتأْنيساً، كما إذا قلت في (أجْرٍ) جمع (جَرْو) وأصله (أجْرُوٌ): إنهم قلبوا الضمة كسرةً أولا، لأنها أضعف، ثم تدَرَّجوا إلى قلب الواو ياءً لأجلها، فلم يقُدموا على الحرف الأقوى إلا بعد أن أَنَّسُوا بالإقدام على الحركة الضعيفة، ولو عكسوا لكان إقداماً على الأقوى من غير تدريج ولا تَأْنيس، فلم يكن موافقا للملاطفة. وعلى هذا يكون رأيه في مسألتنا البدءَ بقلب الضمة كسرة.

وقد نَصَّ على مثلها في كتاب ((الخصائص)) (1).

واعلم أني إنما تَتَبَعَّتُ هذا الموضع هنا، وكان اللائق به ((باب التَّصْريف)) لأن الناظم لم يتعرَّض للمسألة هنالك، وإنما ذكَر هناك قلبَ الواو ياء، وإدغامَ الياء في الياء، وتَرَك ذكرَ انقلاب الضمة مسرة، فأظنُّه إنما تَرك ذلك هنالك إحالةً على هذا الموضع. وسيأتي التَّنْبيه على ذلك إن شاء الله. فكان تَخْلِيصُ المسألةِ هنا بحسب ما أعطاه النَّظَرُ في كلامه أوْلَى.

ثم قال: ((وألفاً سَلِّمْ)) يعني أن الألف في آخر المعتلِّ بخلاف الياء والواو، فالحكم فيها أن تُبقيها على حالها دون إعلال أو قلب، كانت الألف للتَّثْنية أو لغيرها، ولا تَقْلِب ألف التَّثْنية هنا أصلا.

وأما ألف المقصور فعدمُ القلب وتركُها سالمةً هي اللغة المشهورة.

وجاء في المقصور خاصةً عن هذيل قلبُ الألف ياء وإدغامُها في الياء كالواو. وبَيَّن ذلك بقوله: ((وفي المقْصِورِ عَنْ هُذَيْلٍ ياء حَسنُ)) الضمير

(1) انظر: الجزء 2/ 470 ((باب في ملاطفة الصنعة)).

ص: 206

في ((أنقِلَابُها)) راجع إلى ألف المقصور، يَعني أن انقلاب الألف في المقصور ياء عند هُذَيْل حَسَنٌ، فتقول:(عَصَىَّ) في عَصَاىَ، و (هُدَىَّ) في: هُدَاىَ، وما أشبه ذلك قراءة عاصم الجَحْدري، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر البصري (1) - {فَمَنْ تَبِعّ هُدّىَّ} (2) و {إنَّهُ رَبَّي أَحْسَنَ مَثْوىَّ} (3)

/ و {قَاَل هِيَ عَصَىَّ} (4) ورُوِيت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

423

وكذلك قرأ ابن أبي إسحاق وابن أبي عَبْلة وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر (يَا بُشْرَىَّ هَذَا غُلَامٌ)(5) وقال أبو ذُؤَيْب الهُذَلي (6):

سَبَقُوا هَوَىَّ وأعْنَقُوا لِهَواهُم

فَتُخرِّمُوا ولِكُلِّ جِنْبٍ مَصْرَعُ

(1) البحر المحيط 1/ 169.

(2)

سورة البقرة/ الآية: 38.

(3)

سورة يوسف عليه السلام/ الآية: 23، وانظر: البحر المحيط 5/ 294.

(4)

سورة طه/ الآية 18، وانظر: البحر المحيط 6/ 234.

(5)

سورة يوسف عليه السلام/ الآية: 19، وانظر البحر المحيط 5/ 290.

(6)

المحتسب 1/ 76، وابن الشجري 1/ 281، وابن يعيش 3/ 33، والتصريح 2/ 61، والأشموني 2/ 282، والهمع 4/ 298، والدرر 2/ 68، والعيني 3/ 493، وديوان الهذليين 1/ 2، والبيت من قصيدة له، يرثي بنيه الخمسة الذين ماتوا جميعا في طاعون واحد. وأعنقوا: أسرعوا، من (العَنَق) بفتحتين، وهو نوع من السير السريع، أو تبع بعضهم بعضا في الموت وتخرموا: اخترمتهم المنية، واختطفتهم واحدا بعد واحد.

والضمير في قوله: ((سبقوا)) عائد على بنيه الذين ذكرهم في بيت سابق، وهو:

أَوْدَى بَنْيِ وأعْقَبوني حَسْرةٌ عند الرُّقادِ وعَبْرَةٌ لا تُقْلِعُ

ص: 207

وأنشد قُطْرب وغيرْه للمنَخَّل الَيشكُرى (1):

يُطَوِّفُ بِي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ

وَيْطعُنُ بالصُّمُلَّةِ في قَفَيَّا

فإن لم تَثْأرا لي مِنْ عِكَبٍّ

فلا أرْوَيْتُما أبداً صَدَيَّا

وقال أبو دُؤَاد (2):

وفَأَبْلُونَيِ بَليَّتُكُمْ لَعَليَّ

أصَالٍحكُمْ وأسْتَدرِجْ نَويَّا

وهُذيل: حَيٌّ من مُضَر، وهو هُذَيْل بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر، أخو خُزَيْمة ابن مُدرْكِة، أمهما هِنْدُ بنت وَبَرَة أخت كَلبْ بن وَبَرة.

وفي قوله: ((انْقلَابُها ياءً خَسَنٌ)) ما يُشْعر بأن هُذَيْلا لَا تلتزم قلب الألف مع ياء المتكلم، بل قد تَقْلب وقد لا تَقْلب، لقوله إن ذلك عندها حسن، ولم يقل: إنه واجب، وذلك مقتضى كلامه في ((التَّسْهيل)) إذ قال: وإن كان ألفاً لغير تَثْنيه

(1) الخصائص 1/ 177، والمحتسب 1/ 76، وابن يعيش 3/ 33، واللسان (عكب، حرر) وعكب: صاحب سجن النعمان بن المنذر. والصملَّة: الحربة. وصَدَىَّ: يريد صَدَاى. والصدى- في زعم الجاهلية- طائر يخرج من رأس القتيل، يسمونه (الهامة) لا يزال يصيح عند قبره، ويقول: اسقوني، حتة يؤخذ بثأره. وكانت المتجردة زوج النعمان تهوى المنخل، فرآها النعمان يوما وهي تلاعبه فدفع به إلى عكب صاحب سجنه، فقيده، وجعل يطعن في قفاه بالصملة.

(2)

الخصائص 1/ 176، 2/ 341، 424، وابن الشجري 1/ 280، والمغني 423، 477. واللسان (علل) وديوانه 350، وقبله: ألم تَر أنني جاورتُ كعباً وكان جوارُ بعض الناس غَيَّا

وقوله: ((فأبلوني)) من: أبلاه، إذا صنع به صنعا جميلا، والبلية: اسم منه وأستدرج: أرجع أدراجي حيث كنت. والنوى: الوجه الذي يقصده المسافر من قرب أو بعد. يقول: أحسنوا إلي، فإنكم إن أحسنتم فلعلى أصالحكم وأعود حيث كنت، جاراً لكم.

ص: 208

جاز في لغة هُذَيل القلبُ والإدغام (1)، ولم يقل: وجب ذلك.

وايضاً ففي قوله: ((حَسَن)) تنبيهُ على أن هذا القلب في لغة هُذَيْل ليس بقبيح ولا مختصٍّ بالشعر، بل هو مما يُسْتَحسن استعمالهُ في نظمها ونثرها، وهو تحرُّز حَسَن، غير أن في تخصيصه ذلك الحكم بهُذَيْل نظرا، فإن ابن جنِّي نَقل أن هذا القلب شهير في غير هُذَيْل، فليس بخاصٍّ بها وحدها (2).

ويدل على ذلك أن أبا دَؤاد قد قلب الألف حين قال (3):

* وأَسْتَدِرْجْ نَوَيَّا *

وهو ينتسب إلى إياد بن نزار أخى مُضر الذي تنتسب إليه هُذَيل، فلا يَثْبت اختصاصُ هُذَيل بذلك، فكلام الناظم مُعْتَرض إذاً.

والجواب من وجهين:

أحدهما أنا لا نسلِّم أن كلامه مُشعر بالاختصاص، وإنما فيه تصريح بأن ذلك الحكم منقول عن هُذَيْل، وليس فيه ما يعطى مفهوماً يقتضى أن غير هُذَيْل لا يفعلون ذلك إلا مفهوم اللَّقَب (4)، وهو غير ثابت. وإذا لم يُعط مفهوماً فلا إشعار في كلامه بالاختصاص.

والثاني أنا إن سلَّمنا أنه لم يَشْتهر به عنده غيرهم أو لعله لا يرى القلبَ عند غيرهم حسناً، ولا معمولاً به قياسا، فلذلك أشار إلى الاختصاص. والله أعلم.

و((ما)) من قوله: ((وإنْ ما قَبْلَ واوٍ)) مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعله، بفعل

(1) التسهيل: 162.

(2)

انظر: الخصائص 1/ 176، 177.

(3)

هو أبو دؤاد، وسبق البيت بتمامه.

(4)

مفهوم اللقب- عند الأصوليين- هو تخصيص اسم غير مشتق بحكم، كقولنا: محمد رسول الله، فإن هذا الحكم لا يقتضي أن غيره صلى الله عليه وسلم ليس برسول، وكذلك يقال في قول الناظم:((وفي المقصور عن هذيل انقلابُها ياء حسن)).

ص: 209

مضمر مبني، دلَّ عليه ((ضُمَّ)) الظاهر.

و((ألفاً)) مفعول ((سَلِّمْ)) و ((في المقصور)) متعلق بـ ((انقلابُها)) وهذا شذوذ، لأن ((انقلاب)) مصدر موصول، فلا يتقدم عليه ما في صلته، لكن يقال بجوازه في الضرورة مراعاةً لمن قال بجواز ذلك في نحو (وكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِيِنَ (1)) ونحو قول الشاعر (2):

/ أزَوْجِيَ هَذَا بالرَّحَى المُتَقَاعِسُ

424

و((عن هُذَيْل)) متعلق باسم فاعل حال من ((الانقلاب)) أي حالة كون الانقلاب عن هُذَيْل.

(1) سورة يوسف/ الآية: 20.

(2)

الخصائص 1/ 245، والمنصف 1/ 130، وشرح الحماسة للمرزوقي 696، واللسان (ردع) وينسب لنعيم بن الحارث السعدي، أو للهذلول بن كعب، وصدره:

تقولُ وصَكَّتْ صَدْرَها بيَميِنها

والمتقاعس: الذي يخرج صدره، ويدخل ظهره، وتلك صورة من يطحن بالرحى. وكان الشاعر قد عقد له النكاح على امرأة، ولم يدخل بها بعد، فمرت به نسوة وهو يطحن بالرحى لضيوف نزلوا به، فقال: أزوجي هذا؟ تعجباً واحتقاراً له. فقال هو الأبيات. ويروى ((أبَعْلَي َهذا)

ص: 210