الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إعمال المصدر
هذا الباب يَذكر فيع إعمالَ المصدر الموصول، وذلك أن المصدر على قسمين، عاملٍ وغير عامل.
فغير العامل هو ما جاء للتوكيد وما جرى مَجراه، نحو: ضربتُ ضَرْباً، وضربتُ ضَرْبةً، وضَرْبتْين، وقعَد القُرْفُصَاء، وما أشبه ذلك.
فهذا لا يعمل، لأن مدلوله الجنسُ، أو نوعٌ من أنواعه، أو فردٌ من أفراده، ولا دلالَة فيه على العلاج، فلا رائحةَ فعلٍ فيه. وقد تقدم حكم هذا القسم في ((باب المفعول المطلق)).
والعاملُ على ضربين: ضربُ يعمل عملَ فعله بالنيابة عنه، وذلك كالنائب عن فعل الأمر، نحو: ضَرْباً، أو غير فعل الأمر، نحو: أضَرْباً زيداً؟
* عَلَاقةً أُمَّ الولُيِد (1) *
وقد تقدم هذا الضرب أيضا.
وضربٌ يعمل لتقديره بالفعل مع حرف مَصْدَرِيٍّ، وهو الذي يسمى ((المصدر الموصول)) لأنه مقدَّر بحرف، وهو (أنْ) أو ما جرى مجراها.
فأخذ الآن يذكر أحكام هذا المصدر، فقال:
(1) جزء بيت للمرار الأسدي، وهو بتمامه:
أعَلاقَةً أمَّ الولُيِّد بعدما لأفنانُ رُأسِكَ كالثَّغَامِ المُخِلْسِ
والبيت من شواهد الكتاب 1/ 116، والمقتضب 2/ 54، وابن الشجري 2/ 242، وابن يعيش 8/ 131، 134، والمغني 311، والخزانة 11/ 232، والهمع 3/ 194، والدرر 1/ 176، واللسان (علق). والوليد: تصغير الولد. والتصغير هنا للتحبيب والأفنان: جمع فَنَن، وهو الغصن، وأفنان الرأس: خصل شعره. والثَّغام: نبت إذا يبس صار أبيض، أو نبت له نَوْر أبيض. والمخلس: ما اختلط فيه السواد بالبياض.
يصف كبر سنه، وأن الشيب قد جلل رأسه، فلا يليق به اللهو والصبا.
بِفِعْلِهِ المْصْدرَ في العَمَل
مُضَافاً أوْ مُجَرَّداً أوْ مَعَ أَلْ
إنْ كانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أو مَا يَحُلْ
مَحَلَّهُ ولاِسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ
يعني أن المصدر يُلْحَقُ بفعله الذي اشَتُقَّ منه في عمله مطلقا، من رفع أو نصب، وعمل في جميع المفعولات وما أشبهها، كما كان الفعل كذلك، لا يضعف (1) عن مرتبة فعله، وذلك قياس مُطَّرِد.
فيرفعُ الفاعلَ نحو: أعجبني قيامُ زيدٍ، وعَظُم نَفْعُ زيدٍ وحلمُه، وضَرَرُ عمروٍ وجَهْلُه.
واسمَ ((كان)) نحو: أعجبني كونُ عَدُوِّنا المقهورَ. وينصب المفعولَ نحو؛ أعجبني ضربُ زيدٍ عَمْراً، وإكرامُ أخيك عمراً.
وخبرَ ((كان)) نحو: أعجبني كونُ زيدٍ قائماً.
والظرفَ نحو: أعجبني قيامُ زيدٍ أمامكَ، وإكرامُ عمروٍ يومَ الجُمُعةِ.
والمفعولَ معه، ومن أجله نحو: أعجبني إتيانُ الَبرْدِ والطَّيَالِسَةَ، وأعجبني ضربُك زيداً تأديبا له.
والحالَ نحو: أعجبني قيامُ زيدٍ ضاحكاً. وما أشبه ذلك،
وأيضاً فيتعدَّى فعله، فتقول: مرُورُك بزيدٍ حَسَنٌ، وإعراضُك عن عمرو قبيحُ، ورغبتُك في الخير خيرٌ، وإكرامُك زيداً حَسَنٌ، وإعطأوُك زيداً درهماً جزاءٌ له، وعلمُك زيداً قائماً معروفٌ، وإعلامُك زيداً عماً أخاه غريبٌ، وأَمْرُك زيداً الخيرَ خيرٌ، ونحو ذلك.
وأيضاً لًمَّا قال: ((بفِعْلهِ المَصْدَرَ الحِقْ في العَمَلْ)) ولم يُقيَّد فعلاً من فعل - دَلَّ على أنه
…
/ يعمل عمل كل فِعْل، ماضياً كان أو حاضراً أو مستقبلاً، فتقول: أعجبني ضَرْبُ زيدٍ 425 عمراً أمسِ، ويعجبني ضربُ زيدٍ عمراً الآنَ أو غداً.
(1) في الأصل، و (ت)((يضعف)) بدون ((لا)) وهو سهو من الناسخ، وما أثبته من (س) هو الصواب.
بخلاف اسم الفاعل، فإنه لا يعمل إلا بمعنى الحال أو الاستقبال.
قال المؤلَّف: لأن المصدر أصل، والفعل فرعه، فلم يَتَقَيَّد عمله بزمان دون زمان، بل يعمل عملَ الماضي والحاضر والمستقبل، لكونه أصلَ كلِّ واحدٍ منها، بخلاف اسم الفاعل، لأنه عمل لشَبَهِه (1)، فتَقَيَّد عملهُ بما هو مشبهُه، وهو المضارع (2).
هذا ما قال، ولذلك يقدَّره بالماضي والمضارع، وإنما تعذَّر تقديرهُ بفعل الأَمْر، لأن الحروف المصدريَّة لا توصل بفعل الأمر، حسبما يذكر بحول الله.
فعلى هذا كلِّه احتوى قولهُ: ((بِفِعْلِه المَصْدَرَ أَلْحِقْ)).
و((المصدرَ)) منصوب بـ ((أَلْحِقْ)) وبه تعلَّق المجرورات معاً، وهما ((بِفِعْلِه، وفي الَعَمَلِ)) وضمير ((بِفِعْلِه)) عائد على ((المصدر)).
وإنَّما قيدَّ هذا الإلحاق بالعمل، لأن ذلك هو المقصود، إذْ ات يُلْحق به في غير العمل من الأحكام الجارية على الفعل، لأن الفعل والمصدر نوعان متباينان، هذا فعلٌ تَجْري عليه أحكامُ الأفعال، وهذا اسمُ تَجْري عليه أحكام الأسماء.
وأَوَّلُ ذلك أن الفعل يدل على زمان الفعل الواقع من الفاعل، ماضياً وحالاً ومستقلاً، والمصدر ليس كذلك.
والفعلُ مبنيٌّ لفاعله فلا يُستغنى عنه، والمصدر ليس كذلك.
والفعلُ لا يقع مبتدأً، ولا فاعلاً، ولا مفعولاً لم يُسَمَّ فاعلهُ، ولا مفعولاً يُسَمَّى فاعلهُ، ولا نحو ذلك، والمصدر بخلاف ذلك.
وبالجملة فهذا اسمٌ، وهذا فعلٌ، فلذلك قال:((في العَمَلِ)).
ثم قال: ((مُضافاً أو مُجَرَّداً أو مَعَ أَلْ))
(1) في شرح التسهيل للناظم ((للشبه)).
(2)
شرح التسهيل (ورقة 156 - أ) مع اختلاف يسير.
يريد أن هذا الحكم جارٍ على المصدر في جميع أحواله، من كَوْنه مضافاً، أو بالألف واللام، أو مجَّرداً منهما، أي إن إضافته أو دخولَ الألف واللام عليه، وإن كانا مما يَخْتَصُّ بالأسماء، لا يُؤَثِّران في عمله عملَ فعله، بل يبقى عملُه كالمجَّرد منهما، فكما لا يُؤَثَّر التنوينُ، وإن كان من خصائص الأسماء، كذلك لا تُؤَثَّر الإضافةُ ولا الألفُ والام.
إلا أنه في هذه الوجوه ليس على رُتْبةٍ واحدةٍ في العمل، بل على مراتبَ في الحُسْن والكثْرة، فعمله مضافاً أكثرُ من عمله غير مضاف. قال المؤلف: لأن الإضافة تَجْعل المضاف إليه كالجزء من المضاف، كما يَجْعل الإسنادُ الفاعلَ كالجزء من الفعل، وتَجْعل المضافَ كالفعل في عدم قبول التَّنْوين والألف واللام (1).
وعملُه منوَّناً أكثرُ من عمله بالألف واللام، فالترتيب في الحُسْن والكثرة على حَسَبَ ما رَتَّبه الناظم، فكأنه قصد بذلك التَّنْبيه.
وهذا ليس مُتَّفَقاً عليه فقد قيل: إن المنوَّن أقوى، ثم المضاف، ثم ذو الألف واللام. وإنما يعنون: أقوى في القياس. صَرَّح بذلك صاحب ((الإيضاح)) (2) لموافقته الفعلَ في التنكير.
والناظم اعتبر الكثرة، ولا شك أن المضاف أكثرُ في الإعمال من غيره فصار الخلاف/ 426 وفاقاً.
فمثال إعماله مضافاً قولُك: أعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، وإكرامُ بِشْرٍ خالداً.
ومنه في القرآن {ولَولَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ في الدُّنْيَا
(1) المصدر السابق (ورقة 157 - ب).
(2)
يعني أبا علي الفارسي رحمه الله، وانظر: الإيضاح: 160.
والآخِرَةِ (1)} وقوله: {فَاذْكُروا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أو أشَدَّ ذِكْرا (2)} وقالوا: سَمْعُ أُذُنِي زيداً يقولُ ذاك (3)، وأنشد سيبويه للَبِيد (4):
عَهْدِي بهِ الحَيَّ الجَمِيعَ وفيهِمُ
قبلَ التَّفَرُّقِ مَيْسِرٌ ونِدَامُ
وأنشد أيضا لرُؤْبَة بن العَجَّاج (5):
ورَأْيُ عَيْنَيَّ الْفَتَى أخَاكَا
يُعْطِي الجَزِيلَ فعليكَ ذَاكا
وهو كثير.
ومثال إعماله منوَّناً قولُك: أعجبني ضَرْبُ زيدٌ عمراً.
وفي القرآن الكريم {أوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبةٍ. يتيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (6)} وفي قراءة أبي بكر بن عاصم- {إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بزِينَةٍ الكَوَاكِب (7)} - أي بأَنْ زِنَّاهَا. يقال: زانَه وزَيَّنه.
(1) سورة النور/ الآية 14.
(2)
سورة البقرة/ الآية 200.
(3)
سيبويه 1/ 191.
(4)
الكتاب 1/ 190، وابن يعيش 6/ 62، وديوانه 288، واللسان (حضر) والجميع: المجتمعون. والميسر: اللعب بالقداح. والندام: إما جمع نديم، كظريف وظراف، أو ندمان، كغرثان وغراث. والنديم والندمان: الرجل الذي يرافقك ويشاربك.
(5)
الكتاب 1/ 191، والهمع 5/ 69، والدرر 2/ 124، وملحقات ديوانه 181 وقبله:
تقولُ بِنْتِي قد أَنَى إناكَا يا أبتَا عَلَّكَ أو عَساكَا
والجزيل: العطاء العظيم. ويروى ((الفتى أباكا)).
(6)
سورة البلد/ الآيتان 14، 15.
(7)
سورة الصافات/ الآية 6.
وانظر: السبعة 546، والنشر 2/ 356.
وقد يكون من ذلك قوله تعالى: {ويَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَالَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً من السَّموات والأَرْض شَيْئاً (1)} - أي مالا يملك لهم أن يرزقهم شيئا. وأنشد سيبويه (2):
فَلَوْلَا رجاءُ النَّصْرِ مِنْكَ ورَهْبَةٌ
عِقَابَكَ قَدْ صَارُوا لنا كَالمْوَارِدِ
وأنشد أيضا قول الآخر (3):
أَخَذْتُ بسَجْلِهمْ فَنَفَحْتُ فيِهِ
مُحَافَظَةً لَهُنَّ إخَا الذِّمامِ
وأنشد أيضا (4):
بِضَرْبٍ بالسُّيُوفِ رءوسَ قَوْمٍ
أَزَلْنَا هَامَهُنَّ عن الْمَقِيل
ومثال إعماله بالألف واللام قولك: أعجبني الضربُ زيداً، والإكرامُ عمراً،
(1) سورة النحل/ الآية 73، وقد مثل بها الفارسي في الإيضاح:155.
(2)
الكتاب 1/ 189، وابن يعيش 6/ 61، والدرر 1/ 66.
يقول: لولا رجاؤنا في أن تنصرنا عليه، ورهبتنا لعقابك لنا إن انتقمنا منهم بأيدينا-لوطئناهم وأذللناهم، كما تُوطأ الموارد، وهي الطرق إلى الماء. وخصَّها بالذكر لأنها أعمر الطرق، وأكثرها استعمالا.
(3)
الكتاب 1/ 189.
والسجل: الدَّلو المملوء ماء. ونفحت: أعطيت. والذمام: الحق والحرمة. وإخا الذمام: إخاء الذمام. ومعناه أنه عاملهن بمثل ما فعلن به محافظة على ما بينه وبينهم من عهد.
(4)
الكتاب 1/ 116، وابن يعيش 6/ 61، والأشموني 2/ 284، والعيني 3/ 499 والبيت للمرار بن منقذ. والهام: جمه هامة، وهي الرأس. والضمير المتصل به راجع إلى ((الرءوس)) وإضافة الشيءِ إلى نفسه إذا اختلف اللفظان جائزة للتوكيد كما في قوله تعالى ((حبل الوريد)) و ((حبَّ الحصيد)). والمقيل: مقيل الرأس، وهو العنق، وأصله مكان القيلولة وقت الظهيرة.
وأنشد سيبويه للمرار (1):
لَقَدْ عَلِمَتْ أُولَى المُغِيرةِ أَنَّنيِ
لَحِقْتُ فَلَمْ أَنْكُلْ عن الضَّرْب مِسْمَعَا
وأنشد أيضا (2):
ضَعِيفُ النَّكَايةِ أعْدَاءَهُ
يَخَالُ الفِرَار يُرَاخِي الأَجَلْ
وجعل الفارسيُّ من هذا القسم قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بالسُّوءِ من القَوْلِ إلَاّ مَنْ ظُلِمَ (3)} فـ (مَنْ) في موضع رفع بـ (الجَهْر) وهو حَسَن.
ونَبَّه بقوله: ((مُضَافاً اوْ مجَّرداً أو مَعَ أَلْ)) على خلاف من خالف في بعض هذه الأقسام، وهم الكوفيون، فوافقوا البصريين في المصدر المضاف أنه يرفع وينصب وخالفوا فيما عدا لك، فزعموا أن المجرد ينصب ولا يرفع، فيجوز
(1) الكتاب 1/ 193، والمقتضب 1/ 152، والجمل 136، وابن يعيش 6/ 64، والخزانة 8/ 129، والعيني 3/ 40، 105، والهمع 5/ 72، والدرر 2/ 125، والأشموني 2/ 100، 284. والبيت للمرار أو لمالك بن زغبة الباهلي. وأولى المغيرة: أولها. والمغيرة: الخيل تخرج للإغارة، والمراد فرسانها. والنكول: النكوص والرجوع جبنا وخوفا. مسمع: هو مسمع بن شيبان أحد بني قيس بن ثعلبة، وكان خرج مطالبا بدماء.
يقول: علم أول من لقيت من المغيرين أني صرفتهم عن وجوههم هازماً له، وأنني لحقت عميدهم فلم أتراجع عن ضربه بسيفي. ويروى ((كررت)).
(2)
الكتاب 1/ 192، والمنصف 3/ 71، والخزانة 1/ 127، وابن يعيش 6/ 59، والتصريح 2/ 63، والهمع 5/ 72، والدرر 2/ 52، والأشموني 2/ 284. والنكاية: مصدر: نكيت العدو، ونكيت فيه، إذا أثرت فيه. ويراخي الأجل: يباعده ويطيله. يهجو رجلا، ويصفه بأنه أضعف من أن ينال من اعدائه، وأنه جبان لا يثبت لقرنه، ويلجأ إلى الفرار يظنه يؤخر أجله.
(3)
سورة النساء/ الآية 148.
عندهم: أعجبني ضربٌ زيداً، ولا يجوز: أعجبني ضربٌ زيدٌ، ولا ضربٌ زيدٌ عمراً، وأن ذا الألف واللام لا يرفع ولا ينصب، فلا يقال: أعجبني الضربُ زيدٌ، ولا أعجبني الضربُ زيداً، ولا الضربُ زيدٌ عمراً. وما جاء مما يخالف ذلك فشاذّ ومؤوَّل، كما أن الذي جاء به السماع في المجرَّد إنما هو النصب وحده.
هكذا حَكى الخلافَ عن الكوفيين ابنُ ابي الرَّبِيع، وحكى الشَّلَوْبين عنهم أن المصدر لا يعمل إلا إذا كان منوَّناً، فإن كان مضافاً أو بالألف واللام لم يعمل شيئاً، وكان المنصوب بعدهما على إضمار فِعْل.
ومنهم من حكى الخلافَ في ذى الألف واللام وحده، وأنه عندهم غير عامل، ومِمَّن حكى هذا الأخير عن البغداديين ابنُ السرَّاج (1). قال الفارسي: ولم أرَهُ يَحكي عنهم في الإضافة شيئا، أعني في الإضافة إلى المعرفة. وذكر ابن عُصْفور عن الفراء في المجرَّد ما ذكره ابنُ الرَّبيع وعن قومٍ لم يعيِّنهم في ذي الألف/ واللام، ما ذكره غيرُه.
…
427
والذي تحقَّق من النقل وجودُ الخلاف في ذى الألف واللام. وغالبُ الظن صحةُ ما نقله ابن أبي الرَّبيع وابن عُصْفور. وما ذكره الشَّلَوْبين غريب. وإن صَحَّ ثَبت الخلاف في الأقسام الثلاثة. والأرجح ما رآه الناظم.
أما ((المضاف)) فهملهُ شهير جدا، وقد تقدم منه، وهو من الكثرة بحيث لا ينبغي أن يُنْكر قياسه.
وأما ((المنَّون)) فالسماع موافقٌ لما قال الكوفيون، إذ لا تكاد تجده رافعاً. ولكن القياس سائغٌ، إذ لا فرق في ذلك بين المضاف والمنوَّن، فإن
(1) انظر: كتاب الأصول في النحو 1/ 162.
كل واحدٍ منهما يَطْلب فاعلاً ومفعولاً من جهة المعنى، فَلْيَكُن كل واحدٍ منهما عاملاً فيما طلبه. وقد عمل المضاف في الفاعل فَلْيَعمل المنوَّنً فيه كذلك.
وأيضا فقد جاء الرفع في المنوَّن، فُحِكى: إعجبني قراءةٌ في الحمام القرآنُ، فـ (القرآن) قائم مقام الفاعل، وهما في الحكم سواء. وإذا كان كذلك ثَبتت صحةُ رفعه.
لا يقال: إن هذا نادر، والنادر لا يُعْتُّد به، لأنا نقول: إذا جاء السماع قليلا، وعَضَده القياس، ولم يعارضه معارض- وجب أن بكون أصلاً يُعَوَّل عليه. ألا ترى أن النسب إلى (فَعُولَة): فَعَلِىُّ، وهو عند سيبويه والنحويين قياس (1)، ولم يُسمع منه إلا (شَنَئَئٌّ) في شَنُوءة، لكنه جاء على القياس، لأن حمل (فَعُولة) على (فَعِيلَة) قياس، إذ ليس بينهما فرق إلا الواو والياء، وهما متقاربان، إذْ يقعان ردْفَيْن في القصيد الواحد (2)، ويُدغم أحدهما في الآخر، إلى غير ذلك من الأحكام.
فكذلك هذا الموضع. وقد تقدم ما يُستفاد منه هذا المعنى في باب ((الإضافة)) وأما ((ذو الألف واللام)) فعمله غير ممتنع وإن كان ضعيفا، لأن الألف واللام لا تمنعانه من العمل كما لا تمنعه الإضافة (3)، إذ كلاهما من خصائص الأسماء، وكذلك التنوينُ من خصائصها، فيلزم تقديرُ الفعل في الجميع، وذلك باطل باتفاق.
(1) الكتاب 3/ 345.
(2)
الرَّدف- في الشعر- حرف لين ومدّ يقع قبل الروى متصلاً به.
(3)
في الأصل، و (ت): تمنعانه من العمل كما تمنعه الإضافة)) وما أثبته من (س) وهو الصواب.
وأيضاً إن كان ما تقدَّم من السماع محتملاً فيه (1) تقديرُ الفعل فلا يصلح في كل موضع.
فقوله: ((ضَعِيفُ النِّكَايةِ أَعْدَاءَهُ (2))) معناه، على أن ((أعداءه)) معمول ((النِّكَاية)) لأنه أبلغ في الهجاء من أن يريد ضَعْفَ النكايةِ مطلقا. هكذا قالوا.
وكذلك قول الآخر (3):
لَحِقْتُ فًلْم أَنْكُلْ عن الضَّرْبِ مِسْمعَا
إن كان يؤوَّل على أن ((مِسْمَعاً)) معمول ((لَحِقْتُ)) فقد روى ((كَرَرْتُ)) ولا يصح أن يُحمل على حذف الجار؛ كانه قال: كررتُ على مِسْمع، إذ لا يصح الحمل على ذلك إلا لضرورة.
وتقدير الفعل في الموضعين خلافُ الظاهر. ورَدَّه المؤلف أيضا بأن النصب قد جاي فيما لا يمكن فيه تقدير الفعل، وذلك نحو قول كُثَيِّر عَزَّة (4):
(1) في الأصل، و (ت)((ففيه)) والصواب ما أثبته من (س).
(2)
عجزه:
* يَخالُ الفِرارَ يُراخِي الأجل *
وقد تقدم.
(3)
هو المرار الفقعسي، أو مالك بن زغبة الباهلي، وصدره
* لَقَدْ عَلِمتْ أولى المُغِيرةِ أَنَّني *
وقد تقدم.
(4)
شرح التسهيل للناظم (ورقة 157 - ب) وديوانه 173.
وعُنفوان الشيء: أوله، ويقال: هو في عنفوان شبابه، أي في نشاطه وحدته. والأشياع: جمع شيعة، وهم الأتباع والأنصار والصبابة: الشةق أو رقته. ويروى ((الضلالة)).
يقول: تلوم رجلا مازال في مطالع الشباب على أن يلهو ويتلذذ بالحياة مع أصحابه، مع أن ترك اللهو مع هؤلاء له وقت معين.
تَلُومُ امْرَاً في عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ
وللتَّرْك أَشْيَاعَ الصبَّابَ حينُ
ثم أتى بشاهد آخر نحو ذلك (1).
ولابن الطَّراوة هنا قول ثالث فيما فيه الألف واللام' فإنه جعله على وجهين:
أحدهما أن تكون الألف واللام معاقِبةً للإضافة، كقوله (2):
* فَلَمْ أَنْكُلْ عِنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا*
وقوله (3):
* ضَعِيفُ النَكايَةِ أعداءَهُ *
وما أشبه ذلك، فإن المعنى: عن ضَربْي مِسْمعاً، ونكايته أعداءَه، فحكم/
…
428 هذا حكم المضاف، لأن العرب تَحْكُم للمعاقِب بحكم المعاقَب.
(1) هو قول الآخر:
فإنكَ والتأبينً عُرْوَةَ بعدما دَعاكَ وأيدينا إليه شوارعُ
لَكالرَّجلِ الحادى وقد تَلَع الضُّحَى وطيرُ المنايَا حولهنَّ أَوَاقِعُ
والشعر في شرح التسهيل (ورقة 157 - ب) والعيني 3/ 524، والأشموني 2/ 284، وشرح الكافية الشافية 1014، وشرح ابن عقيل 2/ 184، واللسان (وقع).
والتأبين: مدح الرجل بعد موته وذكره بخير. وشوارع: جمع شارعة، وهي القريبة الدانية. والحادي: سائق الإبل. وتلع الضحى: ارتفع وانبسط. وأواقع/ جمع واقعة، وهمزت الواو الأولى. والضمير في ((حولهن)) يعود على الإبل. ويروى ((فوقهن)).
(2)
سبق الاستشهاد بالبيت، وصدره:
* لَقَدْ عَلِمتْ أوُلَى المُغيرةِ أَنَّنِي *
(3)
عجزه:
* يَخالُ الفِرارَ يُراخِى الأجَلْ *
وسبق الاستشهاد به.
وإن كان الألف واللام غيرَ معاقِبة للإضافة، وإنما هي لمجرد التعريف، لم تعمل شيئاً كما قاله الكوفيون.
والجواب أن المعاقبة للإضافة لم تَثْبت من أقسام الألف واللام. وما رُدَّ على الكوفيين به جارٍ هنا، فالأَوْلَى ما ذهب إليه الناظم، من صحة إعمال الأقسام الثلاثة.
ثم بَيَّن شرط هذا الإعمال المذكور فقال: ((أنْ كانَ فِعْلً مع أَنْ أوْ مَا يَحُلُّ مَحلَّهُ)).
اسم ((كان)) قوله: ((فِعْلٌ)) وخبرها ((يَحُلُّ محلَّه)) يعني أن ذلك الحكم لا يَثْبُت للمصدر إلا إذا صح أن يَقدَّر في موضعه فعلٌ مُصَاحِبُ لـ (أنْ) المخفَّفة المفتوحة، وهي الناصبة للمضارع، أو (ما) التي تجتمع معها في مُرَادَفة المصدر، وهما الحرفان المصدريَّان.
فإذا صح التقدير، ووقوعُ الفعل مع أحد الحرفين موقعَ ذلك المصدر- صحَّ عملُ المصدر عملَ ذلك الفعل.
فمثال (أن) مقدرَّةً مع الفعل قولُك: أعجبني ضربُ زيدٍ عمراً، فإن تقديره: أعجبني أن ضَربَ زيداً عمراً.
وكذلك: يعجبني ضربُ زيدٍ عمراً، على تقدير: أن يضربَ زيدٌ عمراً. وهذا المقدَّر يصحُّ التكلُّمُ به عوَضَ التكلم بالمصدر.
وفي القرآن {ولَوْلَا دَفْعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ ببَعْض لَفَسَدتِ الأَرْضُ (1)} - فَبِمَا نَقْضهِم ميثَاقَهُمْ وكُفْرِهْم بآياتِ اللهِ وقَتْلِهُم الأَنْبِياءَ (2)} إلى آخرها.
(1) سورة البقرة/ آية 251.
(2)
سورة النساء/ آية 155.
ومثال (ما) مقدَّرةً مع الفعل قولُك: أَكْرِمْ زيداً كإكرامِكَ عمراً، فالتقدير: كما أكرمتَ عمراً.
وفي القرآن الكريم: {فاذْكُرواُ الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أو أَشَدَّ ذِكْراً (1)} فلو كان المصدر لا يتقدَّر بالفعل مع أحد هذين الحرفين، ولا يصلح أن يَحُل معهما محلَّه- لم يَجُز أن يعمل عملَه مطلقا. وذلك المصدرُ المؤكِّد، والمبيَّن. إذ لا يصح إذا قلت: ضربتُه ضَرْباً بـ (أن ضربتُ) ولا (ما ضربتُ). وكذلك إذا قلت: ضربتُه ضربَتَيْنِ- لا يصلح في موضعه (أن) والفعل، ولا (ما) والفعل.
وكذلك قولك: مررتُ به فإذا له صَوْتٌ صَوْتَ حمارٍ- لا يصح أن ينتَصب ((صوتَ حمار)) بـ ((صوتً)) الأول، إذ ليس معناه: فإذا له يُصَوَّتَ. وإنما المعنى: فإذا له تَصْويت، أي هذا الفعل المذكور، فانتصب ((صوتَ حمارٍ)) على فِعْل من معنى ((له صَوْتٌ)) لا من لفظ ((صًوْت))، وبينهما فرق.
فأما إذا كان المصدر يصلح أن يحل محلَّه الفعل، لكنه لا يصلح أن يقدَّر معه (أن) ولا (ما) فقد مَرَّ من كلامه أنه يَعمل مطلقا عملَ فعله، لكن بالنِّيابة لا بنفسه، بخلافه هنا، كقولك: ضرباً زيداً، وأضرباً أخاك؟ وما كان نحو ذلك (2).
وفي هذا الكلام إشارة إلى أن هذا المصدر هو العمل في المعمولات بعده، وليس الفعل هو العامل. وهذا كأنه مُتفَق عليه، بخلاف نحو: ضَرْباً زيداً، وسَقْياً لزيدٍ، وما أشبهها، فإنه مُخْتَلف فيه. وقد تقدم بيان ذلك في ((باب
(1) سورة البقرة/ آية 200.
(2)
مثل: سَقياً لزيدٍ، ورَعْياً له.
المفعول المطلق))
ويرد على الناظم هنا سؤال من أوجه أربعة:
أحدها أن قوله: ((بِفِعْلِه المَصْدرَ ألْحقْ في الْعَمَل)) يُبِيِّن أن المصدر لابد له من مرفوع، كما أن الفعل لابد له منه، إذ لا يَسْتَغنى الفعل/ عنه ظاهراً أو مضمراً، فكذلك يكون
…
429 المصدر هنا بحكم هذا الإطلاق، لكن ذلك غيرُ مستقيم، فإنك تقول: أعجبني ضربً زيداً، ولا تذكر فاعلاً ولا تَنْويه، وليس تَم مَنْوِيٌّ، لأنه لا يؤكَّد، ولا يُبْدَل منه، ولا يُعطف عليه، كما يكون ذلك في الفعل واسم الفاعل وغيرها.
وأيضاً فإن الفعل يَطلب الفاعلَ من جهة بنائه له، وكذلك اسم الفاعل ونحوه. بخلاف المصدر، فإنه لم يُبْن للفاعل، نعم هو يَطْلبه من جهة اللزوم المعنوي، وأن كل حَدَثٍ، كالفعل الذي لم يُسَمَّ فاعله.
وأيضاً فإن الفعل لو ذُكر دون مرفوع لكان حديثاً عن غير محدَّث عنه. وكذا ما يعمل عملَه من صفة أو غيرها، فإنه لا يعمل إلا هو بنفسه واقعٌ موقع الفعل، ومُؤَدٍّ معناه، فاستَحق ما يستحقُّه الفعل، من مرفوع محدَّث عنه ظاهراً أو مضمراً، فلو خَلَا منه لكان في تقدير فعل خلا من مرفوع، وليس كذلك المصدر، لأنه إذا عمل العملَ المنسوب إليه لم يكن إلا في موضعٍ غيرِ صالحٍ للفعل، فجرى مَجرى الأسماء الجامدة في عدم تحمُّل الضمير. وجاز أن يَرفع ظاهراً لكونه أصلاً لما لا يَسْتَغنى عن مرفوع.
_________
ولم يَرْتَضِ في ((التسهيل (1))) إلا أنه لا يلزم ذكر المرفوع، وهو الصواب، خلافَ ما اقتضاه ظاهرُ هذا الإطلاق.
والجواب عن هذا بأمرين:
أحدهما أن يقال: لعله ذهب إلى القول بلزوم ذلك، ولا نُكْر في اختلاف قوله هنا وفي ((التسهيل)) إذ قد يَرى في وقتِ ما لا يراه في وقت آخر، بحسب اختلاف اجتهاده، لأنه من أهل الاجتهاد، ويكون وجهُ قوله أنَّ المصدر نائبٌ (2) عما لا له من فاعل، فلابد فيه من تقدير فاعل إن لم يكن ظاهرا.
والثاني أن كلامه قد لا يلزم منه ذلك، لأنه إنما نَصَّ على أن المصدر عند عمله عملَ فعله، وذلك قوله:((بِفِعْلِه المصدرَ ألْحِقْ في العَمَل)) أي إذا عمل فعلى منْهاج فِعْلِه، ولا يلزم من ذلك أن يَنْحتم عليه جميعُ أنواع عمله، بحيث أن إذا أُعْمِل أُعمْل في كل ما يَعمل فيه الفعل، وطَلَب كلَّ ما يطلبه لزوماً أو جوازا.
وأيضا ففي قوله: ((وبَعْدَ جَرِّهِ الَّذيِ أُضيِفَ لَهُ كِمِّلْ عَملَه بكذا)) ما يدلُّ على هذا، إذ مرادُه: كَمِّل عملَه بذلك إن أردتَ ذلك، والإلزم ألَاّ يصح حذفُ منصوبه. وذلك غير صحيح. وعلى الجملة فالسؤال قوي.
والثاني أنه أطلق القول في إعمال المصدر، ولم يَشترط إلا التقدير بـ (أن) أو (ما) والفعل، ونحن نجده لا يعمل ذلك العمل إلا بشروط أربعة سوى ما ذَكر:
أحدها ألاُّ يُضْمر المصدر، لأنه إنما يعمل إذا كان باقياً بصيغته الأصلية، وهو، إذا أُضمر، مُبَايِنٌ لها، فلا يعمل مضمرا، فلا يقال: مُرورُك بزيدٍ حَسَنٌ،
(1) ص: 142.
(2)
المصدر المؤوّل من (أن) واسمها وخبرها في هذه العبارة خبر قوله ((يكون)) واسمها قوله: ((وجهُ قوله)).
وهو بعمروٍ قبيحً، فيتعَلَّق المجرور بـ (هو).
ولا: ضَرْبُك زيداً حَسَنٌ، وهو عمراً قبيحٌ. وقد شَذَّ من هذا قولُ زُهَيْر بن أبي سُلْمى (1):
ومَا الْحَرْبُ إلَاّ مَا عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ
ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
أي: وما الحديثُ عنها. أو: ما العلُم/ عنهما، كما تقدَّم عن الأعلم. 430
فـ ((عنها)) متعلِّق ب ((هو)) على ذلك المعنى، ولا مُعْتَبر بالشُّذُوذات.
والثاني ألا يكون المصدر مُصَغَّرا، فلذلك للمصدر بالصِّغَر، فهو في معنى وَصْفه قبل العمل.
ومن شرطه أيضا إلَاّ يُوصَف قبل العمل، وهو الثالث، لأن الوصف يُمَحِّضُه إلى جهة الاسمية، كما كان ذلك في ((اسم الفاعل)).
وأيضاً فإن معمول المصدر منه بمنزلة الصِّلة من الموصول، فلا يتقدَّم نعتُ المصدر على معموله، كما لا يتقدَّم نعتُ الموصول على صلته، فلا يجوز أن تقول: ضَرْبُكَ الشديُد زيداً حَسَنٌ، ولا: عرفتُ سَوْقَكَ الحثيثَ الإبلَ.
(1) من معلقته، وانظر: الخزانة 8/ 119، والهمع 5/ 66، والدرر 2/ 122، وذقتم: جَرَّبتم، وأصل ((الذوق)) في المطعوم، واستعير هنا للتجربة. والمرجم: الذي يرجَّم بالظنون، أي يُرمى فيه بها. والترجيمُ والرجم: الظن.
يخاطب قبيلة ذبيان وأحلافهم من أسد وغطفان، ويحرضهم على الصلح مع بني عمهم بني عبس، ويقول لهم: ليس الحرب إلا ما عهدتموها وجربتموها، ومارستم كراهتها، وما هذا الذي أقوله بحديث مظنون، بل هو ما شهدت به الشواهد الصادقة من التجارب.
وكل ما جاء مما ظاهُره هذا فمؤوَّل.
والواجب أن يقال: ضَرْبُك زيداً الشديدُ حَسَنٌ، وعرفتُ سوقَكَ الإبلَ الحثيثَ. ومنه ما أنشد في ((الشَّرح)) من قوله (1):
إنَّ وَجْدِي بِكِ الشَّدِيدَ أراني
عَاذِراً مَنْ عَهِدْتُ فِيكِ عَذُولَا
والرابع ألا يكون محدوداً بالتاء قَصْداً للمَّرة الواحدة، فلا تقول: أعجبتني ضَرْبتُكَ زيداً، لأنه مُغَيَّر عن الصيغة التي اشْتُقَّ عليها الفعل، فلم يكن دالاً على معنى الفعل بتمامه، ولا الصيغةُ التي اشْتُق منها الفعل باقية. فإن رُوى ما عَمِلَ محدوداً فشاذٌ يُحفظ، كقول كثير عزة (2):
وأَجْمَعُ هِجْراناً لأَسْمَاءَ إنْ دَنَتْ
بِهَا الدَّارُ لَا مِنْ زَهْدَةٍ في وصَالِهَا
فو كانت التاء في أصل بناء المصدر لم يَضُر، نحو (3):
فَلَوْلَا رَجَاءُ النَّضْرِ مِنْكَ ورَهْبةٌ عِقَابُك
…
فإذا تقرَّر هذا، وأنَّ هذه الشروط مُعْتَبرةٌ في العمل- فإطلاقُ الناظم القولَ بالعمل غيرَ مقيَّدٍ بها يَقتضي أنه يعمل قياساً عمل فِعْله، مضمراً
(1) شرح التسهيل (ورقة 156 - ب) والتصريح 2/ 27، والهمع 5/ 70، والدرر 2/ 124، وابن الشجري 2/ 143، والعيني 3/ 366.
والوَجد: الحب. والعَذُول: اللائم.
(2)
شرح التسهيل (ورقة 156 - أ) وديوانه 92.
والزهدة كالزهد: الإعراض عن الشيءِ لقلة الرغبة فيه.
(3)
سبق الاستشهاد بالبيت، وهو بتمامة:
فَلْولَا رَجَاءُ النصرِ مِنْكَ ورَهْبَةٌ عِقابَكَ قد صَارُو النَا كالموارِدِ
ومصغَّرا، وموصوفاً قبل العمل، ومحدوداً بالتاء، وذلك إخلال كثير، إلا أن يقال: إنه اعتَبر الشُّذُوذاتِ في مخالفة تلك الشروط، فأجرى القياسَ فيها، وذلك غير مستقيم أيضا.
والجواب عن ذلك بأن الناظم غيرُ محتاجٍ إلى اشتراط شيءٍ مما ذُكِر، زائدٍ على ما شَرط، وهو أن يكون دالاً على معنى (أن) والفعل، فإنه الذي تَضَمَّن ما زاد، لأن شرطاً منها إذا فُقد لم يَبْقَ المصدر دالاً على معنى (أن) والفعل، أو (ما) والفعل.
أما ضمير المصدر فهو دالٌ على نفس المصدر الذي عاد عليه، فالذي يَحَلُّ محلَّه هو المصدر، لا أن، والفعل، ولذلك امتنع عمله. إذ لو دَلَّ على عَيْن (1) ما دَلَّ عليه المصدرُ لعمل عمله قَطْعا، فلم يوجد فيه ما شَرط الناظم.
وأيضا فهنا زيادةُ تُخْرج الضمير، وهي أن ضمير المصدر لا يسمى مصدراً حقيقة، كما لا يسمى ضميرُ اسم الجنس [اسمَ جنس](2) ولا ضميرُ العلم علماً، فإن أطُلق على ضمير المصدر مَصْدَرً فمَجاز، وعلى غير الاصطلاح، وإنما قال الناظم:((بِفْعِلِه الْمَصْدرَ أَلْحقْ في العَمَلْ)) فلا يَدْخل له إلا ما هو مصدرٌ حقيقةً، وإلا فلو كان قَصْده ما يُطلق عليه مصدرُ حقيقةً أو مجازاً- لكان ((اسم المصدر)) أَوْلَى بالدخول، لأنه قد تَضَمَّن حروفَ الفعل، كما تضمن معناه في الجملة، فأشبه الحقيقيَّ، وكان لا يَحتاج إلى النصِّ عليه بقوله:((ولاِسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلٌ)) فلما خرج ((اسم المصدر)) بقوله: ((بِفِعْلِه المَصْدَرَ أَلْحِقْ)) كان خروج ضمير المصدر أَوْلَى.
(1) في الأصل، و (ت)((غير)) وهو تحريف، وما أثبته من (س) وحاشية الأصل.
(2)
ما بين القوسين ساقط من الأصل، و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.
وأما المصغَّر فإنما التصغيرُ له وصفٌ في الحقيقة للمصدر، لأنك إذا قلت: ضُرَيبٌ- فمعناه: ضَرْبٌ / يَسيِر، أو ضَرْبٌ خَفيف.
…
431
والوصف إنما يكون وصفاً للجنس، فإذا قلت: ضَرْبٌ يسير- فالقَصْد وصفُ جنس الضرب، فأخرجتَ المصدَر عن قَصْد الفعل، فصار كالمؤكِّد إذا قلت (1): ضربتُ ضرباً يسيراً، ولذلك قالوا: إن التَّصغير في اسم الفاعل والوصف يُزِيلان شَبَه الفعل، لأنهما من خصائص الأسماء، وهو إشارة إلى هذا المعنى.
وكذلك المحدودُ بالتاء القصدُ بتحديده راجعٌ إلى قَصْد الجنس فيه، لأنه عَدٌّ لأفراده، كأنك قلت: ضَرْبَةً واحدةً، فصار كضَرْبتَيْنِ وضَرَباتٍ، فرجع إلى المصدر المبيِّن للعدد.
وقد تقدم أن المصدر المؤكِّد والمبيِّن للنوع أو للعَدَد لا يَعمل، لأنه لا يصلح في موضعه (أَنْ) والفعل، ولا (ما) والفعل.
فخرج إذاً المضمرُ والمصغَّرُ والموصوفُ والمحدودُ بالتاء باشتراط الناظم أن يكون فِعلٌ مع (أن) أو (ما) يحلُّ محلُّه على أبلغ معنى في فِقْه العربية (2)، فصار كلامه هنا- على اختصاره-مُحصِّلا لما قَصَد في ((التسهيل)) تحصيلَه على طولُ، إذ قال هنالك: يعمل المصدر مُظْهَرا مُكَبَّرا غيرَ محدودٍ ولا منعوتٍ قبل تمامه عملَ فِعْله (1))) إلى آخره. وقليلاً
(1) من هنا إلى قوله: ((إذا لم يشترط في العمل إلا تقدير المصدر)) ساقط من (س).
(2)
في الأصل ((في هذه العربية)) وفي (ت)((في فقد العربية)) ولا معنى له، وما أثبته من حاشية الأصل. وأرى أنه هو الصواب.
ما ترى النحويِّين يشترطون هذه الشروط لهذا المعنى.
والثالث أنه قال: ((إنْ كان فِعْلٌ مع أَنْ أوْ مَا)) ولم يزد على ذلك. وهو ناقص، إذ ليس كل مصدر يقدَّر بالفعل مع أحد الحرفين فقط، بل ثَمَّ ما يقدَّر به دونهما، وذلك (أنْ) المخفَّفة من الثقيلة، فإن المصدر يقدَّر بها بعد ((العِلْم)) وبالجملة حيث تقع (أنْ) هذه المخفَّفة، كقول الشاعر، أنشده في ((الشَّرْح (2))):
عَلِمْتُ بَسْطَكَ للمَعْروفِ خيَر يَدٍ
فلا أَرىَ فِيكَ إلَاّ باسطاً أَمَلَا
فالتقدير: علمت أنْ قد بَسَطْتَ للمعروف خيَر يدٍ. ولا يصلح هنا تقدير (أن) الناصبة للمضارع. وأنشد أيضا (3):
لَوْ عَلِمَتْ إيثَارِيَ الذي هَوَتْ
ما كنتُ مِنْهَا مُشْفِياً على الْفَلَتْ
التقدير: لو علمت أن أوُثَر الذين هَوَتْ. فهذا لا يصح فيه تقدير الناصبة للمضارع أيضا.
فكان من حقه أن يأتي بـ (أَنْ) هذه، لكنه لم يفعل، فكان معترضاً عليه.
(1) ص: 142.
(2)
شرح التسهيل للناظم (ورقة 156 - ب) والهمع 5/ 68، والدرر 2/ 123 ويروى ((بالعروف)) والمعروف: الصنيعة يسديها المرء إلى غيره. ويقال: بسط يده بالمعروف، إذا مَدَّها به.
(3)
شرح التسهيل (ورقة 156 - ب) والهمع 5/ 68، والدرر 2/ 123.
ومشفيا: مشرفا، يقال: أشفى على الشيءِ، وأشفى على الهلاك، إذا أشرف عليه. والفلت: الهلاك. وقد حُرِّف الثاني في الهمع ((المحقق)) والدرر تحريفاً شنيعاً.
والجواب بأمرين:
أحدهما أن تقدير المصدر بـ (أنْ) هذه قليل، لا يكثر كثرةَ (أنْ، وما) والغالب أن تؤتى بعد أفعال ((العِلْم)) بـ (أنْ) المخفَّفة والفعل، أو بـ (أنْ) الداخلة على الجملة الابتدائية، فقولهم: علمتُ أنَّك تقومُ، وعلمتُ أنْ سوف تقومُ، أو ألَاّ تقومُ-أشهرُ في الاستعمال من قولهم: علمتُ قيامَك، ونحوه- وإذا كان كذلك لم يَنْهض بالقليل اعتراضٌ.
والثاني أن التقدير بـ (ما) سائغ هنالك، فتقدَّر: علمتُ ما قمتَ، كما تقول: علمتُ ما صنعتَ، وعلمتُ صُنْعَك، فقد يمكن أن يكون استَغْنى عن تقدير (أنْ) المخفَّفة بتقدير (ما) وإذا صح التقدير بـ (ما) كام ما عداه زيادة.
فإن قلت: فكان من حَقِّه إذ قَصد الإتيان بما يُحتاج إليه من الحروف المصدرية من غير زيادة أن يأتي بأحد الحرفين دون الآخر.
فالجواب أن إتيانه بهما معاً ضروري/ لأن زمان الفعل الذي يُقَدِّر المصدرية قد يكون
…
432 ماضياً وحالاً ومستقبلاً.
أما الماضي فيصحُّ تقديرهُ بـ (أنْ) وبـ (ما) مع الفعل. وأما الحال فلا يقدَّر بـ (أنْ) بل بـ (ما)؛ لأن (أنْ) لا تُخَلِّص المضارع للاستقبال.
وأما المستقبل فلا يقدَّر بـ (ما) بل بـ (أنْ)؛ لأن (ما) مختصة بالحال، إذا دخلت على المضارع خَلَّصته له، فإذاً لابد من تقدير الفعل بما يَليق بزمانه، ولا يكون ذلك في الأزمنة الثلاثة إلا مع عَدِّ (أنْ) و (ما) معاً. بخلاف المخفَّفة من الثقيلة، فإن التقدير بها غير مضطرا إليه. وهذا أيضا من مقاصد هذا النظم الحِسَانِ التي قَلَّمَا يُتفَطَّن لها. والله أعلم.
والرابع أنه قيَّد عمل المصدر بصحة حلول الحرف مع الفعل محلَّه،
_________
فاقتضى مفهومُ هذا الشرط أن التقدير المذكور إن تعذَّر لم يَعمل المصدرُ هذا العمل. وليس كذلك، بل قد يتعذَّر هذا التقدير مع صِحَّة العمل. قال في ((الشرح)) بعد ما بَيَّن التقدير بالأحرف الثلاثة: وليس تقدير المصدر العامل بأحد الأحرف الثلاثة شرطاً في عمله، ولكن الغالب أن يكون كذلك (1).
قال (2): ومن وقوعه غيرَ مقدَر بأحدها قولُ العرب: سَمْعُ أُذُنِي زيدا يقول ذلك (3). وقول إعرابي: اللهم إنَّ استِغْفَارِي إيَّاك مع كَثْرة ذنوبي لَلُؤْمٌ، وإن تَرْكيَ الاستغفارَ مع علمي بسَعة عفوكَ لَعَجْزً (4)، وقولُ الشاعر (5):
عَهْدِي بِهِ الحيَّ الجِمَيعَ وفيِهِمُ
قَبْلَ التَّفَرُّقِ مَيْسِرٌ ونِدَامُ
وقول الراجز (6):
ورَأْيُ عَيْنَيَّ الْفَتَى أبَاكَا
يُعْطِي الجَزيل فَعَلَيْكَ ذَاكَا
وقول الآخر (7):
(1) شرح التسهيل (ورقة 156 - ب).
(2)
المرجع السابق (ورقة 156 - ب).
(3)
من شواهد سيبويه في الكتاب 1/ 191.
(4)
في شرح التسهيل ((لَعِىٌّ)) والعى: العجز عن أداء الكلام، وضد الإبانة فيه.
(5)
سبق الاستشهاد بالبيت، وهو للبيد.
(6)
الرجز لروبة. وسبق الاستشهاد به.
(7)
شرح التسهيل (ورقة 156 - ب).
لا رَغْبَةً عَمَّا رَغِبْتِ فيهِ
مِنِّيَ فَانُقُصِيهِ أوْ زِدِيهِ
ومن أمثلة سيبويه: مَتَى ظنُّكَ زيداً أميراً. وذكر سيبويه في ((باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع (1))) عجبت من ضَرْبٍ زيدٌ عمراً، إذا كان هو الفاعل. ثم قال: كأنه قال: عجبت من أنه يضربُ زيدٌ عمراً.
ولم يقدَّره في الباب بغير (إنَّ) الثقيلة.
قال المؤلف: وإذا ثبت أن إعمال المصدر غيرُ مشروط بتقدير حرف مصدريٍّ أمكن الاستغناءُ عن إضمارٍ في نحو قوله: له صوتٌ صوتَ حمارٍ (2). وما قاله ظاهر، وليس ما حَكَى بقليل، بل هو أبوابٌ مستقلَّة متعدِّدة، كلُّها لا يصح فيه تقدير (أنْ) أو (ما) مع الفعل في موضع المصدر.
أحدها: باب ((ضَرْبِي زيداً قائماً)) فإن ((ضَرْبِي)) عامل عملَ فعله مطلقا، مع أنه لا يصح في موضعه تقدير الحرف مع الفعل.
والثاني: باب ((إنَّ)) إذا دخلت على المصدر العامل)) نحو: إنَّ إكرامَك زيدا لَحَسَنٌ، و [إن](3) إعراضَك عنه لَقَبِيحٌ.
والثالث: باب ((لا)) إذا قلت: لا إعراضاً عن أحدٍ عندي، ولا ضَرْباً أحدا من شأني.
والرابع: باب ((متى ظَنُّكَ زيداً قائماً)).
فجميع هذه الأبواب لا يصح فيها تقديرُ الناظم مع صحة عمل المصدر
(1) الكتاب 1/ 189.
(2)
شرح التسهيل (ورقة 156 - ب).
(3)
ما بين الحاصرتين زيادة يستقيم بها التمثيل، وليست في جميع النسخ.
عمل فعله، كالمقدَّر بالحرف والفعل.
ومن ذلك أيضا باب ((كان)) كقولك: كان إكرامي زيدً حسناً. وباب ((ما)) نحو: ما إكرامي زيداً/ مفقودً.
…
433
وإلى ذلك فإن سيبويه لم يلتزم التقدير بواحدٍ من الحرفين، بل قَدَّر بـ (أنَّ) الثقيلة، فصار دليلاً على اطِّراح الحرفين عن حكم الضرورة التي ادُّعَيِتْ أولا، فإذاً اشتراطُ الناظم إخلال.
والجواب أن ما قال الناظم صحيح، ولا يَلزم ما اعتُرِض به. أما باب ((كان)) و ((إنَّ)) و ((لا)) فتقدير (أَنْ) والفعل سائغ في الأصل.
والدليل على ذلك أنك إذا أزلتها صح التقدير، لكن العرب التَزمت ألَاّ تُولي الحرفَ المصدري هذه العوامل، كما لا تُوليها (أنَّ) الثقيلة، فكما لا تقول: كان أنَّكَ قائمٌ حسناً، كذلك لا تقول: كان أنْ قمتَ، أو أنْ تقومَ حسنٌ، ولا أنَّ أَنْ تقومَ حسنٌ، ولا ما أشبه ذلك. فإن أردت ذلك أخَّرْتَ الحرف المصدري فقلت: كان حسناً أن تقومَ، أو إنَّ عندي أن تقومَ، كما تقول: كان عندي أنَّكَ قائمٌ، أو كان حسناً أنَّكَ قائمٌ.
ونظير ذلك في قولهم في (رَأَيْتُ) أنشد سيبويه لابن حَسَّان (1):
إنِي رأَيْتُ من المَكَارِمِ حَسْبُكُمْ
أنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وتَشْبَعُوا
ولو قال: إني رأيتُ أن تَلْبَسوا حَسْبُكم لم يجز، بخلاف ما إذا أتى بالمصدر.
فالحاصل أن مانع الموضع عَرَضَ في هذه المسائل، فلم يصح
(1) هذه الكلمة ساقطة من الأصل، و (ت) ومستدركة على حاشية الأصل. ينظر: الكتاب 3/ 153، الهمع 4/ 92.
النطقُ بـ (أنْ) و (الفعل) والتقديرُ الصِّناعي لا مانع له، فصدَق عليه أن هذا المصدر في هذه المواضع يصح أن يحل محلَّه الفعلُ مع الحرف.
وأما المصدر في نحو (ضَرْبِي زيداً قائماً) فالقول فيه على نحو ما قيل فيما تقدم، وذلك أن العرب التزمت في هذا النحو رَفْضَ (أنْ) والفعل، فلا يُتكلَم بذلك مع التزام حذف الخبر.
فلو أظهرت الخبر رجع إلى أصله، وجاز أن تقول: أنْ أضربَ زيداً قائماً حسنٌ، وأن تقول: ضَرْبِي زيداً قائماً حسنٌ، وفي القرآن:{وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (1)} .
وإذا كان امتناع النطق به لعارض فلا مانع من التقدير الصناعي، وأن نَدَّعي أن المصدر في محل (أنْ) والفعل تقديراً لا يُنطق به، ويَصْدُق عليه أنَّ (أنْ) والفعل يَحُلان محلِّه لفظاً أو تقديراً.
ونظير هذا الموضع من كلامِه قوله في باب ((إنَ)):
وكسْرَ إنَّ افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ مَسَدِّهَا .....
مع أن (لوْ) تُفْتح بعدها لزوما، ولا يصح أن يسد المصدرُ مسدَّها فتقول: لو أنَّكَ قمتَ لَقَامَ زيدٌ، ولا تقول: لو قيامُك ثابتٌ لكان كذا.
ومَضَى الاعتذار عنه بما هو مذكور هنالك، وهو هذا المعنى بعينه، فشَرْطُ الناظم صحيح.
وأما (متى ظَنُّكَ زيداً قائماً) فمن المصادر النائبة عن الأفعال، لأن
(1) سورة البقرة/ آية 184.
التقدير: متى ظَنَنْتَ زيداً قائماً. فهو باب آخر، لا من هذا الباب، فيخرج عنه بقوله:((إنْ كانَ فِعْلٌ معَ أَنْ)) إلى آخره. كما خرج عنه بابُ ((ضَرْباً زيداً)) وأما تقدير سيبويه في (عجبتُ من ضَرْبٍ زيدٌ عمراً (1)) فيمكن أن يكون تفسيرَ معنى، لا تقديرَ إعراب، كما قَدَّر/ في قوله: 434
من لَدُ شَوْلاً (2)
من لدُ أنْ كانتْ شَوْلاً. وهو تقدير لا يصح عند جماعة.
وكما قال في ((أهْلَكَ واللَّيْلَ)) إن معناه: الْحَقْ أهلَك قبلَ اللَّيْلِ (3). وليس هذا تقديرَه اللفظي.
وكما يقال: إن قولك: ((انتَ وشَأْنُكَ)) (4) في تقدير: أنتَ مع شَأْنِك. فهذا وما كان من بابه تقديرُ معنى لا تقديرُ صناعةٍ لفظية، وبينهما فرق. وسيبويه كثيراً ما يَجْتَزِئ بتقدير المعنى عن تقدير الإعراب، فلعل هذا الموضع من ذلك، فلا يلزمُ به اعتراضٌ على ما تقدم فقد ظهر إذاً أن اشتراطه ضابطٌ للمسالة مُخْتَصرٌ حَسَن. والله أعلم.
(1) الكتاب 1/ 189.
(2)
الكتاب 1/ 264، وابن الشجري 1/ 222، وابن يعيش 3/ 101، 8/ 35، والخزانة 4/ 24، والمغني 422، والعيني 2/ 51، والتصريح 1/ 194، والهمع 2/ 105، والدرر 1/ 91، والأشموني 1/ 194، واللسان (شول، لدن). وهو بتمامة:
مِنْ لَدُ شَوْلاً فَإلَى إتْلَائِها
ولَدُ: أصلها (لَدُنْ) ظرف زماني ومكاني بمعنى (عند) وحذفت النون لكثرة الاستعمال. وشولا: جمع شائلة، وهي الناقة التي ارتفعت ألبانها، وجفت ضروعها، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر وثمانية. والإتلاء: أن تصير الناقة مُتْلية، أي يتلوها ولدها بعد الوضع.
(3)
الكتاب 1/ 275، وفيه ((بادراً هلك)).
(4)
المصدر السابق 1/ 299، 304.
ووجهُ خامس، وهو أن إطلاقه يَنتظم إعمالَ المصدر عمل فعل المفعول، كما اقتضى إعمالَه عملَ الفعل المبنيَّ للفاعل، إذْ لم يَشترط في هذا العمل إلا تقديرَ (1) المصدر بـ (أنْ) أو (ما) والفعل، ولم يقيَّد الفعل. لكن النحويين أبَوْا ذلك، لأن قَصْد البناء للمفعول في الفعل إنما هو بِنْية الفعل طالبة له، فإذا قُصد إلى تَرْك ذكره غُيِّرت البِنْية، والمصدرُ لا ضرورةَ تدعو إلى ذكر الفاعل معه، لجواز حذفه من اللفظ، وعدم اعتباره جملة، فكان من حَقِّه أن يُخرج عن إطلاقه التقديرَ بالحرف وفعْلِ المفعول.
وقد يجاب عن ذلك بأن المسألة مختلَف فيها، فطائفةٌ تمنع ذلك، منهم الخِدَبُّ (2)، وطائفة تُجيز، ومنهم السِّيرافي وابن خروف.
والدليلُ على الجواز السماعُ في قولهم: أعجبني قراءةٌ في الحَمَّامِ القرآنُ. وعلى ذلك تقول: أعجبني أكلُ الخبزِ وشربُ الماءِ، وتُضيف المصدرَ إليه، على اعتقاد معنى الرفع. وبذلك قَدَّر سيبويه قولَهم: عجبتُ منِ إيقاع أنْيابِه بعضِها فوقَ بعضٍ، أي: من أن أوُقِعَتْ (3). وحمله جماعة على ذلك.
فإذا ثبت هذا فلا بُعْدَ في أن يذهب الناظم إلى هذا، وهو رأيه في غيره أيضا.
ثم قال: ((ولاِسْمِ مَصْدرٍ عَمَلٌ))
(1) إلى هنا انتهى السقط من نسخة (س).
(2)
هو أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي، نحوي مشهور، حافظ بارع، اشتهر بتدريس كتاب سيبويه، وله عليه طُرر مدوَّنة مشهورة، اعتمدها تلميذه ابن خروف في شرحه، وله تعليق على الإيضاح، وغير ذلك. توفى في عشر الثمانين وخمسمائة. بغية الوعاة 1/ 82.
(3)
الكتاب 1/ 154.
يعني أن اسم المصدر له عملٌ كعمل المصدر نفسه، يريد العملَ الذي للمصدر، لا أن له عملاً مَا هكذا مطلقا، فيَرفع كما يَرفع المصدر، وينَصب كما يَنصب، ويَتعلق به الظرفُ والمجرور كما يتعلَّق بالمصدر نفسه.
واسم المصدر يُطلق عند النحويين بإطلاقَيْن:
أحدهما أن يكون معناه الاسمَ المشتقَّ من المصدر بزيادة ميمٍ في أوله، كقولك: ضَرَبَ مَضْرِباً، وقَتَل مَقْتَلاً، وأكرمَ مُكْرَماً، وقاتَلَ مُقَاتَلاً.
ومنه {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ (1)} وقال العَجَاج (2):
* جَاباً تَرى بَلِيِتِهِ مُسَحَّجا *
وأنشد ابن جنِّي (3):
* أُقَتِلُ حَتَّى لَا أَرى لِي مُقَاتَلاً *
(1) سورة سبأ/ الآية 7.
(2)
الخصائص 1/ 366، 3/ 294، واللسان (سحج) وديوانه 9. والجأب: حمار الوحش الغليظ. والِّيت: صفحة العنق. والتسحيج: الخدش.
(3)
الخصائص 1/ 367، 2/ 304. وهذا صدر بيت لشاعرين، أحدهما مالك بن أبي كعب، أو كعب بن مالك الأنصاري، وعجزه: * وأنجوا إذا غُمَّ الجَبَانُ من الكَرْبِ *
وهذا البيت من شواهد سيبويه 4/ 96، والمقتضب 1/ 213، والمحتسب 2/ 64، وابن يعيش 6/ 50، 55، واللسان (قتل) وديوان كعب (184). ومقاتلا: قتالا. والمعنى: أقاتل حتة لا أرى موضعاً للقتال، لغلبة العدو وظهوره، أو لتزاحم الأقران وضيق المعترك عن القتال، وأفر منهزماً إذا لم يكن بدّ من ذلك، وأنجو والجبان قد أحاط به الكرب فلم يقدر على الفرار وطلب النجاة.
والثاني زيد الخيل، وعجزه:
* وأنجو إذا لَمْ يَنْجُ إلَاّ المُكَيْسُ *
وهو أيضا من شواهد سيبويه 4/ 96، ونوادر أبي زيد 79، والمحتسب 2/ 64، وابن يعيش 6/ 50، 55، واللسان (قتل). والمكيَّس: الحاذق العالم بتصريف الأمور. ومعناه مثل سابقه.
وهو كثير جدا.
فمثل هذا يَعمل عمل المصدر بإطلاق، لأنه هو في المعنى، فتقول: أعجبني مَضْرِبُ زيدٍ عمراً، ومُقَاتَلُ بَكْرٍ بِشْراً، ومُقلمُ زيدٍ في الدار، وما أشبه ذلك.
ومنه أنشد ثعلب وغيره (1):
أَظَلُومُ إنَّ مُصَابَكُمْ رجلاً
أَهْدىَ السَّلامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ
أراد: إن إصابتكم رجلا. وأنشد سيبويه لكَعْب بن زُهَيْر (2):
/ فَلْم يَجِدَا إلَاّ مُنَاخَ مَطِيَّةٍ 435
تَجافَى بَها زَوْرٌ نَبِيلٌ وكَلْكَلُ
ومًفْحَصَها عنها الحَصَى بجِرانِها
ومَثْنَى نَواجٍ لم يُخنْهُنَّ مَفْصِلُ
(1) مجالس ثعلب 270، وابن الشجري 1/ 107، والمغني 538، 673، والعيني 3/ 502، والتصريح 2/ 64، والهمع 5/ 77، والدرر 2/ 126، والأشموني 2/ 288، 310، وديوان العرجي 193.
والبيت للعرجي، وظلوم: اسم امرأة، والهمزة فيه للنداء. ومصابكم: إصابتكم، مصدر ميمي من (أصاب) ومعناه واضح.
(2)
الكتاب 1/ 173، وديوانه 52 - 54.
والضمير في قوله: ((يجدا)) عائد على الغراب والذئب اللذين ذمرا في بيت سابق. والزور: ما بين ذراعيه من صدره. والكلكل: الصدر. والمفحص: موضع فحصها الحصى عند البروكَ. والفحص: البحث وجران البعير: ما يلي الأرض من عنقه. والمثنى: موضع الثني، يعني قوائمها حين تثنيها للبروك. والنواجي: السريعة، ويعني قوائمها. ولم يخنهن مَفْصلُ: أي مفاصلها قوية تمنح أرجلها التماسك والشدة.
وقال جرير، أنشده في الكتاب (1).
ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوافِي
فَلَاعِيّا بِهِنَّ ولا اجْتِلَابَا
والثاني أن يكون معناه: الاسمُ الدالُّ على معنى المصدر، المخالفُ له بعدم جَرَيانه على فِعْله.
وحقيقتُه أن اسم المصدر هو مَفْعولك، والمصدر فِعْلك، كذا قال بعضهم.
ومثاله: الكَلَام، والسَّلام، والعَوْن، والكِبْر، والطَّاقَة، والطَّاعَة، والعَطاء، والعِشْرة، والتَّوَاب.
فإن هذه ونحوها غيرُ جارية على أفعاله، وهي واقعة على المعنى الواقع من الفاعل، مجرَّدا عن مباشرة الفاعل بها.
والجاري على (سَلَّم): التَّسْليم، وعلى (كَلَّم): التَّكْلِم، وعلى (أعَان): الإعَانة، وكذلك سائرها. فالجاري هو المصدر، وغير الجاري هو الاسم.
فإعماله عملَ المصدر جائز عند الناظم، لأن معناه معنى المصدر نفسه، فتقول: أعجبني عَطاؤُك زيداً، وكلامُك أبا عبدِ الله، كما تقول: أعجبني إعطاؤُك
(1) الكتاب 1/ 233، 336، والمقتضب 1/ 57، 2/ 121، والخصائص 1/ 367، 3/ 294، وابن الشجري 1/ 42، وديوانه 62.
يخاطب العباس بن زيد الكندي مفتخراً. ومسَّرحي: تسريحي. والعيّ: العجز، ويقال: عَيّ في منطقة، إذا عجز عنه فلم يستطع بيان مراده منه. والاجتلاب: من جلب الشيء، إذا ساقه من موضع الآخر، ويقصد هنا سرقته من شعر غيره.
يقول له: إنه يسرح القوافي ويطلقها سهلة لينة، اقتداراً عليها، فلا يعيا بهن، ولا يسرقها من شعر غيره- وسكّن الياء من ((القوافي)) للضرورة، إذ حقها النصب، لأنها مفعول به للمصدر الميمي وهو ((مسرحي)).
زيداً، وتكليمك أبا عبدِالله. وفي الحديث ((مِنْ قُبْلَةِ الرجلِ امرأتَه الوضوءُ (1))) وقال حسان رضى الله عنه (2):
كَأنَّ ثَوابَ اللهِ كُلَّ مُوَحِّدٍ
جِنَانٌ من الفِرْدَوْسِ فيَها يُخَلّدُ
وقال القُطامي (3):
أَكُفْراً بعد رَدِّ المَوْتِ عَنِّي
وبعدَ عَطائِكَ المائَة الرِّتَاعَا
وقال ذو الرمة (4):
أطَاعَتْ بكَ الْوَاشينَ حَتَّى كأنَّمَا
كلامُكَ إيَّاهَا عَلَيْكَ حَرَامُ
وهنا مسائل:
أحداها أن إعمال المصدر بالمعنى الأول كأنه مُتَّفق عليه، لأنه المصدر بعينه، غير أنه بُنِي بناء خاصاً، وجرى على فعله جَرَيانا خاصاً.
(1) رواه مالك في الموطأ [كتاب الطهارة- باب الوضوء من قبلة الرجل امرأته] حديث رقم 65، 66 (ص 1/ 44).
(2)
شذور الذهب 413، والهمع 5/ 78، والدرر 2/ 128، وديوانه 150.
(3)
الخصائص 2/ 221، وابن الشجري 2/ 142، وابن يعيش 1/ 20، والعيني 3/ 505، والتصريح 2/ 64، والهمع 5/ 77، والدرر 1/ 161، 2/ 127، والأشموني 2/ 288، وديوانه 41.
من قصيدة يمدح فيها زفر بن الحارث الكلابي، وكان قد أسر القطامي في حرب، ثم مَنَّ عليه، وأعطاه مائة من الإبل.
ويقال: رتعت الماشية رتوعا، إذا رعت كيف شاءت في خصب وسعه. والرتاع: جمع راتع.
(4)
ديوانه 563. والضمير في ((أطاعت)) يعود إلى ((مَيَّة)) المذكورة في البيت السابق. والواشون: جمع واش، وهو النمام، ويجمع جمع تكسير على ((وشاة)) ومعناه واضح.
وأما بالمعنى الثاني فغير مُتَّفق عليه فيما أحسب. والذي ارْتَضى الناظم مذهبُ مَنْ أعمله، وحجته مجيئُه سماعاً، وظهور وجهه القياسي، وهو أن محصول المصدر واسمِه واحد، ولا كبيرَ فرقٍ بينهما، فكما يُعتبر في المصدر معنى الفعل والحرف المصدري، كذلك يُعتبر في اسمه.
فإذا قلت: عَطاؤُك زيداً حَسَنٌ، فتقديره بـ (أنْ) والفعل لا مانع منه، كما كان في المصدر نفسه، فمن فَرَّق بينهما فقد فَرَّق بين الشيء ومِثْله.
وأيضا فلو صَحَّ الفرق لَصَحَّ في اسم المصدر بالمعنى الأول.
فإن قيل: الفرق بينهما ظاهر، وهو أن المصدر هو نفس مُباشرة الفاعل، واسم المصدر هو المعنى الحادث في تلك المباشرة كما تقدم، فما كان فيه معنى المباشرة والعلاج هو الصالح للعمل، فهو مِثْل الفعل، ومالم يكن كذلك لم يصلح للعمل، كما لم يصلح اسم الجنس المعنوي للعمل، وقد ظهر تأثير هذا الفرق في كلام العرب، حيث أعملوا المصدر من غير تحاشٍ، ولم يُعملوا اسم المصدر إلا نادراً، فلو كان مثلَه في المعنى لكان مثلَه في كثرة الإعمال، فلما لم يكن كذلك دَلَّ على صحَّة الفرق.
فالجواب أن هذا الفرق غير بَيِّن / لأن المصدر اسم للمعنى الصادر من الفاعل، 436 وكذلك اسم المصدر، لا فرق بينهما في هذا، فكلاهما اسمُ جِنْس، ولذلك لا يَعمل إذا كان مؤكِّدا أو مبيِّنا، وإنما يعمل إذا اعتُبر فيه معنى العلاج، وهو اسم المصدر في ذلك سواء، إلا أن المصدر لَمَّا أحرز الفعلَ بجرَيانه عليه كان أقربَ من اسم المصدر الذي تَعطَّل فيه ذلك الجريان، فلهذا المعنى قلَّ إعمال اسم المصدر، لا لما قالوا.
ومع ذلك فعِلَّتُه لا تُؤْذن بعدم القياس، إذ قد جاء نظماً ونثراً كما
_________
تقدَّم. وقد اجتمع مع المصدر في المعنى والمادَّة فساع القياس عليه.
والثانية أن الناظم ذكر هنا إعمالَ المصدر، وألحق به اسمَه على كلا المعنيين، واقتصر على ذلك، فدل على أن ما لحق باسم المصدر وشابَهه لا يَلحق به في العمل عنده، فاسمُ الزمان والمكان لا يَعملان عمل الفعل، وإن تَضَمَّنا معناه، لبُعْدهما عن المصدر وفعله، بتضمُّن الدلالة على الزمان والمكان المُبْهَمين، فلا يقال: أتَت على الناقةُ مَضْرِب الفَحْل إيَّاها، ولا ما أشبه ذلك. فإن جاء من ذلك شيء فسماعٌ ومؤوَّل، كقول النابغة (1):
كأنَّ مجرَّ الرَّامِسَاتِ ذُيُولَها
عليْهِ حَصِيرٌ نَمَّقَتْهُ الصَّوَانِعُ
((مجر)) هنا اسم مكان، لأنه إنما شَبَّه بالحصير موضعَ الجَرِّ، وكذلك قولُ ذي الرُّمة (2):
وظَلَّتْ بَملْقَى وَاحِفٍ جَرَعَ المِعَا
قياماً تُفالِي مُصْلَخِماً أميرُهَا
فـ (المَلْقَى) هنا موضع التقاء واحِفٍ وجَرَعَ المِعَا، وهما موضعان.
(1) ابن يعيش 6/ 110، 111، وشرح شواهد الشافية 106، واللسان (نمق، فضم) وديوانه 50، والرامسات: الرياح تثير التراب، وتدفن الآثار. ونمقته: حسنته وجودته، ويقال: نَمَّق الجلدَ والثوب ونحوه، إذا نقشه وزينه بالكتابة. والصوانع: جمع صانعة، وهي المرأة الماهرة الحاذقة المجيدة في عمل اليدين. ويروى ((قضيم نمقته الصوانع)) والقضيم: الجلد الأبيض يكتب فيه. وقيل حصير منسوج خيوطه سيور.
(2)
ديوانه 310، واللسان (صلخم).
يصف حميرا. وواحف والمعَا: موضعان. والجرعَ: جمع جَرَعة، وهي الرملة لا تنبت شيئا. وتفالي: يكدم بعضها بعضا. والمصلخم: المستكبر، والغضبان.
والمعنى: حيث واجه واحفٌ جرعَ المِعَا، لأنه من الالتقاء. وكذلك قوله (1):
تَقُولُ عَجُوزٌ مَدْرَجِي مُتَرَوِّحا
على بابِها مِنْ عنْد رَحْلِي وغَاديَا
أي وقت دُروُجِي. وأنشد سيبويه لحُمَيْد الأرْقَط (2):
وما هيَ إلا في إزَار وعلْقَةٍ
مُغَارَ ابن هَمَّامٍ على حَيَّ خَثْعَمَا
أي في وقت إغارة ابن هَمَّام.
فمثلُ هذا لا يُعْتَد به في عمل اسم المكان ولا اسمِ الزمان، فأما البيتان الأوَّلان وما أشبههما فقليلٌ، ومحمول على حذف المضاف، والتقدير: كأنَّ موضع جَرِّ الرامساتِ، وظَلَّت بموضع مَلْقَى وَاحِفٍ. وبهذا يصير العامل اسمَ المصدر لا اسمَ المكان.
وأما الآخَران فمن باب ((ما نابَ فيه المصدر عن الظرف)) وهو الذي نَبَّه عليه الناظم في قوله:
(1) المحتسب 2/ 266، والمغني 42، وديوانه 653.
والدروج: المشي الضعيف والدبيب. ومتروحا: سائر وقت الرواح، وهو من لدن زوال الشمس إلى الليل. وغاديا: سائرا وقت الغدوة، وهي الوقت ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. وبعد:
أَذُو زوجةٍ بالمِصْر أم ذُو خصومةٍ أراكَ لها بالبَصْرةِ العامَ ثاويَا؟
فقلتُ لها: لا، إن أهليّ جيرةٌ لأكْثبِة الدَّهنا جميعاً وماليا
وما كنتُ مْذْ أبصرتني في خصومةٍ أراجعُ فيها يا ابنةَ القومِ قاضيَا
(2)
الكتاب 1/ 235، والمقتضب 2/ 120، والخصائص 2/ 208، والمحتسب 2/ 266، وابن يعيش 6/ 109، واللسان (علق).
والإزار: ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن. والعِلْقة: قميص بلا كمين تلبسه الجارية. يصف امرأة بأنها كانت صغيرة السن وقت إغارة ابن همام على هذا الحي من اليمن، وهو خثعم.
وقَدْ يَنُوبُ عن مكانٍ مَصْدَرُ
وذاكَ في طَرْفِ الزَّمانِ يكْثُرُ
وكذلك لا يعمل الاسمُ المتضمِن لحروف الفعل إذا كان اسماً لما يُفْعَل به أو فيه، وإن أشعْرَ بمعنى ذلك الفعل، فلا تقول: أعجبني دَهْنُ زيدٍ رأسه، ورِزْقُ اللهِ العبدَ، وخَبْزُ زيدٍ دَقيِقَه، وما أشبه ذلك. فإن جاء من ذلك شيء فموقوفٌ على السماع، ومؤوَّل أيضا.
ويظهر من ((الصَّيْمري)) إجازةُ ذلك (1)، وهو مذهب مرجوحٌ لندُوره عن العرب، وإمكان نصبِه على إضمار فعل يدل ذلك الاسم، كأنه يقول: أعجبني دَهْنُ زيدٍ يَدهن رأسَه، أو ما معناه ذلك.
ومن ذلك قولُ الله تعالى: {أَلَمْ نجْعَلِ الأَرْضَ كِفاناً/ أحْيَاءً وأمْواتاً (2)} 437
فالكفَات: اسمُ ما يُكْفتَ به، أي يُلَفُّ ويُحْفظ، وأوِّلت على إضمار الفعل.
وقيل: جَعل الفارسيُّ من ذلك قوله تعالى: {ويَعْبُدوُنَ مِنْ دوُنِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمواَتِ والأَرْضِ شَيْئاً ولَا يَسْتَطِيعُونَ (3)} فـ ((شيئاً)) عنده منصوب بـ ((رِزْقاً (4))) والرِّزق: اسم لما يُرْزَقه العبدُ عندهم. فلذلك رَدَّ عليه الناسُ ذلك، وعَدُّوه ذاهباً إلى نحو ما رأى ((الصَّيْمري)).
ولا حاجة إلى الاعتذار عن الفارسي هنا إلا من جهة تعلُقه بهذا
(1) التبصرة والتذكرة 1/ 240.
(2)
سورة المرسلات/ الآيتان 25، 26.
(3)
سورة النحل/ الآية 73.
(4)
الإيضاح 155.
النَّظْم، فالشَّلَوْبيِن وغيرهُ قالوا: يُحتمل أن يكون ((رِزْقا)) مصدرا كـ (رَزْق) بالفتح، ولا يمون في الآية بمنزلة (الَطّحْن) مع الطَّحْن، و (الرَّعي) مع الرَّعي، فلا حجة فيها على عملِ مثلِ هذا، فبحقٍّ ما أهمله الناظم هنا. والله أعلم.
والثالثة: أنه قال: ((ولاِسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلُ)).
فأثبت له عملاً ما، ولم يَقُل المصدر في العمل، وأنه يساويه، تنبيهاً على أنه غيرُ ملتزِم للقول بإعماله مطلقا، كان مضافاً أو مجرداً أو مع أل، بل الأمر في ذلك بعدُ في محلِّ النظر، وذلك أن السَّماع فيه إنما ورد بالمضاف كما تقدَّم تمثيلهُ، ولم يَأتِ- فيما أحفظ- مثل: أعجبني عَطاءٌ زيداً، (أو أعجبني طاعةٌ العبدُ ربَّهِ، أو ثوابٌ المؤمنَ، ولا مثل: أعجبني العطاءُ زيداً (1)) ولا الثوابُ المؤمنَ، ولا ما كان نحو ذلك.
وكذلك لا أحفظ مثل: أعجبني مُعْطيً زيدٌ عمراً، ولا مُعْطيً عمراً، ولا المُعْطي زيدٌ عمراً، ولا المُعْطَي زيداً، ولا نحو ذلك.
ولم يَأْتِ المؤلف في ((الشرح)) من ذلك بمثال، ولكنه قال في ((التسهيل)): إن اسم المصدر يعمل عملهَ (2)، فظاهرُ هذا إعمالهُ في جميع أحواله قياساً كالمصدر، فتقول: أعجبني العطاءُ زيداً، وعَطاءٌ زيداً، كما تقدم.
فالموضع- بلا شك- محتمِل للقياس في جميع الأحوال، أو قصْره على ما وَرد فيه. فلذلك- والله أعلم- لم يَحْتِم بإطلاق القول في إعماله في الأحوال الثلاثة كالمصدر، وهو أولَى. فتبقى المسألة نظريَّةً إلى أن يَرِد مُرَجَّح لأحد الاحتمالين.
والرابعة أن اسم المصدر ضربان، ضربٌ هو اسم جِنْس غير علم،
(1) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.
(2)
التسهيل: 142.
كالمُثُل المتقدَّمة. وكلامُه فيه صحيح على التفسير المذكور.
وضربٌ هو عَلَم، كيَسَارِ للمَيْسَرة، في نحو قوله، أنشده سيبويه (1):
فَقُلْتُ امْكُثِي حَتَّى يَسَار لَعَلَّنَا
نَجُحُّ معاً قَالتْ أعاماً وقَابِلَهْ
و(بَرَّةُ) للمَبَرَّة، و (فَجاَرِ) للفَجْرة في قول النابغة، أنشده سيبويه أيضا (2):
أنَّا اقْتَسَمْنَا خُطَّتَيْنَا بَينَنَا
فَحَملْتُ بَرَّةَ واحْتَملْتَ فَجَارِ
فلا تَعْمل، لأن مِثْل هذه الأسماء دال على معنى المصدر دلالة تُغْني عن الألف واللام، لكونها لا تتصرَّف تصرفَها في الإضافة، والشَّيَاع، والألِف واللام، وقَبُول الوصف، والوقوعِ موقع الفعل، فامتنع لذلك أن تعمل كالمصدر. وكلام الناظم يَنتظم مثل هذا، فيقتضي انه قد يَعمل، وذلك لا يصح.
والجواب أن كلامه، وإن كان ظاهرهُ الإطلاق، مُقَيَدٌ بما قُيدَّ به المصدر. من كونه يصلح في موضعه الفعل مع (أنْ) أو (ما) إذ لا يصح أن يعمل
(1) الكتاب 3/ 274، والجمل 235، وابن الشجري 2/ 113، وابن يعيش 4/ 55، والتصريح 1/ 125، والهمع 1/ 94، والدرر 1/ 8، واللسان (يسر).
طلب منها الإنتظار حتى يوسر فيستطيعا الحج، فأنكرت ذلك عليه، وقالت: أأنتظر هذا العام والعام القابل؟ !
(2)
الكتاب 3/ 274، والجمل 234، والخصائص 2/ 298، 3/ 261، 265، وابن الشجري 2/ 113، وابن يعيش 1/ 38، 4/ 53، والخزانة 6/ 327، والعيني 1/ 405، والهمع 1/ 94، والدرر 1/ 9، والأشموني 1/ 137، وديوانه 34.
بقوله لزرعة بن عمرو الكلابي، وكان قد عرض على النابغة وعشيرته وبنيه أن يغدروا ببني أسد، وينقضوا حلفهم، فأبى النابغة، وجعل خطته في الوفاء ((برة)) وخطة زرعة لما دعاه إليه من العذر ونقض الحلف ((فجارِ)).
المصدر بشرطٍ وهو الأَصْل، ويعمل اسم المصدر بغير شرطٍ وهو الفَرع، لأنه لم يَعمل إلا بمعنى المصدر، فلابد من تقييده بما تَقَيَّد به المصدر، / وإذ ذاك يَخْرج اسم المصدر العَلَمَ،
…
438 إذْ لا يصلح في موضعه (أنْ) والفعل، ولا (ما) والفعل، فقد أغناه الشرط المتقدم عن إخراج العَلَم من إطلاقه هنا، فلا إشكال في كلامه.
ثم قال:
وبَعْدَ جَرِّةِ الَّذي أُضِيفَ لَهْ
كَمِّلْ بنَصْبٍ أو بِرَفْعٍ عَمَلَهْ
يعني أن المصدر واسم المصدر إذا اضيف إلى معمولٍ من معمولاته، لابُدَّ من جَرَّه لأنه مضاف ومضاف غليه، أتيتَ بعد ذلك بمعموله الذي يَطلبه بعد المجرور، وذلك إمّا منصوباً إن أضيف إلى مرفوعٍ أو منصوب، وإمَّا مرفوعاً إن أضيف إلى منصوب، وذلك بحسب طَلبه له.
فقد يضاف إلى ما هو مرفوع في التقدير، فيبقى ما عداه منصوباً، وقد يضاف إلى ما هو منصوب تقديراً، فيبقى ما عداه مطلوباً بنَصْبٍ آخر أو برفع، فتقول: أعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، وأعجبني إعطاءُ زيدٍ الدراهمَ، وضربُ زيدٍ عمروُ، وما اشبه ذلك.
ثم هنا ثلاث مسائل:
إحداها أن كلامه يقتضي جوازَ إضافة المصدر إلى المنصوب بحَضْرة المرفوع، لأنه إذا قال:((كَمِّل بْرَفْعٍ)) دَلَّ على أن المضاف إليه المصدرُ غيرُ مرفوع، إذ لا يَرفع فعلٌ أو ما جرى مجراه مرفوعين على غير جهة التَّبَعية.
_________
وهذا صريح في جواز إضافة المصدر إلى المفعول بِحَضْرة الفاعل، وإلى الفاعل بِحضْرة المفعول.
أما هذا الثاني فسائغ، نحو: أعجبني إكرامُ زيدٍ عمرا وفي القرآن المجيد {ولَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ (1)} - {فاذْكُروُا اللهِ كَذِكْرِكُمْ أَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً (2)} وهو كثير.
وأما الأول فقليلٌ ضعيف، قال الفارسي: لا يكاد يُوجد إلا في شعر، لكن قد جاء منه في الكلام شيءٌ، فروُى عن ابن عامر أنه قرأ {ذِكْرُ رَحْمِة رَبِّكَ عَبْدُه زَكَرِيَّا (3)} برفع ((العَبْد)) وتابعه، وما ذاك إلا على نصب ((الرحمة)) والتقدير: أنْ ذَكر رحمةَ رَبِّكَ عَبْدُه زكريِّا (4).
وفي الحديث ((وحِجُّ البْيْتِ مَنِ استْطاعَ إليه سَبِيلاً (5))) وهو تأويل بعضهم في قول الله: {وللهِ على النَّاسِ حِجُّ البْيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إليْه سَبيلاً (6)} وأجازه ابن خروفٍ ايضا، وأنشد سيبويه (7):
(1) سورة البقرة/ آية 251.
(2)
سورة البقرة/ آية 200.
(3)
سورة مريم/ آية 2.
(4)
لم أجدها في البحر ولا الطبري ولا المحتسب ولا كتب السبعة.
(5)
رواه مسلم في كتاب الإيمان- باب السؤال عن أركان الإسلام، حديث رقم 10 (1/ 42).
(6)
سورة آل عمرات/ آية 97.
(7)
الكتاب 1/ 28، والمقتضب 2/ 258، والمحتسب 1/ 69، 258، 2/ 72، والخصائص 2/ 315، وابن الشجري 1/ 142، 221، 2/ 93، 197، والإنصاف 27، 121، والخزانة 4/ 426، والشعر للفرزدق (ديوانه 570). والهاجرة: وقت اشتداد الحر في الظهر. يصف سرعة الناقة في سير الهواجر، ويقول: إن يديها لشدة وقعهما في الحصى تنفيانه فيقرع بعضه بعضا، ويسمع له صليل كالدنانير إذا انتقدها الصيرفي لينفي رديئها عن جيدها. وخَصَّ الهاجرة لتعذر السير فيها.
تَنْقي يَدَاهَا الحَصَى في كُلِّ هَاجِرَةٍ
نَفْيَ الَّدراهمِ تَنْقَادُ الصَّياَرِيفِ
وأنشد الزجاجي (1):
أَفْنَى تَلَادِي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ
فضرْعُ القَواقيز أفْواهُ الأَباَرِيقِ
وجعل الفارسيُّ من ذلك قولَ الحُطَيئة (2):
أَمِنْ رَسْمِ دَارٍ مَرْبَعٌ ومَصِيفُ
لِعيْنيكَ من ماءِ الشُّئْون وَكيِفُ
وإنما أطلق الناظم القولَ بالجواز اتَّباعاً لسيبويه حيث قال: وإن شئتَ حذفتَ التنوينَ كما حذفتَ في الفاعل- يعني: في ((اسم الفاعل- وكان المعنى على حاله، إلا أنك تجرُّ الي يلي المصدرَ، فاعلاً كان أو مفعولاً، لأنه اسمُ قد كَفَفْتَ عنه التنوينَ، كما فعلتَ ذلك بفاعلٍ، ويصير المجرورُ بدلا من التنوين مُعَاقِباً له.
قال: وذلك قولك: عَجْبتُ من / ضَرْبِه زيداً، إن كان فاعلاً، أو 439
(1) المقتضب 1/ 159، والجمل 134، والإنصاف 233، والمغني 536، والعيني 3/ 508، والتصريح 2/ 64، والأشموني 2/ 289، واللسان (قفز).
والشعر للأقيشر الأسدي. والتلاد: كل ما ورثته عن آبائك، ومثله: التالد والتليد. والنشب: العقار، أو المال الأصيل من ناطق وصامت. والقرع: الضرب. والقواقيز جمع قاقوزه، وهي الكأس الصغيرة. والأباريق: جمع إبريق، وهو ما كان له عروة فإن لم يكن له عروة فهو كوز.
(2)
الإيضاح 158، وابن الشجري 1/ 351، وابن يعيش 6/ 62، والخزانة 8/ 121، وديوانه 39. والبيت مطلع قصيدة له يمدح بها سعيد بن العاص الأموي لما كان واليا على الكوفة لعثمان بن عفان رضى الله عنه. ويقال: رسم المطرُ الدار، إذا عَفَّاها وصَيَّرها رسما.
والمربع: اسم زمان للربيع. والمصيف: اسم زمان للصيف. والشئون: مجاري الدمع من الرأس إلى العين، واحدها: شأن. والوكيف: سيلان الدمع أو المطر شيئا فشيئا.
من ضَرْبه زيدٌ، إن كان المضمر مفعولا.
قال: وتقول: عجبتُ من كِسْوَة زيدٍ أبوه، وعجبت مَن كِسْوِة زيدٍ أباه، إذا حذفتَ التنوين (1).
فذلك إطلاقُ في الجواز كإطلاق الناظم. وما يُقال هناك يقال هنا. وإن قيل: إن ذلك قليلُ بالنسبة إلى العكس- فِقلَّتُه لا تَمنع من اطلاق الجواز، فقد جاء نثراً ونظما.
وقد نَبَّه الناظم على الترجيح حيث قال: ((كَمِّلْ بنَصْبٍ أو برَفْعٍ عَمَلَهُ)) فقدم النصب الذي يُكَمَّل به، وذلك- في الغالب- مع الإضافة إلى الفاعل.
وقد نَصَّ علي الجواز أيضاً غيرُ سيبويه كالسَّيرافي وغيره.
والثانية أنه قال: ((وبَعْدَ جرِّهِ الذَّي أُضِيفَ لَهُ كَمِّلْ بكذا)) فلم يعيِّن للإضافة معمولاً مِنْ معمول، بل أطلق في ذلك، فاقتضى أن كل معمول تصحُّ الإضافةُ إليه يجوز أن يقع هنا مضافاً، فيضاف إلى الفاعل، والمفعول به، والظروف المتصرَّف، ونحو ذلك.
فالمصدرُ، إذ ذاك، إما أن يكون لفعلٍ غيرِ مُتَعَدٍّ، أو لفعلٍ متعدٍّ إلى مفعولٍ واحدٍ، أو إلى اثنين، أو ثلاثة.
فإذا كان مصدرَ فعلٍ غيرِ متعدٍّ جاز فيه وجهان، إضافتهُ إلى فاعله، وإضافتهُ إلى ظرف مُتَّسَعٍ فيه، فتقول: أعجبني قيامُ زيدٍ اليومَ، وقيامُ اليومِ زيداً. وهذا من باب قوله تعالى:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهَارِ (2)}
وقد أجاز سيبويه أن تقول: عجبتُ من ضَرْبِ اليوم زيداً، كما تقول:
(1) الكتاب 1/ 190.
(2)
سورة سبأ/ الآية 33.
يا سارقَ اللَّيْلَةِ أهلَ الدارْ (1)
ثم بيَّن أنه ليس من باب:
* لِلَّهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لَامَها (2) *
فهذا جائز في الكلام، ومثل البيت لا يُوجد إلا في الشعر.
وإذا كان مصدرَ فعل متعدٍّ إلى واحدٍ جاز فيه ثلاثة أوجه، إضافتُه إلى فاعله، وإلى مفعول الأول، وإلى الثاني، وإلى ظرف مُتَّسَع فيه، فتقول: أعجبني ضْربُ زيدٍ عمراً اليومَ، وأعجبني ضربُ عمروٍ زيدٌ اليومَ، وأعجبني ضربُ اليومِ زيدٌ عمراً.
وإذا كان مصدر فعلٍ متعدٍّ إلى اثنين جاز فيه أربعه أوجه، إضافته إلى فاعله، وإلى مفعوله الأول، وإلى الثاني، وإلى ظرفٍ متسعٍ فيه، نحو: أعجبني إعطاء زيدٍ عمراً الدرهمَ اليومَ، وإعطاء عمروٍ زيدٌ الدرهمَ اليومَ، وإعطاء الدرهمِ زيدٌ عمراً اليومَ، وإعطاء اليومِ زيدٌ عمراً الدرهمَ.
وإذا كان مصدرَ فعلٍ متعدٍّ إلى ثلاثة مفاعيل جاز فيه خمسة أوجه،
(1) الكتاب 1/ 175، 193، والخزانة 3/ 108، وابن الشجري 2/ 250، وابن يعيش 2/ 45، 46.
(2)
الكتاب 1/ 178، 194، والمقتضب 4/ 377، ومجالس ثعل 152، والإنصاف 432، وابن يعيش 2/ 46، 3/ 19، 20، 77، 8/ 66، والخزانة 4/ 406، ومعجم البلدان (ساتيدما).
والبيت لعمرو بن قميئة (ديوانه 62) وصدره:
* لَمَّا رَأتْ سَاتيدَهَا اسْتعْبَرَتْ *
رأت: يعني بنته التي ذكرها في بيت قبله، وهو قوله:
قد سألتني بنُت عمروٍ عن الْ
أرضِ التُي تُنْكِرُ أعلامَها
وساتيدما: جبل. واستعبرت: بكت.
وكان عمرو قد خرج مع امرئ القيس ومعه بنته إلى ملك الروم، فبكت من وحشة الغربة، ولبعدها عن أراضي أهلها، وبعده:
تذكرتْ أرضاً بها أهلها أخوالَها فيها وأعمامَها
وأمثلتها بَيَّنة مما ذُكر.
والثالثة أنه قال: ((كَمِّلْ بنَصبٍ أو برَفعٍ عَمَلَهُ)) يريد أنك إذا أضفته إلى أحد معمولاته فإنك تأتي بما عداه على ما يستحقُّ من رفعٍ أو نصب، فتقول: أعجبني ضربُ زيدٍ عمراً اليومَ، وضربُ عمروٍ زيدٌ اليومَ، وسائر ما تقدم من المُثُل.
وأيضاً فقوله: ((كَمِّل بْكذا))، ولم يقل:((كَمِّل بالفاعل أو بالمفعول)) أو ما أشبه ذلك لَيْدخل في عموم الرفع ما يُرفع فاعلاً نحو: أعجبني ضربُ زيدٍ عمرُوُ، أو مفعولاً لم يُسَمَّ فاعله حسبما تقدَّم من مذهبه، نحو: أعجبني قراءةُ اليومِ القرانُ، وركوبُ يومِ الجمعةِ الفرسُ. أو اسم ((كان)) وأخواتها نحو: أعجبني كونُ أخيك عمروٌ، ونحو ذلك.
وليدخل / ما يُنْصب مفعولاً به، نحو: أعجبني ضربُ زيدٍ عمراً، أو خبر ((كان))
…
440 نحو: أعجبني كونُ زيدٍ قائماً، أو ظرفاً نحو: أعجبني قيامُك اليومَ، وقعودُك مكانَ زيدٍ، أو حالاً نحو: أعجبني مجيئُكَ راكباً، أو مفعولاً له، نحو: أعجبني قيامُك إكراماً لزيدٍ. وغير ذلك من سائر ما يُنصب.
ويدخل له المجرور هنا لأنه في موضع نصب، نحو: أعجبني مُكث زيدٍ في الدار، ومرورهُ بك، وإعراضهُ عن زيد، وخروجهُ من الدار، وإتيانهُ إلى المسجد. وما أشبه ذلك.
إلا أن في قوله: ((كَمِّل)) إشكالا، لأنه إن أُخذ بظاهر لفظه اقتضى وجوبَ التكميل، وألَاّ يجوز إذا أُضيف المصدرُ إلى الفاعل ألَاّ يُتْرك المفعول إن كان المصدر من متعدٍّ، ولا إذا أضيف إلى المفعول إلا أن يُؤْتى بالفاعل.
وذلك غير صحيح، لأن حذف ما سوى المضاف إليه سائغ، كان فاعلاً أو مفعولاً أو غَيَرهما، إلا ما كان من باب ((ظَنَّ)) و ((أَعْلَم)) و ((كان))
_________
فإن الحذف هنالك غير سائغٍ لما تقدَّم.
فجائز أن تقول: أعجبني ضربُ زيدٍ، وركوبُ الفرسِ.
ومن حذف المفعول في القرآن {فَاسْتَبْشرِوُا بَبْيِعكُمُ الَّذي بَايَعْتُمْ بِهِ (1)} - {ومَا كانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأَبيِه (2)} - {وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذّا أَخَذَ القُرىَ وهِيَ ظَالمِةُ إنَّ أَخْذُه أَلِيمٌ شَدِيدٌ (3)} - {وإنَّ رَبَّكَ لَذوُ مَغْفِرَةٍ للنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ (4)} - {ويَوْمئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بنَصْرِ اللهِ (5)} .
ومن حَذْف الفاعل {لَا يَسْأَمُ الإْنْسانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ (6)} - {وهُوَ مُحَرَّم عَلَيْكُمْ إخَراجُهُمْ (7)} - {وإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَاَل زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ (8)} - {وَلا تَهِنُوا في ابتِغَاءِ الْقَوْمِ (9)} - {إنَّ اللهَ يَأمُرُ بالَعدْلِ والإحْسَانِ وإيتَاءِ ذِي القُرْبَى (10)} - {قَالَ لَقَدْ ظَلَمكَ بسُؤال نعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ (11)} .
وأما نحو: أعجبني ظَنُّكَ عمراً قائماً، وإعلامُك زيدً كَبْشَكَ السَّمينَ، وكون زيدٌ قائماً، ونحو ذلك، مما خبرٌ ومخَبرٌ عُنه في الأصل- فلا يجوز
(1) سورة التوبة/ آية 111.
(2)
سورة التوبة/ آية 114.
(3)
سورة هود/ آية 102.
(4)
سورة الرعد/ آية 6.
(5)
سورة الروم/ الآيتان 4، 5.
(6)
سورة فصلت/ الآية 49.
(7)
سورة البقرة/ آية 85.
(8)
سورة النساء/ آية 20.
(9)
سورة النساء/ آية 104.
(10)
سورة النحل/ آية 90.
(11)
سورة ص/ آية 24.
الاقتصارُ فيه كما تقدم بيانه.
ويمكن أن يُجاب عنه بأنه يَقصد إيجابَ الإيتان بالمعمولات الباقية، وإنما أراد الإتيانَ بها على مقتضى أحكامها في جواز الحذف، فيكون ذلك إحالة منه على حكم العوامل في طلب الفَضَلات والعُمَد.
لكن هذَا ينكسر له في الفاعل، فإنه جائزُ الحذفِ هنا، ولا يجوز حذفه مع سائر العوامل الطالبة له.
وقد يمكن الجواب عنه بأن يقال: لعله ذهب مذهبَ من يرىَ أن المصدر لابد له من فاعل، فإن كان ظاهراً فذاك، وإلَاّ فهو مَنْوِيٌ في المصدر، لكنا نقول: إذا كان الفاعل منويَّا لا يبقى له بعد الإضافة ما يكملَّ به إلا منصوب، ولا تكون إضافته أيضاً إلا إلى منصوب، إذ المنويُّ لا يضاف إليه المصدر، كما يضاف إلى غير المنوي.
أو يقال: قوله: ((كَمِّلْ بكذا)) مثل قوله: ((بِفعْلهِ المصدرَ ألحقْ في الْعَمَلِ)) فما قيل هناك يقال هنا. والله أعلم.
/ وَجُرَّ ماَ يْتَبعُ مَا جُرَّ ومِنْ
…
441
رَاعَى فِي الاتْبَاع المَحَلَّ فَحسَنْ
تكلم هنا في تابع المجرور والمضاف إليه المصدر خاصَّةً، وذلك لأن تابع معمول المصدر إذا كان مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً بغير إضافة المصدر إليه لا إشكال فيه، لأنه على حكم سائر التوابع، يُتْبع على اللفظ، فتقول: مرورُك بزيدٍ الفاضِل حَسَنٌ، وضَرْبُك عمراً الكريم قبيحٌ، وأعجبني إكرامُكَ زيدٌ الخياطُ.
وأما إذا كان معمول المصدر مضافاً إلى المصدر فله حكمٌ آخر يَختص به، فإن له لفظاً وموضوعا، فلفظُه مخفوض بالإضافة،
_________
وموضعُه مرفوعٌ إن كان فاعلاً معنى، أو اسم ((كان)) أو مفعولاً لم يسمَّ فاعله إن قدرتَه مصدر فعلٍ مبنيٍّ للمفعول، أو منصوبٌ إن يكن كذلك.
فأخذ في بيان ما يلحق التابع بسبب لك، فيريد أنك إذا أتبعت ذلك المجرورَ فلك الخِيَرَةُ في إجراء التابع عليه، أيِّ تابعٍ كان، من نعت أو عطف أو توكيد أو بدل.
فإن أجريتَه على لفظه فأتيتَ مجروراً مثله فتقول: أعجبني قيامُ زيدٍ العاقِل، إن كان التابع نعتا، وأعجبني قيامُ زيدٍ وأخيه، إن كان عطَف نسق، وأعجبني قيامُ أبي عبدِ الله زيدٍ، إن كان عطفَ بيان، وأعجبني قيامُ الناس كُلِّهم، إن كان توكيدا، وأعجبني قيامُ زيدٍ أبي عبدِ الله، إن كان بدلا.
وإن شئتَ أجريتَه على الموضع، فأتيتَ به مرفوعاً أو منصوباً، على حسب ما أعطاه المعنى، فتقول: قيامُ زيدٍ العاقُل حَسَنٌ، وقعودُ زيدٍ وأخوه قبيحٌ، وأعجبني قدومُ زيدٍ أبو عبد الله، ومرورُ أبي عبد الله زيدٌ بك، وأعجبني قيامُ الناسِ كلُّهم. وما أشبه ذلك.
وتقول أيضاً: أعجبني ركوبُ الفرسِ الفارِه، على اعتبار اللفظ، وركوبُ الفرسِ الفارهُ، على اعتبار الموضع، وأن ((الفرس)) مفعولٌ لم يُسَمُّ فاعله، وركوبُ الفرسِ الفارهَ، على اعتبار حذف الفاعل من اللفظ، وأن ((الفرس)) مفعول نُوِي فاعله، أو ترُك مع إرادته في اللفظ: فهذه ثلاثة أوجه.
فإن قلت: أعجبني ضربُ زيدٍ العاقل، فلك في النعت هنا أربعة اوجه، الإتباع باعتبار اللفظ، والرفع على أن ((زيدا)) في موضع رفع على الفاعلية، أو على المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله، أو في موضع نصب على المفعولية.
وعلى هذا الترتيب يجري حكم سائر التوابع، من العطف والتوكيد
_________
والبدل، إذ لم يَخُصّ الناظم بهذا الحكم تابعاً من تابع، وذلك صحيح.
ومن الحمل على الموضع ما أنشده سيبويه من قول الراجز (1):
قَدْ كُنْتُ دايَنْتُ بها حَسَّانَا
مخافةَ الإفْلاسِ واللَّيَّانَا
يُحْسِنُ بَيْعَ الأَصْلِ والِقيَانَا
فـ ((اللَّيَّان)) و ((الِقيَان)) معطوفان على الموضع على ((الإفلاس)) و ((الأصْل)) هذا في العطف النَّسَقَي.
وقال لبيد في النعت (2):
حَتَّى تهَجَّرَ في الرَّواحِ وَهاَجه
طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّهُ المَظْلوُمُ
/ فـ ((المظلومُ)) نعتٌ لـ ((المُعَقِّب)) وهو مرفوع، لأن ((المُعَقِّبَ)) في
…
442
(1) الكتاب 1/ 191، وابن الشجري 1/ 228، 2/ 31، وابن يعيش 6/ 65، والمغني 486، والعيني 3/ 520، والتصريح 2/ 65، والأشموني 2/ 191. والرجز لرؤبة (ملحقات ديوانه 187) وينسب كذلك إلى زياد العنبري. وداينت: من المداينة، وهي البيع بالدين. والضمير في قوله:((بها)) عائد على الإبل. وحسان: اسم رجل. والليان: مصدر: لويته بالدين لَيَّا ولَيَّاناً، إذا مصلته.
والأصل: أصل المال، ولعله يعني الإبل، لأنها أكرم أموالهم. والقيان: جمع قينة وهي الأمة مغنية كانت أو غير مغنية.
(2)
ابن الشجري 1/ 228، 2/ 32، والإنصاف 232، 331، وابن يعيش 2/ 24، 46، 6/ 66، والخزانة 2/ 240، والعيني 3/ 315، والتصريح 1/ 278، 2/ 65، والهمع 5/ 293، والدرر 2/ 202، والأشموني 2/ 290، واللسان (عقب) وديوانه 128. وتهجر: سار وقت الهاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر. والرواح: الوقت من زوال الشمس إلى الليل. وهاجه: أزعجه، ويروى ((هاجها)) والضمير المستتر يعود إلى حمار الوحش، والبارز يعود إلى الأتان. والمعقب: الذي يطلب حقه مرة عقب مرة، ولا يتركه. يصف حمار وحش وأتانه، شبه به ناقته.
موضع رفع.
وعلى هذا المعنى حَمل المؤلف قراءة الحسن {أْوَلئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنُةُ اللهِ والْمَلائكةُ والنَّاسُ أجْمعُونَ (1)} .
وأنشد معه (2):
يَالَعْنَةُ اللهِ والأقوامُ كُلُّهم
والصَّالِحُونَ على شِمْعَانَ مِنْ جَارِ
وفي الحديث ((أمَر بقَتْلِ الأَبْتَر وذُوا الطّفَيتْين (3)))
وإلى الإتباع على الموضع ذهب جماعة. ورأىُ سيبويه الحملُ على إضمار فعل، ذكر ذلك في ((باب المصدر الجاري مجرى فعله (4)))
قال ابن خروف: وكلاهما حَسَن. وعلى الإضمار حمل ابنُ جِنِّي قراءة الحسن، أي: ويَلعنهم الملائكةُ والناسُ أجمعون (5).
وهما مذهبان متقاربان، وسيأتي بيانُ وجهِ اختيار الناظم في الباب بعد
(1) سورة البقرة/ آية 161. وانظر المحتسب 1/ 116، وشرح التسهيل (ورقة 158 - أ).
(2)
شرح التسهيل (ورقة 158 - أ) وكتاب سيبويه 2/ 219، والإنصاف 118، وابن الشجري 1/ 325، 2/ 154، وابن يعيش 1/ 24، 40، 8/ 120، والهمع 3/ 45، 4/ 367، والحماسة بشرح المرزوقي 1953. والمغني 373، والعيني 4/ 261. والبيت من المجاهيل يدعو على سمعان جاره بأن تناله لعنة الله والناس كلهم. لأن لم يرع حق الجوار.
(3)
رواه البخاري في ((كتاب بدء الخلق- باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال)) حديث رقم 3311 (فتح الباري 6/ 351). والأبتر: حية لينة خبيثة قصيرة الذنب. وذو الطفيتين: حية لها خطان أسودان يشبهان بالخوصتين. وقيل: الذي له خطان أسودان على ظهره.
(4)
الكتاب 1/ 189.
(5)
المحتسب 1/ 116.
هذا إن شاء الله.
ومن ذلك أيضا قول امرئ القيس (1):
أحَارِ تَرىَ بَرْقاً أُرِيكَ وَميِضَهُ
كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
يُضِئُ سَنِاهُ أو مَصَابِيحُ راهبٍ
أهانَ السَّلَيطَ في الذُّبالِ الُمفتَّلِ
يُروى برفع ((مصابيحُ)) عطفاً على موضع ((اليدَيْن))، وجَرَّه عطفا على لفظه. وقول النابغة (2):
(1) كتاب سيبويه 1/ 252، والمقتضب 4/ 234، والخصائص 1/ 69، وابن الشجري 2/ 88، والإنصاف 684، وابن يعيش 9/ 89، والخزانة 9/ 425.
والشعر من معلقته. والوميض: اللمعان الخفي. والحَبِيُّ: السحاب المعترض بالأفق، أو المتداني. والمكلل: المتراكب. شبه انتشار البرق وتشعبه بحركة اليدين وتقليبهما. والسنا: الضوء. والسليط: الزيت أو الشيرج. ومعنى ((أهان السليط)) أكثر من الإيقاد به. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة. يقول: هذا البرق يتلألأ ضوءه، فهو يشبه في تحركه لمع اليدين، أو مصابيح الرهبان التي أميلت فقائلها يصب الزيت عليها في الإضاءة.
(2)
ديوانه 65. وانشق عنها: انكشف عن الناقة وتبيَّن. وعمود الصبح: الخط المستطيل الذي يرى في وجه الصبح. وجافلة: مسرعة ماضية في سيرها. والنحوص: الأتان التي لا لبن لها، ولا حمل بها. شبه ناقته بها في قوتها وسرعتها وشدة سيرها. والقانص: الصائد، واللَّحِم: الذي يأكل اللحم كل يوم، أي أنه محظوظ لا يكاد يخيب وقيل: اللحم هنا: القَرِم إلى اللحم، فهو أحرص له على طلب الصيد. وتحيد: تعدل وتنفر. والأستن: شجر أسود، واحدتها أستنة. وقيل: ثمرة لهذا الشجر. ومش الإماء الغوادي: شبه الأستن في سواد أسافله وطوله بإماء صود يحمان الحُزُمَ. وذو وشوم: ثور وحشي بقوائمه سواد. وحوضي: اسم موضع. والمنكرس: المتداخل المتقبَّض. وأخضلت ديما: أي بلت الأرض بديم، أي مطر دائم لين. وإنما قال ((في ليلة من جمادى، لأن جمادى وافقت في ذلك زمن الشتاء والبرد، فلذلك خصها.
فَانْشَقَّ عنِها عَمُودُ الصُّبْح جَافِلةً
عَدْوَ النَّحوُصِ نَخافُ القانِصِ اللَّحمِاَ
تَحِيدُ عن أَسْتَنٍ سُودٍ أسَافِلُهُ
مَشْيَ الإَماءِ الغَوادِي تَحْمِلُ الحُزُمَا
أَوْذُو وُشُوم بَحْوضَي باتَ مُنْكَرِساً
في ليلةٍ من جُمَادى أَخْضَلَتْ دِيَمَا
فقوله: ((أوذوُوُشُومٍ)) عطف على موضع ((النَّحوصِ)) وهو كثير.
وقوله ((وجُرَّ)) الأول، فعلُ أمرٍ، و ((ما)) في قوله:((ماَ يتْبَعُ)) مفعول به. ويحتمل أن يكون فعلَ ما لك يسمَّ فاعله، و ((ما))، مرفوع به، وهو اسم موصول عائده الضمير المستتر في ((يَتْبَعُ)) فعل مبني للمفعول، كأنه قال: واجْرُرِ التابَع للمجرور بالمصدر. ومن راعى محلَّ المجرور فأتْبع على اعتباره، ومن رفعٍ أو نصبٍ، فلذلك وجهُ حَسَن.
_________
إعمال اسم الفاعل
اسمُ الفاعل هو الاسمُ الجاريِ على فعله المضارع في الحركات والسكنات وعدد الحروف مطلقا، ومُقابلة الزائدِ بالزائد، والأصليِّ بالأصلي، وتعييِن الزيادة في غير الثلاثي، ما عدا زائدَ أولِ الكلمة، مع كونه دالاً على معنى الفعل وفاعله.
والنظر فيه في أمرين:
أحدهما: الأَبْنِيةُ التي يأتي عليها قياسا، والتي لا يأتي عليها قياسا.
والثاني: إعمالهُ عملَ ما جَرَى عليه من الفعل. وكذلك المصدرُ، والصفةُ المشبهَّة باسم الفاعل يُنظر في كل واحدٍ منهما هذان النظران.
وقد تعَّرض الناظم في هذا الموضع لكل واحدٍ منهما في الثلاثة، فتكلم أولاً في إعمال المصدر، فلما أتمَّ ما احتاج إليه فيه شرَع الآن في إعمال اسم الفاعل فقال:
كَفِعله امُ فاعلٍ في العَمَل
إنْ كانَ عَنْ مُضِيِّهِ بِمَعْزِلِ
/ وَوَلى اسْتِفْهَاماً اوْ حَرْفَ نِدَا
…
443
أو نَفْياً اوْجَا صِفَةً أو مُسْنَدَا
يعني أن اسم الفاعل يعمل عملَ فعله الموافقِ له في المادَّة والمعنى، الجاري هو عليه في التصريف، كقولك ضَارِب، ومُسْتَخَرِج، فإنهما
_________
يَعملان عمل: يَضْرِبُ، ويَسْتَخْرِجُ، فتقول: ضاربٌ زيداً غداً، كما تقول: هذا يضربُ زيداً غداً. وهذا مُسْتخِْرجٌ المالَ الآنَ، كما تقول: هذا يَستَخِرجُ المالَ الآنَ. وكذلك ما أشبههما. لكن لما كان اسم الفاعل في العمل فَرْعاً عن الفعل، والفرعُ أبداً لا يَقْوَى قوةَ الأصل- لم يَعمل في كل موضعٍ يَعمل فيه الفعل.
وأيضاً فإنه لما كان عملهُ بالشَّبَه بالفعل المضارع، لجريانه عليه من جهة اللفظ والمعنى، حتى حُمِل عليه المضارع في الإعراب- صار لا يعمل إلا مع تمام الشَّبَه، وكمال الحَمْل.
فلهذين الأمرين صار اسم الفاعل لا يعَمل إلا بقُيُودٍ أتى بها الناظم في قوله: ((إنْ كانَ عِنْ مُضِيَّه بِمَعْزِل)) إلى آخره.
وجملة القيود التي أتى بها في صِحَّة عمله هي: ألَاّ يكون بمعنى الماضي، وأن يَليِ استفهاماً، أو حرفَ نداء، أو حرف نفي، أو أن يأتي صفةً، أو مُسْنَداً إلى غيره.
والجامع لذلك كله شرطان:
أحدهما: إلَاّ يكون اسم الفاعل بمعنى الفعل الماضي، وذلك قوله:((إنْ كانَ عَنْ مُضيَّه بَمعْزِلِ)) يريد ألَاّ يكون زمانه ماضياً، وإنما يكون بمعنى الحال أو الاستقبال.
فلو كان بمعنى الماضي لم يعمل، فلا تقول هذا ضارِبٌ زيداً أمسِ، وإنما تقول: هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ، مضافاً إضافةَ تخصيصٍ لا تخفيف، قال سيبويه: فإذا أَخْبر أن الفعل قد وقع وانقطع فهو بغير تنوينٍ البَتَّة (1).
(1) الكتاب 1/ 171.
يعني أنه لابد من الإضافة المحضة، لأنه إنما أُجْريِ مُجرى الفعل المضارع له، كما أُجري الفعلُ المضارعُ مُجراه في الإعراب، حيث اشْتبَهَا لفظاً ومعنى. قال: فكلُّ واحدٍ منهما داخلُ على صاحبه. قال: فَلَمَّا أراد سِوىَ ذلك المعنى جرى مَجرى الأسماء التي من غير ذلك الفعل (1).
يَعْنى: فلم يَعمل فيما بعده، وإن كان في المعنى مفعولا، إذ لم يُضارع الفعلَ فجرى مَجرى الأسماء الأجنبيَّة، فأضِيف إضافةً محضة.
وما تقررَّ رأي البصريين. وزعم الكسائي أنه يجوز إعمال اسم الفاعل بمعنى الماضي وإن كان عارياً من الألف واللام، وكأنه اعتَبر معنى الفعل مجرَّدا مع أن في القرآن {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِراعَيْهِ بالْوصِيدِ (2)} وحُكى هذا مارُّ بزيدٍ أمسِ.
وأيضاً فمن كلام العلاب: هذا مُعْطِي زيدٍ درهماً أمس، وسيبويه قد مثل بباب ((أعطى)) ههنا، وتكلم عليه (3).
وحكى ابن خروف أن من كلام العرب: هذا ظانُّ زيدٍ شاخصاً أمسِ، وهي المسألة التي أوردها ابن جِنِّي في ((كتاب القد (4))) وأن الفارسي انقطع فيها. وهذا كلُّه ليس فيه حجة على ما قال.
أما الآية فمن باب ((حكاية الحال الماضية)) كقول تعالى: {فَوَجَدَ فيَها رَجُلَيْنِ يَقْتتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِه وِهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ (5)} فهو بمعنى الحال إذاً، وأما
(1) الكتاب 1/ 171.
(2)
سورة الكهف/ آية 18.
(3)
الكتاب 1/ 175.
(4)
في (س)((كتاب القد)) وفي (ت)((كتاب القدر)). وما أثبته من الأصل.
(5)
سورة القصص/ آية 15.
(هذا مارٌّ بزيدٍ أمسِ) فقيل /: إنهم لَمَّا لم يُمكنهم الإضافة نَوَّنُوا. 444
قال ابن خروف: وهذا ضعيف. قال. والأحسن أن تكون حكاية حالٍ كقوله (1):
ولَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنيِ
فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيِنيِ
وأما مسألة (هذاُ مُعْطيِ درهماً أمسِ، وظانٌ زيدٍ شاخصاً أمسِ) فسيأتي الكلام على ما فيها بعد إن شاء الله.
والشرط الثاني: أن يعتمد على شيء يأتي قبله، واعتمادُه على خمسة أمور:
أحدها: حرف نفي، نحو: ما مَارٌّ أنتما بزيدٍ، وما ضاربٌ أنتما عمراً.
والثاني: حرف استفهام، نحو: أضاربٌ أنت زيداً؟
والثالث: حرف نداء، نحو: يا طالعاً جبلاً، ويا ضارباً عمراُ.
والرابع: أن يكون صفةً لموصوفٍ مذكورٍ أو مقدَّر.
فأما المقدَّر فسيُذكر بعد. وأما المذكور فنحو: مررتُ برجلٍ ضاربٍ زيداً غداً.
والخامس: أن يكون مُسْنَداً إلى مبتدأ، لفظاً أو أصلاً، فالمسند إلى المبتدأ لفظاً نحو: زيدٌ ضاربٌ عمراً. والمسند إلى المبتدأ أصلاً نحو:
(1) الكتاب 3/ 24، والخصائص 3/ 330، 332، وابن الشجري 2/ 203، والخزانة 1/ 357، والمغني 102، 429، والعيني 4/ 58، والتصريح 2/ 111، والهمع 1/ 23، والدرر 1/ 4، 2/ 192، والأشموني 1/ 180، 3/ 60، 63.
وهو لرجل من سلول. يعني أنه ينزل من يسبه من اللئام بمنزلة من لم يعنه ولم يقصده احتقاراً له، فهو لذلك لا يرد عليه بالسباب.
إنَّ زيدًا ضاربً عمراً.
فإن لم يَعتمد على شِيء من ذلك لم يَعمل، على مفهوم كلام الناظم، فلا يقال: ضاربٌ الزَّيدانِ أخاكَ، إلا على رأي أبي الحَسَن (1). وقد تقدم الكلام على ذلك في ((باب الابتداء (2)))
فإذا اجتمع ما ذُكر من الشرطين فلا إشكال في الجواز.
فمن ذلك في القرآن {إنَّ اللهَ بلِغٌ أمْرَهُ (3)} - {وَاللهُ غَالبٌ علَى أَمْرِهِ (4)} - وقُرِئ {وَلَا اللَّيْلُ سَابقٌ النَّهارَ (5)}
وأنشد سيبويه لامرئ القيس (6):
إنَّي بَحبْلِكَ واصلٌ حَبْليِ
وبرِيشِ نَبْلِكِ رائِشٌ نَبْليِ
(1) يعني سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط (ت 210 هـ).
(2)
انظر: 1/ 594.
(3)
سورة الطلاق/ آية 3. وقرأه السبعة إلا حفصاً عن عاصم بالتنوين والنصب، وقرأ حفص بالإضافة وانظر: السبعة لابن مجاهد 639.
(4)
سورة يوسف/ آية 21.
(5)
سورة يس/ آية 40.
وانظر: البحر المحيط 7/ 338.
(6)
الكتاب 1/ 164، والجمل 98، وديوانه 239. ورائش: من قولنا: راش السهم بريشه، إذا ركَّب فيه الريش. والنبل: السهام، لا واحد له من لفظه. يقول له: أمرى من أمرك، وهو اي من هواك. وهما مَثَلان ضربهما للمودة والمواصلة.
وأنشد لزُهَيْر (1):
بَدَالِيَ أَميِّ لَسْتُ مُدُرِكَ ما مَضَى
ولا سَابِقاً شَيْئاً إذا كاذَ جَائِيَا
وأنشد أيضا لأبي الأَخْوصِ الريَّاحَي (2):
مَشَائِيمُ لَيْسُوا مصلُحينَ عَشيرَةً
ولانَا عِباً إلَاّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وأنشد لأبي الأَسْوَد (3):
(1) الكتاب 1/ 165، 3/ 29، والجمل 96، والخصائص 2/ 353، 424، والإنصاف 191، 395، 565، وابن يعيش 2/ 52، 7/ 56، والخزانة 9/ 102، والمغني 96، 288، والعيني 2/ 367، 3/ 351، والهمع 5/ 278، وديوانه 287. ومعناه: ظهر لي أني لا أستطيع أن أجلب لنفسي خيراً، أو أدفع عنها شراً.
(2)
الكتاب 1/ 165، 306، 3/ 29، والخصائص 2/ 354، والإنصاف 193، 395، 595، وابن يعيش 2/ 52، 5/ 68، 7/ 57، 8/ 69، والمغني 478، 553، والخزانة 4/ 158، والأشموني 2/ 235.
وينسب للفرزدق أيضا (ديوانه 23). ومشائيم: جمع مشئوم، من الشؤم، وهو الشر. وعشيرة الرجل: بنو ابيه الأقربون والجمع: عشائر. والناعب: الصائح، اسم فاعل من النعيب، وهو صوت الغراب، وكانت العرب تتشاءم به، وتجعله نذيرا للفرقة وتصدع الشمل. والبين: الفراق. يهجو بني يربوع، ويصفهم بالشؤم وقلة الخير والصلاح، وأنهم لا يصلحون أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم، ويروى ((ولانا عبٍ)) بالجر، على تقدير الباء الزائدة في ((مصلحين)) وانظر: الكتاب (3/ 29).
(3)
الكتاب 1/ 169، والمقتضب 1/ 19، 2/ 313، والخصائص 1/ 12، والمنصف 2/ 231، وابن الشجري 1/ 383، والإنصاف 659، وابن يعيش 2/ 9، 9/ 34، والمغني 555، والخزانة 11/ 374، والهمع 6/ 179، والدرر 2/ 230، وملحقات ديوانه 220. ومستعتب: راجع بالعتاب على قبيح ما يفعل، يعني امرأة أغرته بجمالها، وعرضت عليه الزواج فتزوجها، ثم وجدها على غير ما زعمت له من حسن التدبير، فهجاها بقصيدة منها البيت. وانظر: الخزانة 11/ 374، والأغاني 11/ 107.
فَأَلفيْتهُ غَيْرَ مُسْتَعتِبٍ
ولا ذَاكِرِ اللهَ إلَاّ قَلِيلَا
وأنشد أيضا للهُذَلَى (1):
مِمَّن حَمْلنَ به وهُنَّ عَوَاقِدُ
حُبَكَ النَّطاقِ فَعَاشَ غيرَ مُهَبَّلِ
وأنشد للعجاج (2):
* أَوَالِفاً مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الحَمِ *
ثم قال:
وقَدْ يَكُونُ نَعْتُ مَحْذوُفٍ عُرِفْ
فَيْستَحِقُّ الْعَمَل الذَّيِ وُصِفْ
(1) الكتاب 1/ 109، والإنصاف 489، وابن يعيش 6/ 74، والخزانة 8/ 192، والمغني 686، والعيني 3/ 558، والأشموني 2/ 299، وديوان الهذليين 2/ 92 وهو لأبي كبير الهذلي، ويروى ((فشَبَّ)).
والُحبَك: جمع حَبْكة، وهي الحبل يشد به على الوسط، ومن السراويل: ما فيه التَّكة والنطاق: إزار تشده المرأة في وسطها، وترسل أعلاه على أسفله، تقيمه مقام السراويل. والمهَّبل: الثقيل، كأنه المدعو عليه بالهبل، أي فقدامِّه له يصف رجلا شهم الفؤاد نجيبا، وأن علة نجابته أن النساء حملن به، وهن عواقد لنطقهن، ويزعم العرب أن الولد اذا حملت به أمه كرهاً خرج مذكراً نجيباً.
(2)
الكتاب 1/ 26، 110، والخصائص 2/ 135، 473، والمحتسب 1/ 78، والإنصاف 519، وابن يعيش 6/ 74، 75، والعيني 3/ 554، 4/ 285، والتصريح 2/ 189، والأشموني 3/ 183، والهمع 3/ 77، 5/ 344، واللسان (حمم) وديوانه 59.
وقبله: ورَبِّ هذا البَلدِ المحرَّمِ والقاطناتِ البيت غيِر الرُّيَّمِ
والقاطنات: المقيمات. والبيت: الكعبة شرفها الله. والرُّيَّم: اللاتي يبرحنَ ويفارقن. والوُرْق: جمع ورقاء، وهي الحمامة التي لونها بين السواد والغبرة. والحم: الحمام، رُخِّم على غير قياس.
هذا هو الضرب الثاني من كَوْن اسم الفاعل جارياً على مَوْصوف، وهو أن يكون الموصوف محذوفاً، نحو: مررت بضاربٍ زيداً، ومنه ما أنشده سيبويه (1):
ومَا كُلُّ ذِي لُبٍّ بُمْؤتِيكَ نُصْحَهُ
وما كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
وأنشد أيضا لعمر بن أبي ربيعة (2):
ومِنْ مَالِئٍ عَيْنَيْهِ من شِيْء غَيْرِه
إذا رَاَحَ نَحو الجَمْرةِ البِيضُ كالدُّمَى
وأنشد للمرار الأسدي (3):
سَلِّ الهُمومَ بكلِّ مُعْطِي رَأسِهِ
ناجٍ مُخَالِطِ صُهْبَةٍ مُتَعَيِّسِ
(1) الكتاب 4/ 441، والهمع 5/ 80، والدرر 2/ 128، والمغني 198، والأغاني 11/ 105.
والبيت لأبي الأسود الدؤلي، ديوانه (99) وقيل: لمودود العنبري، وبعده:
ولكن إذا ما استَجْمعَا عند واحدٍ فحُقَّ له من طاعةٍ بنَصِيبِ
ومعنى البيت: أن العاقل قد يضن عليك بنصحه، كما قد ينصحك غَير اللبَيب فلا ينفعك نصحه، ويعني بذلك ندرة الناصح العاقل.
(2)
الكتاب 1/ 165، والجمل 97، والعيني 3/ 521، وديوانه 451 وقبله:
وكم من قتيلٍ لأيباءُ به دَمُ ومن غَلِقٍ رَهْناً إذا ضَمَّه مِنَي
ومن شِيء غيره: يعني نساء غيره. والجمرة: موضع رمي الجمار بمنى. والبيض: النساء البيض. والدمى: صور الرخام. شبه النساء بها الان الصانع لا يدَّخروُ سْعاً في تحسينها، ولمالهن من السكينة والوقار
(3)
الكتاب 1/ 168، 426، والمحتسب 1/ 184، واللسان (عردس). ومعطي رأسه: ذلول منقاد، يعني البعير. وناج: سريع، والنجاء: السرعة. والصهبة: بياض يضرب إلى الحمرة، وذلك علامة الكرم والغنق. والمتعيس والأعيس: الأبيض تخالطه شقرة. يقول: سل همك اللازم لك بفراق من تهوى بُعْده عنك بكل بعير ترتحله للسفر، هذه صفته.
وإنما عمل هنا وإن لم يَجْرِ على موصوفٍ في الظاهر لأنه في التقدير جارٍ عليه، فصار كالجاري حقيقة، فلذلك قال:((وقَدْ يكونُ نعتَ محذوفٍ عُرِفَ فَيسْتِحق كَذا)) أي صار لأجل هذا الجريان المقدَّر يعمل عملَ فعله.
وإنما يُحذف الموصوف/ إذا عُرف، وإلَاّ فمررتُ بقائمٍ- لا يجوز، فلابد أن يكون 445 معروفا، بأن تكون الصفةُ مختصَّةً، كمررتُ بعاقلٍ، فكذلك هنا.
هذا بيان ما ذكَر من شرط الإعمال. وقد بقى في كلامه دَرَكُ من أربعة أوجه:
أحدها: أن اسم الفاعل بمعنى الماضي قد أخرجه عن حكم العمل، وهذا العمل المنفيُّ أنه الرفع والنصب لفظاً أو محلاً، فلا يعمل رفعاً، أعني في الظاهر أو ما جرى مجراه، ولا نصباً أيضاً.
أما كونُه لا يَعمل نصباً فظاهر. وأما كونه لا يعمل الرفعَ المذكور ففيه نظر، فقد قال بعض النحويين: إن الخلاف إنما وقع في النصب، وأما الرفع فيجوز باتفاق، فتقول: مررت برجلٍ ضاربٍ أمسِ، بجر ((ضاربٍ)) ورفع ((الأبُ)) على الفاعليه.
واحْتُجَّ على ذلك بأن قال: لا خلاف في أن اسم الفاعل بمعنى الماضي إذا جَرى على مَنْ هو له- يرفع المضمر، رَفع المضمر يَرْفع الظاهر، إذا جرى على غير مَنْ هو له.
وهذا النحوَ نَحا ابنُ عُصْفور حسبما وقع له في تقييد الصفَّار (1)
(1) سبقت ترجمته.
عنه. فإذا كان الأمر على ما وصفة فكيف يُطلق الناظم القولَ بالعمل، ثم يَستثني الذي بمعنى الماضي، فإذاً لا يرفع الظاهر ولا الضمير المنفصل، وذلك غير مستقيم. أما رفع الضمير المستتر فلا كلام فيه، لأنه لازم لكل صفة، من حيث الاشتقاق أو الجريان مَجرى المشتق. فالحاصل أن كلامه مُعْتَرض.
والثاني: أنه ذكَر شرط الاعتماد ومواضعَه، ولم يُوفِ بها، إذ عادة النحويين أن يزَيَدوا فيها: أن يقع اسم الفاعل حالاً لذِي حال، أوصلةً لموصوف. أما وقوعه صلةً فلذلك لا يكون إلا مع الألف واللام، فذلك هو الموصول، وسيذكره
وأمَّا وقوعه حالاً فلم يذكره، وقد كان من حَقِّه ذلك، لصحة قولك: مررتُ بزيدٍ ضارباً عمراً، ومنه قول أبي الأسود (1):
فَأَلْفَيْتُهُ غَيرَ مُسْتَعْتِبٍ
ولا ذَاكرَ اللهَ إلَاّ قَلِيلَا
فإذا ثبت هذا فكلامه يقتضي أنه بذلك الاعتماد، وذلك لا يستقيم باتَّفاق.
والثالث: أنه ذكر شرطين، وترك ثلاثة شروط.
أحدها: الأَّ يُصَغَّر، فلا يقال: هذا ضُوَيْربٌ زيداً، وما حُكى من قولهم:
انا مُرْتَحِلُ فسُوَيْئرٌ فَرْسَخاً- فشاذ.
وأيضاً فلا حجة فيه، لأن الظرف والمجرورات يعمل فيها رائحةُ الفعل، ولذلك أيضا ساغ: أنا مارٌّ بزيدٍ أمسِ.
(1) سبق الاستشهاد به.
والثاني: ألا يُوصف قبل العمل، فلا يقال: هذا ضاربٌ عاقلٌ زيداً. نصَّ عليه سيبويه وغيره.
فإن جاء من ذلك شِيء فشاذ، كقول طُفَيل، أنشده الفارسي، وقال: أنشدنيه أبو إسحاق (1):
ورَاكِضَةٍ ما تَسْتَجِنُّ بِجُنَّةٍ
بَغِيَر حِلَالٍ غادَرَتْهُ مُجَعْفَلِ
وقال بِشرْ بن أبي خازم (2):
إذَا فَاقِدٌ خطْبَاءُ فَرْخَيْنِ رَجَّعَتْ
ذكرتُ سُليْمَى في الخَليِطِ المُبايِنِ
مع أنه قد يُتأول على حذف الجار، أي على بَعِيرِ حِلالٍ، وعلى فَرْخَيْن. ويتعلَّق الأول باسم فاعل صفة/ والثاني بـ ((رَجَّعَتْ)) أو يُنصبان بفعل يفسِّره اسم الفاعل، فلا يكون في
…
446 ذلك حجة.
والثالث: أَلَاّ يَجرىَ مُجرى الأسماء الجامدة، فإنه إذ أُجرى مُجراها لم يعمل على حال، فتقول: هذا ضاربُ زيدٍ، كما تقول: هذا صاحبُ زيدٍ، أو: هذا أخو زيدٍ.
(1) اللسان (جعفل، حلل).
والراكضة: من ركض الدابة، إذا ضرب جنبيها برجله. وتستجن: تستتر. والجنة: ما واراك من السلاح، واستترت به منه. والحلال: مركب من مراكب النساء. والمجعفل: المقلوب.
(2)
العيني 3/ 560، والأشموني 2/ 294، واللسان (فقد). وليس في ديوانه. والفاقد من الظباء والبقر والحمام: التي شبع ولدها، ومن النساء: التي مات زوجها أو ولدها أو حميمها. والخطباء: من الخُطبة، وهو لون يضرب إلى الكدرة، مشرب حمرة في صفرة. ورجعت: قطَّعت الصوت. والخليط: المخالط. والمباين: المفارق.
نصَّ على ذلك سيبويه (1)، ولا أعلم فيه خلافا.
ولم يَنُضَّ الناظم على شيء من ذلك، فلا جَرَم أنه قاصر.
والجواب عن الأول أن المراد عملُ الرفع والنصب، وأن اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل نصباً ولا رفعا، أعني رفعَ الظاهر، وما حَكى ذلك المتأخرُ من الاتفاق لَا يَثْبت.
وأما رفعُه للضمير المنفصل إذا جَرى على غير من هو له فإنما أُبرز لضرورة اللَّبس، ومع ذلك فهو بمنزلة الضمير المتصل. ألا ترى أنك لا تقول: ما ضربتُ إلا إيَّايَ، كما تقول: ضَرَبْتُنيِ، فلا يتعدَّى فعلُ المُضْمَرِ المتصل إلى مُضْمَرهِ، متصلاً كان أو منفصلاً، فلم يُعتبر بانفصاله هنا، ولم يُلحق بالظاهر فيجازُ كما جاز: ما ضربتُ إلا نفسي.
فهذا واضح في أن انفصال الضمير لا يصيَّره كالظاهر من كل وجه. وإذا كان كذلك لم يصح أن يُقاس الظاهر على الضمير المنفصل.
وأيضاً لو صَحَّ قياس الظاهر على الضمير لصحَّ في نحو: مررتُ بقاعٍ عرْفجٍ كُلُّه (2)، وفي: مررت بقومٍ عَرَبٍ أجمعون (3)، وبابُه أن يرفع الظاهر.
وكذلك (أفعل التفضيل) فإنه يَرفع الظاهر بلا شرط، كما يرفع الضمير كذلك. وهذا كله غير صحيح.
فإطلاق الناظم في العمل، وتحُّرزه من الذي بمعنى الماضي، وأنه لا يعمل
(1) الكتاب 2/ 22.
(2)
الكتاب 2/ 24.
(3)
المصدر السابق 2/ 31.
رفعا ولا نصبا، صحيحُ جارٍ على الطريقة (1).
وعن الثاني أن وقوعه حالاً في معنى وقوعه خبراً، لأن الحال خبرُ مُن الأخبار. وأيضا فأصله النعت، إلا إنه لم يصح جريانه على الموصوف للاختلاف نُصِب، فهو راجع إلى جريانه نعتاً لمنعوت.
وعن الثالث أن اشتراط عدم التصغير وعدمِ الوصف مختلَفٌ فيه، فالكسائي يجيز الإعمال مع وجود الأمرين. وغيُره يمنع، فيمكن أن يكون الناظم ذهب إلى مذهب الكسائي محتجاً بما احتَج به، وهو بعيد. والأظهر أن ذلك مِمَّا نّقّصه. فلو قال مثلا بعد قوله:((وَوَلِى اَسْتِفْهَاماً)) إلى آخر الشَّطْرَيْن:
غيرَ مَصَغَّرٍ ولا قَبْلُ وُصِفْ
كذا إذا جَا نَعْتَ مَحْذوُفٍ عُرِفْ
يعني: قبل العمل- لصلح (2) القانون، ولم يُخِلّ إسقاطُ قوله:((فَيَسْتَحِقُّ العملَ الذي وُصِفْ)) لأن قوله في البيت المُصلَح به: ((كذا إذا جَاءَ)) يؤدِّي معناه. وأما عدم جَرَيانه مَجرى الأسماء فاشتراطه مستفادُ من قوله أول الباب: ((كَفِعْلِه اسمُ فاعلٍ في الْعَمَلِ)) فإن اسم الفاعل في الإصطلاح إنما يُطلق على ما كان فيه معنى الفعل باقياً مُستفاداً، بخلاف ما تُنُوسِيَ فيه معنى الفعل، فإنه لا يسمَّى اسم فاعل حقيقة، كما لا يسمى ((صاحبٌ)) اسم فاعل.
فإذا ثبت هذا فلادَ دَرَك بذلك على الناظم. والله أعلم.
وجميعُ ما ذُكر إنما هو فيما إذا كان اسم الفاعل مُعَرى عن الألف
(1) في الأصل، و (ت)((على الظرفية)) وهو تحريف. وما أثبته من (س) وحاشية الأصل.
(2)
في (س، ت)((لصح)).
/ واللام. فأما إن كان ذا ألفٍ ولامٍ فله حكمٌ آخر في الإعمال، ذكَره في قوله:
…
447
وَإنْ يَكُنْ صِلَةَ أَلْ فَفِي المُضِي
وغَيْرِه إعْمَاُلُه قَدِ ارْتُضِي
يعني أن اسم الفاعل إذا وقع صلة (أل) لم يَحتج في إعماله إلى اشتراط ما تقدَّم، من كونه بمعنى الحال أو الاستقبال، بل يَعمل عملَ فعله مطلقا، كان بمعنى الماضي أوْ لَا، فتقول: أعجبني الضاربُ زيداً أمسِ، كما تقول: أعجبني الضاربُ زيداً الآنَ أو غداً.
وسبب ذلك انه وقع موقعاً يجب فيه تأوُّلُه بالفعل، كما يجب أن تُؤَوَّل الألف واللام بـ ((الذي)) و ((التي)) أو غيرهما من الموصولات، فكأنَّ اسم الفاعل إذ ذاك عاملٌ بالنِّيَابة لا بالشَّبَه. وإذا كان كذلك فالمضيُّ وغيرهُ في ذلك سواء.
ثم هنا مسألتان: إحداهما: أنه قال: ((فَفِي المُضيِّ وغيرِه)) ففيه تصريح بأن ذا الألف واللام يكون بمعنى الحال والاستقبال، ويستعمل كذلك، كما يكون بمعنى الماضي.
وهذا رأي الأكثر، وذهب الرَّماني (1) وجماعة إلى أن اسم الفاعل المقرونَ بالألف واللام لا يكون عاملاً إلَاّ بمعنى الماضي.
والحاملُ لهم على ذلك أن سيبويه حين ذكر اسم الفاعل المقرونَ بهما لم يقدِّره إلا بالذي فَعَل. قال في أبواب ((الاشتغال)): ومما لا يكون
(1) هو أبو الحسن بن عيسى بن علي الرماني، كان إماماً في العربية، علامة في الأدب، في طبقة الفارسي والسيرافي، أخذ عن الزجاج وابن سراج وابن دريد. صنف: التفسير، والحدود الأكبر والأصغر، وشرح اصول ابن السراج، وشرح سيبويه وغيرها (ت 384 هـ).
فيه إلا. الرفعُ: أعبدُ اللهِ أنت الضاربُه؟ لأنك إنما تريد معنى: أنت الذي ضَربَه (1)؟ وقال في بابٍ من ابواب ((اسم الفاعل)): ((هذا بابٌ صار فيه الفاعل بمنزلة الذي فَعَل في المعنى)). ثم قال: وهذا قولك: هو الضاربُ زيداً، فصار في معنى الذي ضَربَ زيداً، وعَملَه (2). ولم يُعرِّج على معنى الحال والاستقبال.
وأجاب السَّيرافي وغيره عن هذا بأنه قد استقَرَ عمله بمعنى الحال والاستقبال دون الألف واللام، ولا يشُك أحد أنه عَمِل بمعنى الماضي أنه بمعنى الحال والاستقبال أَوْلَى بذلك.
وأيضاً فالإعمال فيه لا بمعنى الحال شهيرٌ في كلام العرب وفي القرآن الكريم، كقوله تعالى:{والْحَافِظِينَ فُرُجَهُمْ والْحَافِظَاتِ والذَّاكِرينَ اللهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتِ (3)} وقوله: {وَالْمقُيِميِنَ الصَّلَاةَ والُمؤْتُونَ الزَّكَاةَ والْمؤْمُنِونَ باللهِ والْيَوْم الأخِر (4)} وقوله: {والصَّابِينَ على مَا أَصَابَهُمْ والْمُقِيميِ الصَّلَاةِ (5)} وذلك كثير. وقال عمرو بن كُلْثوم (6).
(1) الكتاب 1/ 130.
(2)
المصدر السابق 1/ 181.
(3)
سورة الأحزاب/ آية 35.
(4)
سورة النساء/ آية 162.
(5)
سورة الحج/ آية 35.
(6)
من معلقته، شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري (419) والصَّفو والصفاء: ضد الكدر، وصفوة كل شيء: خالصه. وقد ضرب الماء مثلا، يريد أننا نغلب على الأفضل من كل شيء فنحوزه، ولا يصل الناس إلا إلى ما ننفيه ولا نريده، لعزنا وامتناع جانبنا.
وأَنَّا الشَّارِبُونَ الماءَ صَفْواً
ويَشْرَبُ غيرُنَا كَدِراً وطِينَا
وأنشد سيبويه، وزعموا أنه مصنوع (1):
هُمُ القائِلُونَ الخَيْرِ والآمِرُونَهُ
إذا مَا خَشُوا من مُحْدَثِ الأمرِ مُعْظَمَا
وإذا كان كذلك لم يصح أن يُجعل كلام سيبويه على ظاهره مع كثرة ما جاء بخلافه، فيَبْعُد غاية البُعْد أن يغيب مثلُ هذا عن سيبويه، مع تبحُّره واتساع حفظه واطلاعه.
والانية: أنه قد ظهر من كلامه أن إعمال ذي الألف واللام إعمالٌ صحيح، على حد إعمال الفعل، لقوله:((إعمالُه قَدِ ارْتُضيِ)).
وهو رأي الجمهور، ونقل السَّيرافي عن الأخفش أن نصب نحو: الضاربُ زيداً- إذا كام ماضيا- كنصب ((الوجَه)) في (الحَسَن الوجْه) يريد على التشبيه بالمفعول به، لا على المفعوليَّة الصحيحة.
ووجه ذلك عنده أن اسم الفاعل بمعنى الماضي/ أصلُه ألَاّ يعمل، وأن يضاف إلى ما هو
…
448 مفعول (2) في المعنى إضافةَ تخصيص، فإذا دخلت الألف واللام امتنعت الإضافة، واحْتِيج إلى ذكر المفعول للفائدة الحاصلة به فنُصِب تشبيهاً.
(1) الكتاب 1/ 188، وابن يعيش 2/ 125، والخزانة 4/ 269، والهمع 5/ 342، والدرر 2/ 215. ومحدث الأمر: حادثه. والمعظم: الأمر يعظم دفعه.
(2)
هذه الكلمة ساقطة من الأصل، و (ت) وأثبتها من (س) وحاشية الأصل.
وما قاله قد يُشعر به كلامُ سيبويه، ولكنه لا ينهض عُذْراً لما قال، إذ قد تقدَّم أن عملَه ليس بالشَّبَه، إذ لا شَبَه له بالفعل إذْ ذاك إلا من جهة المعنى، ولو كان الشبهُ المعنويُّ كافياً لكَفى في إعماله بمعنى الماضي مجرَّداً عن الألف واللام، فكنت تقول: هذا ضاربٌ زيداً أمسِ، وهو رأي الكسائي.
فَلمَّا لم يكن كذلك دَلَّ على أن الشبَه غيرُ معتبرٍ هنا، وأنه إنما عمل بالنِّيَابة. وإذا ثبت ذلك، وكان إعمال النائب إعمالاً صحيحا، كضَرْباً زيداً، وما أشبه ذلك- فالواجب هنا كذلك، فالأظهر ما نَصَّ عليه الناظم.
وقوله: ((فَفِي المُضِي)) يَحتمل أن يتعلق باسم فاعل حال من ضمير ((ارْتُضِى)) أي إعمالُه قد ارْتُضِى كائناً في المضي، وهو على حذف المضاف، تقديره: في ذي المُضِي، أو بفعلٍ مضمر يفسره الصدر الذي هو ((إعمالُه)) والتقدير: فيعمل في المضي إعمالُه فيه قد ارْتُضى.
فَعَّالٌ اوْ مشفْعَالٌ اوْ فَعُولُ
في كَثْرةٍ عن فاعلٍ بَدِيلُ
فَيَسْتَحِقُّ مَالَهُ من عَمَلِ
وفي فَعِيلٍ قَلَّ ذَا وفَعِلِ
هذا فصل ((أمثلة المبالغة)) وحكمها.
وهي خمسة، ابتدأ الكلام على ثلاثةٍ منها، وهي (فَعَّال، ومِفْعال، وفَعُول) لكونها في كثرة الاستعمال هنا أدخلَ من الباقين.
ويعني أن هذه الأمثلة بدلٌ من اسم الفاعل، وعِوَضٌ منه من جهة المعنى، لكن حيث يُقصد الإخبارُ بالمبالغة في كثرة الفعل، فهي مُشْعِرة بكثرة وقوع
_________
الفعل الذي يُقال بسببه للفاعل: فاعل.
وهذا معنى قولك ((في كَثْرَةٍ)) أي موضع كثرة الفعل، فـ (قَوَّامٌ) معناه: قائمٌ كثيرا، و (ضَرُوبٌ) معناه: ضاربٌ كثيرا، و (مِنْحَارٌ) معناه: ناحرٌ كثيرا. فإن قيل: فإذاً ليس واحدٌ منها بدلاً عن اسم الفاعل من جهة المعنى، إذْ كان اسم الفاعل لا إشعار له بكثرةٍ ولا مبالغة، بخلاف هذه الأمثلة، فكيف يصح أن يقول: إنها بَدَلٌ عنه؟
فالجواب أن اسم الفاعل دالٌّ على مُطْلق الفعل، كان كثيراً أو قليلاً، فيقال:(فاعل) لمن تكرَّر منه الفعل وكَثُر، ولمن وقع منه فعلٌ ما، لكنه من جهة وَضْعه لا إشعار له بخصوص فعل، فإذا أرادوا أن يُشْعروا بالكَثرة وَضعوا لها مِثَالاً دالاً عليها فقالوا:(فَعُول) أو (فَعَّال) أو (مِفْعَال).
فـ (فَعُول) في الحقيقة إنما هو بَدَلٌ من (فاعل) المراد به الكثرة، وليس بدلاً من (فاعل) مطلقاً. وكذلك سائر الأمثلة.
وإذا فُهم هذا تبيَّن أن كل واحد منها بدل من (فاعل) في المعنى، فظهر أن قوله:((عَنْ فَاعلٍ بَدِيلُ)) صحيح. أي عن (فاعل) الموضوع في موضع الكثرة، ولذلك قال:((في كَثْرة)) إذْ ما قال: إنه / بدل عن (فاعل) إذا كان في موضع الكثرة. ويتحرَّز بهذا القيد من هذه الأمثلة 449 إذا لم يُقْصد بها كثرةُ الفعل العلاجي، فإنها لا تجري (1) مجرى اسم الفاعل في العمل، وذلك أن هذه الأمثلة تأتي في الكلام في الجملة على ثلاثة أقسام:
(1) في الأصل، و (ت)((فإنها تجري)) والصواب ما أثبته من (س) وحاشية الأصل.
أحدها: هذا الذي شَرَع فيه.
والثاني: أن تأتي للمبالغة في الصفة، لا في كثرة الفعل، كـ (مِحْسَانٍ) إذ كان عند سيبويه في معنى: ما أحسَتَه (1)، وكذلك إذا دخلها معنى النَّسب، نحو: قَؤُول، ومِقْوال، فإن معناها المبالغة في القول وتكثيره، لكن لا على معنى الفعل، بل على معنى: ذي كذا، كأنه يقول: ذو قَوْل، أو على الياء، كأنه يقول: قَوْلِيٌّ، في: قَؤُولٍ، ومِقْوالٍ، وضَرْبيُّ، في: ضَرُوبٍ.
فهذا كله ليس على معنى الفعل العلاجي، كحائضٍ وطامثٍ، ولذلك لا تدخلها الهاء للمؤنث، فلذلك لا تعمل عمل الفعل اصلا، لما دخله من معنى النَّسَب، كما لا يعمل نحو: تَمَّار، وفَكَّاه، ونَهِر، وفي قول الشاعر (2):
* لَسْتُ بِلَيْلىٍّ ولَكِنِّي نَهِرْ *
ومثل ذلك كثير، وهو الذي يُذكر في باب ((المذكر والمؤنث)).
والثالث: أن تأتي لغير مبالغةٍ أصلا، نحو: كَرُمَ فهو كَرِيمٌ، وشَرُفَ فهو شَرِيفٌ، وصَدِىَ فهو صَدٍ، وكَلِفٌ، فهو كَلِفٌ وما أشبه ذلك، مما هو جارٍ على فعله قياساً، أعني في البناء.
فهذا القسم أيضاً لا يعمل عمل اسم الفاعل، إذ ليس بمقصودٍ به تكثيرُ الفعل، وإنما هو من بابٍ آخر.
فمن هذا كلِّه تحرَز بقوله: ((في كَثْرةٍ عن فاعلٍ بَديلُ))، إذ ليس جميعُ هذا
(1) الكتاب 4/ 98.
(2)
الكتاب 3/ 384، ونوادر أبي زيد 249، والعيني 4/ 541، والتصريح 2/ 337، والأشموني 4/ 201، واللسان (نهر، ليل) وبعده:
* لا أُدْلِجُ الليلَ ولكنْ أبتكرْ *
والإدلاج: سير الليل كله. يقول: أسير بالنهار، ولا أستطيع سرى الليل.
بديلاً عن (فاعل) فكان مضطراً إلى إخراجه.
فإن قيل: لِمَ أَتى بهذا كُلِّه، وكان أخصرَ أن يقول كما قال غيره: إن أمثلة المبالغة تعمل عملَ اسم الفاعل؟
قيل: فائدته أمران:
أحدهما: ما تقدم من إخراجه تلك الأمثلة التي على معنى النَّسَب أو التعجُّب، فإنها للمبالغة والكَثْرة، لكنها لا تقتضي كثرة فعلٍ عِلَاجي.
والثاني: أن هذه المقدمة عِلَّةٌ واعتذار لعمل هذه الأمثلة عملَ الفعل، وهي غير جاريةٍ على الفعل، ولا تامَّةِ الشَّبَه به، إذ لم تُشْبهه إلا في المعنى خاصة، والشَّبَه المعتبرَ عند الجمهور إنما هو اجتماع الشَّبَهين، المعنوي واللفظي، ولذلك لم يعمل اسم الفاعل بمعنى الماضي.
فكأن القائل يقول: كيف أُعْمِلتْ هذه الأمثلة، وليست شبيهةً بالمضارع، ولا جاريةً عليه جريانَ اسم الفاعل، فاعتذر عن هذا بأن هذه الأمثلة موضوعةٌ في موضع اسم الفاعل التامِّ الشَّبَهِ، فكأنها إنما تعمل بالنيابة.
فلأجل هذا القَصْد أَتى بالفاء المقتَضِية للعِلَّة، في قوله:((فيَسْتَحِقُّ مَالَهُ من عَمَلٍ)) أي إنه بدلٌ منه، فيعمل لذلك عملَه، وهو ظاهر.
وقسم الناظم هذه الأمثلة قسمين:
أحدهما: ما يعمل كثيرا، فهو مما يَكْثُر استعمالُه، وذلك (فَعَّالٌ، ومِفْعَالٌ، وفَعُولٌ).
والثاني: ما يعمل بقلّة، وهو (فَعِيلٌ، وفَعِلٌ).
ودَلَّ على ذلك قوله: ((وفي فَعِيلٍ قَلَّ ذا وفَعِلِ)) فقَيَّد هذين بالقلة، وأطلق القول فيما تقدم، فدل على أنها في باب الإعمال كثيرة الاستعمال.
_________
فأما الأول فمثال (فَعَّالٍ) فيه قولك: أنا ضَرَّابٌ زيداً، وقَتَّالٌ الأبطالَ.
وحكى سيبويه: أما العَسَلَ فأنا شَرَّابٌ (1).
/ وأنشد للقُلَاخ (2):
…
450
أخَا الْحَربِ لَبَّاساً إليها جِلَالَهَا
ولَيْسَ بَولَاّجِ الخَوالِفِ أَعْقَلَا
وأنشد أيضاً لرؤبة (3):
* بِرَأْسِ دَمَّاغٍ رُءوُسَ العِزِّ *
ومثال (مِفْعَالٍ) قولك: أنا مَضْرابٌ زيداً. ومن كلامهم: إنه لمنْحارٌ بوائكَها (4). ومثال (فَعُولٍ) قولك: أنا ضَرُوبٌ زيداً، وأنشد سيبويه لذي
(1) الكتاب 1/ 111.
(2)
الكتاب 1/ 111، والمقتضب 2/ 113، وابن يعيش 6/ 70، والتصريح 2/ 68، والهمع 5/ 86، والدرر 2/ 129، والأشموني 2/ 296، والعيني 3/ 535. وأخو الحرب: الملازم لها، والمتهئ المستعد. والجلال: جمع جُل (بالضم) وأصله ما يلبس المحارب من سلاح كالدرع ونحوها. والولاج: الكثير الدخول في البيوت يتردد فيها، من ضعف همته وعجزه. والخوالف: جمع خالفة، وهي عمود في مؤخر البيت. والأعقل: الذي تصطك ركبتاه في المشي ضعفا أو خلقة.
(3)
الكتاب 1/ 113، وديوانه 64. وهو من أرجوزة يمدح بها أبان بن الوليد البجلي. والدمَّاغ: مبالغة دامغ، وهو الذي يبلغ بالشجة إلى الدماغ. والمراد رءوس العز رءوس أهل العز.
(4)
الكتاب 1/ 112، والبوائك: جمع بائكة، وهي السمينة الحسنة.
الرمة (1):
هَجُومٌ عَلَيْهَا نَفْسَهُ غيَر أنَّهُ
مَتَى يُرْمَ في عَيْنَيْهِ بالشَّبْحِ يَنْهَضِ
وأنشد أيضاً، وهو منسوب في الكتاب لأبي ذُؤَيب، قال السِّيرافي: وإنما هو للراعي (2):
قَلَى دِينَهُ واهْتَاجَ للِشَّوْقِ إنَّهَا
على الشوقِ إخْوَانَ العَزَاءِ هَيُوجُ
وأنشد لأبي طالب بن عبد المطلب (3):
(1) الكتاب 1/ 110، والحيوان 4/ 347، وديوانه 324. يصف ظليما، وهو ذكر النعام. والشبْح- بالسكون- لغة في الشبَح بفتحها، وهو ما بدا لك شخصه غير جليٍّ من بعْد. وشبح الشيء كذلك: ظله وخياله. يقول: يلقي نفسه على البيض حاضناً له، فإذا فوجئ بشبح شخصٍ فارق بيضه ونهض هاربا.
(2)
الكتاب 1/ 111، والعيني 4/ 536، والأشموني 2/ 297، واللسان (هيج، أخا) والصواب أنه للراعي، كما في اللسان والعيني، وليس في ديوان الهذليين. وقبله:
عَشِيَّةَ سُعْدَى لو تَراءتْ لراهبٍ بدُومَةَ تَجْرٌ دوُنَهُ وحَجِيجُ
ودومة- بضم الدال وفتحها- موضع بين الشام والعراق، وتسمى ((دومة الجندل)) وتجر: جمع تاجر. وحجيج: جمع حاج. وقلى: أبغض. واهتاج: ثار. وإخوان العزاء: الذين يصبرون فلا يجزعون ولا يخشعون. يصف امرأة بأنها لو نظر إليها راهب لكره دينه واهتاج شوقا إليها، وإنها لإفراط حسنها وجمالها تسلب أصحاب العزاء والسلوة عن النساء وعزاءهم، وتحملهم على الصبا.
(3)
الكتاب 1/ 111، والمقتضب 2/ 14، وابن يعيش 6/ 70، وابن الشجري 2/ 106، والخزانة 8/ 146، والعيني 3/ 359، والتصريح 2/ 68، والأشموني 2/ 297. من قصيدة له يرثي بها أبا أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكان زوج أخته عاتكة بنت عبدالمطلب، فخرج تاجرا إلى الشام فمات في الطريق. ونصل السيف: سنه وشفرته. والسمان: جمع سمينة، يعني سمان الإبل. وكانوا إذا أرادوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فخرت، ثم نحروها.
ضَروُبٌ بِنَصْلِ السَّيفِ سُوقَ سِمَانِها
إذا عَدِمُوا زاداً فإنَّكَ عَاقِرُ
وأنشد أيضا (1):
بَكَيْتُ أخَاَلا وَاءَ يُحْمَدُ يَوْمُهُ
كَرِيمٌ رُءُوسَ الدَّارِعِينَ ضَرُوبُ
وأما القسم الثاني فمثال (فَعِيلٍ) قولك: إنَّ الله سميعٌ دعاءَك.
وأنشد سيبويه لساعدة بن جُؤَيَّة (2):
حَتَّى شَاهَا كَلِيلٌ مُوْهِناً عَمِلٌ
باتَتْ طِرَاباً وبات اللَّيْلَ لمَ ينَمِ
فنصب ((مَوْهِناً)) على المفعول بـ ((كَلِيلِ)) لأنه في معنى: مُكِلٍّ.
وأنشد لابن أحمر في إعمال (فَعِلٍ)(3):
(1) الكتاب 1/ 111، وابن يعيش 6/ 70، 71. يرثي رجلا شجاعا كريما فقده فبكى عليه. واللأواء بالشدة. والدارع: لابس الدرع. ومعنى ((يحمد يومه)) أن كل أيامه محمودة، أما في الحرب فلبسالته، وأما في السلم فلعطائه وبذله.
(2)
الكتاب 1/ 114، والمقتضب 2/ 114، والمنصف 3/ 76، وابن يعيش 6/ 72، والخزانة 8/ 155، والمغني 435، وديوان الهذليين 1/ 198، واللسان (طرب، عمل، شأى). وشَاها: شاقها وطَرَّبها. والمَوْهِن والوَهْن: نحو من نصف الليل، أو ساعة تمضي من الليل. وعَمِل: ذو عمل. وطرابا: جمع طَرِب، من الطرب، وهو خفة تعتري عند شدة الفرح. يصف حمارا وأتنا عطاشا، نظرت إلى برقٍ، فطربت له منساقة إليه في أماكنه، وبات البرق ليله لم ينم، أي استمر في لمعانه. وقوله:((كليل موهنا)) مجاز، كما تقول: أتعبت ليلي، إذا سرت فيه سيرا حثيثا.
(3)
الكتاب 1/ 112، وابن يعيش 6/ 72، والخزانة 2/ 241، والأشموني 2/ 298، والعيني 3/ 513، واللسان (عضد، عمل). والبيت للبيد (ديوانه 125) وليس لابن أحمر كما ذكر سيبويه رحمه الله =
إوْ مِسْحَلٌ شَنِجٌ عَضَادَةَ سَمْجَحٍ
بَسراتهِ نَدْبٌ لها وكُلُومُ
وأنشد أيضا (1):
حَذِرٌ أموراً لا تَضِيُر وآمِنٌ
ما لَيْسَ مُنْجِيَهُ من الأَقْدَارِ
وهو قليل في هذا القسم، بخلاف القسم الأول
قال سيبويه (2): فما هو الأصلُ الذي عليه أكثرُ هذا المعنى: فَعُولٌ، وفَعَّالٌ، ومِفْعَالٌ، وفَعِلٌ.
ثم قال: وقد جاء (فَعِيلٌ) كرَحِيم، وعَليم، وسميع، وبصير.
ثم قال بعد ذلك: و (فَعِلٌ) أقلُّ من (فَعِيل) بكثير (3).
فقوله: ((وقد جاء فَعِيلٌ)) يُؤْذن بالقِلَّة فيه، ثم جعلَ (فَعِلاً) أقلَّ منه.
وتقديم الناظم (فَعِيلاً) قد يُؤذن بتقديمه في الكثرة على (فَعِلٍ) وذلك نَصُّ سيبويه.
وبعد، فهنا سِتُّ مسائل:
=
…
والمسحل: الحمار الوحشي، وسحيله: أشد نهيقه. وشنج: ملازم. والعِضادة: الجانب. والسمجح: الأتان طويل الظهر. والسراة: أعلى الظهر. والندب: آثار الجراح. والكلوم: الجراح، جمع (كَلْم). يقول: إن الإتان ترمح الحمار وتكلمه تخلصاً من حمله عليها.
(1)
الكتاب 1/ 113، والمقتضب 2/ 116، والجمل 155، وابن الشجري 2/ 107، وابن يعيش 6/ 71، والخزانة 8/ 169، والعيني 3/ 543، والأشموني 2/ 298. ولا تضير: ات تضر. يصف رجلا بالجهل وقلة المعرفة، وأنه يحذر مالا ينبغي أن يُحذر، ويأمن مالا يصح أن يُؤمن.
(2)
الكتاب 1/ 110.
(3)
المرجع السابق 1/ 112.
إحداها: أن كلامه دالٌّ على أن هذه الأمثلة إذا كانت بغير ألف ولام لا تعمل بمعنى الماضي، لأنه جعلها في العمل عِوَضاً من اسم الفاعل العامل، والذي بمعنى الماضي لا يَعمل، فكذلك ما كان عوضاً منه، وهذا رأي الجمهور. وذهب ابن خروف إلى أنها تعمل بمعنى الماضي، وعلى ذلك حَمل الأبيات التي تقدَّمت:
* هَجُومٌ عليها نَفْسَه (1) *
* وقوله:
أخَا الْحَرْبِ لبَّاساً إليها جِلَالَها (2) *
وكذلك بيت أبي طالب (3).
وما قاله خلافُ ما اتفق عليه المتقدمون من النحويين.
وأيضاً فإن هذه الأمثلة فَرْعٌ في العمل عن اسم الفاعل، واسم الفاعل لا يَعمل بمعنى الماضي، فالأمثلة أوْلَى بذلك، إذ لا يكون الفرع أقوى من الأصل، وكما أن جَمْع اسم الفاعل لا يَعمل إلا في موضع الذي يَعمل فيه المفردُ فكذلك هذا.
فإن قال: لَمَّا كانت فيها مبالغةٌ ليست في اسم الفاعل قَوِيَتْ على مالم يَقْوَ عليه، فعملت في معنى الماضي. وأيضاً فإذا كانت قد وقعت مَدْحاً فالمدح لا يكون إلا بما ثَبت واستقرَّ.
(1) تقدم الاستشهاد به، وهو لذي الرمة، والبيت بتمامه:
هَجُومً عليها نفسَه غيرَ أنَّه متى يُرْمَ في عَيْنَيْهِ بِالشَّبْح يَنْهَضِ
(2)
تقدم الاستشهاد به أيضاً، وهو للقلاخ بن حزن، وعجزه:
* وليس بِوَلَاّجِ الخوالفِ أعقْلَا *
(3)
وهو قوله، وتقدم الاستشهاد به:
ضَروبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِها إذا عَدِمُوا زاداً فإنكَ عاقرُ
فالجواب: أن المبالغة والتكثير لا تقتضي تكثيرَ عَمَل، وإلَاّ لزم في (قَتَّل) أن يكون/ 451 أوسعَ عملاً من (قَتَل) وكذلك (كَسَر) و (مُقَتِّل) مع (قَاتلِ) وهذا كله غير صحيح بالاستقراء، وأما ما استُشْهد به من أبيات المدح فمحمولةٌ على أنها للحال، لأنها أحوال مُسْتَقِرَّة، وثابتة مُسْتَمِرَّة.
فإن قال: وكيف ذلك وفيها ما هو رِثَاء، كقوله (1):
* بَكَيْتُ أخَا لأْوَاءَ
…
*
قيل: هي من ذلك، كأنه نَزَّله منزلة الحَيِّ، ولذلك قال:((يُحْمد)) فأتى بالمضارع الدال على الحال لا على الماضي.
والأصح مذهب الناظم والجمهور.
والثانية: أن في كلامه ما يدل على أن إعمال هذه الأمثلة قياسٌ في جميعها، وإن قَلَّ في بعضها، لقوله:((عَنْ فاعلٍ بَدِيلٌ)) وقوله: ((وفي فَعِيلٍ قَلَّ ذَا وفَعِلِ)) ولم يقل: شَذَّ، ولا: نَدَرَ، فدَلَّ على أنه مما يَعمل فيه القياس على ضعف.
وفي هذا اختلاف، فمنهم من جعله قياساً بإطلاق، ومنهم من وَقَفه على السمَّاع في الجميع. منهم ابن أبي الربيع، ذكره في ((البسيط)) (2).
ومنهم من جعله قياساً في بعضها دون بعض.
(1) سبق الاستشهاد به، وهو بتمامه:
يكيتُ أخَاَ لأوَاءَ يُحْمَدُ يومُهُ
كَرِيمٌ رءوسَ الدارعينَ ضَرُوبُ
(2)
انظر: ص 933 (تحقيق الدكتور عياد الثبيتي- ومحفوظ بكلية اللغة العربية- جامعة أم القرى)
والأصح هو الأول، لكثرة ما جاء من ذلك، ولأنه لا فرق بينها وبين اسم الفاعل في العمل، كما تقدم.
فإن قيل: إن بناء هذه الأمثلة للتكثير، بالحَمْل على بناء الفعل للتكثير، وذلك في الفعل غيرُ مَقِيس، فأوْلَى أن يكون في اسم الفاعل غير مَقَيس.
قيل: لا نسلِّم أنه في الفعل غير مَقِيس، بل هو مَقِيس، لكثرة مجيئه.
واسم الفاعل جارٍ مجرى الفعل في العمل قياساً، فكذلك ينبغي أن يكون في بناء التكثير والمبالغة.
والثالثة: كما أن إعمالها قياسٌ عنده فهو عنده إعمالٌ صحيحٌ فيها، إذ كان إعمالاً صحيحاً في أصلها، وهو اسم الفاعل.
وقد ذهب الكوفيون إلى أن هذه الأمثلة غير عاملة، وإن ما انْتَصب بعدها فعلى إضمار فعل، فقولك: هذا ضَرُوبً زيداً- على تقدير: هذا ضَرُوبٌ يَضْرِبُ زيداً. والصواب صحة الإعمال كما ذهب إليه البصريون، لوجوده نظما ونثرا.
وما زعموه من الإضمار لا يَثبت مع قاعدة ((الحَمْل على الظاهر)) إذ لا يصح أن يُدَّعى الإضمار إلا لمُوجِب يُضطر إليه، ولا مُوجِب لذلك هنا، فكان القول بإعمالها حقيقةً، وهو الصحيح.
والرابعة: أن الناظم أطلق القول في إعمال جميعها، وإن قَلَّ في بعضها، وهو رأي الجمهور من البصريين.
وذهب المبّرد وشيخُه المازنيُّ أن (فَعِلاً، وفَعِيلاً) لا يعملان (1)، فلا يقال: زيدٌ
(1) المقتضب 2/ 113.
حَذر عمراً، ولا: زيدٌ رَحِيمٌ أخاه، بدليل أنهما إنما يُبنيان للذات، لا لأَنْ يجريا مجرى الفعل، فهما كنَبِيلٍ، وظَرِيفٍ، وكَرِيمٍ، وعَجِلٍ، إذ كان ذلك في طبعه.
وما استَشْهد به سيبويه لا حجة فيه.
أما ((شَنِجٌ عِضَادَةَ سَمْجَحٍ (1))) فـ ((عَضَادَةَ)) منصوب على الظرف، لأن معنى ((شِنَج)) لازم، والعِضَادةً: الناحية، فكأنه قال: لازمٌ ناحيتَها، ولو كان كذلك لكان ظرفا، فكلك ما في معناه.
وأما ((مَؤْهِناً (2))) فإنه ظرفٌ كـ (عِضَادَة) والظروف تُنصْب بمعاني الأفعال.
وأما ((حَذِرٌ أمُوراً (3))) فلا يُحْتَج به، قال المبرد: حَدَّثني أبو عثمان قال:
حَدَّثني أبو يحيى اللاحقي قال: لَقِيَني سيبويه فقال لي: هل تحفظ في إعمال (فَعِلٍ) / 452 شيئاً؟ فقلت له: نَعَمْ، وصنعتُ له هذا البيت
(1) من قول لبيد السابق:
أوْ مِسْحَلٌ شَنِجٌ عِضَادَةَ سَمْجَحٍ
بسَرَاتِه نَدْيٌ لَهَا وكُلُومُ
(2)
من قول ساعدة بن جُؤَيَّة السابق:
حَتَّى شاهَا كَلِيلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ
باتت طِرَاباً وبات اللَّيْلَ لم يَنَمِ
(3)
من قول الشاعر السابق:
حَذِرٌ أموراً لا تَضِيرُ وآمنٌ
ما ليس مُنْجِيَةُ من الأقْدَارِ
فإذا كان البيت مصنوعاً سقط الاحتجاج به، كما سقط الاحتجاج بالبيتين الأوَّليْن للاحتمال.
والجواب أن معنى ((شَنِج)) مُلازِم، وإذا كان كذلك لم تكن ((عَضَادة)) إلا مفعولاً به.
قال ابن خروف: ومن جعل ((العِضَادَة)) ظرفاً كان مُخْتَصاً، والمختص لا ينصبه إلا المتعدي.
وهو يرجع إلى معنى ما حَكى السيرافي أن ((القوائم)) وهي العِضَادَة، لا تكون ظرفا، كما قال الشاعر (1):
قالَتْ سُلَيْمى لستَ بالحادِي المُدِلْ
ما لك لا تَلْزمُ أعْضَادَ الأبِلْ
قال: فأعْضَادُ بمنزلة عَضَادَة، فلا يصح إذا جعلُه ظرفا (2).
وأما ((حَذِرٌ أموراً)) فقد نقله سيبويه، وهو ثقة ثَبْتٌ في النقل، لا يَنقل إلا عن مثله، كالخليل ويونس وأبي الخطاب وأبي زيد وأشباههم.
وليس اللَاّحقي من هؤلاء بإقراره على نفسه بالكذب، وإذا كان كذلك فعدمُ تصديقه في هذا الإخبار الثاني أَوْلَى. وقد أنشد النحويون في إعمال (فَعِلٍ) مِمَّا لا يحتمل التأويل، وهو مرويٌّ عن الثِّقَات، قولَ زيد الخيل (3):
(1) شرح السيرافي (المجلد الأول- ورقة 224 - ب) وابن يعيش 6/ 73. وينسب لجبار بن جزء. والحادي: الذي يسوق الإبل ويغني لها. والمدل: من أدلَّ عليه، إذا وثق بمحبته فأفرط عليه. والأعضاد: جمع عضد، وهو من الإنسان وغيره: الساعد، وهو ما بين المرفق إلى الكتف.
(2)
شرح السيرافي (المجلد الأول- ورقة 224 - ب).
(3)
ابن يعيش 6/ 73، والهمع 5/ 87، والدرر 2/ 130، والتصريح 2/ 68، وشذور الذهب 394، والحلل لابن السيد 131، ومعجم البلدان (كرملين) ومعجم ما استعجم (الكرملان) وجَدَّبه: حَظِي به. =
أَلَمْ أُخْبِرْكُمَا خبراً أتَانيِ
أبو الكسَّاحِ جَدَّبه الوَعِيدُ
أتانِي أنهم مَزَقُونَ عِرْضِي
جِحَاشُ الكِرْمِلَيْنِ لَهُمْ فَدِيدُ
فـ (مَزِقٌونَ) جمع (مَزِق).
وأما ((كَلِيلٌ مَوْهِناً (1))). فقالوا أيضاً: لا شاهد فيه، لأن ((مَوْهِناً)) ظرف، والكِلَيل هو الَبْرق الضعيف، من: كَلَّ يَكِلُّ، وهو لا يتعدَّى. والمَوْهِنُ: الساعة من الليل.
وأجيب بأن معناه: مُكِلًّ، لا كَالٌّ، كعذابٍ أليمٍ، وداءٍ وجَيِعٍ، وداعٍ سميعٍ، قال (2):
* أَمِنْ رَيْحَانةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ *
و((المَوْهِنُ)) منصوب على المفعول به اتِّساعا، بدليل قوله:((وباتَ اللَّيْلَ لم يَنَمِ)) فوَصفه بالدوام، وذلك مُنَاقِض لكونه ضعيفا.
=
…
وفي (س) وحاشية الأصل ((جَرَّبه)) وفي (البلدان)((يُرْسِل)) والوعيد: التهديد، ولا يكون إلا في الشر، عكس الوَعْد. ومزقون. من المزق، وهو شق الشيء. وعرض الرجل: جانبه الذي يصونه ويدافع عنه، من نسب وحسب وخلق. والجحاش: جمع جحش، وهو ولد الحمار. والكرملين: اسم ماء في جبل طئ. ِ والفديد: الصياح والتصَويت. يقول: إن هؤلاء القوم عندي بمنزلة الجحاش التي تنهق عند ذلك الماء، فلا أعبأ بهم.
(1)
يعني بيت ساعدة بن جؤية السابق.
(2)
ابن الشجري 1/ 64، 2/ 106، والخزانة 8/ 178، والأصمعيات 172، والأغاني 14/ 31، وهو لعمرو بن معد يكرب الزبيدي، وعجزه:
* يُؤَرِّقني وأصحابي هُجُوعُ *
وريحانة: اخت الشاعر أو زوجته. والداعي: يريد به الشوق الداعي. والسميع: المسمع. ويؤرقني: من الأرق، وهو امتناع النوم. وهجوع: جمع هاجع، وهو النائم.
قال المؤلف في ((الشرح (1))): وهذا عندي تكلُّف. قال: وإنما ذَكر سيبويه هذا البيت شاهدا على أن (فاعلا) قد يعُدل به إلى (فَعِيلٍ) و (فَعِلٍ) على سبيل المبالغة، كما يُعْدل به إلى (فَعَّالٍ) و (فَعُولٍ) و (مفعْالٍ) فذكر البيت لاشتماله على ((كَلِيلٍ)) (2) المعدول عن (كَال) وعَمِلٍ المعدول عن (عامِلٍ) ولم يَتَعرَّض للإعمال.
قال (1): وإنما يُحتج له في ثبوت إعمال (فَعِيلٍ) بقول العرب: ((إن الله سَميعٌ دعاءَ مَنْ دَعاه)) رَواه الثقات. وأنشد محتجاً قولَ الشاعر (3):
فَتَاتَانِ أَمَّا مِنْهُما فَشَبِيهَةٌ
هِلَالاً وأُخْرىَ مِنْهُمَا تُشْبِهُ الْبَدْرَا
وقد ذهب بعضهم غلى أن سيبويه لم يَأْتِ بالشاهد إلا على إمكان أن يكون من الباب، وإنَّما الدليلُ على إعمال (فَعِيلٍ) كونُه أتى للمبالغة بمنزلة (فَعُولٍ) و (فَعَّالٍ) فَلْيكن مثلَه في العمل، كما كان مثلَه في المعنى.
والخامسة: أن إتيانه بالأمثلة الخمسة دون زائدٍ دليلٌ على أن هذا العمل مُقْصَرٌ به عليها، فلا يُلحق غيرهُا بها.
وهذا رأي الجماعة، وزارد بعض النحويين فيها (فِعِّيلاً) فقال: أقول: هذا شِرِّيبٌ العسلَ، لأن (فِعِّيلاً)، للمبالغة كشَرَّاب، فكما عمل (فَعَّال) باتفاق فَلْيَعمل (فِعِّيلٌ) كذلك.
(1) ورقة (151 - ب).
(2)
في نسخ الكتاب ((لاستعماله كليلا)) وما أثبته من شرح التسهيل.
(3)
شرح التسهيل (ورقة 151 - ب) والعيني 3/ 542، والأشموني 2/ 297 وينسب إلى عبدالله بن قيس الرقيات. و ((فتاتان)) خبر لمبتدأ محذوف، تقديره ((هما)) و ((منهما)) صفة لمبتدأ محذوف تقديره ((واحدة)) و ((شبيهة)) خبره.
وما / قاله مخالف لما اتفق عليه الأولون. وهذا كافٍ في رَدِّه. 453
وأيضاً فإن تلك الأمثلة لم يُقَلْ بها إلا بعد السماع، تحقيقاً ويقيناً أو ظَناً، ولم نَسمع في إعمال (فِعِّيل) شيئا، فدل على أن العرب لم تستعمل (فِعِّيلا) إلا للمبالغة في الصفة خاصة، والأصل الوقوفُ عندما وَقَفوا حتى يَثْبت أمرٌ آخر فيُقال به.
والسادسة: أن هذه الأمثلة لم يُفَرقِّ بينها وبين اسم الفاعل، فدَلَّ على أنها في الأحكام مثلُه. ومن جملة أحكامه جوازُ تقديم معموله عليه، فتقول: أنا زيداً ضاربٌ، فكذلك تقول: أنا زيداً ضَرَّابٌ، وكذلك في سائرها. ومن ذلك قول الراعي (1):
* عَلَى الشَّوْقِ إخْوانَ العَزاءِ هَيُوجُ *
وقول الآخر (2):
* كَرِيمٌ رءُوسَ الدَّارِعينَ ضَروُبُ *
وخالف الكوفيون في هذا بناء على ما تقدَّم من مذهبِهم في مَنْع إعمال الأمثلة، وقد تقدم أن الصحيح خلافه، فَيثْبت جوازُ التقديم مالم يَمنع من ذلك مانع. و ((الْبَدِيلُ)): الُمْبَدل، يقال: بَديل وبَدَل وبِدْل.
ثم ذكر نوعاً آخر مما ليس بجارٍ على الفعل، ولا شبيهٍ به، وهو اسم الفاعل غير المفرد، لأنه تكلم أولاً في المفرد، فقال:
(1) سبق الاستشهاد به وصدره:
* قَلَى دِينَهُ واهْتَاج للشَّوْقِ إنَّها *
(2)
سبق الاستشهاد به وصدره:
* بَكَيْتُ أخا لا وَاءَ يُحْمَدُ يَوْمُه *
وَمَا سِوَى المُفْرَدِ مِثْلَهُ جُعِلْ
في الحُكْمِ والشُّرُوطِ حَيْثُمَا عَمِلْ
وذلك أنَّ لقائلٍ أن يقول: إن التَّثْنية والجمع من خصائص الأسماء، وذلك يُبطل عمل اسم الفاعل، إذ هو يُقَرِّبه من الأسماء، ويُبعْده من الأفعال كالتَّصْغير.
وأيضاً فإنه يُزيل الصيغةَ الجارية على الفعل في الحركات والسكنات وعدد الحروف. وإذا كان يَبْعد بذلك عن شَبَه الفعل فينبغي أن يَبْطُل عمله. فنَبَّه ههنا على أن ذلك لا يُخرجه عن الشَّبَه الحاصل له.
أما التثنية وجمع السلامة فلم يُغَيرِّا لفظاً ولا معنى، وإنما حصل في ذلك معنى عَطْف الأفراد، إذ كان معنى (ضَاربَاتِ): ضَارِبٌ وضارِبٌ. ومعنى (ضَارِبُونَ): ضارِبٌ وضارِبٌ، إلى آخرها.
وأما التكسير، وإن غَيَّر الصيغة، فلا اعتبار بذلك، لرجوعه إلى معنى العطف، فكان مثلَ عملِ الأمثلة عملَ اسم الفاعل، لأنها راجعة إليه في التحصيل.
والتثنية وجمع السلامة أقرب في الإعمال، لأن الشَّبَه بالفعل باقٍ، ألا ترى أن (ضارِبَاتِ) يُشبه (يَضْرِبَاتِ) و (ضَارِبُونَ) يشبه (يَضْرِبُونَ) فلهذه الأوجه بقى العمل كما كان.
ثم نرجع إلى كلامه، فأخبر في هذين البيتين أن ماعدا المفرد، وهو المثنى والمجموع كيف كان، قد جعلته العرب في الحكم مثلَ المفرد، فحيث لا يعمل المفرد لا يعمل سواه، وحيث عمل مع الشروط فذلك ثابتٌ في غير المفرد بتلك الشروط بعينها.
_________
فإذا كان غيرُ المفرد بالألف واللام عمل بلا شرط، وإذا كان مجرداً منها لم يعمل بمعنى الماضي، وعمل بمعنى الحال والاستقبال بشرط الاعتماد المذكور، فتقول: هؤلاءِ ضُرَّابُ زيدٍ غداً، أو الآنَ، وهؤلاء / ضارِبُون عمراً غداً، وهذان ضارِبَانِ زيداً الآن.
…
454
وتقول: هؤلاء ضاربوُ زيدٍ أمسِ، وهذان ضاربَا زيدٍ أمسِ، وما أشبه ذلك.
وتقول: هؤلاء الضُرَّابُ زيداً أو غداً، وهؤلاء الضارِبُونَ عمراً أمسِ أو غداً.
ومن ذلك في جمع التكسير ما حكاه سيبويه من قولهم: هنَّ حَواجُّ بيتَ اللهِ (1).
وقالوا: قُطَّانٌ مكةَ، وسُكَّانٌ البلدَ الحرامَ (2)، وانشد لأبي كَبِير الهذلي (3):
مِمَّنْ حَمَلْنَ به وهُنَّ عَوَاقِدٌ
حُبَكَ النِّطاقِ فعَاشَ غيرَ مُهَبَّلِ
وأنشد للعجاج (4):
* أَو الِفاً مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الْحِمَ *
ومن إعماله في جمع التصحيح قول الله تعالى:
(1) الكتاب 1/ 109.
(2)
المصدر السابق 1/ 110.
(3)
سبق الاستشهاد به.
(4)
سبق الاستشهاد به.
{والْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحَافِظَاتِ والَّذاكرينَ اللهَ كَثيراً والَّذاكرات (1)} . وقال الله تعالى: {ولا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ (2)} . وقال القُطَامي (3):
والضَّارِبُونَ عُمَيراً عَنْ بُيُوتِهمِ
بِالتَّلِّ يومَ عُمَيْرٌ ضَارِبٌ عَادِي
وأنشد سيبويه لابن مُقْبل (4):
يَا عَيْنُ حُنَيْفاً رأسَ حَيِّهِمِ
الْكاَسرينَ القَنَا في عَوْرَة الدُّبُرِ
وهذا كله ظاهر.
والتَّثْنية بتلك المنزلة، وكذلك جمع المؤنث السالم.
وإطلاقه هنا يتناول ما كان غير مفرد من اسم الفاعل، وهو الذي مُثِّل به، وما كان كذلك من ((الأمثلة)) فإنك تقول: هؤلاء ضُرَّابٌ زيداً، وهؤلاء مَنَاحيرُ
(1) سورة الأحزاب/ آية 35.
(2)
سورة المائدة/ آية 2.
(3)
المقتضب 4/ 145، والجمل 100، والحلل لابن السيد 119، وابن الشجري 1/ 132، وديوانه 12. وعمير: هو عمير بن الحُباب السلمي، وكانت تغلب قد قتلته. والتل: موضع كانت فيه وقيعة من وقائعهم. والعادي: المعتدي.
(4)
الكتاب 1/ 184، ونوادر أبي زيد 6، واللسان (دبر)، وديوانه 82. وحنيف: قبيلة من قيس، وهو أحد جنود ابن مقبل. والقنا: الرماح، وواحدها قناة. والدبر: الأدبار، عبر بالواحد عن الجمع. يرثي هذه القبيلة ويقول: كانوا سادة حيهم بمثابة الرأس من الجسد، وكانوا إذا اشهدوا الحرب فانكسر جيشهم كَرُّوا وقاتلوا دونهم، وكسروا رماحهم في سبيل حفظ عورتهم وحمايتها من عدوهم.
بَوائِكَها، وما أشبه ذلك. ومنه ما أنشده. سيبويه للكميت (1):
شُمٍّ مَهَاوِينَ أبْدانَ الجَزُورِ مَخَا
مِيصِ العَشِيَّاتِ لا خُورٍ ولا قَزَمِ
وأنشد أيضا لطرفة بن العِبِد (2):
ثُمَّ زَادُوا أنَّهْم في قَوْمِهمْ
غُفُرٌ ذَنْبَهُمُ غيرُ فخُر
والتثنية وجمع السالم في ذلك أَبْيَنُ
وقوله: حَيْثُما عَمِلَ)) جملة شرطية حُذف جوابها لدلالة ما تقدم عليه.
و((في الحكم)) متعلق بـ ((مِثْلَهُ)) أي مُماثِلاً في الحكم والشروط. ثم قال:
وَانْصِبْ بِذِي الأعْمالِ تِلْواً واخْفِضِ
وهُوَ لنَصْبِ ما سِوَاه مُقْتَضِي
(1) الكتاب 1/ 114، وابن يعيش 6/ 76، والخزانة 8/ 150، والعيني 3/ 569، والهمع 5/ 89، والدرر 2/ 131. وشُمٍّ: جمع أشم، وهو ارتفاع في قصبة الهواء مع استواء أعلاه. ويكنون به عن العزة والأنفة. ومهاوين: جمع مهوان، مبالغة في (مهين) والبدن: جمع بدنة، وهي الناقة المسَّمنة المتخذة للنحر، وكذلك الجزور. ويروى ((أبداء الجزور)) جمع بَدْء، وهو أفضل الأعضاء. يريد أنهم يسمنون الإبل لينحروها للأضياف. ومخاميص: جمع مِخْماص، وهو الشديد الجوع. ومعناه أنهم يؤخرون العشاء انتظارا لضيف يطرقهم، فبطونهم خاوية في عشياتهم لتأخر الطعام عنهم. والخور: جمع اخور، وهو الضعيف. والقزم-بالتحريك- رذال الناس وسفلتهم، وقبل البيت:
يَأوْيِ إلى مجلسٍ بادٍ مكارمُهم لا مُطمِعِي ظالمٍ فيها ولا ظُلُمِ
(2)
الكتاب 1/ 113، والجمل 106، ونوادر أبي زيد 10، وابن يعيش 6/ 74، 75، والخزانة 8/ 188، والعيني 3/ 548، والتصريح 2/ 69، والهمع 5/ 88، والدرر 2/ 131، والأشموني 2/ 299، وديوانه 68. ويروى ((فُجُر)) بالجيم. وصف قومه بأنهم زادوا على قبيلتهم بأنهم يغفرون ذنوبهم بالعفو والصفح، وأنهم لا يفخرون بما أسدوا من صنيِع ستراً لمعروفهم.
يعني أن اسم الفاعل ذا الإعمال، أي الذي أُعمل عملَ فعلِه، وهو المشروط بالشروط المتقدمة، أو الذي فيه الألف واللام- إذا وَلشيه معمولُه جاز فيه وجهان:
أحدهما النصب، وهو الأصل، فتقول: زيدٌ ضاربٌ عمراً، وآكلٌ الخبزَ غداً.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ (1)} - {إنَّ اللهَ بالِغٌ أَمْرَهُ (2)} . وجميع ما تقدَّم التمثيلُ به.
والثاني الجرُّ، وذلك بمقتضى كون اسم الفاعل اسماً يصلح أن يُضاف كعَبْدِ الله، وامرىِء القَيْس، فتقول: زيدٌ ضاربُ عمروٍ غداً.
ومنه {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (3)} - {إنَّا مُرْسِلُوا النَّاقِةِ فِتْنَةً لَهُمْ (4)} - {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ (5)} - {ولَوْ تَرَى إذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (6)} - {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ (7)} وهو كثير.
وذلك انهم أرادوا التخفيف بحذف التنوين، فانْجرَّ المفعولُ لذلك، واستخفُّوا ذلك إذ كانت الإضافة لا تَنْقُص شيئاً من المعنى، لأن معنى النصب باقٍ، ولذلك لم تُؤَثِّر الإضافة تعريفا، من حيث كان القَصْد بها تخفيفَ اللفظ
(1) سورة المائدة/ آية 2.
(2)
سورة الطلاق/ آية 3. والقراءة بالتنوين هي قراءة السبعة غير حفص عن عاصم (السبعة 639).
(3)
سورة آل عمران/ آية 185.
(4)
سورة القمر/ آية 27.
(5)
سورة المائدة/ آية 95.
(6)
سورة السجدة/ آية 12.
(7)
سورة المائدة/ آية 1.
فقط.
وقالوا: هذا رجلٌ ضاربُ عمروٍ، فوصفوا بها النكرة. وفي القرآن المجيد {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا (1)} - {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ (2)} وهو ظاهر فيما ليس فيه ألف ولام.
/ وأما ما هما فيه فالخفض إنما يجوز في تاليه إذا كان بالألف واللام أو مضافاً إلى ما 455 هو فيه. وقد تقدم ذلك في بابه، فلم يَحْتَج إلى التَّقْييد هنا، فتقول: مررت بالرجلِ الضاربِ الغلامَ، بالنصب، والضاربِ الغلامِ، بالخفض، وما أشبه ذلك.
وإنما قال: ((بِذِي الأعْمَالِ)) ولم يقل: باسم الفاعل ذي الإعمال، لِيَعُمَّ بذلك اسمَ الفاعل وأمثلَة المبالغة، فإنك تقول: هذا ضَرَّابٌ زيداً، وضَرَّابُ زيدٍ، وهذا [ضَرُوبٌ زيداً، وهذا (3)] ضروبٌ رءوسَ الدَّارِعِين، وضروبُ رءوسِ الدارعين.
وأيضاً، فإن قوله:((بِذِي الأعْمَالِ)) تحرُّزٌ من اسم الفاعل الذي لا يَعمل، وهو ما تخلَّف عنه شرط من تلك الشروط المذكورة، كالذي بمعنى الماضي، فإن فيما يليه وجهاً واحداً، وهو الخفض بالإضافة، إذ ليس المعنى معنى النصب، ولا القَصْدُ بالإضافة التخفيف، وإنما القصد بها التعريفُ أو التخصيص، فتقول: مررت بزيدٍ ضارب عمروٍ أمسِ، ولا تقول: مررتُ برجلٍ ضاربِ زيدٍ أمسِ، لأن ما يليه ليس بمعمولٍ له.
(1) سورة الأحقاف/ آية 24.
(2)
سورة المائدة/ آية 95.
(3)
ما بين الحاصرتين زيادة من حاشية الأصل.
وقوله: ((تِلْواً)) شرطٌ في خفض معموله، وهو أن يكون والياً له، لأن من شروط الإضافة أن يكون المضاف إليه والياً للمضاف، حتى يحل محلَّ تنوينه، فإن كان بينهما فاصلٌ فالنصب، نحو: هذا ضاربٌ أبوه زيداً، ومررتُ برجلٍ ضاربٍ أبوه زيداً، ولا تقول: ضاربٌ أبوه زيدٍ، بل النصب هو اللازم، وهو الذي أراد بقوله:((وهو لِنَصْبِ ما سِوَاهُ مُقْتَضٍ)) يعني أن ما سوى التالي لاسم الفاعل من المعمولات حكمُه النصب، فلا يَقْتَضي اسمُ الفاعل فيه جَرَّا، لأجل الفاصل، فتقول: هذا مُعْطٍ زيداً درهماً غداً، وهذا مُعْطِي زيدٍ درهماً غداً، وهذا ظانٌ زيدٍ شاخصاً غداً، وهذا ظانٌ زيداً شاخصاً غداً.
وفي قوله: ((وهو لِنَصْبِ ما سِوَاهُ مُقْتَضٍ)) أنَّ ما سوى التالي لاسم الفاعل منصوبٌ إذا كان عاملا، وأنه لا يجوز فيه غير ذلك.
وهذا ظاهر إذا قلت: هذا مُعطِي زيدٍ درهماً، وهذا ظانٌ زيدٍ شاخصاً، وهذا مُعْلِمُ زيدٍ عمراً أخاك غداً أو الآن.
فالحاصل أن ما يليه فيه وجهان، النصبُ به والجر، وما سواه فيه النصبُ به خاصة، بشرط كَوْن اسم الفاعل عاملا.
ومفهومه أنه إذا لم يكن عاملا، وذلك عند تخلف شرط العمل، فلا يجوز فيما يليه الوجهان، إذ لا يَنصب مفعولا، ولا فيما عداه النصبُ به لذلك السبب، إذْ فَرضناه غيرَ عامل.
فإذا قلت: هذا مُعطي زيدٍ درهماً أمسِ- فـ (زيد) ليس فيه إلا الجُّر بالإضافة، وأما ((درهماً)) فلا ينتصب باسم الفاعل، بل يقدَّر له ناصب، كأنه في تقدير: أعطاه درهماً.
وكذلك قولك: هذان ظَانٌ زيدٍ شاخصاً أمسِ، وما كان مثل ذلك. وهذا أحد
_________
المذاهب الأربعة في المسألة.
والثاني: مذهب الكسائي، أنه يعمل بمعنى الماضي مطلقا كما تقدم.
والثالث: مذهب السِّيرافي أنه منصوب بهذا الظاهر (1)، لتعذر إضافته إليه، لأن المضاف إليه كالتنوين، فصار كَراقٌودٍ خَلَاّ، مع ما/ فيه من معنى الفعل.
…
456
والرابع: الفَرقْ، فإن كان ما انْتَصب بعد المضاف إليه من باب ((ظَنَنْتُ)) كان اسمُ الفاعل هو العاملَ فيه، كما قال السِّيرافي.
وإن كان من باب ((أَعْطَى)) أو ((أَمَرَ)) كان منصوباً بإضمار فعل يدل عليه اسم الفاعل.
والأظهرُ مذهبُ الناظم، لأنه إذا ثبت انه بمعنى الماضي لا يعمل إذا كان متعدِّياً إلى واحد في المعنى، كضاربٍ وآكلٍ، فكذلك يجب أن يكون إذا طَلَب بمعناه أكثرَ من مفعول واحد.
وفي المسألة قولٌ خامس، أن ((شاخِصاً)) على إضمار فعل، ومعمولَا ((ظَانٍّ)) مُقَدَّران محذوفان اختصارا، و ((زَيْد)) محلٌّ للظن. والتقدير: هذا ظانٌ في زيدٍ لأن سيبويه قال: تقول: ظَنَنْتُ به، أي جعلتُه موضعَ ظَنِّي (2)، وهو قول يُعْزَي للشَّلَوْبِين.
ثمَّ على الناظم دَرَكٌ من ثلاثة أوجه:
(1) شرح الكتاب للسيرافي (ج 1 ورقة 221 - ب).
(2)
الكتاب 1/ 41.
أحدها: أنه قال: ((وانْصِبْ بذِي الإعْمَالِ تِلْواً واخْفِضِ)) وهذا الإعمال إما أن يكون إعمالاً في المفعول خاصَّةً، أو ما هو أعمُّ من ذلك.
فإن أراد الأولَ اقْتَضى أن هذا الحكم لا يكون في الظرف، وهم يُنشدون قوله (1):
* طَبَّاخِ ساعاتِ الْكرَىَ زادَ الكَسِلْ *
بنصب ((زادَ)) وخَفْضِه، فالنصب على أن ((طَبَّاخ)) مضاف إلى ((السَّاعات)) فالكسرةُ فيها علامةُ خفض، والخفض على الإضافة إلى ((طَبَّاخ)) و ((الساعات)) منصوبةٌ بالكسرة، وكلاهما جائز على رأيه ورأي غيره.
وإن أراد الإعمال مطلقاً لزمه، بحكم الإطلاق، أن يُجيز ذلك في الحال والفاعل وغيرهما من المعمولات، وذلك فاسد، إذْ لا يقال في: هذا [ضاربٌ قاعداً زيداً: هذا (2)] ضاربُ قاعدٍ زيداً، ولا يقال في (هذا ضاربٌ أبوه زيداً): هذا ضاربُ أبيه زيداً، ولا هذا ضاربٌ اباه زيداً.
وإذا ثبت هذا فإطلاقُه إجازةَ الجرِّ والنصب في التالي، ولم يُقيِّده بكونه مفعولاً به، غيرُ صواب.
والثاني: أن هذا الكلام يقتضي أن ما يلي اسم الفاعل يجوز فيه الوجهان، وهذا صحيح على ما تقدم فيه. ويَقتضي أن ما بعد التالي لا يكون إلا
(1) سيبويه 1/ 177، وديوان الشماخ (109). وينسب للشماخ وإلى أبي النجم، وإلى جبار بن جزء، وهو ابن أخي الشماخ. وقبله:
* رُبَّ ابنِ عَمٍّ لسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ *
والمشمعل: الجاد في الأمر، الخفيف في جميع ما يأخذ فيه من عمل. والكرى: النعاس. والكَسِل: الكسلان.
(2)
ما بين الحاصرتين موضعه بياض بجميع النسخ، وقد كتب على حاشيتي الأصل و (س).
منصوبا، وهذا ليس بصحيح بأمرين:
أحدهما: أن ما سوى التالي قد يكون فاعلاً فيجب رفعه، نحو: هذا ضاربٌ زيداً أبوه، ومررتُ برجلٍ مُكْرِمٍ عمراً أخوه، وهو قد قال: إنه لِنَصْب ما سوى التَّالي مُقْتَضٍ، وذلك غير صادق.
الآخر: أنه قَرَّر في ((باب الإضافة (1))) جوازَ الفصل بين المضافُ والمضاف إليه بالمفعول في ((اسم الفاعل)) إذا قلت: هذا مُعْطِي درهماً زيدٍ، كما قُرِئ- {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدَهُ رُسُلِهِ (2)} وقد تقدم ذلك، فلا يستقيم إطلاق القول بأنه مقتضٍ لنصب ما سواه.
والثالث: أن التزامه لانتصاب ما سوى التالي بفعلٍ مضْمرٍ يقتضي أن يكون مطلوبُ اسم الفاعل محذوفا، وإذا كان كذلك فاسم الفاعل من باب ((أَعْطَى)) لا يلزم فيه محظور.
فإذا قلت: هذا مُعْطِي زيدٍ أمسِ درهماً، فجعلت ((درهماً)) مفعولاً لفعل مُضْمر صَحَّ ذلك، سواءٌ أقَدَّرت حذفَ مفعولِ اسم الفاعل اختصاراً أم اقتصارا (3).
/ وأما في باب ((ظَنَّ))، فمذهبه فيه مشكل جدا، فإنك إذا قلت: هذا ظَانُّ زيدٍ
…
457 شاخصاً أمسِ- لا يخلو أن يكون العامل في ((شاخصاً)) ((ظانُ)) أو غيرَه.
فإن كان هو العامَل فقد أعملتهَ بمعنى الماضي، وهو مناقض لما الْتَزم.
(1) انظر: ص 175.
(2)
البحر المحيط (5/ 439) قال: ((وهو كقراءة- {قتل أولادَهم شركائِهم} .
(3)
الحذف اختصارا: هو ما كان لدليل، واقتصارا: ما كان لغير دليل (وانظر الهمع 2/ 224، 250).
وإن أضمرت فعلاً فإمَّا أن يكون مفعولُ ((ظانٍّ)) قد حُف اختصاراً أو اقتصارا.
فإن كان حَذْفُه اقتصاراً فممنوعٌ لما تقدَّم في بابه، وإن كان اختصاراً فهو في حكم المُثْبَت، فما العامل فيه؟
فإن قيل: ((ظَانٌّ)) أعملَه بمعنى الماضي. وإن قيل: فعلٌ مضمر رجع السؤال إلى حذف مفعول ((ظَانٍّ)) ويَتَسَلْسل إلى غير نهاية (1).
هذا تقرير الشَّلَوبين حسبما حكاه لنا شيخنا الأستاذ أو عبدالله بن الفخار رحمة الله عليه، عن شيخه أبي إسحاق الغافقي، عن شيخه ابن أبي الربيع، عن شيخه الشَّلَوْبين (2). وأصله لابن جِنِّي في ((كتاب القَدِّ (3))) وأنه قال للفارسي: إن قلت: إنَّ ((شاخصاً)) منصوب بـ ((ظَانٍّ)) فقد أعملتَه بمعنى الماضي، وإن كان منصوباً بفعل مضمر فقد اقْتَصرت. قال: فسكت الفارسي، وعَدَّ ذلك منه ابنُ جني انقطاعاً.
وهو لازمٌ لكل من قال في المسألة بقول الناظم، وهو الذي التَزم الفارسي، فألزمه ابنُ جِنِّي ما رأيتَ.
والجواب عن الأول أن المراد هنا الإعمال في المفعول به خاصة. أما الفاعل فقد تبين في ((باب الفاعل)) حكمهُ وتبين في ((باب الإضافة)) امتناعُ إضافة الشيء إلى نفسه.
(1) التسلسل- عند المقاطعة- توقف كل من الشيئين على الآخر، وهو الدور أيضا.
(2)
سبقت ترجمة ابن الفخار وأبي إسحاق الغافقي وابن أبي الربيع والشلوبين.
(3)
في (ت)((كتاب القدر)) وهو تحريف، ويسمى في بعض كتب التراجم ((ذا القد)) وانظر: مؤلفاته في مقدمة ((الخصائص)).
فإذاً الفاعلُ هنا إذا كان تاليا لاسم الفاعل لا يجوز في النصبُ، لأنه فاعل، ولا الخفضُ، إذ لا يضاف اسم الفاعل إلى مرفوعه، للزوم إضافة الشيءِ إلى نفسه. فقوله:((وانْصِبْ بذِي الاعْمَالِ)) إلى آخره، يُخْرج الفاعل عن ذلك. وكذلك قوله:((وهُوَ لِنَصْبِ ما سَواهُ مُقْتَضٍ)) لأن الفاعل لا يُنصب، ولا يَقَتضي فيه اسمُ الفاعل نصبا.
وأما الظرف والحال فلا اعتبار بهما هنا، إذ لا يظهر بالعمل فيهما صحةُ العمل مطلقا، لأن الظرف يَعمل فيه رائحةُ الفعل، فإن نُصب على المفعول به اتساعاً جاز فيه ما جاز في المفعول، ودَخل في ضمن كلامه، وإذا كان كذلك ارتفع الإشكال.
وعن الثاني أن كلامه مُقَيَّد بكلامه، وذلك بأن يكون هنا إنما تكلم على حكم الأصل في المسألة، وتكلم في ((الإضافة)) على ما يَعْرِض من الفصل، أو نقول: إن قوله: ((وانْصِبْ بذِي الإعمالِ تَلْوً)) يريد به التالي بإطلاق، كان ذلك لفظاً أو تقديراً، فاللفظ كقولك: مُعْطِي زيدٍ درهماً، والتقدير كقولك: مُعْطِي درهماً زيدٍ، لأن أصله: مُعْطِي زيدٍ درهماً، ولذلك جعله في ((باب الإضافة)) فَصْلاً، فـ ((درهماً)) وإن تلا ((مُعْطِياً)) في اللفظ غيرُ تالٍ في التقدير، و ((زيد)) وإن كانت في اللفظ غير تالٍ هو في التقدير تالٍ، فنجري في كل واحدة من المسألتين حكمُها، على ما نَصَّ عليه. وكذلك القول في الظرف المتَّسَع فيه. وقد تقدم الكلام في / الفاعل.
…
458
وعن الثالث أن ما التزمه ابنُ جني غيرُ لازم لأمرين:
أحدهما: أن مسألة (هذا ظَانُّ زيدٍ شاخصاً أمس) لا نسلِّم ثبوتها من كلام العرب. وهو جواب ابن أبي الربيع، لكنه قال (1): إن ثَبت أنه من
(1) انظر: البسيط شرح جمل الزجاجي (894) تحقيق الدكتور عياد الثبيتي.
كلام العرب كان الوجهُ مذهبَ من فَصَّل، وهو المذهب الرابع هنا، على أن أبا القاسم بن الصفَّار (1). قال: سألت ابنَ عصفور: هل ورد من كلام العرب (هذا ظَانُّ زيدٍ منطلقً)؟ يعني في معنى الماضي، فقال لي: وردَ من ذلك قوله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً} الآية (2). قال: فقلت له: ((جَاعِلُ)) في ذلك بمعنى: خالق، و ((سَكَناً)) حال، فقال لي: إن الله تعالى لم يخلقه في حال أنه سَكَن. قال: فقلت له: تكون الحال تقديريَّة، فقال: إن ذلك يؤدي إلى وصف الله تعالى بما لم يَصِفْ به نفسه، وهو وصفه بمقدَّر قال: فقلت له: قد حصل وصفُه بذلك بقوله: ((سَكَناً)) فقال لي: إن الله خلقه غيرَ سَكَن، ثم جعله سَكَناً بعد ذلك. ههنا وقف الكلام بينهما.
وقد أجيب بأن لابن الصفار أن يقول حين أورد عليه وصفَ الله بمقدَّر: قد قال سيبويه (3): خلق اللهُ الزرافةَ يَدَيْهَا أطول من رِجْلَيْها. والزرافُة لم تَنْتقل بعد وجودها عن حالها، ومفاده: أن الله تعالى قَدَّر خلقها كذلك، فخلقها على نلك الصورة.
والظاهر أن الآية ليست من هذا القبيل، فلا يقوم بها حجة على ثبوت المسألة.
والثاني: أن نُسَلَّم ورودَها سماعاً، ولا يلزم محظر، لأن ((ظاناً)) ههنا قد قال الناظم: إنه لا يَعمل، وإذا لم يَعمل فليس بمتوجَّه على ((الجملة)) كالفعل،
(1) سبقت ترجمته.
(2)
سورة الأنعام/ آية 96. والقراءة باسم الفاعل هي قراءة بن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي- (وجَعَل) - فعلا ماضيا [السبعة لابن مجاهد 263].
(3)
الكتاب 1/ 155.
وإنما هو اسمُ مضافُ إلى اسم، كإضافة ((صاحب)) والإضافة فيه إضافةُ تَخْصيص، فرُوِعي فيه جانبُ الاسمية خاصة، كما روُي في ((صاحب)) وإذا كان ذلك قد يراعَى في الذي بمعنى الحال والاستقبال، فلا يَطلب معمولا- فأَخْرىَ في هذا.
ولما قال: (هذا ظَانُّ) زيدٍ) أراد أن يُعْلِم فيما أَوقع ((الظنَّ)) فقال: قائماً، أي: ظَنَّهُ قائماً، لأنه يدل على الفعل، كما يدل عليه (ضاربُ زيدٍ أمٍ وعَمْراً) فإذاً ليس (ظانٌ) مفعول يقع بسببه إشكال.
وهذا جواب الشَّلَوْبين، وهو أحسن ما يُقال في الموضع.
ويُوَجَّه سكوتُ الفارسي عن جواب ابن جِنَّي بأحد الوجهين، لأن ابن جِنَّي كأنَّه فَرض مسأله على غير وجهها، فلم يَستحق الجوابَ عنها، لا أنه سَكت منقطعاً عن الجواب. والله أعلم.
وَاجَرُرْ أَوِ انْصِبْ تَابِعَ الذَّي انْخَفَضْ
كمُبْتَغِي جاهٍ ومَالاً مَنْ نَهَضْ
هذا من تمام الحكم المذكور قبل هذا، لأنه ذكر لِتَالِي ذي الإعمال الجَّر والنصب، فإذا كانا منصوباً فتابعه مثلُه منصوب بلا إشكال ولا نظر، فتقول: هذا ضاربُ زيداً وعِمْراً، ولا تقول: هذا/ ضاربُ زيداً وعَمْروٍ، لأن اللفظ منصوب، والموضعُ موضعُ نصب، فلا وجه لخفض 459 التابع، فلذلك لم يَنُصَّ هنا على هذا الحكم، إذ لا زائدَ فيه على ما يذَكره في ((باب التَّوابع)).
وقد تقدَّم أن عادته وعادةَ غيره أنهم إنما يَذكرون في تفاريق الأبواب من أحكام التوابع ما لا يدَخل لهم تحت قانونها المذكورِ في بابها.
_________
ولْنَرْجع إلى ما كُنَّا فيه.
وأما إذا كان التالي لذي الإعمال مجروراً فذكر الناظم أن لم في تابعه وجهين: أحدهما: النصبُ على اعتبار الموضع. والآخر: الجرُّ على اعتبار اللفظ، وذلك قوله:((وَاجْررْ أوِ انْصِبْ تَابِعَ الَّذيِ انْخَفضْ)).
فتقول على اعتبار اللفظ هذا ضاربُ زيدٍ وعمروٍ، وهو الوجهُ، ولذلك قَدَّمه، لأنه من التَّبَعيه بغير تأويل.
وتقول على اعتبار الموضع: هذا ضاربُ زيدٍ وعَمْراً، لأن الموضع للنصب، وإنما الجرُّ تخفيفُ بحذف التنوين، ومن ذلك تمثيلهُ بقوله:((مُبْتَغِي جاهٍ ومالاً مَنْ نَهَضَ)) كأنه قال: الناهض مُبْتَغ جاهاً ومالاً، وأنشد سيبويه من ذلك القولَ رجل من قَيْس عَيْلان (1):
بينَا نَحْنُ نَرْقُبُه أتَانَا
مُعَلّقَ وَفْضةٍ وزِنادً راعي
وأنشد أيضا، وقال: زعم عيسى أنهمُ ينشدون هذا البيت (2):
هَلْ أنتَ باعثُ دِينَارٍ لحاجَتِنَا
أو عَبْدَ رَبٍ أخَا عَوْنِ ابنِ مِخْراَقِ
(1) الكتاب 1/ 171، والمحتسب 2/ 78، وابن يعيش 4/ 97، 6/ 11، والمغني 377، والهمع 3/ 201، والدرر 1/ 178. ويروي ((فبيننا نحن)) و ((نطلبه)) والوفضة: الكنانة توضع فيها السهام والزناد: جمع زند، وهو العود الأعلى الذي تقدح به النار، والأسفل هو الزندة.
(2)
الكتاب 1/ 171، والمقتضب 4/ 151، والجمل 99، والخزانة 8/ 215، والعيني 3/ 563، والهمع 5/ 295، والدرر 2/ 204، والأشموني 2/ 301. وباعت: موقظ أو مرسل. ودينار وعبدرت: رجلان. وأخا عون: عطف بيان أو نعت. ويجوز أن يكون نصبه على النداء.
وقد ظَهر منه بهذا التَّقرير أن النصب هنا ليس على إضمار الفعل، وإنما هو على التَّبعَية، وهو مخالف لظاهر سيبويه، إذ جعله على إضمار الفعل، كأنه قال: هذا ضاربُ زيدٍ ويضربُ عمراً، أو وضاربُ عمراً، ولم يعرَّج على العطف على الموضع (1).
ونَصَّ الفارسيُّ على أن النصب بالعطف على الموضع، فظاهرُ هذا اختلافُ من القول، ولكن ابن أبي الربيع قال (2): كلا الوجهين جائزٌ عند سيبويه وأبي عَلِيً، إلا أن الذي يَظهر من سيبويه أنه يختار الإضمار، لأنه لم ي ذكر في هذا الموضع غيرَه، ويظهر من أبي عَلِيًّ أن الأحسن عنده العطفُ على الموضع.
قال: ويقتضي كلامهما جوازَ الوجهين.
فإن كان كما قال ابن أبي الربيع فالخلاف بينهما في الاختيار، وإلَاّ فالخلاف بإطلاق.
والأظهر ما ذهب إليه الناظم، لأن تالِي اسم الفاعل إذا اثبت أن له لفظا وموضعا جاز اعتبارُ كل واحد منهما في التَّبعيَة، كما جاز ذلك باتفاق في نحو: ليس زيدُ بجبانٍ ولا بخيلاً، {ومَا لكُمْ مِن إلهٍ غَيْرُهُ (3)} وما كان نحو ذلك.
فالخروج بالمسألة إلى تكلفُّ الإضمار خلافُ القاعدة، فإن الإضمار من غير حاجة إليه تكلفُ ما لا دليل عليه.
(1) انظر: الكتاب 1/ 169، 171.
(2)
انظر: ((الوسيط)) شرح الجمل: 914، وما بعدها.
(3)
سورة الأعراف/ الآيات: 59، 65، 73، 85، وهد 50، 61، 84، والمؤمنون: 23، 32. وقرأه الكسائي وحده بالخفض، وقرأ باقي السبعة بالرفع في كل القرآن. وانظر: السبعة لابن مجاهد 284.
والخلاف هنا كالخلاف في العطف على موضع اسم (أنَّ) وقد تقدم الكلام في ذلك. وجمعُيه نُزوع إلى مذهب البغداديين الذين يُجيزون العطف على التوهم بإطلاق، لكن قد يَقِلُّ في موضع، ويكثُر في موضع. وهذا الباب مما كَثُر فيه ذلك، أعني اعتبارَ المرادفِ الأصلي، ولذلك وافقهم البصريون عليه الجُمْلة، وإن اختلفوا في التأويل.
ثم هنا مسألتان:
إحداهما: أن هذا الكلام مُخْتَصُّ بما إذا كان اسم / الفاعل عاملاً، لا مطلقاً، لأن 460 الذي لا يَعمل إذا اجَرَّ مجرورُه في موضع نصب، إذ فرضناه غيرَ طالب بنصب، كما أن مجرور (صاحب) ونحوهْ، مما استُعمل استعمال الأسماء ليس في موضع نصب، ولا يُعطف على موضعه نصبُ، وإذا كان كذلك لم يدَخل في كلامه مجرورُ اسم للماضي؛ فإن العرب لا تَعطف على موضع ما لا موضع له، إذ لا تقول: هذا صاحبُ زيدٍ وعمراً، فكذلك ما هو بمنزلته. فإن جاء ما ظهرُه ذلك فعلى إضمار فعل.
فقد أجاز النحويون: هذا ضاربُ زيدٍ أمس وعمراً، على معنى: ضَربَ عمراً، لا على الموضع. ومنه قوله تعالى:{وجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً والشَّمْسَ والْقَمَر حُسْبَاناً (1)} ولا يكون هذا من الحمل على الموضع إلا على القول بإعمال الذي بمعنى الماضي. وقد منعه الناظم.
(1) سورة الأنعام/ آية 96. وسبق أن القراءة باسم الفاعل هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. وانظر: السبعة لابن مجاهد 263.
فإن قيل: ما المانع من أن يكون الناظم قصَد بـ ((الذَّيِ انَخَفَضَ)) ما انخفض باسم الفاعل بإطلاق، كان: بمعنى الماضي أو لا، لكن إن كان بمعنى الماضي كان التبع منصوباً على إضمار الفعل، وإلا كان معطوفاً على الموضع، أو على إضمار فِعل كما قال سيبويه (1).
فالجواب أن هذا القصد لا يصح، لأنك إذا فرضتَ التابع منصوبا بإضمار فعلٍ لا بالتَّبعَية فليس بتابعٍ أصلا، وإنما هو من جملة أخرى، وهو إنما قال:((تَابعَ الَّذي انخَفَضَ)) فخرج هذا، إذ ليس بتابع، وهذا ظاهر.
وقد فَسَّر ابنُ الناظم هذا الموضع بما يَقَتَضي دخول المخفوض باسم الفاعل، كان للماضي أو لا، إلا أن ما خُفِض بالذي للماضي يُتْبع على إضمار الفعل، وما عداه فيه وجهان، إضمار الفعل وعدمُه (2).
فإذا أراد بذلك حقيقة التَّبَعِيَّة فغيرُ صحيح على أصله، مِنْ منْع إعمال تابع الذي للماضي.
والثانية: أن ظاهر كلامه أن هذا الحكم جارٍ في كل تابعٍ من التوابع، ولا يختص بواحد منها، فيجوز إتباعُ النعت على اللفظ، وعلى الموضع، وكذلك عطُف البيان والبدلُ والتوكيدُ، فتقول: هذا ضاربُ زيدٍ العاقلِ، والعاقلَ، وهذا ضاربُ زيدٍ أبى عبدالله وأبا عبدالله.
وكذا سائرها إذا كان اسم الفاعل لغير الماضي، أو كان بالألف واللام.
وأكثرُ ما يَذكر الناسُ هنا العطفُ النَّسقِي خاصة. ولا شك أن غيره من التوابع جارٍ مجراه، بناءً على ثبوت الموضع هنا، وهو الذي اختاره الناظم كما
(1) الكتاب 1/ 169، 171.
(2)
شرح الألفية له 432.
تقدم، فلا فرق بين المخفوض باسم الفاعل هنا والمخفوضِ بالمصدر الموصول كما تقدَم. وقد أجيز هنالك اعتبار الموضوع في التوابع كلها، فكذلك يجب هنا أن يجوز ذلك.
فإن قيل: لعل مراده بالتابع التابعُ، بالعطف، ولم يقَصد غير ذلك، إذ ليس في كلامه ما يَقتضي جميع، بل فيه ما يدل على التابع بالعطف خاصة، وهو التمثيل بقوله:((كَمُبْتَغيِ جَاهٍ ومَالاً من نَهَضَ))
فالجواب أنه لو أراد العطف وحده لَتبيَّن ذلك بياناً واضحاً، لقال: واجْرُرْ أوِ انْصبِ المعطوفَ، أو نحو هذا.
وأيضا تمثيلُه لا يعيَّن عطفاً دون غيره، لأن لفظ ((التابع)) الظاهرُ عُمومهُ، ووقع/ 461 التمثيُل بواحد منها، كما لو مَثَّل بالنعت أو بالتوكيد فلا يكون في ذلك دليل على الاختصاص.
فإن قيل: ظاهرُه أنه أجاز هنا العطف مطلقاً من غير تقييد، والنحويون قد قَيَّدوا جواز الوجهين بأن يصح وقوعُ المعطوف في موضع المعطوف عليه، فإن لم يصح وقوعهُ في موضعه لم يَجُزْ إلا النصب، وذلك نحو: هذا ضاربُ زيدٍ وعمروٍ، فالوجهان هنا سائغان، لأنك تقول: هذا ضاربُ عمروٍ. وإذا قلت: هذا الضاربُ الرجل وعمروٍ- بالخفض- لم يَجُزْ؛ لأنك لا تقول: هذا الضاربُ عمرٍ، إلا على مذهب الفَرَّاء، وهو مردود عند النحويين. وفي هذا النظم أيضا ما يدل عليه، فإنه منع في ((باب عطف البيان)) أن تقول: مررت بالضاربِ الرجلِ زيدٍ، على البدل، إذ قال:
* ولَيْسَ أنْ يُبْدَلَ باَلمْرضِىَ *
_________
ووجهُ ذلك أن البدل في تقدير الوقوع موقعُ المبدَل منه، وهذا بعينه موجود في العطف.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون ملتِزمِاً لرأي الفَراَّء، ولا محظوَر في هذا إذ كان الدليل هو المتَّبعَ. وقد جعل ل في ((شرح التسهيل (1))) حظاً من القياس، وذلك على أن تقدير الإضافة قبل دخول الألف واللام، إذ كانت الإضافة قبلها ليست للتعريف، والمانعُ من الجمع بين الألف واللام والإضافة إنما هو الجمع بين تَعْرِيَفينْ، وهذا الموضع ليس فيه ذلك، فدخلت الألف واللام لِتُعَرِّف مالم يَتَعَّرف بالإضافة، كما كان ذلك في (الحَسنِ الوجهِ) ولا يَلزم على هذا جوازُ (الحسنِ وجههِ) لأن المضاف والمضاف إليه فيه وفيما كان نحوهَ شيءٌ واحد في المعنى، بخلاف (الضَّاربِ زيدٍ) فإذا كان كذلك لم يَلزم ما أورده السائل.
والوجه الثاني: أن اشتراط صحة وقوعِ المعطوف موقعَ المعطوف عليه ليس مُتَّفقا عليه، فالنحويون في ذلك على فرقتين.
فرقة تَشترط ذلك، منهم المبرد والجُزولي.
وفرقة لا تشترط ذلك، منهم السَّيرافي وابن خروف.
وحُجَّتُهم أنه قد يجوز في المعطوف مالا يجوز في المعطوف عليه، كقولك: كلُّ شاةٍ وسَخْلَتِها (2)، وكلُّ رجلٍ وأخيه، ويا زيدُ والحارثُ، ومررت بزيدٍ وعمراً، ونحو ذلك، فقد يكون الناظم جَرَىَ على مذهب من لا يَرى اشتراطَ ذلك.
(1) ورقة (152 - أ).
(2)
من أقوال العرب (الكتاب 2/ 55، 82، 300) وكذلك قولهم: كل شاة وسَخْلَيِها بدرهم. والسخلة: ولد الشاة من المعز والضأن، ذكرا كان أو أنثى.
وهذا الوجه أمثلُ في الجواب من الأول، فإن ابن مالك قد نَصَّ على أن (الضاربُ زيدٍ) ممنوع، وهذا الذي ذهب إليه الفراء. وذكر ذلك في ((باب الإضافة)) من هذا النظم
فإن قيل: فقد رَدَّ هذا في ((الشرح (1))) بأن حرف العطف قائم مقام العامل في المعطوف عليه، واسم الفاعل ذو الألف واللام لا يجرُّ ((زيداً)) ونحوه، فلا يصح عطفه على المجرور به، قال: ولا حجة في نحو: رُبَّ رجلٍ وأخيه، ولا:
* أيُّ فَتَى هَيْجاء أنتَ وجَارِهَا (2) *
لأنهما في تقديرك وأخٍ له، وجارٍ لها (3)، ومثل هذا التقدير لا يصح في مسألتنا، فلا يصح جوازُه.
قيل: هذا لا يطَّرد له في نحو (يا زيدُ والحارثُ). والظاهر أن للعطف في هذا الاتَّسَاع ما ليس لغيره، فإذا أمكن قَصْدُ الناظم لهذا فلا اعتراض عليه.
والباغي: من: بَغَيتُ الشيءِ، أبْغِيِه. وأْبَتَغَيْته: طَلَبْتُه. / والنَّاهِض: القويُّ العزمِ الذي 462 لا يُخلْدِ إلى الراحة والدَّعة.
(1) ورقة (152 - ب).
(2)
سبق الاستشهاد به في ((باب التعجب)) وبعده:
* إذا مِا رِجَالٌ بالَّرجال اسْتَقَلَّتِ *
(3)
في شرح التسهيل (ورقة 152 - ب)((لأنهما في تقدير: رُبَّ رجلٍ وأخٍ له، وأيُّ فتى هيجاَء أنت وجارٍ لها)).
وكُلُّ ما قُرَّرَ لاسْمِ فَاعِل
يُعْطِي اسْمَ مَفْعُولٍ بلا تَفَاضُلِ
فَهْوَ كَفِعْلٍ صيِغَ للَمَفْعولِ في
مَعْنَاهُ كالمُعْطَى كَفَافاً يَكْتَفِي
لما كان اسم المفعول غيرَ جارٍ بإطلاقٍ على الفعل المضارع، ولم يَكْمُل شِبِهُه به، وكان حكمه حكمَ اسم الفاعل في هذا الباب، فيما عدا أحكامِ مالم يُسَمَّ فاعله- خاف أن يُتَوهم أنه لا يجَرى مجراه، فنَصَّ على جَرَيانه مَجراه كما فعل في ((أمثلة المبالغة))، وجَمعْ اسم الفاعل.
فيريد أن اسم المفعول حكمه حكمُ اسم الفاعل في جميع ما تقرر لاسم الفاعل من الأحكام، من كَوْنه يعمل عملَ فَعْله بالشروط المذكورة، وهي ألا يكون بمعنى الماضي، وأن يكون مُعْتَمِداً، ولا يُصَغَّر، ولا يوُصف قبل العمل. هذا إذا كان مجرداً من الألف واللام.
فإن كان بهما عمل من غير اشتراطٍ لمعنى الحال أو الاستقبال.
فتقول: هذا مُعْطى أبوه درهماً الان أو غداً، وأمَكْسُوُّ الزيدانِ ثوباً غدا؟ وهذا المُعْطي درهماً أمس أو غداً.
ومن ذلك قول الشاعر (1):
ونحُنَ تَركْنَا تَغْلِبَ ابَنَةَ وَائلٍ
كَمَضْروبةٍ رجْلَاهُ مُنَقَطِعِ الظَّهْرِ
فهذا البيت مما اعتمد فيه اسم المفعول (2) على موصوفٍ محذوف، أي
(1) هو تميم بن مقبل، ديوانه 107، والهمع 3/ 90، والدرر 2/ 131.
(2)
في جميع النسخ ((اسم الفاعل)) وهو وهم، وما أثبته من حاشية الأصل هو الصواب.
كرجَلٍ مضروبةٍ رجلاه.
فإن كان بمعنى الماضي مجرداً من الألف واللام لم يَعمل، فتقول: هذا مُعَطىَ درهمٍ أمسِ، ولا تقول: مُعْطىً درهما.
وكذلك سائر الأحكام، من جواز إضافته لتاليه، وجواز نصبه، وأنَحتاَم نصبِ ما بعد ذلك، ومن تَبَعِيَّة ذلك التالي على اللفظ، وعلى الموضع، ومن إجراء جَمْعه مُجْرى اسم الفاعل. وجميعُ ما تقدَّم ذكرهُ جارٍ هنا.
وقوله: ((بِلَا تَفَاضُلٍ)) يعني أنه لا يَفْضُله اسم الفاعل في شيءِ من أحكام هذا الباب، بل يجَري مجراه في كل حكم.
لكن لَمَّا كان في هذا الكلام احتمالٌ يُتَوهَّم منه أن اسم المفعول يَجري في كل شيءِ مَجراه، فيَرفع الفاعل، ويَنصب المفعولاتِ كلَّها، وما كان نحو ذلك، وذلك غير صحيح- حَرَّر ذلك وبَيَّن أن حكمه حكمُ فعله المبنيَّ للمفعول، لا حكمُ المبنيَّ للفاعل، فقال:((فَهُوَ كَفِعْلٍ صِيغَ للمَفْعُولِ في مَعْنَاهُ))، فهو جارٍ مجرى اسم الفاعل مع مراعاة بنائِه للمفعول، فتقول: هذا مَضْرُوبٌ أبوه غداً، كما تقول: يُضْرَبُ أبوه غداً، ولا تقول: هذا مُعْطى درهماً، كما تقول: هذا يُعْطَى درهماً. وكذلك سائر الأحكام.
وقوله: ((في مَعْنَاهُ)) يَعني به أن اسم المفعول مثلُ الفعل المبنيَّ للمفعول في معناه، لا في لفظع، فيُعْطَى كلُّ واحدٍ منهما من الأحكام اللفظية ما يَقتضيه، فاجتماعُهما إنما هو في المعنى.
وأما في اللفظ فلكل واحد منهما حكمٌ لفظي يَخْتَص به.
فالفعل لا يُضاف، بخلاف اسم المفعول، فإنه يضاف إلى مفعوله، نحو:
_________
/ هذا مُعْطَى درهمٍ غداً. فلو لم يَقُل: ((في مَعْنَاهُ)) لأَوهم امتناعَ الإضافة، وكذلك
…
463 التنوين، وما كان نحوَهما من الأحكام المختصة بالأسماء، كالتعريف والتثنية والجمع.
وقوله: ((في مَعْنَاهُ)) خبرٌ بعد عبر، أي: فهو في معنى الفعل المَصُوغ للمفعول. وضمير ((صِيغَ)) عائد على الفعل، لا على ((هو)).
ومَثَّل بقوله: ((المُعْطَى كَفافاً يكْتَفِي)) وهو من اسم المفعول بالألف واللام، فيعمل بمعنى الماضي، وبمعنى الحال والاستقبال. وهذا كله ظاهر.
والكَفَاف: ما يَكَفي الإنسانَ من غير إسراف. وحقيقته: ما كَفَّ عن الناس، أي أغنى عنهم وعن الَّلجَأ إليهم. والمعنى: أن الذي أُعطِي من العيش كَفَافاً يَكتفي بهَ عمَّا في أيدي الناس، ويَستغني به عن الكَدَّ في الزيادة، والحرِص على مالا يزيده إلا تعباً وهًماً. ثم قال:
وقَدْ يُضَافُ ذَا إلى اسْمٍ مُرَتِفعْ
مَعْنىً كمَحُمودِ المِقَاَصِدِ الوَرعْ
يعني أن هذا المذكور القريبَ المشارَ إليه بـ ((ذا)) وهو اسم المفعول- قد يُخالف اسم الفاعل من بعض الوجوه، فيضاف إلى المرفوع به في المعنى، وذلك أن اسم الفاعل لا يضاف إلى مرفوعه البتَّةَ، فلا تقول: هذا ضاربُ أبيه زيداً، ولا ما أشبه ذلك لأنه يلزم فيه إضافةُ الشيءِ إلى نفسه، إذ كان مدلول (ضارب) هو (الأب)، وقد مَنع من ذلك في ((باب الإضافة)).
_________
فكان الأصل في اسم المفعول أن يَجْري مَجراه في ألَاّ يُضاف إلى مرفوعه، فلا يقَال: أمضروبُ الأبَويْن زيدٌ؟ ولا: أمضروبٌ أبوَيْه زيدٌ؟ في أمضروبٌ ابواه زيدٌ؟
كما لا تقول: أضاربُ الأبوَيْن، ولا: أضاربُ أبوَيْه زيدٌ؟ في أضاربٌ ابواه زيدٌ؟ لأن فيه إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك ممنوع.
لكن لما كان اسم المفعول إذا تعدَّى إلى واحد يكون سَبَبِيَّاً، فلا يظهر له عمل في شيءِ إلا في السَّبَبِيَّ- أشبه الصفة المشبَّهة باسم الفاعل، فجاز فيه ما جاز فيها، فتقول: زيدُ مضروبُ الأبِ، كما تقول زيدُ كريُم الأبِ.
وكما أن (كريُم الأبِ) قد تحملت الصفةُ فيه ضَميراً عائداً على الأول، فخرج بلك عن إضافة الشيءِ إلى نفسه [لأن الضمير غير الأب- إعتبر مثل ذلك في اسم المفعول، فلم يبق فيه إضافةُ الشيءِ إلى نفسه (1)] لأن الأب غير الضمير في ((مضروب)) وصاحب الضمير هو (مضروب).
ومَثَّل ذلك بقوله: محمودُ المقاصدِ الوَرِعُ. أصله: الورعُ محمودٌ مقاصدهُ، ثم أضمر في ((محمود)) ضمير ((الوَرِع)) فصارت ((المَقَاصِدُ)) في حكم الفَضْلة، فانتصب على التشبيه بالمفعول به. ثم أضيف حملاً على اسم الفاعل حين أضيف إلى منصوبه.
وما قاله صحيح، بناءً على أن اسم الفاعل إذا أريد به الثبوت جرى مَجرى الصفة المشبهة، نحو: زيدٌ قائمٌ أبوه، وقائمٌ أباً، وقائمُ الأبِ.
فكذلك يقال في اسم المفعول: هذا مضروبٌ ابوه، ومضروبٌ أباً، ومضروبُ الأبِ، وذلك إذا أُرِيد به الثبوت، أي ثبوت الصفة.
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (س، ت).
فأما إذا أريد به العِلَاجُ فلا يمكن ذلك فيه، لأنه جارٍ مَجرى الفعل، فلا تقول في قولك:(زيدٌ قائمٌ ابوه غداً): زيدٌ قائمُ الأبِ غداً، ولا قائمٌ أباً الآن، ولذلك لم يكن هذا الحكم ليِجَري في اسم المفعول من المتعدي إلى اثنين/ ولا ثلاثةٍ أصلا. فقول الناظم: ((وقَدْ يُضَافُ ذا إلى اسْمٍ
…
464 مُرْتَفعٍ مَعْنىً يعني أنه قد يجري مجرى الصفة المشبَّهة اسمُ المفعول، فيضاف إلى مرفوعه كما تضاف الصفة إلى مرفوعها، فتقول: زيدٌ مرفوعُ الرأسِ، ومضروبُ الأبِ، ومنه مثاله: الوَرِعُ محمودُ المقاصدِ، والأصل: محمودٌ المقاصدُ منه، أو محمودٌ مقاصدهُ. ثم أُضيف إليه اسمُ المفعول. ولكن هذه الإضافة إنما تجوز بشرطين:
أحدهما: أشار إليه بالمثال، وهو أن يكون اسم المفعول من متعدً إلى واحد، فلا يجوز أن يكون من غير متعدً، إذ لا تُتَصَوَّر الإضافة، ولا من متعدً إلى اثنين ولا ثلاثة، فلا تقول: هذا مُعْطَى الأبِ درهماً، ولا مُعْلَمُ الأخِ زيداً قائماً، ولا ما أشبه ذلك.
والثاني: أن يُقصد ثبوتُ الوصف، ويُتناسَيَ فيه العلاجُ، كما تقدم. وهذا لم يُشِرْ إليه، ولكن هو داخل تحت مضمون الشرط الأول، لأنه لما مُنِع أن يكون من متَعدً إلى اثنين- كان ضمن ذلك ألَاّ يكون له مفعول مذكور، وذلك معنى كونه غيرَ مقصود به العلاجُ، وسيأتي لهذا مَزِيدُ بُيان.
فإن قيل: فأنت تقول على مذهبه: هذا مُعْطَى الأبِ، ومَكْسُوٌ الأخ فتجعله كمحمود المقاصد، وهما مِمَّا يتعدَّى إلى اثنين، وكذلك: هذا مُعْلَمُ الأبِ، وهو من المتعدَي إلى ثلاثة.
_________
فالجواب: أنَّا لا نسلَّم ذلك، بل نمنع ذلك، لأن المتعدَيَ إلى أكثرَ طالبٌ بمعناه للمنصوب، فمعنى العلاج باقٍ فيه.
وإن سُلَّم فقد يقال: إن المراد بالمتعدَّي إلى واحد ما عَمِل في واحد خَاصَّةً، مقتَصِراً عليه، فرُفع بإسناده إلى فعل المفعول، فلو كان عاملاً في مفعول آخر لم يكن من هذا الباب الذي أشار إليه، فهو المتحرَّزُ منه.
وقوله: ((مَعْنىً)) راجح إلى ((مُرْتَفِع)) أي رفعُه إنما هو من جهة المعنى، لا من جهة الحكم اللفظي.
وبَيّن بهذا أن ((المَقَاصدِ)) في مثاله، وما كان نحوهَ- ليس خَفْضُه من رَفْعٍ لفظَّي، فإن الإضافة من نَصْبٍ على التمييز، أو على التشبيه بالمفعول به. ولو كان مضافاً من حقيقة الرفعِ لزم المحظور، وهو إضافة الشيءِ إلى نفسه، بل أُضيف بعد ما نُقِل إليه ضمير الأول، فصار هو المُسْنَدَ إليه.
ولَمَّا استغنت الصفة بمرفوعها اشبه السَّبَبِيُّ المفعولَ الذي هو فَضْلة، من حيث استغنى عنه اسم المفعول، فانتصب على التشبيه بالمفعول به، وبعد ذلك أُضِيف، لمَّا صار اسمُ المفعول، بما تَحَّمل من ضمير الأول، مغايراً للسَّبَبِي، فلم تكن فيه إضافة الشيءِ إلى نفسه، فلذلك قال:((إلى اسم مُرْتَفعٍ مَعْنىً)).
وفي هذا الكلام بعدُ مسائل:
إحداها: أن إجراء اسم المفعول من المتعدَّي إلى واحد مِمَّا أغفله النحويون فلم يذكروه، واعتنى هو بذكره هنا، وفي غير هذا من تواليفه. وزعم في ((شرح التسهيل (1))) أنه يجري مجرى الصفة المشبَّهة مطلقا إن كان مصوغاً من متعدً إلى واحد، كمَضْروُب، ومَذْهُوب، ومَرْفُوع، ونحو ذلك.
(1) ورقة (155 - ب).
وأنشد عليه أبياتاً لم أقيدَّها (1) / ولكنَّ ما استَدرك ظاهرُ الصحة، واضح الموقع،
…
465 فبحقَّ ما استدركه هنا.
والثانية أنه أشار إلى أن هذا الإلحاق، وهذه الإضافة مما يقلُّ في الاستعمال، لقوله:((وقَدْ يُضَافُ)) فأتى بـ ((قَدْ)) المُقَللَّة على عادته في أمثال ذلك، إلا أنه لم يُقَيَّده بالقلة في ((التسهيل)) وإنما قَيَّد بها الجامدَ الجاري مجرى المشتق فقال: والأصح أن يُجعل اسمُ المفعول المتعدَّي إلى واحد من هذا الباب مطلقا.
وقال: وقد يُفعل ذلك بجامدٍ لتأولُّه بُمشْتَق (2).
(1) هي قول الشاعر:
تَمنَّى لِقَائِي الجَوْنُ مغرورُ نفسِه فلما رآني ارتاعَ ثُمَّتَ عَرَّدَا
وهو من شواهد الجر، نظير قولهم:(حَسَنُ وَجْهِهِ). واستشهد به كذلك في التصريح 2/ 72، والهمع 5/ 103، والدرر 2/ 135. والجون: علم عن شخص. وعَرَّد: فَرَّ.
وقول الأخر:
لَوْ صُنْتَ طَرْفَكَ لم تُرَعْ لصفاتها لَمَّا بَدَتْ مَجلُوَّةٌ وَجَناتها
وهو من شواهد النصب، نظير قولهم:(حَسَنُن وُجْهَهُ). واستشهد به كذلك في التصريح 2/ 72، والهمع 5/ 103، والدرر 2/ 134. ولم ترع: لم تفزع. والوجنات: جمع وجنة، وهي ما ارتفع من الخد.
وقول الآخر:
بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ فهل أنت مرفوعٌ بما ههنا راسُ
وهو من شواهد الرفع، نظير قولهم:(حَسَنٌ وجهُ). واستشهد به كذلك في التصريح 2/ 72، والهمع 5/ 99، 102، والدرر 2/ 133، 134.
(2)
التسهيل 141. ولم يتعرض الشارح- رحمه الله لمسالة الجامد المؤول بمشتق. وتتميما للفائدة نذكر هنا ما قاله النحاة فيها، فإنهم قالوا: قد يقال: وردنا منْهَلا عَسَلاً ماؤه وعسلاً ماءٌ، ونزلنا بقومٍ أسْدٍ الأنصارَ، وصاهرنا حياً أقماراً نساؤه، =
فأنت ترى مخالفةً مَا بين الكلامين، فأحدهما يزعم أن هذا الاستعمال قليل، والآخر يُطِلق القوَل بالجواز، ولكنَّ رأيه هنا أحسنُ، إذْ استعمالُ اسم المفعول استعمالَ الصفةِ المشبَّهة قليلٌ كما قال، والأكثر إجراؤه مُجرى أصلِه، وهو اسم الفاعل حسبما تقدم.
وعلى ذلك ظاهرُ كلام غيره، إلا أنه استدرك هذا الاستعمال الثاني القليل، فهو حَسَنٌ ولا عَتْبَ عليه.
وأما زعمه هنالك (1) أنه خارج عن ((باب اسم الفاعل)) بإطلاق، جارٍ مَجرى الصفة المشبَّهة بإطلاق فهو رأيٌ غريب يَقتضي امتناع (هذا مضروبُ غداً أو الآنَ) و (هذا مُكْرَمٌ أبوه الآنَ) وما أشبه ذلك.
وهو غير صحيح، نعم، لاُ ينْكَر أن يُقْصد بمعناه الثبوت، فيجري مجرى الصفة، لا أن يكون كذلك البتَّةَ، ولا أعلم له في هذا القول مُسْتنَدَا.
= وأقمار النساءِ. على تأويل (عَسَل) بحلو، و (أُسْدِ) بشجعان، و (أقمار) بحسان، ومنه قول الشاعر.
فراشةُ الحِلْم فِرْعَوْنُ العذابِ وإنْ تَطْلُبْ نَداه فكَلْبٌ دونَه كَلْبُ
فعاملَ ((فراشة)) معاملة: طائش، و ((فرعون)) معاملة: مهلك.
وقول الآخر:
فَلوْلَا اللهُ والمُهْرُ المْغَدىَّ لأبْتَ وأنتَ غِرْبالُ الإهابِ
فعامل ((غربال)) معاملة: مثقب.
قال ابن مالك في ((شرح التسهيل)) (ورقة 155 - ب): ((وأكثر ما يجئ هذا الاستعمال في أسماء النسب، كقولك: مررتُ برجل هاشمي أبوه، تميميةٍ أمُّه. وإن أضفت قلت: مررت برجلٍ هاشميَّ الأب، تميمي الأم، وكذلك ما أشبهه)).
وانظر: التصريح 2/ 72، والهمع 5/ 103.
والثالثة: أنه قال: ((وقَد يُضَافُ ذا إلى اسْمٍ مُرْتَفِعٍ)) فخَصَّ بالذكر الإضافة وحدها، والجاري مجرى الصفة المشبهة، من اسم المفعول وغيره، لا يختص بالإضافة إلى المرفوع وحدها، بل يجوز مع ذلك النصبُ على التشبيه أو التمييز، فتقول: هذا مضروبٌ الأبَ، أو أباً، وهذا مضروبُ الأبِ، ولا فرق بين النصب والجر في هذا. فقد يَسأل السائل: لِمَ خَصَّ الإضافة بالذكر دون النصب، فقد كان الأولى أن يذكرهما معاً، أو يُحيل باسم المفعول هنا على ((باب الصفة المشبهة))؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن يُقال: لعلَّه عَيَّن ما هو السماع أكثرُ من غيره، فكأن الإضافة والنصب مسموعان قليلان، إلا أن النصب أقلُّ، فذكر ما هو أكثرُ شيئاً من غيره، خروجاً من عُهْدة السَّماع.
والثاني: أن يكون اكْتَفى بذكر أحدهما عن الآخر إذا كانا معاً في ((باب الصفة المشبهة)) كالمتلازمين، فحيث يجوز أحدهما يجوز الآخر على الجملة، فلم يَحْتج إلى ذكرهما معاً.
وأيضاً فإن الإضافة أخصُّ عنده بباب الصفة المشبهة. ألا ترى أنه عَرَّفها بها إذ قال: ((صِفَةٌ اسْتُحْسِنَ جَرُّ فَاعِلٍ مَعْنىً بِهَا))؟
فإذا جاز الجر فالنصبُ في الضَّمن. والله أعلم.
والوَرِعُ- في كلامه- اسم فاعل من: وَرضعَ يَرَعُ وَرَعاً، فهو وَرِعٌ، إذا كَفَّ عن المعاصي، فهو مُتَّقٍ كافٌّ عَمَّا لا يَحِل.
ومعنى المثال: أن الوَرِعَ المُتَّقِيَ لله مقاصُده كلها محمودة، لأن قَصْده في كل شيء تقوى الله تعالى.
_________