المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التَّعَجُّبُ التعجبُّ في اصطلاحهم العام: / استعظام زيادةٍ في وصف الفاعل - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٤

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌التَّعَجُّبُ التعجبُّ في اصطلاحهم العام: / استعظام زيادةٍ في وصف الفاعل

‌التَّعَجُّبُ

التعجبُّ في اصطلاحهم العام: / استعظام زيادةٍ في وصف الفاعل خَفَى سببُها،

509 وخرج بها المذكورُ بها عن نظائره، أو قَلَّ نظيرُه، بلفظٍ دالٍّ على ذلك.

وقوله: ((استعظام زيادةٍ)) تنبيهٌ على أنه إنَّما يصحُّ مما يَقبل الزيادةَ والنُّقصان.

وقوله: ((في وصف الفاعل)) تنبيهٌ على أنه إنما يتعلَّق التعجبُ بمَن قام به ذلك الوصف.

وقوله: ((خَفِىَ سببُها)) تحرُّزٌ من الخِلَق الظَّاهرة والألوان؛ إذ لا يُتَعَّجب منها.

وما بعد ذلك بيانُ أن الوصف إذا لم يَقِلَّ نظيرُه لا يُتَعَّجب منه.

بهذا عَرَّف التعجبَ بعضُهم (1)، ولم يعرِّفه الناظم اتِّكلا على المعرفة به عند النحويِّين، وإنَّما شَرع في صيغ االتعجُّب فقال:

بِأَفْعَل انْطِقْ بَعْدَ مَا تَعَجُّبَا

أو جِئْ بأَفْعِلْ قَبْلَ مَجْرورٍ بِبَا

وتِلْوَ أَفْعَلَ انْصِبَنَّهُ كَمَا

أَوْفَى خَلِيلَيْنَا وأصْدِقْ بِهَما

(1) على حاشية الأصل ((هو ابن عصفور)) وهو حق مع اختلاف يسير. وانظر: شرح جمل الزجاجي له 1/ 576.

ص: 432

يعني أنك إذا أردتَ أن تُعَبِّر عما عَرض لك من التعجبُّ من شيء، وأن تُبَيِّن أنك قد تعجَّبتَ- فلذلك صيغتان في الأصل.

إحداهما (أَفْعَلَ) على وزن (أَكْرَمَ) آتياً بها بعد ((ما)) ويكون ما بعدها يَتْلوها، وهو المتعجَّب منه، منصوباً.

مثال ذلك: ما أَوْفَى خَلِيَلْينَا. ومثله: مَا أكْرمَ زيداً، وما أَحْسَنَ عَمْراً. وفي القرآن {فَمَا أَصْبَرهُمْ على النَّارِ (1)} .

والثانية (أَفْعِلْ) على وزن (أكْرِمْ) آتياً بها قبلَ اسم مجرور بباء، لا بغيرها من حروف الجر، والمجرور هنا هو المتعجَّب منه، وهو المنصوب في صيغة (ما أَفْعَلَه) ولذلك قال:((وتِلْوَ أَفْعَلَ انْصِبَنَّهُ)) فَردَّ الضمير إلى المجرور بالباء، فيُريد أن ذلك الاسم يأتي منصوباً بعد صيغة (ما أَفْعَلَ) ومجروراً بالباء في صيغة (أَفْعِلْ) وذلك قوله:((وأَصْدِقْ بِهمَا)) أي بَخَلِيْلْنْنَا. ومثله: أَكْرِمْ بزيدٍ، وأَحْسِنْ بِه. وفي القرآن {أَسْمِعْ بِهِمْ وأَبْصِرْ (2)} .

وقد أشعر هذا الكلام بأن المنصوب بعد (ما أَفْعَلَ) والمجرور بعد (أَفْعِلْ) لازمُ الذِّكْر، فلابد من الإتيان به، لكونه جَعله من جملة صِيغة التعجُّب.

وذلك في الأصل صحيح، إلا انه قد يُحذف للعلم به كما سيأتي ذكرهُ بعد.

هذا بيانُ ما قال. وفيه دَركٌ (3) من وجهين:

أحدهما أنه حَصَر صِيَغ التعجُّب في صيغتين وهما: (مَا أَفْعَلَهُ) و (أَفْعِلْ بِه) إذ قَدَّم المجرورَ في قوله: ((بأفْعَلَ انْطِقْ)) والتَّقديم في مثل هذا يُشعر

(1) سورة البقرة/ آية 175.

(2)

سورة مريم/ آية 38.

(3)

الدَّرك- بإسكان الراء وفتحها- التبعة، يقال: ما لحقك من درك فعلىَّ خلاصه.

ص: 433

بالحَصْر، والحَصْر في هاتين الصِّيغَتْين باطل؛ فإن في كلام العرب صِيَغاً كثيرة تَقْتضي من معنى التعجُّب ما يَقْتضيه (ما أَفْعَلَهٌ وأَفْعِلْ بِه).

من ذلك (فَعُلَ) نحو: لَقَضُوَ الرجلُ (1)، وفي القرآن {سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ (2)} - {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ (3)} .

ومنه: لِلَّهِ أنتَ، لِلَّه دَرُّكَ (4)، ووَاهاً لزيدٍ (5).

* ولِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ تَفَرُّقِ (6) *

وحَسْبُك به رجلاً، و ((كَفَى باللَّهِ شَهِيداً (7)))

و* للَّه يَبْقَى على الأَيَّام ذُو حِيَدٍ (8) *

(1) يجوز التعجب من كل فعل ثلاثي ينقل إلى (فَعُلَ) مضموم العين، وإذا بُنى من فعل معتل اللام من ذوات الياء قلبت الياء واو لانضمام ما قبلها، مثل: رَمُوَ الرجل، وقَضُوَ الرجل، في معنى: ما أرماه، وما أقضاه.

(2)

الأعراف/ آية 177.

(3)

الكهف/ آية 5.

(4)

الأصل في هذا القول أن الرجل إذا كثر خيره وعطاؤه وإنالته الناسَ قيل: لله دَرُّه، أي عطاؤه وما يؤخذ منه، فشبهوا عطاءه بدَرّ الناقة، ثم كثر استعمالهم حتى صارو يقولونه لكل متعجب منه. وانظر: اللسان (درر).

(5)

في اللسان (ويه): ((وإذا تعجبت من طيب الشِيء قلت: وَاهاً له ما أطيبه! ومن العرب من يتعجب بواهاً فيقول: وَاهاً لهذا، أي ما أحسنه)).

(6)

عجزه: * أشتَّ وأنأى من فراق المحصَّبِ *

وهو من شواهد اللسان (حصب) والتذييل والتكميل لأبي حيان (ج 3 ص 210 - ب). والمحصب: موضع رمي الجمار بمنى. وقيل: الشِّعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكة ومنى.

(7)

سورة الفتح/ آية 28.

(8)

من شواهد سيبويه 3/ 497، والمقتضب 2/ 324، وابن يعيش 9/ 98، 99، وشرح الرضي على الكافية 4/ 315، والخزانة 10/ 95، وديوان الهذليين 3/ 1

وعجزه: * بُمشْمَخَرٍّ به الطيَّانُ والآسُ *

=

ص: 434

/ و ((تَاللَّهِ)) وبالتاء أيضاً. فالَّلام والتَّاء في القَسَم يَقتضيان معنى التعجُّب، وهو من

510 معانيها.

وفي الحديث ((سُبْحَانَ اللهِ، إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ (1))) ومثل قولهم: يَا لَلْعَجبِ، ويالَلْمَاءِ، ويا لَلْفَلِيقَةِ (2)، وقول الأعشى (3):

* يا جَارَتَا ما أَنْتِ جَارَه! *

* ويَالَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ (4) *

= وينسب إلى ابي ذؤيب الهذلي، أو أمية بن ابي عائذ، أو مالك بن خالد الخناعي الهذلي. ويروي (تَاللَّهِ) ويبقى: معناه لا يبقى. والحِيَد: جمع حَيْد: وهو ما شخص من نواحي الشِيء. ويراد بالحيد هنا كعوب قرن الواعل. والمشمخر: الجبل العالي. والظيان: ياسمين البر. والآس: الريحان. وذكرهما هنا إشارة إلى أن الوعِل في خصب وسعة، فلا يحتاج إلى النزول إلى السهول فيصاد. والوعل- بكسر العين- التيسر.

(1)

البخاري- الغسل: 23، والجنائز: 8، ومسلم- الحيص: 115، 116، وسنن أبي داود- طهارة:91.

(2)

الفليقَة: الداهية والأمر العجب. وهو من أمثالهم، انظر: جمهرة الأمثال 2/ 425، والمستقصي 2/ 407، واللسان (فلق).

(3)

ديوانه 11، وابن يعيش 3/ 22، والأشموني 3/ 17، وشرح الرضي على الكافية 2/ 73، والخزانة 3/ 308 وصدر البيت: * باتت لتَحْزُننَا عَفَارَه *

وعفارة: اسم زوجته. ويا جارتا: التفات من الغيبة إلى الخطاب، واصله (يا جارتي) وجارة الرجل: امرأته التي تجاوره في المنزل. و ((ما)) استفهامية مبتدأ، خبرة ((أنت)) و ((جارة)) تمييز أو حال. والمعنى: ما أنبلكِ، أو ما أكرمكِ من جارة، أو حالة كونك جارة. وقد تكون (ما) نافية، ويرشحه الرواية الأخرى (ما كنت جارة) وعلى هذا يخرج من باب التعجب.

(4)

من معلقة امرئ القيس، وعجزه:

* بكُلِّ مُغَار الفَتْلِ شُدَّتْ بَيذْبُل *

والمغار: الشديد الفتل. ويذبل: اسم جبل. ويقول: كأن هذه النجوم شَدت بحبل مفتول قوي إلى جانب هذا الجبل، فكأنها لا تسري، يصف طول الليل.

ص: 435

وقالوا: ما رأيتُ كاليومِ وَفاءَ وافٍ (1). وما أشبه هذه المُثُلَ وداناها. وفي كلامهم من هذا كثير.

و(ما أَفْعَلَهُ، وأَفْعِلْ بِه) صيغتان من جملة الصِّيغَ المؤدِّية معنى التعجُّب، فإذا ثَبت ذلك فاقتصارُه على ما ذَكر هنا ظاهُره التَّقصير.

والثاني أن هذا التَّعريف الذي أتى به بيانٌ لكيفيَّة لفظ التعجُّب، وَقع فيه التنكيرُ والإبهام من جهات.

منها أنه لم يُبَيِّن (ما) ما هي؟ أهي الاستفهاميَّةُ أم الموصولة أم غير ذلك، بل لم يبيِّن أحَرِفْيَّةٌ هي أم اسميَّة؟ (وهي اسميَّة بلابُدٍّ)(2).

واختلف فيها، فقيل: نكرةٌ بمعنى (شِيء) وهو مذهب الخليل وسيبويه (3) والجمهورِ من البصريين. وقيل موصولة بمعنى (الَّذِي) وهو رأي الأخفش (4). وقيل استفهاميَّة، وإليه مال الفَرَّاء (5).

ومنها أنه لم يبيِّن حكم (أَفْعَلَ) أهو اسمٌ أم فِعْلٌ، إذ ليس في لفظه ما يدلُّ على شِيء من ذلك.

وقد اختلفوا فيه، فقال الكوفيون: اسمٌ، وقال البصريون: فعلٌ ماض (6).

وكذلك لم يبيِّن كونَ (أَفْعِلْ) فعلَ أَمْرٍ أو غَير فعل أمر. والجمهور أن معناه معنى الخَبر، وإن لفظه لفظَ الأَمْر فليس بفعلِ أمر. وذهب الفراء إلى أنه

(1) روايته الصحيحة ((ما رأيتُ كاليومِ قَفَا وافٍ)) وانظر المثل ((هو قَفَا غادرٍ شَرٍّ)) في جمهرة الأمثال 2/ 355، والمستقصي 2/ 399.

(2)

ما بين القوسين ساقط من (ت).

(3)

الكتاب 1/ 72.

(4)

شرح الكافية 2/ 310، وابن يعيش 7/ 149.

(5)

نفسه 2/ 310، ونفسه 7/ 149.

(6)

انظر: الإنصاف 126 (المسألة الخامسة عشرة).

ص: 436

بمعنى الأمر على ظاهره، ومال إليه الزمخشري (1)، وقَوَّاه ابن خروف.

وينبني على ذلك الخلاف في موضع المجرور بالباء، هل هو رفعٌ أم نصبٌ؟ فالقائل بأنه أمر بَجعله، أعني المجرورَ، في موضع نصب.

والقائل بأنه خبرٌ يجعله في موضع رفع بالفاعليَّة، وعلى هذا الثاني لا يكون في (أَفْعِلْ) ضمير، وعلى الأول لابد فيه من ضمير، وهو نَصُّ الفراء.

وعلى ذلك ايضا يَنْبنى كونُ الباء الجارة زائدةً أو غير زائدة، ولم يبيِّن ذلك الناظم، فمن جعل الفاعل خَبَرياً عَدَّ الباء زائدةً كزيادتها في ((كَفَى باللهِ))، ومن جَعله فعلَ أمر لم يلزمه القولُ بزيادتها.

ومنها أنه لم يبيِّن كونَ الاسم بعد (أَفْعَلَ) أو (أَفْعِلْ) هو المتعجَّب منه دون غيره، ولا بَيَّن مِمَّ يُبنى (أَفَعْلَ) أو (أَفْعِلْ) وأنَّهما إنَّما يُبنيان من المصادر التي وقع من أجلها التعُّجب، فإنه لما قال:((بأَفْعَلَ انْطِقْ)) يقول له المخاطب: مِنْ ماذا اَبْنِي هذه الصِّيغة من المصادر؟ فصار كلاماً مجَملاً متغلِّقاً دون الفهم، وهذا هو عمدةُ التَّعريف والمحتاجُ إليه في البيان.

فالحاصل أنه لم يَأت في التَّعريف بكافٍ ولا جاز، فصار كاللُّغْز الذي لم يُنْصَب على فهمه دليل.

والجواب عن الأول أن ما ذُكر من الصِّيَغ المفهوم منها التعجبُ غيرُ منضَبِطة

لقانون/ حاصر (2)، ولا مُنْضَمَّة (3) بقياس قاضٍ من وجهين:

511

(1) ابن يعيش 7/ 147.

(2)

في الأصل ((خاص)) وما أثبته من (ت، س).

(3)

في (س)((ولا مُضَمَّنة)) وما أثبته هو الأوضح، لتلاؤمه مع قوله:((مُنْضَبِطة)).

ص: 437

أحدهما أنها إنما جاءت مُؤَدِّية معنى التعجُّب على غير اطِّراد يُقاس على مثله، فصارت من قَبيل المسموع الذي لا يُقاس عليه، إلا (فَعُلَ) في نحو: لَقَضُوَ الرجلُ، فإنه اطَّردَ. وقد ذكَره الناظم بعدُ فلم يُهمله.

والثاني أن معنى التعجُّب في أكثرها ليس بالصِّيغة والبِنْية والوضَعْ الأصلي، وإنَّما هو في الأكثر مفهومٌ من فَحْوى الكلام (1)، وبِساط التَّخاطب. وإذا كانت دلالتها على التعجُّب من خارجٍ، ولم تَنْضَبط لصِيَغ معيَّنة مطَّرِدة لم يَعْتبرها، من جهة أن قصد النحويِّ عَقْدُ القوانين فيما يمكن عقدُها فيه. وما تقدَّم ليس من ذلك، إلا (ما أَفْعَلَه) و (أَفْعِلْ بِه) فإنهما صيغتان مختصَّتان بهذا المعنى، راجعتان إليه، فلذلك اقتصرَ عليهما، وضَمَّ إليهما صيغةَ (فَعُلَ) إلحاقاً بهما، لا أنه أصلٌ في باب (التعجُّب) فأتى به آخِراً ولم يُصَدِّر به إشعاراً بعدم الأصَالة، ولم يَتركه لا طِّراده،

ومن هنا صدَّر الجُزُولِيُّ (2) باب (التعجُّب) بالاعتذار عن هذا السؤال، فقال: للتعجُّب الذي يُبَوَّب له في النَّحو لفظان (ما أَفْعَلَهُ) و (أَفْعِلْ بِه) فاعتذر كما ترى قبل ايراد السؤال، عِلْماً بأنه مما يُوَرد مثلُه على النَّحوي.

ونظير هذا بابُ (التَّوكيد) حين تكلَّموا فيه على الألفاظ المخصوصة كالنَّفْس والعَيْن وأخواتهما، وتركوا التَّبويَب على ما عداها من عبارات التَّوكيد وأدواته؛ لأن تلك الألفاظ المختصَّة مُنْضَبِطه للدخول تحت القوانين، وما سواها لا يَنْضبط في الأكثر، ولا يَجرى على مَهْيَع واحد (3).

وقد ألحق ابنُ مالك بتلك الألفاظ أشياء كما ضَبَطها قانونُ القياس.

(1) فَحْوى الكلام: مضمونه ومرماه الذي يتجه إليه القائل.

(2)

تقدمت ترجمته.

(3)

المَهْيَعُ من الطرق: البَيِّن.

ص: 438

وأيضاً فقد يقال: إن كل ما ذُكر، من الألفاظ المؤدِّية معنى التعجُّب، راجعةٌ إلى معنى (ما أَفْعَلَه) و (أَفْعِلْ بِه) وعنهما تفرَّعت، فذَكَر في التَّبْويب الأصلَ، وتَرك ما سواه. والله أعلم.

والجواب عن الثاني أن ما اعتُرِض به لم يُغْفله جملة، بل في كلامه ما يشير إلى ما يُضْطَرُّ إليه فيه. ومالا يُضطر إليه فيه. ومالا يُضطر إليه لا يَفْتَقر إلى التَّنبيه عليه.

فأما (أَفْعَلَ) و (لأَفْعِلْ) فهما عنده فِعِلَان، ودَلَّ على ذلك من كلامه قولُه بعد:((وفي كِلَا الفِعْلَيْن قِدْماً لَزِمَا)) فهذا نَصٌّ على أنهما فِعْلان.

وايضاً فقد قَدَّم في أول الكتاب أن الفعل يَنْجلى بنون التَّوكيد (1)، وفعلُ التعجُّب تلحقه نونُ التَّوكيد نحو (2):

* فَأَحْرِ بِهِ لِطُولِ فَقْرٍ وأَحْرِيَا *

أراد ((وأَحْرِيَنْ)). وإذا ثَبتت فِعْليَّة (أَفْعِلْ) فـ (أَفْعَلَ) نظيره، فهو إذاً فعلٌ مثلُه.

وايضاً فلزوم إلحاق نون الوقاية دليلٌ على ذلك، نحو: ما أَحْسَنَنِي، وما أكَرْمَنَيِ. وهذا لم يَذكره في دَلائل الفعل في هذا النظم (3).

(1) حيث قال في ((باب الكلام وما يتألف منه)): ((ونُون أَقْبِلَنَّ فِعْلٌ يَنْجَلى)).

(2)

مغنى اللبيب 339، والهمع 4/ 400، والدرر 2/ 98، والأشموني 3/ 221، والعيني 3/ 645، واللسان (حرى، غضا) ويروي ((من طول)) و ((بُطون)).

وصدره:

* ومسْتَبِدلٍ من بَعدٍ غَضْيا صُرَيْمَةَ *

والغَضْا: مائة من الإبل. وصُريَمْة: تصغير (صِرْمَة) وهي القطيع من الإبل او الغنم، ما بين العشرين إلى الثلاثين، يعني أبلا قليلة. وأحْرِبه: ما أحراه وما أجدره.

(3)

يقصد ما ذكره الناظم في باب ((الكلام وما يتألف منه)) من علامات الفعل.

ص: 439

ولا يُقال: إن ذلك لا دليلَ فيه/ فإنَّك قد تقول: لَيْتَنِي، وعَلَيْكَنِي، ورُوَيْدَنِي، فتُدخل 512 النون على الحرف وعلى الاسم (1)، وهي نون الوقاية، فليست بمختصَّة بالفعل، فلا دليلَ فيها على فِعِلِيَّة ما دَخلت عليه.

وكذلك لا دليلَ على فِعْليَّة (أَفْعَلَ)[بِفعلية (أَفِعْلْ)](2) لتباينهما في أحكام، وإن اتَّفقا في أحكامٍ أُخَر، وإلَاّ لَزم أن يُقال بفعليَّة (أَفْعَلِ التَّفْضيل) وذلك فاسد؛ لأنا نقول: دخولُ نون الوقاية على الأسماء والحروف غيرُ مطَّرِد فيها، وإنَّما ألحِقت سماعاً في بعضها بحيث لا يُقاس عليها غيرُها، بخلاف (أَفْعَلَ) فإن نون الوقاية مطَّرِدة الدخولِ على (أَفْعَلَ) في التعجُّب، لا يَخْتَصُّ بواحدة من الموادِّ دون أخرى، نحو: ما أكَرْمَني، وما أَحْسَنَنِي، وما أَقْبَحَنِي، وما أَبْخَلَنِي، وما أَشْجَعَنِي. وما كان نحو ذلك.

وأما القياس على ألإَفْعِلْ) فظاهرٌ، لموافقته له في البِنَاء ومعنى التعجُّب وعدم المعارِض، بخلاف (أَفْعَلِ التَّفضيل) فإن إعرابَه وجَرَّه ودخولَ الألف واللامِ عليه وغيرَها من خَواصِّ الاسم عارضت دَعْوَى الفِعْلية فلم يُقَل بها.

ومما استُدِلَّ به على الفِعْليَّة فَتْحُ آخِر (أَفْعَلَ) على مُشَاكلة الماضي، ونصبُ ما بعده على ترتيب عمل الفاعل الماضي.

وقد أُجيب عن ذلك بأن بناءه على الفتح لتضُّمنه معنى التعجُّب، وأنه إنَّما نَصب ما بعده، وكان أصله الجرَّ بالإضافة، فَرْقاً بين الاستفهام المحض والتعجُّب الذي صار إليه.

(1) يقصد اسم الفعل، الذي مثله بقوله:((عَليْكَنِي)) وهي فعل أمر بمعنى: الزمني، و (رُوَيْدَنِي) اسم فعل أمر بمعنى: أمهلني، أو رفقاً بي.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وقد استدرك على حاشية الأصل.

ص: 440

وهذا غير صحيح، فإن المبنىَّ لتضُّمن معنى الحرف إنَّما هو القائمُ مقامَه، أداةٌ مثلُه، وذلك (ما) لا غيرُها. وأمَّا التَّفرقة بين المعاني فلا يُزيل الإعرابَ عن وَجهه.

وأيضاً فهو مبنىٌّ على أن (أفْعَلَ) أصُله الرَّفع، وهو مضاف إلى ما بعده، ولو كان كذلك لم يَحْسن الفصلُ بينهما، فلا يقال:(ما أحسنَ بالرجل أن يَصْدُق) في فصيح الكلام؛ لأنه في تقدير: (ما أحسنُ)(1) بالرجل الصِّدْقِ. والفصل بين المضاف والمضاف إليه لا يجوز إلا في الشَّعر، أو في نادر لا يُعْتَدُّ بالقياس فيه (2). وهذا ليس كذلك، فَدلَّ على أنه ليس منه، فما زَعَموه دَعْوى، وأَقْوَى احتجاجاتهم تصغيرُه قياساً، وتصحيحُه كذلك، فإنك تقول: ما أَقْوَمَه، وما أَبْيَن معنى كذا، وهذا لا يكون إلا في الأسماء. وأما الأفعال فيجب فيها الإعلال حسبما يأتي في التصريف (3).

وأيضاً فإنهم يقولون: ما أُحَيْسِنَ زيداً، ومَا أُمَيْلِحَ عَمْراً، وأنشدوا (4):

يَامَا أُمَيْلِح غْزِلَاناً شَدَنَّ لَنَا

مِنْ هَؤُلِيَّاًئِكُنَّ الضَّالِ والَّسمُرِ

(1) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.

(2)

على حاشية الأصل ((لا يقاس عليه)) وهو إما من نسخة أخرى، أو تفسير.

(3)

اي من إعلال الأفعال الجوفاء التي على زنة (أَفْعَلَ) مثل: اقام، وابات.

(4)

أمالي ابن الشجري 2/ 130، 132، 135، والإنصاف 127، وابن يعيش 1/ 61، 3/ 134، 5/ 135، 7/ 143 وشرح الرضي على الكافية 1/ 49، 4/ 230، والخزانة 1/ 93، والهمع 1/ 261، 263، 5/ 54، والعيني 1/ 416، 3/ 463 واللسان (ملح، شدن). وينسب البيت للعرجي تارة، ولمجنون ليلى تارة، ولذى الرمة تارة أخرى. وأميلح: تصغير (أملح) من الملاحة، وهي البهجة وحسن المنظر. ويقال: شدن الظبي شدونا، إذا قوى وطلع قرناه واستغنى عن أمه. وهؤليَّاء: تصغير (هؤلاء) على غير قياس. والضال: السدر البري. والسَّمُر: شجر الطلح، وهو شجر عظام، واحدة سَمرُة.

ص: 441

فلو كان فعلا لم يصغَّر، فالتَّصغير من خواصِّ الأسماء.

والجواب أن التَّصحيح (1) لا دليل فيه، فلو كان مستقلاً بالدلالة على الاسميَّة لَدَلَّ على اسمية (أَفْعِلْ) فإنك تقول: أَقْمِمْ بِه، وأَبْيِعْ بِه. وإذا لم يخرج (أَفْعِلْ) عما ثَبت له من الفعليَّة فلا يخرج (أَفْعَلَ) عن ذلك.

وأما التَّصغير فهو/ اصعبُ ما في المسألة. وقد اعتذر البصريون عنه باعتذرات

513 جميعُها يَستلزم تسليَم الإشكال، فقيل: لَمَّا أشبه السماءَ للزومه لفظَ الماضي وقلَةِ تصرفهِ، ولأنه في معنى (أَفْعَل التَّفضيل) وهو اسم، حَمَلُوه عليه في التَّصغير وتَرْكِ الإعلال.

ولأن التصغير قد يُراد به التَّحقيرُ والتَّقليل والتَّقريب والتعطُّف والتَّعظيم، وقد يُراد به المدح. وإنَّما قَصدوا هناك (2) تصغيرَ (المَلَاحة) الذي هو مصدر (مَلُحَ) لكن لَمَّا لم يكن للمصدر في التعُّجب استعمال، وكان الفعل يَدُلُّ على مصدره، ولذلك يعود عليه ضميرهُ في نحو:{مَنْ كَذبَ كانَ شَراً له (3)} اجتَرؤوا على الفعل فصَغَّروه، لأنه متضمِّن لمعنى مصدره، وقد يُعامل معاملةَ لتضمُّنه إياه، ولذلك أضيف إلى الفعل في نحو: جئتُ يومَ قام زيدٌ، واذْهَبْ بذي تَسْلَمُ (4)، وقوله (5):

(1) على حاشية (ت)((صوابه أن التصغير)) وهو خطأ، لأنه سيتكلم عن التصغير بعد ذلك. ومراده بالتصحيح تصحيح العين في نحو ما أقْوَمَه، وما أبْيَنَه. وقد تقدم.

(2)

أي في البيت السابق.

(3)

الكتاب 2/ 391.

(4)

نفسه 3/ 118، 121، 158.

(5)

عجزه

* كأنَّ على سَنَابِكها مُدَامَا *

وقد نسبه سيبويه للأعشى (3/ 118) وليس في ديوانه. وانظر: ابن يعيش 3/ 18، والخزانة 3/ 135، حيث قال البغدادي هناك:((ولم اره منسوبا إلى الأعشى إلا في كتاب سيبويه)). =

ص: 442

* بآيَةِ تُقْدِمُونَ الخَيْلَ شُعْثاً *

فكذلك عاملوه ههنا معاملتَة، فصَغَّروا الفعَل والمراد المصدر.

وعَلَّل ذلك سيبويه بأنهم أرادوا تصغيرَ الموصوف بالملَاحة، كأنك قلت: مُلَيِّحٌ، لكنهم عدلوا عن ذلك، وهم يَعنون الأول. ومن عادتهم أن يَلْفِظُوا بالشِيء وهم يريدون شيئاً آخر، كما قالوا: بنو فلان يَطَؤُهم الطَّرِيقُ، وصِيَد عليه يَوْمَان. ونحوه كثير (1).

والحاصل أنهم يُقِروُّن بالتصغير، ولا يُقِروُّن بما يلزمه من الاسمية، وإنما لم يُقِروُّا بذلك لمعارِض ثبوتِ الفعليَّة، فاحتاجوا إلى الاعتذار عنه.

وأمَّا حُكْم (ما) فالدَّليلُ على اسَميتَّها أنه إذا ثَبت كونُ (أَفْعَلَ) فِعلاً اقتضَى أَنْ لابد له من فاعل، وليس ثَمَّ مرفوع ظاهر، فلابد من إضماره في الفعل عائداً على (ما) إذ لا غيرُها (2)، فمدلولُ (ما) فثَبت أنها اسم، ثم كونُها استفهاميَّةً، أو نكرةً بمعنى (شَيءْ) أو موصولةً، مسكوتٌ عنه (عنده)(3)، وذلك لا يَقدح في فهم التعجُّب، مع أنه قد قيل بكلِّ واحد من تلك الاحتمالات، فكأنَّه تَرك التعبيرَ فلم يَنص على اختيارٍ فيها، لأن جميعها راجع في التَّقريب

= والآية: العلامة، والشَّعث: جمع أشعث وشعثاء، يقال: شَعِث الشَّعْر، شَعَثا وشُعوثة إذا تغير وتلبَّد. وشعِث راسهُ وبدنه، إذا اتسخ. والَّنابك: جمع سُنْبك، وهو مقدَّم الحافر. والمُدام: الخمر.

(1)

الكتاب 3/ 477، 478 بتصرف. وقال السيرافي تعليقاً على العبارتين ما ملخصه: يريدون: يطؤهم أهل الطريق الذي يمرون فيه، فحذف (أهلا) وأقام (الطريق) مقامهم. ومعنى (يطؤهم الطريق) أن بيوتهم على الطريق، فمن جاز فيه رآهم، وقوله:(صيد عليه يومان) معناه: صيد عليه الصيد في يومين، فحذف الصيد، وأقام اليومين مقامه.

(2)

اي لا يوجد قبل فعل التعجب اسم يعود عليه الضمير المستتر فيه غير كلمة (ما).

(3)

ما بين القوسين ساقط من (ت).

ص: 443

الصِّناعي إلى قَصْد واحد، فكأنَّه يرى أن كل واحدٍ منها ممكن.

فالاستفهام قد يُؤْتَى فيه في معرِض التَّعظيم فتقول: ما أَحْسَنَ زيداً؟ على معنى: أَيُّ شِيءٍ أَحْسَنَهُ؟ والمقصود تعظيمُ الأمر الذي أَحْسَنَه، كما قال الله تعالى:{الحَاقَّةُ مَا الحَاقَّةُ (1)} و {فَأَصْحَابُ الْمَيْمْنَةِ ما أَصْحابُ المَيْمنَةِ (2)} وقولهم: أيُّ رجلٍ زيدٌ؟ وهو كثير.

وكذلك النكرةُ تُعْطِي، بما فيها من الإبهام، معنى التعظيم، وهو ظاهر.

وكذلك الموصولُة، وإن أُوضِحت بالصِّلة، ففيها من الإبهام ما ليس في (الَّذِي) وأيضاً ففي حذف الخبر (3) إبهامٌ يَصلح للتعجُّب، فقد ظهر لكل قولٍ وَجه.

ويحتمل أن يكون تضرك تعينَ مذهبٍ هنا لما يلزم على كل/ مذهب منها من 514 الإشكال.

أما الاستفهاميةُ فقال المؤلف (4): القائلُ بذلك إما أن يَدَّعى تجردَها للاستفهام، وإما أن يَدَّعى كونَها للاستفهام والتعجُّب معاً (5)، كما هي في قوله:{فأَصْحَابُ الْمَيْمنَةِ ما أَصْحَابُ الْمَيْمنَةِ (6)} فالأول باطلٌ بالإجماع. والثاني باطلٌ أيضا؛ لأن الاستفهام المُشْرَب بتعجُّب لا يَليه غالباً إلا

(1) سورة الحاقة/ آية 1، 2.

(2)

سورة الواقعة/ آية 8.

(3)

في الأصل ((حذف الضمير)) وهو تحريف.

(4)

شرح التسهيل [ورقة 143 - أ].

(5)

في الأصل ((والتعجب معنى)) وهو تصحيف، وما أثبته من (ت، س) وشرح التسهيل (ورقة 143 - أ).

(6)

سورة الواقعة/ آية 8.

ص: 444

الأسماء، نحو الآية المتقدِّمة، وقوله:{الْحَاقَّةُ ما الْحاقَّةُ (1)} {وأَصْحَابُ الشَّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمالِ (2)} ونحو قوله (3):

* يَا سَيِّداً مَا أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ *

وقوله (4):

* يَا جَارتَا مَا أَنْتِ جَارَهْ *

و((ما)) المشارُ إليها مخصوصةٌ بالأفعال، فعُلم أنها غير المتضمِّنة استفهاماً.

وأيضاً فلو كان فيها معنى الاستفهام لجاز أن تَخْلُفها (أَيٌّ) كما جاز ذلك في:

* يَا سَيِّداً ما أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ (5) *

فيكون كقوله (6):

(1) سورة الحاقة/ آية 1، 2.

(2)

سورة الواقعة/ آية 41.

(3)

للسفاح بن بكير اليربوعي، والبيت من شواهد شرح الكافية للرضي 3/ 50، والخزانة 6/ 95، والهمع 3/ 42، 5/ 56، والدرر 1/ 149، 208، 2/ 119، والتصريح 1/ 399. وعجزه:

* موطّأ الأكنافِ رَحْبِ الذِراعْ *

ويروي:

* موطَّأ البَيْتِ رحيب الذراعْ *

وموطأ: سهل مذلل. والأكناف: جمع كَنَفَ- بفتحتين- وهو الناحية، وكنف الرجل حضنه، يعني العضدين والصدر. ومعناه: دمث كريم مضياف لا يتحمل قاصده من زيارته عنتا. والرَّحْب والرحيب: الواسع، ورحب الذراع: سخي واسع القوة عند الشدائد.

(4)

الشعر للأعشى، وقد تقدم، أنظر:

(5)

حيث يمكن أن يقال فيهك يا سيداً أيَّ سَيِّدٍ.

(6)

سيبويه 2/ 55، وشرح التسهيل (ورقة 143 - أ) بدون نسبة. وعجزه:

* إذَا ما رجالٌ بالرجال اسْتَقلَّتِ *

والهيجاء: الحرب. وفتاها: القائم بها المُبْلى فيها. وجارها: المجير منها، الكافي لها. واستقلت: =

ص: 445

* أَيُّ فَتَى هَيْجَاءَ أَنْتَ وَجَارُهَا *

وأيضاً فَقَصْد التعجُّب في ((ما)) متَّفق عليه، وكونُه مُشْرَباً باستفهام زيادةٌ لا دليل عليها، فلا يُلْتفت إليها (1).

وأما الموصولةُ فمخالَفةٌ للنَّظائر، لأن الإبهام عنده حصل بحذف الخبر، والإفهام متقدِّم عليه، وذلك بيان (مَا) بالصِلة، وهو عكس ما عليه كلام العرب، حيث يَقصدون الإبهاَم أولاً، ثم الإفهامَ ثانياً، كضمير الأَمْرِ، وضَمِيرَيْ ((نِعْمَ وبِئْسَ)) مع مفسِّراتها، وكالعموم والتَّخصْيص، والمميَّز والتَّمييز، وأشباه ذلك.

ولأن فيه دَعْوَى حذف الخبر لزوما، وفيه مَحْظوران، أحدهما أن كَوْنَ الخبر هنا مُلْتَزَمَ (2) الحذفِ دون شيء يَسُدُّ مَسَدَّه خلافُ المعتاد، لأن عادة العرب في مِثْله أن يَسُدَّ مسدَّه شِيء يَحصل به استطالةٌ كما كان مع ((لَوْلَا)) وفي ((لَعَمْرُكَ)) وأشباههما، وهذا ليس كذلك، فلا يُعوَّل على دَعواه.

والثاني أن يقال لُمِدَّعِي الحذف: أمعلومٌ هذا المحذوف أم مجهولٌ؟ فإن قال: (مَعْلوم) أبطل الإبهامَ المقصودَ في التعجَّب، وإن قال:(مَجْهول) لزمه [حَذْفُ مالا يجوز (3)] حذفُه؛ إذ من شرط الحذف أن يكون المحذوف دليل.

وأما النكرةُ فيلزم على القول بها محظورٌ. حَكى ابن الأنباريّ في (الإنصاف (4)) أن بعض أصحاب المبرِّد قَدِم على بَغْداد، فحضر في حَلْقة ثَعْلبَ، فسُئل عن هذه المسألة فأجاب بمقتضى قول سيبويه (5) وقال: إن التقدَّير في

=

نهضت.

(1)

في (ت)((فلم يلتفت إليها)) وإلى هنا انتهى النقل من (شرح التسهيل: ورقة 143 - أ).

(2)

في (ت)((مستلزم)).

(3)

ما بين القوسين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س).

(4)

انظر: 1/ 147.

ص: 446

((ما أَحْسَن زيداً)) شِيءٌ أحْسَنَ زيداً (1)، فقيل له: ما تقول في قولنا: ما أعْظَمَ اللهَ؟ فقال: شَيءٌ أعظمَ اللهَ، فأنكروا عليه وقالوا: هذا لا يجوز، لأن الله تعالى عظيمٌ لا بجَعْل جاعلٍ، وسَحبَوه من الحَلْقة فأخرجوه (2).

فهذا كلُّه، وإن كان فيه بحثٌ ونظر، فتخليصُه عَسِير، والاشتغالُ به تكثير، والقَصْدُ حاصل، والكلام مُنْضبط بدون هذا التطويل، فترَكَه لمن يَتَرجَّح (3) عنده النَّظُر فيه، ونِعمَّا فَعَل.

وحُذَّاق الصَّناعة إنَّما يتكلَّفون البحثَ فيما يَنْبني عليه حكم، وما/ عداه فهم فيه ما 515 بين تاركٍ له رأساً، وناظر فيه اتِّباعاً لمن تقدَّم له فيه نظر، إذ الخروج عن المعتاد مُنَفِّر، والله أعلم.

وأما حكم (أَفْعِلْ) وما يَلزم عنه من الأحكام فالكلامُ فيها متعلِّق بشرح البيت الآتي بعدُ، ففيه يَظهر قصدُه وما أشار إليه في ذلك بحول الله، فلم يُهمل النَّظر فيه جُملة.

وايضاً فإذا فرضنا انه لم يتعرَّض لحكمٍ فيه فقد ثبت أنه فِعْل، وهو متَّفَق عليه بين أهل البلدين.

والفعل إذا كان على (أَفْعِلْ) ظاهرُه أنه فعل أمر، لأن هذه الصَّيِغة مختَصَّة به، فَيدَّعي أن مذهبه كَوْنُ (أَفْعِلْ) فعلَ أمر، لكن لا مطلقا، بل على

(5) في الإنصاف ((فأجاب بجواب أهل البصرة)).

(1)

في (ت)((شيء حَسَّنَ)).

(2)

بعده في الإنصاف ((فلما قدم المبرد إلى بغداد أوردوا عليه هذا الإشكال، فأجاب بما قَدَّمنا من الجواب، فبان بذلك قبح إنكارهم عليه، وفساد ما ذهبوا إليه)). والمراد بقول ابن الأنباري: ((فأجاب بما قدمنا من الجواب)) قوله قبل ذلك: ((معنى قولهم: شِيء أعظم الله، اي وَصَفه بالعظمة، كما يقول الرجل إذا سمع الأذان: كَّبرتَ كبيرا، وعظمت عظيما، اي وصفته بالكبرياء والعظمة، لا صَيَّرته كبيرا عظيما، فكذلك ههنا

)).

(3)

في (ت، س)((لم يترجح)) ولا معنى له.

ص: 447

وَجْهِ ما دَخَله من معنى التعجُّب، حتى صار هو المعنى الغالب على الصِّيغة، فهو في لفظه، محكومٌ له بحكم فِعل الأمر في كون فاعله ضميراً مُتَّصلا، وما بعده يطلبه طلب الفَضْلة، والتُزم في الضمير الإفرادُ والَّتذكير، لجريانه عندهم مَجرى الأمثال (1)، وليكون مُوازِناً لصاحبه، وهو (أَفْعَلَ) إذ فاعلُه ضميرٌ مستتر أبداً، وإن كان سبب الاستتار فيهما مختلفاً.

ولا يقال: إن كَوْنَ الأمر مفيداً لمعنى التعجَّب دَعْوَى لا دليل عليها، لأنا نقول: إذا كان الأمر يُفيد معنى الخبر، والخبر يُفيد معنى الأمر نحو {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَداً (2)} ونحو- {والمُطَلَّقاتُ يتَربَّصْنَ بأنْفُسِهنَّ ثَلاثَةَ قُروُءٍ (3)} والأمر والخبر ضِدَّان من جهة احتمال الخبر الصدقَ والكذبَ، وامتناع ذلك في الأمر- كان الأمرُ- بإفادة معنى التعجُّب، وهما غيرُ ضِدَّيْن، لاجتماعها في عدم احتمال الصدق والكذب- أحقَّ وأولى.

وقد زعم المؤلف في ((الشرح)) أن الأمر يستفاد من الاستفهام نحو {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (4)} فكذلك يكون الحكم هنا قياساً لو لم يكن ثَمَّ سَماعٌ دَالٌّ، فكيف وقد قالوا (5):

*يَا سَيِّداً ما أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ *

(1) من قواعد اللغة أن الأمثال لا تغيَّر، بل تحكي على ما جاءت عليه، بغض النظر عما ضربت له، أي سواء أكان مذكرا، أم مؤنثاً، وسواء أكان مفردا أم مثنى أم جمعاً. كل ذلك لا ينظر فيه غلا إلى الصيغة الأولى التي ورد عليها المثل، لأن المثال ما هو إلا استعارة تمثيلية، والمستعار فيها هو ألفاظ المثل بأعيانها، حتى أنه يقال للمذكر والمثنى والجمع: الصيف ضيعتِ اللبن)) بصيغة المفرد المؤنث، لأن المثل هكذا جاء عن العرب، فلا يصح المساس به.

(2)

سورة مريم/ آية 75.

(3)

سورة البقرة/ آية 228.

(4)

سورة الأنبياء/ آية 108.

(5)

تقدمت هذه الأشعار في الباب نفسه، انظر:

ص: 448

* يا جَارتَا مَا أَنْتِ جَارَهْ *

* أيُّ فَتَى هَيْجَاءَ أَنْتَ وَجَارُهَا *

وهذا كثير في أقسام الإنشاءات، أن يَدخلها معنى التعجُّب، كقوله في الحديث:((سُبْحانَ اللهِ، إنَّ المُؤْمَن لا يَنْجُسُ (1))) وقالوا:

* تَاللَّهِ يَبْقَى على الأَيَّام ذُو حِيَدٍ (2)

و((للهِ يَبْقى)) ويَا لَلْعَجبِ، ويا لَلْماءِ.

* ويَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كأنَّ نجومَهُ * (3)

وهو كثير جدا.

فلا بُعْد في استفادة التعجُّب من الأمر، من حيث اجتمعا في الإنشاء، كما لم يَبْعُد فيما ذُكر.

وأيضاً فإن المجرور بعد (أَفْعِلْ) يجوز حذفه كما سيأتي، نحو {أَسْمِعْ بِهْم وأَبْصرْ (4)} وإذا حذف الجارُّ انْتَصب، نحو (5):

* وأَجْدِرْ مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَا *

والفاعل لا يُحذف ولا يَنتصب مع وجود فعله الطالب الطالب له بالفاعليَّة.

(1) تقدم تخريج الحديث الشريف، انظر:435.

(2)

عجزه:

* بمُشْمَخِرٍّ به الظّيَّانُ والآسُ *

وتقدم في الباب نفسه، وانظر:435.

(3)

عجزه:

* بكل مُغَارِ الفَتْل شُدَّت بَبذْبُلِ *

وهو من معلقة امرئ القيس، وتقدم الكلام عليه، انظر:435.

(4)

سورة مريم/ آية 38.

(5)

شرح التسهيل للناظم (ورقة 143 - ب).

ص: 449

وأيضاً قال ابن خروف (1): تلخيص مذهب الفراء أن المعنى: فَعُل، وما أَفْعَلَه، وجاء اللفظ دليلاً على استدعاء المخاطب/ للتعجُّب مع المتكلِّم.

516

وقد اعتَرض المؤلف في ((الشرح)) هذا المذهب، إذ خالفه في ((التسَّهيل (2))) من أربعة أوجه:

أحدها أن الناطق بـ (أَفْعِلْ) لو كان آمراً بالتعجُّب لم يكن (الآمرُ (3)) متعجِّبا، كما لا يكون الآمرُ بالحَلفِ والتَّشْبيه والنِّداء حالفاً ولا مُشَبِّهاً ولا مُنَادِياً، ولا خلاف أن قائل (أَفْعِلْ) متعجِّب، وإنَّما الخلافُ في اجتماع الأمر معه، وهذا لا يلزم مع غَلَبة معنى التعجُّب، ويلزم مثله في نحو {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (4)} فإن المستفهم عن الشِيء لا يكون آمراً بالشيء، كما لا يكون المستفِهم عن قيام زيد، وطلوع الشمس، ودخول رمضان آمراً بذلك، فما يكون جوابَه هو أيضا جوابُه، وهكذا يقال له في جميع ما تقدَّم التأنيسُ به (5)، بل يلزمه ذلك في (أَفْعِلْ) هنا، إذ هو في أصله خَبَرٌ دَخله معنى التعجُّب.

والثاني أنه يلزم إبرازُ ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يَلزم في كل فعل متصِّرف أو غيرِه، ولا يُعْتَذر بأنه جرى مَجرى المثَل، فإن الأمثال تَلزم لفظاً واحدا كـ ((الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ (6))) والجاري مجرى

(1) سبقت ترجمته.

(2)

انظر: ص 130. وانظر كذلك شرح التسهيل للناظم (ورقة 143 - أ).

(3)

ما بين القوسين ساقط من (ت، س).

(4)

سورة الأنبياء/ آية 108.

(5)

يقال: أَنَّسَه تأْنيسا، إذ لاطفه وأزال وحشته.

(6)

انظر: كتاب الأمثال لأبي عبيد 247، واللسان (صيف).

ص: 450

المثَل يَلزم لفظاً واحداً، وإن تَغَيَّر بعضَ التَّغيير فذلك مُغْتَفر، نحو (حَبَّذَا) فيُجَاز أن يَخْتم الجملةَ بما للناطق فيه غَرضَ. و (أَفِعْلْ) لا تلزم لفظاً واحداً، فليس بَمَثلٍ ولا جارٍ مَجراه، وهذا غير لازم، لأنه في معنى (مَا أَفْعَلَه) فكأنه مُسْنَد إلى غير فاعلة حقيقةً، فهو كلام مُخْرَج عن حَدِّه.

وأيضاً كما جاز في (حَبَّذَا) تغييرُ باقي الجملة من حيث تعلَّق بها غرضٌ جاز تبديُل المادَّة مع بقاء الوَزْن المخصوص، من حيث تعلَّق بذلك غرض، وهو بيان ما كان التعجُّب من أجله، فمثال (أَفْعِلْ) هنا نظيرُ لفظ (حَبَّذَا) هنالك.

والثالث: لو كان كذلك لم يَجُز أن يَلي (أَفِعْلْ) ضميرُ المخاطَب، نحو: أَحْسِنْ بِكَ، لأن في ذلك إعمالَ فعلٍ واحد في ضميريْ فاعلٍ ومفعول لمسمى واحد.

والجواب أن هذا رأي ابن عُصْفور، إذ هو يُجري المتَعدَّي إليه بالحرف مُجرى المتَعَدَّى إليه بغير حرف. وقد تقدَّم بطلان ذلك. وفي القرآن المجيد:{واضْمُمْ إلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ (1)} .

والرابع: أنه كان يجب إعلالُه إذا كانت عينه ياء أو واوا/ كما وجب ذلك لـ (أَبِنْ، وأَقِمْ) ولم يَجُز: أَبْيِنْ بِه، ولا أَقْوِمْ بِه، كما لا تأمر كذلك، فَلمَّا لم يكن كذلك لم يصحَّ أن يكون أمرا، وهذا مُشْتَرَك الإلزام في (ما أَفْعَلَهُ) إذ هو عنده فِعْلٌ ماض، والماضي يجب فيه: أَقَامَ، وأَبَانَ، فكان يمتنع فيه: ما أَقْوَمَهُ، وأَبْيَنه، كما يَمتنع في الماضي.

فالجواب عن هذا هو جوابُنا، وإلَاّ فلا يصح اعتراضُه فلا يَفتقر إلى الجواب.

(1) سورة القصص/ آية 32.

ص: 451

وإذا تقرَّر هذا كلُّه سَهُل الأمر في فاعلِ أَفْعِلْ) وأنه مضمر، وفي المجرورِ وأنه في موضع نصب، وأن الباء غير زائدة، وهو/ ظاهر.

517

وأما الاعتراض الأخير فإن جميع ما ذُكر فيه قد أشعر به المثالان، وهما ((مَا أَوْفَى خَلِيلَيْنَا، وأَصْدِقْ بِهَمِا)) ففيهما ما يعيِّن المتعجَّب منه، وأنه ما بَعْدَ الأفعال، وأن المتعجَّب من أجله هو مدلول الفعل، وها هو يَذكر على أَثَر هذا: مِمَّ يُبْنَيَان؟ فَيتَبَيَّن بعضُ كلامه ببعض. وبالله التَّوفيق.

ويمكن أن يكون المقال أيضاً أشعر بمعنىً آخر، وهو كَوْن المتعجَّب منه مختصاً، إمَّا معرفةً نحو ما مَثَّل به، وإمَّا ما يَجري من النكرات مجراه نحو: ما أَسْعَدَ رَجُلاً اتَّقَى اللهَ.

فلو كان غير مختَصٍّ لم يُتَعجَّب منه، ولا يقال: ما أَحْسَنَ رجلاً من النَّاسِ، ولا: ما أَسْعَدَ غُلاماً.

وهو نظير النُّدْبة، لا يُنْدَب من لا يُعرف، وإنما يُندب مَن اشتَهر باسم أو فَعال، كما سيأتي إن شاء الله.

ويمكن أَنْ لم يَقصد هذا، ولكنه اتَّكَل على معنىً آخر، وهو حصول الفائدة، إذ قال في أول النظم:((كَلامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ (1))) فإذا كان التعجُّب مفيدا، وذلك بكون المتعجَّب منه مختصاً- صَحَّ، وإلَاّ فَلَا.

ونُصب قوله: ((تِلْوَ أَفْعَلَ)) على الحال من الهاء في ((انْصِبَنَّهُ)) والإضافة لفظية، أي انْصِبْه حالهة كونه تالياً لـ (أَفْعَلَ).

و((تَعَجُّباً)) نُصب على الحال أيضاً، وهو مصدر، لكن على معنى ((مُتَعَجِّباً)) أو ((ذَا تَعَجُّبٍ)).

(1) هو أول بيت في الألفية بعد الخطبة، استهلَّ به باب ((الكلام وما يتألف منه)).

ص: 452

وحَذْفَ مَا مِنْهُ تَعَجَّبْتَ اسْتَبِحْ

إنْ كَانَ عِنْدَ الحَذْفِ مَعْنىً يَتَّضِحْ (1)

يعني أن المتعجَّب منه وهو المنصوب في (ما أَفَعْلَهُ) والمجرور بالباء في (أَفْعِلْ بِه) يجوز حذفهُ، ويُستباح ذلك فيه، وإن كان مقصودَ الذّكْر في التعجُّب، لكن إذا كان معناه مع الحذف واضحاً ظاهراً، لدليلٍ دَلَّ عليه حتى صَيَّره كالملفوظ به.

فأما (مَا أَفْعَلَهُ) فتقول: رأيتُ زيداً فما أحْسَنَ وأَجْمَلَ! ، تريد: ما أَحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ! وخَبَرْتُ عُمراً فما أفْضَلَ وأَكْرَم! قال الشاعر، ويُعْزَى إلى عليٍّ رضي الله عنه (2):

جَزَى اللهُ عَنَّا والجَزَاءُ بفَضْلِهِ

رَبِيعَةَ خَيْراً ما أَعَفَّ وَأكْرَمَا

وأما (أَفْعِلْ به) فتقول: أَحْسِنْ بزيدٍ وأَجْمِلْ! تريد: وأَجْمِلْ بِه، قال تعالى (أَسْمِعْ بِهِمْ وأَبْصِرْ (3)} وأنشد ابن الأنباري (4):

(1) الرواية الأشهر في البيت ((إنْ كانَ عند الحَذْف معناهُ يَضِحْ)) وقد كتبت هذه الرواية على حاشية (ت) كما ذكرها الشاطبي فيما يلي.

(2)

الهمع 5/ 59، والدرر 2/ 121، والتصريح 2/ 89، والأشموني 3/ 20، والعيني 3/ 649 ومعنى: والجزاءُ بفضله- أن المجازاة على فعل الخير تفضل من الله على المحسن. وما أعف وأكرما: ما أعفها وأكرمها، وفيه الشاهد.

(3)

سورة مريم/ آية 38.

(4)

تقدم البيت في الباب نفسه.

ص: 453

ومُسْتَخْلِفٍ مِنْ بَعْدِ غَضْيَا صُرَيْمَةً

فَأَحْرِ بِه لِطُولِ فقْرٍ وأُحْرِيَا

وانشد ابن خروف وغيرُه لعُرْوة الصَّعاليك العَبْسِيّ (1):

فَذَلِكَ أنْ يَلْقَ المَنِيَّةَ يَلْقَهَا

حَمِيداً وإن يَسْتَغْنِ يَوْماً فَأَجْدِرِ

وفي قوله (اسْتَبِحْ) إشعارٌ بأن المتعجَّب منه لم يكن حَقُّه أن يُحذف، وإنما كان الواجب فيه الإثبات، لأن العرب تقول: اسْتُبِيحَ حَمِى فلان، واسْتُبِيحَ دَمُ فلان، ونحو ذلك مِمَّا شأنُه أن يكون ممنوعَ الحَوْزَة حَتْماً.

ولا يقال هنا في غالب الاستعمال: أُجِيزَ، ولا سُوِّغَ، ولا نحو ذلك، مما يُعطى/ مجردَ 518 معنى الإقدام من غير إشعار بالامتناع، فكأنَّ الناظم قَصد هذا، لما في (أَفِعْلْ بِه، ومَا أَفْعَلَهُ) مما يَقْتضي امتناعَ الحذف حَتْماً، وذلك أن المتعجَّب منه مقصودُ الذِّكر، والكلامُ مبنيٌّ عليه، لأن جملة التعجَّب لأجله سيقت، فصار بمنزلة الاسم الواقع بعد (إِلَاّ) في قَصْد الحصْر إذا قلت: ما أَكْرَمنِي إلَاّ زيدٌ، وما أكرمتُ إلَاّ عَمْراً، وما مررتُ إلَاّ بعَمْروٍ، إذ لا يجوز الحذف فيه وأن كان فَضْلة، لأن الكلام مبنيٌّ عليه، فكذلك هنا. فكأنَّه يقول: هو، وإن كان مقصودَ الذِّكر، جائزُ الحذف، لأن إيضاح معناه قائمٌ مقامَ ذِكْره.

وحين أجاز حذفَ المتعجَّب منه مطلقا إذا عُلم كان دليلاً على أن المجرور بالباء ليس هو الفاعل البتَّةَ، إذ لو كان كذلك لامتنع الحذفُ، بناءً

(1) ديوانه 27، والتصريح 2/ 90، وشرح الكافية الشافية (2/ 1089) وانظر: الأصمعية العاشرة: 46.

ص: 454

على مذهبه في أن الفاعل لا يُحذف، حَسْبَما مَرَّ بيانُه في قوله في ((باب الفاعل)):

((وبَعْدَ فشعْلٍ فاعلٌ فإنْ ظَهَرْ

فَهْوَ وَإلَاّ فضَمِيرٌ اسْتَتَرْ))

فهذا الموضع داخل في مُقْتَضَى ذلك الحُكْم، فلا يصح على مذهبه أن يكون المجرور هنا فاعلاً أصلا، وهذا واضح. وقد تقدَّم الاستدلالُ على صحَّة ما ذَهب إليه.

وقوله: ((وحَذْفَ كذا)) مفعول ((اسْتَبِحْ)) و ((مَعْنىً)) تمييزٌ لقوله ((يَتَّضِحْ)) أي يَتَّضِح مَعْنىً، وهو منقولٌ من الفاعل، وقَدمَّه على العامل فيه بناءً على جوازه نادراً إذا كان العاملُ متَصِّرفاً، كقوله (1):

* ومَا كَانَ نَفْساً بالفِراقِ تَطيبُ *

وقد مَرَّ في بابه.

ويحتمل أن يكون ((مَعْنىً)) فاعلَ ((كان)) على أنها تامَّة. و ((يَتَّضحُ)) في موضع الصفة لـ (مَعْنىً) ويكون المراد: إن وُجد عند الحذف معنىً، ويريد: معنى المحذوف. أو تكون ناقصة. وحُذف الخبر لدلالة الكلام عليه إن وُجد له معنىً يَتَّضِح.

(1) المقتضب 3/ 37، والخصائص 2/ 384، والأشموني 2/ 201، والهمع 4/ 71، والدرر 1/ 208، والعيني 3/ 235، واللسان (حبب) وصدره:

* أتهْجرُ ليلى للفراق حَبِيبَها *

وينسب للمخبل السعدي، أو أعشى همدان، أو مجنون ليلى.

ص: 455

ووجدتُ في طُرَّة (1) بعض النُّسَخ عِوَض ذلك ((أنْ كانَ عِنْدَ الحَذْفِ مَعْناهُ يَضِحْ)) يريد معنى المحذوف. و ((يَضِحْ)) مضارع: وَضَح الشِيءُ، يَضِح وُضُوحاً، وهو صحيح.

وَفِي كِلَا الفِعْلَيْن قِدْماً لَزِمَا

مَنْعُ تَصَرُّفٍ بحُكْمٍ حُتِمَا

((في كِلَا الفِعْلَيْن)) متعلِّق بـ (لَزِمَ) و ((قِدْماً)) ظرف، و ((مَنْعُ)) فاعلُ ((لزم)) أي لَزِم قديماً في الفعلين مَعاً منعُ التصرُّف.

ويريد أن العرب ألزمت هذين الفعلين، وهما:(ما أَفْعَاهُ، وأَفْعِلْ بِه) عدمَ التصرُّف، والجريانَ على طريقة واحدة لا يتعَّداها، بل لابد أن نَتْبع العربَ على ما أَلزمتْ من ذلك.

وعدم التصرُّف فيهما من جهات:

أَمَّا أولاً فلا يَتَصَّرف منهما غيرُهما من الأفعال. (فمَا أَفْعَلَهُ) لا يُبْنى منه أمر ولا مضارع، و (أَفْعِلْ بِه) لا يُبْنى منه ماض ولا مضارع، ولا لهما اسمُ فاعل ولا مفعول، ولا صفة مشبَّهة، ولا يَدلان على زمان، فـ (أَفْعَلَ) لا دلالة له على الزمان الماضي بصيغته، و (أَفْعِلْ) لا دلالة له على المستقبل كذلك.

ولا يَنْتصب عنهما مصدرٌ مؤكِّد، ولا يُرفع بهما ظاهر، ولا يُتْبع/ مرفوعهما بعطف 519 ولا توكيد ولا إبدال.

وأما ثانياً فإنهما لا يُغَيَّران عن حالهما في تقديم أو تأخير، بل يلَزمهما ما عُرِّف به أولاً من تقديم ((ما)) وتأخير الاسم المتعجَّب منه في

(1) الطُّرة: طرف كل شيء وحَرْفه، ويُقصد بها هنا حاشية النسخة.

ص: 456

(ما أَفْعَلَهُ) ومن تأخير المجرور في (أَفْعِلْ به) أو حَذْفه إلا شاذاً، نحو (1):

* وأَجْدِرْ مِثْلَ ذلكَ أن يَكوُنَا *

ومن عدم الفَصْل بين ذلك كله غلا ما يَذكره آخر الباب.

وأيضاً فهما في الأفراد والتذكير وأضدادهما على طريقةٍ واحدة، فتقول: ما أَكْرمَ زيداً، وما أَكْرمَ الزَّيْدَيْنِ، وما أَكْرمَ الزَّيْديِنَ. وما أَكْرمَ هِنْداً، وما أكرم الهنْدَينِ، وما أكرم الهِنْداتِ.

وتقول: أَكْرِمْ بزيدٍ، وبالزيديْن، وبالزيدِينَ، وأَكْرِمْ بهندٍ، وبالهنديْنِ، وبالهنْدات. وما أشبه ذلك، فيَستوي حالُ الإفراد والتذكير مع التثنية والجمع والتأنيث.

وعَلَّل ذلك بقوله: ((بحُكْمٍ حُتِمَا)) يريد أن عدم التصرُّف إنَّما لزم بسبب حُكْمٍ من العرب حُتِمَ عليهما وأُلْزِماه، فالحكم بعدم التصرُّف مُسَبَّب عن حُكْم آخر، وهو إجراؤُهم لهما مجرى المثل أن يتركوه على طريقةٍ واحدة، وهي الطريقة التي وضُع عليهما أولاً، كقول من قال، وهو طَرَفة (2):

* خَلَالَكِ الجَوُّ فَبِيضِي واصْفِريِ *

يقال هذا لكل أحد، من مذكرَّ ومؤنَّث، ومفرد ومثنى ومجموع، وكذلك

(1) تقدم في الباب نفسه، وانظر: شرح التسهيل للناظم (ورقة 143 - ب).

(2)

من شعر له بديوانه 157، والشعر والشعراء /188، ويقول فيه:

يَالَكِ من قُبَّرةٍ بَمعْمرِ خَلالِك الجوُّ فبِيضِي واصْفِريِ

ونَقِّري ما شِئْتِ أن تنقِّري

وهو من أمثالهم السائرة، وانظر كتاب الأمثال لأبي عبيد 251.

ص: 457

قولهم: ((أَطِرِّي إِنَّكِ نَاعِلَةٌ (1))) يقال لكل من وقع عليه معناه. وقولهم: ((الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ، أو ضَيَّحْتِ اللَّبَن (2))).

ومثل (ما أَفْعَلَه، وأَفْعِلْ بِه) في ذلك (حَبَّذَا) حَسْبَما يَذكره بعد هذا.

فكأنَّه تقريرُ حكمٍ، وتعليلٌ له، فلا يُعترض عليه بما اعتَرض في ((الشرح)) على مذهب الفراء الذي ذهب إليه هنا.

ثم أخذ في ذكر ما يُبْنَيان منه فقال:

وَصُغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلاثٍ صُرِّفَا

قَابِلِ فَضْلٍ تَمَّ غَيْرِ ذي انْتِفَا

وغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلَا

وغَيْرِ سَالِكٍ سَبِيلَ فُعِلَا

((ذِي ثَلاثٍ)) هنا هو الفعل، ويريد أن هذين الفعلين يُبنيان قياساً من كل ثلاثي اتَّصف بهذه الصفات التي يذكرها، وجملتها ثمانية أوصاف.

أحدها أن يكون ذلك المَصُوغُ منه فعلاً، وهو قوله:((مِنْ ذِي ثَلاثٍ)) ودَلَّ على أنه أراد من (فِعْلٍ ذِي ثلاثٍ) ما ذكر من الأوصاف، وقولُه فيها:((وغَيْرِ سالكٍ سَبِيلَ فُعِلَا)) فهذا كلُّه لا يكون إلا لِفِعْل.

فلو لم يكن ثَمَّ فِعْل لم يُبْن فعل التعجَّب من غيره في القياس، فلا يقال في

(1) كتاب الأمثال لأبي عبيد/ 115، واللسان (طرر). وأطرَّي: خُذي طُرَر الوادي، وهي نواحيه. وإنك ناعله: أي عليك نعلان. وأصله أن رجلاً قاله لراعية له كانت ترعى في السهولة، وتترك الحزونة، ومعناه: اركب الأمر الشديد فإنك قوي عليه.

(2)

كتاب الأمثال لأبي عبيد/ 247، واللسان (صيف). ولم أعثر على رواية ((ضَيَّحتِ)) في كتب الأمثال ولا اللغة. والضَّيْح والضَّياَح: اللبن الخاثر يصب فيه الماء، ثم يُجْدح. يقال: ضَيَّحَ اللبنَ تضييحاً، أذا مزجه بالماء حتى صار ضْيحا.

ص: 458

كمال الرجوليَّة: ما أَرْجَلَه! ولا في قوة الحمارِيَّةِ: ما أَحْمَرهُ! فإن جاء من ذلك شِيء حُفِظ. قالوا في نظيره: هو أَحْنَكُ الشَّاتَيْن، وأَحْنَكُ البَعِيريْنِ (1)، يريدون: أشدُّهما أَكْلاً، من (الحَنَك) وليس له فعل، قال سيبويه: كأنَّهم قالوا: حَنِكَ، ونحو ذلك (2). وأفعلُ التفضيل وفعل التعجُّب حكمهما في هذا واحد.

وحكى سيبويه ايضاً: هو آبَلُ الناسِ، وقال: إنهم لم يتكلَّموا/ بالفعل (3). وحَكى 520

غيرُه الفعلَ، قال الجَوْهَرِيّ: أَبِلَ الرجلُ، بالكسر، يَأْبَلُ، أبَالَةً، فهو أَبِلٌ وآبِلٌ، أي حاذقٌ بمصلحة الإبل. وفلان من أبَل الناس، أي من أشدِّهم تَأَنُّقاً في رِعْية الإبل، وأعلمهم بها (4).

والثاني أن يكون الفعل ثلاثياً، وهو قوله:((مِنْ ذِي ثًلاثٍ)) والمراد أن يكون مع ذلك مجرَّداً من الزوائد، فلا يريد أنه ثلاثيُّ الأصول خاصَّةً.

فقد اشتمل هذا الوصفُ على شيئين في التحرزُّ، أحدهما أن يكون رباعياً كدَحْرَجَ، فلا يُبنى منه (ما أَفْعَلَه) ولا (أَفْعِلْ بِه) لكَسْر البِنْية.

والثاني ألا يكون مَزِيدا فيه، بل مجرَّداً من الزيادة جُملة، نحو: عَلِمَ، وفَقُه، وكَرُمَ، وما أشبه ذلك. (وتَحرَّز من الثلاثي المزيد فيه نحو: تَعَلَّم، واسْتَعْلَم، وكَارَمَ، إذ لا يُبْنى من ذلك (5)) لاختِلَال البِنْية.

والثالث أن يكون الفعل المبني منه متصرفاً، لأن التصرف أصل

(1) من أمثلة سيبويه في الكتاب 4/ 100.

(2)

نفسه 4/ 100.

(3)

نفسه 4/ 100.

(4)

الصحاح (أبل).

(5)

ما بين القوسين ساقط من (س).

ص: 459

ذلك تحرُّزاً من أن يكون غير مَتصرِّف' فإنه يَمتنع ذلك فيه، لأن البِنَاء منه تَصَرُّفٌ فيه، والتصرُّفُ فيما لا يَتَصرَّف نَقْضٌ لوَضْعه.

وعدم التصُّرف على وجهين، أحدهما يكون بخروج الفعل عن طريقة الأفعال من الدلالة على الحَدث والزمان، كنِعْمَ، وبِئْسَ، ولَيْسَ، وعَسَى.

والثاني يكون بمجرَّد الاستغناء عن تصرُّفه. بتصُّرف غيرِه، وإن كان باقياً على أصله من الدلالة على الحدث والزمان. مثاله: يَذَرُ، ويَدَعُ، حيث استُغني عن ماضيهما بماضي (يَتْرُكُ).

وكلا القسمين مرادٌ هنا، فلا يقال: ما أَنْعَمَهُ، وأَنْعِمْ بِه، وهو باقٍ على معناه، من إنشاء المَدْح. وكذلك (بِئْس) وغيرها.

وكذلك لا يقال أيضاً: ما أَوْذَرَهُ، ولا مَا أَوْدَعَهُ، ولا ما أشبه ذلك.

الرابع أن يكون قابلا للفَضْل، أي قابلاً لأن يَفْضُل فيه واحدٌ من المتَّصفِين به الآخرَ، كَعِلَم، وجَهِلَ؛ فإن العلم والجهل يُتصوَّر فيهما الزيادةُ والنُّقصان، وأن يَفْضُل فيهما الرجلُ رجلاً آخر، وهو المراد بقوله:((قَابِلِ فَضْلٍ)).

وضابط ذلك من الأوصاف الأوصافُ الإضافيَّةُ التي لا تكون على حالةٍ واحدة، بل تختلف بحسب الآراء والمذاهب والأمزجة والطباع، كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحد في حَالَيْن، كالعِلْم والجَهْل، أو شَخْصَيْن كالحُسْن والقُبْح، فإنك تقول: ما أَعْلَمَهُ، وما أَجْهَلَهُ، وما أَحْسَنَهُ، وما أَقْبَحَهُ.

ولا يُعتبر في ذلك كونُ الشخص الواحد لا يتَغَير ذلك الوصف فيه بالأشدِّ والأَضْعف (1)، بل المعتبر تصوُّرُ الصفة كذلك لا بقَيْدِ شخص.

(1) على حاشية الأصل ((بالأشديَّة والأضعفيَّة)) على أنه من نسخة أخرى.

ص: 460

وهذا التفسير جارٍ على كلام الناظم؛ إذ لم يُقَيِّد المفاضلةَ بكونها بالنسبة إلى الشخص الواحد.

فلو كان الوصف غير قابل للمفاضلة بهذا التفسير لم يُبْن منه فعلُ التعجُّب، فلا تقول: ما أَعْمَى زيداً، وأنت تريد عَمَى البَصَر، ولا ما أَمْوَتَ زيداً، ولا ما أَعْوَرهُ، ولا ما أشبه ذلك.

والخامس أن يكون/ الفعل تاماً، وهو قوله:((تَمَّ)) وتمامه قد بَيَّنه في باب ((كان)) في 521 قوله: ((وذُو تَمَامٍ ما بِرفْعٍ يَكْتَفِي)) وذلك جميعُ الأفعال ماعدا الأفعال العاملة عملَ (كان) فـ (كان) وأخواتها هي النَّواقص، فلا يجوز بناء فعل التعجُّب منها، فلا يقال: ما أَكْوَنَ زيداً قائماً، ولا ما أَظَلَّ زيداً سائراً، ولا نحو ذلك، لأنك بين أمَريْن؛ إما أن تَنصب الخبرَ ولا تجرهَّ باللام، وإما أن تحذفه رأساً، وكلاهما ممنوع. ولا تجرُّه أيضاً باللام، لأنه يَصِير على معنى آخر، وجر الخبر باللام أيضا غيرُ صحيح، إذ لا يقال: زيدٌ لِقَائمٍ، على معنى: زيدٌ قائمٌ.

والسادس ألَاّ يكون منفياً، وهو قوله:((غَيْرِ ذي انْتِفَا)) يريد أن من شرطه أن يكون موُجَبا، كَلطُفَ، وكَثُفَ، فلو كان منفياً لم يُبْن منه فعلُ التعجُّب، فلا يقال في ((لَمْ يَقُمْ)): ما أَقْوَمَهُ، ولا في ((لَمْ يَخْرُجْ)): ما أَخْرَجَهُ، ولا ما كان نحو ذلك. ووجه المنع التباسُ المنفيِّ بالمُثْبت.

والسابع أَلَاّ يكون له وصف على (أَفْعَلَ) للمذكَّر و (فَعْلاء) للمؤنث، وهو قوله:((وغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلَا)) يعني ألَاّ يكون مِمَّا قَياسُ (1)

(1) في الأصل و (ت)((ما يُقاس)) وما أثبته من (س) وهو الصواب.

ص: 461

وصفه عند العرب أن يُبنى على ما كان يُبْنى عليه ((أَشْهَلُ (1))) من كونه للمذكر هكذا، وللمؤنث على ((شَهْلَاء)) فكل فعل استَحَقَّ وصفُه هذا البناءَ فلا يُبنى منه فعلُ تعجُّب، فلا يقال في (شَنِبَ): ما أَشْنَبَهُ، ولا في (صَيِدَ): ما أَصْيَدَه، ولا في (لَمِىَ) ما أَلْمَاهُ، ولا في (دَعِجَ): ما أَدْعَجَهُ، ولا في (حَمُقَ): ما أَحْمَقَه، ولا في (بَرِص): ما أَبْرَصَهُ (2)، ولا في (بَرِشَ): ما أَبْرِشَه (3)، ولا في (كَحِلَ): ما أَكْحَلَهُ. وللناس في مَنع هذا ثلاثُ عِلَل:

إحداها أن حَقَّ صيغة التعجُّب أن تُبنى من الثلاثي المَحْض الذي ليس في معنى غيرِه، من مَزِيدٍ فيه. وهذه الأفعال التي جاءت صفاتُها على (أَفْعَل، وفَعْلَاء) وإن كانت ثلاثيَّةً أصلُها الزيادة، وأن تكون على (افْعَلَّ)، وافْعَالَّه وذلك ظاهر في الألوان نحو: احْمَرَّ، فهو أَحْمرُ، وهي حَمْراءُ، وكذلك اصْفَرَّ وابْيَضَّ، واحْمَارَّ واصْفَارَّ وابْيَاضَّ.

فكذلك أصلُ سائر ما تقدم، أن يكون على (افْعَلَّ، وافْعَالَّ) ولذلك صَحَّت العين في: حَوِلَ، وعَوِرَ، وصَيِدَ، وهَيِفَ، ونحو ذلك، لَمَّا كان في معنى: احْوَلَّ، واعْوَرَّ، واصْيَدَّ، واهْيَفَّ، كما صَحَّ: اجْتَوَروُا، واعْتَوَنُوا، حَمْلاً على ما في معناه

(1) يقال: شَهِل اللونان شَهَلا، إذا اختلط أحدهما بالآخر. وشَهِل فلان: كانت في عينه شُهْلة وهي أن يشوب إنسانَ العين حمرة.

(2)

على حاشية الأصل إزاء هذا قوله: ((ولا في مَرِض: ما أمرضه، ولا في قَرَش: ما أقرشه)) على أنه من نسخة أخرى.

(3)

الشَّنَب-بفتحتين- جمال الثغر وصفاء الأسنان. والصَّيَد-بفتحتين كذلك-داء بالعنق لا يستطاع معه الالتفات، والكبْر. والوصف منه: أَصْيَدُ وصَيْداء. واللَّمَى: سُمرة في الشفة تُستحسن. وشَفة أو لثة لمياء: لطيفة قليلة الدم، أو قليل اللحم. والوصف منه: ألمى ولمياء. ودَعِجت العينُ، دَعَجاً ودُعوجة، اشتد سوادها وبياضها واتسعت، فهي دَعجاء. ويقال: بَرِش بَرَشاً وبُروشة، إذا اختلف لونه، فكانت فيه نقطة حمراء، وأخرى سوداء أو غبراء. والوصف منه: أبرش وبَرشاء.

ص: 462

من: تَجَاوَرُوا، وتَعَاوَنُوا.

فلو لم تكن الأَبْنِية في معنى غيرها لاعْتَلَّت كما اعْتَلَّ (قَامَ، وتَابَ، وهَابَ، وبَاعَ) فكنتَ تقول في (حَوِلَ): حَالَ، وفي (عَوِرَ): عَارَ. وكذلك في سائرها، فدَلَّ على ما ذُكر. وهذه العلة عَلَّل بها الجمهور.

والثانيةُ للخليل ومَن قال بقوله، أن هذه المعاني من الألوان والعيوب الظَّاهرة جَرَتْ مَجرى الخِلَق الثابتة التي لا تزيد ولا تنقص، التي لا أفعالَ لها، كالَيدِ والرِّجل وسائر الأعضاء التي لا تزيد ولا تنقص، فكما لا / يُتعَّجب من الأعضاء لثبوتها وعدم تغيُّرها وفَقْد استعمال أفعالها،

522 كذلك هذه التي أشبهتْها، وجَرَتْ مجراها وإن كان لها أفعالٌ مستعملة.

قال في الكتاب: زَعم الخليلُ-رحمه الله أنه مَنعهم من أن يقولوا في هذا: ما أَفْعَلَهُ، لأن صار عندهم بمنزلة (اليَدِ، والرِّجْلِ) وما ليس فيه فشعْلٌ من هذا النَّحْو. ألا ترى أنك لا تقول: ما أَيْدَاهُ، ولا مَا أَرْجَلَهُ، إنما تقول: ما أَشَدَّ يَدَهُ، وما أَشَدَّ رِجْلَهُ، ونحو ذلك (1).

قال، ولا تكون هذه الأشياء في (مفْعال ولا فَعُول) كما تقول: رَجلٌ ضَرُوبٌ، ورجلٌ مِحْسَانٌ، لأن هذا في معنى، ما أَحْسَنَهُ، إنَّما تريد أن تُبالِغ، ولا تريد أن تجعله بمنزلة كُلِّ مَن وقع عله: قاتِلٌ وحَسَنٌ (2).

يعني أن هذه المعاني لا يصحُّ فيها المبالغة، لأنها في نَفْسها لا تزيد ولا تنقص، فلا يعبَّر عنها بـ (مَا أَفْعَلَهُ) ولا (فَعُول) ولا (مِفْعَال) ولا غير ذلك مما يَقْتضي المبالغة. وهذا حَسَنٌ من التعليل.

(1) الكتاب 4/ 98.

(2)

نفسه 4/ 98، وفيه ((ضاربٌ وحَسَن)).

ص: 463

والثالثةُ للمؤلف في ((الشَّرح)) (1) أنه لَمَّا كان بناء الوصف من هذا النوع على (أَفْعَل) لم يُبْن منه (أَفْعَلُ التفضيل) لئلَاّ يَلتبس أحدهما بالآخر، ولَمَّا امتنع صَوْغ (أَفْعَل التفضيل) امتنع صَوْغُ (فِعْل التعجُّب) لجَريانهما مَجرىً واحداً في أمور كثيرة، وتساويهما في الوَزْن والمعنى. قال: وهذا الاعتبار بَيِّنٌ هَيِّنٌ، ورُجحانه متعيِّن.

وهذا تعليل ضعيف.

والثامنُ من الأوصاف أَلَاّ يكون الفعل مَبْنياً للمفعول، وذلك قوله:((وغَيْرِ سَالِكٍ سَبِيلَ فُعِلَا)) يعني أنه لا يُبنى فعلُ التعجُّب مما كان على طريقة (فُعِلَ) مبنياً للمفعول، فإنك تقول في (عَلِمَ): ما أَعْلَمَهُ، وفي (ضَرَبَ): ما أَضْرَبَهُ. ولا تقول في (ضُرِبَ): ما أَضْرَبَهُ، ولا في (عُلِمَ): ما أَعْلَمَهُ، وكذلك سائر الباب.

ولتعليل ذلك وجهان، أحدهما اللبَّسُ الواقع بين فشعْل الفاعل وفِعْل المفعول، فإنك تقول في:(ضَرَبَ زيدٌ): ما أَضْرَبَ زيداً، وفي (ضُرِبَ زيدٌ): ما أَضْرَبَ زيداً كلك، فلا يقع فرقٌ بين التعجُّب من الفاعل والتعجُّب من المفعول.

والثاني أن فشعل المفعول لا كَسْبَ فيه للمفعول، فأَشْبه أفعالَ الخِلَق، وأفعالُ الخِلَق لا يُتعجُّب منها، فكذلك ما أشبهها.

هذه جملة الأوصاف المعتبرة فيما يُبْنى منه فعلُ التعجُّب، وقد ظهر أن الناظم ضبط هذا الموضع ضبطاً حسناً، لم يقع مثلُه في أكثر المطوَّلات، فضلاً عن المختصرات.

ويتبيَّن ذلك إلى أقصاه بفَرضْ مسألتين:

إحداهما فيما وَقع فيه الخلاف من هذه الأوصاف المذكورة.

(1) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 145 - ب).

ص: 464

ففي الشرط الثاني الخلافُ في موضعين؛ أحدهما ما كان من المَزيد فيه ليس له ثلاثي، ولكنه عُومل معاملَة الثلاثي المجرَّد، نحو: افْتَقَر، وتَمَكَّنَ، واسْتَغْنِى، وامْتَلأَ، واشْتَدَّ، واتَّقَى، وما أشبه ذلك.

فهذه الأمثلة وأشباهُها جاريةٌ/ مَجرى الثلاثي لا مَجرى الزائد، لقولهم في الصِّفة: فَقِيرٌ، وغَنِيٌّ، وشَدِيدٌ، وتَقِيٌّ، وقد قالت العرب فيها: ومَا أَفْقَرَهُ، ومَا أَمْكَنَهُ، وما أَغْنَاهُ، ومَا أَمْلأَهُ، وما أَشَدَّهُ، وما أَتْقَاهُ.

ففي جَريَان هذا الباب مَجرى الثلاثي المجرَّد فيصحُّ أن يُبْنى منه، أو مَجرى الزائدِ فلا يُبْنى منه، إلَاّ أن يُسْمَع فيوُقَف على مَحَلِّه- قولان الأولُ لابن السَّرَّاج وطائفةٍ (1)، والثاني لابن خَروف وجماعةٍ (2).

وهذا الثاني أصحُّ، لأن العِلَّة التي من أجلها امتنع بناؤه من المزيد غيرِ الجاريِ مَجرى المجرَّد موجودةٌ هنا، وهو هَدْمُ البِنْية وحذفُ زوائدها لغير مُوجِب، مع وجود الغَنَاء عن ذلك بـ (ما أَشَدَّ) ونحوه.

فإن قيل: إتيانُهم بـ (فَعِيل) في اسم فاعله مع أنهم لم يَنْطقوا بفِعْلٍ منه دليلٌ على أنهم لم يَعتبروا الزائد، بل عَدُّوه كالعَدَم، إذ ليست الزيادة بدالَّةٍ على معنى، فصار الثلاثي المجرَّد مرادفاً (3) لها، فكما أَجْرَوا الصِّفة عليه باعتبار خُلُوِّه من الزيادة فكذلك يجب هنا- قيل: هذا التعليل لَا ينْهض أن يَجرى القياسُ بسببه، وإنَّما يَصلح أن يكون تعليلاً للسَّماع، إذ لم يكثر في السَّماع كَثْرةً يُعَتبر مثلُها في القياس، وإنَّما جاز ذلك نادراً فلا يُعتد به.

(1) انظر: كتاب الأصول لابن السراج 1/ 121.

(2)

انظر: ابن يعيش 7/ 144.

(3)

على حاشية الأصل ((موافقا لها)).

ص: 465

فَثبت أن الوجه مذهبُ ابن خروف. وإليه ذهب الناظم.

والثاني ما كان على (أَفْعَلَ). اختلفوا في بناء فعل التعجُّب منه على ثلاثة أقوال: الجَوازُ مطلقاً، ويظهر من سيبويه (1)، وإليه ذهب في (التسَّهْيل) و ((شَرْحه)) (2). والمنعُ مطلقاً، وهو مذهب جمهور المتقدِّمين، حكَى ابن السرَّاج عن أبي العَبَّاس أن الخَلْق على خلاف قول سيبويه، قال ابن السرَّاج: والقياس ما قال أبو العباس. نَصَّ عليه في الأصول (3). ونَصَّ الجَرْمي والأخفشُ وغيرُهما على أن التعجُّب من (أَفْعَلَ) قليلٌ شاذٌ (4)، وهو رأي الفارسي في ((الإغْفَال)).

والفرق بين أن تكون الهمزة التعَّدية أو لغير ذلك، فإن كانت للتَّعدية فلا يجوز، وإلَاّ جاز، وهو رأي ابن عصفور (5).

وظاهر هذا النظم القولُ الثاني، وهو الراجح سماعاً وقياساً. أما السَّماع فقد نَصُّوا على أنه شاذٌ ولم يَكْثر. وفي رواية الزجَّاج في ((الكتاب)) النصُّ على القلة، ففيها ((وبناؤُه أبدأ من فَعَل وفَعِل وفَعُل، وهو في (أَفْعَلَ) قليلٌ جدا (6))).

(وفي النسخة الشَّرقية ((وبناؤه أبداً من: فَعَل وفَعِل وفَعُل وأَفْعَلَ، وهو في (أفعل) قليلٌ جدا))) (7).

قال بعض المتأخرين: السَّماع قاطعٌ بأن بناءه من (أَفْعَلَ) ليس على حَدِّ

(1) انظر: الكتاب 1/ 73 حيث قال: ((وبناؤه أبدا من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ)).

(2)

التسهيل: 132، وشرحه (ورقة: 146 - أ).

(3)

لم أجده في باب التعجب.

(4)

التصريح 2/ 91.

(5)

شرح جمل الزجاجي له 1/ 580، والتصريح 2/ 91.

(6)

الذي في نسخة الكتاب التي حققها الأستاذ عبد السلام هارون هو ما سبق أن نقلته، ونصه:((وبناؤه أبدا من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ)) فقط.

(7)

ما بين القوسين ساقط من (س).

ص: 466

بنائه من (فَعُلَ) في الكثرة. وذلك حظ هذا الموضع، وعليه يَنْبَنِي جوازُ اقْتِياسه ومنعه، قال: والقول في ذلك وفي بناء أَفْعَل التفَّضيل، وفَعُول، ومِفْعال، وفَعَّال واحد، ولا/ شك في أن

524 ((باب هذا)) إنما هو في (فَعلَ) لا (أَفْعَلَ).

فإن قيل: قد قال سيبويه في الباب الأول: ((وإن كان من حَسُنَ وكَرُمَ وأَعْطَى (1))) وهذا يقتضي تسويغَ لك في (أَفْعَلَ) وقال في أبنية الأفعال في النصف الثاني إنهم استَغْنَوْا عن (مَا أَجْوَبَهُ) واستغنوا عن (ما أَقيَلَهُ) بـ (ما أَجْوَدَ جَوابَهُ) و (أكثرَ قائلتَه) كما استغنوا عن: وَذَر، ووَدَعَ بتَرَكَ (2).

ولا شك أن هذا الاستغناء هنا خروجٌ عن القياس إلى ما ليس بقياس، فكذلك ههنا.

فالجواب أن كلام سيبويه مجمَل، يُفَسِّره روايةُ الزجاج، فلا يُلتفت معها إلى المحتمَل. ووجه ما قال أولاً أنه أتى بجامعٍ لما جاء من ذلك، وبعضهُ مَقيس وبعضه غير مقيس. ولَمَا كان ما جاء من غير المقيس على (أَفْعَلَ) أوسع شيئاً من غيره ذكَر ما هو أوسع، ولم يذكر غيرَه.

وأمَّا قال في (الاستغناء) فقال بعض المحِّققين: لا يَبعد عندي ما قاله ابن الطَّراوة (3) في ذلك، من أن هذا ممتنع لأجل معناه، فـ (قَالَ) معناه:

(1) الكتاب 1/ 73.

(2)

نفسه 4/ 99 (بتصرف في الألفاظ).

(3)

هو ابو الحسن سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي ابن الطراوة. كان مبرزا في علوم اللسان، نحواً ولغة وأدبا، وله في النحو آراء تفرد بها، وخالف فيها جمهور النحاة. وألف: الترشيح في النحو، والمقدمات على كتاب سيبويه، ومقالة في الاسم والمسمى (ت- 528 هـ).

ص: 467

دَخل في القائلة ولا يُتَصوَّر في هذا مفاضلة، وكذلك قولهم:(أَجَابَ) إنما هو مُعاقِبٌ لكلام المخاطب فلا يُتَصَّور فيه مفاضلة.

قال: وهو، وإن كان ممتنعاً لأجل أنه من غير الثلاثي، فإنما قَصد أن يَذكر مانعاً معنوياً غير مَا ذُكر في الخِلقَ والألوان ليُتَنَبَّه له.

قال: وجَعْلُ ذلك من (الاستغناء) لا يقتضي أَلَاّ مانعَ له من جهة اللفظ، ولا من جهة المعنى، فقد يُستعمل (الاستغناء) حيث المانعُ موجود.

فإذا كان كلام سيبويه لا يُعطي القياسَ البَتَّةَ، ونَصَّ الأئمةُ على أنه قليل، فلا ينبغي أن يُقاس عليه.

قال بعضهم: ولم يَذهب إلى اقْتِياسه، فيما أعلم، أحدٌ إلا مُتَمَذْهِباً بَمذْهب ((الكتاب)) استِنْبَاطاً منه (1)، فعلى هذا إنَّما وقع الخلاف، في الحقيقة، في فَهْم ((الكتاب)) وإذ ذاك اعْتَمد نَقْلَه مَن اعْتَمد حَسْبَما أعطاه كلامه.

فإن قيل: بل قد كَثُر في السَّماع كثرةً يُعتمد على مثلها في القياس، كقولهم: ما أَعْدَمَ زيداً، وما أَحْسَنَ الدارَ، وما أَمْتَعَ زيداً، وما أسْرَفَهُ، وما أَفْرَطَ جَهْلَهُ، وما أَكَرَمَهُ لي، وما أَقَفَرَ المَوْضِعَ، وهو أَفْلَسُ من طَسْتٍ (2)، وأَسْرَعُ من الرِّيح (3)، وأَخْلَفَ من عُرْقُوب (4)، وأَوْلَمُ من الأَشْعَث (5).

ومن ذلك كثير ممَّا لم يُسمع له ثلاثي مجرَّد، وكذلك فيما سُمع له مجرَّد نحو: ما أَخْطَأَهُ، وما أَصْوَبَهُ، وما أَظْلَمَهُ، وما أَضْوَأَهُ، وما أَنْتَنَهُ.

(1) يقال: تَمَذْهَب بَمذْهَب فلان، إذا اتَّبَعه.

(2)

الطَّسْت: إناء كبير مستدير، من نحاس أو نحوه يُغسل فيه، معرَّب من (تَشْت) وجمعه: طُسُوت.

(3)

الدرة الفاخرة 1/ 217.

(4)

نفسه 1/ 177.

(5)

نفسه 2/ 423.

ص: 468

وكذلك ما كانت همزته للتَّعدية نحو: ما آتَاهُ للدَّراهمِ، وما أَعْطَاهُ لَها، وما أَوْلَاهُ للمَعروف، وما أَضْيَعَه للشَّيءِ، وما أشبه ذلك.

فالجواب أن هذا كُلَّه من قبيل النادر عند كبار النحوييِّنِ كما تقدَّم، ومنهم الأخفشُ أيضاً قد نَصَّ على قِلَّته وعدمِ قياسه (1)، فعلى هذا يكون البناء من (أَفْعَلَ) داخلاً تحت النادر المُنَبَّه عليه في قوله بعد هذا:

وبِالنُّدوُرِ احْكُمْ لغَيْرِ/ ما ذُكِرْ

525

ولا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ

وكذلك سائر ما ذُكر مما هو خارجٌ عن شروطه.

وأما وجه المنع قياساً فظاهر، لأن المانع من بناء التعجُّب من المزيد فيه، كـ (انْفَعَلَ) و (افْتَعَل) من إفساد البِنْية موجودٌ في (أَفْعَلَ) ولابُدَّ، فالقياس لا يَقْبل هدمَ البِنْية أصلا، كما لم يَقْبلها في بناء (الفِعْلَة) للهَيْئة، بل جَعَل ما كان نحو (الخِمْرَة) شاذاٌ (2).

وكما لم يَجمعوا نحو: سَفَرجْلَ على مثل (مَفَاعِل) إلا على استكراه من هَدْم البناء. ولولا الضرورة ما فَعَلوا حِسْبَما يتبيَّن في موضعه إن شاء الله.

فإن قيل: بل له وجهٌ قياسيٌّ' وهو مشابهةُ (أَفْعَلَ) للمجرَّد لفظا، وكثرةُ موافقته له معنى. فأما مشابهة اللفظ فلأنَّ مضارعَه، واسم فاعِله وزمانِه ومكانه كمضارع الثلاثي، بخلاف غيره من المزيد فيه.

(1) التصريح 2/ 91.

(2)

الخُمَرَة: لِبْسَة الاختمار، وهي اسم هيئة من: اختمرت المرأة، إذا لبست الخمِار، وهو ثوب تغطي به رأسها. وفي المثل ((أنَّ العَوان لا تعلَّم الخِمْرة)) ويضرب للرجل المجرَّب.

ص: 469

وأما موافقة المعنى فمن موافقته لـ (فَعَلَ) سَرىَ وأَسْرىَ، وطَلَع على القوم وأَطْلَعَ، وطَفَلت الشمسُ وأَطْفَلت (1)، وعَسَم اللَّيْلُ وأَعْتَم إلى أشياء كثيرة.

ومن موافقته لـ (فَعِلَ) غَطِش اللَّيْلُ وأَغْطَشَ، وعَوِزَ الشيء وأعْوَزَ، وعَدِمَ الشِيءَ وأَعْدَمَهُ، وعَبِسَتِ الإبلُ وأَعْبَسَتْ.

ومن موافقته لـ (فَعُلَ) خَلُقَ الثوبُ وأَخْلَقَ، وبَطُؤَ وأَبْطَأَ، وبَؤُسَ وأَبْأَسَ. ومن ذلك كثير.

فإذا كان كذلك جرى (أَفْعَلَ) في التعجُّب مَجرى (فَعُلَ) كما جرى مجراه في أشياء كثيرة.

فالجواب أن هذه المشابهة لا يَنْهض اعتبارُها مع هَدْم البِنْية، مع أن تلك المرادفة قد يُنَازَع فيها. ومن تأَمَّل كلامَ سيبويه في ((باب افتراق فَعَلْتُ وأَفْعَلْتُ (2))) من أبنية الأفعال لم يَغُرَّه (3) مثلُ هذا، فقد يَتَوهَّم أن (فَعَلْتُ وأَفْعَلتُ (مترادفان، وليسا كذلك، كما في طَرَدْتُه وأَطْرَدْتُه، وأَطْلَعَتْ وطَلَعْتْ، وفَتَنْتُه وأَفْتَنْتُه، وسَقَيْيُهُ وأَسْقَيْتُه، وقَبَرْتُه وأَقْبَرْتُه، وشَفَيْتُه وأَشْفَيْتُه. وقَتَلْتُه وأَقْتَلْتُه.

وكذلك: جَرِبَ وأَجْرَبَ، وحَالَتِ الناقةُ وأَحَالَتْ (4)، وحَمْدِتُه وأَحْمَدْتُه، ومن ذلك كثير، لا يكون (أَفْعَلُ) فيه مساوياً في المعنى لـ (فَعَلَ) فيُظَن به ذلك، كما أنه قد يكون بمعناه، وذلك ظاهر في افتراق اللغتَيْن.

وأما مع كونهما في لغةٍ واحدةٍ فلا دليل على اجتماعهما في المعنى إلا بعد

(1) في الأصل و (ت)((طَلَعت الشمسُ وأطْلَعت)) والمثبت من (س) وحاشية الأصل. ومعنى: طفلت الشمس، وأطفلت الشمس: مالت للغروب.

(2)

الكتاب 4/ 55.

(3)

في الأصل ((لم يعزه)) وما أثبته من (ت، س).

(4)

أَجْربَ الرجلُ: جَرِبَتْ إبلُه. وحالت الناقةُ، وأحالت، وحَوَّلت، إذا حُمل عليها فلم تلقح، وقيل: الحائل الناقة التي لم تحمل سنة أو سنتين أو سنوات.

ص: 470

البحث الشديد، والاستقراء التام.

وحينئذ يُحمل على أنهما في الأصل لغتان اخْتلطتا، فيَرجْع إلى أنهما لغتان. وإذا كانتا لغتًيْن لم يَنْبَغِ أن تُعتبر إحداهما بالأخرى، وإنَّما كان يَسْهُل ذلك لو ثبت أنهما في الأصل من لغة واحدة. وهذا كله لا يَثْبت فلا يصحّ ما يُبْنى عليه.

وأمّا تفرقة ابن عُصفور (1) فقال في ((الشَّرح)) (2): إنه تحكُّم بغير دليل، مع أن سيبويه قد مَثَّل في الجواز بـ (أَعْطَى) وهو منقول عن: عَطَا الشيءَ، بمعنى (تَنَاوَله وهذا الردُّ بناءً على إجازة للتعجُّب من (أَفْعَلَ) والذي يَرِدُ عليه على مذهبه/ هنا أن هذه التفرقة لم يَقُل بها أحد، ولا ذهب

526 إليه نحويٌّ، ويكفيه في الردِّ مخالفتُه للإجماع، بناءً على أن إحداث قول ثالث خَرْقٌ للإجماع.

وأيضاً فإن (أَفْعَلَ) ضربان، ضَرْبٌ لم يُستعمل منه المجرَّد نحو: أَلْفَى، وأَذْعَنَ، وأَفْلَسَ، وضَرْبٌ استُعمل منه، وهو قسمان:

قسم استُعمل منه فعلُ المجرَّد على معنى (أَفْعَلَ) كأَجَرَهُ اللهُ وآجَرَهُ، وهَدَرْتُ الدمَ وأهدرتُه.

وقسم استُعمل منه فعل على غير معنى (أَفْعَلَ) وهو نوعان: ما (فَعَلَ) منه بمنزلة المطاوِع، وهو الذي همزتُه للتَّعدية، كذَهَب وأَذْهَبْتُه، وقام وأقمتُه. وما ليس كذلك، وهو أيضاً ضربا، ضَرُبٌ يكون (فَعَلَ) فيه لمعنى مخالفِ من كلِّ وجه لمعنى (أَفْعَلَ) نحو: سَرَرْتُ الرجلَ، فَرَّحْتُه، وأَسْرَرْتُ

(1) وهي قوله: إن الهمزة إذا كانت للتعدية لا يجوز التعجب منه، وإن كانت لغير ذلك جاز- وقد تقدم.

(2)

شرح التسهيل للناظم (ورقة 145 - ب).

ص: 471

الشِيءَ أخفيتُه وضَرْبٌ يكون معناه مجتمعا مع معنى (أَفْعَلَ) في معنى المادة في الأصل نحو: كَلَّ الرجلُ، أَعْيَا، وأَكَلَّ القومُ، ضَعُفَتْ دوابُّهم.

فهذه جملة أقسام، خَصَّ ابنُ عصفور منها ما همزتُه للتعَّدية بالمنع، ولا يظهر للاختصاص مُوجِب يَقْضي بالامتناع هنا والجوازِ في البواقي. بل الذي يظهر لأول النَّظر في البواقي أن لا يُتَعجُّب منها، لأنه يؤدِّي إلى الالتباس، وهو التباس التعجُّب من (أَفْعَلَ) بالتعجُّب من (فَعَلَ) فكان ينبغي على هذا ألَاّ يجوز التعجُّب إلا من القسْم الأول خاصَّةً، وهو الذي لم يُستعمل منه (فَعَلَ) أصلا، وهم مِمَّا يُحافظون في هذا الباب على رفَع اللَّبس، ولذلك لم يتعجبَّوا من المنفىِّ ولا فعلِ المفعول، وفَرَّقوا في قولهم:(ما أَبْغْضَهُ لِي، وإليَّ، وما أَحَبَّهُ لِي، وإليَّ) بين المعاني. فالذي ذَهب إليه من التَّفرقة غيرُ صحيح.

وفي الشَّرط الرابع وقع لابن عُصفور خلافُ ما عليه الناس، وذلك أنه قد تقدم في معنى قابليَّة الفَضْل أنها تصوُّر المفاضلةِ أو إمكانُها بحسب شخْصَيْن أو حالَيْن أو وقتَيْن، فما لا يُتصور فيه مفاضلةٌ بحسبِ هذه الأشياء فلا يتعجَّب منه.

فـ (العَمَى والموت) مثلاً ممَّا لا يُمكن فيه المفاضلة، لأنه لا يختلف شخصان مشترِكان في العمى أو الموت أن يقال: إن أحدهما أَفْعَلُ من الآخر فيما دَلَّ عليه مدلولُ العمى والموت، بخلاف (الكرَم والشَّجاعة) مثلا، فيمكن أن يقال فيهما: إن هذا الرجل أفعلُ من الآخر، من لفظ الشجاعة والكرم.

وحاصل ذلك أن كل ما يقال فيه: (فعلٌ جداً) أو (فاعلٌ كثيراً) وما أشبه ذلك، يُتَصَّور ان يقال فيه:(ما أَفْعَلَهُ، وأَفْعِلْ به، وهو أَفْعَلُ من كذا) وأن يقال منه: (لَفَعُل) ومَا لاً فَلَا.

_________

ص: 472

ويَقتضي كلامُ ابن عصفور أن الأمر ليس كذلك، لأنه جَعل من الخِلَق الثابتة التي لا يُتَعجَّب منها قياسا الحُسْنَ والقُبْحَ، والطُّولَ والقِصَر، والهَوَجَ والنُّوك، والْحُمْقَ والشَّنَاعة، وما أشبه ذلك (1)، كأنه إنَّما اعتبر/ أن كلَّ متَّصِف بالحُسْن لا يتغيَّر عن ذلك، فالحُسْن صفة لا تزيد ولا

527 تنقص بحسب الشخص، وكذلك القبح وغيره، وجَعل التعجبَ من هذه الأشياء شاذاً.

وما يوهمه غير صحيح؛ فإن المقصود ما تقدَّم من تصوُّر المفاضلة على الجملة، وجميعُ ما ذُكر تُتصَّور فيه المفاضلة في أنفسها، وبحسب الأشخاص أيضا، فالحُسْن والقُبْح يختلف في الشخص الواحد بحسب انتقالات الحيوان، من الطفولة إلى الشباب، ثم إلى الكُهُولة، ثم إلى الشيَّخوخة.

وكذلك الهَوَجُ والنُّوكُ والحمقُ والشَّناعة، فإنها أوصاف تَختلف بحسب الأشخاص، وبحسب حالَيْن ايضا في الشخص الواحد، إذ ليست تُطلق في كل موضع على فَقْد العقل الفاصل بين الإنسان والفَرَس، بل قد تُطلق على الوصف الذي هو في نظر الواصف بها قريبٌ من ذلك، فتُطلق على خِفَّة الحركة، وقِلَّة التثبُّت، وعدم الإحكام والتُّؤَدة، فقد يكون هذا الوصف أشدُّ في حَقِّ الشخص الواحد وأضعفَ في حالَيْن.

فأما عدمُ العقل جملةً فلا يمكن فيه اختلاف، فلا يصح التعجُّب منه، وليس كلامنا فيه.

هذا ما يقال فيه من جهة النَّظر. وأما النَّقل فلا يَحتاج إلى شاهد لكثرته، وقد اعتَرف هو بوجوده. وقد نَصَّ سيبويه على وجه جواز:

(1) شرح جمل الزجاجي لابن عصفور 1/ 576.

ص: 473

ما أَرْعَنَهُ، وما أَهْوَجَهُ، وما أَشْنَعَهُ، وما أَنْوَكَهُ، وما أَحْمَقَه. ودَلَّ كلامه فيها على أنها ليست عنده شاذَّة (1). ونَصَّ أيضاً على جواز: ما أَحْسَنَهُ، وعلى جواز: مِحْسَان (2)، وهو للمبالغة في (حَسُنَ) وقال في (ما أَشْنَعَهُ): لأنه عندهم من القبح، وليس بلون ولا خِلْقة (3).

وهذا تصريح بأن (ما أَقْبَحَهُ) وضِدَّه ليس فيه علةٌ مانعة، فالحقُّ ما ذهب إليه غيره (4)، وهو الذي يُشْعِر به كلامُ الناظم.

وفي الشَّرط الخامس خلاف بين البصريين والكوفيين، فالبصريون هم الذين يشترطون تمامَ الفعل، وأما الكوفيون فقد حُكى أنهم يُجيزون: ما أَكْوَنَ زيداٍ لأَخِيك. ولا يُجيزون: ما أَكونَ زيداً لقَائمٍ. وحَكى ابن السَّراج والزجَّاج عنهم إجازة: ما أَكْوَنَ زيداً قائماً، واشار إلى أن نصب هذا عندهم، أعني (قائماً) على الحال. وهذا على أصلهم في أن المنصوب بعد (كان) على الحال (5)، فسَهُل الأمرُ عليهم.

وأما على رأي أهل البصرة فذلك صَعْب، ولم يَأْتِ بذلك سمَاع، والقياس

(1) انظر: الكتاب 4/ 98، حيث يقول:((وأما قولهم في الأحمق: ما أحمقَه، وفي الأرعن: ما أرعنَه: وفي الأنوك: ما أنوكه، وفي الألد: ما ألده، فإنما هذا عندهم من العلم ونقصان العقل والفطنة، فصارت ما ألده بمنزلة: ما أمرسه وما أعلمه، وصارت ما أحمقه بمنزلة: ما ابلده وما أشجعه وما أجنه؛ لأن هذا ليس بلون ولا خلقة في جسده، وإنما هو كقولك: ما ألسنه وما أذكره، ما أعرفه وأنظره، تريد نظر التفكر، وما أشنعه، وهو أشنع، لأنه عندهم من القبح، وليس بلون ولا خلقة من الجسد، ولا نقصان فيه، فألحقوه بباب القبح كما ألحقوا ألدَّ وأحمق بما ذكرت لك)).

(2)

نفسه 4/ 98.

(3)

نفسه 4/ 98، وتقدم نقل نصه بأكمله.

(4)

يعني غير ابن عصفور.

(5)

انظر: الأصول لابن السراج 1/ 127.

ص: 474

لا يقبله، فلا يصح القول به. وقد تقدَّم تعليل ذلك.

وفي الشرط السابع خلافٌ على الجملة، فإن الكوفيين يُجيزون التعجُّب من البَياض والسّّواد خاصَّةً من بين سائر الألوان، كقولك: ما أَبْيَضَ هذا الثوبَ، وما أَسْوَدَ هذا الشَّعْر. ومال إليه من الحُذَّاق البصريين ابنُ الحاجّ تلميذ الشَّلَوْبين (1).

/ وأما سائر البصريين فلا فرق عندهم في المنع بين السَّواد والبياض وغيرهما (2).

528

وقد مَرَّ توجيُه المنع. وأيضاً فلا سَماع يُعتمد عليه في القياس، فلا قياس.

فإن قيل: إن استعمال التعجُّب في هذين اللَّوْنين يَسُوغ لكثرة استعمالهما في (أفعل التفضيل) كما قال (3):

إِذَا الرِّجَالُ شَتَوْا واشْتَدَّ أَكْلُهمُ

فأَنْتَ أَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ

(1) سبقت ترجمتهما.

(2)

انظر: الإنصاف 148 (المسألة السادسة عشرة).

(3)

لطرفة بن العبد من قصيدة يهجو فيها عمرو بن هند ملك الحيرة. ديوانه 15، وابن يعيش 6/ 93، والإنصاف 149، والتصريح 1/ 325، واللسان (بيض). وشتوا: صاروا في زمن الشتاء، وهو عندهم زمان قحط وجدب. واشتد أكلهم: صار حصولهم على ما يأكلون عسيرا شديدا عليهم. والسربال: القميص، والدرع، أو كل ما يلبس، وجمعه سرابيل. وقوله: فأنت أبيضهم سربال طباخ كناية عن شده بخله، لأن معناه: تكون ثياب طباخك في هذا الوقت بيضاء ناصعة البياض، نقية من آثار اللحم والطبخ، لأنه لا يطبخ فتتدنس ثيابه.

ص: 475

وقال الراجز (1):

جارِيَةٌ في دِرْعِهَا الفَضْفَاضِ

تُقَطِّعُ الحَدِيتَ بالإيمَاضِ

* أَبْيَضُ من أُخْتِ بَنِي أَبَاضِ *

وباب (أَفْعَل التَّفضيل، والتعجُّب) من نوع واحد. وقد استُعمل في ((السَّوَاد)) ذلك أيضا، ففي الحديث عنه عليه السلام قولُه:((لَهِي أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ (2))) والاستعمال فيها كثير، فلابد من القول بالجواز.

وأيضاً فهما أصلُ الألوان، فَلْيُتصَّرْف فيهما، على ما عُهد في الأصول، مالا يُتَصَرَّف في غيرهما مما هو فَرْع.

فالجواب أن الاستعمال فيهما لا نسلِّم أنه كَثُر كثرةً يُقاس مثلُها، وإنما هو قليل مما يوُقَف على محله، وهو (باب التفضيل) وإلا لزم أن يُقاس (التعجُّب) على كل ما شَذَّ في التفضيل، والتفضيل على كل ما شَذَّ في التعجُّب، وذلك غير صحيح.

وأيضاً فلا يلزم إذا كثر استعمالُ الشاذِّ في باب أن يُقاس عليه في بابٍ آخر. والدليل على ذلك أن ((خَيْرَا، وشَراً)) كثر استعمالهُما في التفضيل دون همزة، فتقول: زيدٌ خَيْرٌ من عَمْرو، وشَرٌّ من بَكْر، ولا يقال: أَخْيَرُ، ولا أَشَرُّ إلا

(1) هو رؤبة بن العجاج، ملحقات ديوانه 176، وابن يعيش 6/ 93، 7/ 147، والإنصاف 149، وشرح الرضي على الكافية 3/ 450، والخزانة 8/ 230. والدرع: القميص. والفضفاض: الواسع. والإيماض: لمعان البرق، شبه به ما يبدو من بياض أسنانها عند الضحك والابتسام. معنى (تقطع الحديث بالإيماض) أنها إذا ابتسمت، وكان لناس على حديث قطعوا حديثهم، ونظروا إلى جمالها وحسن ثغرها. وبنو اباضك قوم. وأخت بني أباض مشهورة بالبياض.

(2)

الموطأ- كتاب جهنم (باب ما جاء في صفة جهنم) 2/ 994.

ص: 476

قليلا. ثم إنهم لم يقيسوا ذلك في (باب التعجُّب) بل جَعلوا ما جاء من ذلك شاذاً محفوظاً غيرَ مقيسٍ حين قالوا: ما خَيْرُ اللَّبَنِ، وما شَرُّه؟ وإنما القياس: ما أَخْيَرهُ وما أَشَرَّهُ؟ فلو كان البابان متوازِنَيْن من كل وجه لم يقولوا هذا، وإنما يتوازنان فيما كان على القياس.

وفي الشرط الثامن خلافٌ وتفصيل، فالمبنىُّ للمفعول من الأفعال أمَّا أن يقع فيه لَبْس إذا بُنِي منه للتعجُّب، فَيلْتبس بفعل الفاعل أولا.

فإن الْتَبس بفعل الفاعل لم يُبْن منه، فلا تقول في (ضُربِ زيدٌ): ما أَضْرَبَ زيداً، ولا في (رُحِمَ): ما أَرْحَمَهُ، ولا في (عُرِفَ): ما أَعْرَفَهُ، ولا ما أشبه ذلك.

وإن يَلْتَبس فالجمهور أيضاً على المنع، ومنهم الناظم. ومنهم مَن ذَهب إلى الجواز.

واشار في ((التَّسْهيل)) إلى أن ذلك جائز على قَلَّة (1)؛ لأنه جاء من ذلك شِيءٌ صالح نحو: ما أَعْنَاهُ بحاجَتِكَ. وفي كلام سيبويه: وهُمْ بِبَيَانِه أَعْنَى، وما أَسَرَّني به (2).

وحكى الفارسيُّ في ((التَّذْكرة)) عن المازني: ما أَزْهَاهُ، من: زُهِيَ.

وحَكى غيرهُ: ما أَشْهَرَهُ، وقالوا:((وهو أَزْهَى مِنْ دِيكٍ (3))) و ((أَشْغَلُ من ذَاتِ النّحْيْينْ (4))) و ((أَشْهَرُ من غَيْره (5))) وأَعْذَرُ، وأَعْنَى، وأَعْرَفُ، وأَنْكَرُ، وأَخْوَفُ، وأَرْجَى.

(1) انظر: التسهيل 131.

(2)

الكتاب.

(3)

الدرة الفاخرة 1/ 213.

(4)

نفسه 1/ 260، 2/ 405.

(5)

قالوا: أَشْهَرُ من البَدْر، وأشهر من الشَّمْس، وأشهر من الصبح، وأشهر من راكب الأَبْلَق، واشهر من راية البَيْطار (انظر: فهارس الدرة الفاخرة).

ص: 477

وجميعُ ذلك من فِعْل المفعول، ولا لَبْس فيه، لكنه لمَ يكْثُر، فأجازه في ((التسهيل)) على قلة، ومَنعه هنا.

والمنع أرجح، لأن ما ذُكر لم يَبلغ عنده مبلغَ أن يُقاس عليه، فهو داخل تحت قوله:((وبِالنُّدوُرِ احْكُمْ لَغْيرِ/ ما ذُكِر)).

529

وهذا أما بناءً على التعليل بالعلة الثانية المتقدِّمة، أو على التعليل بالعلة الأولى، وأجْرَى مالا لَبْس فيه على ما فيه اللَّبْس، ليجَري البابُ كلُّه مَجْرىً واحداً، وهو نظيرُ ما تقدَّم في إبراز الضمير إذا جَرى اسمُ الفاعل على غير مَن حوله، وهو باب واسع تَعتبره العرب كثيرا. وقد تقدم هنالك له نظائر.

والمسألة الثانية أن هذه الشروط إذا اجتمعت فكلامُ الناظم يَقتضي جوازَ التعجُّب بإطلاق، وهو صحيح في الجملة، غير أنه قال في ((التَّسهيل)): وقد يُغْني في التعجب فِعْلٌ عن فِعْل مستوفٍ للشروط، كما يُغني في غيره (1).

فهذا نَصُّ في أن ما اسَتْوفى الشروط لا يَقتضي الجوازَ بإطلاق، وعَدَّ من ذلك في ((الشَّرح)) (2): شَكَرَ، و (قَعَد، وجَلَس) ضِدَّي (قَامَ) وقَالَ، من القائِلَةِ، وكذلك (قَامَ) من النَّوم، عَدَّها ابن عصفور مع ما تقدم (3)، فعندهما أنه لا يقال: ما أَنْوَمَ زيداً، ولا ما أَقْعَدَهُ، وكذلك سائرها، مع أنها مستوفية للشروط.

(1) التسهيل: 132.

(2)

شرح التسهيل (ورقة 146 - أ).

(3)

شرح جمل الزجاجي له: 1/ 581.

ص: 478

ووجه ذلك أن العرب استَغنت عن البناء من غيرها، كما قال سيبويه في (قَالَ) من القائلة، قال:((ولا يقولون في (قَالَ، يَقيِلُ): ما أَقْيَلَهُ، استَغْنَوا بـ (ما أَكْثَر قَائِلتَه) وما أَنْوَمَه في ساعة كذا، كما قالوا تَركْتُ، ولم يقولوا وَدَعْتُ)) انتهى (1).

والقاعدة أن العرب إذا فُهم منها الاستغناءُ لم يَجُز أن يُنْطق بما استَغنت عنه، بل يُرْجع إلى ما استَغنت به. فهذه الألفاظ قد كَسَرت عليه قاعدتَه وأصلَه.

ولكن يُجاب عن هذا بأن هذه الألفاظ قليلة جداً، لا يَقْدح مثلُها في مِثل هذا الأصل المطَّرِد، وإلَاّ فلو اعتُبر هذا في: كَسْر القواعد لاعتُبرت الشذوذاتُ المتقدمة والآتيةُ كلها، فلم يَنْتَظم قياس، ولا تَمَهَّد أصل.

وأيضاً فإذا تُتُبِّعتْ هذه الألفاظ وُجِدت لا تَنهض في الدلالة على الاستغناء، بل منها ما التعجُّبُ منه جائزٌ لوجود تلك الشروط، ومنها ما هو ممنوعٌ لفَقْد شرط، لا للاستغناء.

فأمَّا (القيام، والقعود، والجلوس) فمن قَبِيل ما لا يَقْبل الفَضْلة، إذ ليس ثَمَّ قيامٌ راجح على قيام، ولا قعودٌ أبلغُ من قعود، وكذلك الآخر ماعَدا (النوم).

وإنما يرجَّحها كثرةُ التَرداد والتَّكرار، وإذ اك يُتَعجَّب منها بـ (أقلَّ وأكثر).

وإن جاء على غير ذلك فعلى معنى الكثرة، كما قالوا في المبالغة: ضُجَعَةٌ وقُعَدَةٌ وعلى هذا الترتيب يَجري القولُ في (السُّكْر، والغَضَب) فقد حُكي الخلاف في التعجُّب منهما، فالأظهرُ جواز ذلك فيهما لقَبُولهما الزيادةَ والنقصان، من جهة تصُّور معناهما، وهو ظاهر.

(1) الكتاب 4/ 99.

ص: 479

وأما الاستغناء فلم يَثْبت عن مَوْثوق به. وسيبويه لم يذكرهما في الاستغناء وإنَما ذكر: (قَالَ) من القائلة (1).

وقد جَعل ابن الطَّراوة (2) المانعَ فيه معنوياً؛ إذ لا يُتَصَّور فيه المفاضلة، لأن معناه: دَخَل في القائِلَة، وإنما أطلق/ سيبويه عليه لفظَ الاستغناء لما تقدم ذكره (3).

530

وأما (النوم) فقد استعملوا منه: ((هو أَنْوَمُ من فَهْدٍ (4))) و ((أَنْوَمَ من غَزالٍ (5))) وقالوا في المبالغة: نَؤُومٌ، ونُؤَمَةٌ، وجاء في لفظ سيبويه استعمال: ما أَنْوَمَ (6)، على أنه كالمُغْنِي عن: ما أَقْيَلهَ.

فقد ظهر أن هذه الألفاظ المستَثناة ليست بمستثناة كما تَوَهَّم من استثناها. والله أعلم.

وقول الناظم: ((مِنْ ذِي ثَلَاثٍ)) بتأنيث ((الثَّلَاثِ)) والمراد الحروف، اعتباراً بأن الحروف تُذَكَّر وتُؤَنَّث. وقد تقدم التنبيه على ذلك. وفي كلامه من كثير.

ولَمَّا كان ما عَدِم من الأفعال شرطا، أو كان ليس بفْعِل، غيرَ مذكورِ الحكم في التعجُّب إذا تعلَّق به ذلك، أَخذ في ذِكْرِ حُكْمه فقال:

(1) المصدر السابق 4/ 99.

(2)

تقدمت ترجمته.

(3)

انظر:

(4)

الدرر الفاخرة 2/ 400.

(5)

نفسه 2/ 401.

(6)

الكتاب 4/ 99، وفيه ((ما أنومه في ساعة كذا)).

ص: 480

وأَشْدِدَاوْ أَشَدَّ أو شِبْهُهُمَا

يَخْلُفُ ما بَعْضَ الشُّرُوطِ عَدِمَا

ومَصْدَرُ العَادِمَ بْعْدُ يَنْتَصِبْ

وبَعْدَ أَفْعِلْ جَرُّه بالبَا يَجِبْ

يرد أن ما عَدِم من المتعجَّب منه شرطاً من تلك الشروط، أو أكثر من شرطٍ واحد، ولم يَستوفِ جميعَها فلا يجوز أن يُتَعجب منه بالصّوغ من لفظه فإذا أُريد التعجُّب منه فيُتَوَصَّل إلى ذلك بَصْوغ (أَفْعَلَ، وأَفْعِلْ) من (الشدَّة) أعني من فِعله الثلاثي المقدَّر الاستعمال، وما ضَارَع ذلك وأشبهه، فتقول: ما أَشَدَ كذا، وأَشْدِدْ بكذا.

والذي يُشبههما في المعنى (أَكْثَرَ وأكْثِرْ، وأَقَلَّ وأَقْلِلْ، وأَضْعَفَ وأَضْعِفْ، وأَعْظَمَ وأَعْظِمْ، وأصْغَرَ وأَصْغِرْ، وأَحْسَنَ وأَحْسِنْ، وأَقْبَحَ وأَقْبِحْ) وما أشبه ذلك.

وإذا بَنَيْتَ الفعلَ من ذلك أتيتَ بمصدر الفعل الذي أردتَ التعجُّبَ منه، إن كان له مصدرٌ، أو ما يقوم مَقامه، وذلك ((ما)) المصدريَّةُ مع فِعْلها، أو الاسم إن لم يكن له مصدر، فَينْتَصِب بعد (أَفْعَلَ) ويَنْجَرُّ بالباء بعد (أَفْعِلْ) على حَدِّ ما كان المتعجَّب منه، وذلك قوله:((ومَصْدَرُ العَادِمِ بَعْدُ يَنْتَصِبْ)) إلخ.

ولم يَنُصَّ على أن انتصاب المصدر بعد (أَفْعَلَ) لأنه معلوم. وقد نَبَّه عليه أيضا بتعيين الجر بعد (أَفْعِلْ) فبم يبق للنصب إلا (أَفْعَلَ).

فإذا عُدِم الشرطُ الأول، وهو وجود الفِعْل، أتيتَ بالاسم بعد (أَفْعَلَ، وأَفْعِلْ) عِوَضَ المصدر، فقلت: ما أَكْثَر إبِلَ زيدٍ، وما أَحْسَنَ إبِلَ زيدٍ، وما أَجْوَدَ إبلَه، وما أشبه ذلك.

وإذا عُدم الشرط الثاني، وهو كون الفعل ثلاثياً، قلتَ: ما أشدَّ استكبارَهُ،

_________

ص: 481

وأشْدِدْ باستكبارِه، وما أَكْثَر إكرامَه، وما أَحْسَن انطلاقَه، وما أشبه ذلك.

وإذا عُدم الشرط الثالث، وهو كونُه متصِّرفا، قلتَ في نحو (يَذَرُ، ويَدَعُ): ما أَشَدَّ تَرْكَهُ، وما أَحْسَن تَرْكَهُ، فأتيتَ بمصدر المستَغْنَى به، لأن مصدر المستغنَى عنه قد أُهمل.

وأما نحو (عَسَى) فليس له مصدر ولا اسم، فلا يُتَعجَّب منه رأساً، لأنه قد قال:((ومَصْدَرُ العَادِم بَعْدُ يَنْتصِبْ)) فجعلَ المصدرَ هو الذي يقوم مقام المتعجَّب منه، فإذا لك يكن له مصدر لم يصحّ هذا العملُ فيه. وإلى هذا المعنى يَرْجع نحو (يَذَرُ، ويَدَعُ) إذ ليس له مصدر يُؤْتي به، لكن لَمَّا/ أنابت العرب عنه مصدر غيره صار كأنه مصدرُه مجازاً، فأَتى به على حكم باب

531 الاستغناء، من أن المستغنَى به يقوم مقام المستغنَى عنه.

وإذا عُدم الشرط الرابع، وهو كونُه قابلاً للفَضْل قلتَ: ما أَشَدَّ سَوادَهُ، وما أَقْبَح عَرَجَهُ، وأَشْدِدْ ببَياضه، ونحو ذلك.

وإذا عُدم الشرط الخامس، وهو كونُه تاماً، قلتَ: ما أَطْوَلَ كَوْنَ زيدٍ قائماً، وما أَكْثَر كونَه نائماً، وأَكْثِرْ بكَوْنِه ضاحكاً، وشبه ذلك.

وإذا عُدم الشرط السادس، وهو كونُه غيرَ منفيٍّ، فلا يُؤتى بالمصدر فقط، لأنه مُخِلٌّ بالكلام لسقوط حرف انفي، إذ لا يصحّ أن تقول: ما أَشَدَّ قيامَ زيدٍ في قولك: ما قَام زيدٌ، فهذا من المُشكل في الموضع.

وإذا عُدم الشرط السابع، وهو كونُه ليس له وصف على (أَفْعَلَ، فَعْلَاءَ) قلتَ: ما أَكْثَر حُمْقَهُ، وما أَشّدَّ عَوَرَهُ، وما أّشَدَّ حُمْرتَهُ أو احمرارَه، ونحو ذلك.

وإذا عُدم الشرط الثامن، وهو كونُه غيرَ مبنيٍّ للمفعول، فهذا لا يَتَأَتَّى

_________

ص: 482

فيه الإتيان بالمصدر أيضاً، لأن اللَّبْس حاصل به، لأنك إذا قلتَ: ما أَشَدَّ ضَرْبَ عمروٍ، وما أَضْرَبَ عَمْراً- كانا سواء في عدم بيان أن المتعجَّب منه المفعولُ، وأن المراد: ضُرِبَ عمروٌ جِداً، فلابد أن يُلْقَى فيه المحظورُ المذكور في تقرير الشروط، لكن له مَخْرج ههنا بأن يُؤْتَى بـ ((ما)) المصدرية بعدها الفعلُ مبنياً للمفعول، فتقولك مَا أكْثَر ما ضُرِبَ عمروٌ.

وكذلك تقول في فَقْد الشرط السادس: قد يُمكن أن يُؤْتَى بـ ((ما)) المصدرية (1) داخلةً على الفعل منفياً، فتقول: ما أَكْثَر مالَمْ يَقُمْ زيداً، ونحو ذلك.

ووجهُ الانصراف إلى البِناء من (الشدَّة) ونحوها في هذه الأشياء أن (ما أَشَدَّهُ، وأَشْدِدْ به) مما يصح التعجُّب منه في كل نوع، وفي كل وصِف، إذ كانت، في لفظها، ومن فِعْل قابلٍ أن يُبْنى منه فعلُ التعجُّب، وفي معناها، قابلةً للفَضْل، لأن (الشدَّة والخِفَّة، والقِلَّة، والكَثْرة) مختلِفةٌ بالنِّسَب والإضافات، بخلاف غيرها.

وأيضاً فهي تؤدِي من المعاني بالنسبة إلى جميع المعاني، مثلَ ما كانت الأفعال تؤدِّيه. ولذلك كان ما يجوز التعجُّب منه من الأفعال المستوفية للشروط يجوز أيضاً أن يُتَعَجَّب منها بـ (أَشَدَّ) ونحوه، لأن التعجب إنما هو بلوغ النهاية في معنىً لم يَبلغ إليه غيرُ المتعجَّب منه، وهو الذي يُعطيه (أَشَدُّ) ونحوه.

ومن ثَمَّ يجوز لك أن تفسِّر به معنى التعجب فتقول: معنى (ما أَحْسَنَهُ): ما أَشَدَّ حُسْنَه، أو كَثُر، و (ما أَكْرَمَه) أي كَثُر كَرَمُه، وهذا ظاهر.

و(ما أَشَدَّه، وأَشَدِدْ به) لم يُستعمل منه الفعلُ الثلاثي إلا نادراً. حَكى

(1) من هنا إلى قوله: ((حتى يتأدى معنى الفعل على ما هو عليه)) ساقط من (س).

ص: 483

أبو زيد في كتاب ((المصادر)) (1): شَدُدْتُ، وهو قليل الاستعمال، لكنه قد يكون التعجُّب معتداً به وإن قَلَّ. ويعضِّده قولُهم: شَدِيدٌ.

وفي هذا الفصل على الناظم دَرَكٌ (2) من خمسة أوجه:

أحدهما أنه ألزم في انعدام بعض تلك الشروط أن يُؤْتَى بالمصدر عِوَضَا من المتعجَّب منه، وهذا إنما يَتَأَتَّى له فيما له/ مصدر، ويكون ذلك المصدر مستعملا، ويكون الإتيان به

532 غيرَ مُوقعٍ فيما فُرَّ منه من اللَّبْس.

فأما ما ليس له مصدر كـ (نِعْم، وبِئْس، وعسى، وليس) أو كان له مصدر أُتِي به في القياس إلا أنه غير مستعمل كـ (يَذَر، ويَدَع) أو كان له مصدر مستعمل لكنه إذا أُتِي به أوقع اللَّبْسَ بمصدر المنفيَّ ومصدر فِعْل المفعول- فلا يَتَأَتَّى به عوضاً من المتعجَّب منه بوجه، بل يُترك التعجبُ منه رأساً، كما في (نِعْم، وبِئْس) أو يُؤْتَى بمصدر ما استُغني به، كالتَّرْك في (يَذَر، ويَدَعَ) أو يُؤْتَى بـ (ما) المصدرية حتى يَتَأَدَّى معنى الفعل على ما هو عليه. وهذا كله بَمَعْزِل عن كلامه.

والثاني أنه قد يُعْدَم بعضُ الشروط فيُؤْتَى بـ (أَشَدَّ) ونحوه، ولا يُؤْتَي بعده بمصدرٍ بحال، ويُتَعجَّب منه قياسا، وذلك نحو: ما أَكْثَر إبلَه، وما أَكْثَر مالَه، وما أَشَدَّ عَبْدَه، وأَحْسِنْ بوجهِه، وهو باب واسع، إذ كان كل ذلك قد عَدِم شرطاً من شروط البناء للتعجب، وهو وجود الفعل المبنيِّ منه في الكلام مستعَملا.

وهذه المُثُل كلها أجناس وأعيان لا مصادر لها. [ولا أفعال.

(1) ذكره السيوطي في ((بغية الوعاة)) 1/ 583.

(2)

الدَّرْك- بفتح الراء وإسكانها- التَّبِعة.

ص: 484

والثالث أن أسماء المصادر قد تقوم هنا مقام المصادر (1)] فلا تتعين المصادر أنفسها في هذا العمل، بل مَثل: ما أَشَدَّ كلامَ زيدٍ، وما أكثر عطاءَهُ، وما اَبْلَغَ سَلَامَهُ، وما أشبه ذلك. فإذا لم تَتعَيَّن المصادر فقوله:((ومَصْدَرُ العَادِمِ بَعْدُ يَنْتَصِبْ)) إلى آخره ليس بلازم. وقد أَتَى بما يَقتضي اللزومَ، ففيه ما تَرى.

والرابع أن قوله: ((وأَشْدِدِاوْ أَشَدَّ أو شِبْهُهُمَا: يخْلفُ كذا)) يَقتضي أن هذه الألفاظ تخلُف في البناء للتعجُّب ما لم يَتَأَتَّ منه البناء له في أداء معناه، حتى يكون قولك مثل:(ما أَشَدَّ حُمْرةَ زيدٍ) على معنى: ما أَحْمَر زيداً، لو قِيل. هذا معنى كَوْنِه يَخْلُفه، إذ لا يخلفُ الشِيءُ غيرهَ إلا فيما كان لذلك الغَيْر من أمرٍ لفظيٍّ أو معنوي، ولا يقال في الأمَريْن المختلفَيْن بإطلاق: إن هذا يَخْلفُ هذا، وإذ كان كذلك كان قوله:((يَخْلُفُ كذا)) غيرَ صحيح. ألا ترى أنهم يقولون: إن المانع من التعجُّب من الألوان كونُها لاحقةً بالخِلَق الثَّابتة، كاليَدِ والرِّجْل. وقد مَرَّ تعليل ذلك بأن الألوان لا تَقبل الفَضْل، فإذاً معنى (ما أَحْمَرهُ) غيرُ معنى (ما أَشَدَّ حُمْرتَه) إذ لو كان هو معناه لاقتَضى في القياس أن يُتَعجَّب منه.

وكذلك الخِلَق والأَدْوَاء، وهو أَبْيَنُ فيها إذْ وُجِد لها الفعلُ الثلاثي، ومع ذلك فإنهم لم يَبْنوا منها للتعجُّب اعتباراً بأنها لا تَقْبل الفَضْل.

وهكذا كلُّ فِعْل لا يَقْبل الفَضْلَ لا يَخْلُفه (أَشَدُّ) ونحوه في معناه، إذ لو خَلَفه في معناه لم يُتَعجَّب منه، فهذا ايضاً من كلامه لا يصح.

(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل و (ت) واثبته من حاشية الصل، وهو موافق لما في نسخه (س) وهو الصواب.

ص: 485

والخامس أن الفعل الثلاثي في هذه الأشياء المتعجَّب منها إذا كان كثير الاستعمال في كلام العرب فظاهرٌ أن بِنَاء (أَفْعَلَ وأَفْعِلْ) منه هو القياس المستقيم، وإذا كان معدوماً البَتَّةَ فلابد من الانتقال إلى (أَشَدَّ) ونحوه.

وأمَّا إذا كان نادراً في الاستعمال فمقتَضَى إطلاقه فيما تقدَّم أنه لا يُفتقر فيه إلى (أَشَدَّ) ونحوه إذا/ وُجدت الشروط الأُخَر، لأنه قال قبلُ:((وصُغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلاُثٍ)) فأَطْلق،

533 فَدخل له ما كان كثيرا في الاستعمال، وما نَدَر فيه. وإذا كان كذلك لم يُفْتَقر فيه إلى (أَشَدَّ) ونحوه مما يَخْلُفه، إذ لم يَعْدِم على هذا التنزيل شرطا.

وفي هذا نظر، وذلك أن نُدُور الاستعمال حاكمٌ بأن هذا الفعل لا يقع على الألسنة إلا نادرا، بحيث لا يعتبره العربيُّ في بناء فِعْل التعجُّب منه، وإن اتَّفق كثرةُ استعماله عند بعض العرب لم يَتَّفِق عند الباقين، وبذلك يُعد نادرا؛ إذ لو تداولت العرب استعماله لَسُمِع كثيرا، ولو سُمع كثيرا لم يكن نادراً عندهم، أعني عند النَاقِلين عن العرب، فَعَدُّهم إياه نادرا دليلٌ على أنهم فهموا ذلك من العرب، وعند ذلك لا يصح الحُكْم بعدم الافتقار في هذا الموضع إلى (أَشَدَّ) ونحوه، بل نقول: لابد منه كما لابد منه في غيره، لأن العرب لم تَعْهَد هذا النادر أن تَلتفت إليه فتَبْني منه، فإذا وُجد فعلُ تعجُّب لم يكن فعلُه المبنيُّ هو منه كثيرَ الاستعمال فهو شاذ لا يُقاس عليه، إلا إن ثَبت استعمالُه لبعض العرب، فحينئذٍ يُقاس بالنسبة إليهم، لا بالنسبة إلى من لا يَستعمله.

ولذلك عَدَّ المتقدمِّون من شاذ التعجُّب قولهَم: (ما أَفْقَرَهُ) لأنه عندهم

_________

ص: 486

من (افْتَقَر) وإن كان قد سُمع (فَقُر، وفَقِر) بمعنى: افْتَقَر، و (ما أَرْفَعَهُ) وإن كان قد جاء (رَفُع) و (ما أَغْنَاهُ) وإن سُمع (غَنِىَ) بمعنى اسْتَغْنَى، و (ما أَتْقَاهُ) وقد سُمع (تَقِىَ) بمعنى خَافَ، حكاها ابنُ القُوطِيَّة (1) لغةً في (اتَّقَى)، و (ما أَقْوَمَهُ) من (استَقَام) وقد قالوا: قامَ، بمعنى: استقام، و (ما أَمْكَنَهُ) وقد سُمع (مَكُنَ عند المَلِك)، و (ما أَمْلأَهُ) وقد سُمع (مَلُؤ) بمعنى: امْتَلأَ.

وقالوا: أَبِلَ الرجلُ، كَثُرَتْ إِبلُه كما تقدَّم (2)، وجعلوا (ما آبَلَ زيداً) شاذا.

وكذلك في البناء من فِعْل المفعول جَعلوا منه قولَهم: (ما أَمْقَتَهُ) وقد قالوا: مَقَتَ، إلى أشياء من هذا القَبِيل يُعد التعجبُ فيها شاذاً مع وجود الثلاثي، ما ذاك إلَاّ لأنهم لم يَعتبروا ذلك المسموع، لشُذوذه ونُدوره، فإطلاقُ الناظم في هذا الموضع لا يستقيم في مَدارج القياس.

والجواب عن الأول أن خِلَافة (أَشَدَّ) أو (أَشْدِدْ) ونصبَ المصدر أو جَرَّه بالباء إنما يُريد به حيث يُتَصَّور وضع هذا للمجموع، وذلك لا يُتصَوَّر إلا في فِعْل متصِّرف، فاشتراط التصُّرف في الفعل أولاً قَضَى بأن غير المتصِّرف لا يمون له مصدر، لأن معنى التصُّرف أن يكون له ماض ومضارع وأمر وصِفَةٌ وغير ذلك، ومن جُمْلتها المصدر، وهو الأصل، فما لا مصدر له لا يَتَأَتَّى فيه ذلك الوضع ولا ذلك العمل فيُرْفضَ.

وأمَّا ما استُغْنِيَ عنه بغيره من الأفعال فذلك الغَيْر يقوم مصدرهُ مقامَ

(1) ينظر كتاب الأفعال 284. وابن القوطية هو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز القرطبي النحوي، المعروف بابن القوطية. كان إماما في اللغة العربية حافظا لهما، مقدما فيهما على أهل عصره، لا يشق غباره، ولا يلحق شأوه. وكان حافظا لأخبار الأندلس. صنف: تصاريف الأفعال، والمقصور والممدود وتاريخ الأندلس وغيرها (ت 367 هـ). بغية الوعاة 1/ 198.

(2)

انظر: الصحاح (أبل).

ص: 487

مصدر هذا المرفوض، فكأنَّه موجود، فـ (التَرْك) قائم مقام (الوَدْع) كما / كان

534 (تَرَكَ) قائماً مقام (وَدَعَ).

وأما ما له مصدرٌ يُوقِع الإتيانُ به في اللَّبْس فالإتيان في موضعه بـ (ما) المصدرية بمنزلة الإتيان بالمصدر نفسِه، إذ هما في المعنى كالمترادِفَيْن (1)، ولذلك يصرِّح سيبويه في الحرف المصدري أنه اسمٌ اعتباراً بتأويله مع ما بعده بالاسم (2).

وإذا أُتِي بـ (ما) والفعلُ بعدهما مبنيٌّ للمفعول لم يَبْق لَبْس، كما أنه إذا أُتِيَ بعدها بالفعل المنفيِّ لم يَبْق لَبْس، ولكن لفظ الناظم لا يُعطي هذا الحكمَ بخصوصه، ولا يُفْهَم منه، فالاعتراض متمكِّن هنا، لا سيما بالفعل المنفيِّ، فإن في جواز نحو (ما أَكْثَر ما لَمْ يَقُمْ زَيْداً) نظراً.

ولا أعلم الآن في المسألة نَقْلاً اَقْتَفِى اثرهَ، ولكن لا يُعد في القياس أن تَدخل (ما) على الفعل المنفي كما تَدخل المصدريَّةُ الظرفيَّةُ عليه، نحو ما جاء في الحديث:((لا يَزالُ الرجلُ في فُسْحَة مِنْ دِيتهِ مالَمْ يَسْفِكْ دَماً حَراماً)) (3) أو كما قال عليه السلام.

والجواب عن الثاني أن التعجُّب بـ (أَشَدَّ) ونحوه يأتي في مَعْهود الاصطلاح على وجهين، أحدهما أن يُقْصَد إليه أولاً في التعجُّب، فهذا يَجرى مجرى سائر أفعال التعجب، كأَحْسَنَ وأَفْضَلَ وأَكْرَمَ. فقولك:(ما أَكْثَر مَالَهُ، وما أَشَدَّ وَلَدَه) كقولك: ما أَحْسَنَهُ، وما أَفْضَلَ أبَاهُ،

(1) التَّرادُف: أن تكون الكلمتان أو الكلمات بمعنى واحد.

(2)

انظر الكتاب 3/ 119، وما بعدها.

(3)

البخاري- ديات: 1، ومسند أحمد: 2/ 94.

ص: 488

وما أَكْرَمَ وَلَدَهُ. وهذا لا اعتراضَ به لأنه غيرُ واقع خَلَفاً من غيره، ليُتوَصَّل به إلى التعجب مما لا يَتَأَتَّى البناء منه.

والثاني أن يكون التعجُّبُ بـ (أَشَدَّ) ونحوه توصُّلا واستِخْلافاً، حيث لا يتأَتَّى بناءُ التعجُّب من الفعل المذكر، وهذا لا يُؤْتى فيه إلا بالمصدر كما قال. والكلام هنا في هذا الثاني لا في الأول، وجميع ما اعتُرِض به من الأمثلة من القَبِيل الأول لا من الثاني، فلا إشكال.

وعن الثالث أن المصدر المراد هنا هو الموصول، وقد تقدَّم في بابه أن اسم المصدر يَجري مَجراه، لما فيه من معناه، فليكنْ هنا كذلك بمقتضى ذلك الحكم المتقدَّم.

ويقال أيضا: إن أسماء المصادر في الاستعمال، بالنسبة إلى المصادر، قليلة، فاعَتبر الأصلَ الكثير، وتَرك ما عداه مسكوتاً عنه حتى يُلحقه به مَن أراد إلحاقَه بالقياس.

وعن الرابع أن (ما أَشَدَّ) و (أَشْدِدْ) إنما يَخْلُفان ما كان بمعناهما، مما تعذَّر بناء (أَفْعَل) منه، فإن التعجُّب لا يمكن إذا كان الفعل غيرَ قابل للفَضْل، فلا يقال: ما أَمْوَتَ زيداً، إذ الموتُ لا يزيد ولا ينقص، لكن يَبْقَى أن يقال: هل يقال: ما أمْوَت زَيْداً (1)، على معنى: ما أَشَدَّ مَوْتَه، أو ما أَسْهَلَ مَوْتَه، أو ما أَسْهَلَ، أو نحو ذلك. أو ما أَمْوَتَ أَهْل بلدةِ كذا، بمعنى: ما أَكْثَرَ مَوْتَهم، إذا نَزَل بهم الموتُ الكثير.

فيقال: مِثْلُ هذا لا يقال حتى يُسمع، ولم نَسمع العربَ قالت: ما أَمْوَتَ كذا، بمعنى: ما أَشَدَّ أو ما أَكْثَر، أو نحوهما، كما قالوا في النوم: ((هو أَنْوَمُ من

(1) في (ت)((ما أَمْوَتَ بلدةَ كذا)).

ص: 489

فَهْدٍ (1) و ((أَنْوَمُ من عَبُّودٍ (2))) و ((نَؤُومٌ)) على اعتبار الكثرة أو الطُّول، أو كما قالوا: ما أَضْرَبَهُ، وما أَمْشَاهُ، على معنى الكثرة/، ولذلك جاء: ضَرَّابٌ وَشَّاءٌ.

535

فإذا ثَبت استعمالُهم لذلك جاز لنا التعجب على ذلك المعنى المستعمَل، وإلَاّ لم يَجُزْ، فصار إذاً (ما أَمْوَتَ كذا) - بمعنى: ما أَشَدَّ، أو أَكْثَر، أو نحوهما- مهملاً، لإهمال الفعل الذي يُبنى منه، فإذا قُصِد قَصْدُه (3) أُتَىِ بما يدل على معناه، وهو (أَشَدُّ) أو نحوه، فـ (أَشَدُّ) ونحوه إذاً إنَّما ناب عن فِعْل بمعناه، فلذلك عَبَّر الناظم بعبارة ((يَخْلُفُ)).

ولم يَقصد النحويون قَطُّ بالإتيان بـ (أَشَدَّ) ونحوه أن يَدُلَّ على معنى مالا يُتعجَّب منه، وهذا المعنى جارٍ في غير هذا الموضع من الشروط المذكورة، وهو مما نَبَّه على أصله بعضُ المتأخِّرين قال: المعتبَر فيما يجوز التعجُّب منه ومالا يجوز إنَّما هو مدلولُ اللَّفْظة، فأما أن يقال: ما أَفْعَلَ كذا، بمعنى: ما أَكْثَرَ فِعْلَهُ- فتحريفٌ لا يَسُوغ، فليس ما جاز فيه (ما أَكْثَرَ كذا) يجوز فيه (ما أَفْعَلَهُ).

والدليل على ذلك أنهم لا يقولون: ما أَعْمَى زيداً؛ لأجل فساد معناه، فإنْ فَرضْتَ أن يكون (العَمَى) في بلدٍ ما كثيراً شائعاً، أو غيرُه من

(1) الدرة الفاخرة 2/ 400، والعسكري 2/ 318، والميداني 2/ 355. قال حمزة الأصبهاني:((لأن الفهد أنوم الخلق، وليس نومه كنوم الكلب، لأن الكلب نومه نعاس، والفهد نومه مصمت)).

(2)

الدرة الفاخرة 2/ 402، والفاخر 135، والعسكري 2/ 319، والميداني 2/ 355. وكان عبّود عبداً حطاباً أسود، فغبر في محتطبه أسبوعاً لم ينم، ثم انصرف فبقي أسبوعاً نائماً، فضرب به المثل عن ثقل نومه، فقالوا: ((قد نام نومة عبود)).

(3)

يقال: قَصَدَ قَصْدَه، أي نحا نَحوه.

ص: 490

الخِلقَ، كما يَحِكيِ الناسُ كثيراً من ذلك عن كثير من البُلدانَ- لم يصح التعجُّب أيضاً، وإن كان معنى الكثْرة شائعاً متصورا. أو يكون الموتُ شائعاً في بلدٍ ما (1)، كما يكون في المواضع الوَبِئية- فلا يجوز أن يقال في ذلك: ما أَمْوَتَ أهل مَوضِع كذا، وإن كان معنى الكثرة شائعا.

فليس ما يُعطيه معنى (ما أَفَعْلَهُ) منحصراً فيما تُعطيه الكثرةُ خاصَّة، بدليل ما قَدَّمْتُه. قال: وهذا موضع خَفِيٌّ ينبغي لأن يُنَتَبَّه له.

والجواب عن الخامس أن الَّماع إذا أثبته ثقةٌ لم يُطْرَح بسبب أن ثقةً آخر لم يُثْبِته لعدم اطِّلاعه عليه، بل القاعدة المستمِرَّة أن المُثْبِت في أمثال هذه الأمور مُقَدَّم على النافي، لأنه النَّافي لم يَقُل: إنه غير موجود بإطلاق، وإنما قال: لم أَحْفَظْه، أو لا أَعْلَمُه، وعدمُ علمِه لا يدلُّ على عَدَمِه، فمن هنا كان قول المثبِت أولى.

ثم إن ما أثبته بعضُهم إنَّما أثبته غير مقيد بندُور، فيحُمل على إطلاقه حتى يَدُل دليل على الندُّور، أو أنه لغةٌ لبعضٍ لا يَستعمله الباقون، فحينئذٍ يكون ما قال في السؤال.

ومثل ذلك لا يُوجد في الاستقراء إلا نادرا، فلا يُعْبَأ به، فلهذا أطلق الناظم القولَ في مجيء الفعل الثلاثي، بناءً على أن النُّدور فيما استُعمل منها لا يثبت إلا نادرا. وعلى هذا الأصل اعتَمد في ((الشَّرح)) (2) حيث زعم أن أكثر النحوييِّنِ يَجعلون من شواذِّ التعجُّب: ما أَفْقَرَهُ، وما أَشْهَاهُ، وما أَحْيَاهُ، وما أَمْقَتَه، بناءً على أن الثلاثي منها لم يُستعمل. قال: وليس الأمر كما زعموا، بل استَعملت

(1) هذه الجملة معطوفة على قوله: ((أن يكون العَمَى في بلدٍ ما كثيرا شائعا)).

(2)

شرح التسهيل للناظم (ورقة: 145 - ب).

ص: 491

العرب: مَقُتَ، وفَقُرَ، وشَهِى، وحَيِىَ.

ثم قال: وممَّن خَفِىَ عليه استعمالُ (حَيَىَ) بمعنى (اسْتَحْيَا) أبو علي الفارسي، وممن خَفِىَ عليه استعمال (فَقُر، ومَقُت) سيبويه قال: ولا حُجَّة في قول من خَفِىَ عليه ما ظهر لغيره، بل/ 536 الزيادةُ من الثِّقة مقبولة.

وقد ذكَر استعمالَ ما ذُكر جماعةٌ من أئمة اللغة. يَعني: كابْن سيَدَه، وابن القُوطيَّة وابن القَطَّاع وغيرهم (1)، ونقلوها عن أئَّمة، فإذا ثبت هذا وجب المصير إليه وطَرْح ما عجاه. وما ذَهب إليه هنا قد ذَهب غيرُه إلى ذلك (2).

ولكن ههنا قاعدةٌ هي من المتقدِّمين على بَال، ويُغلفها أكثرُ المتأخِّرين إلا من فَهم مقاصد المتقدِّمين، وحَذَا حذوَهم، وذلك أن إثبات السَّماع من حيث إنه سُمع، أو نَفْىَ السَّماع من حيث لم يَبْلُغ النافي ذلك - سَهْلٌ يسير، لأنه نَقْل وإخبار عن أمرٍ محسوس لا يُنكره عاقل.

وأما إثباتُه أو نَفْيه، من جهة ما يُقاس عليه أو لا يقاس، فليس بالسَّهْل ولا باليسير، فالذين اعتنوا بالقياس والنَّظَر فيما بُعَدُّ من صُلْب

(1) ابن سيده هو علي بن أحمد بن سيده اللغوي الأندلسي أبو الحسن الضرير. كان حافظا لم يكن في زمانه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بها، متوفراً على علوم الحكمة. صنف: المحكم والمخصص في اللغة، وشرح إصلاح المنطق، وشرح الحماسة، وشرح كتاب الأخفش وغير ذلك (ت 458 هـ) بغية الوعاة 2/ 143.

وابن القطاع هو علي بن جعفر بن محمد عبدالله السعدي، المعروف بابن القطاع الصقلي. كان إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب، وصنف: الأفعال، وأبنية الأسماء، وحواشي الصحاح، وتاريخ صقلية، والدرة الخطيرة في شعراء الجزيرة (ت 515 هـ). بغية الوعاة 2/ 153.

وتقدمت ترجمة ابن القوطية.

(2)

أي إليه.

ص: 492

كلام العرب ومالا يُعد لم يُثبتوا شيئاً إلا بعد الاستقراء التام، ولا نَفَوْه إلا بعد الاستقراء التام، وذلك كلُّه مع مُزاولة العرب، ومُداخلة كلامها، وفَهْمِ مقاصدها، إلى ما يَنْضَمُّ إلى ذلك من القرائن ومقتضَيات الأحوال، التي لا يقوم غيُرها مقامَها، فبَعدَ هذا كلِّه ساغ لهم أن يقولوا: هذا يُقاس، وهذا لا يُقاس. هذا يقوله مَن لا يقول كذا. وهذا ممَّا استُغني عنه بغيره، إلى غير ذلك من الأحكام العامَّة التي لا يُفْضِي بها إلا من اطَلع على مآخذ العرب، وعَرف مآل مَقاصدها. وهذا أمر مقطوع به عند أرباب هذا الشأن. ومَن فَهم كلام الأئمة في تَوَالِيفهم لم يَخْفَ عليه ما ذُكر.

وإذا ثبت هذا فإنهم لم يَدَّعُوا في (ما أَفَقَرَهُ) وأخواته أنه شاذٌ إلَاّ بعد أن عرفوا بالاستقراء التامِّ أن قائله لا يتكلم ب (فَقُرَ) ونحوه، وإن تكلَّم به ففي شِعْرٍ أو نادِر كلام، ومالا يَنْبَنِي عليه القياس، وإلا لكان نفيهم لذلك نفياً لما لا عِلْمَ لهم بنَفْيه ولا إثباتِه، وهذا لا يصح أن يُنسب إلى عَدْلٍ منهم على حال، كما لا يُنسب مثلُ ذلك إلى فَقِيهٍ أو أُصُوِلىٍّ أو غيرهما.

ومن هنا قال بعض المحقِّقين في مسألةٍ من مسائل التعجُّب: إثباتُ أنهم تعجَّبوا من فِعْلٍ مَا بأن يُسْمَع التعجُّب منه هَيِّنً سَهْل، وأمَّا نَفْي أنهم لا يتعجبَّون منه بأن لم يُسْمَع صَعْبٌ عسِرٌ شاقٌ، إلا على إمامٍ موثوقٍ به، قد فَهم من قرائِن ومجموعِ أحوالٍ وظواهَر تعمُّدَهم لترك ذلك، وما أعزَّ ذلك وأقلَّه. هذا ما قال، وهو واضح.

فمن كان مثلَهم فواجبٌ أن يُقبل قولُه نفياً وإثباتاً، وهم قد قالوا: إن (ما أَفْقَرَهُ) وأخواته شاذٌ، لعد جريَانه على الثلاثي، فلم يقولوا ذلك إلا بعد فَهْمه من العرب كذلك، فإذا سُمع بعد ذلك الثلاثيُّ فالواجبُ على المتأخِّر التوقُّفُ حتى يَدخل من حيثُ دَخل المتقدِّم، فإن وجَد الأمر مُسْتَتِباً مطَّرِداً على خلاف

_________

ص: 493

ما قال الأول لم يَسَعْه إلا مخالفتُه، وإن لم/ يَجِده كذلك فَلْيَتوقَّف، فإن اجتمع على ما

537 قال الأولُ أئمةً مثلهُ فينبغي تقليدُهم، لأنهم عن السَّماع يُخْبرون لا عن آرائهم، وإلَاّ لم يَقْطع في المسألة بنفيٍ ولا إثبات غن حصل له في الاستقراء شَكٌّ يَستند إلى سبب، وإن لم يكن له سببٌ في الشك يَسْتَند إليه فالأَوْلَى الوقوفُ مع ما قال الأولُ، لأنه إنما حَكَم عن بَصِيرة، وهذا ليست له في المسألة بَصِيرةٌ يَستند إليها، والكلام هنا واسع، ومحلُّ بَسْطه ((الأصول)).

والحاصل أن ما استَدْرك المتأخرون هنا غيرُ مُخَلَّص (1). وابن مالك منهم.

فإن قيل: فإذا نَقل أهلُ اللغة هنا الثلاثي وإن لم يقيدِّوه بقلَّةٍ ولا نُدور، ولا اختصاصٍ بقومٍ دون قوم- فذلك دليل على كثرة استعمالها، وهكذا فَعلوا في أكثر ما تقدم، وإذا كان كذلك فهو دليل على صحة الاستدراك.

فالجوابُ أن أكثر اللغويِّين إنما يَنَقلون في السَّماع مطلقاً من غير تَتَبُّعٍ لهذه الأمور، وإنما يتعرضَّ لها من كان نحوياً في الغالب، ولا عَتْبَ عليهم، فإنهم سالكون سبيل مَجرَّد النَّقْل، ولا سِيَّما أهل النَّوادر منهم، والتفقُّهُ في المنقول مِن صناعةٍ أخرى.

فَلْيُتَحفَّظ الواردُ على أمثال هذه المسائل، فالمتقدم أعرفُ بمآخذ هذا الكلام من هؤلاء المتأخرِّين، ولذلك نَرى الحُذاق يعتنون بقواعد المتقدِّمين، ويَتَحامَوْن الاعتراض عليهم، بل يقلِّدون نقلَهم وقياسَهم، ويحتجُّون لهم ما استطاعوا، مراعاةً لهذه القاعدة، فَيظُن الشَّادِي (2) في النحو أن ذلك

(1) يقال: خَلَّص فلان الشِيء، إذا صَفَّاه ونَقَّاه مما يشوبه، وخَلَّص! الشيءَ: مَيَّزه من غيره.

(2)

الشَّادِي من الأدب أو العلم: الذي حَصَّل منه طَرَفا، وهو من: شَدَا يَشْدُو، شَدْواً.

ص: 494

من باب التعصُّب للمذهب، وليس كذلك فاعلم.

وقوله: ((يَخْلُفُ)) خبر للمبتدأ الذي هو ((أَشْدِد أو أَشَدَّ)) باعتبار حكاية اللَّفظ والإخبارِ عنه، وأفرد الضميرَ لأنه عطف بـ (أَوْ) المقتضِية لأحد الشيئين أو الأشياء.

و((بَعْضَ الشُّرُطِ)) مفعول ((عَدِمَ)) و ((ما)) واقعةٌ على الفعل المَبْنِّي منه صيغةُ التعجُّب، وهي موصولة عائدُها فاعلُ ((عَدِمَ)) والتقدير: ومصدرُ الفعل العادمِ بعضَ الشروط يَنْتَصب بعده، ويَنْجرُّ بالياء بعد ((أَفْعِلْ)).

وبالنُّدوُرِ احْكُمْ لِغَيْرِ ما ذُكِرْ

ولا تَقِسْ على الذَّي مِنْهُ أُثِرْ

يعني أن ما تقدم ذكره من الأحكام المشروطة وغير المشروطة هو القياس يَطَّرِد فيما سُمع ومالم يُسمع، وأما غير ذلك فاحكم بندُوره وقِلَّته، وأَثْبِتْه في قسم المسموع المأثور الذي يُوقَف على محلِّه ولا يُقاس عليه.

فممَّا جاء من المبنيِّ من غير فِعْل قولُهم في التفصيل: هو أحْنَكُ الشَّاتْينْ (1)، وآبل النَّاسِ كِّلهم (2)، وما أَفْرَسَهُ، وهو أَفْرَسُ النَّاس (3).

/ ومن المبنيِّ من غير الثلاثي: ما أَفْقَرَهُ، وما أَغْنَاهُ، وما أَحْوَجَهُ،

538

(1) أي أكلهما بالحنك (اللسان- حنك) وهو من شواهد سيبويه في الكتاب (4/ 100) وقد تقدم في الباب نفسه.

(2)

جاء من ذلك قولهم: آبَل مُن حُنَيْف الحناتم، وأبَلُ من مالك بن زيد مناة (انظر: فهارس الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة).

(3)

جاء من ذلك قولهم: أفرس من بِسطام، وأفرس من سمّ الفُرسان، وأفرس من صياد الفوارس، وأفرس من عامر، وأفرس من ملاعب الأسنة (انظر: فهارس الدرة الفاخرة).

ص: 495

وهو أَبْيَضُ من كذا، قال (1):

جَاريَةٌ بَيْضَاءُ في نَفَاضِ

مَائِسَةٌ في دِرْعِهَا الفَضْفَاضِ

ولم يقولوا: بَيِضَ، وقالوا:(سَوِدَ (2)) وقالوا: ((أسْوَدُ من القَارِ)) (3) وقال نُصَيْبٌ في (سَوِدَ) أنشده سيبويه (4):

سَوِدْتُ فَلَمْ أَمْلِكْ سَوَادِي وتَحْتَهُ

قَمِيصٌ من القُوِهيِّ بِيضٌ بَنَائقُهْ

وممَّا بُني من العَديِم التصُّرفِ قولهم: ما أَعْسَاهُ، وأَعْسِ بِه، بمعنى: ما أحقَّه، وأَحْقِقْ به.

وممَّا بُني من الوصف المصَوُغ على (أَفْعَل، فَعْلاءَ) قولهم: ما أَحْمَقَهُ، وما أَنْوَكَهُ، وما أَرْعَنَهُ، وما أَهْوَجَهُ، وما أَلدَّهُ، في أشياء من هذا قليلة.

(1) الرجز لرؤبة بن العجاج، وسبق أن ساقه الشارح في الباب نفسه برواية أخرى هي:

جاريةٌ في دِرْعها الفَضْفَاضِ تُقَطَّع الحديث بالإيماضِ

* أبيضُ من أخت بني أبَاضِ *

وبعد الأول في اللسان (نفض)

* تَنْهَضُ فيه أيَّما انْتِهاضِ *

والنَّفاض- بكسر النون- إزار من أزر الصبيان. ومائسة: متبخترة في مِشيتها.

(2)

ساقط من (ت).

(3)

القار: مادة سوداء صلبة، تسيلها السخونة، تتخلف من تقطير المواد القِطرانية، وهي الزِّفت.

(4)

الكتاب 4/ 57، والخصائص 1/ 216، وابن يعيش 7/ 157، 162، واللسان (سود، بنق) وسودت: اسودَّ لوني. ولم أملك سوادي: لم أجتلبه لأنه خِلقة. والقوهي: ضرب من الثياب البيض تنسب إلى قوهستان بفارس. والبنائق: جمع بنيقة، وبنائق القميص: العرا التي تدخل فيها الأزرار. ويريد القميص الذي تحت سواده قلبه وخلقه.

ص: 496

ومن ذلك جميعُ ما ذُكر في الأسئلة على النَّاظم فيما بُنِي من (أَفْعَلَ) ومن (فِعُل)(1) ونحو ذلك، فقد سبق منه أمثلةٌ كثيرة، وجميعها نادر في موضعه، يُحفظ حفظا، ولا يُقاس عليه حَسْبَما ارتضاه في هذا النَّظْم.

فإن قيل: ظاهر قوله: ((ولا تَقِسْ على الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ)) أَنَّه حَشْوٌ لا فائدة فيه، إذ كان صَدْر هذين المُزْدَوَجَيْن يَقضي بذلك، وهو قوله:((وبالنُّدوُر احْكُمْ لَغْيرِ ما ذُكِرْ)) فإنه إذا كان نادرا كان غير مَقيس فلم يُفد شيئا زائدا على ما تقدم، بل نقول: إن مجموع الشَّطْرَيْن حَشْو، لأن جميع ما تقدم ذكرهُ قياس، فلو تَرك التنبيهَ على ما عده لَفُهِمَ أنه غير مَقِيس بحكم مفهوم الشروط المذكورة، وذلك عَيْنُ ما ذكُر هنا، فهذان سؤلان، أحدهما: ما فائدة ذكر الشَّطرين؟ والثاني على تسليم أنه أَفَادَ بالشَطر الأول ما فائدة الثاني؟

فالجواب عن الأول أنك إذا تأملَّتَ ما تقدم في الشروط وجدتَ ما خرج منها على قسمين، منه ما قيل بأنه قياس، وذلك كما في البناء من (أَفْعَلَ) ومن فِعْل المفعول، فإن النحويِّين قد اعتَبروا السَّماع في ذلك، وكَثُر عندهم كثرةً يُقاس عليها، وقد اعتَبرها هو في ((التَّسْهيل)) (2). ومنه ما ليس بقياس اتفاقا، وذلك: ما أَعْسَاهُ، وأَعْسِ به، ونحو ذلك. فلو سكت عن التَّنبيه على النُّدور لَتَوهَّم الناظر فيه أنه إخلال، فأَشْعَر هنا أنَّ تَرْك ما تُرِك ليس بمَغْفُولٍ عنه، بل هو مُغْفَلٌ عَمْداً، غيرُ معتَبر في القياس قَصْداً.

وعن الثاني أن الشطر الأول أخبر عن حقيقة الأمر في ذلك المسموع المنبَّه عليه، وأنه نادر قليل، لا كثيرٌ كما يزعمه مَن ادَّعى القياسَ في تلك المسائل،

(1) يعني ما سمع من التعجب من الفعل الذي على وزن (أفعل) ومن الفعل المبني للمجهول.

(2)

التسهيل: 131.

ص: 497

وعادته أن يعبِّر بالقليل عما جاء في الكلام، ولم يَختص بالشِّعر. وقد تقدم التَّنْبيه على ذلك في مواضع. ويعبِّر أيضا بالنُّدور عما جاء في الكلام وهو مُحْتَمِلٍ للقياس عليه وعدمِه.

فلما كان الأمر كذلك حَرَّرَ ما عسى أن يُفهم له منه إجراءُ القيَاس بقوله: ((ولَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْه أُثِرْ)) اي لا تظن أنه مِمَّا يُقاس وإن كان قليلا، بل اعتَقِدْ أنه عندي في هذا الكتاب غيرُ مقيس بإطلاق/ وإن كان قد جَعل في ((التَّسهيل)) بعضَه قياسا (1)، وهذا المعنى يُحْتاج إلى

539 ذِكْره، فليس في الكلام حَشْو. وابن مالك ممَّا يَقْصد قَصْدَ هذه التَّنْبيهات، فلا تُهمل النظرَ في كلامه، والتأمُّلَ لمَنَاحِيه، فإن تحت كلامه دقائقَ محتاجاً إليها.

و((أُثِرَ)) معناه: ذُكِر ونُقِل عن العرب، يقال: أَثَرْتُ الحديثَ آثِرُه، إذا ذكرتَه عن غيرك، ومنه يقال: حَدِيثٌ مَأْثُور، أي يَنقله الآخِرُ عن الأول.

ومنه في حديث عمر رضي الله تعالى عنه ((فما حَلَفْتُ به ذَاكِرا ولا آثِراً (2))) أي: ولا مُخْبِرا عن غيري، يعني الحِلَفَ بأبيه. ثم قال:

وَفِعْلُ هَذَا الْبَابِ لَنْ يُقَدَّمَا

مَعْمُولُهُ ووَصْلَهُ بِه الْزَمَا

يعني أن الفعل في التعجُّب، وهو (أفْعَلَ، وأَفْعِلْ) يلزم طريقةً واحدةً مع معموله، فَيتقدم الفعلُ على معموله، ويَتأخَّر المعمولُ لزوما، ولا يتقدم المعمول.

(1) المصدر السابق: 131.

(2)

البخاري- الأيمان: 4، ومسلم- الأيمان: 1، والترمذي- النذور: 8، والنسائي: الأيمان: 5.

ص: 498

ويلزم أيضاً وَصْلُ المعمول بفعله، فلا يُفصل بينهما بفاصل سوى ما يَسْتَثنى. هذا عَقْد ما قاله.

فأما التقديم والتأخير فتقول: ما أَحْسَنَ زيداً قائماً، وأَحْسَنَ بزيد راكباً، فلا تقول: ما أَحْسَنَ راكباً زيداً، ولا أحْسِنْ راكباً بزيدٍ، ولا زيداً ما أَحْسَنَ، ولا بزيدٍ أَحْسِنَ، ولا ما زيداً أَحْسَنَ.

وكذلك لا تقول في قولك: (ما أَنْفَع مُعْطِيكَ عند الحاجة): ما أَنْفَع عندَ الحاجةِ مُعْطِيَكَ، ولا في قولك:(ما أَكْرَمَ مُعْطِيكَ ثَوْباً): ما أَكْرَمَ ثوباً مُعْطِيكَ.

فالحاصل أن الصورة التي ذكر أول الباب ملتَزمة، لا تتخلَّف إلا في موضع واحد، وهو الفَصْل بين الفعل ومعموله بالظرف والمجرور على خلافٍ فيه كما سيَذكره، وذلك أن العرب التَزمت في فِعْلَيِ التعجُّب وعدمَ التصُّرف، ولذلك لا يدُلَاّن على زمان/ كعَسَة ولَيْس، ونِعْم وبِئْس، ولا يأتي منهما مضارعٌ ولا أمر. وإذا لم يتصرَّفا في أنفسيهما لم يتصرَّفا في معمولاتهما بتقديم ولا تأخير.

وأيضاً لَمَّا جَرَيا مَجرى الأمثال كما تقدم صار التقديم والتأخير والفَصْلُ مُخْرِجا لهما عما قَصَدت بهما العرب، فلذلك قال سيبويه: ولا يجوز أن تقدم (عبَط الله) وتؤخِّر (ما) يعني في قولك: ما أَحْسَنَ عبدَ اللهِ، ولا تُزيل شيئاً عن موضعه، ولا تقول فيه: ما يُحْسِنُ، ولا شيئاً مما يكون في الأفعال سوى هذا (1).

فإذا كان هكذا فاللازم فيهما صيغةٌ واحدة.

وقد حَكى المؤلف الإجماعَ على منع الفصل بغير الظرف والمجرور، قال في ((الشرح)) (2): وكذا لا خلاف في منع إيلائهما ما يتعلَّق بهما من غير

(1) الكتاب 1/ 73.

(2)

شرح التسهيل للناظم (ورقة: 144 - ب).

ص: 499

ظرف وجار ومجرور، نحو: ما أَحْسَنَ زيداً مُقْبِلاً، وأَكْرِمْ به رجلاً، قال: فلو قلت: ما أَحْسَنَ مُقْبِلاً زيداً، وأكْرِمْ رجلاً به- لم يَجُز بإجماع. انتهى.

وفي هذا الإجماع نظر، فقد نُقل عن الجَرْمي في كتابه ((الفَرْخ)) (1) أن الفصل بين ((أَحْسَنَ)) ومعموله بالظرف والحال والمصدر قبيحٌ، وهو على قبحه جائز/ والمصدر أقبحُها عنده،

540 فالخلاف واقع كما تَرى، ولكن الجمهور على ما قاله.

وقد مَنع الناس (الإعمالَ)(2) في فِعْل التعجُّب فِراراً من الفَصْل بينه وبين معموله، فلا يقال عندهم: ما أَحْسَنَ وأَجْمَلَ زيداً، ولا ما أَحْسَنَ وأَجْمَلَهُ زيداً، لأن فيه مع إعمال الثاني الحَذْفَ، ومع إعمال الأول الفصلَ.

وأمَّا إذا كان معمولُ فِعْل التعجُّب ظرفاً أو مجرورا فقد قال فيه الناظم:

وفَصْلُهُ بَظْرفٍ أو بِحْرفِ جَرْ

مُسْتَعْملٌ والخُلْفُ في ذَاكَ اسْتَقَرْ

الضمير في ((فَصْلُه)) عائد على ((المعمول)) أي: وفَصْلُ المعمول، يريد: مِنْ عامِله الذي هو فعُل التعجُّب، قد استعملته العرب، ففَصلت بينهما بالظرف، وحرف الجر، أي مع مجروره، وجَرى ذلك في كلامها

(1) الجرمي هو أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي البصري النحوي. أخذ عن الأخفش وغيره، ولقى يونس بن حبي ولم يلق سيبويه. وأخذ اللغة عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وطبقتهم، وكان أثبت القوم في كتاب سيبويه، وعليه قرأت الجماعة. ،غليه وإلى أبي عثمان المازني- تلميذه- انتهى علم النحو في زمانهما. وكتابه ((الفرخ)) في النحو كتاب جيد، ومعناه: فرخ كتاب سيبويه. (ت 225 هـ)[إنباه الرواة 2/ 80].

(2)

يقصد بالإعمال التنازع في العمل.

ص: 500

جَرَياناً معتبَراً.

وقوله: ((مُسْتَعْمَلٌ)) يُشعر بأنه في كلامهم غيرُ قليل، بل هو موجود نظماً ونثراً. فأمّا النثر فمنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين مَرَّ بَعَّمار (1) فَمسح الترابَ عن وجهه وقال: أعْزِزْ عَليَّ أبا اليَقْظان أَنِّي أراكَ صَرِيعاً مُجَدَّلاً (2). ففَصَل بـ (عَلَيَّ) والمنادي.

وقال عمرو بن مَعْدِ يكَرِب: لله دَرُّ بني سُلَيْم، ما أَحْسِنَ في الهَيْجاء لقاءَها، وأَكْرَمَ في الأَزَمات عطاءَها، وأَثْبَت في المَكْرُمات بقاءَها.

وحكى المبرّد وابن السَّرَّاج (3): ما أَحْسَنَ بالرجل أن يفعلَ كذا.

وأما النظم فأنشد ابن الدهَّان (4):

وقالَ إمامُ المُسْلِمين تَقَدَّمُوا

وأَحْبِبْ إلَيْنَا أن يكونَ المُقَدَّمَا

وقال عمرو بن العاص السَّهْمي يَرثى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:

(1) هو عمار بن ياسر رضي الله عنه. وكان ذلك بعد موقعة صفين سنة 37 هـ وانظر: ارتشاف الضرب (1043).

(2)

في (ت)((منجدلا)).

(3)

سبقت ترجمتها، وانظر: المقتضب 4/ 187، وأصول ابن السراج 1/ 126.

(4)

ابن الدهان هو سعيد بن المبارك بن علي ناصح الدين بن الدهان النحوي، كان من أعيان النحاة المشهورين بالفضل ومعرفة العربية. صنف شرح الإيضاح، وشرح اللمع لابن جني وغيرهما (ت 569 هـ). بغية الوعاة 1/ 587. والبيت للعباس بن مرداس، من قصيدة قالها في غزوة حنين، ديوانه 102، وهو من شواهد التصريح 2/ 89، والهمع 5/ 57، 60، 6/ 287، والأشموني 3/ 19، والعيني 3/ 656، 4/ 593، والدرر 2/ 119، 121، 240.

ص: 501

غَداةَ نَعَى النَّاعِي النّبِيَّ محمَّداً

فأعْزِزْ عَلَيْنَا بالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ

وأنشد المؤلف (1):

خلِيلَيَّ ما أَحْرَى بذِي اللُّبُ أن يُرَى

صَبُوَرا ولَكِنْ لا سَبِيلَ إلى الصَّبْرِ

وأنشد أيضا أبياتاً أُخَر لم أقِّيدها.

والذي يَعْضُد ذلك من جهة القياس أن الفَصْل بالظرف والمجرور في أبوب العربية مُغْتَفَر محتَمل فيما هو أشدُّ من هذا، وهو الفصل بهما بين المضاف والمضاف إليه، وهما كالشِيِء الواحد، فهذا أشدُّ من الفصل بهما بين معمولٍ وعاملٍ ليسا كالشيِء الواحد.

وأيضاً فالقياسُ على (بِئْسَ) مع معمولها مع أنها أضعف من فعل التعجُّب، وقد ورد الفصلُ فيها في قول الله تعالى {بِئْسَ للظَّالِمينَ بَدَلاً (2)} فإذا جاز الفصل في (بِئْس) فهو في فعل التعجُّب أولى.

وهذا التقرير محتِمل لأن يكون معتبراً في القياس، فيُقاس الفصلُ بالظرف والمجرور، ولأَن يكون غيرَ معتَبر لقلَّة ما جاء في السَّماع من ذلك.

ولذلك- والله أعلم- لم يَقطع هنا الناظمُ بأحد الوجهين، وإنما بَيَّن أن الفصل بالأمرين قد استُعمل. ثم حكى [الفصل قياساً (3)] وذكر الخلافَ في

(1) الأشموني 3/ 24، والعيني 3/ 662. ويقال: ما أحراه بكذا، أي ما أجدره به.

(2)

سورة الكهف/ آية 50.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت) و (س).

ص: 502

القياس على ما سُمِع بقوله: ((والخُلْفُ في ذَاك اشْهَرْ)) أي في جواز الفصل قياساً.

وذكر في ((التسهيل)) وشرحه (1) / أن الجواز مذهب الفَرَّاء والجَرْمِيِّ والفارسيِّ 541 وابن خَرُوف والشَّلَوْبِين (2). ومن المُجيزِين ايضا الزجَّاجُ والسِّيرَافي (3).

وممَّن نُقل عنه المنعُ الأخفشُ، ونَقل السِّيرافي عن المبّرد المنعَ، وانظر في ((المقتضب)) (4) ونَسَبه الصَّيْمري (5) لسيبويه، وإنَّما تعلَّق بقوله:((ولا تُزيل شيئاً عن موضعه (6))). وذهب إليه طائفة دون مَنْ ذَكر. والأمر في المسألة محتِمل كما تقدم.

وهنا مسألتان، إحداهما أنه لما نَصَّ على منع الفصل بغير الظرف والمجرور كان ظاهراً في مخالفة ابن كَيْسان (7) حين أجاز الفصل بـ (لولا) بين الفعل ومعموله، نحو: ما أَحْسَنَ، لولا بُخْلُهُ، خُلُقَ زيدٍ. قال في

(1) التسهيل: 131، وشرحه للناظم (ورقة: 144 - ب).

(2)

سبقت تراجمهم.

(3)

سبقت تراجمهما.

(4)

قال في المقتضب (4/ 178): ((ولو قلت: ما أحسن عندك زيداً، وما أجمل اليومَ عبد الله- لم يجز، وكذلك لو قلت: ما أحسن اليومَ وجهَ زيد، وما أحسن أمسِ ثوبَ زيد، لأن هذا الفعل لما لم يتصرف لزم طريقة واحدة، وصار حكمه كحكم الأسماء)).

(5)

بنظر: التبصرة والتذكرة 1/ 268. والصيمري هو أبو محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري النحوي. صنف كتاب ((التبصرة والتذكرة)) في النحو: حققه الدكتور فتحي علي الدين (مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى عام 1402 هـ-1982 م).

(6)

الكتاب 1/ 73.

(7)

انظر: التسهيل: 131.

ص: 503

((الشرح)) (1): ولا حجة على ذلك.

ولم يُنَبِّه على الفصل بـ (كان) بين (ما) والفعل، لأنه قد تقدم ذلك في ((باب كان)) في قوله:

وقَدْ تُزَادُ كَانَ في حَشْوٍ كَمَا

كَانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَا

وأمَّا: ما أَصْبَح اَبْرَدَهَا، وما أَمْسىَ أَدْفَأَهَا- فيُشَكُّ في كَونْه محكياً من كلام العرب، فإن ابن السَّراج (2) والسِّيرافي لم يُورِداه على أنه مسموع، ولكن على أن قوماً من النحويِّين أجازوا ذلك، ورَدَّاه.

وثبت في مَتْن الكتاب من كلام الأخفش: ((وقالوا: ما أَصْبَح أَبرَدَهَا، وما أَمْسَى أَدْفَأَهَا (3))) وإنما يَعْنِي النحويِّين لا العرب، ولو عَنَى العرب لم يَجُز لأبي بكر (4) ولا لغيره رَدُّه.

وكلام الأخفش في كتابه ((الأَوْسَط)) يدل على أنه لم يَحْكِه. وقد حمله ابن خروف على أنه سَماع، وضَعَّفه بعضُ المتأخرين، فإذاً لا اعتراض على الناظم بَترْك التَّنْبيه عليه.

والثانية انه أطلق القول بجواز الفَصْل بالظرف والمجرور، ولم يبيِّن ان الجواز مخصوص بما إذا كان متعلِّقاً بفعل التعجب، إذ قال: ((وفَصْلُه بظَرْفٍ

(1) شرح التسهيل للناظم (ورقة 145 - أ).

(2)

قال ابن السراج في الأصول (1/ 125): ((وقد أجاز قوم من النحويين: ما أَصْبَح أبردها، وما أمسى أدفأها، واحتجوا بأن (أصبح وأمسى) من باب ((كان)) فهذا عنيد غير جائز، ويُفسد تشبيههم ما ظنوه أن (أمسى وأصبح) أزمنة مؤقتة، و ((كان)) ليست مؤقتة، ولو جاز هذا في (أصبح وأمسى) لأنهما من باب ((كان)) لجاز في (أضحى، وصار، ومازال))).

(3)

انظر: حاشية الكتاب 1/ 73.

(4)

يعني أبا بكر بن السراج.

ص: 504

أوْ بَحْرفِ جَرُّ .. مُسْتَعْمَلٌ)) ولم يقيِّد، فاقتَضى ذلك جوازَ: ما أنَفْعَ عِنْدَ الحاجةِ مُعْطِيَكَ، وما أَحْسَنَ في الخير مُوافِقَكَ، على أن يكون الفاصل متعلقاً بالمعمول. وهذا غير جائز على ما نَقله المؤلف.

ومعلومٌ أنه لم يُرِد من الفصل إلا ما كان من قبيل ما تقدَّم من الشواهد، مَمَّا الفاصلُ فيه متعلِّق بفعل التعجب لا بغيره، فكان إطلاقُه غيرَ مطابق لمراده، فكان غير مَستقيم، ولأجل هذا قال في ((التسهيل)): ولا يَليهما غيرُ المتعجَب منه إن لم يتعلَّق بهما، (1) ولم أجد الآن له في هذا عذْراً، فلو قال عِوضَ ذلك:

وفَصْلَ مَعْمُولٍ لَهُ ظرفاً ومَا

ضَاهَى أَجِزْ والخُلْفُ فيه عُلِمَا

أو ما أَعْطى هذا المعنى لَصَحَّ، ويكون ضمير ((له)) عائداً إلى الفعل في قوله:((وفِعْلُ هَذا البابِ لَنْ يُقَدَّمَا)) و ((ظَرْفاً)) حال، أي أَجِزْ أن يَفْصِل معمولُ فعل التعجب حالة كونه ظرفاً أو ما ضَاهَاه، وهو المجرور.

(1) التسهيل: 131.

ص: 505