المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌النعت لما تكلم الناظم رحمه الله على أحكام المرفوعات واستوفاها، ثم - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٤

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌النعت لما تكلم الناظم رحمه الله على أحكام المرفوعات واستوفاها، ثم

‌النعت

لما تكلم الناظم رحمه الله على أحكام المرفوعات واستوفاها، ثم على أحكام المنصوبات، ثم على أحكام المجرورات، وذلك [بحسب العوامل المتصرِّفة أولا، ثم](1)، بحسب العوامل غير المتصرفة ثانيا، أخذ الآن يتكلم في أحكام التوابع لتلك المعمولات، وأتى أولا بحكم عام يشمل التوابع كلها، ويعرَّف بمعنى التابع واسمِه فقال:

يَتْبَعُ في الإعْرابِ الاسْمَاءَ الأُوَلْ

نَعْتٌ وتَوْكيدٌ وعَطْفٌ وبَدَلْ

يعني أن هذه الأنواع الأربعة المذكورة، وهي النعت والعطف والتوكيد والبدل، حكمها أن تَتبْع الأسماء المذكورة قبلها في الإعراب مطلقاً من غير تقييد.

وهذه القاعدة تشمل حكمين عامَّينْ لجميع التوابع، ومن أجلهما سُمِّيت توابع.

أحدهما لزوم التَّبَعية في الإعراب، فالأنواع الأربعة غير خارجة عن هذا الحكم، فتقول في النعت: مررتُ بزيدٍ العاقلِ، وفي التوكيد: مررتُ بزيدٍ نفسهِ وفي العطف: مررتُ بأبي عبدِ الله زيدٍ وأخيه، وفي البدل: مررتُ بزيدٍ أخيك. وكذلك في النصب والرفع.

فهذه التَبعَية التي هي في الإعراب شاملة لجميعها.

(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (س، ت).

ص: 606

ولها تَبَعيَّةٌ أخرى لكنها غير شاملة، فإن النعت تابع في التعريف والتنكير، بخلاف غيره. والتوكيد تابع للمعرفة خاصة على الأمر العام بخلاف غيره.

والمعطوف تابع للمعطوف عليه بواسطة حرف التَّشريك، بخلاف غيره.

والبدل غيرُ لازمٍ فيه ذلك كلُّه، بل يَتبع النكرة وهو معرفة وبالعكس، ولا يكون فيه حرف، فإذاً قد صار كل نوع منها مختصاً بتعبيَّة أخرى.

والحكم الثاني لزومُ كَوْنِ هذه الأنواع مذكورةً بعد الأسماء الأُوَل، لأنه قَيَّد المتبوعات بكونها الأَول في الذِّكر، فلابد أن تكون التوابع ثوانيَ عنها في الذِّكر، فلا يتقدم إذاً التابعُ على المتبوع، كما لا يختلفان في الإعراب، وإذا كان الحكم هذا فلا يجوز إذاً أن تقول: مررتُ بالعاقِل زيدٍ، و ((زَيْد)) هو المتبوع، بل يصير حكمُ (زَيْد) آخرَ، وهو أن يكون بدلاً أو عطفَ بيان. ((والعاقِل)) صفةٌ على أصلها، قائمةُ مقامَ موصوف متقدَّم، حُذف للعلم به، لا صفةُ لـ (زيْد) المتأخِّر.

ومثل ذلك قوله تعالى: {إلىَ صراطِ الْعَزيزْ الحَميدِ، اللَّه} (1)، على قراءة الخفض، وهي لغير نافع وابن عامر (2).

وكذلك العطفُ لا يجوز تقديمُ المعطوف على المعطوف عليه إلا في ضرورة شِعْر، كقول الشاعر ويُنسب للأحوص (3):

(1) سورة إبراهيم عليه السلام/ آية 1، 2.

(2)

وقرأ نافع وابن عامر (اللَّهُ) بالرفع [السبعة 362].

(3)

ديوانه 173، والخصائص 2/ 386، وشرح الرضي على الكافية 1/ 246، 356، والخزانة 1/ 399، والهمع 3/ 39، 240، 4/ 308، والدرر 2/ 105. وذات عرق: موضع بالحجاز. وسلم على النخلة لأنها معهد أحبابه، وملعبه مع أترابه، لأن العرب تقيم المنازل مكان سكانها فتسلم عليها، وتكثر من الحنين إليها. ويحتمل أن يكون كنى عن محبوبته بالنخلة، لئلا يشهرها، وخوفا من أهلها وأقاربها.

ص: 607

أَلَا يا نخْلَةً مِنْ ذَاتِ عرْقٍ

عَلَيْكِ ورَحْمَةُ اللهِ السَّلامُ

إذا لم تُجعل ((ورحمةُ الله)) معطوفاً على الضمير في ((عَلَيْكِ)) وقولِ ذي الرُّمَّة، أنشده سيبويه (1):

كَأَنَّا على أَوْلَادِ خَطْبَاءَ لَاحَهَا

ورَمْىُ السَّفَا أنْفَاسَهَا بِسَهَامِ

جَنُوبٌ ذَوَتْ عَنْها التَّنَاهِي وأَنْزَلَتْ

/ بها يومَ ذَبَّابِ السَّبِيبِ صِيَامِ 583

أراد في الأول: عليكِ السلامُ ورحمةُ اللهِ، وفي الثاني: لَاحَها جَنُوبُ وَرْمُى السَّفَا.

وقول الناظم: ((يَتْبَعُ في الإعْرابِ)) ولم يَخُصَّ وجهاً من وجوه الإعراب- إنما أطلقه استظهاراً على النحو: علمتُ زيداً قائماً، ورأيتُ

(1) ديوانه ذي الرمة 610، والكتاب 2/ 99، والأشموني 3/ 118، واللسان (سهم) والرواية فيه كما في الديوان وغيره ((أولاد أحقب)).

يصف إبلا سريعة ضامرة، ويشبهها بأولاد أحقب، وهي الحمر الوحشية التي في بطنها بياض مكان الحقيبة. ولاحها: أضمرها وغيرها. والسفا: شوك البهمي، والحمر تكلف بها.

وأنفاسها: أنوفها، لأنها مخارج النفس. والسهام: وهج الصيف وغبرته. يقول: تأكله وقد هاج ويبس فيصيب مشافرها وأنوفها فيدمِيها.

والجنوب: ريح تقابل الشمال. وذوت: جفت ويبست. وعنها: بسببها. والتناهي: الغدران واحدها تنهبة، وسميت بذلك لأن السيل ينتهي إليها من الوادي ويستقر بها. وقوله:((أنزلت بها يوم)) معناه أن الجنوب أنزلت الحمير يوماً تذب فيها بأذنابها الذباب الذي يحوم حولها من شدة الحر. والسبيب من الفرس وغيره: شعر الذنب والعرف والناصية. وصيام: قائمة مكانها لا تبرحه، ممسكات عن الرغى وهي صفة لأولاد أحقب. وعلى رواية الشاطبي (خطباء) فالخطباء من حمر الوحش هي الأتان التي لها خط أسود على متنها والذكر أخطب.

ص: 608

زيداً راكباً، وما أشبهه، فإنها، وإن كانت تابعة لما قبلها في الإعراب الحاصل فيها، لم يَحْصُلْ فيها التَّبَعيَّة المطلقة، فإن هذه الأمثلة، أعني (قائماً، وراكباً) وسواهما من ثَوَانِي المفعولات لا تَتْبع في غير ذلك الإعراب الخاص، ألا ترى أنك إذا قلت: عُلِم زيدٌ قائماً، ورُئِيَ زيدٌ راكباً، انحرمت التَّبَعيَّة، فدل على أنها في الحقيقة ليست بتَبَعِيَّة، وإنما كانت موافقةً في الإعراب اتَّفَاقِيَّة، فإنَّما يريد بقوله:((في الإعْرابٍ)) العمومَ في وجوهه كلها. وذكر أنواعاً أربعة، وهي في الحقيقة خمسة، يُزاد عليها عطفُ البيان، وقد كره وبَوَّب عليه اجتراء بلفظ ((عَطْفٌ)) لأن العطف على وجهين، عطفُ بيان، وعطفُ نَسَق، والعطف يقال عليهما باشتراكٍ لا بتَوَاطُؤٍ (1)، إذ لم يشتركا في معنى كُلِّي إلا في المعنى الذي اشتركت فيه التوابعُ كلها، فكان الأَوْلَى أَلَاّ يأتي لهما بلفظ واحد، لكن ذلك قريب، والخَطْب فيه يسير.

وقد يَرِد عليه أن كلامه يقتضي أن التوابع مختصة بالأسماء، إذ حَكَم أن التوابع تتْبع الأسماء الأُوَل، فكأنه عنده حكمٌ ثالث مضافٌ إلى الحكمين المذكورين قبل هذا، وإلَاّ فما الفائدة في ذكر الأسماء هنا؟

وإذا كان ظاهر كلامه أنه حكم ثالث لازم انْتَقض عليه بأن العطف يكون في الأسماء والأفعال، وقدَ نَصَّ على ذلك في باب ((العطف)) إذ قال:((وعَطْفُكَ الفِعْلَ على الفِعْل يَصحْ)).

والبدل أيضاً يكون في الفعل كما يكون في الاسم، كقولك: إن تُكْرِمْنيِ تُحْسِنْ إلىَّ أشكرْك. ومن قوله تعالى: {ومَنْ يَفْعلْ ذَلِكَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ

(1) المشترك هو اللفظ الذي وضع لأكثر من معنى وضعا مستقلا، مثل العَين، والمتواطئ هو اللَفظ الذي وضَع لمعنى كلي يشمل أفراده بدون تفاوت، مثل: الحيوان، والإنسان.

ص: 609

العَذَابُ يومَ القِيَامَة وَيخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (1). وفي هذا أيضاً شاهدُ عطفِ الفعل (على الفعل)(2).

وكذلك التوكيدُ يكون في الاسم والفعل والحرف والجملة، وذلك قِسْمُ الَّلفْظي.

وإنَّما يخلو من هذا النعتُ وعطفُ البيان، فلا يكونان إلا في الاسم.

وقد نَصَّ الناظم على البدل في الفعل بقوله: ((ويُبْدلُ الفِعْلُ من الفِعْل)) البيتين (3)، وكذلك بَيَّن في التوكيد اللفظي (4)، فأشكل قولهُ هنا ((الأسماءَ الأُوَلْ)).

والجواب أن كلامه لا يقتضي اختصاصَ التوابع بالأسماء، لأن ذلك إنما هو بمفهوم الَّلقَب المرفوض عند أهل الأصول (5)، فذكرُه الأسماءَ ليس له مفهومٌ ولا مُقْتَضى غيرُ ما يدلُّ عليه صريُح لفظه، فلا تَنْتَفى التَّبَعيَّةُ عن الفعل وغيرِه بذلك، بل يبقى مسكوناً عنه، حتى إذا شَرع في كل واحد من التوابع على التفصيل بَيَّن ما يَحتاج إليه من ذلك بعد ذكر التَّبعيَّة للأسماء التي جَعلها

أصلاً/ وإنَّما المفهومُ الصحيح ما اقتضاه

584

(1) سورة الفرقان/ آية 68، 69.

(2)

ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.

(3)

هو بيت واحد، وهو قوله:

ويَبْدَلُ الفِعْلُ من الفِعْلِ كمَنْ يَصِلْ إلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَن

(4)

يقصد قول الناظم في باب ((التوكيد)):

وما من التوكيدِ لَفْظِيُّ يجي مُكَرراً كَقْولكِ ادْرُجِي ادْرُجيِ

(5)

مفهوم اللقب قسم من أقسام مفهوم المخالفة. ومفهوم المخالفة-عند الأصوليين- هو أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق في الحكم، ويسمى دليل الخطاب.

ومفهوم اللقب هو تخصيص اسم مشتق بحكم، مثل قولنا: محمد رسول الله، فإن هذا المنطوق لا يفهم منه أن غير محمد ليس برسول. وعامة الصوليين يرفضون الأخذ بهذا المفهوم. وانظر [المختصر في أصول الفقه لابن اللحام 134].

ص: 610

قولهُ: ((الأُوَلَ)) لأنه صفة، ومفهومُ الصفةِ معمولٌ به (1)، معلومُ الصحة عند المحقِّقين من أهل الأصول واللغة، فلا إشكال على هذا.

ثم لما بَيَّن الحكمَ الجُمْلي العام للتوابع أخذ يتكلم في تفاصيلها نوعاً نوعاً، وبدأ بالنعت فقال:

فالنَعْتٌ تَابعٌ مُتِمٌّ ما سَبَقْ

بوَسْمِهِ أو وَسْمِ مِا بِهِ اعْتَلَقْ

وهذا تعريفٌ بالنعت الرَّسْمي، وتمييزُه عن الأنواع الأُخَر.

فقوله: ((تابعٌ)) هو الجنس الأقرب للتوابع، ومعنى التَّبَعِيَّة فيه هو المذكور أولا.

وقوله: ((مُتِمٌّ ما سَبَقْ)) يعني أنه يُتم معنى الأسم السابق بالنِّسْبة إلى فهم لا بالنسبة إلى نفس الاسم، لأن الاسم في نفسه تامُّ الدلالة على معناه وَضْعاً، وإنما التفاوتُ في تمام الدلالة وعدمِ ذلك بالنسبة إلى فهم السامع، فقد يكون الاسم السابق بالنسبة إليه تامَّ الدلالة، أي معروفاً عنده، وقد يكون ناقص الدلالة، أي مبهَماً عنده.

فإذا قلت: مررتُ بزيدٍ، فإن كان ((زيدٌ)) معروفاً عند السامع فقد تَمَّ، وإن كان غيرَ معروف عنده فهو ناقص حتى تقولك الخياطِ، أو النجارِ، أو القرشيِّ، فَيِتَمَّ ذلك عند السامع، وقد يحتاج إلى أكثر من نعت واحد، وحينئذِ يتم.

(1) مفهوم الصفة قسم من أقسام مفهوم المخالفة أيضا. وهو أن تقترن بعام صفة خاصة، كقوله صلى الله عليه وسلم:((في الغنم السائمة الزكاة)) فإن مفهومه أن غير السائمة من الغنم، وهي التي تُعلف، لا زكاة فيها. وجمهرة الأصوليين يأخذون بهذا المفهوم. وانظر [المختصر في أصول الفقه 133].

ص: 611

وقد نَصَّ سيبويه على هذا المعنى، وأن ((زيداً)) عند مَنْ يعرفه كزيدٍ الأحمرِ عند من لا يعرفه (1). فهذا معنى قوله:((مُتِمٌّ ما سَبَقَ)).

ولما كان هذا غير كافٍ في التعريف، إذ قد يدخل عليه فيه البدلُ وعطفُ البيان إذا قلت: قام زيدٌ ابو عبدِ الله، وقام عبدُ الله زيدٌ، فإن البدل مثلُ النعت، فإنه يُبَيَّن ما قبله ويوضَّحه ويُتِمُّه، وكذلك عطفُ البيانِ- أخرجهما بقوله:((بوَسْمِهِ أو وَسْم مِا به اعَتَلقَ)) وهذا المجرور بـ (مُتِمُّ) اي يُتِمُّه بهذا الوجه من الإتمام، وهو وَسْمه بِسِمةَ يُعرف بها.

والوَسْم هنا مصدر: وَسَمْتُه، أَسِمُهُ، وَسْماً، أي جعلتُ عليه علامةً يعرف بها.

والسِّمة التي يوُسم بها المعنى الذي يعطيه الاسمُ المشتق ونحوهُ، فإنك إذا قلت: مررتُ بزيدٍ الخَيَّاطِ أو العاقِل، فقد أتممتَ دلالة لفظ ((زيد)) على مدلوله بالإتيان بمعنى الخياطة أو العقل المفهومَيْن من لفظ (الخَيَّاط، والعَاقِل).

فخرج بذلك البدلُ وعطفُ البيان، فإن تبيينهما للأول ليس على هذا الحد، ولكن بالإتيان بلفظ مرادِف للأول أَبْيَنَ منه، لأنك وسَمت الأول بسمة عُرف بها مدلوله، وتَخَصَّص بها فافترقا.

(1) عبارة سيبويه في الكتاب (1/ 88) هي ((وإنما منعهم أن ينصبوا بالفعل الاسم إذا كان صفة له أن الصفة تمامُ الاسم، ألا ترى أن قولك: مررت بزيد الأحمر، كقولك: مررت بزيد، وذلك أنك لو احتجت إلى أن تنعت فقلت: مررت بزيد، وأنت تريد: الأحمر، وهو لا يعرف حتى تقول: الأحمر، لم يكن تمَّ الاسم، فهو يجري منعوتَ مجرى: مررت بزيد، إذا كان يعرف وحده، فصار الأحمر كأنه من صلته)).

ص: 612

وحصل أن الاسم الجامد إذا وقع تابعاً فليس بداخل تحت حَدِّ النعت أصلا، لأنه ليس بوَسْمٍ للأول، ولا لما اعْتَلق به، وإنما يدخل تحته المشتقُّ وما في معناه على حسب ما يذكره بعد في قوله:((وانْعَتْ بُمشْتَقٍ)).

ومعنى قوله: ((بوَسْمِه)) أي بوسم الاسم الأول، فالضمير في ((بوَسْمِه)) عائد على/ قوله: 585 ((ما سَبَقَ)) وكذلك في ((ما بِه اعْتَلَقَ)).

والذي اعْتَلق بالأول هو ما كان من سَبَبه (فالذي للأول نحو: مررت برجل كريم، وبزيد العاقل. والذي من سببه)(1). نحو: مررتُ بزيدٍ الفاضلِ أبوه، وبرجلٍ كريمٍ أخوه.

فالوَسْم هنا إنما للأب والأخ اللذين هما من سَبَب الأوَّل لا للأول. وإنما ساغ ذلك، وحصل به التعريف، لأن ما كان من سبب الأول، وله به تعلُّقٌ وملابسةٌ إذا وُسِم فكأنه قد وُسم الأول، فيحصل بذلك بيان الأول.

والأوصاف التي يحصل بها هذا المعنى أربعة:

(حِلىً) وهي الصفات الظاهرة، نحو: الطويل، والقصير، والقليل، والكثير.

و(غرائز) وهي الصفات الباطنة، نحو: العالم، والجاهل، والشَّرِيف، والخامل.

و(أفعال) نحو: الخَيَّاط، والتاجر، والقاضي، والفاجر.

(1) ما بين القوسين ساقط من (ت) ومستدرك على حاشية الأصل.

ص: 613

و (نَسَبٌ) كالقرشيِّ، والهاشميِّ، ونحو ذلك.

واعْتَلق بالشيء، وتعلَّق به بمعنى.

وهذا الحد الذي حَدَّ به النعتَ هو معنى ما حَدَّ به غيرُه من قوله: ((هو الاسم الجاري على ما قبله لإفادة وصفٍ فيه أو فيما هو من سَبَبه)) وفي هذا التعريف (1) نظر من أوجه:

أحدها أن البدل وعطف البيان داخلان عليه، ولا يُنْجيه من ذلك قوله:((بوَسْمِه)) لأن الوَسْم كما يقع بالصفة المشتقة المؤدِّية لمعنى من المعاني الزائدة على الموصوف كذلك يقع بالاسم الجامد الذي يؤدِّي معنى الأول ويُبَيِّنه، لأن الاسم على الإطلاق سِمَة على مُسَمَّاه، وإطلاقُه على مسمَّاه وَسْمٌ له به، فلا يُنَجِّى قولُه:((بوَسْمه)) عن وُروُد ما ليس بنعت في حَدِّه. نَعَمْ الذي لا يَحتمل دخول البدل وغيره عليه هو قوله: ((أوَ وَسْمِ ما به اعْتَلَق)) لأنه لا يصح وسُم ما بالأول اعْتَلَق إلا وهو مشتق (2).

والثاني أن هذا التعريف لا يصدق إلا على (نَعْت البيان) خاصة، لأنه هو الذي أَتَمَّ الفائدةَ بالنسبة إلى السمع.

ونعتُ البيان هو المسوقُ لتخصيص نكرة نحو: مرتتُ برجلٍ نَجَّارٍ، فإنك خَصَّصْتَه بـ (النجار) من الفَلَاّح (3)، والعاقل، والأحمق، وغيرهم ممن ليس بنجَّار.

(1) أي تعريف الناظم.

(2)

في الأصل و (ت)((لأنه لا يصح ما بالأول إلا وهو مشتق)) وما أثبته من (س) وحاشية الأصل، وهو وجه العبارة.

(3)

في الأصل و (ت) ((بالنجار والفلاح

)) وهو تصحيف بَيِّن.

ص: 614

أو لرفع اشتراكٍ عارضٍ في معرفة نحو: زيدٌ العاقلُ، فإنك أخرجتَ زيدا بـ (العاقل) من سائر من عُرف بهذا الاسم وليس بعاقل.

زاد المؤلف: أو لتَعْمِيمٍ، نحو: إن الله رَزَّاقٌ لعباده المُطِيعين والعَاصِين.

أو لتفصيلٍ، نحو: مررتُ برجلين مسلمٍ وكافرٍ.

فهذا النوع من النعوت هو الذي تناوله التعريف، وبقى من أنواع النعوت أربعة:

نعت المَدْح نحو: {الْحمْد لِلّهِ رَبِّ العَالَمِين * الرَّحْمنِ الرَّحِيم * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .

ونعت الذم نحو: أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيمِ.

ونعت الترحُّم نحو: مررتُ بزيدٍ المسكينِ البائسِ الفقيرِ.

ونعت التوكيد نحو: مررتُ بغلامَيْن اثْنَيْنِ، وبرجلٍ واحدٍ.

زاد المؤلف خامسا وهو نعت الإبهام نحو: مررتُ بصدقةٍ قليلةٍ أو كثيرةٍ.

فهذه أنواعٌ لابُدَّ من إدخالها في النعوت، وهي لم تدخل له، فكان ذلك خَلَلاً في تعريفه.

/ والثالث أن النعت القائم مَقام المنعوت (1) غير جُارٍ على منعوتٍ سَبَق، مع أنه

586 نعت بلاشَكَّ، فخرج عن حَدِّه، فاقتضى أنه ليس بنعت.

(1) مثل قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ)) أي دروعا سابغات. وسيأتي تفصيل هذه المسألة عند قول الناظم.

وما مِنَ المَنْعُوتِ والنَّعْتِ عُقِلْ يجوز حَذْفُهُ وفي النَّعتِ يَقِلّ

ص: 615

وليس كذلك.

والجواب عن الأول أن مراده بالوَسْم- كما تقدَّم- المصدرُ، أي بأن تَسِم الاسَم الأولَ وأنت إذا أجريت الاسم الجامد على الأول إنَّما أتيتَ باسمٍ آخر أوضح، لا أَنَّك وسمتَ الأولَ بما يُعرف به، فلم يَصْدُق من هذا الوجه على عطف البيان أنه وسُم به الأولُ، وجُعل عليه علامة، وإنما يَصْدُق عليه أنك أتيتَ باسم آخر أعرفَ من الأول ليتضح معناه عند السامع، لا لقصدِ أن يتضح به الأول فافترقا.

والجواب عن الثاني من وجهين، أحدهما أن نعت البيان هو الأصل، وإنما وُضع لهذا القصد، أعني إيضاح الأول، إذ المدح أو الذم أو غيرهما أمرٌ ثانٍ عن معرفة ذلك. وإذا كان كذلك فغيرُ نعتِ البيان محمولٌ عليه، فيكون الناظم قد عرَّف بالنعت الأصيل، وتَرك ما عداه، لأنه فرع وتابع.

والثاني، وهو الأَوْلَى، أن ما عدا نعتَ البيان مثلُ نعت البيان في كَونْه مُتِماً ما سبق، لكن بحسب القصْد، وذلك أن القائل: مررتُ بزيدٍ الفاضلِ الكريم، أو القائل: مررتُ بزيدٍ الفاسقِ الخبيثِ، أو المسكينِ الفقيرِ أو نحو ذلك، إنَّما قصدُه التعريفُ بزيد، من حيث احتوى على خِلَالٍ وأوصافٍ يُمدح بها أو يُذم.

فالاسم الأول قد تَضَمَّنها من حيث العَلَمِيةِ، لكن بقى تقريرُها على السامع حتى يعرفَ صاحبَها معرفةً أخرى أتمَّ من تلك المعرفة المتقدِّمة له، فإذاً المادحُ أو الذامُّ أو غيرهما قاصدٌ للتعريف بزيد تعريفاً لم يَتِم بحسب السامع قبل النعت، وإن كان يَعرف عينه. فلم تَخرج نعوتُ المدحِ والذم والترحُّم عن كونها تُتِمُّ ما سبق.

وأما نعت التوكيد ففيه أيضاً إتمامُ ما للأول. نَصَّ عليه أهل المعاني

_________

ص: 616

والبيان، وكذلك نعت الإبهام، فتأمَّلْه.

والجواب عن الثالث أن النعت له جَرَيانٌ على المنعوت إذا كان محذوفا، كجريانه إذا كان ثابتا، لأنه في حكم الملفوظ به.

وأيضا الحذفُ على خلاف الأصل فلم يُعْتَدَّ به.

ووجهٌ ثالث، وهو أن النعت إذا أُقيم مُقام المنعوت فهو مباشرٌ للفعل، ومطلوبٌ له، فليس إذ ذاك معرَباً نعتاً، بل فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً. والتقديرُ أمرٌ آخرُ وراء ذلك.

و((ما)) في قوله: ((ما سبق)) مفعول ((مُتِمٌّ)) و ((ما)) في ((ما بِهِ اعْتَلَقَ)) مخفوضةُ اللفظ بإضافة ((وَسْمِ)) إليها، ومنصوبةُ الموضع بـ ((وَسْمِ)) لأنه مصدر مقدَّر بأَنْ والفعل. والضمير في ((اعْتَلَقَ)) عائد ((ما))

وَلْيعْطَ في التَّعْرِيفِ والتَّنكيرِ مَا

لِمَا تَلا كامْرُرْ بقَوْمٍ كُرَمَا

وَهْوَ لَدىَ التَّوْحِيدِ والتَّذْكيرِ أَوْ

سِوَاهُما كالفِعْلِ فَاقْفُ ما قَفَوْا

/ يعني أن النعت يُعْطَى من التعريف والتنكير مثلَ ما يُعطاه المنعوتُ، فلابد أن

587 يماثله ويَتْبَعه في ذلك كما يَتْبَعه في الإعراب.

هذا الحكم فيه لازمٌ، سواء أكان النعت حقيقياً أو سببياً، فتقول: مررتُ برجلٍ عاقلٍ، وبزيدٍ العاقل. ولا يجوز أن تقول: مررتُ برجلٍ العاقلِ، ولا بزيدٍ عاقلٍ، و ((زيدٌ)) باقٍ على عَلًمِيَّته، ولا: بأبيكَ عاقلٍ.

وكذلك تقول: مررتُ برجلٍ عاقلٍ ابوه، ومررتُ بأخيكَ العاقلِ ابوه. الحكمُ واحدٌ.

_________

ص: 617

فإن جاء مُوهِمُ خلافَ ذلك أُوِّل، كقولهم: ما يَحْسُنُ بالرجلِ خيرٍ منك أَنْ يفعلَ، إذ الرجلُ في معنى النكرة وإن تَحَلَّى بالألف واللام، ولذلك يُنعت بالجملة كما سَيُنَبِّه عليه.

وإنما لم تُنعت النكرةُ بالمعرفة، ولا المعرفةُ بالنكرة من جهة أن النعت والمنعوت في المعنى كالشِيء الواحد، والشِيء الواحد لا يكون معرفةً نكرةً في حال.

وإلى هذا المعنى أشار سيبويه بقوله: زيدٌ الأحمرُ عند من لا يعرفه كزيدٍ عند من يعرفه (1). يريد: أن زيداً الأحمرَ عند من لا يعرفه وحده بمنزلة زيد وحده عند من يعرفه. وهذا ظاهر.

وقال الفارسيُّ: إنما لم تُنعت المعرفة بالنكرة، ولا النكرة بالمعرفة، من حيث لم يُنعت الواحدُ بالجمع، ولا الجمعُ بالواحد، لأن النكرة تشبه الجمعَ من حيث الشِّيَاع، والمعرفة تشبه الواحد من حيث الاختصاص (2). وعَلَّل بعضهم ذلك بأن المعرفة إنما تُنعت بالنكرة لأن نعت المعرفة إنَّما وَضْعُه لرفع الاشتراك العارض فيها، والنكرةُ لا تَرفع الاشتراك عن نفسها، فكيف ترفعه عن غيرها!

ولم يكن العكسُ، لأن حق المعرفة التقدُّمُ على النكرة، وحَقَّ النعت التأخُّرُ عن المنعوت، فهما متدافعان.

ثم أتى بمثال لهذه المسألة، وهو قوله: امْرُرْ بقومٍ كُرَمَا.

(1) انظر: الكتاب 1/ 88.

(2)

عبارة الفارسي في الإيضاح (275) وهي ((ولا يجوز وصف المعرفة بالنكرة، ولا النكرة بالمعرفة، لأن الصفة ينبغي أن تكون على وفق الموصوف في المعنى، والنكرة تدل على العموم والشياع، والمعرفة مخصوص، فمن حيث لم يجز أن يكون الجميع واحدا، والواحد جميعا لم يجز أن يوصف كل واحد منهما إلا بما يلائمه، وما هو وفقه)).

ص: 618

وتخصيص هذا المثال مُشْعِر بقَصْدٍ صِنَاعي يَقصده أهلُ الحِذْق، وذلك أنه أتى بالنعت والمنعوت مخفوضين، ولم يأت بهما منصوبين ولا مرفوعين، لأن ذلك هو المُعَيِّنُ للمثال في النعت، إذ كان الإتيان بهما منصوبين أو مرفوعين غيرَ مُعَيِّن لذلك، إذ يمكن في النصب أن يكون النعت على إضمار فعل فلا يتعين كونُه نعتا، وفي الرفع يمكن أن يكون خبرَ مبتدأ، فلا يتعيَّن كذلك.

وأما الجرُّ فلا يمكن فيه إلا الجَريانُ والتَّبَعِيَّةُ خاصة.

وأصل هذا النحو لسيبويه، لأنه لما بَوَّبَ على الجر أتبعه بأبواب التوابع، ولم يذكرها مع المرفوعات ولا المنصوبات. وتَأَمَّلْ محافظتَه على ذلك في الشواهد على المسائل وفي المُثْل، وذلك مطردٌ في كلامه على جميع التوابع.

وإنما يأتي بمُثُل الرفع والنصب حيث يكون القطع على إضمار، فلعلَّ الناظم نَحَا هذا النَّحو في تَخصيص هذا المثال. والله أعلم.

ثم قال: ((وهُوَ لَدَى التَّوْحِيِد والتَّذْكِيرِ أَوْ سِوَاهُمَا كالْفِعْلِ)).

يعني أن النعت في باب التوحيد والتذكير، وغيرهما من التثنية والجمع/ والتأنيث حكمُه 588 أَلَاّ يجري على حُكْم ما لو كان في موضعه فِعْلٌ، فحيث صَحَّ إفرادُ الفعل أفُرد النعت، وحيث صح أن يُثنى الفعل لو وقع في موضعه ثُنِّىَ النعت، وحيث صَحَّ جمعه أو تأنيثه فكذلك.

فإن كان حقيقياً ثُنِّىَ وجُمع وأُنِّث لأن الفعل كذلك يكون، إذ هو رافعٌ لضمير الأول، وإن كان سببياً لم يَطَّرد فيه بإطلاق، لأن النعت

_________

ص: 619

السَّبَبي هو الرافع للظاهر، وإذا رَفع الظاهر جرى مجرى الفعل، فيُفْرَد، في اللغة المشهورة، وإن كان المنعوت مثنى أو مجموعاً إذا كان المرفوعُ بالنعت مفرداً أو مثنى أو مجموعا.

ويذكَّر النعت أيضاً إذا كان مرفوعه مذكَّراً وإن كان منعوته مؤنثاً.

وبالجملة لا يُعتبر المنعوتُ في هذه الأشياء المذكورة، وهي الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث إذا كان النعت سَبَبِياً، وإنما يُعتبر ما أُسند النعت إليه من الأسماء الظاهرة، بخلاف الحقيقي، فإن المنعوت هو المعتبر حَسْبِ ما تقدَّم في ((باب الفاعل)) (1) وكذلك يجري الحكم على لغة ((يَتَعَاقَبُوَنَ فِيكُمْ مَلائِكَةً)) (2).

فتقول: مررتُ برجلٍ قائمٍ، وبرجلين قائميْنِ، وبرجالٍ قائِمينَ، وبامرأةٍ قائمةٍ، وبامرأتْينِ قائمتْينِ، وبنساءٍ قائماتٍ.

كما تقول: مررتُ برجلٍ يَقُومُ، وبرجلين يقومان، وبرجالٍ يقومون، وبامرأةٍ تقوم، وبامرأتين تقومان، وبنساء يَقُمْنَ، فتثنى النعت وتجمعه وتؤنثه، كما تفعل بالفعل.

وتقول: مررتُ برجلٍ قائمٍ ابوه، وبرجل قائمٍ أبواه، وبرجل قائمٍ آباؤه، كما تقول: مررت برجلٍ يقوم أبوه، ويقوم أبَواه، ويقوم آباؤه. فلا يُظن في مثل هذا أنه جرى على ما قبله، وإنما جرى على الفعل.

وتقول: مررتُ برجلَيْن قائمٍ ابوهما، ومررت برجلَيْن قائمٍ أبواهما،

(1) انظر: 2/ 561.

(2)

البخاري- المواقيت: 16، والتوحيد: 23، 33، ومسلم- المساجد: 210، والنسائي: الصلاة: 31.

ويعبر عن هذه اللغة أيضا بلغة (أكلوني البراغيث) ويقولون: إنها لغة طِيء أو أزد شنودة، وانظر: والأشموني 2/ 47.

ص: 620

وبرجلَيْن قائمٍ آباؤُهما.

(وعلى لغة ((يَتَعاقَبُونَ فيكم ملائكةٌ)) مررتُ برجلَيْن قَائِميْن أبواهما، وقَائِمينَ آباؤُهما (1)) وتقول: مررتُ برجلٍ قائمةٍ أختُه، وقائمةٍ أختاه. وعلى تلك اللغة: قائمتَيْنِ أختاه. وبرجلين قائمةٍ أختُهما، وقائمة أختاهما. وعلى تلك اللغة: قائمَتَيْن أختاهما. وبرجال قائمة أختُهم، وقائمة أختاهم، وقائمة أَخَوَاتُهم. وفي اللغة الأخرى: قائمتَيْن أُخْتَاهم، وقائمات أَخَوَاتُهم.

وهكذا في جميع التصرفات الباقية، لأن الفعل لو خَلَف النعتَ في هذه المُثُل لكان على وِزَانهما في الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث.

فضابط الناظم ذلك بالفعل حَسَنٌ، لكن يرد عليه ههنا أنك تقول في اللغة المشهورة: مررتُ برجلٍ قِيَامٍ إخوانُه، وهو أجود من قولك: قائمٍ إخوانُه، ولا تقول إذا خَلَفَ الفعلُ إلَاّ: مررتُ برجلٍ يقومُ إخوانُه، وتترك جمع الفعل، بخلاف ما إذا جمعتَ لنعتَ جمعَ السَّلامة، فإنه لا يجوز في اللغة المشهورة، وإنما يجوز في لغة ((يَتَعَاقَبُونَ فيكُمْ مَلائكةٌ)) فإطلاق الناظم يُشعر بأن جمع النعت جمعَ التكسير يجري على حكم الفعل، وليس كذلك.

وقد يُعْتَذر عنه/ بأنه لما لم يذكر حكمَ الصفة في هذا في باب (الفاعل) ولا في

589 باب (الصفة) ولا تَعرَّض هنالك لهذا الحكم فيها، وكان حقه أن يذكره بَنَى على طَرْح المسألة جملة.

(1) ما بين القوسين ساقط من (ت).

ص: 621

والضمير في قوله: ((وَلْيعُطَ)) عائد على النعت. و ((في التَّعْرِيف)) متعلق بالفعل، أو باسم فاعل حالٍ من الضمير على حذف المضاف. والتقدير: ولْيُعْطَ للنعت حالة كونه معتبراً أو مذكورا، أو مستِقرا في باب التعريف والتنكير.

و((ما)) الأولى في قوله: ((مَا لِمَا تَلَا)) واقعة على الحكم، أو على التعريف أو التنكير، وهي في موضع نصبٍ بـ (يُعْطَ).

والثانية واقعة على الاسم السابق، وهو المنعوت. والعائد على الأولى الضمير الذي في المجرور، وعلى الثانية محذوف.

والضمير المستتر في ((تَلَا)) عائد على النعت. والتقدير: ولْيُعْطَ النعتُ في باب كذا الحكمَ الذي استقرَّ للمنعوت الذي تلاه النعت.

والضمير ((وهُوَ لَدَى التَّوْحِيدِ)) عائد على النعت. و ((هو)) مبتدأٌ خبرهُ ((كالفِعْلِ)).

وقوله: ((فَاقْفُ ما قَفَوْا)) معناه: اتَّبِعْ ما اتَّبَعُوا، يعني العربَ أو النحويين، تقول: قَفَوْتُ أثرَه، إذا اتَّبَعْتَه ومضيتَ في قَفَاهُ، قَفْواً، وقُفُواً. وقَفَّيْتُ على أثره بفلان، أي أتبعتُه إيَّاه.

ويظهر لبادئ الرأي أن هذا الكلام لا فائدة فيه، لأن النحو كلَّه مبني على أن نَقْفُوَ أثرَ العرب فيه، فما الذي أَحْرَز هنا، وغالبُ عادته ألَاّ يأتي بما ظاهُره أنه حشوٌ إلا تنبيهاً على فائدة أو فوائد؟

فقد يقال: إنه نَبَّه على عارضٍ سماعي عارضَ القياسَ، وهو أن النعت والمنعوت كالشيء الواحد. ومن ثَمَّ لم تُنعت النكرة بمعرفة، ولا عُكِس الأمرُ، فكان الوجه ألَاّ يُنعت المفردُ بالمجموع ولا بالمثنى، ولا المثنى بالمجموع ولا بالمفرد. وكذا ما كان نحو ذلك فكان القياس أن يَجري الحكمُ في النعت الرافع

_________

ص: 622

لضمير الأول، والرافع للظاهر على حد سواء، لولا أن السَّماع جاء باعتبار مرفوع النعت، ومعاملته معاملة الفعل إذا أُسند إلى الظاهر، من حيث كان مؤدِّياً معناه لاشتقاقه، فكأنه يقول: لا تَعتبر القياسَ إلا حيث لم يعارضه سماع، فإذا عارضه فاتَّبِع السماعَ واترك القياس. وهذه قاعدة أصولية.

أو يقال، وهو الأولى: إنه مجردُ تكملة، كأنه يقول: حكمُه حكم الفعل في باب الإفراد والتذكير وأضدادهما، فاعْتَبِر ذلك هنا، واجْرِ في هذا الباب لدى التوحيد والتذكير أو سواهما على ما جَرَوْا عليه في الفعل لو كان واقعاً موقعَه. وقد تَمَّ الغرض. والله أعلم. ثم قال:

وانْعَتْ بمُشْتَقٍّ كصَعْبٍ وذَرِبْ

وشِبْهِهِ كَذَا وذِي والمُنْتَسِبْ

هذا الفصل يذكر فيه ما يقع من الأسماء نعتاً ومالا يقع، وقد أشعر حَدُّه أول الباب بتعيين ذلك، وهو ما أَدَّى معنىً به يَتَّسم ما سَبَقَ، ولكن هذا تعريف إجمالي، لابد من ذكر أصنافِ

ما / هو كذلك، فإنه غير منحصِر في المشتق، ولا أيضاً كلُّ مشتق يقع نعتا، فذكر ثلاثة أنواع: 590

أحدها المشتق وما جرى مجراه، والثاني الجملة، والثالث المصدر.

فأما النوع الأول فقوله: ((وانْعَتْ بمُشْتَقٍّ كصَعْبٍ وذَرِبٍ. وشِبْهِه)) ومفعول ((انْعَتْ)) محذوف للعلم به، أو اقتصارا، أي انعت الاسمَ السابق. و ((بمُشْتَقٍّ)) نعتٌ أُقيم مُقام منعوته، تقديره: باسمٍ مُشْتَقٍّ.

ويعني أن النعت يكون اسما مشتقاً من المصدر أو الفعل، على

_________

ص: 623

حسب الخلاف المتقدم (1)، وذلك نحو: قائمٌ وقاعدٌ، من القيام والقعود، ومتكبِّر من التكبُّر، ومنه ما مَثَّل به من قوله:((كصَعْبٍ وذَرِبٍ))

فصَعْبٌ: صفة مشبَّهة، من: صَعُب الأمر صُعُوبة، ضد: سَهُل، وبعيرٌ صَعْبٌ ضد الذَّلُول.

و(ذَرِبٌ) يحتمل أن يكون بالدال المهملة أو بالذال المعجمة، فإن كان بالمعجمة فهو صفة مشتقة من: ذَرِبَ الشيءُ ذَرَباً وذَرَابَةً، إذا صار حديداً، ولسانٌ ذَرِبٌ، أي حادُّ، وامرأةٌ ذَرِبَةٌ، أي صَخَّابة.

وإن كان بالمهملة فصفة أيضاً مشتقة من: دَرِبَ بالشيء، بكسر العين، دُرْبَةً ودَراَبَةٌ، إذا اعتاده وضَرِىَ به ولزمه.

وهذان المثالان قد يُظَن أنهما لمجرد التمثيل فقط، ولم يُحرز بهما أمراً كما رآه ابن الناظم.

ولقائل أن يقول: بل أحرز بهما أموراً ضروريةً عليه، فلو لم يمثِّل لدخلت عليه، وأَخلَّت بكلامه، وذلك أن (صَعْباً، وذَرِباً) مشتقان للفاعل أو للمفعول أو نحو ذلك فحينئذ يقع نعتاً، وذلك اسمُ الفاعل نحو: قائم، وقاعد، واسم المفعول نحو: مَضْرُوب ومُخْرَج، والصفةُ المشبهةُ باسم الفاعل، وهو مثال الناظم، وأفعلُ التفضيل نحو: مررتُ برجلٍ أكرمَ منك، و ((أَزْهَى من دِيك)) (2).

فهذه الأشياء كلها مشتقة للفاعل أو للمفعول كما في المثال، فلو كان مشتقاً لغير ذلك لم يصح النعت، كأسماء الزمان، وأسماء المكان، وأسماء الآلات، نحو: مَضْرِب، ومَحْبِس، ومَقْتَل، ومِطْرَقَة، ومِطْرَقَة، ومُكْحُلة، وشبه ذلك. ولابد من

(1) انظر هذا الخلاف في الإنصاف 235 (المسألة الثامنة والعشرون).

(2)

من الزهو، وهو الاختيال والتيه، وانظر: الدرة الفاخرة 1/ 213.

ص: 624

التحرُّز من مثل هذا.

وأيضاً ففي المثالين وصفٌ ثانٍ معتبَر، وهو كَوْنُ معنى الاشتقاق مقصوداً بالمشتق، لأن القائل:(مررتُ بجَملٍ صَعْبٍ) قاصدٌ لمعنى الصعوبة فيه (1).

وكذلك القائل: (مررتُ برجلٍ ذَرِبٍ) قاصدٌ لمعنى الذُّرْبة أو الذَّرَابة فيه. وكذلك: قائمٌ وقاعدٌ وضاربٌ ومحاربٌ ونحو ذلك.

فلو كان غير مقصود الاشتقاق لم يُنْعَت به، لأنه لم يُقْصَد فيه إلا ما قُصِد في العَلَم من التعريف باسمه فقط.

ومن هذا القسم الأعلامُ الغَلَبِيَّة (2) كـ (الصدِّيق) لأبي بكر، و (الفَارُوقِ) لعمر رضي الله عنهما، و (الصَّعِق) لخُوَيلد بن نُفَيل بن عمرو بن كلاب، فلا شك أنها مشتقة من الصِّدْق والفَرْق والصَّعْق، / ولكن غَلب عليها الاستعمالُ حتى صار المفهوم فيه منها ما يُفهم من العَلَم،

591 فلا تقع نعوتاً.

والدليل على ذلك أنك لا تَرفع بها الظاهر، ولا تُحَمِّلها الضمير، فلا تقول: مررتُ بعبد الرحمن الصدِّيقِ أبوه، ولا بعبد الله الفاروقِ أبوه، ولا

(1) على حاشية الأصل ((قاصد لمعنى الوصف الذي هو الصعوبة فيه)) وقد يكون تفسيرا، أو من نسخة أخرى.

(2)

العلم بالغلبة هو أن يغلب اللفظ على بعض أفراد ما وُضع له حتى يصير علما عليه دون غيره، كابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وابن مسعود فإن هذه الاسماء غلبت على العبادلة حتى صارت علما عليهم دون غيرهم من إخوتهم. وكالمدينة والكتاب والنجم، فإنها غلبت على المدينة المنورة وكتاب سيبويه، والثريا.

وانظر: الجزء الأول عند شرح قول المصنف:

وقد يَصيِر علماً بالغَلَبَهْ مضافٌ أو مصحوبُ آلْ كالْعَقَبَهْ

ص: 625

مررتُ بُنفَيْل الصَّعِقِ ابنُه، وهكذا ما جرى هذا المجرى، فقد تُرك معنى الفعل منها، وإن كانت في الأصل مشتقة.

فإذاً المثالان مقصودان، وهما في موضع الصفة لمشتق، كأنه قال: وانْعَتْ بمُشْتَقٍّ شَبِيهٍ بهذَيْنِ.

وقد أَخذ عليه ابنه في ((الشرح)) فقال: المشتق: ما أُخذ من لفظ المصدر للدلالة على معنى مَنْسوب إليه. قال: فلو قال: وانْعَتْ بوصفٍ مثلِ صَعْبٍ وذَرِبٍ -كان أمثلَ، لأن من المشتق أسماء الزمان والمكان والآلة، ولا يُنعت بشيء منها، إنما يُنعت بما كان صفة، وهو ما دَلَّ على حدثٍ وصاحبه، كصَعْب، وذَرِب، وضارب، ومضروب، وأفضل منك، ثم ذكر باقي المسألة، فحاصله أنه عَدَّ الأمثلة حشواً البتَّة (1).

وهذا الاعتراضُ غير لازم، لأن التمثيل يُحرز ما قال. وقد عُرف من مقاصد الناظم الإشارةُ إلى التقييد بالمثال، واعتبارهُ في ضبط القوانين، وهو في كتابه هذا أشهرُ من أن يُدَلَّ عليه، وقد مضت منه مواضع كثيرة جدا، وهو شأنه فيما بقيـ حسب ما تراه إن شاء الله تعالى.

والصواب من هذا كله أن قصده بالتمثيل البيانُ لما هو المشتق، كما بَيَّن ما هو شببهٌ به، وليس تمثيله بضروري، فلو تَرك ذكرَه لم يَدخل له اسمُ المصدر والزمان والمكان والآلة، ولا الأسماء الغالبة (2)، لأنه قد قال أولاً في النعت: إنه التابُع المُتِمُّ لما سبق بوَسْمه، إلى آخره، فشَرط فيه أن يَسِميه بوَسْم، وذلك هو معنى الوصف حسب ما تقدم، فإذا ذكر المشتقَّ ههنا فإنما يعني به ما فيه ذلك المعنى، فأسماء المصادر والأسماء الغالبة وما ذَكر معهما أو كاتن مثلَ ذلك

(1) شرح الألفية لابن الناظم: 493.

(2)

يريد العلم بالغلبة، وقد سبق التعريف به.

ص: 626

لا يدخل عليه، إذ لا يدلُّ على وَسم، ولا فيه معنى وَسْم، وإنما يَدخل له ما كان مثل: صَعْب، وذَرِب، وقائم، وسائر ما مَثَّل به.

وأيضاً فإن المشتق يطلق بإطلاقين، أحدهما ما دل على معنى الفعل، وجرى مجراه في الاستعمال، فكان دالاً عليه بلفظه ومعناه، وعاملاً عملَه وإن ضَعُف، وهو الذي يُعْنَى في رَسْم ((المركَّبات)) من علم النحو، وهذا الاشتقاق هو الأصغر عند بعض العلماء (1)، فلا يدخل هنا اسم المصدر، والزمان، ولا الاسم الغالب، ولا ما كان من بابها، وهو الذي قصده الناظم جَرْياً على معهود الاصطلاح.

والثاني ما دل على معنى الفعل في الأصل لا في الاستعمال، فليس بعاملٍ عملَ الفعل، ولا جارٍ مجراه، وهو الذي يُعْنَى في رَسْم ((المفردات)) من علم النحو، ويُستدل به على الزيادة والأصالة، والصحة والإعلال بالقلب والحذف والإبدال، كما تقول في (أحمد): إنه مشتقٌّ من الحمد، وفي (رُمَّان): إنه مشتق من الرَّم، ونحو ذلك. ويسميه بعضهم الاشتقاق/ الأكبر (1)، ولم يُرده 592 الناظم هنا جرياً على معهود الاصطلاح أيضا. وبه وقع الاعتراض. فإذا كان كذلك لم يبق في كلام الناظم إشكال، والحمد لله.

وأمَّا ما أشبه المشتقَّ وليس بمشتق فهو الذي نَبَّه عليه بقوله: ((وشِبْهِه)) فذكر له أمثلة دالة على ثلاثة أنواع:

أحدها (ذِي) وهو بمعنى (صاحب) فإنه يُنعت به وبفروعه، إذ كانت تؤدِّي معنى المشتق، فتقول مررتُ برجلٍ ذِي مال، وبامرأةٍ ذاتِ جمال،

(1) انظر في معنى الاشتقاق الأصغر والأكبر: الخصائص 2/ 133.

ص: 627

وبرجلين ذَوَي مال، وبامرأتين ذواتًيْ جمال، وبنساءٍ أولاتِ جمال، وذواتِ كمال وبرجالٍ أُولِي مالٍ وذَوِي حَسَب. وما أشبه ذلك.

والثاني (ذَا) وهو اسم الإشارة فيصح أن يُنعت به لأنه في معنى المشتق، إذ كان قولك:(مررتُ بزيدٍ هَذَا) معناه: مررتُ بزيدٍ الحاضرِ أو المشارِ إليه.

وكذلك فروعُه نحو: مررتُ بهند هذه هذهِ، وبالزيدَيْنِ هَذْينِ، وبالهنَديْن تَيْنِكَ، وبالزيدِينِ هؤلاء. وكذلك سائر الفروع.

والثالث: المُنْتَسِب، وهو من الأسماء ما فيه معنى النَّسَب، وذلك في الاستعمالات الأربعة:

أحدهما إذا كان بياء النسب نحو: مررتُ برجلٍ قُرشِيٍّ، وبرجل هاشميٍّ، وبامرأةٍ سَلُولِيَّة.

ولا يَدخل هنا (كُرْسِيٌ، وبُخْتِيٌّ، وقُمْرِيٌّ (1)) ونحو ذلك مما ليست الياء فيه للنسب، لأن تلك الأسماء ليست بمنتسِبَة، والناظم إنما قال:((والمُنْتَسِبْ)) فأتى بـ (مُفْتَعِل) الذي يقتضي اكتسابَ النِّسْبة وعملَها، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك كما احتاج إليه في (التسهيل) حيث قال: وأسماء النسب المقصود (2).

والثاني: إذا كان وزن (فَاعِلٍ) نحو: مررتُ برجلٍ نابلٍ، وبرجلٍ ناشبٍ، ولابِنٍ، وتَامِرٍ، ودَارِعٍ (3). ومنه: حائضٌ، وطاهرٌ، وطامِثٌ (4)، و (عِيشَةٍ رَاضِيةٍ (5)).

(1) البُخْتِيُّ: واحد البُخْت، وهي الإبل الخراسانية، وهي جمال طوال الأعناق. والقُمْرِيُّ: ضرب من الحمام مطَّوق حسن الصوت، والجمع قُمْر.

(2)

التسهيل: 168.

(3)

يقال: رجل نابل، إذا كان معه نَبْل، وناشب صاحب النُشَّاب، وهو النَّبْل كذلك، ولابن لصاحب اللبن، وتامر: لصاحب التمر، ودارع: لذي الدِّرع.

(4)

الطامث: هي الحائض، أو المرأة أول ما تحيض.

(5)

سورة القارعة/ آية 7.

ص: 628

والثالث: إذا كان على وزن (فَعَّال) كتَمَّار، وفَكَّاه، وجَمَّال، وصَرَّاف (1). ونحو ذلك.

والرابع: إذا كان على وزن (فَعل) نحو: نَهرٍ، وحرَجٍ، وسَتِهٍ (2). وذلك كله مذكور في النَّسب، وسيأتي بسطه إن شاء الله.

وإنما ذكرتُ أقسامه ههنا لأنه [غير](3) داخل تحت المشتق، مع أن الظاهر من أول الأمر أنه داخل فيه، لأنه غيرُ دال على الفعل، ولا مشتقٌ منه، لأن منها ما ليس له فعل أصلا.

وهذه الأبنية فيه (4) مُطَّرِدة، ولذلك لم تَلحق التاءُ في (حائض، وطاهر، وطامث) ونحوها. ومن هنا لا يتعدَّى ولا يتعلَّق ولا يتعلَّق به ظرفٌ ولا مجرور ولا غير ذلك. وعلى الجملة فهو راجع إلى الصفة المشبَّهة باسم الفاعل، أو هو أضعف من ذلك.

ولما كانت هذه الأنواع الثلاثة مشبهةٌ بالمشتق من حيث أَعطت من المعنى مثلَ ما يُعطيه المشتق كان ما جرى مجراها داخلاً أيضاً.

فمن ذلك ما كان من الصفات غيرَ مشتق، لأنها ليس لها فعل ولا مصدر نحو (شَمَرْدَل) بمعنى: خفيف سريع/، و (صَمَحْمَح) بمعنى: شَدِيد، أو بمعنى: غَلِيظ، و (جُرْشُع) وهو من

593 الإبل: العظيم، و (لَوْذَعِيٌّ)

(1) التَّمار: الذي يبيع التمر. والفَكَّاه والفكهاني: الذي يبيع الفاكهة. والجمَّال: صاحب الجمل، والذي يعمل عليه. والحمَّال: محترف الحَمْل. والصَّراف والصَّيْرف والصيرفي: من يبدل نقدا بنقد، والمستأمَن على أموال الخزانة، يقبض ويصرف ما يُسْتَحق.

(2)

النْهر-بكسر الهاء- صاحب النهار، يُغير فيه، وهو مثل قولنا: نَهارِي. والحرج: الملازم للإحراج والمضايق. والسَّتِه: الملازم للأستاه يَطلبها.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س).

(4)

أي في النسب.

ص: 629

بمعنى: فَطِنٌ ذَكيٌّ. وما أشبه ذلك.

ومن ذلك ما كان من الموصولات مبدوءاً بألف وصل، و (ذو) الطائية (1) وفروعهما، نحو: الذي، وتثنيتُهما، وجمعهما. وكذلك ذو، وذاتُ وذوات.

وأمَّا ما ليس في أوله ألفُ وصلٍ نحو (مَنْ، ومَا) فلا يوصف بها.

ومنها (رَجْلٌ) إذا أريد به معنى (كامِلٍ) أو أُضِيف بمعنى (صالحٍ) إلى (صِدْقٍ) أو بمعنى (فاسدٍ) إلى (سَوْءٍ) نحو: مررتُ بزيدٍ الرجلِ، أي الكاملِ، ومررتُ برجلٍ رجلِ صِدْقٍ، وبرجلٍ رجلِ سَوْءٍ. وأكثرُ ما يقع كذلك خبراً للمبتدأ.

ومنها (أيٌّ، وكُلٌّ، وحَقٌّ، وجِدٌّ) نحو: مررتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ، وبالرجلِ كلِّ الرجلِ، ومررتُ بالرجلِ الرجلِ حَقِّ الرجلِ، وجِدِّ الرجلِ، أي الكامل في ذلك.

وهذه الأنواع كلها يَطَّرِد الوصف بها، وهي داخلة تحت قوله:((وشِبْهِهِ)) ولم يتعرَّض لكَوْنِ النعت دونَ المنعوت في الاختصاص أو مساوياً، كما تعرض له سيبويه (2) وغيره، إذ النعتُ عندهم لا يكون أخصَّ من المنعوت، لأن المتكلِّم إنما حَقُّه أن يبدأ بما يكون أعرفَ عند السامع، وأَبْيَنَ في تحصيله. فإن لم يَعْرفه أَتى من المعرفة بما يكون بيانا. وعلى هذا وُضِع النعتُ والمنعوت، وإذا عُكس الأمر فبُدِئ بالأعم كان مناقضاً لمقصود التفهيم. وقد أجاز الفرَّاء أن يُنعت الأعمُّ بالأخص.

(1)((ذو)) الطائية من أسماء الموصول للمفرد المذكر، العاقل وغيره، عند طئ. والمشهور فيها البناء، وأن تكون بلفظ واحد، وكذلك ((ذات)) بمعنى ((التي)) و ((ذوات)) بمعنى اللاتي. وقد تقدم ذكرها في باب الموصول عند قول المصنف:

ومَنْ ومَا وألْ تُساوِي ما ذُكِر وهكذا ذُو عندَ طَئٍ شُهِر

وكالتِي أيضاً لديهم ذاتُ وموضعَ اللَاّتِي أَتَى ذَواتُ

(2)

الكتاب 2/ 7.

ص: 630

ولعل الناظم ذهب هنا مذهبَ الفراء، إذ هو مذهبه أيضاً في ((التسهيل)) (1) فلم يقل بما قال به الجمهور، وإنما رأى رأيَ الفراء، وحُكِى عن الشَّلوْبِين أنه صَحَّحه.

وحَكى الفراء: مررتُ بالرجلِ أخيكَ، على النعت. وذكر المؤلف من ذلك أمثلة، كغلامٍ يافعٍ ومُراهقٍ، وجاريةٍ عَروبٍ وخَوْد، وماءٍ فُراتٍ وأُجَاجٍ، وتَمْر بَرْنيٍّ وشِهْرِيزٍ (2)، وأشياء غير هذه. فالظاهر أنه سكت عن ذلك لهذا الوجه. والله أعلم.

ثم ذكر النوع الثاني من أنواع ما يُنِعت به، وهو الجملة، فقال:

ونَعَتُوا بجُمْلَةٍ مُنَكَّرَا

فَأُعْطِيَتْ ما أُعْطِيَتْهُ خبراَ

وامْنَعْ هنا إيقَاعَ ذَاتِ الطَّلبِ

وإنْ أَتتْ فالقَوْلَ أَضْمِر تُصِبِ

يعني أن العرب أجرت الجملَة نعتاً على الاسم السابق، الجملة اسميةً أو فعليةً، لكن شرط في الاسم المنعوت بها شَرْطاً، وشَرط في الجملة نفسِها شرطين.

فأمّا شرط المنعوت فإن يكون نكرة، وذلك قوله:((مُنَكَّرَا)) أي اسماً منكراً،

(1) حيث يقول فيه (ص 167): ((وكونه مفوقا في الاختصاص أو مساويا أكثر من كونه فائقا)).

(2)

اليافع: من شارف الاحتلام، وهو دون المراهق. والمراهق: من جاوز طور الصبا، من أربع عشرة سنة إلى خمس وعشرين. والمرأة العروب: المتحببة إلى زوجها.

والخَوْد: الشابة الناعمة الحسنة الخلقة. والماء الفرات: الشديد العذوبة يقال: ماء فرات، ونهر فرات. والأجاج: ما يلذع الفم بمرارته أو ملوحته.

والتمر البرني: نوع جيد من التمر مدور أحمر مشرب بصفرة. ويقال كذلك: نخل برني، ونخلة برنية. والشهريز: ضربٌ من التمر. معرّب.

ص: 631

فتقول: مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ، ومررتُ برجلٍ يقومُ أبوه.

والتنكير هنا أعمُّ من أن يكون في اللفظ والمعنى، نحو قوله:{حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ (1)} أو في المعنى دون اللفظ، وهو المقرون بالألف واللام الجِنْسية، نحو قوله:{وآيَةٌ/ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ 594 مِنْهُ النَّهَارَ (2)} وقال الشاعر (3):

لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ

وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأَصَائِلِ

وإنما لم تُنعت المعرفةُ بالجملة، لأن الجملة إنما تُعطى معنى الاسم المشتق، ولذلك وقعت نعتاً لَمَّا كانت في تأويل المفرد، وليس فيها ما يدل على التعريف، فلا يصح أن يُنعت بها المعرفة.

ثم لما كان النعت في تَتْميمه للمنعوت كالصلة في تَتْميمها للموصول، وكان أيضاً خبراً عن المنعوت في المعنى، كالخبر للمبتدأ- أُعْطى، إذا كان جملةً، من لزوم الضمير الرابط ما أُعْطِى الخبرُ إذا كان جملة، وما أُعطِيت الصلة إذا كانت جملة، فكَمَّل الناظم المقصودَ بقوله:((فَأُعْطِيَتْ مَا أُعْطِيَتْهُ خَبَرا)).

((ما)) مفعول ثان لـ (أُعْطِيَتْ) وهي واقعة على الأحكام المتعلِّقة بجملة الخبر. وعائدها الهاء في ((أُعْطِيَتْهُ)).

و((خَبَراَ)) حال من مرفوع ((أُعْطِيَتْ)).

ويَعْنى أن الجملة الواقعة نعتاً أُعْطِيت من الحكم مثلَ ما أُعْطِيتَه إذا وقعت

(1) سورة الإسراء/ آية 93.

(2)

سورة يس/ آية 37.

(3)

هو أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين 1/ 141، والإنصاف 723، وشرح الرضي على الكافية 3/ 15، 71، والخزانة 5/ 484، والهمع 1/ 292، والدرر 1/ 60، واللسان (فيأ). والأفياء: جمع فيء، وهو الظل. والأصائل: جمع أصيل، وهو الوقت الذي قبل غروب الشمس.

ص: 632

خبراً للمبتدأ، وذلك لزومُ الضمير العائد على مَن هي نعتٌ له أو خبرٌ، وكذلك الصلة، لأن الربط بين الجملتين محتاج إليه في فهم المراد، وذلك بالضمير العائد.

وهذا هو الشرط الأول من شَرْطَيِ الجملة الواقعة نعتاً، فإذا قلت: مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ، فالهاء هو العائد. وكذلك إذا قلت: مررتُ برجلٍ قامَ، ففاعل ((قَامَ)) هو العائد.

فلو خَلَت الجملةُ من ضمير لم تقع نعتا، فلا تقول: مررتُ برجلٍ قامَ زيدٌ، ولا برجلٍ زيدٌ قائمٌ، إذ لا ارتباطَ بين الجملتين. نعم قد يُحذف الضمير وهو مرادُ الثبوتِ، كقول جَرِير، أنشده سيبويه (1):

أَبْحْتَ حِمَى تِهَامَةَ بعد نَجْدٍ

وما شَيْءٌ حَمَيْتَ بمُسْتَبَاحِ

وأنشد أيضاً للحارث بن كَلَدة (2):

ومَا أَدْرِي أغَيَّرهُمْ تَنَاءٍ

وطُولُ العَهْدِ أمْ مَالٌ أَصَابُوا

فهذا الحذف غير قادحٍ، فقد يُحذف أيضاً من الخبر، نحو قوله تعالى:

(1) الكتاب 1/ 87، 130، وابن الشجري 1/ 5، 78، 326، والمغني 503، 612، 633، والتصريح 2/ 112، والعيني 4/ 75، وديوانه (99).

ويروى ((حميت حمى تهامة)) وتهامة. ما تسفل من بلاد العرب. ونجد: ما ارتفع منها، وكنى بهما عن أرض العرب جميعا. يخاطب عبدالله بن مروان، ويقول له: ملكت العرب، وأبحت حماها بعد إبائها عليك. وما حميته لا يستطيع أحد أن يستبيحه لقوة سلطانك.

(2)

الكتاب 1/ 88، 130، وابن الشجري 1/ 5، 326، 2/ 334، وابن يعيش 6/ 89، والعيني 4/ 60. والثنائي: التباعد. ومعنى البيت ظاهر.

ص: 633

{وكُلٌّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى (1)} في قراءة ابن عامر (2). وأنشد سيبويه لامرئ القيس (3):

فَأَقْبَلْتُ زَحْفاً على الركُّبْتَيْنِ

فَثَوْبٌ نَسِيبُ وثَوْبٌ أَجُرُّ

ولهذا أحال في الحكم على الجملة الخبرية، ولم يَذكر في الخبر حكمَ الحذف لأنه قليل فيه.

والشرط الثاني من شَرْطَي الجملة الواقعة نعتاً ألَاّ تكون طَلَبيَّة، وإنما تكون خَبَريَّةِ كما تقدم من المُثُل.

وهذا الشرط غير مشترَط في الخبريةِ، ولذلك قال:((وامْنَعْ هُنَا إِيقَاعَ ذَاتِ الطَّلَبِ)) أي في الواقعة نعتا، لأنه كما أحال في الحكم على الخبريَّة خاف أن يُفهم أنها تقع طَلَبِيَّة، فلذلك قال:((وامْنَعْ هُنَا كَذَا)) وظهر أن إيقاعها خبراً غيرُ ممتنع.

وقد أطلق القولَ في وقوع الجملة خبرا في باب ((الابتداء)) بقوله: ((ومُفْرَداً يَلأْتِي ويِأتِي جُمْلَهْ)) ولم يقيِّد ذلك بأَلَاّ تكون طَلَبِيَّة، وهو مذهب الجمهور فيها

(1) سورة الحديد/ آية 10.

(2)

وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. وقرأ الباقون من السبعة ((وكُلاً وَعَدَ اللهُ الحُسْنى)) بالنصب. وانظر السبعة لابن مجاهد: 625.

(3)

ديوانه 159، والكتاب 1/ 86، وابن الشجري 1/ 93، 326، والمحتسب 2/ 124، والمغني 472، 633، وشرح الرضي على الكافية 1/ 240، والخزانة 1/ 373، والعيني 1/ 545. يذكر أنه طرق محبوبته على خيفة من الرقباء، فجعل يزحف لئلا يشعر به أحد، وجر ثوبه لئلا يرى أثر قدميه فيعرفه القائف.

ويروى صدر البيت ((فلما دنوت تسدَّيتُها)) وهي رواية الديوان، وتسديتها: علوتها وركبتها. كما يروي عجزه ((فثوباً نسيتُ وثوباً أجُرّ)) بالنصب، وعلى هذه الرواية لا شاهد فيه.

ص: 634

خلافاً لابن الأَنباري ومن وافقه. وقد تقدَّم ذلك (1).

ثم أخذ يدل على تأويل ما جاء مِمَّا يُخالف الشرطَ المذكور بقوله:

((وأنْ أَتَتْ فالْقَوْلَ أَضْمِرْ/ تُصِبِ))

595

يعني أنه إن أتت الجملة ذاتُ الطَّلبَ في السَّماع جاريةً على منعوتٍ في الظاهر فأوِّلْها تأويلاً يُخرجها عن أن تكون بنفسها نعتاً، وذلك أنه لا يجوز أن تقول: مررتُ برجلٍ اضْرِبْهُ، ولا هل ضربَتهُ؟ ولا مررتُ برجلٍ لا تُكْرِمْه، ولا ما أشبه ذلك.

بخلاف الخبر فإنك تقول: زيدٌ اضْرِبْه، وعمروٌ لا تُكْرِمْه، وخالدٌ هل أكرمتَه؟ وما أشبه ذلك.

ومنه قولهم: كيف أنتَ؟ وأنشد في ((الشرح)) (2):

قَلْبُ مَنْ عِيلَ صَبْرُه كيفَ يَسْلوُ

صَالِياً نارَ لَوْعَةٍ وغَرامِ

وقد مَرَّ هذا.

والطلب الذي يمنع الجملة أن تقع نعتاً هو (الأمر، والنهي، والاستفهام، والعَرْض، والتَّحضيض، والتمنِّي، والترجِّي، والدعاء)

فكلُّ هذه طلبٌ لا يَصْلُح للنعت، لأنه خبرٌ عن المنعوت، له خُصوصيَّةٌ في الخَبريَّة ليست لخبر المحض.

(1) انظر: 1/ 626.

(2)

الهمع 2/ 14، والدرر 1/ 73، ونسبه لرجل من طِئ.

ص: 635

والذي أُشار إليه في جملة النعت الواردةِ طلبيَّةً هو قوله (1):

حَتَّى إذا كاد الظلامُ يَخْتَلِطْ

جَاءوُا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ

فأوقع (هَلْ) وما بعدها كالصفة لـ (مَذْقٍ) وهو اللَّبَن بالماء، ومراده أنه تغيَّر بياضُه بمخالطة الماء حتى أشبه لونُه لونَ الذئب.

فهذا يُؤَوَّل على ما قاله الناظم. ومن أبيات الحماسة قوله:

* تَخْضِبُ كَفاً بُتِّكَتْ من زَنْدِهَا *

بُتِّكَتْ أي قُطِعَت، دَعَا عليها بذلك. وأنشد المؤلف في ((الشرح (2))):

فإنَّمَا أنتَ أَخٌ لا نَعْدَمُهْ

فَأَبْلِنَا منكَ بلاءً نَعْلَمُهْ

فقوله: ((لا نَعْدَمُه)) دعاءٌ له.

فما كان من هذا النحو كأنه كاسرٌ لما أَصَّل، فلابد من تأويله، وذلك على إضمار القول كما قال:((فالْقَوْلَ أَضْمِرْ تُصِبِ)) أي اجعل الجملةَ الطلبيَّة معمولةً

(1) ينسب للعجاج، ملحقات ديوانه 81، وابن الشجري 2/ 149، والمحتسب 2/ 165، وابن يعيش 3/ 53، والتصريح 2/ 112، والأشموني 3/ 63، والإنصاف 115، والمغنى 246، 585، وشرح الرضي على الكافية 1/ 330، 2/ 256، 3/ 10، 62، 225، والخزانة 1/ 109، والهمع 5/ 174، والدرر 2/ 148، والعيني 4/ 61.

ويروى الأول ((حتى إذا جن الظلام واختلط)) و ((حتى إذا جاء الظلام المختلط)) والثاني ((جاءوا بضَيْح)) والمذق: اللبن الممزوج بالماء، فإذا مزج به قل بياضه فأشبه لون الذئب. والضيح: اللبن الرقيق الممزوج بالماء، فهما سواء. يصف قوما أضافوه بالشح وعدم إكرامهم الضيف، وأنهم لم يقدموا له شيئا حتى مضى جانب من الليل، ثم جاءوه بلبن أكثره ماء.

(2)

المغني 585، وشرح شواهده للبغدادي 7/ 226، ومجالس ثعلب 194، 195 ضمن أبيات منسوبة لأبي محمد العذلي.

ص: 636

لقَوْل مقدَّر يقع صفة، فتَخرج الجملة الطلبيَّيةُ بذلك عن كَوْنها بنفسها صفة، ولا يبقى محذور، لأن الطلبية وغيرها تقع مَحْكيَّةً بالقول. فالتقدير: جاءوا بمَذْقٍ يقول فيه من يراه: هل رأيتَ الذئبَ، وكذلك: فإنما أنت أخٌ يقال له: لا نَعْدَمُه.

وهذا كما جاء في الصلة مِمَّا يخالف أصلها، من وقوع الجملة الطلبيَّة صلةً في قوله (1):

وإنِّي لَرَامٍ نَظْرَةً قِبَلَ التَّيِ

لَعَلِّي وإنْ شَطَّتْ نَواهَا أَزوُرُهَا

فأوَّلوها على إضمار القول، أي قِبَل التي يُقال فيها: كذا وكذا.

و((القولَ)) مفعول بـ (أَضْمِرْ) و ((تُصِبْ)) جواب الأمر، والمعنى: تصب وجه ذلك وما أريد به.

وإنما يكون مصيباً لأن إضمار القول جائز في مواضع ذكرها النحويون، كجواب ((أمَّا)) نحو قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُم أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (2)} الآية. بناءً على أن القول قد يحذف في كلام العرب إذا دَلَّ عليه الدليل.

وعلى الناظم في هذا سؤالان:

أحدهما أن يقال: هل يَدخل الظَّرف والمجرور تحته إذا كانا يقدَّران بالجملة، فإذا قلت: مررتُ برجلٍ في الدارِ، أو عندَك، فهو في تقدير: استقَرَّ في

(1) هو الفرزدق، ديوانه 661، وشرح الرضي على الكافية 3/ 10، 67، والخزانة 5/ 464، والمغني 388، 391، 585، والهمع 1/ 296، والدرر 1/ 62، والأشموني 1/ 63. ويروى العجز ((لعلي وإن شَقَّت عليَّ أنالُها)) وهي رواية الديوان، وانظر: الخزانة 5/ 467. والنوى: البعد، والناحية يذهب إليها. وشطت بهم النوى: أمعنوا في البعدى. واستقرت به النوى: أقام.

(2)

سورة آل عمران/ آية 106.

ص: 637

الدار، أو عنَدك، أم ليس بداخلٍ فيبقي غيرَ مذكور في هذا النظم، ويُشْكِل حكمُه.

والجواب أنه يصح أن نعتقد دخولَه تحت الجملة على اعتقاد تقديره بالجملة، وأن نعتقد خروجَه عن الجملة/ على اعتقاد تقديره بالمفرد، فيدخل في باب النعت بالمفرد، لأن

569 الناظم نَصَّ في خبر المبتدأ على جواز تقدير الجملة أو المفرد بقوله:

((وأَخْبَرُوا بَظْرفٍ أو بحرفِ جَرْ

ناوِينَ معنى كائنٍ أو اسْتَقَرْ))

وإذا كان من الوجهين سائغاً عنده في الخبر، وهو قد أجرى جملة النعت على جملة الخبر، وأيضاً النعتُ خبرٌ في المعنى، فيجري على حكمه.

ويمكن أن يقال: إنه لما قَدَّم هناك في الظرف والمجرور نظراً في تقديره بالمفرد أو بالجملة معنى، فكان لا يَعْزُو لبابين- تَرك ذكرهَما هنا، لأن إجراءهما نعتاً على التقديرين صحيح، فاستغنى عن ذكرهما لعلم الناظر في كتابه صحةَ الاجتزاء بما تقدَّم له في خبر الابتداء. والله أعلم.

والسؤال الثاني: ما الفائدة في إحالته في حكم جملة النعت على حكم جملة الخبر حتى احتاج إلى استدراك ذكر حكمين، أحدهما: إخراجُ الجملة الطَّلَبية، والثاني تأويُل ما جاء من المخالفة، وأتى لذلك بمَشْطُورَيْن كان غنياً عنهما جملة، بأن يُحِيل على حكم الصلة، فإن الصلة يَلزم فيها أن تكون غير طلبية، وأنَّ ما جاء فيها على غير ذلك فمنويٌّ معها القول كما تقدم تمثيلُه، وسائر ما يُحتاج إليه موجودٌ فيها، ككونها لابد فيها من ضمير، وأنه يجوز حذفه وغير ذلك؟

_________

ص: 638

والجواب أنه لو أحال على حكم الصلة لاقتضى في جملة النعت حكماً غير صحيح، وذلك أنه ذَكر في الموصولات حكم الضمير، وأنه جائز الحذف، على تفصيلٍ من كَوْنه مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، وعلى اشتراط شروط في كل قسم (1).

وأيضاً فحذفُ الضمير في الصلة كثير جدا على الجملة.

وهذا كله في جملة النعت (2) لا يستقيم، بخلاف جملة الخبر فإن الناظم لم يتعرَّض فيها إلا للزوم اشتمالها على ضمير وأما حذفُه فسَكَت عنه لقلته أو لغير ذلك، فإحالتُه على جملة الخبر أحقُّ وأَوْلَى، ولا يضُّر استثناء حُكم أو حكمين، فإنه قليل، بخلاف ما لو أحال على الصلة، فإن الاستثناء كان يكون أكثر.

فإن قلت: إن إحالته على جملة الخبر يُوهم أن الحذف فيها إذا كانت نعتاً إمَّا غيرُ جائزٌ على قلة، وليس كذلك، بل الحذف فيها كثير.

فمن ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {واتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (3)} أي لا تَجْزي فيه، هكذا تقديره عند سيبويه (4).

وفي قراءة عِكْرِمة (5){فَسُبْحانَ اللهِ حِيناً تُمْسُونَ وحِيناً تُصْبَحُونَ (6)}

(1) انظر: 1/ 518، 527، 533.

(2)

في الأصل وحده ((في باب النعت)).

(3)

سورة البقرة/ آية 48، 123.

(4)

الكتاب 1/ 386.

(5)

أبو عبد الله عكرمة مولى ابن عباس المفسر. روى عن مولاه وأبي هريرة وعبد الله بن عمر. وعرض عليه أبو عمرو بن العلاء وغيره (ت 105 هـ)، {طبقات القراء 1/ 515} .

(6)

سورة الروم/ آية 17. وانظر هذه القراءة في البحر المحيط 7/ 166، وإعراب القرآن للنحاس 2/ 585، ومختصر شواذ القراءة لابن خالويه 116.

ص: 639

أي تمسون فيه، وتصبحون فيه.

وفي قراءة الأخفش: (لا تجْزيهِ) و (تُمْسُونَهُ، وتُصْبِحُونَهُ) وهو مختار ابن جني وغيره، أعني التدريج (1).

وأيضاً قد جاء في الشعر، نحو ما أنشده سيبويه من قول جرير (2):

أَبَحْتَ حِمَة تِهَامَةَ بعدَ نَجْدٍ ومَا شَيْءٌ حَمَيْتَ بمُسْتَبَاحِ

أي حَمَيْتَه. وأنشد أيضا (3):

ومَا أَدْرِي أَغَيَّرهُمْ/ تَنَاءٍ

597

وطولُ العَهْدِ أم مالٌ أَصَابُوا

اي أصابوه.

وأيضاً فإذا كان مجرورا بـ (مِنْ) جاز مطلقا نحو: عِنْدِي بُرٌّ كُرٌّ بدرهم (4)، أي كُرٌّ منه،

ومنه قول ذي الرمَّة (5):

(1) قال ابن جني في المحتسب (2/ 163): ((ثم حذف ((فيه)) معتبطا لحرف الجر والضمير لدلالة الفعل عليهما. وقال أبو الحسن: حذف (في) فبقي (تجزيه) لأن أوصل إليه الفعل، ثم حذف الضمير من بعد، ففيه حذفان متتاليان شيئا على شيء. وهذا أرفق، والنفس بع أبسأ من أن يعتبط الحرفان معا في وقت واحد)) وانظر في التدريج: الخصائص لابن جني 1/ 347.

(2)

تقدم الاستشهاد بالبيت وتخريجه في الباب نفسه.

(3)

للحارث بن كلدة، وتقدم الاستشهاد به في الباب نفسه.

(4)

الكر: مكيال لأهل العراق.

(5)

ديوانه 16، يصف حمر وحش. وسفح الجبل: ما ارتفع عن مسيل الوادي. ومعنى ((يقعن بالسفح)) يضربن بحوافرهن سفح الجبل من شدة العدو. والهاء في قوله: ((ما قد رأين به)) إما عائدة على سفح الجبل، لأن بيت الصائد يكون فيه، وإما عائدة على الصائد، أي مما قد رأين من تلهف الصائد وحرصه على صيدها. والمَعزاء والأمعز: المكان الكثير الحصى الصلب. والمعنى أن حصى المعزاء يكاد يلتهب من شدة عدوهن ووقع حوافرهن.

ص: 640

يَقَعْنَ بالسَّفْحِ مِمَّا قَدْ رَأَيْنَ بِه

وَقْعاً يكادُ حَصَى لمَعْزاءِ يَلْتَهِبُ

أي يكاد يلتهب منه.

ومن الأول قول كُثَيِّر عَزَّة (1):

من الْيَوْمِ زُورَاها خَلِيَليَّ إنَّهَا

سَتَأْتِي علينا حِقْبَةٌ لا نَزوُرُهَا

أي لا نزورها فيها.

فهذا-كما ترى- قد جاء في الكلام والشعر، وقد كثر عندهم. بخلاف جملة الخبر، فإن حذف الضمير منها قليل على الجملة. ولذلك قال في ((التسهيل)): لكن الحذف من الخبر قليل، ومن الصفة كثير، ومن الصلة أكثر (2).

فالجواب أن الخبر أيضاً يجوز حذفُ الضمير منه في الكلام. وقد جاء منه شيءٌ صالحٌ يُلحقه بكثرته في الصفة أو يكاد.

فقد جاء في القرآن نحو {وكُلٌّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنى (3)} في قراءة ابن عامر (4). وقرأ يحيى بن وَثَّاب والسُّلَمي والأعرج (5) {أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةَ

(1) أمالي ابن الشجري 1/ 6، وليس في ديوانه. والحقبة من الدهر: المدة التي لا وقت لها، أو السنة.

(2)

التسهيل: 167.

(3)

سورة الحديد/ آية 10.

(4)

أي برفع ((كل)) على الابتداء، وكذلك كانت في مصاحف أهل الشام. وقرأ الباقون بالنصب. وانظر: السبعة لابن مجاهد: 625.

(5)

يحيى بن وثاب الأسدي الكوفي تابعي ثقة كبير، من العباد الأعلام، عرض القرآن على عبيد بن نضلة وعلقمة والأسود وغيرهم، وعرض عليه الأعمش وطلحة بن مصرف وغيرهما (ت 103 هـ)[طبقات القراء 2/ 380]

ص: 641

يَبْغُونَ (1)} والتقدير: وَعَدَهُ اللهُ الحُسْنَى، ويَبْغُونَه.

وجاء في الشعر منه كثير، فلا يبعد أن يكون المؤلف أحال إحداهما على الأخرى في هذا الحكم لقرب ما بينهما.

وهذا على تسليم أنه قَصد هذا المقدار، وقد يقال: إنه لم يَقصد فيه إلا لزومَ رجوع الضمير فقط. وأما الحذف فسكت عنه في الموضعين.

وقد يكون هذا المَحْمل اقربَ إلى مراده. والله اعلم.

وإذا ثبت هذا فلا عليه من ذكر الحُكْمين اللذين ذكرهما في الشَّطْرين. أما الأول فضروري، وأما الثاني فمكمَّل.

وقد تم الكلام على النوع الثاني من أنواع ما يُنْعت به.

والنوع الثالث المصدرُ، فإن المصدر قد يقع نعتاً، ويكثر في الكلام، ولذلك قال:

ونَعَتُوا بمَصْدَرٍ كَثِيَرا

فاَلَتَزَمُوا الإفْرَادَ والتَّذِكْيَرا

((كثيراً)) حال، كضربتُه شديداً، أو نعتُ مصدرٍ محذوف.

= والسلمي هو أبو عبد الرحمن عبدالله بن حبيب السلمي، مقرئ أهل الكوفة، إليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا، أخذ القراءة عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وغيرهما وأخذ القراءة عنه عاصم، وعطاء بن السائب، ويحي بن وثاب وآخرون (ت 74 هـ)[طبقات القراء 1/ 413].

وأما الأعرج فهو أبو صفوان حميد بن قيس الأعرج المكي. أخذ القراءة عن مجاهد بن جبر، وروى القراءة عنه سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء وسواهما (ت 130 هـ)[طبقات القراء 1/ 265].

(1)

سورة المائدة/ آية 50.

قرأها الثلاثة برفع ((حُكْمُ)) وقرأها ابن عامر بالنصب وبالتاء. وقرأ الباقون بالنصب والياء. وانظر: المحتسب 1/ 210، والسبعة:244.

ص: 642

وكلامه لم يتضمن أنه قياس، بل فيه إشعارٌ بعدمه، نعم نَبَّه على وجه السماع فيه، فالضمير في ((نَعَتُوا)) للعرب. وأحال في ذلك على نظر الناظر المستقرِئ لكلام العرب، فإنه محلُّ نظر، فقد يُجعل قياساً لكثرته، وقد يُجعل سماعاً لضعف قياسه.

والمسألة مختَلف فيها، فظاهر النقل عن الجمهور أن ذلك سماع يُقصر على مَحَلِّه. وقال ابن دَرَسْتَوَيْهِ (1): ليس من المصادر شيء إلا ووَضْعُه موضعَ الصفات جائزٌ مُطَّرِد، مُنْقَاس غيرُ مْنكَسِر.

ووجه ما قاله الجمهور أن المصدر اسم جنس جامد غير مشتق، ولا معناه معنى المشتق، فلم يصح من جهة معناه أن يكون نعتاً، كما لم يصح في اسم الجنس أن يُنعت به، فكما لا يقال: عجبتُ من تَمْرٍ رُطَبٍ، ومررتُ بشخصٍ رجلٍ، على النعت، كذلك ألا يقال: مررتُ برجلٍ عَدْلٍ، أو صَوْمٍ، أو فِطْرٍ.

لكنَّ العربَ أتت من ذلك بأشياء على اعتبار/ المبالغة في الوصف مجازاً (فقالت:

598 جاءني رجلً عَدْلً، تريد عادلاً، إلا أنها جعلته نفسَ العَدْل مجازا (2)).

والمصدرُ، من حيث هو مصدرٌ، لا يُثنى ولا يُجمع ولا يُؤنث، فأجرَوْه على أصله، لأنهم على المجاز وصفوا به فقالوا: هذا رجلٌ عَدْلٌ، وامرأةٌ عَدْلٌ، ورجلان عَدْلٌ، وامرأتان عَدْلٌ، ورجالٌ عَدْلٌ، ونساءٌ عَدْلٌ.

(1) هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي الفَسَوي النحوي، نحوي لغوي جليل القدر، مشهور الذكر، جيد التصانيف، وكان شديد الانتصار لمذهب البصريين في اللغة والمحو (ت 347 هـ). بغية الوعاة 2/ 36.

(2)

ما بين القوسين ساقط من (ت).

ص: 643

وكذلك: رجلٌ رِضاً، وزَوْرٌ، وصَوْمٌ، ودَنَفٌ، وحَرىً بكذا، وقَمَنٌ.

وكذا: خَصْمٌ، وضَيْفٌ، فلم يُثَنَّوا ولم يَجمعوا ولم يُؤَنَّثوا، ولذلك قال الناظم:((فَالتَزَمُوا الإفْرَادَ والتَّذْكِيرَا)).

فلا يجوز أن يقال: امرأةٌ عَدْلَةٌ، بل أَلْزَموا التذكيَر، ولا يجوز أن تقول رجلان عَدْلان، وكذلك الجمع، فَأَلْزَموا الإفراد إلا أن يُسمع.

وأما ابن دَرَسْتَوَيْهِ (1) فقال: إن أصل الصفة من المصدر، وتأويلها تأويلُ ذي الفعل، فإذا قلت:(عادلٌ) فمعناه: ذو عَدْلٍ، و (مَرْضِيٌّ) معناه: ذو رَضاً، فوُضع اسمٌ واحد موضعَ اسمين اختصارا. ومن كلامهم أن يُحذف المضاف ويُقام المضاف مُقامه إيجازاً إذا كان لا يَلْتَبِس، فقولهم:((عَدْلٌ)) في (رجلٌ عَدْلٌ) معناه: ذو عَدْلٍ، و (امْرَأةٌ رَضاً) معناه: ذاتُ رِضاً، فكما وُضع الفاعل والمفعول موضعَ الصفة كذلك وُضع المصدر الذي هو أصل جميع ذلك، إذ لم يُلْبِس، لأنه قد علم أن الرجل جِسْمٌ، وأن العَدْل عَرَضٌ (2)، فلا يكون إياه، وإنما معناه: ذو عَدْلٍ، فعلى هذا جاءت المصادر صفاتٍ طلباً للاختصار. قال: فإذا جُعلت المصادر صفاتٍ فالوجه ألَاّ تُثَنَّى ولا تجمع ولا تؤنث اعتباراً بأصلها، وإنَّما ثَنَّوا منها وجَمعوا وأَنَّثوا ما كثر استعماله في الوصف حتى زال عن شبه المصادر، ودخل في باب الأسماء والصفات، وذلك قليل.

(1) تقدمت ترجمته.

(2)

الجسم: كل ماله طول وعرض وعمق. وعند الفلاسفة: الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، الطول والعرض والعمق.

والعرض: ما يطرأ ويزول من مرض ونحوه. وعند الفلاسفة: ما قام بغيره، كالبياضُ والطول والقصر. وضده الجوهر، وهو ما قام بنفسه.

ص: 644

وكأنه يُجيز ذلك قياسا وإن قَلَّ في السماع، فمخالفته في وجهين، في جواز الوصف به، وفي جواز تثنيته وجمعه وتأنيثه إذا كثر استعماله.

وللناظم أن يقول: إن السماع هو المتَّبَع، وهذا- وإن كثر- فلا يبلغ مبلغَ أن يُقاس.

والمسألة مُحْتَمِلة، وهي نظيرة وقوع المصدر حالا، وقد قال هنالك:((ومَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ حالاً يَقَعْ بكَثْرَةٍ)) البيت (1).

فلم يتقيَّد لقياس كما فَعل هنا، فإن المسألة في النعت والخبر والحال واحدة، ولذلك يَستدلون على أحدها بالآخر.

ومما ألزم فيه الإفرادُ والتذكير قولُ زُهَير (2):

مَتَى يَشْتَجِرْ قَوْمٌ يَقُلْ سَرَوَاتُهُمْ

هُمُ بَيْنَنَا فَهُمُ رِضاً وهُمُ عَدْلُ

وقال العَّجاج (3):

* والشَّمْسُ قد كادَتْ تَكونُ دَنَفَا *

(1) البيت بتمامه في باب ((الحال)) هو:

ومَصْدَرٌ منكَّرٌ حالاً يَقَعْ بكَثْرةٍ كبَغْتَةٌ زيدٌ طَلَعْ

(2)

ديوانه 107، والخصائص 2/ 202، والمحتسب 2/ 107، واللسان (رضى).

من قصيدة قالها في هرم بن سنان والحارث بن عوف المريين.

ويشتجر: يختصم. وسرواتهم: أشرافهم. وهم بيننا: هم الحاكمون بيننا، كما تقول: الله بيني وبينك.

(3)

ملحقات ديوانه 82، والخصائص 2/ 119، واللسان (دنف).

وأصل الدنف: المرض الملازم، ورجل دنف: براه المرض حتى أشفى على الموت. أراد: حين اصفرت الشمس، وتدانت للغروب، فكأنها دنف حينئذ وتلك استعارة مليحة.

ص: 645

وقالت الخنساء (1):

تَرْتَعُ ما غَفَلَتْ حَتَّى إذا ادَّكَرَتْ

فإنَّما هي إقُبَالٌ وإدْبَارُ

وأنشد الكسائي (2):

وهُنَّ حَرَّى أَلَاّ يُثِبْنَكَ نَقْرَةً

وأنت حَرىً بالنَّارِ حينَ تُثِيبُ

وقال العجاج (3):

* تَذكَّرا عَيْناً رِوىً وفَلَجَا *

فإن قيل: قوله: ((فَالْتَزَمُوا)) إمَّا أن يعود الضمير على العرب، وإمَّا على النحويين.

(1) ديوانها 48، وسيبويه 1/ 337، والمقتضب 3/ 230، 4/ 305، والخصائص 2/ 203، 3/ 189، والمحتسب 2/ 43، وابن يعيش 1/ 144، والتصريح 1/ 332، وشرح الرضي على الكافية 1/ 254، والخزانة 1/ 431 والرواية الأشهر ((مارَتعَت)) والبيت من قصيدة ترثي بها أخاها صخرا. ويقال رتعت الإبل وأرتعتها، إذا تركتها ترعى. وادكرت: تذكرت ولدها. تصف بقرة فقدت ولدها، فكلما غفلت عنه رتعت، فإذا عاودتها ذكراه حنت إليه، وأقبلت وأدبرت في حيرة والم. وضربت حال هذه البقرة مثلا لفقدها أخاها.

(2)

اللسان (نقر، حرى) بدون نسبة. والحَرَى: الخليق والجدير، ويقال: إنه لحَرى، وحَرٍ، وحَريٌّ، كل ذلك سواء. ويقال: ما أغنى عني نقرة، اي نقرة الديك، لأنه إذا نقر أصاب، ويقال كذلك: ما أغني عني نقرة ولا فتلة ولا زبالا، وما أثابه نقرة، أي شيئا، ولا يستعمل إلا في النفي.

(3)

اللسان (فلج) ويروى ((فَصَبَّحا عيناً)) و ((تَذكَّرا عَيْناً رَواءً فَلَجَاً)) وبعده:

* فراح يحدوها وباتَت نَيْرَجَا

* يصف حمارا وأتُناً.

والماء الرِّوَى: العذب، وكذلك الرَّواء والفلج- بالتحريك والإسكان- النهر الصغير، أو الماء الجاري من العين. ويقال: أقبلت الوحش والدواب نيرجا، إذا أسرعت في تردد.

ص: 646

(فإن كان عائدًا على العرب (1)) وهو الظاهر من قوله: ((ونَعَتُوا/ بمَصْدَرٍ كثَيِراً)) فإنما 599 يريد العرب، إذ لو أراد النحويين، وأنه قياسٌ عندهم لم يقل:((كَثِيراً)) لأن الوصف بالكثرة لائقٌ بنقل السماع لا بإعمال القياس، فيُشكل على هذا إخبارهُ عنهم إلزامَ الإفراد والتذكير، لأنهم قد جَمَعوا وثَنَّوْا وأَنَّثُوا، ففي القرآن الكريم {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ (2)} وفيه {وهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّروُا المحْرَابَ (3)} ثم قال:{قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ (4)} وقالوا: خُصُومٌ ايضاً، وقالوا: عُدُولٌ، جمع عَدْل. وتقول العرب: رجالٌ ضَيْفٌ، وأَضْيَافٌ، وضُيُوفٌ، وضِيفَانٌ. وامرأةٌ ضَيْفَةٌ. وقال البَعِيث (5):

لَقَدْ حَمَلَتْهُ أمُّهُ وهْيَ ضَيْفَةٌ

فجاءَتْ بِيَتْنٍ للضِّيَافَةِ أَرْشَمَا

إلى أشياء من هذا، إذا تُتُبِّعتْ وُجِدَتْ، فلا يقال فيما هذه سبيله: إنهم الْتَزموا فيه الأفرادَ والتذكير.

وإن كان الضمير عائداً على النحويّين كان فيه قُبْحُ اختلافِ

(1) ما بين القوسين ساقط من (ت).

(2)

سورة الحج/ آية 19.

(3)

سورة ص/ آية 21.

(4)

سورة ص/ آية 22.

(5)

اللسان (ضيف، رشم، يتن).

والبيت من قصيدة للبعيث يهجو فيها جريرا، وفيه عدة رزايات. وضيفة: حائض، يقال: ضافت المرأة، إذا حاضت، لأنها مالت من الطهر إلى الحيض. وقيل: معناه أنها ضاقت قوماً فحبلت في غير دار أهلها. واليتن: الولد تضعه أمه منكوسا، اي تخرج رجلاه قبل رأسه ويديه. والأرشم: الذي يتشمم الطعام ويحرص عليه.

ص: 647

الضمائر، بعَوْد ضمير ((ونَعَتُوا)) على غير مضن عاد عليه ضمير ((فالْتَزَمُوا))

وأيضاً فإنه يقتضي أن هذا الباب قياس، لأن هذا الإلزام لا يكون إلا بالقياس، وإلا فالسماع لا يُلْزِم ذلك. فالحاصل أن كلامه مُشْكل.

فالجواب أن الأَوْلَى أن يُجعل الضمير في ((فَالْتَزَمُوا)) للنحويين، وإن كان فيه مخالفةُ الضمائر، لأنهم الذين أَلْزَموا ذلك إذا قاسوا ذلك، أو قال بالقياس منهم أحد، من حيث كان شائعاً في الكلام، وكأنَّه يقول: إن العرب جاء عنها النعتُ بالمصدرَ كثيرا، فألزم النحويون لأجل ذلك ما يلزم المصدرَ غيرَ المحدود، من الإفراد والتذكير فإن ذلك غير شاذ (1).

ونَعْتُ غَيْرِ وَاحِدٍ إذا اخْتَلَفْ

فعَاطِفاً فَرِّقْهُ لا إِذَا ائْتَلَفْ

النعوت على قسمين، أحدهما أن تكون جاريةً على منعوتٍ واحد، فهذا لا إشكال فيهن وهو الذي جرى الكلامُ فيه قبل هذا.

والثاني أن تكون جاريةً على غير واحد، بل على اثنين أو جماعة.

وهذا الثاني على ضَرْبينِ ايضا، أحدهما أن يكون المنعوت مثنىً أو مجموعاً غيرَ مُفَرَّق. والثاني أن يكون مفرقاً.

وتفريقُه إمَّا لأن التَّثْنية والجمع فيه لا يَتَأَتَّى، فيقوم العطفُ مَقامها، وإمَّا لتعدُّد عاملِ المنعوت.

فإن كان مثنىً أو مجموعاً فهو الذي تكلَّم فيه في هذين البيتين، ويعني أن نعت غير الواحد، وهو المذكور آنفاً، لا يخلو أن يكون مختلِفاً أو مؤتلِفاً.

ومعنى كونه مختلِفاً أن يُنعت أحدُهما بخلاف ما يُنعت به الآخر. والمخالفةُ

(1) في (ت، س)((فإن غير ذلك فشاذ)) وأظنه تحريفا.

ص: 648

إما في اللفظ والمعنى، كالعاقلِ والكريمِ، أو في اللفظ دون المعنى، كالذاهبِ والمنطلِقِ، أو في المعنى دون اللفظ، كالضَّارِب من (الضَّرْب) والضَّارِب في الأرض (1).

ومعنى كونه مؤتلِفاً أن يتفق اللفظ والمعنى معاً حتى يمكن أن يعبَّر عنهما باسمٍ مثنى أو مجموع.

فإذا اختلف النعتان فلابد من تفريقهما-إذ لا يمكن فيهما التَثنيةُ والجمع لفَقْد شرطهما- بعطف أحدهما على الآخر. وذلك قوله: ((فَعَاطِفاً فَرِّقْهُ)) فتقول: مررتُ برجَليْنِ صالحٍ وطالحٍ، ومررتُ بامرأتَيْنِ بِكْرٍ وثَيِّبٍ. وكذلك/ فيما زاد على الاثنين، نحو: مررت برجالٍ قرشيٍّ

600 وهاشميٍّ وأنصاريٍّ.

ومن ذلك ما أنشده سيبويه من قول الشاعر (2):

بَكَيْتُ ومَا بُكَا رَجُلٍ حَزِينٍ

على رَبْعَيْنِ مَسْلُوبٍ وبَالِ

وأنشد في ((الشرح)) لحسان بن ثابت (3):

(1) يقال: ضرب الرجل في الأرض، إذا ذهب فيها وأبعد، وكذلك إذا سار في ابتغاء الرزق.

(2)

سيبويه 1/ 431، والمقتضب 4/ 291، والمغني 356. وينسب لابن ميادة أو لرجل من باهلة. والربع: منزل القوم في الربيع خاصة، أو مطلق المنزل. والمسلوب: الذي سلب بهجته لخلوه من أهله.

(3)

ديوانه 135، من قصيدة قالها في غزوة الخندق، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 188 - ب). ورواية البيت في الديوان ((من مُردٍ)) والمرد: جمع أمرد، وهو الشاب الذي بلغ خروج لحيته وطَرَّ شاربه، ولم تظهر لحيته. والشيب: جمع أشيب، ذو الشَّيْب، وهو ابيضاض الشعر.

ص: 649

فَلَاقَيْنَاهُمُ مِنَّا بَجمْعٍ

كأُسْدٍ مُرْدَانٍ وشِيبِ

وإنَّما نُسِق بالعطف لأنه أصل التثنية والجمع، فإذا عُدم شرطُهما فيما أريد تثنيتُه أو جمعُه تُرِك على أصله.

ولم يعيِّن الناظم العاطفَ اعتماداً على العِلْم بأن الواو هي الصل في ذلك.

وهذا حكم المنعوت إذا كان معطوفاً ومعطوفاً عليه، إلا أنه لا يُفَرَّق النعتُ من منعوته، إذ لا ضرورة تدعو إليه، فتقول: مررتُ بزيدٍ الفاضِل، وعمروٍ الكريمِ. وهو داخل في حكم ما تقدم، كما تقول: ضَرب زيدٌ العاقلُ بكراً الكريمَ.

وأمَّا إذا ائْتَلف النعتُ، وأمكن تثنيته أو جمعه فلا يفرَّق، فتقول: مررتُ برجَليْن عاقلين كريمين، وبرجالٍ فُضَلاء.

ومنه {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِريَنِ (1)} وقوله: {ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنيِنَ (2)} ولا يجوز أن تقول: مررتُ برجلَيْن كريمٍ وكريمٍ، كما لا يقال: مررتُ برجلٍ ورجلٍ كريَميْن، إلا في الشعر. ولذلك قال:((لَا إِذَا ائْتَلَفَ)) أي لا تفرِّقة إذا ائتلف.

وكذلك تقول: مررتُ بزيدٍ وعمروٍ الكريَكيْنِ، وجاء رجلٌ وامرأةٌ عاقلان. و ((نَعْتُ)) مبتدأٌ خبره (إِذَا) وما بعدها. و ((عاطفاً)) حالٌ من فاعل ((فَرِّقْهُ)) أي فَرِّقه حالة كونك عاطفا.

وإن كان المنعوتُ مفَّرقا بسبب تعدُّد العامل فقال فيه الناظم:

(1) سورة المائدة/ آية 54.

(2)

سورة التوبة/ آية 14.

ص: 650

ونَعْتَ مَعْمُولَىْ وَحِيدَىْ مَعْنَى

وعَمَلٍ أَتْبِعْ بغَيْرِ اسْتِثْنَا

((نعتَ)) مفعول ((أَتْبِع)) أي أتبع نعت معمولَىْ كذا. و (وَحِيدٌ، ووَحَدٌ، ووَحِدٌ) بمعنى: (وَاحِد ومُنْفَرِد) والمعمولان هما المنعوتان، والوحيدَيِ المعنى والعمل: بمعنى المُتَّحِدى المعنى والعمل، وهما عاملا المعمولين.

فكأنه يقول: إذا كان المنعوتان معمولين لعاملين مُتَّفِقي المعنى والعمل فالإتباعُ صحيح. وكذلك إذا كانا أكثرَ من اثنين فالحكم حكم الاثنين.

وبَسْط هذا أن النعت إذا كان في المعنى لمنعوت أكثر مَن واحد فلا يخلو، إن كانا اثنين مثلا، أن يعمل فيهما عاملٌ واحد، أو عاملان.

فإن عمل فيهما عاملٌ واحد، وذلك بعطف أحدهما على الآخر، فهذا يُتْبع فيه النعتُ بلا إشكال، فتقول: مررتُ بزيدٍ وعمروٍ العاقلين، ومررت بشيخٍ وطفلٍ وامرأةٍ جُلُوسٍ، لأن العطف بمثابة التثنية، فكان حكمهما كما لو قلت: مررتُ بالرجلين العاقلين، فرَجع إلى ما تقدَّم من نعت المفرد بالمفرد، أو نعت المؤتَلِف بالمؤتلف.

وإن عمل فيهما عاملان فهذا الذي تَكَلَّم فيه الناظم هنا أنه يُتْبع النعت إذا اجتمع في العاملين وصفان، أحدهما أن يَتحَّدِ معناهما، وسواء اتَّفق لفظهما أم اختلف، فتقول: /

601 مررتُ بزيدٍ، ومررتُ بعمروٍ العاقلَيْن. وهذا زيدٌ، وهذا عمروٌ العاقلانِ. وضربتُ زيداً، وضربتُ عمراً العاقلَيْن.

وكذلك تقول: سبقَ المالُ لزيدٍ وإلى عمروٍ العاقلين. وذهب زيدٌ وانطلق بِشْرٌ القرشيَّان. ورأيتُ زيداً وأبصرتُ عمراً الكريمَيْن. فالعوامل

_________

ص: 651

هنا مُتَّحدة المعنى وإن اختلفت ألفاظُها فيصح الإتباع.

والثاني أن يَتَّحد عملُهما في المعمولين فلا يعملان فيهما إلا رَفْعَيْن أو نَصْبَيْن أو جَرَّينْ، كما مضى بيانه في الأمثلة.

فإن تخلف شرط من هذين الشرطين فيقتضي كلامه أَنْ لَا إتباعَ أصلا، فإذا قلت: جاء زيدٌ وذهب عمروٌ العاقلان، فـ (العاقلان) لا يصح عنده أن يكون مُتْبَعاً.

وكذلك إذا قلت: ضربتُ زيداً، وأكرمتُ عمراً الأحَمْرينِ، ومررتُ بزيدٍ، وجئت إلى عمروٍ الفاضلَيْن. لا يجوز في شيء من هذا الإتباعُ، لأنك إن أتبعتَ لابد أن يكون العامل في النعت هو العامل في المنعوت، وإذا كان كذلك والنعتُ لفظٌ واحد فَيقتضي أن يعمل عاملان يَقتضيان معنَيْن مختلفين في معمول واحد، وذلك غيرُ مْمكن، لأن العمل واحد فلا يتأتى إلا لواحد.

وكذلك إن تخلف الشرط الثاني لم يصح الإتباع، فإذا قلت: ضربَ زيدٌ، وضربتُ عمراً العاقلان، أو العاقَليْن، لم يكن إلا قَطْعاً، لأن عملَيْن مختلفين في معمول واحد بجهة واحدة لا يصح. قال في الكتاب: ولا سبيل إلى أن يكون بعضُ الاسم جَراً، وبعضُه رَفْعاً (1).

فأما إذا اتَّحدا معنىً وعملاً فلا مَحذور، لأن العاملين من جهة المعنى شِيء واحد، فكأن الثاني إنما سِيق لمجرد التوكيد، فقولك: جاء زيدٌ، وجاء عمروٌ العاقلان، بمثابة قولك: جاء زيدً وعمروٌ العاقلان، ولا إشكالَ في صحة مثل هذا، فكذلك في ما كان بمعناه.

وإذا قلت: ذهب زيدٌ، وانطلق عمروٌ العاقلان- فهو في تقدير: ذهب

(1) الكتاب 2/ 58.

ص: 652

زيدٌ، وذهب عمروٌ، لأن الذهاب والانطلاق معناهما واحد، ولا اعتبارَ باختلاف اللفظ، لأن العمل ليس للفظ من حيث هو لفظٌ، بل من حيث معناه، وقد اتَّحد المعنى فصار كما لو اتَّحد اللفظ.

وإذا لم يجز الإتباعُ فلابد من القَطْع، وهو مقتضى مفهوم الصفة في كلامه، فغنه وَصف النعتَ المُتْبَع بكَوْنه نعتاً لمعمولَىْ وحيدَىْ معنىً وعملٍ، فالمفهوم أنه إذا لم يكن كذلك فلا يُتْبع، وإذا لم يُتْبَع تَعَيَّن القطعُ إلى الرفع بإضمار مبتدأ، أو إلى النصب بإضمار فعل. وسَيتَكَّلم فيه بعد هذا بحول الله وقوته.

وقوله: ((بغير استثنا)) يريد به أن الحكم جارٍ في نعت المرفوعَيْن والمنصوبَيْن والمجرورَيْن فإن العلة في الجميع موجودة، والقياس سائغ، فلا مانع منه، وقد تقدَّم تمثيلُه.

ويستوي في المرفوعَيْن ما كان منهما خبرَيْ مبتدأَيْن أو فاعلْي فاعلَيْن، فكما تقول: جاء زيدٌ، وجاء عمروٌ العاقلان، كذلك تقول: هذا زيدٌ، وهذا عمروٌ الظريفان، ونحو ذلك.

وهنا بَعْدُ مسائلُ، إحداها أن اتحاد العاملين في المعنى قد يكون اتحاداً في معنى/ 602 معيَّن نحو: ذَهَبَ وانْطَلَق، فهذا هو الذي وقع التمثيل به، وهو أن يكون معنى أحد العاملين مرادِفاً لمعنى العامل الآخر، حتى يصح أن يعبَّر عن أحدهما بالآخر. وقد يكون اتحاداً في معنى غير معيَّن، بل يكون اتحاداً في جنس المعنى، وذلك أن يكون معنى أحد العملين لا يصح أن يعبر عنه بالعامل الآخر، بل يصح أن يعبر عنهما معاً بعاملٍ آخر، فتقول: ذهب زيدٌ، وجاء بَكْرٌ العاقلان، فتُتْبِع النعتَ وإن اختلف

_________

ص: 653

معنى العاملين في التعيين (1)، لأنه يصح أن يعبر عنهما بفعل جامع، فتقول: فَعَلَ زيدٌ وبكرٌ العاقلان كذا وكذا، وكذلك إذا قلت: أنا أخوك، وهذا أبوك الفقيران، لأنك تعبِّر عنهما بأن تقول: نحن كذا وكذا. وقد أجاز هذا النحويون على الإتباع. فلو اختلف العاملان بحيث لا يجتمعان في معنى عاملٍ آخر لم يجز الإتباع كقولك: رأيت أخا زيدٍ، ومررت بعمروٍ العاقلين، فلا يجوز الإتباع، إذ لا تجتمع الباء والأخ في معنى عامل واحد.

ومن هنا منع سيبويه: مَنْ عبدُ الله، وهذا زيدٌ الرجلان الصالحانِ، رفعت أو نصبتَ، لأنك خلطتَ مَنْ تَعلم ومَنْ لا تَعلم، فجعلتهما بمنزلةٍ واحدة في النعت، وذلك متدافِع، وإنما الصفة عَلَمٌ فيمنْ عُلِم (2). ولأن المبتدأَيْن لا يمكن أن يعبَّر هنا عنهما بشيء واحد. وكذلك قولك: هذا رجلٌ، وفي الدار آخرُ كريمان، لا يجوز إتباعه لأن أحد العاملين الابتداءُ، والآخر المبتدأُ، ولا يجتمعان في لفظ واحد.

وكذلك: هذا فَرَسُ أَخَوَيِ ابْنَيْكَ العُقَلاء، لا يُتْبع، لأن عامل ((الأخوَيْن)) ((الفرسُ)) وعامل ((ابْنَيْكَ)) ((الأَخَوان)) ولا يجتمعان في عامل واحد. والصفة ايضاً داخلةً فيما دَخل فيه الموصوف، فيكون (العُقَلاء) من تمام الأَخَويْن، من حيث كان صفةً للابنَيْن، وغيرَ تمام لهما من حيث كان صفة للأخوين، وذلك متناقض.

والحاصل أن الاتحاد بالاعتبار الثاني هو أن يتفق العاملان في الاسمية والفِعْلية، وكذلك في الحَرْفية على ما قاله ابن الباذِش (3)، من أن قياس: مررتُ

(1) على حاشية الأصل ((في التعبير)).

(2)

عبارة سيبويه في الكتاب (2/ 60) وهي ((واعلم أنه لا يجوز: مَن عبدُ الله وهذا زيدٌ الرجلين الصالحين، رفعتَ أو نصبتَ، لانك لا تُثْني إلا على من أثبتَّه وعلمتَه، ولا يجوز أن تخلط من تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وإنما الصفة عَلَمٌ فيمن قد علمتَه)).

(3)

هو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف بن محمد الأنصاري الغرناطي ابن الباذِش. كان عالما بالعربية، متقنا لها، ومشاركا في غيرها. وصنف: شرح كتاب سيبويه، والمقتضب، وشرح اصول ابن السراج، وشرح الإيضاح، وشرح الجمل، وشرح الكافي للنحاس (ت 528 هـ). بغية الوعاة 2/ 142.

ص: 654

بزيدٍ ودخلت إلى عمروٍ الطريفَيْن جوازُ الإتباع. قال: لأن العاملين حرفا جَرٍّ فهما كالفعلين.

فإن كان الناظم أراد اتحادَ العاملين بالتفسير الأول فيقتضي امتناعَ جميع ما ذُكر جوازُه بالاعتبار الآخر. وإن أراد الاتحادَ بالمعنى الآخر فيقتضي جواز تلك المسائل، ويقتضي أيضاً جوازَ: هذا فرسُ أَخَوَيِ ابْنَيْك العُقَلاءِ، إتباعاً على قياس ابن الباذِش (1)، إلا ان يفرَّق بين الموضعين. وفيه نظر.

والظاهر من عبارته أن مراده الاتحادُ بالمعنى الأول، وعلى ذلك يَجْري الاحتجاجُ على مذهبه بحول الله.

المسألة الثانية: في تقرير الخلاف في الأقسام المذكورة أولاً، فلا يخلو العاملان أن يَتَّحدا لفظاً ومعنى أَوْلَا، فإن اتَّحدا فإمَّا أن يُراد بالثاني مجردُ التوكيد أَوْلَا، فإن أُريد مجردُ التوكيد فالمسألة جائزة

/ باتفاق، وإن لم يُردَ مجردُ التوكيد فالجمهور على الجواز. وعن ابن السَّراج، وهو

603 مذهبُ نحاة سَبْتة (2)، على ما أخبرنا به الأستاذُ رحمة الله عليه (3)، منعُ الإتباع وإن اتفق اللفظُ والمعنى، لأن الموجب لامتناع الإتباع في العاملين المختلفين هو اجتماعُ عملِ عاملين على معمول واحد، وذلك موجود هنا (4).

والجواب أن عمل العامل في المعمول ليس مجردَ اعتبارٍ لفظي، بل

(1) تقدمت ترجمته.

(2)

سبتة: مدينة مشهورة بالمغرب، تطل على البحر الأبيض المتوسط، ومرساها من أعظم المراسي.

(3)

يقصد ابا عبد الله بن الفخار. وسبقت ترجمته.

(4)

انظر: كتاب الأصول في النحو 2/ 40.

ص: 655

ذلك راجع إلى كونه يطلبه طلباً معنوياً، ولو كان الأمر كذلك لم يجز اعتبارُ المعنى في العطف وغيره من التوابع، بل تقول: مررتُ بزيدٍ وعَمْراً، وهذا ضاربُ زيدٍ وعمراً. وتقول: هل تُكْرِمُنِي فَأْكْرِمْكَ وأُحْسِنْ إليك، بالجزم. وأعجبني ضَرْبُ زيدٍ العاقلُ عَمْراً، وما كان مثله، مِمَّا لا ينحصر من المسائل الجائزة على الحمل على المعنى والمرادِف.

وإذا كان المعنى معتَبراً في عمل اللفظ فإذا اجتمع اللفظان على معنى واحد فكأنهما لفظ دالٌ على معناه، فلا مَحذور.

واعتبارُ المعنى في عمل اللفظ أشهرُ في كلام العرب من أن يُذكر.

وأمّا أن يتحدا في اللفظ والمعنى معاً فلا يخلو أن يتحدا معنىً بحيث يُعَبَّر بأحدهما عن الآخر أَوْلَا، فإن اتَّحدا كذلك فقد ذَكر السِّيرافي اتفاقَ البصريين على جواز الإتباع فيه (1)، وما تقدَّم عن ابن السراج في المسألة فوق هذا يقتضي المنع من باب الأَوْلَى.

وقد ذكر ابن خروف الخلافَ عن المبرِّد. وقد ذكر بعض المتأخرين المنعَ عن ابن السراج نَصاً، ووجه ذلك عنده ما تقدم من إعمال عاملين في معمول واحد.

والأصح ما ذهب إليه الناظم والجمهور، لما تقدم من اعتبار المعنى في العامل. والعاملان هنا في معنى عامل واحد، ولا اعتبار باللفظ فيه.

وإن لم يَتَّحدا كذلك فلا يخلو أن يتحد العاملان في الجنس أَوْلَا، فإن اتحدا في الجنس بحيث يكونان فعلين أو اسمين أو حرفين، فإمَّا أن يتفقان في معنى عاملٍ ثالث يعبَّر به عنهما أَولَا.

(1) السيرافي (جـ 2 ورقة: 186 - ب).

ص: 656

فإن لم يتفقان في ذلك فلا أذكر خلافاً منصوصاً في منع هذا، نحو: هل جاءَ زيدٌ فيكرمَه عمروٌ العاقلان، وجاء زيدٌ فهل أتاكَ أخزه العَاقلان؟

ووجه المنع ما ذكره سيبويه في مسألة: مَنْ عبدُ اللهِ وهذا أخوه الرجلان الصالحان، لأنك خلطت مَنْ تَعْلَمُ ومَنْ لا تَعلم، فجعلتَهما بمنزلة واحدة في النعت. وذلك متدافِع، وقد تقدم ذلك (1).

وإن اتفقا في معنى عامل ثالث فالخليل وسيبويه يجيزان الإتباع، لأنهما أجازا: ذهبَ أخوك، وقَدِمَ عمرو الرجلان الحليمان، وهذا أبوك، وأنا أخوك الفقيران (2).

ومنع ذلك الناظم، وهو رأي المبرّد والزجَّاج وابن السَّراج وجماعة (3). وحجةُ المجيز أن مذهب عمل الفعلين واحد وإن اختلف معناهما، لأنهما قد يجتمعان في معنى فعلٍ ثالث.

ألا ترى أنك إذا قلت: قامَ زيدٌ، وقعَد عمروٌ العاقلان، في معنى (اخْتَلَفا) فقد رجعا إلى معنى فعلٍ واحد يعمل في المنعوتين، فيصحُّ الإتباع، فكأنا قلنا في المسألة: فَعَلَ أخوك وعمروٍ الرجلان الحليمان هذين الفِعْلَيْن.

(1) الكتاب 2/ 60، وانظر: ص 297 (هامش 1).

(2)

الكتاب (2/ 60) وعبارته ((وتقول: هذا رجل وامرأته منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحليمان)).

(3)

قال المبرد في المقتضب (4/ 315): ((وكان سيبويه يجيز: حاء عبد اللهِ، وذهب زيد العاقلان، على النعت، لأنهما ارتفعا بالفعل، فيقول: رفعهُما من جهة واحدة. وكذلك: هذا زيد، وذاك عبد الله العاقلان، لأنهما خبر ابتداء. وليس القول عندي كما قال، لأن النعت إنما يرتفع بما يرتفع به المنعوت، فإذا قلت: جاء زيد، وذهب عمرو العاقلان- لم يجز أن يرتفع بفعلين، فإن رفعتهما بجاء وحدها فهو محال، لأن عبد الله إنما يرتفع بذهب، وكذلك لو رفعتهما بذهب لم يكن لزيد فيها نصيب. وإذا قلت: هذا زيد فإنما يرتفع ومعناه الإشارة إلى ما قرب منك، وذاك لما بعد، فقد اختلفا في المعنى)) وانظر: كتاب الأصول لابن السراج 2/ 41، 42.

ص: 657

وهذا الاعتبار/ بعيدٌ بالنسبة إلى العمل المذكور، لأن المحذور فيه موجود من غير

604 ضرورة تدعو إلى ذلك، فإنهم اتفقوا على منع عملِ عاملين في معمول واحد من غير أن يكونا في التقدير واحداً. وهذا إنما يتأتَّى في مسألتنا، إذ الفَرضْ أن معنى العاملين مختلِف لا مُتَّفِق، وكونُهما في معنى عامل ثالث، أو يُقَدَّران بمعنىً عامٍّ- بعيدٌ عن الاتحاد، فصارا كفِعْل مبتدأ أو كفعل وحرف. وإذا كان ذلك غير جَائز فيه الإتباعُ فكذلك ما في معناه. وقد أشار السيرافي إلى أن القياس المنع (1).

وإن لم يتحد العاملان في الجنس فالجمهور على المنع، ونقل الفارسي في ((التذكرة)) عن الجرمي أنه يجيز: هذا رجلٌ، وجاءني عمروٌ الظريفان، ومررتُ بزيدٍ، وهذا ثوبُ عمروٍ المحسنَيْنِ.

قال الجرمي: وكان الخليل يكره ذلك، وهو جائز، لأن الرفع للصفة أنها صفةٌ لرَفْعٍ رفعتَه، والجَّر لأنها صفة لجَرٍّ جررتَه، والنصبَ لأنها صفةٌ لنصب نصبتَه، فلما كانت العلة فيه واحدة أُجريت كذلك.

قال الفارسي: كأنه يذهب إلى أن العامل في الصفة كونُها وصفا، كما ذهب إليه أبو الحسن. وإذا كان كذلك فاختلافُ العوامل غير مؤثر اتحاد العامل.

ورُدَّ هذا، مع تسليم أن العامل في النعت ما ذكَر من التبعيَّة، أن النعت داخلٌ فيما دَخل فيه المنعوت من جهة المعنى، فنعتُ الفاعل فاعلٌ في المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت: قام زيدٌ العاقلُ، فكأنك قلت: قام

(1) السيرافي (جـ 2 ورقة: 187 - أ).

ص: 658

العاقلُ وإذا قلت: هذا محمدٌ العاقلُ فهو في تقدير: هذا العاقلُ، فالنعت هنا خبرٌ في المعنى. فلو أتبعتَ في قولك: هذا زيدٌ وقام محمدٌ العاقلان لكان (العاقلان) من حيث هو تابعٌ للخبر خبرا، ومن حيث هو تابعٌ للفاعل فاعل. وهذا غير جائز، أن يرتفع اسمٌ واحد من جهتين مختلفتين.

وأيضاً فلو اعتُبر وصفُ التبعيَّة دون العامل لجاز الإتباع في قولك: ضرب زيدٌ عمراً العاقلَيْن، (لأن وصف التبعيَّة موجودٌ دون العامل، ولقلت: جاء زيد، ورأيت عمراً العاقلين كذلك)(1) وهذا باطل باتفاق.

فإن قيل: المانُع هنا اختلافُ التبعيَّة بخلاف مسألتنا- قيل: فيلزم أن تقول: هذا زيدٌ، ومَنْ محمدٌ العاقلان؟ لأن التبعية مُتَّفِقة، ولا اعتبار عنده بالعامل. وهذا كله غير مستقيم.

فالصحيحُ ما رآه الناظم والجمهور. هذا كله مع اتحاد العمل.

فإذا اختلف العمل فلا أعلم خلافاً في منع الإتباع إلا في مسألة واحدة، وهي فيما إذا كان العاملان كلُّ واحد منهما من أفعال (المفاعلة) حتى يكون مرفوعُه في معنى المنصوب، وبالعكس، فإن النقل عندهم جوازُ نحو: ضارَبَ زيدٌ عمراً العاقلان أو العاقلَيْن، على الإتباع فيهما، لأن كل واحد من المرفوع والمنصوب في تقدير صاحبه وفي معناه، فكأنهما مُعربان بإعرابٍ واحد.

وما يدل على صحة هذا القياس أن العرب تعامل المرفوع في باب (المفاعلة) معاملةَ المنصوب، حتى إنها ترفع فاعِلَيْن، وتنصب مفعولَيْن مع/ الاستغناء عن الفاعل، فتقول:

605 ضارَب زيدٌ عمروٌ، وضاربَ زيداً عمراً،

(1) ما بين القوسين ساقط من (ت).

ص: 659

فمن الأول ما أنشده سيبويه لأَوْس بن حَجَر (1):

تُوَاهِقُ رِجُلَاهَا يَدَاهَا ورَأْسُهُ

لَهَا قَتَبُ خَلْفَ الحقَيِبةِ رَادِفُ

فرفع ((رِجْلَاها ويَداهَا)) معاً، اعتباراً بأن كل واحد منهما فاعلٌ مفعولٌ.

ومن الثاني قول الآخر، أنشده سيبويه أيضا (2):

* قَدْ ساَلَمَ الحَيَّاتِ منه القَدَمَا *

روُى بنصب ((الحَيَّاتِ)) و ((القَدَم)) منصوب، ولا فاعل لـ (ساَلَمَ) اعتباراً بما تقدم.

فإذا كان كذلك فلا محذور في جَرَيان النعت على ذلك التقدير، ويتخرَّج الجوازُ في العاملين على المعمول الواحد، فيجوز أن تقول: ضارَبَنِي زيدٌ، وضارَبْتُ عمراً العاقلان، والعاقلَيْن، لأنه في تقدير: ضاربَنِي زيدٌ، وضَاربنِي عمروٌ العاقلان، أو ضاربتُ زيداُ، وضاربتُ عمراً العاقلين. وهذا أَوْلَى بالجواز من مسألة العامل الواحد، فإن الاعتبارين يتضادَّان مع العامل الواحد، ولا يتضادَّان مع العاملين.

والصحيح عدمُ الجواز في الجميع، لأن معنى التبعيَّة الموافقةُ في الإعراب،

(1) ديوانه 73، وسيبويه 1/ 287، والمقتضب 3/ 285، والخصائص 2/ 425، واللسان (وهق). وتواهق: تساير. والقتب: الرجل الصغير على قدر سنام البعير. والحقيبة: كل ما يحمل وراء الرجل. يصف حماراً من حمر الوحش يجري وراء أتان، فرجلاها توافقان يدي هذا الحمار، والحمار يضع رأسه خلفها في سيره، ملازما لها ومزعجا، وكأن رأسه قتب خلف حقيبتها. ويروى ((يداه)) كما في الديوان واللسان، وهي الأجود.

(2)

للعجاج أو مساور بن هند العبسي أو غيرهما. وهو من شواهد الكتاب 1/ 287. والخصائص 2/ 430، والأشموني 3/ 67، والعيني 4/ 80، واللسان (ضرزم). يصف راعيا بخشونة القدمين، وغلظ جلدهما، حتى أصبحت الحيات، مهما كانت خبيثة، لا تؤثر فيهما.

ص: 660

إمَّا بحسب اللفظ، وإمَّا بحسب الموضع، وليس شِيء منهما هنا، وإنما ذلك اعتبارٌ معنوي لا قياس له، ولا سماعَ يُقاس على مثله. ومِثْلُ البيتين شاذٌ لا يُقاس عليه، ولا يَلزم، من القياس على البيتين لو كان، القياسُ هنا، لأنه مناقضٌ لوضع التبعيَّة. وكلُّ قياس أَدَّى لنقض الغرض ممنوع كما تقدم في مواضع.

ورُد أيضاً بأنه لو جاز مثلُ هذا لجاز أن تقول: ضارَبَ زيدٌ هنداً العاقلةُ برفع ((العاقلة)) على المعنى، لأن ((هِنْداً)) فاعلةٌ من جعة المعنى.

ولجاز أن تقول: ضاربَ زيدٌ هنداً العاقَلَ، بنصب (العاقل). وهذا كله غير جائز، وإذا لم يجز في الانفراد فكذلك في الاجتماع من غير فَرْق مُؤَثِّر.

ولو وَرد في النقل مثلُ قولك: ضاربَنيِ زيدٌ، وضاربتُ بكراً القائمان أو القائمَيْن- لكان مقطوعاً لا تابعاً.

فإن قيل: فلم جاز نصبُ الحال منهما نحو: ضربتُ زيداً قائمَيْنِ، ولقيتُه راكبَيْنِ، قال عَنْتَرة (1):

* مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ *

وقد تقدم ذلك.

فالجواب أن حالَ (الحالِ) أخفُّ، إذ لا يُطلب فيه تَبِعَيَّة، والحمل فيه على المعنى سائغ، إذ لا مُعارِضَ له. وأما (النعت) فوصفُ التبعيَّةِ فيه لازم، فلابد من اعتباره، وهو مناقض للجواز في القياس، فلم يصلح للقول بهز والله أعلم.

وأما قوله: ((بِغَيْرِ اسْتِثْنَا)) فتنكيتٌ على من خَصَّ هذا الجواز المذكور

(1) ديوانه 108، وابن يعيش 2/ 55، 4/ 116، 6/ 87، والتصريح 2/ 294، والعيني 3/ 174، والهمع 4/ 340، والدرر 2/ 80، والبيت بتمامه:

متى ما تَلْقَنِي فردَيْنِ تَرْجُفْ روانفُ أَلْيَتَيْكَ وتُسْتَطَارَا

وقد تقدم في باب الحال.

ص: 661

المشروط بنعت المبتدأَيْن والفاعلَيْن. وذلك أن سيبويه إنما تكلم بالنص على ذلك، فأوهم الاختصاص. قال في ((الشرح)): وفي كلام سيبويه ما يُوهم منعَ جواز الإتباع عند تعدد العامل في غير مبتدأَيْن وفاعلَيْن، فإنه قال بعد أن مثل بـ (هذا فرسُ أَخَوَىْ ابْنَيْكَ العُقَلاءِ الحُكماءِ (1)) ثم قال: ولا يجوز أن يُجْرَي وصفاً لما انجرَّ من وجهين، كما لم يَجُزْ فيما اختلف إعرابُه (2). ثم قال: وتقول: هذا عبدُ اللهِ، وذاك أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا/ من وجه واحد، وهما اسمانُ

606 بُنِيَا على مبتدأَيْنِ، وانطلقَ عبدُ اللهِ، ومَضَى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعْلَيْن (3).

قال المؤلف (4): فمن النحويِّين من أخذ من هذا الكلام أن مذهبه تخصيصُ نعتِ فاعلي الفِعْلين، وخبري المبتدأَيْن بجواز الإتباع. والأَوْلَى أن يُجعل مذهبه على رَفْق ما قررتُه قبل، يعني من عموم الجواز في وجوه الإعراب كلها. قال: لأنه مَنع الاشتراكَ في إعراب ما انْجَرَّ من وجهين، كما هو في (هذا فرسُ أخويِ ابنْيكَ) وسكت عن المجرورَيْن من وجهٍ واحد، وعن المنصوبَيْن من وجهٍ واحد، فعُلم أنهما عنده غيرُ ممتنعَيْن.

قال: ويعضِّد هذا التأويلَ قولُه في: هذا عبدُ الله وذاك أبوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجه واحد (5). انتهى كلامه.

والظاهر تعميمُ الحكم كما قال، إذ لا فرق في القياس بين قولك:

(1) الكتاب 2/ 59.

(2)

نفسه 2/ 60.

(3)

نفسه 2/ 60.

(4)

شرح التسهيل للناظم (ورقة: 189 - أ).

(5)

الكتاب 2/ 60، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 189 - أ).

ص: 662

ذهب زيدٌ، وانطلق عمرٌ العاقلان، وقولِك: أحببتُ زيداً، ووَدِدْتُ عمراً العاقلين. وقولك: مررتُ بزيدٍ، ومررت بعمروٍ العاقلين. فإذا جاز الأول جاز هذا، وهو ظاهر.

وقد اختلفوا في اختلاف جنس العامل في الجر: هل هو مانع من الإتباع أم لا، فالجمهور على أنه مانع. ومذهب الجَرْمي أنه غير مانع، وقد تقدم.

واختلفوا أيضاً في حَرْفَيِ الجر المختلفين، والإضافتَيْن مختلفين، هل ذلك كاختلاف جنس العاملين أم لا، على قولين.

فمنهم من عَدَّهما كاختلاف الجنس. وذهب الأخفش في الإضافتين إلى جواز إتباع نعت مجرورهما. وعَلَّل ذلك بأننَّ جرَّ جميعها بالإضافة، فتقول على مذهبه: هذه جاريةُ إحدى ابْنَيْنِ لفلانٍ كِرَامٍ، وهذا فرسً أَخَوَيِ ابْنَيْكَ الحُكماء، وما أشبه ذلك.

ورُدَّ بأن هذين الجَرَّيْن لا تستطيع على جمع حكميهما بوجه من وجوه الإفراد ولا الجمع، ولا الإشراك، كما ساغ ذلك في الفعلين وفي المبتدأين.

وذهب ابن الباذِش إلى أن قياس الحرفين المختلفين نحو: مررتُ بزيدٍ، ودخلتُ إلى عمروٍ أن يكونا مثلَ الفعلين، وفَهِم من الكتاب أن سيبويه يجيزُ ذلك.

والأظهرُ المنع، لأن ما يَسُوغ في الفعلين، من جمعهما في فعل واحد، واشتراكهما في معنىً ما لا يسوغ في الحرفين، لأن معانَي الأفعال تقبل

_________

ص: 663

الاجتماع في معنى فِعْلٍ آخر، ويدل معنى الفعل على معنى فعل آخر، وإن لم يكن بمعناه من كل وجه، وليس الحرف كذلك. وكذلك الإضافتان ليستا كالفعلين في هذا، بل كالحرفين.

وأيضاً فعاملا الجِّر، إذا لم يتفقا في المعنى اتفاقَ التماثل أو الترادف، لم يصح أن يُعاملا معاملة العامل الواحد. أمَّا إن اتفقا نحو: مررتُ بزيدٍ، ومررت بعمروٍ العاقلين، أو ترادفَا نحو: سِيق المالُ لزيدٍ، وإلى عمروٍ العاقلين فجائزٌ الإتباعُ لموافقة الشرط، وكذلك في الإضافة.

المسألة الثالثة: فيما عسى أن يرد عليه من الاعتراضات في هذا الحكم، وذلك أنه قَرَّر أن الإتْبَاع بالشرطين المذكورين صحيح، فمقتضى ذلك أنهما إذا تخلفا أو/ تخلف أحدهما

607 فلابد من القطع.

أما صحة الإتباع مع وجود الشرطين ففيه نظر، فإن الناس يشترطون في ذلك شروطاً أُخَرَ زائدةً على ما ذَكر، وهي الاتفاق في التعريف أو التنكير، أعني المنعوتَيْنِ، فلا يجوز أن تقول: جاءني رجلٌ، وجاءني زيدٌ العاقلان، ولا عاقلان، لما يلزم من نعت النكرة بالمعرفة أو بالعكس.

ولكَوْنُ النعت جارياً على نكرة مطلوبِ التنكير، وكونُه جارياً على معرفة مطلوبِ التعريف، فاجتمع عليه الضدان من جهة واحدة فلا يصح.

وأَلَاّ يكون أحد المنعوتَيْن، وهما المعمولان، اسمَ إشارة، فلا يجوز أن تقول: جاءني عمرو العاقلان، لما يلزم من الفصل بين المبَهم ونعته، وذلك لا يجوز، إذ لا يقال: جاء هذا من الدارِ الرجل، كما تقول: جاء زيدٌ من الدارِ العاقلُ، ولا يجوز ايضاً إن اخَّرتَ اسمَ

_________

ص: 664

الإشارة، لأنه إذا نُعت بالمشتق فهو على حذف الجامد، والاسمُ الظاهرُ غير المبهم إذا نعت بالمشتق فليس على حذفِ جامد، فتدافع الأمران فامتنع.

وكذلك لا تقول: جاءني هذا، وجاءك ذاك الرجلان، للفصل اللازم. وكذلك امتنع أيضاً في جمع المنعوت وتفريق النعت أن تقول: مررتُ بهذين الرجلين والمرأةِ. ومررت بذَيْنك الطويلِ والقصيرِ. وهو ايضاً مما يَرِدُ عليه في الفصل قبل هذا حيث قال:

((ونَعْتُ غيرِ واحدٍ إذا اخْتَلَفْ

فَعَاطِفاً فَرِّقْهُ لا إذَا ائْتَلَفْ))

فإنه يقتضي جواز هذه المسألة وهي غير جائزة.

وقد عُلِّل ذلك بأوجه؛ منها أن النعت يربطه بالمنعوت الضميرُ العائد عليه من النعت، فجاز أن يجيء النعت مُشَاكِلاً للمنعوت في التَّثْنية، وأَلَاّ يأتي كذلك، بخلاف نعت الإشارة، فإنه بالجامد إمَّا لفظاُ وإما تقديرا. والجامد لا ضمير فيه، فلم يبق رابط إلا المشاكلة، فلا يصح أن يقال: مررت بهذين الطويلِ والقصيرِ، ولا بهذين الرجلِ والمرأةِ.

وعلى هذا أيضاً يمتنع ما تقدم، لأن قولك: جاءني هذا، وجاءك ذاك الرجلان، أو مررتُ بزيدٍ، ومررتُ بهذا العاقلان- قد فُقدت فيه مناسبةُ النعت لاسم الإشارة فالحاصل ثبوتُ الاعتراض على المسألتين معاً، فإن إطلاقه فيهما يقتضي حكماً غير صحيح.

وأما كونُ أحد الشرطين يوجب القَطْع، أعني قطعَ النعت إلى الرفع أو النصب، فذلك غير صحيح على الإطلاق، بل ذلك على ضربين.

أحدهما أن يكون كلا المنعوتين في جملة خَبَرية، أو جملة غير خَبَرية نحو

_________

ص: 665

هذا عبدُ الله، وهذا زيدٌ العاقلان، ومَنْ عبدُ الله، ومَنْ زيدٌ العاقلان؟ وسائرِ ما كان مثلَ ذلك. فالجميع يجوز فيه الإتباع.

فإن تخلَّف شرطٌ فالقطعُ نحو: مَنْ جاءكَ ـخوه ومَنْ ضَربك ابوه العاقلَيْن، وجاء زيدٌ وأكرمك عمروٌ العاقلين، ونحو ذلك.

والثاني/ أن يكون أحدهما في جملة خَبَرية، والآخر في جملة غير خبرية نحو: جاء زيدٌ، 608 وهل جاء أخوه الصالحان أو الصالحين؟ ونحو: أكرمتَ أخاك، وهل أكرمتَ أباك الصالحان أو الصالحين، فلا يجوز هنا الإتباعُ ولا القطعُ، فقد منع سيبويه أن تقول: مَنْ عبدُ الله وهذا زيدٌ الرجلين الصالحين، رفعتَ أو نصبت كما تقدم (1)، لأن الاستفهام يستلزم الجهلَ بالصفة، والخبُر يستلزم العلمَ بها من حيث هو ممدوح، فيجتمع في الصفة العِلْمُ والجهلُ معا، وكلام الناظم يقتضي جواز ذلك إذ لم يُقَيِّده.

ووجهٌ آخر من الاعتراض، وهو أنه ذَكر جمعَ النعوت مع كون عامل المعمولين متعدداً، ولم يذكره مع كونه مُتَّحدا، فإن مثل هذا حَرٍ (2) بأن يُذكر حكمُه هنا، إذ هو كثير الاستعمال، ومن جلائل النحو، وذلك أنك لا تقول: ضربَ زيدً عمراً العاقلان، ولا العاقلين، لاختلاف العمل، ويجوز مع العطف إذا قلت: جاء زيدٌ وعمروٌ العاقلان، كما تقدم (3).

(1) الكتاب 2/ 60، وانظر: ص 654.

(2)

يقال: فلان حَرِىَّ بكذا، وبالحَرىَ ان يكون كذا، أي جدير وخليق.

(3)

انظر: ص 652.

ص: 666

ويبقى النظر في نحو: أعطيتُ زيداً الغلامَ العاقلين، واخترتُ الرجالَ زيداً العُقَلاء، وكسوتُ زيداً الثوبَ الطويَليْن، وأعْلَمتُ زيداً أخاك العاقَليْن شاخصاً، وما أشبه ذلك.

فيمكن أن يكون الإتباع فيها جائزاً أو ممتنعا، ولم يبيِّن ذلك، ولا أشار إليه، فكان الفَصْل قاصراً.

وقد يُجاب عن ذلك بأن الشرط الأول لا يُحتاج إليه هنا، لأنه قد قَدَّم اشتراط ذلك أولَ الباب، وهو لا يختص بمسألة دون أخرى، فهذه المسألة داخلة تحت مقتضى شرطه، لأن ((العاقلَيْن)) أو ((عاقلَيْن)) في قولك: مررتُ برجلٍ ومررتُ بزيدٍ العاقلين، أو عاقلَيْن- قد جرى ما لا يوافقه في تعريفه أو تنكيره، فلم يصح في الإتباع.

وأما مسألة ((اسم الإشارة)) فإن المؤلف يُجيز نعته بالمشتق، وظاهره أنه ليس على حذف الجامد، فعلى هذا يمكن أن يُجيز: جاء عمروٌ، وجاء هذا العاقلان، وأن يُجيز: مررتُ بهذين الطويلِ والقصيرِ، كما يجوز: مررتُ بالرجلين الصالح والطالح، لأن المشتق عنده مع اسم الإشارة ليس على تقدير الجامد، فلا يُعترض بها عليه.

وإن كان الجاري على اسم الإشارة جامداً فليس بنعتٍ عنده، وإنما هو عطفُ بيان، وهو رأي لبن السَّيد وغيره (1)، فلا تدخل له مسألةُ الجامد في هذا الباب، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

والجواب عن مسألة القَطْع أنه قال اَتْبَعْ كذا بشرط كذا، فالمفهوم أنه إذا لم تتوَفَّر الشروط لا يُتْبَع، ونفُي الإتباع لا يستلزم إثباتَ القطع لأنه أعمُّ من ذلك،

(1) وهم: الزجاج وابن جني والسهيلي واختيار ابن مالك [ارتشاف الضرب-962].

ص: 667

إذ قد يَصْدُق على مسألة سيبويه أنها لا إتباعَ فيها (1)، لأن الإتباع وغيره ممتنعٌ فيها، لكن يبقى فيه أنه لم ينص على ما يكون من الحكم مع تخلف الشرط. نعم يتوجَّه الاعتراضُ عليه على وجه آخر، وهو أن للإتباع شرطاً آخر لم يذكره، وهو ألا يكون أحد المعمولين في جملة خبرية، والآخر في جملة غير خبرية، فهذا الشرط لابد منه، وإلا لزم جوازُ ما مَنع سيبويه/ حسبما يقتضيه كلامه،

609 وذلك غير صحيح.

والعذُر أن المسألة من النوادر التي لا يذكرها إلا القليل. وقد أغفل ذكَرها في ((التسهيل)) وكان من حقه أن يذكرها هنالك، وهنا ليست من الضروريات.

وأما الثالث فإنه أغفل ذكر ذلك القِسْم رأساً، فيمكن أن يكون تَرَكه للاستغناء عنه، أمَّا عند اختلاف العمل فظاهرٌ المنعُ مِمَّا شَرطه في قوله: وَحِيَديْ مَعْنىً وَعَملٍ)) لأن العلة واحدة في الوجهين.

وأما مسألة (أَعْطَيْتُ) وما ذُكر معها (2) فهي من المسائل المُغْفَلة التي لا أعلم أحداً ذكر لها حكماً مخصوصا بجوازٍ أو مَنْع، فلم يتعرض لها هنا كما لم يتعرض لها في غير هذا الكتاب.

فإن قلت: فما حكمُها؟ قيل: ليس هذا من مقاصد الشرح، وفيها نظر. والظاهر فيها منعُ الإتباع، وقد يَظهر وجهُ المنع مما تقدَّم في تفضيل المسألة قبل هذا، فتأمَّله.

(1) تقدم القول فيها 662، وانظر: المتاب 2/ 60.

(2)

يقصد الأفعال التي تنصب مفعولين أو ثلاثة، وقدَ مثَّل لها قبل ذلك بقوله: أعطيت زيدا الغلام العاقلين، واخترت الرجال زيدا العقلاء، وكسوت زيداً الثوب الطويلين، وأعلمت زيداً أخاك العاقلين شاخصاً.

ص: 668

وإِنْ نُعوتُ كَثُرَتْ وقَدْ تَلَتْ

مُفْتَقِراً لذِكْرِهِنَّ أُتِبْعَتْ

واقْطَع أَوَ اتْبِعْ إنْ يَكُنْ مُعَيَّنَا

بَدُونِهَا أو بَعْضِها اقْطَعْ مُعْلِنَا

يريد أن النعوت إذا كَثرتُها أن تكون أكثر من واحد، وهو اصطلاح أهل العَدَد حيث يقولون في حَدِّ العَدَد: إنه الكثرةُ المؤلَّفة من الآحاد، ولا يريد الكثرةَ في اللغة (1)، بل معنى التعدُّد. وهذا، وإن كان خلافَ اصطلاح أهل العربية، متعيِّن في الموضع.

فلا يخلو أن يكون المنعوت، وهو الذي تَلَتْه النعوت، مفتَقراً لذكرها كلِّها أو غيرَ لشٍيء منها، أو مفتقِراً لبعضها دون بعض، فهذه ثلاثة أحوال:

فأَمَّا الحالُ الأولى، وهو أن يكون المنعوت مفتقِراً لذكرها كلِّها- ومعنى افتقارِه إليها أن تَتوقف معرفةُ المنعوت عليها، فلا تحصل معرفتُه في ظن المتكِّم إلا بها- فالذي نَصَّ عليه الناظم أنها تُتْبَع كلُّها، ولا تُقْطَع هي ولا شيءٌ منها، وذلك قوله:((وقَدْ تَلَتْ .. مُفْتَقِراً لذِكْرِهَّن أُتْبِعَتُ)).

وإنما لزم إتباعُها لأن القطع يُقصد به تكثيرُ الجمل، والإطنابُ في مدح أو ذم أو ترحُّم، وذلك إنما يكون بعد معرفةِ المنعوت والاستغناءِ عن بيانه.

فأمَّا إذا كان القصد البيانَ، لأنه لم يُعَرَّف بعدُ، فلابد من البيان، لأن النعت حينئذ من تنام المنعوت، وكالجزء منه، أَلا ترى إلى قول سيبويه: زيدٌ الأحمرُ عند مَنْ لا يعرفهُ بعينه كزيدٍ وحدَه عند مَن يعرفه (2). فإذا كان من تمامه

(1) الكثرة في اللغة: نقيض القلة، ونماء العدد.

(2)

الكتاب 1/ 88.

ص: 669

فلا يصح إذاً أن يخالفه في الإعراب، لتنزُّله حينئذٍ منزلَة آخر المنعوت، فكما لا يصح قطعُ المنعوت عن اقتضاء العاملِ الأولِ فيه إعراباً معيَّناً، كذلك لا يصح فيما هو كالجزء منه، وهذا واضح، فتقول: مررتُ بزيدٍ الخياطِ القرشيِّ، وائتِني برجلِ مسمٍ عربيٍّ كاتبٍ فقيهٍ حاسبٍ، وما أشبه ذلك، ولا تَقْطع.

وأما الحالُ الثانية، وهي أن يكون المنعوت غَير مفتِقر في معرفته إلى شيء من تلك النعوت- وهو معنى كونه معيَّناً بدون النعوت، أي معروفاً قبل ذكرها- فلك فيه ثلاثة أوجه، كلها جائزٌ أوجه، كلها جائزٌ داخلٌ تحت/ قوله:((واقَطْع أَوِ اتِبْع)) إلى آخره. 610

أحدها قطعُها كلِّها إلى الرفع، فتقول: مررتُ بزيدٍ الفاضلُ الصالحُ العالمُ، أو إلى النصب فتقول: مررت بزيدٍ الفاضلَ الصالحَ العالمَ، ومنه قول الخرِنْقِ، أنشده سيبويه (1):

لا يَبْعَدنُ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ

سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ

النَّازِليَن بكُلِّ مُعْتَرَكٍ

والطَّيبَّيِن مَعَاقِدَ الأُزْرِ

(1) الكتاب 2/ 57، 64، والمحتسب 2/ 198، وأمالي ابن الشجري 1/ 345، والإنصاف 468، 743، والعيني 3/ 602، 4/ 72 والتصريح 2/ 116، 204، والأشموني 3/ 68، 214، والخزانة 5/ 41، والهمع 5/ 183، والدرر 2/ 150. ولا يبعدن: لا يهلكن. وسم العداة: هم كالسم القاتل لأعدائهم، والعداة: جمع عاد، وهو العدو. والآفة: العلة والمرض. والجُزْر: جمع جزور، وهي الناقة تنحر. والمعترك: موضع ازدحام القوم في الحرب والأزُرْ: جمع إزار، وهو ما يستر النصف الأسفل من البدن. والمعاقد: جمع معقد، وهو حيث يعقد الأزار ويثنى، وطيب المعاقد كناية عن العفة، وأنها لا تحل لفاحشة. وصفتهم بالشجاعة والجودُ العفة.

ص: 670

فعلى تقدير ان يكون ((الذين هُمُ)) في موضع نصب لا يكون شاهدا (1). ويُنْشَد هكذا (2)

النَّازلُونَ بكُلِّ مُعْتَرَكٍ

والطَّيِّبُونَ مَعاقِدَ الأُزْرِ

برفع الجميع.

والثاني أن تُتبعها كلَّها فتقول: مررتُ بزيد الفاضل الصالح العالم، ومنه قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مالِكَ يْومِ الدِّينِ} (3) وفي الشعر قولُ الراجز أنشده سيبويه (4):

بأَعْيُنٍ مِنْهَا مَليحات النُّقَبْ

شَكْلِ التِّجَارِ وحَلَالِ الْمكْتَسَبْ

وأنشد أيضاً لمالك بن خُوَيْلد الخُناعي (5):

(1) في الأصل و (ت)((يكون شاذا)) وهو تحريف، وما أثبته من (س).

(2)

الكتاب 1/ 202، وكذلك المراجع السابقة.

(3)

سورة الفاتحة/ آية 2، 3، 4.

(4)

الكتاب 2/ 67، واللسان (نقب). يصف جواري أو إبلا- والنقب: يروى بضم النون وكسرها، فعلى الضم يكون جمع نُقْبة، وهي ما أحاط بالوجه من دوائره، وعلى الكسَر يكون جمع نقْبة، فِعلَةَ من الانتقاب بالنقاب، وشكل التجار: أي يصلحن للتجارة. ويروى ((شكل النجار)) بالنون، أي تشاكل نجارها وتشبهه.

(5)

ديوان الهذليين 3/ 3، والكتاب 2/ 67، وابن يعيش 6/ 32، واللسان (وحد). يصف اسدا. والحِيَد: نتوء في قرنه، واحدتها حِيَدة. ويروى (حَيَد) على المصدر. وحومة الموت: مجتمعه. والرزَّام: من الرزم، وهو الصَّرْع. والفراس: من الفَرْس، وهو دق العنق، ومنه: الفريسة، لاندقاق عنقها. والصريمة: رميلة فيها شجر، تنفرد وتنقطع مما حولها من والأرض. والهماس: من الهمس، وهو الصوت الخفي، وذلك من عادة الأسد. وأحدان: أصله وحدان، فقلبت الواو همزة، وهو جمع واحد. ويقال: رجل واحد، أي متقدم في العلم أو البائس أو غيرهما، كأنه لا مثل له، فهو وحده في ذلك. ومعنى الشعر أن الدهر لا ينجو منه أحد ولا شيء حتى هذا الأسد.

ص: 671

يامَيَّ لا يُعْجِزُ الأيَّامَ ذُو حِيدٍ

في حَوْمَةِ الموتِ رَزَّامٌ وفَرَّاسُ

يَحْميِ الصَّريمةَ أُحْدَانُ الرِّجالِ له

صَيْدٌ ومُجْتَرِئٌ باللَّيْلِ هَمَّاسُ

ويحتمل القطع.

والثالث أن تُتْبع بعضاً دون بعض، وهو نَصُّه حين قال:((أو بَعْضِها اقْطَعْ مُعْلِنَا)) فتقول: مررتُ بزيدٍ العاقلِ الفاضلُ. وقد أُنْشِد بيتُ الخرِنْقِ هكذا (1):

النَّازِلوُن بكلِّ مُعْتَرَكٍ

والطَّيِّبينَ معاقدَ الأُزْرِ

وبالعكس (2)

وأنشد سيبويه قولَ ابن خَيَّاط العُكْلي (3):

وكلُّ قومٍ أَطاعُوا أمَر مُرْشِدِهمْ

إلَاّ نُمَيْراً أَطَاَعَتْ أمرَ غاوِيَها

(1) انظر: المراجع السابقة.

(2)

أى هكذا:

النازِلينَ بكُلَّ مُعْتَرَكٍ والطيَّبُونَ معاقَد الأُزْرِ

(3)

الكتاب 2/ 64، والإنصاف.47. ونمير: قبيلة من بنى عامر. وغاويها: مغويها: ، من الغي، وهو الضلال. وقيل: المراد بغاويها الضال نفسه، فهو غاوٍ في نفسه، مغو لمن أطاعه. والظاعنين: المرتحلين، يعني أنهم يخافون عدوهم لقلتهم وذلهم فيحملهم ذلك على الظعن والهجرة. وقوله:((ولما يظغنوا أحدا)) معناه أن عدوهم لا يخافهم فيظعن عن داره. وقوله ((لمن دار نخليها)) معناه أنهم إذا رحلوا عن دارهم لم يعرفوا من يحلها بعدهم من قبائل العرب، لأنهم أضعف من كل قبيلة، وكل قبيلة يمكن أن تحل دارهم.

ص: 672

الظَّاعِنيِنَ وَلَمَّا يُظْعِنُوا أحداً

والقائِلُونَ لِمَنْ دار نُخَلَّيهَا

قال سيبويه: ومن العرب من يقول: الظَّاعِنُون، والقائِلَين (1). وهذا من القسم الذى قبل هذا. وأَنشد أيضاً لأمَيَّة بن أبى عائذ (2):

وَيأْوِى إلى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ

وشُعْثاً مَراضيعَ مثلَ السَّعَالِى

وإنما جاز القطع مبالغةً فى المدح أو الذم، لأنه يَستلزم تكثيرَ الجمل المتضمِّن للإطناب فى وصف المذكور، فوصفُه بجملٍ كثيرى أبلغُ من وصفه بجملة واحدة.

وأيضاً فإن العِلْم به يُؤذن بالاستغناء عنه، فقَطَعوا إيذاناً بذلك، ليعرِّفوا أن المنعوت مستغنٍ عن نعته. وكأن تعليق حكم القَطْع على العِلْم فى قوله:((واقَطْع أو اتْبِعْ إن يَكُنْ معيَّناً بدونها)) يُرشد إلى هذا الوجه الثاني من التعليل.

قال سيبويه: وزعم الخليل -رحمة الله- أن نصب هذا - يَعنى ما تقدَّم من القطْع - على أنك لم تُرِد أن تحدِّث الناس، ولا مَنْ تُخاطب، بأمرٍ جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ، فَجعَله تعظيماً وثناء، إلى آخر ما

(1) الكتاب 2/ 65.

(2)

الكتاب 1/ 399، 2/ 66، ومعانى القرآن للفراء 1/ 108، والأشموني 3/ 69، والخزانة 2/ 426، وديوان الهذليين 2/ 184، واللسان (رضع). يصف صائدا يسعى لكسب رزقه، فيغترب عن نسائه في طلب الصيد، ثم يأوى إليهن فيجدهن في أسوأ الأحوال. والعطل: جمع عاطل، وهي التي لا حلى لها، أو التي لا شئ عندها، وهذا المعنى الثاني أولى في هذا الموضع. والشعث: جمع شعثاء، وهي التي تلبد شعرها لعدم تعهده بالدهن. والمراضيع: جمع مرضاع، وهي الكثيرة الإرضاع. والسعالى: جمع سِعلاة، وهي أنثى الغيلان، وتشبه بها المرأة إذا كانت قبيحة الوجه، سيئة الخلق.

ص: 673

قال (1).

وأما الحالُ الثالثة، وهو أن يكون المنعوت مفتقِراً إلى بعض النعوت دون بعض فحكمُها إمَّا مأخوذُ من قُوَّة كلامه في الحالين الأَوَّلَيْن، وذلك أن يُتْبَع ما كان مفَتَقَراً إليه، ويُخيَّر في الباقي، فتقول: مررتُ بزيدٍ الخَيَّاطِ الصالح الفاضل. فـ (الخَيَّاطُ) مثلاً لازمُ الإتباع لأنه مفَتقر إليه في بيان المنعوت، ولك في (الصالح، والفاضل) الأتباعُ والقطعُ.

لكن يبقى النظرُ في تقديم المفَتقَر إليه مسكوتاً عنه. ولابد من تقديمه/ لأنه لا

611 يجري نعتُ المدح والذم والترحُّم إلا بعد معرفة صاحبه. ولعل الناظم سكت عن هذا لأنه ظاهر المعنى.

وقد ذهب ابن الناظم في ((شرحه)) (2)، إلى أن هذه الحالة الثالثة هي المرادة بقوله:((أو بَعْضِها اقْطَعْ مُعْلِنَا)) كأنه يقول: وإن يكن المنعوت معَنَّياً ببعضها فاقْطَعْ ما سواه.

وهذا التفسير لا يَظهر، إذ لو أراد الناظم ذلك لقال: أو بَعْضها اقَطْع معلِناً إن كان معيَّنا بالبعض الآخر، ولم يقل ذلك، فإنَّما قوله:((أو بَعْضِها اقْطَعْ مُعْلِنَا)) راجع إلى القسم الأخير، وهو أن يكون المنعوت معيَّنا بدونها كما تقدم.

ويَدخل حكمُ الحالة الأولى تحت معنى العبارة، لأن ما تأتي به من النعوت المفتَقَر إليها يَشمله قوله:((وقَدْ تَلَتْ مفتِقراً لذِكْرِهَّن)).

وما يأتى به مما هو معيَّن بدونها يَشمله قولهُ: ((إنْ يَكُنْ معيَّناً

(1) الكتاب 2/ 65، وما قال بعد ذلك هو ((ونصبه على الفعل، كأنه قال: أذكر أهل ذاك، وأذكر المقيمين، ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره)).

(2)

شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم: 497.

ص: 674

بدوُنِها)) فظهر مراده، وبالله التوفيق.

وقوله: ((مُعْلِنَا)) أي مبيِّناً ذلك، ومصرِّحاً به، وظاهره أنه فَضْل، ولكنه يمكن أن يكون تنِكْيتاً على رأي مَن رأى أن القطع لا يأتي إلا بعد الإتباع، فعند هذا القائل لا يجوز: مررتُ بزيدٍ الكريمِ الفاضل، برفعهما معاً، أو نصبهما، أو رفع أحدهما ونصب الاخر، بل اللازم إتباعُ الأول وقطعُ الثاني.

وهذا غير مَرْضِيٍّ، فقد حكى سيبويه: الحمدُ للهِ الحميدَ، والحمدُ للهِ أهلَ الحمدِ (1)، بالقَطْع ولم يتقدم مُتْبَع، وأنشد للأخطل (2):

نَفْسِي فِدَاءُ أميرِ المؤْمنيِنَ إذا

أَبْدىَ النَّوَاجِذَ يومٌ باسِلٌ ذَكَرُ

الخائضُ الغَمْرَ والمَيْمُونُ طائِرهُ

خليفهُ اللهِ يُسْتَسْقَى به المَطَرُ

وقد تقدم إنشاد بيت العُكْلى (3):

* وكُلُّ قَوْمٍ أَطَاعُوا أَمْرَ مُرْشِدِهمْ *

(1) الكتاب 2/ 62.

(2)

من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، ديوانه 98 - 122، وسيبويه 2/ 62، واللسان (جشر، بسل) وفي جميع نسخ الكتاب ((أبدى النواجذ يوما)) بنصب ((يوما)) وما أثبته من الديوان، واللسان وسيبويه. والنواجذ: الأضراس، أو أقصاها، أو أضراس الحلم. ويوم باسل: شديد كريه، والذكر: الشديد أيضا وإبداء النواجذ كناية عن الشدة والبسالة. والغَمْر: الماء الكثير. ويقال: هو ميمون الطائر، إذ كان كثير الخير، وممن يتبرك بهم. وكانوا يستسقون المطر بمن يأنسون فيه اليمن والخير.

(3)

عجزه:

* إلَاّ نُمَيْراً أَطَاعَتْ أمرَ غَاوِيَها *

وقد سبق.

ص: 675

وهو كثير، فلا مُسْتَنَد لهذا القول ولا سَلَف.

فكأن الناظم يقول: اقطع الجميعَ أو أَتْبِعْها، أو اقطع بعضاً دون بعضٍ مُعْلِناً بذلك من غير قَيْد، فالجميع جائز.

ولا فرق في ذلك بين المعرفة والنكرة، بل يجوز أن يقال: مررتُ برجلٍ عالمٍ صالحٌ، كما تقول: مررتُ بزيدٍ العالمِ الصالحُ.

ثم على كلامه سؤالات، أحدها أن الذي يَتْبع من النعوت ثلاثةٌ، نعتُ البيان المنبَّه عليه، وهو المفتَقَر إليه.

ونعت التوكيد نحو قوله تعالى {فَإذِاَ نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ واحدَةٌ} (1)، {وقَاَل اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثنَيْنِ} (2)، ونحو ذلك وهذا مُتَّفَق على منع القطع فيه. وما وُضع من النعوت على اللزوم نحو: مررتُ بهم الجَمَّاءَ الغَفِيرَ، وطَلَعَتِ الشَّعْرىَ العَبوُرُ (3). وهذا أيضاً مُتَّفَق على منع القطع فيه.

وأما القسم الأول فالظاهر من كلام النحويين لزوم الإتباع أيضا، إلا أن ابن أبى الرَّبيع (4) أجاز فيه القطعَ إلى النصب بإضمار فعل، وإلى الرفع

(1) سورة الحاقة/آيه 13.

(2)

سورة النحل/آيه 51.

(3)

يقال: جاء القوم الجماءَ الغفيرَ، أي جاءوا بجماعتهم، الشريف والوضيع، ولم يتخلف منهم أحد، وكانت فيهم كثرة. والغفير: وصف لازم للجماء، يعني أنك لا تقول: جاءو الجماء، وتسكت. وانظر: اللسان (غفر، جمم). والشعرى: شعريان، أحدها الغُمَيْصاء، وهو أحد كوكبي الذراعين، والثاني العَبُور، وهو كوكب نيَّر يقال له المرزم، يطلع بعد الجوزاء عند شدة الحر، وسميت عبورا لأنها عبرت المجرة. وانظر: اللسان (شعر، عبر)

(4)

هو أبو الحسين عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله بن محمد ابن أبي الربيع الإشبيلي. إمام أهل النحو في زمانه، صنف: شرح الإيضاح، وشرح سيبويه، وشرح الجمل، وعشرة مجلدات، لم يشذ عنه مسألة في العربية (ت 688 هـ). بغية الوعاة 2/ 125.

ص: 676

بإضمار مبتدأ، ويجوز إظهارُهما، كأنه على تقدير سؤال سائل يقول: مَنْ تَعْنِى؟ أو مَنْ هو؟ إذ لم تَبْنِ الكلامَ على ذكر النعت، لاعتقادك أن المخاطب يعرف مَنْ ذَكره، ثم يبدو لك أنه لا يعرفه، فتقول: مررتُ بزيدٍ الخياطَ، والخياطُ. وإن شئت قلت: أعني الخياطَ، أو هو الخياطُ (1).

وما قاله ابن أبى الربيع ليس بمخالف/ لما تقدَّم من لزوم الإتباع، بل هو موافق لغيره. 612

وثَمَّ نوعٌ رابع يَلزم فيه الإتباعُ أيضاً، وهو نعت المشار إليه، نحو: مررتُ بهذا الفاضلِ وذلك الصالحِ، وما أشبه ذلك. وقد تقدم رأيهُ في نعت الإشارة بالمشتق (2).

فالظاهر من كلام الناظم جوازُ القطع فيها كلِّها، وهو خلاف ما قاله الناس.

وثَمَّ أنواعٌ أُخَر يلزم فيها الإتباع أيضاً لا تَعْسُر على مَن طَلبها، لكنها قليلة الاستعمال فلذلك لمُ تذكر هنا.

وعلى الجملة فالشروط المذكورة في جواز القطع أربعة:

أحدها أن يكون النعت للمدح أو الذم أو الترحُّم، فإن كان لغير ذلك لم يجز القطع إلا على ما قاله ابن أبى الربيع، وليس ذلك من القطع المذكور في ((باب النعت)).

والثاني ألا يكون نعتُ المدح أو الذم الترحُّم خاصاً بمَنْ جرى عليه، لا يَليق بغيره، فإنه إذا لم يكن خاصاً كان القطع جائزاً بإطلاق،

(1) البسيط في شرح الجمل 171، 172.

(2)

انظر: ص 628.

ص: 677

بل هو عندهم الأفصح.

فأما إذا كان خاصاً بمن جرى عليه في المعنى فالإتباع هو الوجه الشائع، والقطع قليل.

ويَطَّرِد هذا في صفات الله تعالى، لَا يتَّصِف بها غيرهُ، كقوله:{الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَميِن * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * ملِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1)، فإن الجرَيان هنا على الموصوف هو الشائع. ولذلك لم يَقْرأ في بعضها بالقطع إلا قليلٌ.

ومنه قوله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الكتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَليِمِ * غَافِر الذَّنْبِ وقَابِل التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَاب ذىِ الَّطْولِ} (2). ومثل هذا في القرآن كثير جدا.

وفي الشعر قولُ عَمْرو بن الجَمُوح (3):

الحمدُ لِلَّهِ الغنيِّ ذِى المِنَنْ

الواهبِ الرزَّاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ

وهذا الشرط نَبَّه عليه سيبويه في قوله: وسمعنا بعضَ العرب يقول: {الحمدُ لَلَّهِ رَبَّ العَالَمِينَ} فسألت عنها يونس، فزعم أنها عربية (4).

وبَسْطُ وجه ذلك ذَكره ابن الزُّبَيْر الأندلسي شيخُ شيوخنا (5) في كتابه ((مِلَاك الَّتْأوِيل)) وهي من مسائله الحِسَان.

(1) سورة الفاتحة/آيه 2، 3، 4.

(2)

سورة غافر/آيه 1، 2، 3.

(3)

لم أجده.

(4)

الكتاب 2/ 63.

(5)

هو الأستاذ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بي الزبير الأندلسي، كان محدثاً جليلا، ناقدا نحوياً أصوليا، أديبا فصيحا مفوَّها، مقرئاً مفسراَ مؤرَّخا. أقرأ القرآن والنحو والحديث بمالقة وغرناطة وغيرهما. صنف تعليقا على كتاب سيبويه، والذيل على صلة ابن بشكوال (ت 708 هـ). بغية الوعاة 1/ 291.

ص: 678

والثالث أن لا يَبْنى المتكلمُ كلامه على ذكر الصفة، وإنما يبدو له ذكرُها بعد شروعه في التكلم، فُيخرجها مُخرج الجواب على سؤال، فيَقطعها على ما يقدِّر السؤال، فيرفعُها أو ينصبُها، فإنه إذا ابتدأ كلامَه قاصداً ذكرَ الصفة أولاً لم يكن بُدٍّ الاتباع، لأن بناءه على ذكرها أولاً يَقتضي إجراءها عليه. والقطُع نقيضُ ذلك، إذ هو مقَتضٍ للاستئناف، لأن الصفة مع المقدَّر تصير جملةً مستقلة لا موضعَ لها من الإعراب. وهذا شأن الجمل المستأنَفة.

ونظير ذلك الظنُّ في الغاية وعدم الغاية كما تقدم، و (أَوْ) مع (إمَّا) في الشك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى (1).

وهذا الشرط نَصَّ عليه ابن مَلْكون في ردَّه على الصَّيْمري (2)، وهو ظاهر المعنى فلا ينبغي إهماله.

والرابع ما ذكره الناظم من تقدُّم/ العِلْم بالمنعوت دون النعت، فنقصه ذكر ثلاثة شروط، 613 واقتصر على واحدٍ لا يفي بمعني ما ترك.

والسؤال الثاني: أنه يقتضى جوازَ الاتباع والقطع كيف كان، من تقديم المُتْبَع أو تأخيره. وذلك ممنوع؛ بل الإتباعُ بعد القطع لا يجوز، فلا يقال: مررتُ بزيدٍ الفاضلُ الصالحُ الحسيبِ، وعُلَّل ذلك بأوجه ثلاثة:

(1) أي في باب ((عطف النسق)).

(2)

الصيمري هو أبو محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري النحوي، ألف كتاب ((التبصرة)) في النحو. وصفه السيوطي بقوله في بغية الوعاة (2/ 49):((كتاب جليل، أكثر ما يشتغل به أهل المغرب .. أكثر أبو حيان من النقل عنه)). وابن ملكون هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن ملكون الإشبيلي، أستاذ نحوي جليل، ألف شرح الحماسة والنكت على تبصرة الصيمري وغير ذلك (ت 584 هـ). بغية الوعاة 1/ 431.

ص: 679

أحدها ما يلزم على ذلك من الفصل بين النعت والمنعوت، أو بين النعتين، بجملة أجنبية.

والثاني أن طباع العرب تأبى الرجوعَ إلى الأمر بعد الانصراف عنه. وكان الشَّلَوْبين يُنشد هنا قولَ مَعْن بن أَوْسٍ (1):

إذَا انْصَرفَتْ نَفْسِي عن الشَّيْءِ لم تَكَدْ

إليه بَوْجهٍ آخَر الدَّهْرِ تُقْبِلُ

فكأنهم جعلوا ألفاظَهم جاريةً على حكم مقاصدهم، وذلك أن الأصل في صفة المدح القطعُ، وكذلك صفةُ الدم والترحُّم، لأن المقصود الاخبارُ عن الموصوف بحاله وصفته، بعد الإخبار عنه بفعله، وهما مقصدان مختلفان، فإذا قطعوا (ثم أتبعو)(2) فقد رجعوا عن الإخبار الثاني إلى الإخبار الأول بعد الانصراف عنه، وهذا شبيهٌ باعتبار (اللفظ بعد اعتبار)(2) المعنى، فإنه ممنوع، بخلاف العكس.

والثالث حكاه لنا الأستاذ أبو عبد الله ابن الفخار (3) شيخنا، رحمه الله، عن بعض نحاة ((قُرْطَبة)) (4) أن المانع من ذلك ما يلزم عليه في ((علم البيان)) من تَسَفُّلٍ بعد تَصعُّد، وقصورٍ بعد كمال؛ لأن القطع أبلغُ في المعنى المراد من الإتباع، اعتباراً بتكثير الجمل. وعلى ذلك كان القطع.

(1) من قصيدة حكيمة به في شرح الحماسة للمرزوقي 1126 - 1131.

(2)

ما بين الأقواس ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.

(3)

سبقت ترجمته.

(4)

قرطبة: مدينة عظيمة بالأندلس، وسط بلادها، لم يكن لها في المغرب شبيه في كثرة الأهل، وسعة الرقعة، وكانت قصبة البلاد، ومعدن الفضلاء، ومنبع النبلاء، وينسب إليها جماعة وافرة من أهل العلم.

ص: 680

ولولا ذلك ما ذُهب به هذا المذهب البعيد، وهو ظاهر.

والسؤال الثالث: أنه تكلمَّ على الإتباع والقطع فيما كَثُرت النعوت، وتَرك الكلام على ذلك في النعت المفرد، وهو الأصل للكثرة.

ولو تكلَّم على النعت المفرد لأُخِذ له منه حكمُ غير المفرد، ولا ينعكس، بل يُوهم ما ذَكر أن المفرد بخلافه، وإذا تقررَّ هذا كان ذِكْرُه لما ذَكَر، وترْكُه لما تَرك مشكلا.

والجواب عن الأول أن الضابط الذي ذَكر يَجمع له مقصودَه، فلا يحتاج إلى شرط سوى ما شَرط، وذلك أن نعت البيان مقصودٌ بلا شك، لأنه مفتقَر إليه، ولذلك لزم إتباعُه على ما تقدَّم، من جهة أن رفع الاشترك في المعرفة وتخصيصَ النكرة (1) إنما يحصل بالإتباع إذا كان القطع على اعتقاد الاستئناف بعد استغناء الكلام الأول، والإتباع يُصَيَّر النعتَ والمنعوت كالشيء الواحد، ولذلك قال سيبويه: زيدٌ الأحمرُ عند مَنْ لا يَعْرفه بمنزلة زَيْدٍ عند مَنْ يَعْرفه (2).

وأما نعت التوكيد فهو مفتقَر إليه على الجملة من وجهين، أحدهما أنه كتكرار الاسم الأول، ففائدته كفائدة التوكيد اللفظي، ولولا أنه مُحْتاج إليه لما كُرِّر، لأنه التكرار عندهم لغير فائدة عيٌّ (3)، وإذا كان كذلك صار نعت التوكيد مراداً به البيانُ على الجملة، وليس دخوله كخروجه.

(1) وهي وظيفة النعت الأصلية.

(2)

الكتاب 1/ 88.

(3)

في (س)((على)) وفي (ت)((عنى)) وكلاهما تصحيف. والعيُّ: ضد الإبانة في الكلام، وعدم الاهتداء لوجه المراد منه، والعجز عن أدائه.

ص: 681

فإذا قلت: كونُه مُبَيَّناً يناقض كونَه مؤكداً- فالجواب أنه/ سُمِّي مؤكدا وإن كان مفتقَرا إليه

614 في التخاطب، كما سمي التوكيدُ اللفظي، بل والمعنوي، توكيداً اعتباراً بأنه مِمَّا يُكْتَفى فيه بالمؤكَّد دونه على الجملة والثاني أن نعت التوكيد مُبَيِّن على وجه، سمعت من شيخنا القاضي أبي القاسم الشريف (1)، رحمه الله، أن العرب تقول:(هذا رجلٌ) على معنَيْين، أحدهما أن تريد الحقيقة، أي حقيقةَ هذا المعنى من غير نظر إلى توحُّد أو تعدُّد. قال: وهذا لا يُثَنَّى ولا يجمع. والثاني أن تريده بقيد التوحُد والإفراد، وهذا هو الذي يُثَنى ويجمع. فإذا قال: أعطاك زيدٌ غلاماً، فقلت: إنما أعطاني ثوباً- فهذا من الأول. وإذا قال: أعطاكَ ثوبَيْن، فقلت: إنما أعطاني ثوباً- فهذا من الثاني.

وإذا ثبت هذا فالمنعوت إنَّما هو الثاني لا الأول، ونعتُه إنما هو رفعٌ لتوهم التعدُّد الذي يحتمله المعنى الأول، لأن المعنى الأول لا نص فيه، من حيث الوَضْعُ، على أفراد، بل على حقيقة الجنس، والحقيقةُ حاصلة في الواحدُ والمتعدِّد، فكان نعت التوكيد مُبَيَّناً بهذا الاعتبار، وحيثما جاء في القرآن فإنَّما جاء على هذا القصد.

وأما ما وُضع على اللزوم (2) فأصله البيانُ، وأيضاً فقد يقال: أَهمل ذكرهَ لقلته في بابه.

فإن قيل: هذا الجواب مُشكل على ما قَدَّم في حَدِّ النعت، فإن الناظم قال هناك: إنَّه ((مْتِمُّ ما سَبَق)) واعتُرِض عليه بنعت المدح والذم والترحُّم.

(1) انظر ترجمته في مقدمة التحقيق (شيوخ الشارح).

(2)

مثل مَا مثَّل به فيما مضى من قولهم: مررتُ بهم الجماءَ الغفيرَ، وطلعت الشَّعْرَى العَبُورُ.

ص: 682

وأجيب بأن هذه النعوت تُتِّم ما سَبق بحسب القَصْد، فإذاً قد كان الكلام ناقصاً دونها بحسب القصد، وهو معنى كون المنعوت بها مفتَقِراً لذكرها. وعلى هذا التقدير تَدخل له نعوتُ المدح والذم والترحم في الحكم بلزوم الإتباع، وإذ ذاك لا يبقى لقوله:((واقْطَعْ أَوِ اتْبَعْ)) معنىً ينزَّل عليه، وفَسدت المسألة جملة.

فالجواب أن العبارتين منزَّلتان على معنيين لا على معنى واحد، لأن قوله أول الباب ((مُتِمُّ ما سَبَق)) لا يستلزم أن السابق مفتقَر له في العلم به، وإنما يستلزم أنه مكمِّل له على الجملة.

وهذا التكميل تارةً يكون مفتَقَراً إليه، فيكون النعت إذْ ذاك لازمَ الإتباع، كنعت البيان، وتارةً يكون غير مفتَقَر إليه في معرفة النعوت، وذلك نعت المدح والذم والترحُّم، فلا يكون لازمَ الإتباع. وهذا صحيح.

وأمَّا نعت الإشارة فهو للبيان، لأنه مفتقر إليه فلا اعتراض عليه.

فقد حصل أن الخاصَّ بحكم جواز القطع نعتُ المدح والذم والترحُّم. وأمَّا اشتراطُ ألا يكون خاصاً بمن جَرى عليه فلا يُلْقَى من تَرْكه محظور، لأن القطع والإتباع جائزان في الخاص وغيره على الجملة وكثيراً ما يُطلق الناظم القولَ بجواز الوجهين وإن كان أحدهما أرجَح بناءً على صحة القياس فيهما.

وأَمَّا اشتراط ما شَرطه ابن مَلكْون (1) فذلك غير لازم، بل هو توجيةُ القطع لمن قَطع ومن لمَ يَقْطع، فوجهُه بناءُ الكلام على ذكر الوصف، كما أنهم يُجيزون/ الوجهين في: زيدٌ طنتُه 615 قائمُ، وزيداً ظننتُ قائماً، بناءً على المقصدين، ولم يكن ذلك قادحاً في إجازة الوجهين عند أهل

(1) وهو ألا يبني كلامه على ذكر الصفة، وإنما يبدو له ذكرها بعد شروعه في المتكلم. وقد تقدم، انظر: ص 679.

ص: 683

النحو، فكذلك هنا، فإنه من باب اعتبار المقاصد البيَانِيَّه، وذلك وظيفةُ البَيَانِيَّ وليس على النحويّ اعتبارُ ذلك من حيث هو نحوي، فقد ظهر أن الوجه اعتبارُ ما اعتبره الناظم، وما سوى ذلك زيادةٌ. والله أعلم.

والجواب عن الثاني أن الإتباع بعد القطع مختلفٌ فيه بين النحويين، فمِنْ مُجيز ومانع، فمِنْ حُجَّة المانع ما تقدَّم (1).

ومن حجة الُمجِيز أنه لا يَلْقَى فيه من جهة القياس محظوراً إلا الفصلَ بين النعت والمنعوت، وذلك جائز على الجملة.

وأيضاً فالنعت المقطوع هنا في حكم المتْبَع، لأن الجميع مستغنىً عنه، ولم يُؤْتَ به إلا لكونه مدحاً للأول، وذلك حاصل.

وليس في حكم الجملة أيضاً، ولو كان في حكم في حكم الجملة لكان الموضع خَلِيقاً بأن يَظْهر الجزءُ الآخرُ يوماً مَا، لكنهم لم يفعلوا ذلك، فدل على أن المقطوع في الحكم كالمُتْبَع، وإنما تقديرُ المحذوف أمرٌ صناعي، وهو في المعنى معدوم، يُنْظر إلى ذلك ما قالوا في (عَمْرو) من قولك:(إنَّ زيداً قائمٌ وعمروٌ): إنه من باب عطف المفردات، وإن كان ظاهرُ الصناعة أنه مبتدأ محذوف الخبر، بناءً على تناسي المحذوف، حتى قالوا: إن زيداً قائمٌ لا عمروٌ، فعَطفوا بـ (لا) التي لا يُعطف بها إلا المفرد، فكذلك هنا قَطعوا بناءً على العلم بالمنعوت، ولم يُظْهروا إلا المقدَّر بناء على جَعْله وصفاً للأول. فإذا كان كذلك صار القطع والإتباع في نَمَطٍ (2) واحد من جهة المعنى.

(1) وهي ما يلزم من الفصل بين النعتُ والمنعوت، أو بين المنعوتين، بجملة أجنبية، وأن طباع العرب تأبى الرجوع إلى الأمر بعد الانصراف عنه.

(2)

النمط-بفتحتين- الطريقة أو الأسلوب، والجماعة من الناس أمرهم واحد، والصنف أو النوع أو الطراز من الشيء.

ص: 684

وأيضاً فإن ظاهر السماع شاهد، كقوله تعالى:{لَكِن الرَّاسِخُون في الْعِلْم مِنْهُمْ} إلى أن قال: {والْمُقِيميِنَ الصَّلَاةَ والْمؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (1)، وكذلك قول الخِرْنِق (2):

النَّازِليَن بكُلِّ مُعْتَرَكٍ

والطَّيِّبُونَ معاقَد الأُزْرِ

والمنعوت قبلُ مرفوع. وقول العُكْلى أيضاً (3):

الظَّاعِنِيِنَ وَلمَّا يُظْعِنْوا أحداً

والقَائِلينَ لِمِنْ دَارٌ نُخَلِّيهَا

والمنعوت قبلُ منصوب. ومن ذلك أشياء أُخَر.

ولا يقال: إن ذلك على إضمار رافع أو ناصب، لأنه خلاف الظاهر، والأصل ((الحَمْلُ على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيرَه)) حسبما بَوَّب عليه ابن جِنِّي في ((الخصائص)) (4) وجَعله أصلاً من أصول سيبويه، وأتى له بشواهد من كلام العرب هي عاضدةٌ لهذا الموضع، فيمكن أن يكون مذهب الناظم هنا ما أعطاه ظاهرُ لفظه من جواز الإتباع بعد القطع خلافَ ما رآه في غيره. وقد تبيَّن مُدْرَكُه، والله أعلم.

والجواب عن الثالث من وجهين، أحدهما أن كثرة النعوت أصلها الإفراد، وإذا لزم في المتعدِّد حكمٌ من حيث هو جارٍ على الأول لزم في الإفراد، إذ لا فرق في المعنى بين المتَّحد والمتعدِّد في الجرَيان وعدمه، فكأنَّه ذَكر حكمَ

(1) سورة النساء/آيه 162.

(2)

سبق الشعر بهذه الرواية في الكتاب 2/ 58.

(3)

سبق الشعر أيضا بهذه الرواية في الكتاب 2/ 65.

(4)

وذلك في الجزء الأول (251 - 256).

ص: 685

الكثرة لِمَا يختصُّ بها مما ليس في الإفراد، وهو الإتباعُ في البعض، والقطعُ في البعض.

والثاني أن يقال: لعله ذَهب مذهبَ من لا يَرى القطعَ إلا مع تكرار/ الصفة،

616 وإن مذهباً مَرْجوُحاً، لأنه لا قياس َيَعَضُدُه، ولا سماعَ يؤيِّدَه. والله أعلم.

وجَعْلهُ التاءَ في ((أُتْبعَتْ)) رَوياً مع قوله: ((تَلَتْ)) ولم يَجعلها كالهاء وصَلاً - هو رأي الجمهور أهلِ القوافي (1). وقد زعم بعضهم أنها كالهاء لا تقع رَوِياً إلا حيث تقع الهاء رَوِياً، وذلك ينكسر بما أنشده سيبويه في ((كتاب القوافي)) له من قوله الراجز (2):

الحمدُ لِلَّه الَّذِي اسْتَقَلَّتِ

بإذْنِه السَّماءُ واطْمَأَنَّتِ

بإذْنِه الأرضُ ومَا تَعَنَّتِ

الجاعِل الغَيْثِ غيَاثَ المُسْنِتِ

أَوْحَي لها القرارَ فاسَتقَرَّتِ

وشَدَّها بالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ

وَلمَّا ذكَر القطع في هذه المسألة، ولم يبين كيفيته أخذ يذكر ذلك

(1) انظر: كتاب القوافي للتنوخي 78، وكتاب الكافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي 150.

(2)

هو العجاج، ديوانه 5، وانظر: المحتسب 2/ 331، واللسان (عتا، وحى). واستقلت السماء: ارتفعت. وتعنت: عصت ولم تطع. والغيث: المطر والكلأ، والمطر هو الأصل. والمسنت: من أصابته سنة وقحط وجدب. أوحى لها القرار: أي أوحى الله تعالى للأرض بأن تقر قرارا، ولا تميد بأهلها، ويروى ((وحي)) والراسيات: الجبال الرواسخ الثوابت.

ص: 686

فقال:

وَارْفَعْ أوِ انْصِبْ إنْ قَطَعْتَ مُضمِراَ مُبْتَدأً أو نَاصَبا لَنْ يَظْهَراَ

يعني أن القطع إنما يكون إلى الرفع أو إلى النصب. وأما الجر فلا يُقطع إليه أصلا، لأن حرف الجر لا يُضمر.

وإذا كان كذلك فالرفع لابد له من رافع، وهو المبتدأ مضمراً قبل النعت المقطوع. فإذا قلت: مررتُ بزيدٍ الفاضلُ - كان على تقدير: هو الفاضلُ.

والنصب أيضاً لابد له من ناصب، وهو الفعل مضمَرا قبله. وإذا قلت: مررتُ بزيدٍ الفاضَل - فهو على تقدير: أمدُح الفاضلَ. ونحو ذلك، وهو معنى قوله:((مُضْمِراً مُبْتَدأً أو نَاصِباً)).

فمضمِراً: حال من فاعل ((ارْفَعْ أو انْصِبْ)) و ((مبتدأً)) راجعٌ إلى ((ارفَعْ)) و ((ناصباً)) راجع إلى ((انصِبْ)) والناصب هو الفعل.

وإنما لم يعيِّنه لأنه معلوم، إذ الناصب للاسم لا يُضمر حتى يُعلم، كما أنه لم يُعيَّن من الأفعال نوعاً من نوعٍ إحالةً على فهم السامع، لأن قصد الكلام يعيِّن المراد، فإذا كان الموضع للمدح فالمقدَّر ((أَمْدَحُ)) ونحوه. وإذا كان للذم فالمقدر ((أَذُمُّ)) وإذا كان للترحُّم فيقدر ((أَرْحَمُ)) أو نحو ذلك.

ولا ينبغي أن يقدَّر ((أَعْنِى)) لأنه قُصُور في موضع المبالغة، إلا أن يكون الموضع خالياً من معنى المدح والذم والترحُّم، فهنالك يصلح تقدير ((أَعْنِى)) ونحوه.

ولم يعيِّن الناظم ما الذي يقدَّر، إمَّا اتَّكالاً على فهم ما يقدَّر، لأن الموضع يعيَّنه، فموضع المدح معيَّن لتقدير ((أَمْدَحُ)) وكذلك سائر المواضع معيَّنه لما يقدَّر فيها، فلم يَحتج إلى النص عليه.

ص: 687

وإمَّا لأنه رأى الخَطْب سهلاً في تقدير ((أَمْدَحُ أو أَعْنَى)) لأن المدح حاصل بالكلام، والفعل لم يَظهر قَطُّ، وإنَّما هو تقدير صناعي، فلا ضَرر في تقدير فعلٍ يَصلح في الموضع على الجملة. وهذا ظاهر.

وقوله: ((لَنْ يَظْهَراَ)) الألفُ فيه ضمير التثنية، عائد على ((مُبْتَدأ وناصِبٍ)) وإن كان العطف بـ (أوْ) التي هي لأحد الشيئين أو الأشياء، لأنهما معا مرادان، كقوله تعالى:{إنْ يَكُنْ غَنِيَّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهْمِا} (1).

ويريد أن مِنْ شرط هذا المقدَّر ألا يُنطق به لأن العرب هكذا فعلت. ووجههُ أنهم قصدوا إنشاء المدح أو الذم أو الترحُّم، فجعلوا إضمار الناصب / أمارةً على ذلك، كما فعلوا

617 في النداء، إذ لو أُظهر الناصب لَخفىِ معنى الإنشاء، وتوهم كونهُ خبراً مستأنَفا، فكان التزام الإضمار أحقَّ لهذا المعنى.

وهنا شيء ينبغي عليه، وهو أن هذا الحكم المقرَّر مع كون ذلك المقدَّر لا يظهر إمَّا أن يكون عائداً إلى ما ذَكر آنفا في كثرة النعوت، وإمَّا أن يعود إلى ما فيه قطعٌ مطلقا. فإن عاد إلى ما فيه قطعٌ مطلقا لزم أن يكون المقدَّر لازمَ الإضمار في نحو قولك: مررتُ بزيدٍ وخرجتُ إلى عمروٍ القُرَشيَّيْنِ، وما أشبهه مما هو لمجرد التخصيص، لا لمدحٍ ولا لذمٍ ولا ترحُّمٍ. وهم قالوا هنا: يجوز إظهار الرافع والناصب، فتقول: أَعْنِى القرشيَّيْنِ، أو هما القرشيَّانِ، فكان الإطلاق غيرَ مستقيم.

(1) سورة النساء / آيه 135.

ص: 688

وإن عاد إلى ما ذَكر في كثرة النعوت خاصَّة استقام، إلا أنه يبقى حكم القطع في المسألة الأولى مبهمَا غيرَ مبيَّن. وهو قاصر.

والجواب أن ظاهر كلامه أن هذا الحكم راجعٌ إلى المسألة الأخيرة. ألَا ترى أنه قال: ((إِنْ قَطَعْتَ)) فأتي بـ (إِنْ) الداخلةِ على الممكن، والقطعُ في المسألة الأولى واجب، فلم تكن ((إنْ)) لائقةً بالموضع، فإتيانهُ بها دليلٌ على أنه قصد ما القطعُ فيه ممكن لا واجب. وأيضاً فإنه لم يصرَّح فيما تقدم بُحكْم قَطْع، ولا ذَكر ما يُقطع، وإنما نَصَّ على شرط الإتباع، وسكت عن غير ذلك، فلم يُضطر فيه إلى حكم القطع. والله أعلم بمراده.

وَمَا مِنَ المَنْعُوتِ والنَّعْتِ عُقِلْ

يَجُوزُ حَذْفُهُ وفي النَّعْتِ يَقِلْ

يعني أن كل واحد من النعت والمنعوت إذا عُلم جاز حذفه في فصيح الكلام على جهة الاختصار، وذلك أن الأصل الأثباتُ في الجميع، لكن عادة العرب أنها تَجتزئ بالقرائن عن النطق في كثير من كلامها، فإذا كان اللفظ معلوما، ولم يؤدِّ حذفُه إلى اختلال الكلام، بل يستقلُّ اللفظ والمعنى بما بقى - جاز ذلك.

فعلى هذا لا يُحذف المنعوت إلا بشرطين، أحدهما مأخوذ من نصه، وهو يكون معلوماً معيَّناً معناه بعد الحذف، ولا إشكال في هذا.

والآخر غير مأخوذ من ههنا، وهو أن يكون النعت مستقِلاً بمباشرة العامل، قابلاً له.

فإذا قلت: (مررتُ بعاقلٍ، أو براكبٍ) عُلم أن المحذوف (رَجُل) وصَحَّ في ((العاقل)) مباشرتُه للعامل، وكذلك ((الراكب)) ونحو ذلك.

_________

ص: 689

ومنه في السماع قوله تعالى: {وأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} (1)، أي دروعاً سابغاتٍ. وقوله:{كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صَالِحاً} (2)، وقوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمُ لِنَفْسِه ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بالْخيْراَتِ بإِذْنِ اللهِ} (3) وذلك كثير.

فلو كان النعت غيرَ معلوم لم يَجُز حذفه، فلا تقول: ائْتني ببَارِدٍ، ولا ائْتِني بطويلٍ أو قصيرٍ، أو نحو ذلك، لأن المنعوت لم يَتَعيَّن.

وكذلك إذا لم يصلح النعت لمباشرة العامل لم يَجُز حذفه، كما إذا كان النعت ظرفاً أو مجروراً أو جملة، كقولك: مررتُ برجلٍ عندَك، أو في الدار، أو برجلٍ قامَ أبوه. فلا تقول: مررتُ بِعندَك، ولا بِفِي الدار، ولا بِقَامَ أبوه.

وما جاء على خلاف ذلك/ فشاذ نحو قوله (4):

618

* واللهِ ما لَيْلىِ بِنَامَ صَاِحُبْه *

تقديره: بليلٍ نامَ صاحبُه. وكذلك قول الآخر (5).

(1) سورة سبأ/ آية: 11، 10.

(2)

سورة المؤمنون/ آية 51 والتقدير: عملاً صالحاً.

(3)

سورة فاطر/ آية 32 والتقدير: فمنهم فريق ظالم لنفسه، ومنهم فريق مقتصد، ومنهم فريق سابق بالخيرات.

(4)

سبق الاستشهاد به في باب ((نعم، وبئس)) وبعده:

* ولا مخالطِ اللَّيَانِ جَانِبُهْ *

(5)

الخصائص 2/ 367، والمقتضب 2/ 137، وابن يعيش 3/ 59، والأشموني 3/ 71، والخزانة 5/ 345، وقبله:

ص: 690

* جَادَتْ بِكَفي من أَرْمَى الْبَشَرْ *

أي بكفَّىْ رجلٍ كان من أرمى البشر.

فإن قلت: من أين يُفهم هذا الشرط من كلام الناظم؟

فالجواب أن مثل هذا الشرط معلومٌ من قُوَّة العربية، لأن اللفظ لابد يُعطى حقَّه بعد الحذف. ألَا تراهم حين فَرَّغوا العاملَ لما بعد (إلَاّ) جعلوا ما بعد (إلَاّ) هو الفاعلَ أو المفعولَ أو غير ذلك، على حسب طلب العامل، ونحن نعلم أن الفاعل في المعنى إنما هو المحذوف.

وكذلك لما حذفوا ((الكائنَ، والمستِقرَّ)) مع الظرف والمجرور جعلوهما قائمين مقامه، متحملِّين لضميره، فكذلك هنا.

فالمنعوتُ لابد أن يكون مبتدأ أو خبراً أو فاعلاً أو مفعولاً أو مجروراً، أو ما يتفرع عن هذه الأشياء. فإذا حُذف فنعتهُ قائمٌ مَقامه، فلابد أن يصلح لمباشرة العوامل، حتى يكون فاعلاً أو مفعولاً أو مبتدأ، أو نحو ذلك.

فإذا لم يصلح لوقوعه في هذه المواضع لم يَقُم مقامه، فإذاً الجملة والظرف والمجرور إذا وقعت نعوتاً لا تقوم مقام المنعوت، فلا يُحذف معها.

فقد يمكن أن يكون تَرَك ذكَر هذا الشرط اتَّكالاً على فهم معناه.

ويمكن وجهٌ آخر أُبْيَن من هذا، وهو أن يكون هذا الشرط مأخوذاً من شرطه المنصوص عليه، وذلك أن الظرف لا يدل على المنعوت أصلا لو قلت: رأيتُ مكانَك، أو رأيتُ في الدار، تريد: رجلاً مكانَك، ورجلاً في الدار- لم يكن ثَمَّ دليلٌ على المنعوت، ولم يُعْقل.

= مالكَ عندي غيرُ سَهْمٍ وحَجَرْ وغيرُ كَبْدَاءَ شَدِيدة لوَتَرْ

وجادت: حسنت. والقوس الكبداء: الغليظة الكبد الشيديدتها، وكبد القوس: ما بين طرفي مقبضها ومجرى السهم منها.

ص: 691

وكذلك لو أُقيمت الجملةُ مُقام النعت لم يُفهم المنعوت نحو: رأيتُ صاحبهُ في الدار، وما أشبه ذلك.

فمن لوازم هذه النعوت أنها لا تدل على منعوتها لو حُذف، فقد استقَلَّ ذلك الشرطُ المذكور بحصول القَصْد من غير زيادة.

وإذا فُرض العلمُ به في موضع لا يُلْقَى به محضورٌ لفظيٌ يجوز أن يُقاس، كما أذا كان المنعوت مبتدأ نحو قولك: ما مِنَ البشَرِ إلَاّ يَنْسَى، والناسُ رجلان، منهما يَعْقل ما يُراد به، ومنهما لا يَعْقل ذلك.

وفي القرآن الكريم {وَإِنْ مِنْ أَهْل الكِتَاب إلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (1)، (التقدير: وإنْ من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤْمِنَنَّ بِهِ) (2). وكذلك قوله: {ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَموُا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (3)، وقال ابنُ مُقْبِل (4):

ومَا الدَّهْرُ إلَاّ تارتَانِ فمِنْهمَا

أموتُ وأخرىَ أَبْتَغيِ العَيْشَ أَكْدَحُ

وقال الآخر (5):

(1) سورة النساء/ آية 159.

(2)

ما بين القوسين ساقط من (ت، س).

(3)

سورة البقرة/ آية 96.

(4)

ديوانه 24، وسيبويه 2/ 346، والمقتضب 2/ 138، والمحتسب 1/ 112، والخزانة 5/ 55، والهمع 5/ 186، والدرر 2/ 151. والتارة: المرة والحين. يقول: لا راحة في الدنيا، فوقتها قسمان: موت تكرهه النفس، وحياة كلها كدح ومعاناة في كسب العيش.

(5)

سيبويه 2/ 345، والخصائص 2/ 370، وابن يعيش 3/ 59، 61، والأشموني 3/ 70، والتصريح 2/ 118، والخزانة 5/ 62، والهمع 5/ 187، والعيني 4/ 71. وتيثم: اصله (تأثم) فكسرت تاؤه على لغة من يكسر حرف المضارعة، فقلبت الهمزة ياء. والحسب: الشرف الثابت في الآباء. والميسم: الجمال، من الوسامة.

ص: 692

إنْ قُلتَ ما في قَوْمِهَا لم تيِثَمِ

يَفْضُلُهَا في حَسَبٍ ومِيسَمِ

وتعيينُ هذا أن يكون المنعوت بعضَ ما قبله من مجرور بـ (مِنْ) أو (في).

فإن كان مما يُلْقَى في حذفه محظورٌ لفظي امتنع، كوقوع الظرف أو الجملة فاعلاً أو مجروراً. والله أعلم.

وهذا الشرط الذي ذكره في مواضع: /

619

أحدهما أن تكون الصفة صفةً لظرف زمان أو مكان، نحو: قعدتُ قريباً، وفعلتُ ذلك قريباً، تريد: مكاناً قريباً، وزماناً قريباً.

والثاني أن تكون الصفة هي المقصودةَ بالذَّكر نحو قوله تعالى {أَلَا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِميِنَ} (1)، {قَالُوا إنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِريِنَ} (2).

والثالث أن تكون الصفة منعوتةً بما يتبيَّن به الموصوف نحو: مررتُ بطويلٍ من الرِّجال، أو مضافةً إلى ما يتبيَّن به نحو: مررتُ بأفاضلِ الناس، وأكلتُ من أطايبِ الأطعمة.

والرابع أن تكون الصفة قد استُعملت استعمالَ الأسماء نحو: (الأَبْطَح) لِمسَيِل الماء الواسع الذي فيه دِقَاقُ الَحصَى، و (الأَجْرع) للرَّمْلة المستوِية التي لا تُنْبِت شيئاً، و (الأَبْرَق) للون الذي فيه حمرةٌ وبياض وسواد، وما أشبه ذلك مما صار بالاستعمال كأنه اسم جنس لا اشتقاقَ فيه.

(1) سورة هود/ آية 18.

(2)

سورة الأعراف/ آية 50.

ص: 693

والخامس أن تكون الصفة مختصةً بجنس نحو: مررتُ بعاقلٍ، ومررت بأحمقَ.

هذه المواضع هي المشهورة في المسألة. وما عداها راجع إليها، وقليل الاستعمال وقد تمَّ الكلام على خذف المنعوت.

وأما حذف النعت فشرطُ العلم به لازمٌ فيه أيضا كما ذكرَ الناظم، كما تقول: اختبرتُ الناسَ فما وجدتُ رجلاً، تريد: رجلاً يُعجبني، أو يَملأ عَيْنيِ أو نحو هذا. وفي القرآن الكريم قوله تعالى:{قَالُوا الآنَ جِئْتَ بالْحقِّ} (1)، أي بالحق البيِّن الظاهر، لأن موسى عليه السلام جاء بالحق في كل مرة.

وجعَل المؤلف من ذلك قوله تعالى: {وكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وهُوَ الحَقُّ} (2)، أي قومُك المعاندون، وقوله:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بأمْرِ رَبِّهَا} (3)، أي كلَّ شيءٍ سُلِّطَتْ عليه، وقوله:{إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} (4)، أي إلى مَعادٍ كريم، أو مَعادٍ تحبُّه، وقولَ مُرَقِّش الأكبر (5):

وَرُبَّ أَسِيلةِ الخَدَّيْنِ بِكْرٍ

مُهَفْهَفَةٍ لها فَرْعٌ وجِيدُ

(1) سورة البقرة/ آية 71.

(2)

سورة الأنعام/ آية 66، وشرح التسهيل للناظم (ورقة 190 - أ).

(3)

سورة الأحقاف/ آية 25.

(4)

سورة القصص/ آية 85.

(5)

الأشموني 3/ 72، والعيني 4/ 72، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 190 - أ).

وأسيلة الخدين: لينتهما طويلتهما. والمفهفة: الضامرة البطن الدقيقة الخصر. والفرع: الشعر التام. والجيد العنق.

ص: 694

أي فَرْعٌ وافر، وجيدٌ طويل، أو نحو هذا، وقال امرؤ القيْس (1):

فَلَمَّا بَدَتْ حَوْرَانُ في الآلِ دُونَها

نظرتَ فلم اَنْطُرْ بعَيْنَيكَ مَنْظَراَ

يريد: منظراً يَسُرُّك. وقال الآخر (2):

لَعَمرُ أَبِى الَّطْيرِ المُرِبَّةِ بالضُّحَى

على خالدٍ لَقَدْ وَقَعْتِ على لَحْمِ

يريد: على لحمٍ شريفٍ، أو نحو ذلك. وقال العباس بن مِرداس (3):

وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَاءٍ

فلَمْ أُعْطَ شيئاً ولم أُمْنَعِ

(1) ديوانه 61، وحَوْران: مدينة بالشام. والآل: السراب. وقيل بالآل هو الذي يكون ضحى كالماء بين السماء والأرض. والسراب هو الذي يكون نصف النهار لا طئا بالأرض كأنه ماء جار. يقول: لما تجاوزتُ حوران فبدت لي في الآل دون أسماء لم أر شيئا أُسَرُّ به، فكان كل ما أراه غير مرئي لحقارته وقبحه في عيني.

(2)

هو أبو خراش الهذلي، ديوان الهذليين 2/ 154، والخزانة 5/ 75. ويروي الأول ((ألا أيها الطير)) و ((فلا وأبي الطير)). والمربة: من أربَّ بالمكان، إذا أقام به. وخالد: هو خالد بن الهذلي ابن أخت خراش. ووقعت على لحم: خطاب للطير على الالتفات.

(3)

شرح الرضي على الكافية 1/ 107، 155، والمغنى 627، والأشموني 3/ 71، والتصريح 2/ 119، والهمع 5/ 189، والدرر 2/ 153، والعيني 4/ 69، واللسان (درأ).

وذو تَدْرَاء: ذو هجوم لا يتوقى ولا يهاب، ففيه قوة على دفع أعدائه. وهو اسم موضوع للدفع. والبيت من أبيات للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه وقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين عدة أباعر، على حين أعطى كثيراً من المؤلفة قلوبهم، كلاً منهم مائة بعير. فلما أنشد هذه الأبيات يعاتب رسو الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:((اقطعوا عني لسانه)) فأعطى حتى رضى. [سيرة ابن هشام ق 2/ 493 - 494].

ص: 695

يريد: لم أُعْطَ شيئاً يرُضِيني، لأنه قال:((ولم أُمْنَعِ)).

وقوله: ((وفي النَّعْتِ يَقِلُّ)) يعني أن الحذف في النعت قليل في الكلام، وإن كان، مع قلته، جائزاً- فليس في كثرة حذف المنعوت.

_________

ص: 696

فهرس موضوعات

الجزء الرابع

الموضوع

الصفحة

الإضافة ..............................................................................

2

المضاف إلى ياء المتكلم ................................................................

193

إعمال المصدر .......................................................................

211

أبنية المصادر ......................................................................... 323

أبنية أسماء الفاعلين والمفعولين والصِّفات المشبَّهة ..........................................

369

الصفة المشَبَّهة باسم الفاعل ...........................................................

389

التعجُّب ............................................................................

432

نِعْم وبئس وما جرى مجراهما ............................................................

506

أفْعَل التَّفْضيل .......................................................................

571

النَّعْت ..............................................................................

606

ص: 697

المملكة العربية السعودية

وزارة التعليم العالي

جامعة أمّـ القرى

معهد البحوث العلمية

مركز إحياء التراث الإسلامي

المقاصد الشافية في شرح الخُلاصةِ الكافيةِ

للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن مُوسى الشّاطِبيّ

(790 هـ)

الجزء الرّابع

تحقيق

الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم البنّا الدكتور عبد المجيد قطامِش

ص: 698