الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالأَقْطَارِ، حَتَّى عُدَّ فِي المَذْهَبِ إِمَامًا، إِذْ مَلَكَ فِي مَسَائِلِهِ زِمَامًا
…
الخ».
وقال الورتلاني في " رحلته "(1): «الإِمَامُ النُّظَّارُ المُجْتَهِدُ، القَوِيُّ البَاعِ فِي تَحْقِيقِ النَّظَرِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ المَازَرِيُّ
…
الخ».
وفي الحقيقة أننا لسنا في حاجة إلى إثبات مرتبة هذا الإمام الجهبذ وَالعَلَمِ الفَرْدِ بإيراد شهادات المؤرخين فيه، أو ثناء العلماء عليه، ما دامت مؤلفاته القيمة بين أيدينا، وهي - بلا مراء - الحجة القوية على علو مقامه العلمي، ونيله بحق الصيت العالمي الذي حاز به رياسة عصره بلا منازع.
آثَارُهُ العِلْمِيَّةُ:
وإليك أسماء بعض ما وصل إلينا من مصنفاته بعد بحثنا الطويل عنها والتنقيب على محتوياتها:
1 -
" المُعْلِمِ بِفَوَائِدِ مُسْلِمٍ " وهو أول شرح وُضِعَ على " صحيح الإمام مسلم القشيري "، قال في شأنه العلامة ابن خلدون
(1)" نزهة الأنظار " ويعرف بـ " رحلة " الورتلاني (الحسين بن محمد): ص 429 طبعة الجزائر 1326 هـ بعناية صديقنا المرحوم محمد بن أبي شنب.
وغفل ابن خلدون في تعريفه بشرح المازري عن أنه اشتمل أيضًا على مسائل كثيرة في أصول الكلام، وأبحاث قيمة في الأنظمة الإسلامية، ومسائل الخلاف، كمسألة الاجتهاد والإمامة وشروط البيعة والمفاضلة بين الصحابة وجواز الجوسسة في الحرب وغيره مما يطول تعداده.
ويظهر أن الإمام رضي الله عنه لم يقصد بادئ بدء وضع هذا الشرح بالذات، وإنما كان - على عادة كبار العلماء المتقدمين - يملي إملاءات خلال دروسه، فتجمع من تلك الأمالي ما كَوَّنَ شَرْحًا مُسْتَقِلاًّ. يؤيد هذا ما حكاه عبيد الله بن عيشون المعافري الأندلسي - وهو من كبار تلاميذ الإمام -
(1)" مقدمة ابن خلدون ": ص 419 طبعة مصر سنة 1320 هـ.
ومن هنا يتضح لك أن طريقة القدماء الأعلام هي عين الطريقة التي يسلكها اليوم كبار الطلبة المترشحين في كليات العلم الجامعة في البلاد الغربية المتمدنة، فإنهم يتلقون الدروس العالية إملاءً، وينقلون تلك الأمالي إلى تآليف مستقلة تصدر بأسماء أساتذتهم، ولا جديد تحت السماء.
وانظر- يا رعاك الله - إلى لطف الإمام وتواضعه العلمي، حيث يعبر عن تلاميذه والآخذين عنه بلفظ «الأَصْحَابِ» .
ومهما يكن فإن كتاب " المعلم " موجود منه نسخ كاملة،
(1) يستفاد من مقدمة " المعلم " أن إقراءه وإملاءه وقع من الإمام المازري في المسجد المعروف الآن بمسجد سيدي مطير الكائن برحبة النعمة في مدينة المهدية، وذلك في خلال شهر رمضان من سنة 499 هـ. راجع " تكملة الصلة " لابن الأبار: ج 2 ص 358 من طبعة مجريط سنة 1887 م.
أو متفرقة في كثير من المكتبات الخصوصية والعمومية، مثل جامع الزيتونة رقم 1099، والمكتبة المصرية، وجامع القرويين بفاس، ومكتبة الشعب بباريس، وفي تونس، وغير ذلك.
2 -
" إيضاح المحصول من برهان الأصول "، وهو شرح ممتع في أجزاء عديدة على برهان إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني الشافعي، المتوفى سنة 438 هـ، في أصول الديانة، وهو من أهم ما صنف في علم الاصول، وأقدم ما شرح به هو تأليف المازري هذا، ومنه أجزاء متفرقة في مكتبات تونس وغيرها.
3 -
" المعين على التلقين "، و" التلقين " تأليف أبي محمد عبد الوهاب بن علي الثعلبي المالكي قاضي بغداد، المتوفى سنة 422 هـ. قال ابن فرحون:«لَيْسَ لِلْمَالِكِيَّةِ كِتَابٌ مِثْلُهُ» . وهذا الشرح يخرج في عدة أجزاء - قيل هي ثلاثون جزءًا - منه تسعة بمكتبة القرويين بفاس، ومنه بالزيتونة، وكذا بالمكتبة العاشورية وغيرها.
4 -
" نظم الفرائد في علم العقائد "، وهو كتاب من أجل
مصنفات الإمام، إذ أنه أفرغ فيه ما آتاه الله تعالى من العلم الغزير الواسع، والنظر الدقيق في المعتقدات وأصولها. ولم نقف على ذكر وجود نسخة منه في المكتبات التي نعرفها.
5 -
" أمالي على الأحاديث " التي جمعها أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي المتوفى سنة 388 هـ من مسند الإمام مسلم القشيري، وهي كالشرح لما كان مغمضًا منها.
6 -
" تعليق على مدونة سحنون " ولا يخفى أن " المدونة الكبرى " هي أم الكتب المالكية، وأساس فقههم، وأول مَا دُوِّنَ في فروع مذهبهم، ولذا كانت عناية علماء إفريقية والأندلس بها كبيرة جدًا. ويوجد من هذا التعليق جزء مفرد بمكتبة جامع القرويين.
وأنت ترى مِمَّا مَرَّ بك من تآليف الإمام رضي الله عنه في أصول الدين والحديث والفقه اشتغاله المثمر واجتهاده بالعلم واتساع نظره فيه، على أن مأثرته لم تكن محصورة فيما تقدم، بل إنه اعتنى - وأي اعتناء - بالعلوم الفلسفية والفنون الأدبية والرياضية. ومما سنذكر لك من تصانيفه في شتى الفنون يتضح
لك مكانته الجليلة، ورسوخ قدمه فيها فمن ذلك:
7 -
" الكشف والإنباء على المترجم بالإحياء " وهو نقد وإصلاح لما ورد في كتاب " إحياء علوم الدين " للغزالي من الأحاديث الموضوعة، وكلنا يعلم أن حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه بالرغم عن علو مقامه في العلوم الدينية وتفرده بالآراء الصائبة في فلسفة الإسلام والأخلاق، لم يكن متحريًا غاية التحري في الأحاديث التي أوردها في تأليفه المتقدم ومن هنا انتقد عليه المازري - وهو المحدث الثقة - تلك الأنقال فأثبت منها ما أثبت، وأسقط ما سواه.
ولا يظن ظان - رَجْمًا بِالغَيْبِ - أن المازري ممن يتحامل على الغزالي، أو يقصد التنقيص من جلالة قدره وعلو كعبه بالانتقاد عليه، وحاشى إمام عالم عادل كالمازري أن يزري بأحد أعلام المسلمين المشار إليهم بالبنان، في العلم والفضل والبيان، أو يمت الى الحط من عظمته، بدليل شهادة المازري نفسه في فضيلة الغزالي، وغزارة علمه، وقوة عارضته في
أصول الشريعة السمحة، فقد قال في حقه (1):«وَأَبُو حَامِدٍ الغَزَّالِيُّ لَا يَشُقُّ أَحَدٌ غُبَارَهُ فِي العِلْمِ وَأُصُولِ الدِّينِ» ،. وإنما انتقاده الخالص من دنيئ الأغراض موجه إلى ماورد في " الإحياء " من الأحاديث الموضوعة المنسوبة كذبًا وافتراءً على النبي صلى الله عليه وسلم وهي من الضعف والوهن الثابت بمكان لا ينكره إلا معانت جاهل بالحديث الصحيح، ولا يتسنى لِمُحَدِّثٍ ثَبْتٍ قد نهضت به فضائله واجتمع فيه العقل الراجح والفهم الدقيق وممارسة العلوم طول عمره كالإمام المازري السكوت على مثل ذلك أو التغافل عنه لما يعلم من إقبال المتعلمين على " الإحياء "، وانكباب المعلمين على مطالعته. فكأنما نقده الصحيح المجرد من شوائب الطعن والحسد ينكر وجود مثل تلك الروايات الضعيفة المعزوة إلى صاحب الشريعة العظيم، ويرى أنها لا تليق أن تكون مثبتة في مأثرة جليلة ومفخرة من مفاخر التآليف الإسلامية كـ " الإحياء " حتى ينسب إليها الضعف والوهن
(1) نقل هذه العبارة الإمام القباب في الانتصار إلى الغزالي - راجع " المعيار المعرب " للونشريسي: ج 6 ص 157 (قلم).
وبذلك تنعدم فائدتها الأخلاقية العظيمة، وينقص أثرها الكبير في نفوس المطالعين من أبناء المسلمين. ومثل هذا الانتقاد هو مما يرغب فيه، ويشكر عليه لما فيه من تنبيه المؤلفين - لا سيما إذا كانوا من الأيمة الأعلام - إلى اتقاء تلك الهفوات واجتناب الموضوعات، والتحاشي عنها، والإعراض عنها وتعويضها بالروايات الصحيحة السالمة من الطعن، وفيها ما يغني الغناء الكبير عن الموضوعات.
8 -
" أمالي على رسائل إخوان الصفا "، حررها في إيضاح بعض مشكلات وردت ضمن فصول تلك الرسائل الهامة في مسائل من العلوم الرياضية والآراء الفلسفية، وكان إملاؤها لها بطلب من أمير عصره الأمير العالم الأديب تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية (1) وللأسف الكبير أن هذا
(1) الأمير تميم بن المعز بن باديس مفخرة من مفاخر القطر الإفريقي. تولى الإمارة سنة 454 هـ، وكانت قاعدة ملكه المهدية، وتوفي سنة 501 هـ، وكان من فحول الشعراء الذين ازدانت بهم دوحة البلاد، والموجود من شعره كله عيون وغرر. راجع تأليفنا " المنتخبات التونسية ": ص 101 طبعة تونس 1336 هـ.
التعليق أو الانتقاد على " رسائل إخوان الصفا " لم يبلغ إلينا فيما نعلم، ولم نقف منه إلا على ذكره من بين مؤلفات المازري.
9 -
" النقط القطعية في الرد على الحشوية ". فرقة تقول بقدم الأصوات والحروف، لها ذكر طويل في كتب الملل والنحل، فليراجع مذهبها هنالك. وهذا تأليف أيضًا لم نقف له على أثر، ولا على السبب الأصلي في تحريره.
10 -
" الواضح في قطع لسان النابح ": لا نعرف من هذا التأليف إلا ما أفادنا به المازري نفسه حيث قال: «هُوَ كِتَابٌ تَقَصَّيْنَا فِيهِ كَلَامَ رَجُلٍ - وَأَظُنُّهُ مِنْ صِقِلِّيَّةَ - وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَأَخَذَ يُلَفِّقُ القَوَادِحَ فِي الإِسْلَامِ، وَيَطْعَنُ فِي زَعْمِهِ عَلَى القُرْآنِ وَطُرُقِ جَمْعِهِ، تَقَصَّيْنَا قَوْلَهُ فِي هَذَا الكِتَابِ وَأَشْبَعْنَا القَوْلَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ» (1). وقد أشار المازري في محل آخر من " المعلم " أنه نقض قول هذا الملحد بالأدلة التاريخية الصحيحة، وأقام البراهين والحجج المنطقية على دحض أقواله وتفنيدها.
(1) كتاب " المعلم " و" الإكمال " للأُبِّي: ج 6 ص 295.
ولا يخفى أن القرن السادس - الذي كان يعيش فيه الإمام - قد كثر فيه ظهور أهل الأهواء والمخارق والمذاهب الزائغة عن الشريعة الإسلامية، فكان من واجب العلماء المبرزين في ذلك العهد الذب عما أجمع عليه المسلمون آراءهم من لدن عصر الصحابة الكرام، وتأييد السنة المحمدية بدفع الأطعان المموهة، ودحض الشبهات الملفقة، تنبيهًا للأمة إلى مقاصد هؤلاء النازغين.
11 -
" كشف الغطا عن لمس الخطا ": هي رسالة في مسألة فقهية دقيقة استفتي فيها فأجاب عنها بإيضاح وعلم وتحقيق، وقد وقفتُ عليها، ومنها نسخة بالزيتونة.
12 -
" كتاب في الطب " - (كذا) والمشهور أن المازري وضع تأليفًا في علم الطب عقب حادثة حدثت له يذكرها أصحاب الطبقات في ترجمته فيحكي أن سبب طلبه لهذا العلم ونظره فيها أنه مرض مرة فكان يعالجه طبيب يهودي بالمهدية وفي أثناء المعالجة قال له الطبيب: «يَا سَيِّدِي! مِثْلِي يُطِبُّ مِثْلَكُمْ! وَأَيُّ قُرْبَةٍ أَجِدُهَا أَتَقَرَّبُ بِهَا مِنْ دِينِي وَأَهْلِهِ مِثْلَ أَنْ أَفْقِدَكُمْ
لِلْمُسْلِمِينَ!». فلم يجبه الشيخ بشيء، ثم لما عوفي أفرغ جده في دراسة الطب حتى أتقنه وملك زمامه وألف فيه، حتى قيل إِنَّهُ كَانَ يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي الطِّبِّ، كَمَا يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي الفَتْوَى فِي الدِّينِ.
وإنا لنستبعد - كل استبعاد - حصول مثل هذه الحكاية، إذ يصعب علينا اعتقاد أن طبيبًا - مهما كان دينة وجنسه ودرجة علمه - يتفوه بمثل هذا الحديث الخارج عن أدب الصناعة وأدب المعاشرة، ومع ذلك فإنا لا ننكر أن الإمام رضي الله عنه درس الطب وألف فيه، لا سيما وقد نقل مترجموه أنه كان «دَرَسَ فُنُونًا كَثِيرَةً مِنْ أَدَبٍ وَحِسَابٍ وَطِبٍّ وَغَيْرَ ذَلِكَ» (1).
فلا يستغرب حينئذٍ من تدوينه في الطب وإن لم يصل إلينا تأليفه المشار إليه. يؤيد هذا الرأي ما نسوقه إليك بعد من كلا المازري في مسألة طبية أوردها عَرَضًا ضمن كتابه " المعلم " بمناسبة حديث التداوي بالعسل من " صحيح مسلم "، وقد أنكر بعض جهلة الأطباء المعاصرين ذلك قائلاً:«قَدْ أَجْمَعَ الأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ العَسَلَ مُسَهِّلٌ، فَكَيْفَ يُوصَفُ لِمَنْ بِهِ إِسْهَالٌ؟» .
(1)" الديباج " لابن فرحون، و" أزهار الرياض " وغيرهما.
فأجاب المازري عن هذا الاعتراض البارد بقوله: «الأَشْيَاءُ التِي تَفْتَقِرُ فِيهَا إِلَى تَفْصِيلٍ قَلَّمَا يُوجَدُ فِيهَا مِثْلُ مَا يُوجَدُ فِي صِنَاعَةِ الطُّبِّ؛ فَإِنَّ المَرِيضَ المُعَيَّنَ يَجِدُ الشَّيْءَ دَوَاءً لَهُ فِي سَاعَةٍ، ثَمَّ يُصِيرُ دَاءً لَهُ فِي السَّاعَةِ التِي تَلِيهَا لِعَارَضٍ يَعْرِضُ لَهُ، فَيَنْتَقِلُ عِلَاجُهُ إِلَى شَيْءٍ آخر بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى كَثْرَةً؛ وَقَدْ يُكُونُ الشَّيْءُ شِفَاءً فِي حالَةٍ وَفِي شَخْصٍ فَلَا يُطْلَبُ الشِّفَاءُ بِهِ فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ وَلَا فِي كُلِّ الأَشْخَاصِ، وَأَهْلُ الرَّأْيِ مِنَ الأَطِبَّاءِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ العِلَّةَ المُعَيَّنَةَ يَخْتَلِفُ عِلَاجُهَا بِاِخْتِلَافِ السِّنِّ وَالزَّمَانِ وَالعَادَةِ وَالهَوَاءِ وَتَدْبِيرِ المَأْلُوفِ؛ فَإِذَا عَلِمَتْ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الإِسْهَالَ يَعْرِضُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوْ كَانَ كِتَابُنَا هَذَا كِتَابَ طِبٍّ لاسْتَوْفَيْنَا ذِكْرَهَا، فَمِنْهَا الإِسْهَالُ الحادِثُ عَنْ التُّخَمِ وَالهَيْضَاتِ، وَالأَطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ عِلَاجَهُ بتَرْكِ الطَّبِيعَةِ وَفِعْلِهَا، وَإِنْ اِحْتَاجَتْ إِلَى مُعِينٍ عَلَى الإِسْهَالِ أُعِينَتْ مَا دَامَتْ القُوَّةُ بَاقِيَةً، وَحَسْبُهُ ضَرَرَ وَاِسْتِعْجالَ مَرَضٍ؛ فَهَذَا الرَّجُلُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِسْهَالُهُ مِنْ اِمْتِلاءٍ وَهَيْضَةٍ، فَدَوَاؤُهُ تَرْكَهُ وَالإِسْهَالَ، أَوْ تَقْوِيَتَهُ. وَيَجِبُ حِينَئِذٍ الإِشَارَةُ عَلَيْهِ
بِشُرْبِ العَسَلِ، وَرُبَّمَا الزِّيَادَةَ مِنْهُ إِلَى أَنْ تَفْنَى المَادَّةُ فَيَقِفُ الإِسْهَالُ وَيَكُونُ الخَلْطُ الذِي بِالرَّجُلِ يُوَافِقُ فِيهِ شُرْبَ العَسَلِ
…
الخ».
وأنت ترى في هذه الفقرة كلام متفنن في الصناعة الطبية عارف بقواعدها الكلية والجزئية، ومنها يتضح لك أن المازري كانت عنده أكثر من المشاركة في علم الطب، فلا يستغرب أَنْ أَلَّفَ فِيهِ تَأْلِيفًا خًاصًّا.
13 -
" تثقيف مقالة أولي الفتوى وتعنيف أهل الجهالة والدعوى ": رسالة من تأليفه ذكرها له (البُرْزُلِيُّ) في باب القضاء والشهادات من " مجموعته الكبيرة للفتاوى الإفريقية "(1)، ونقل عبارة الإمام عن سبب وضعه لهذا الجزء، حيث يقول: «وَقَدْ نَزَلَ بِالمَهْدِيَّةِ - وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الفَتْوَى - مَسْأَلَةٌ مِنَ الشُّفْعَةِ فِي بَعْضِ وُجُوهِهَا، وَأَنْفَذَ إِلَيَّ القَاضِي ابْنُ شَعْلَانَ رحمه الله السُّؤَالَ، فَأَفْتَيْتُهُ أَنَّ الإِثْبَاتَ لَيْسَ كَحُكْمٍ نُفِّذَ، ثُمَّ اسْتُفْتِيَ مَنْ كَانَ يُفْتِي، فَأَفْتَوْا كَمَا أَفْتَيْتُ، وَهَذَا مُنْذُ خَمْسِينَ عَامًا، وَوَرَدَ بَعْدَ
(1) وتسمى المجموعة " جامع مسائل الأحكام مما نزل بالمفتين والحكام "(*)، خط بمكتبتي.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*)" جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام "(" فتاوى البرزلي ")، للإمام الفقيه أبي القاسم بن أحمد البلوي التونسي المعروف بالبرزلي (توفي سنة 841 هـ / 1438 م)، تقديم وتحقيق الدكتور محمد الحبيب الهيلة، الطبعة الأولى، سنة 2002 م، نشر دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان، (7 مج).
ذَلِكَ مِنَ القَيْرَوَانِ جَوَابٌ مِمَّنْ كَانَ يَدَّعِي عِلْمَ الأُصُولِ، أَشَارَ فِيهِ إِلَى المُخَالَفَةِ، فَأَمْلَيْتُ فِيهِ إِمْلَاءً طَوِيلاً تَرْجَمْتُهُ بِـ " تَثْقِيفِ مَقَالَةِ أُولِي الفَتْوَى، وَتَعْنِيفِ أَهْلِ الجَهَالَةِ وَالدَّعْوَى " وَأَشَرْتُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى وُجُوهٍ خَالَفَ فِيهَا مَنْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَأَوْضَحْتُ فَسَادَ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الآنَ مَوْجُودٌ بِالمَهْدِيَّةِ
…
».
ولا مراء أن المازري عُرِفَ طيلة حياته بصراحة القول، والإصداع بالحق في كل المواطن، كما اشتهر بمجانبة حُكَّامِ الجَوْرِ، التعرض للولاة المستبدين في زمان كان السلطان فيه لحكم الإطلاق في سائر الممالك الإسلامية، وكان ذلك من أكبر الأسباب في تراجع سياسة المسلمين إلى الوراء حتى ساقها إلى التدهور والسقوط في الشرق والغرب.
وفي نظرنا أن الذي حمل المازري على مجاهرة الظالمين، وتجرده لأنصار الحق، وعدم مبالاته بالسلطة المطلقة هو ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ طَبِيعَتُهُ من التقوى وتمسكه بالمبادئ الإسلامية العالية ومن ناحية أخرى إعراضه عن الوظائف الرسمية كولاية القضاء وغيرها، مما حمل جمهور الشعب على إجلاله والالتفاف حوله
واتباع أقواله وآرائه، لذلك خافه ولاة الاستبداد واتقوا سلطانه الروحي وأمسكوا عن مسه بسوء.
وكأنه أحس بتأييد الشعب لسلوكه فلم يتأخر عن مقاومة المظالم والتشهير بها ولم يراع في ذلك غير تقواه، والخوف من الله تعالى، فزاده موقفه إكبارًا وتعظيمًا في أعين معاصريه، وَأَحَلَّهُ مَرْتَبَةً عَلِيَّةً في نفوس عارفيه.
يؤيد ما قدمنا آنفًا ما جاء في بعض وصاياه: «
…
وَيَنْبَغِي لِلْمَلِكِ أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى أَخْبَارِ عُمَّالِهِ، وَيَسْتَكْشِفَ عَنْ بَوَاطِنِهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ، فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِعَمَلِهِ.
وَلَا يَزَالُ أَمْرُ ذِي السُّلْطَانِ رفيعًا مُعَظَّمًا مُهَابًا، مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي نَقْضِ عُرَى الشَّرِيعَةِ، وَرُبَّمَا تَجَرَّأَ بَعْضُ المُلُوكِ وَسَمَحُوا لِعُمَّالِهِمْ وَأَصْحَابِ أَشْغَالِهِمْ وَكُتَّابِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِهَتْكِ الحُرُمِ، وَالاعْتِدَاءِ عَلِى الرَّعِيَّةِ، وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ بِأَخْذِ
أَمْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْلِبُهُمْ الحَقُّ تَعَالَى العِزَّ وُيُجَرِّدُهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ (1)
…
الخ».
وانظر أيضًا إلى ما كتب في طالعة إحدى " فتاويه " مُعَرِّضًا بتساهل معاصريه على الإفتاء بغير علم ولا تقوى: (2)
«الحَمْدُ للهِ الذِي لَا يُحْمَدُ سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَخَارُ فِي جَمِيعِ الأُمُورِ إِلَاّ إِيَّاهُ، وَنَسْتَعِيذُهُ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ، فَجَعَلَ الجَهْلَ مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ، وَإِلَى اللهِ أَرْغَبُ أَنْ لَا يَجْعَلَنَا مِمَّنْ ظَنَّ أَنَّ العِلْمَ مَعْنَاهُ الدَّعْوَى، وَأَرَادَ أَنْ يُمَوِّهَ عَلَى العَامَّةِ بِالفَتْوَى، وَهَيْهَاتَ مَا العِلْمُ إِلَاّ مَا شَهِدَ بِهِ أَهْلَهُ، وَمَا الفَضْلُ إِلَاّ مَا عُرِفَ عَنْهُ فَضْلُهُ، وَلَيْسَ الفِقْهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ: أَنَا وَقَنَعَ بِالمَدْحَةِ وَالثَّنَا
…
».
ومثل هذا كثير جِدًّا في تحريرات المازري، ولو تكلفنا استقصاء كل ما كتب في معنى معارضة المتفقهين الجاهلين
(1) نَبَّهَنَا مُحِبُّنَا العالم العامل الأستاذ محمد العربي الماجري - أحد شيوخ الزيتونة - إلى وجود اختصار هذه الوصية في أحد المجاميع الخطية التي بمكتبته الخصوصية - فله الشكر على ذلك.
(2)
كـ " جامع مسائل الحكام " للبرزلي المتقدم.