المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقد حدث مثل ذلك بالفعل في مدة بني الأغلب، فلما - الإمام المازري

[حسن حسني عبد الوهاب]

الفصل: وقد حدث مثل ذلك بالفعل في مدة بني الأغلب، فلما

وقد حدث مثل ذلك بالفعل في مدة بني الأغلب، فلما سقطت دولتهم، وقامت الدولة الفاطمية الشيعية النحلة تضاءل عدد المستمسكين بالمذهب الحنفي حتى انقطع تمامًا في آخر عهد المعز لدين الله قبل انتقاله إلى ملك مصر سنة 361 هـ. ولم يبق بإفريقية من أهل السنة غير المالكيين، أو بعض المقلدين لمذهب الإمام الشافعي.

وقد وفقني الله تعالى إلى جمع شطر جليل من تراجم علماء الحنفية الأفارقة، فخصصتهم ببحث مستقل عَرَّفْتُ فيه بهم، وجلوت سيرتهم ومآثرهم، وسينشر فيما بعد إن شاء الله.

‌المَدْرَسَةُ المَالِكِيَّةُ:

- سحنون بن سعيد التنوخي، من أبناء الجند العربي، ولد في القيروان سنة 160 هـ، وأخذ في إفريقية عن علي بن زياد، وأسد بن الفرات وغيرهما، ورحل إلى الحجاز، ولم يدرك مالكًا، ورجع إلى مصر فسمع من عبد الرحمن بن قاسم، وعليه غالب اعتماده، وأخذ عن غيره من كبار تلاميذ مالك،

ص: 24

وعلي بن القاسم راجع " مدونة " شيخه أسد بن الفرات وقد ظهر لابن القاسم العدول عن بعض آرائه الأولى واتخاذ آراء غيرها، وعاد سحنون إلى بلاده، وأراد أن يحمل أَسَدًا على إصلاح " الأسدية " على ما تلقاه من ابن القاسم، فلم يوافقه أسد.

واستمر سحنون بما أوتي من براعة ومقدرة يبث فقه أهل المدينة خاصة - مالك وأصحابه - ولا سيما بعد استشهاد أسد بن الفرات في صقلية، وَلِذَا عُدَّ سحنون أول من أظهر الفقه المدني ورجحه، وأرسخ كلمته في إفريقية والمغرب، وقد امتاز سحنون بخصال نادرة، منها: جمعه بين الاستقامة التامة والدين، ورجحان العقل والعفة، مع استقلال الفكر وقوة الشكيمة؛ وتوارد عليه عدد لا يحصى من المتعلمين من أنحاء المغرب، ولا سيما الأندلس، وصارت حلقة تدريسه أكبر حلقة عرفت لأستاذ، قيل إنه كان يجلس فيها أربعمائة طالب علم؛ ولما ناله سحنون من الشهرة والصيت البعيد أولاه الأمير الأغلبي قضاء إفريقية سنة 234هـ فأظهر مقدرة منقطعة النظير في تنظيم مهمة القضاء، بل إنه وضع الكثير من أصول المؤسسات الشرعية في

ص: 25

إفريقية، مثل دستور «أحكام السوق» وهي وظيفة الحسبة، ونظإم قضاة الآفاق، وكشف الشهود، وسنن التعليم الابتدائي، وتعيين أيمة المساجد إلى غير ذلك من الأوضاع التي جرى بها العمل مئات السنين، وما زال بعضها سنة متبعة إلى يوم الناس هذا.

وفي مدة قضائه اجتهد سحنون في تعطيل الدروس التي كان يلقيها أصحاب الأهواء، والنحل الخارجة عن السنة في الجامع الكبير، مسجد عقبة بالقيروان، مثل الصُّفْرِيَّةِ، وَالمُرْجِئَةِ، وَالمُشَبِّهَةِ، وَالمُعْتَزِلَةِ وغيرهم، حتى ألزمهم إخلاء الجامع من حلقهم، ولم تعد إليه بعد.

وقصارى القول أن سحنون بن سعيد يعد بحق المؤسس الأول لمدرسة الفقه المالكي في إفريقية، بل في المغرب عامة كما كان الأسوة الحسنة لمن جاء بعده من علماء السنة في دراسة العلوم الفقهية، وشرح أصول السنة، وتوفي سنة 240 هـ.

وتمتاز الطبقة التي تلي هذه بتفسير أقوال من تقدمهم وإيضاح آرائهم، وتطبيق الفروع على الأصول، وفي طليعتها:

ص: 26

محمد بن سحنون، أخرجه والده متخلقًا بالكثير من هديه وخصاله، وجلس يدرس أقوال أبيه. وعني بالتأليف فوضع أكثر من مائتي جُزْءٍ في فنون العلم، ولا سيما شرح المجمل من " مدونة " أبيه، ومن كتبه " آداب المعلمين " الذي بين أيدينا، وهو أول من فتح هذا الباب، وتوفي سنة 256 هـ.

محمد بن عبدوس، تلميذ سحنون، وأحد البارزين من صحبه، كان بارعًا في الفقه المالكي، قوي الاستنباط، هو رابع المحمدين الذين اجتمعوا في عصر واحد من أيمة مذهب مالك، والثلاثة هم: محمد بن سحنون، وهو قيرواني مثله، ومحمد بن عبد الحكم، ومحمد بن المواز، وكلاهما مصري، وعن محمد بن عبدون أخذ جماعة لا يحصون من أبناء إفريقية والأندلس، وألف كُتُبًا كثيرة منها كتاب " التفاسير " فَسَّرَ فيه أصول الفقه وشرح مسائل " المدونة " وغيرها، وتوفي سنة 260 هـ.

- يحيى بن عمر الكناني، ولد بالأندلس، ثم استوطن إفريقية بعد أن جال في عواصم الشرق، وروى عن كبار علمائه، واستقر أخيرًا في مدينة سوسة، وأكثر اعتماده على شيخه

ص: 27

سحنون، وتفقه به خلق كثير، منهم: ابن اللباد، وأبو العرب التميمي، وأبو العباس الأبياني، وصنف نحو أربعين مؤلفًا في الحديث والفقه، والرد على أهل البدع، وفي فضائل المرابطة، ومنها كتاب فريد في بابه، وهو " أحكام السوق "(1) أبان فيه نظام المدائن في الإسلام، ومهمة الحسبة، وهو - فيما عرفنا - أقدم من ضبط أصولها وأحكامها، وتوفي في سوسة سنة 289 هـ، ومكان قبره بها مشهور.

ثم كانت بإفريقية طبقة أخرى من حملة علوم الشريعة على مذهب مالك، وقد شهدت هذه الطبقة سقوط الدولة الأغلبية - سنة 296 هـ - وقيام الدولة الفاطمية الشيعية مكانها، وقد حاول ملوك العبيديين القضاء على مذهب أهل السنة، وتسويد النحلة الشيعية، وقاسى علماء القيروان من جراء ذلك ألوان الاضطهاد والمناواة، فأخفت صوتهم، ومنع نشر تعاليمهم مدة ستين عَامًا أو أكثر، كما لقي القائمون بالدعوة الشيعية من مقاومة علماء

(1) لدينا منه نسخة كاملة حققناها وشرحناها، وعلقنا عليها بما يناسب، ونزمع نشرها في القريب، إن شاء الله تعالى.

ص: 28

السنة، واستنكار الأمة الإفريقية ما أدى إلى وقوع أحداث دموية عنيفة في شوارع القيروان، وكان ذلك من أكبر أسباب يأس الفاطميين من نجاح دعوتهم في البلاد، وتمكينها من معتقد الأفارقة، حتى اضطر العبيديون إلى نقل عاصمتهم من القيروان إلى المهدية بعض حين، ثُمَّ وَلَّوْا وُجُوهَهُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ، ساعين إلى امتلاك مصر، حتى استولوا عليها وسكنوها - سنة 362 هـ - وكان على رأس المقاومين للشيعة في نشر دعوتهم بين الأفارقة:

- أبو عثمان سعيد بن الحداد الغساني، تلميذ سحنون وغيره عني منذ صغره بعلم الكلام والجدل، والقول بالنظر والحجة، وكان مفرط الذكاء وقاد القريحة مُتَفَنِّنًا في سائر العلوم، لا يخلد إلى مذهب من المذاهب، بل كان يذم التقليد ويقول:«هُوَ مِنْ نَقْصِ العُقُولِ، وَتَقَاعُسِ الهِمَمِ» ، وهو أكبر مناضل عن السُّنَّةِ أنبتته التربة الإفريقية، وله مواقف حاسمة مع دعاة الشيعة في " رَقَّادَةَ " منذ بزغت دولتهم، وقد سجل لنا التاريخ بعض مجالس الجدل بينه وبين الشيعيين، حتى شبهه معاصروه بأحمد بن حنبل

ص: 29