الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هِجْرَةُ الصِّقِلِّيِّينَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ:
إذا كانت نصوص التاريخ التفصيلية عن نزوح بقايا مسلمي الأندلس إلى المغرب الأقصى وتونس تعوزنا، مع قرب عهد هذا النزوح من عصرنا الحاضر، فإن الأخبار الواصلة إلينا عن هجرة مسلمي صقلية إلى إفريقية التونسية بعد استيلاء النرمان على الجزيرة - سنة 486 هـ - تكاد أن تكون معدومة بالمرة.
وغاية ما يقال أن عدد اللاجئين من أهالي صقلية إلى المدائن التونسية - في مدة خمسين سنة - كان لا محالة وافرًا جِدًّا ولا يقل عن خمسين ألف شخص على أقل تقدير، من بينهم فلاحين عارفين أثرياء، وتجار مياسير، وعلماء مبرزين مثل الإمام المحدث اللغوي الكاتب البليغ (عمر بن خلف بن مكي الصقلي) الذي تولى القضاء بمدينة تونس على عهد بني خراسان، ومنهم أدباء مجودون مثل الشاعر الطائر الصيت (عبد الجبار بن حمديس) الذي مدح أواخر ملوك صنهاجة بالمهدية، وغيره وغيره مما لا يكاد يحصى عددًا.
والذي يهمنا من هذا كله هو ما يؤثر عن الإمام المازري من أنه كان - في تلك الأثناء - يكرم من يفد على إفريقية من مهاجري صقلية، فيوسع على فقيرهم، ويساعد بالنصيحة الميسور منهم، عطفًا على أولئك اللاجئين المصابين بفقدان الوطن، وقد استقر منهم كثير من أحواز المهدية، والمنستير، وسوسة، فاشتروا الأرضين لا ثمارها بالفلح، فكان المازري أكبر معين لهؤلاء على استقرارهم في الوطن الجديد، وتأنيس غربتهم، وفي الواقع إن هذه العاطفة كانت تخالج ضمير سائر سكان الساحل إلا أنها ربما كانت أظهر عند المازري لما تربطه بهم من أواصر الاغتراب، نظير ما حصل - خمس قرون بعد ذلك - لجالية الأندلس النازحة إلى التراب التونسي عقب الجلاء الأخير.
ولا غرابة أن تصدر عن المازري تلك الفتوى الفريدة من نوعها لإعذار أهل صقلية عن مهاجرة بلادهم، وأن يُظْهِرَ من الرأفة والشفقة لمن بقي منهم فيها، وهو أعلم الناس بحالهم، وبما كانت تكنه نفوسهم من الحسرة على مبارحة أوطانهم، واللهُ يفعل ما يريد!.