الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توطئة:
فيما بين المائة الثانية وأواسط المائة الخامسة من الهجرة كانت «إفريقية» - وهي البلاد التونسية اليوم - ترفل في حلل الرفاهية، وتحيط بها هالات المجد، فتفيض عليها البهاء والرواء.
تعاقبت عليها أجيال من الخلائق والدول، باذلة لها ما في الوسع من جسام المساعي وجلائل الأعمال، فانتظم فيها مجتمع إفريقي ناهض ينظر إلى المستقبل بعين التفاؤل والاستبشار.
وطدت تلك الأجيال والدول في إفريقية التونسي دعائم الحياة الاجتماعية السعيدة، فعملت على ترقية الفلاحة، وتنمية الصناعة، وتنشيط التجارة، وتعميم العلوم والآداب، وبذلك طار صيت البلاد في استكمالها أسباب الحضارة والتمدن وضرب بها المثل في ربوع العالمين.
بينما تمضي إفريقية التونسية إلى أوج العزة والازدهار إذ رماها الزمن بداهية دهياء، زعزعت منها القواعد وردتها على الأعقاب، وأقامت فيها مأتمًا بعد عرس.
كانت تلك الكارثة التي حلت بالبلاد، ولم يكن لها بمثلها عهد منذ تاريخها الأقدم، أنها فقدت وحدتها السياسية وأضاعت سلطانها المركزي، فاختل توازنها، وانهارت حضارتها في أقل من عام.
هجم على إفريقية التونسية بَنُو هِلَالٍ وَبَنُو سُلَيْمٍ، ولا كهجوم التتر على بغداد - وذلك في سنة 449 هـ - (1) كأنهم السيل العرم يتدافع على البطاح، أو كأنهم الجراد المنتشر يحط على الحقول النامية، وما هي إلا أن هدمت القصور والأبنية، وخربت المسالك والميادين، وعاثت في عمران البلاد يد الدمار.
وأصابت النكبة - أول ما أصابت - مدينة القيروان، أم القرى المغربية، وعاصمة الحضارة العربية، فأصحبت خاوية على عروشها، يهيم أهلوها على وجهوههم في أرجاء الأرض العريضة ما بين أصقاع المغرب والأندلس، إلى العراق، إلى ما وراء النهر.
فارق العلم والأدب والفن ربوع القيروان، ومضى يلم شتاته، ويجمع بقاياه، ملتمسًا له ملاذًا في المهدية وسوسة وبعض القرى الساحلية الأخرى.
(1) ضبط التاريخ: هدمت.
وكذلك انهوى ركن العلوم الشرعية الذي تواصل قيامه منذ الفتح العربي، وكاد يندثر لولا بقية صالحة من أولي العزم، حفظوا تعاليم الشريعة، واحتضنوا تراث الرواية، وصانوا سبيل التلقي عن الأسلاف، وبذلك سلم لهم السند العلمي، فعكفوا عليه يحوطونه وينفون عنه الزيف، حتى أسلموه إل الأخلاف؛ لكي يتابعوا نشره إعلاءً لكلمة الله!.
في طليعة هؤلاء الأفذاذ البررة، ذلك الحبر الذي خصصنا ترجمته بتلك الأوراق، وهو (الإمام المَازَرِي)
…
وكأن الأقدار ناطب به جمع ما تبدد من منهج السند العلمي القديم القويم، واستنقاذه من العبث الذي جَرَّ إليه الطغيان والجهالة والهمجية في تلك الحقبة من تاريخ إفريقية التونسية.
ويحق لتاريخ العلم في هذا البلد الطيب أن يعد الإمام المازري العروة الوثقى بين الماضي الزاهر لتعاليم الحنيفية السمحة، وبين العصور الوسطى في تاريخ الإسلام.
ولكي تتجلى مزية المازري في هذا الصدد نقدم بين يدي ترجمته إلمامة نتعرف بها كيف تواصل السند العلمي في الشريعة