المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌نماذج من تحاريره:

أو الموالين لذوي السلطان الجائر لما أخرجنا عن حدود بحثنا وتحدينا قاصديه.

وزبدة القول: إن ما وضعه الإمام المازري من المؤلفات في مختلف العلوم والفنون من حديث وفقه وأصول وجدل وأدب وطب وغير ذلك، لدليل واضح على طول باعه في العلوم وتبحره في العرفان، حتى صار المشار إليه بالبنان في ذلك الزمان.

ثم إنا لا ندري هل كان له مصنفات أخر عَدَا ما ذكرنا لم تبلغنا أسماؤها الأمر الذي نشاهده في كثير من علمائنا الأعلام، وما ذلك إلا لإهمال وغفلة كثير من مؤرخينا عن إيراد تراجم مستوفاة لعظماء رجالنا، حتى يضطر الباحث الآن إلى مراجعة الكتب العديد بقصد التقاط نتف مبعثرة هنا وهناك لا تسمن ولا تشفي غليلاً.

‌نَمَاذِجُ مِنْ تَحَارِيرِهِ:

وَأَيًّا كَانَ السَّبَبُ فإنا نقتنع بأن نسوق إليك هنا نموذجًا من تحرير عَلَمِنَا الجَهْبَذَ، ليتبين لك مقدار رسوخه في الفتوى،

ص: 75

ورجحان فكره الثاقب في المسائل التي كانت تعرض على اجتهاده فيبدي فيها وجهة نظره.

فمن ذلك: (*) أنه سئل عن قوم يجتمعون بالليل بعد صلاة العشاء الأخيرة (في مدينة سوسة والمنستير) ومعهم قناديل يمشون فوق السور يذكرون أنهم يريدون العسكر، ويقولون بإجماع أصواتهم:«سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» بتطريب وتحزين، وينصرفون على تلك الصفة يمشون في الأزقة، ويجوزون على المجازر والمزابل، وهم على تلك الحال من الاجتماع والتطريب، إلى أن يبلغوا السور، وَقَدْ نُهُوا عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ وَأَمَامَ المَزَابِلِ، وَنُهُوا عن التطريب والاجتماع، وَأُمِرُوا أن يكونوا على السور ويتركوا التطريب، وأن سُنَّةَ الحَرَسِ في الرباط التكبير والتهليل، فهل ينهون عن هذا - وهو بدعة - ولا يذكرون الله إلا في المواضع الشريفة من غير اجتماع ولا تطريب؟

فكان جوابه:

«الاجْتِمَاعُ بِالذِّكْرِ وَالتَّطْرِيبِ وَالتَّحْزِينِ، وَرَفْعٍ الصَّوْتِ

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:

(*) انظر " فتاوى المازري "، تقديم وجمع وتحقيق الدكتور الطاهر المعموري، ص 335، طبعة سنة 1994 م، - مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان - الدار التونسية للنشر.

ص: 76

قَدْ نَهَى عَنْهُ العُلَمَاءُ وَأَنْكَرُوهُ وَعَدُّوهُ بِدْعَةً، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ". وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا الفِعْلَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا سَبَقَ فِي الزَّمَنِ الأَوَّلِ، وَلَا فَعَلَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ، لِقَوْلِهِ:" أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ "(*) مَعَ العِلْمِ بِأَنَّهُمْ أَعْبَدُ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَنُقِلَ عَنْهُمْ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُمْ شَدِيدُو الحَزْمِ فِي الاِزْدِيَادِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالحَمْلِ عَلَى النَّفْسِ مِنْ مُقَاسَاةِ القُرُبَاتِ، حَتَّى لَيَخِفُّ عَلَيْهِمْ إِرَاقَةُ دِمَائِهِمْ، وَقَتْلُ أَوْلَادِهِمْ وَآبَائِهِمْ فِي الجِهَادِ فِي ذَاتِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَلَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبِقَ هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وَقَالَ تَعَالَى:{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29]، الآيَةُ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ". فَمَنْ عَرَفَ هَذَا وَجَبَ وُقُوفُهُ عَمَّا وَقَفُوا عِنْدَهُ وَيَفْعَلُ مَا فَعَلُوهُ، وَهُمْ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَ هَذَا. وَلَا يَعْتَقِدُ عَاقِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا فَعَلُوهُ تَخْفِيفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ المَشَقَّةِ

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:

(*) هذا الحديث ضعيف جدًّا، انظر " التلخيص الحبير "، لابن حجر: 4/ 462، الطبعة الأولى: 1419 هـ - 1989 م، دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان.

ص: 77

بل هو أخف شيء عليهم لو أرادوه، وكذا من بعدهم من السلف لم يرد عنهم الأمر بهذا ولا الحض عليه، وما ذاك إلا لاتباعهم من مضى ولو لم يكن إلا أن العلماء سكتوا عنه ولم يفعلوه لكان من حق العاقل ألا يفعله، فكيف وهم أنكروه ونهوا عنه؟ قال مالك فيمن يقرأ القرآن بالألحان ويعلم ذلك الجواري كالغناء: " ما هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن». فجعل حجته أنه لم يفعله من مضى بعده بدعة، وأيضًا فإظهار هذه المعاني من نوافل الخير، ولا تخلص النية فيها ويقصد المباهاة والرياء وابتغاء عرض الدنيا، وهو خلاف الشرع: وقد أمر الشرع بإظهار صلوات الفرض وإخفاء النوافل، لأن قوادح النوافل في النيات تطرق أكثر منها في الفرائض لاجتماع الناس عليها. وكذا تكلم العلماء في إظهار الزكاة - وهي فرض - وإخفائها، لقوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] الآية. وفي الصحيح ما يقتضي منع الصوت بمثل هذا: «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ» الحديث. وإنما أبيح في حضور الرباط حين العسس من رفع

ص: 78

التكبير أو غيره من الذكر لما فيه من المصلحة لإشعار من يريد اغتيال الحُصن أنهم حذرون مستعدون لدفاعه، وأما الاجتماع والتلحين في الأسواق والمجازر فلا مصلحة فيه ولا ضرورة تدعو إليه مع ما فيه من استهجان ذكر الله في المواضع المحتقرة الخسيسة، ولهذا نهى عن قراءة القرآن والإكثار منه في الأسواق احترامًا له، ولذلك قيل لابن القاسم في الباعة إذا أخذت شيئًا صَلَّتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَيْسَ هُوَ مَوْضِعُ صَلَاةٍ. وَيَكْفِيكَ بِرَدِّهِمْ الاِتِّبَاعَ لِمَنْ سَبَقَ مِنَ النَّاسِ» (1).

وعن الشيخ أبي بكر المالكي (2) وقد شاهدنا من

(1)" المعيار " للونشريسي، طبعة فاس: ج 12 ص 244.

(2)

أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بالمالكي - هو وأبوه من قبله من كبار رواة العلم والتاريخ بإفريقية، وكان أبو بكر هذا ممن بقي من العلماء بعد خراب القيروان على يد الأعراب الهلاليين - سنة 447 هـ - وهو من شيوخ الإمام المازري رضي الله عنهما، وتوفي سنة 474 هـ، وله كتاب حافل في تراجم علماء إفريقية وصلحائها معنون باسم " رياض النفوس " منه نسخة كاملة بمكتبة الشعب بباريس، واختصاره في دار الكتب المصرية وبمكتبة شيخ الإسلام عارف أفندي بالمدينة المنورة وبمكتبتي الخصوصية (وترجمة المالكي بـ " المدارك " لعياض - خط - وبـ " معالم الإيمان ": ج 3 ص 217) وطبع منه الجزء الأول بعناية الأستاذ حسين مؤنس في مصر سنة 1951 م.

ص: 79

فضله ودينه وجلاله وعلمه بالأخبار ما يحصل الثقة في أنفسنا بما يحكيه - أن يحيى بن عمر (1) كان سَمِعَ بزقاق الروم - وهو طريقه إلى الجامع بسوسة - فريقًا يكبرون أيام العشر، ويرفعون أصواتهم بالتكبير، فنهاهم عن ذلك وقال: هذه بدعة فلم ينتهوا، فدعا عليهم، ودعاؤه عليهم يقتضي شدة إنكاره لما ابتدع على أمثال هذا؛ وكذا إنكاره حضور مجلس السبت (2)

(1) أبو زكرياء يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني، أحد أيمة المالكية الأعلام، مولده بالأندلس وانتقل في صغره إلى سكنى القيروان واستوطن آخرًا سوسة وهو من كبار تلاميذ سحنون وعليه اعتماده، وتفقه عليه خلق لا يحصون، وكان ثقة مأمونًا ذا منزلة شريفة عند الخاصة والعامة، وتوفي سنة 289 هـ وقبره خارج باب البحر بسوسة مشهور وله تآليف في مواضيع شتى غاية في التحقيق والإفادة (راجع ترجمته بـ " طبقات أبي العرب والخُشني ": ص 124 وبـ المدارك " لعياض - خط - و" الديباج ": ص 351 وغير ذلك). وقد أفردت له ترجمة مستوفاة في تعليق على كتابه " أحكام السوق " الذي سأطبعه قريبًا إن شاء اللهُ.

(2)

كان يوجد بالقيروان - خلال القرون الثالث والرابع والخامس - مسجد يعرف بـ «مسجد السبت» يعقد فيه لفيف من العامة وبعض من ينتسب إلى التزهد مجلسًا للذكر والرقائق وإنشاد الأشعار في معنى الزهد يوم السبت من كل أسبوع، وقد نهى عن هذه الاجتماعات كبار علماء القيروان المصلحين مثل يحيى بن عمر المتقدم وشيخ المالكية عبد الله بن أبي زيد وغيرهم وَعَدُّوهَا بدعة سيئة وَأَلَّفُوا كُتُبًا ورسائل في النهي عن مثل هذه المجالس لمخالفتها للسنة الصحيحة (راجع جامع السبت بـ " معالم الإيمان ": ج 2 ص 73، وج 3 ص 27 وما بعدها).

ص: 80

وألف فيه تأليفًا فأمر من عانده في ذلك رجلاً أندلسيًا حسن الصوت أن يصلي معه الظهر فلما فرغ من صلاته رفع الأندلسي صوته فقرأ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] إلى آخر الآيتين، فبكى يحيى بن عمر حتى سالت دموعه على لحيته، ثم قال:«اللَّهُمَّ! إِنَّ هَذَا القَارِئَ مَا أَرَادَ بِقِرَاءَتِهِ رِضَاكَ وَلَا مَا عِنْدَكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَنْقِيصِي وَعَيْبِي فَلَا تُهْمِلْهُ!» .

فينبغي أن يقال لهؤلاء: أنتم وإن سبق إلى أنفسكم أن الازدياد من الخير مطلوب فيجب أن تعلموا أن هذه الأمور لم تكن خيرًا من جهة العقول ولا من جهة الشهوات ولا أحكام الإرادات، وإنما هي أدبار من جهة الشريعة وما رسمه من آياتها عن الله تعالى ووعده من الثواب عليها، فإذا رسمها على صفة من الصفات وحد من الحدود، ونهى عن مجاوزته صارت الزيادة شَرًّا، فإن يكونوا من أهل الاجتهاد فهلموا إلى المناظرة، وإن كانوا من أهل التقليد فيسألون أهل العلم لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] و [الأنبياء: 7].

ص: 81

وقد أخبرناك بما تقدم لمالك وأصحابه وغيرهم من العلماء فلا ينبغي التساهل في هذه المعاني وَلَا يُغْفَلُ عَنْ تَفقُّدِهَا ولا عما وقع منها، فصغار الأمر تجر كبارها، وربما كانت هذه حِيَلاً لاسْتِمَالَةْ قُلُوبِ النَّاسِ وَصَيْدِ دَرَاهِمِهِمْ، فإن قال هؤلاء المُسْتَفْتَى فِيهِمْ: لسنا نريد إلا وجه الله؛ قيل لهم: أصل امال حماية الذارئع، ففي بعض مسائل " المدونة ": أخاف إن صح من هؤلاء أن لا يصح من غيرهم، وقد سئلت عن بعض لباس هؤلاء المتهمين للخز والمسوح والصوف الخشن الأسود فأنكرت ذلك. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ لِبَاسِ الصُّوفِ لِلرِّجَالِ فَقَالَ:«لَا خَيْرَ فِي الشُّهْرَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخْفي الإِنْسَانُ مِنْ عَمَلِهِ» . فقيل له: «إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهَذَا التَّوَاضُعُ» . [قَالَ]: «يَجِدُ بِثَمَنِهِ مِنْ غَلِيظِ القُطْنِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ!» (*).

فأنت ترى كيف أنكر هذه، فكيف به لو سئل عن لباس المسوح والثياب السود من الصوف؟ هذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«البَسُوا البَيَاضَ [فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ]، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» (**)«فَإِنَّهَا [خَيْرُ ثِيَابِكُمُ]» (

). الحديث، فهذه الصفة مخالفة للحديث.

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:

(*) انظر " المدخل " لابن الحاج: 2/ 141، مكتبة دار التراث. القاهرة - مصر.

(**) انظر الترمذي، " السنن ":(44) كتاب الأدب (46) باب ما جاء في لبس البياض، حديث رقم 2810، 5/ 117 (تحقيق الشيخ أحمد شاكر). وكذلك الحديث رقم 2810، 4/ 502 (تحقيق الدكتور بشار عواد معروف). ((

) ما أورده حسن حسني عبد الوهاب - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - «فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لِبَاسِكُمْ» لم ترد بهذه الصيغة، وإنما ورد كما أثبته «فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمُ» . انظر " تحفة الأشراف " للمزي، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، 4/ 333، حديث رقم 5534، الطبعة الأولى 1999 م، دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان.

ص: 82

ولما روي عن مالك، فإن رأوا مخالفة من تقدم برأي وتأويل لم يتركوا لرأيهم ويبين لهم فساد رأيهم. وعن عمر رضي الله عنه:«أُحِبُّ لِلْقَارِئِ أَنْ تُرَى عَلَيْهِ الثِّيَابُ البِيضُ» .

وقد رأيت الأيمة الذين أخذت عنهم علم الشريعة - وهم أيمة عصرهم - استثقال هذه المعاني وإنكارها، ولو لم يكن في هذه إلا التشبه برهبان النصارى، فقد اشتهروا بهذا الزي حتى قال الشاعر:

أَصْوَاتُ رُهْبَانِ دِيرٍ فِي صَلَاتِهِمْ

سُودُ المَدَارِعِ نَقَّارِينَ فِي السَّحَرِ

وقد ختم القاضي ابن الطيب كتاب " الهداية " له بكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذكر من بعض فصول الأمر التشبه بزي لا يجوز التشبه به، وهذه الخيالات يستمال بها قلوب العوام ويريهم الإنسان أن سواد قلبه من الحزن كسواد لباسه، وهي مساخر وملاعب.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أُعُوذُ بِاللهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ وَالمَسْكَنَةِ» . وهو أن يرى الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع، وقيل في رجل أظهر الخشوع والمسكنة فوق ما هو عليه: «أَتَرَى

ص: 83

هَذَا أَخْشَعَ مِنْ عُمَرَ الذِي كَانَ يَنْزُو على الفَرَسِ مِنَ الأَرْضِ».

وهؤلاء الخلفاء الراشدون ولم ينقل عنهم أن هذا المقدار هو كان لباسهم وزيهم، فإن ظن أخرق أن يفعل في اللباس وغيره ما هو أولى عند الله وأنه اجتهد فيما فرطوا فيه أو عرف ما لم يعرفوه فقد خلع ربقة العقل والمسكنة في هذا الدين من ربقته.

وهذا الإفراط في التقشف قد نهى عنه صلى الله عليه وسلم وأنكر على قوم من أصحابه ما أرادوه من التبتل، وأخبرهم أنه أخشاهم للهِ لما طلبوا منه التبتل، فأعلمهم أن التقرب إنما هو بين رؤوسهم والوقوف عندما به حكم، فقال:«لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإِسْلامِ» .

فينبغي أن يشنع على من ظن به جهل بما ذكرناه ولم يتعلمه أن ينفر العامة منه، فإن قصد بهذا غير وجه اللهِ أو تحيل على جاه أو مال أو صيت فقد تعرض لسخط الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم:«مِنْ سَخَطِ اللهِ عَلَى العَالِمِ أَنْ يُمِيتَ قَلْبَهُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ: قَالَ: يَطْلُبُ بِعِلْمِهِ الدُّنْيَا» (*).

وتوعد أيضًا أنه يلقى في النار حيث تنقلب أقتابه ويقال له

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:

(*) لم يرد حديث بهذه الصيغة، انظر: الترمذي، " السنن ": كتاب العلم، باب فيمن يطلب بعلمه الدنيا، برقم (2654)، وابن ماجه في: كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، برقم (253).

ص: 84

كنت تقرأ ليقال وقد قيل.

وقال سحنون: «طَلَبُ الدُّنْيَا بِالدُفِّ وَالمِزْمَارِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِهَا بِالدِّينِ» .

وهذه أمور قد كثر التحيل فيها على إراحة النفس من طلب العيش أن يكون الإنسان عالة على غيره أو مسموع القول أَوْ مُبَجَّلاً أَوْ مُكَرَّمًا. ومن صدق بما في كتاب الله من قوله سبحانه: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]، وقوله:{يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] فلا يكون كهذا. ولسنا نشير في جوابنا هذا إلى أحد من الناس بل ربما أمكن أن يتخذ هذه الأمور من لا يقصد بها أمرًا مذمومًا مما ذكرناه، ولكن حقه إذا نصح الله ورسوله والمسلمين أن لا يفتح بَابًا يجر غيره مما لا يقصد به وجه الله تعالى إلى ركوب ما نهى الله ورسوله، فقد كثر في هذا الزمان هجران الحقائق، وربما اتخذت هذه المعاني حيلاً وشباكًا لتحصيل جاه أو مال. وليس شيء ننهى عن فعله على الإطلاق ولكن على التفصيل الذي ذكرناه. ونأمر بتبجيل المنقطعين إلى الله وإكرامهم وخدمتهم، فمن خدم الله تعالى

ص: 85

كان حقيقًا أن يخدم ولكن بعد صحة القصد والنيات في اتباع حدود الشريعة، ونأمر بالتنكير عمن لَجَّ في ذلك واتخذه معاشًا، كما قيل لبعض الصوفية:«أَتَبِعُنِي مُرَقَّعَتَكَ؟ فَقَالَ: " هَلْ رَأَيْتُمْ صَيَّادًا يَبِيعُ شَبَكَتَهُ!!» .

فأصحاب هذه الشباك ينبغي أن يتحفظ منهم، وينفر الناس عنهم وحسب العاقل أن يسلك مسالك من قد مضى «وَمَنْ مَضَى أَعْلَمُ مِمَّنْ بَقِيَ» كما قال مالك رضي الله عنه. والله سبحانه ولي التوفيق (1).

فانظر - يا رعاك اللهُ - إلى حصافة آراء إمامنا الفذ وإلى أسلوبه الحكيم في التقرير والاستنتاج المرتكز على فهم مقاصد الشريعة وأصول السنة السمحة، وانظر أيضًا إلى غيرته على سلامة المعتقد من غوائل البدع وشوائب التدجيل، حتى إنه ليخيل إليك بعد الاطلاع على جوابه أنه حرره وهو يشاهد العصر الحاضر الذي كثرت فيه المخارق والألاعيب بمبادئ الدين

(1) من ك " المعيار " للونشريسي - خط بمكتبتي وص 243 من طبعة فاس الحجرية، جزء 12.

ص: 86

العالية - والله يرزقنا الهداية ويرشدنا إلى الحق.

ولنطرح أمامك جوابًا ثانيًا للإمام رضي الله عنه في مسألة مهمة تخص أصلاً من الأصول العامة لقانون العلائق بين الأمم، وهي مسألة الاعتراف بالقضاة المتولين من قبل أمير غير مسلم والعمل بأحكامهم وتنفيذها في بلاد الإسلام.

وهذا السؤال ورد على الإمام - وهو بالمهدية - من جماعة من المسلمين المقيمين تحت ذمة النصارى بصقلية بعد انجلاء حكم الإسلام من تلك الجزيرة، ونصه:

وسئل الإمام المازري عن أحكام قاضي صقلية وشهادة عدولها، ولا يدري إقامة المسلمين هنالك تحت أهل الكفر اختيارية أو ضرورية؟

فكان جوابه رضي الله عنه: «القَادِحُ فِي هَذَا مِنْ نَاحِيَةِ العَدَالَةِ حَيْثُ أَقَامَ بِبَلَدِ الحَرْبِ فِي قِيَادَةِ أَهْلِ الكُفْرِ وَذَلِكَ لَا يُبَاحُ، وَالثَّانِي مِنْ نَاحِيَةِ الوِلَايَةِ إِذْ هُوَ مَوْلَى مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الكُفْرِ. فَالأَوَّلُ لَهُ قَاعِدَةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا شَرْعًا،

ص: 87

وَهِي تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالمُسْلِمِينَ وَمُبَاعَدَةُ المَعَاصِي عَنْهُمْ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ هَذَا الأَصْلِ لِظُنُونٍ قَدْ تَكُونُ كَاذِبَةً، وَمِثَالُهُ حُكْمُنَا بِظاهِرِ العَدَالَةِ وَقَدْ يَجُوزُ فِي الخَفَاءِ وَفِي نَفْسِ الأَمْرِ أَنْ يَكُونَ اِرْتَكَبَ كَبِيرَةً إلَاّ مِنْ قَامَ الدَّليلُ عَلَى عِصْمَتِهِ، وَهَذَا التَّجْوِيزُ مَطْرُوحٌ، وَالحُكْمُ لِلْظَّاهِرِ إِذْ هُوَ الأَصْلُ، إلَاّ أَنْ يَظْهَرَ مِنَ المَخَائِلِ مَا يَخْرُجُ عَنْ الأَصْلِ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ حِينَئِذٍ حَتَّى يَظْهَرَ مَا يَوَضِّحُ. وَهَذَا المُقِيمُ بِبَلَدِ الحَرْبِ إِنْ كَانَ اِضْطِرارًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ اِخْتِيَارًا جَاهَلاً بِالحُكْمِ أَوْ مُعْتَقِدًا لِلْجَوَازِ، إِذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ هَذَا الظَّرْفَ مِنَ العِلْمِ وُجُوبًا يَقْدَحُ تَرْكُهُ فِي عَدَالَتِهِ.

وَكَذَا إِنْ كَانَ مُتَأَوِّلاً وَتَأْوِيلُهُ صَحِيحًا كَإِقَامَتِهِ بِدَارِ الحَرْبِ لِرَجاءِ افْتِكَاكِهَا وَإِرْجَاعِهَا لِلإِسْلَامِ أَوْ لِهِدَاِيَتِهِ أَهْلَ الكُفْرِ أَوْ نقْلِهُمْ عَنْ ضَلَالَةٍ مَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ البَاقِلَاّنِيُّ، وَكَمَا أَشَارَ أَصْحَابُ مَالِكَ - رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي جَوَازِ الوُصُولِ لِفِكَاكِ أَسِيرٍ؛ وَكَذَا إِنْ كَانَ تَأَوَّلَهُ خَطَأً وَوُجُوهُهُ لَا تَنْحَصِرُ كَمَا أَنْ الشُّبَهَ عِنْدَ

ص: 88

الأُصُولِيِّينَ لَا تَنْحَصِرُ؛ وَرُبَّمَا كَانَ خَطَأً عِنْدَ عَالِمٍ وَصَوَابًا عِنْدَ آخَرَ، عَلَى القَوْلِ بِأَنَّ المُصِيبَ وَاحِدًا بِالآخَرِ مَعْذُورٌ، أَمَّا لَوْ أَقَامَ بِحُكْمِ الجَهَالَةِ وَالإِعْرَاضِ عَنْ التَّأْوِيلِ اِخْتِيَارًا؟ فَهَذَا يَقْدِحُ فِي عَدَالَتِهِ. فَمَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ مِنْهُمْ وَشَكَّ فِي وَجْهِ إِقَامَتِهِ فَالأَصْلُ عُذْرَهُ، لأَنْ جُلَّ الاِحْتِمَالَاتِ السَّابِقَةِ تَشْهَدُ لِعُذْرِهِ، فَلَا تُرَدُّ لاِحْتِمَالٍ وَاحِدٍ. إلَاّ أَنْ تَشْهَدَ قَرَائِنُ أَنَّ إِقَامَتَهُ كَانَتْ اِخْتِيَارًا لَا لِوَجْهٍ. أَمَّا الوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ تَوْلِيَةُ الكَافِرِ لِلْقُضَاةِ وَالعُدُولِ، وَالأُمَنَاءِ وَغَيْرِهُمْ، فَحَجْزُ النَّاسِ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَاجِبٌ حَتَّى اِدَّعَى بَعْضُ أَهْلِ المَذَاهِبِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَقْلاً. وَقَدْ أَقَامَ فِي " المُدَوَّنَةِ " شُيُوخَ المَوْضِعِ مَقَامَ السُّلْطَانِ عِنْدَ فَقْدِهِ خَوْفَ فَوَاتِ القَضِيَّةِ. فَتَوْلِيَةُ الكَافِرِ لِهَذَا القَاضِي العَدْلِ إِمَّا لِضَرُورَةٍ إِلَى ذَلِكَ أَوْ لِطَلَبٍ مِنَ الرِّعِيَّةِ لَا يَقْدِحُ فِي حُكْمِهُ وَتُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ كَمَا لَوْ وَلَاّهُ سُلْطَانٌ مُسْلِمٌ، وَاللهُ الهَادِي لِسَوَاءِ السَّبِيلِ» (1).

(1) مقتطف من كتاب " الدكانة " للشيخ عظوم القيرواني - خط.

ص: 89